نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
  
 
الكتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف: إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (المتوفى: 885هـ)
الناشر: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة
عدد الأجزاء: 22
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
 
سورة الفاتحة
بسم الله القيوم الشهيد الذي لا يعزب شيء عن علمه، ولا يكون شيء إلا بإذنه، الرحمن الرحيم الذي عمت رحمته الموجودات، وطبع في مرائي القلوب عظمته فتعالت تلك السبحات، وأجري على الألسنة ذكره في العبادات والعادات، الرحيم الذي تمت معمته بتخصيص أهل ولايته بأرضى العبادات.
قال شيخنا الإمام المحقق أبو الفضل محمد بن العلامة القدوة أبي عبد الله
محمد ابن العلامة القدوة أبي القاسم محمد المشدالي المغربي
(1/17)
 
 
البجائي المالكي علامة
الزمان سقى الله عهده سحائب الرضوان وأسكنه أعلى الجنان: الأمر الكلي المفيد
لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سبقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد
من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له اللتي له التي تقتضي البلاغة شفاء العليل يدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربك بين جميع أجزاء القرآن، وإذا فعلته تبين لك إن شاء الله وجه النظم مفصلا بين كل آية وآية في كل سورة سورة والله الهادي. انتهى. وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ في السنة العاشرة من ابتدائي في عمل هذا الكتاب أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها
(1/18)
 
 
لأن اسم كل شيء تظهر المناسبة بينه وبين مسماه عنوانه الدال إجمالا على تفصيل ما فيه، وذلك هو الذي أنبأ به آدم عليه الصلاة والسلام عند العرض على المالئكة عليهم الصلاة والسلام، ومقضود كل سورة هاد إلى تناسبها، مقثصود السورة، ولا أخرج عن معاني كلماتها، فالفاتحة أسمها " أم الكتاب " " والأساسا " " والمثاني " " والكنز " و" الشافية " و" الكافية " و" الوزافية " و" الواقية " و" الرقية " و" الحمد " و" الشكر " و" الدعاء " و" الصلاة " فمدار هذه الأسماء كما ترى على أمر خفي كاف لكل مراد وهو المراقبة التي
(1/19)
 
 
سأقول إنها مقصودها فكل شيء لا يفتتح بها لا اعتداد به، وهي كنز لكل شيء شافية لكل داء، كافية لكل هم، وافية بكل مرام، واقية من كل سوء رقية لكل ملم، وهي إثبات للحمد الذي هو الإحاطة بصفات الكمال، وللشكر الذي هوز تعظيم المنعم، وهي عين الدعاء فإنه التوجه إلى المدعو، وأعظم مجامعها الصلاة.
إذا تقررت ذلك فالغرض الذي سبقت له الفاتحة وهو إثبات
(1/20)
 
 
استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفا الكمال، واختصاصه بملك الدنيا والآخرة، وباستحقاق العبادة والاستعانة، بالسؤال في المن بإلزام صراط الفائزين والإنقاذ من طريق الهالكين مختصا بذلك كله، ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم، لإفراده بالعبادة، نفهو مقصود الفاتحة بالذات وغيره وسائل إليه، فإنه لا بد في ذلك من إثبات إحاطته تعالى بكل شيء ولن يثبت حتى يعلم أنه المختص بأنه الخالق اللملك المالك، لأن المقصود منت إرسال الرسل وإنزال الكتب نصب الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع جمع الخلق على الحق والمقصود من جمعهم تعريفهم الملك وبما يرضيه، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته
(1/21)
 
 
الفاتحة بالقصد الأول، ولن يكون ذلك إلا بما ذكر علما وعملا، ولما كان المقصود من جمعهم على الله تعالى معرفته لأجل عباداته وكان اتزام اسمه تعالى في كل حركة وسكون قائدا إلى مراقبته وداعيا إلى مخافته واعتقاد أن مصادر الأمور ومواردها منه وإليه شرعت التسمية أول كل شيء فصدرت بها الفاتحة. وقد التعود الذي هو من درء المفاسد تعظيما للقرآن بالإشارة إلى أن يتعين لتاليه أن يجتهد في تصفية سره وجمع متفرق أمره، لينال سؤله ومراده مما أودعه من خزائن السعادة بإعراضه عن العدو الحسود وإقباله على الولي الودود، ومن هنا تعرف مناسبة المعوذتين بالفاتحة. ولما افتتح التعوذ
(1/22)
 
 
بالهمزة أشارة إلى ابتداء الخلق وختم بالميم إيماء إلى المعاد جعلت البسملة كلها للمعاد لأبتدائها بحرف شفوي، وختام أول كلماتها ومآخرها بآخر إشارة إلى أن
الرجوع إليه في الدنيا معنى بتدبير الأمور وإن كان أكثر الخلق غافلا عنه، وفي البرزخ حسا بالاموت، وفي الآخرة كذلك بالبعث، كما أشار إلى ذلك تكرير الميم المختتم بها في اسمها بذكرها فيه مرتين إشارة إلى المعادين الحسيين والله أعلم. والمراد بالاسم الصفات العليا. وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في تفسيره في
(1/23)
 
 
غريب ألفاظ البسملة: الباء معناها أظهره الله سبحانه من حكمة التسبيب، " الاسم " ظهور ما غاب أو غمض للقلوب بواسطة اآذان على صورة الأفراد، " الله " اسم ما تعنو إليه القلوب عند موقف العقول فتأله فيه أي تتحير فتتألهه وتلهو به أي تغني به عن كل شيء " الرحمن " شامل الرحمة لكافة ما تناولته الربوبية، " الرحيم " خاص بالرحمة بما ترضاه اإلهية. وقال في غريب معناها: لما أظهر الله سبحانه حكمة التسبيب وأرى الخلق استفادة بعض الأشياء من أشياء أخر متقدمة عليها كأنها
(1/24)
 
 
أسبابها، وقف بعض الناس عند أول سبب فلم ير ما قبله، ومنهم من وقف عند سبب السبب إلى ما عساه ينتهي إليه عقله، فطوى الحق تعالى تلك الأسباب وأظهر بالبسملة أي بتقديم الجار أن كل شيء باسمه لا بسبب سواه، وقال استفتح أم القرآن بالبسملة لما كانت نسبتها من متلو الصحف والكتب الماضية نسبة أم القرآن الكتاب الجامع للصحف والكتب لموضع طيها الأسباب، كما تضمنت أم القرآن سر ظهور الأفعلال بالعناية من الحميد المجيد ويفي آية " إياك نعبد وإياك نستعين " هذا في ظاهر الخطاب إل مكا وراء ذلك من باطنه فإن لكل آية ظهرا وبطنا وليلتزمها الخلق يفي ابتداء أقوالهم وأفعالهم، هكذا قال. وأشد منه أنه لما كانت نسبة البسملة من الفاتحة نسبة الفاتحة من القرآن صدرت بها الفاتحة كما صدر القرآن بالفاتحة، لأنها لما أفادت نسبة الأمور كلها إليه سبحانه وحده أفادت أنه الإله وحده وذلك
(1/25)
 
 
هو إجمال لتفصيل الفاتحة كما أن الفاتحة إجمال تفصيل القرآن من الأصول والفروع والمعارف واللطائف. ولما كان اسم الجلالة علما وكان جامعا لجميع معاني الأسماء الحسنى أولية الرحمن من حيث أنه كالعلم في أنه لا يوصف به غيره ومن حيث أنه أبلغ من الرحيم فأولى الأبلغ الأبلغ، وذلك موافق لترتيب الوجود، الإيجاد ثم النعم العامة ثم الخاصة بالعبادة، وذكر الوصفان ترغيبا، وطويت النقمة في إفهام اختصاص الثاني لتمام الترغيب بالإشارة إلأى الترهيب. والمراد بهما هنا أنه سبحانه يستحق لااتصاف بهما لذاته، وكررهما بعهد تنبيها عل وجوب ذلك للربوبية والملك وللدلالة على أن الرحمة غلبت الغضب، وفيهمات إلى ما ذك رمن الترغيب الدلالة على سائر
(1/26)
 
 
الصفات الحسنى، لأن من عمت رحمته امتنع أن يكون فيه شوب نقص وفي آخر سبحان لهذا المكان مزيد بيان، وكونها تسعة عشر حرفا خطية وثمانية عشر لفظية إشارة إلى أنها دوافع النقمة من النار التي أصحابها تسعة عشر، وجوالب للرحمة بركعات الصلوات الخمس وركعة الوتر اللاتي من أعظم العبادات الكبرى. ولما كانت البسملة نوعا من الحمد ناسب كل المناسبة تعقيبها باسم الحمد الكلي الجامع لجميع أفراده فكأنه قبل: احمدوه لأنه المستحق لجميع المحامد، وخصوا هذا النوع من الحمد في افتتاح أموركم لما ذكر من استشعار الرغبة إليع والرهبة منه المؤدي إلى لزوم طريق الهدى، والله الموفق.
(1/27)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم (1) الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3) مالك يوم الدين (4) إياك نعبد وإياك نستعين (5) اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)
ولما أثبت بقوله: {الحمد لله} أنه المستحق لجميع المحامد لا لشيء غير ذاته الحائز لجميع الكمالات أشار إلى أنه يستحقه أيضا من حيث كونه ربا مالكا منعما فقال: {رب} وأشار بقوله: {العالمين} إلى ابتداء الخلق تنبيها على الاستدلالات بالمصنوع على الصانع وبالبداءة على الإعادة
(1/27)
 
 
كما ابتدأ التوراة بذلك لذلك قال الحرالي: و {الحمد} المدح الكامل الذي يحيط بجميع الأفعال والأوصاف، على أن جميعها إنما هو من الله سبحانه تعالى وأنه كله مدح لا يتطرق إليه ذم، فإذا اضمحل ازدواج المدح بالذم وعلم سريان المدح في الكل استحق عند ذلك ظهور اسم الحمد مكملا معرفا بكلمة «أل» وهي كلمة دالة فيما اتصلت به على انتهائه وكماله. انتهى.
ولما كانت مرتبة الربوبية لا تستجمع الصلاح إلا بالرحمة اتبع ذلك بصفتي {الرحمن الرحيم} ترغبيا في لزوم حمده، وهي تتضمن تثنية تفصيل ما شمله الحمد أصلا؛ وسيأتي سر لتكرير هاتين الصفتين
(1/28)
 
 
في الأنعام عند {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 118] عن الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى أنه لا مكرر في القرآن.
ولما كان الرب المنعوت بالرحمة قد لا يكون مالكا وكانت الربوبية لا تتم إلا بالملك المفيد للعزة المقرون بالهيبة المثمرة للبطش والقهر المنتج لنفوذ الأمر اتبع ذلك بقوله: {مالك يوم الدين} ترهيبا من سطوات مجده. قال الحرالي: واليوم مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر،
(1/29)
 
 
ثم قال: و {يوم الدين} في الظاهر هو يوم ظهور انفراد الحق بإمضاء المجازاة حيث تسقط دعوى المدعين، وهو من أول يوم الحشر إلى الخلود فالأبد، وهو في الحقيقة من أول يوم نفوذ الجزاء عند مقارفة الذنب في باطن العامل أثر العمل إلى أشد انتهائه في ظاهره، لأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر، ولذلك يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام: «إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء» وأيضا فكل عقاب يقع في الدنيا على أيدي الخلق فإنما هو جزاء من الله وإن كان أصحاب الغفلة ينسبونه للعوائد، كما قالوا: {مس آباءنا الضراء والسراء} [الأعراف: 95] ويضيفونه للمعتدين عليهم بزعمهم، وإنما هو كمال قال تعالى: {وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] وكما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: «الحمى من فيح جهنم، وإن شدة الحر والقر من نفسها» وهي سوط الجزاء الذي أهل الدنيا بأجمعهم مضروبون
(1/30)
 
 
به، ومنهل التجهم الذي أجمعهم واردوه من حيث لا يشعر به أكثرهم، قال عليه الصلاة والسلام: «المرض سوط الله في الأرض يؤدب به عبادة» وكذلك ما يصيبهم من عذاب النفس بنوع الغم والهم والقلق والحرص وغير ذلك، وهو تعالى ملك ذلك كله ومالكه، سواء ادعى فيه مدح أو لم يدع، فهو تعالى بمقتضى ذلك كله ملك يوم الدين ومالكه مطلقا في الدنيا والآخرة وإلى الملك أنهى الحق تعالى تنزل أمره العلي لأن به رجع الأمر عودا على بدء بالجزاء العائد على آثار ما جبلوا عليه من الأوصاف تظهر عليهم من الأفعال كما قال تعالى:
{وسيجزيهم وصفهم} [الأنعام: 193] و {جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17] . [الأحقاف: 4] ، [الواقعة: 24] وبه تم انتهاء
(1/31)
 
 
الشرف العلي وهو المجد الذي عبر عنه قوله تعالى: «مجدني عبدي» انتهى، ولما لم يكن فرق هنا في الدلالة على الملك بين قراءة «ملك» وقراءة «مالك» جاءت الرواية بهما، وذلك لأن المالك إذا أضيف إلى اليوم أفاد اختصاصه بجميع ما فيه من جوهرة وعرض، فلا يكون لأحد معه أمر ولا معنى للملك سوى هذا، ولما لم تفد إضافته إلى الناس هذا المعنى لم يكن خلاف في {ملك الناس} [الناس: 2] . فلما استجمع الأمر استحقاقا وتحبيبا وترغيبا وترهيبا كان من شأن كل ذي لب الإقبال إليه وقصر الهمم عليه فقال عادلا عن أسلوب الغيبة إلى الخطاب لهذا مقدما
(1/32)
 
 
للوسيلة على طلب الحاجة لأنه أجدر بالإجابة {إياك} أي يا من هذه الصفات صفاته! {نعبد} إرشادا لهم إلى ذلك؛ ومعنى {نعبد} كما قال الحرالي: تبلغ الغاية في أنحاء التذلل، وأعقبه بقوله مكررا للضمير حثا على المبالغة في طلب العون {وإياك نستعين} إشارة إلى أن عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته وإلى أن ملاك الهداية بيدة: فانظر كيف ابتدأ سبحانه بالذات، ثم دل عليه بالأفعال، ثم رقي إلى الصفات، ثم رجع إلى الذات إيماء إلى أنه الأول والآخر المحيط، فلما حصل الوصول إلى شعبة من علم الفعال والصفات علم الاستحقاق للأفراد بالعبادة
(1/33)
 
 
فعلم العجز عن الوفاء بالحق فطلب الإعانة، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود في الصلاة والترمذي وابن ماجه في الدعاء والنسائي وهذا لفظه في التعوذ عن عائشة رضى الله عنها: «أعوذ بعفوك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك، وبك منك» ثم أتبعه فيما زاد عن النسائي الاعتراف بالعجز في قوله: «لا أحصي ثناء عليك أنت أثنيت على نفسك» وفي آخر سورة اقرأ شرح بديع لهذا الحديث.
قال الحرالي: وهذه الآيات أي هذه وما بعدها مما جاء كلام الله فيه جاريا على لسان خلقه فإن القرآن كله كلام الله لكن منه ما هو كلام الله عن نفسه ومنه ما هو كلام الله عما كان يجب أن ينطق على اختلاف
(1/34)
 
 
ألسنتهم وأحوالهم وترقي درجاتهم ورتب تفاضلهم مما لا يمكنهم البلوغ إلى كنهه لقصورهم وعجزهم فتولى الله الوكيل على كل شيء الإنباء عنهم بما كان يجب عليهم مما لا يبلغ إليه وسع خلقه وجعل تلاوتهم لما أنبأ به على ألسنتهم نازلا لهم منزلة أن لو كان ذلك النطق ظاهرا منهم لطفا بهم وإتماما للنعمة عليهم، لأنه تعالى لو وكلهم في ذلك إلى أنفسهم لم يأتوا بشيء تصلح به أحوالهم في دينهم ودنياهم، ولذلك لا يستطيعون شكر هذه النعمة إلا أن يتولى هو تعالى بما يلقنهم من كلامه مما يكون أداء لحق فضله عليهم بذلك، وإذا كانوا لا يستطيعون الإنباء عن أنفسهم بما يجب عليهم من حق ربهم فكيف بما يكون نبأ عن تحميد الله وتمجيده، فإذا ليس لهم
(1/35)
 
 
وصلة إلا تلاوة كلامه العلي بفهم كان ذلك أو بغير فهم، وتلك هي صلاتهم المقسمة التي عبر عنها فيما صح عنه علية الصلاة والسلام من قوله تعالى:
«قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» ثم تلا هذه السورة؛ فجاءت الآيات الثلاث الأول بحمد الله تعالى نفسه، فإذا تلاها العبد قبل الله منه تلاوة عبده كلامه وجعلها منه حمدا وثناء وتمجيدا، وجاءت هذه الآيات على لسان خلقه فكان ظاهرها التزام عهد العبادة وهو ما يرجع إلى العبد وعمادها طلب المعونة من الله سبحانه وهو
(1/36)
 
 
ما يرجع إلى الحق، فكانت بينه وبين عبده وتقدمت بينيته تعالى، لأن المعونة متقدمة على العبادة وواقعة بها وهو مجاب فيما طلب من المعونة، فمن كانت عليه مؤنة شىء فاستعان الله فيها على مقتضى هذه الآية جاءته المعونة على قدر مؤنته، فلا يقع لمن اعتمد مقتضى هذه الآية عجز عن مرام أبدا وإنما يقع العجز ببخس الحظ من الله تعالى والجهل بمقتضى ما أحكمته هذه الآية والغفلة عن النعمة بها، وفي قوله: {نعبد} بنون الاستتباع إشعار بأن الصلاة بنيت على الاجتماع. انتهى. وفي الآية ندب إلى اعتقاد العجز واستشعار الافتقار والاعتصام بحوله وقوته، فاقتضى ذلك توجيه الرغبات إليه بالسؤال فقال: {اهدنا الصراط المستقيم} تلقينا لأهل لطفه وتنبيها على محل السلوك الذي لا وصول بدونه، والهدى قال الحرالي: مرجع الضال إلى ما ضل عنه، والصراط الطريق الخطر السلوك، والآية من كلام الله تعالى على لسان العلية من خلقه، وجاء
(1/37)
 
 
مكملا بكلمة «أل» لأنه الصراط الذي لا يضل بمهتديه لإحاطته ولشمول سريانه وفقا لشمول معنى الحمد في الوجود كله وهو الذي تشتت الآراء وتفرقت بالميل إلى واحد من جانبيه وهو الذي ينصب مثاله. وعلى حذو معناه بين ظهراني جهنم يوم الجزاء للعيان وتحفه مثل تلك الآراء خطاطيف وكلاليب، تجري أحوال الناس معها في المعاد على حسب مجراهم مع حقائقها التي ابتداء في يوم العمل، وهذا الصراط الأكمل وهو المحيط المترتب على الضلال الذي يعبر به عن حال من لا وجهة له، وهو ضلال ممدوح لأنه يكون عن سلامة الفطرة لأن من لا علم له بوجهة فحقه الوقوف عن كل وجهة وهو ضلال يستلزم هدى محيطا منه
{ووجدك ضالا فهدى} [الضحى: 6] وأما من هدى وجهة ما
(1/38)
 
 
فضل عن مرجعها فهو ضلال مذموم لأنه ضلال بعد هدى وهو يكون عن اعوجاج في الجبلة. انتهى. ثم أكد سبحانه وتعالى الإخبار بأن ذلك لن يكون إلا بإنعامه منبها بهذا التأكيد الذي أفاده الإبدال على عظمة هذا الطريق فقال: {صراط الذين أنعمت عليهم} فأشار إلى أن الاعتصام به في اتباع رسله، ولما كان سبحانه عام النعمة لكل موجود عدوا كان أو وليا، وكان حذف المنعم به لإرادة التعميم من باب تقليل اللفظ لتكثير المعنى فكان من المعلوم أن محط السؤال بعض أهل النعمة وهم أهل الخصوصية. يعني لو قيل: اتبع طريق أهل مصر مثلا لا أهل دمشق، علم أن المنفي غير داخل في الأول لأن شرطه أن يتبعاه متعاطفاه كما صرحوا به، بخلاف ما لو قيل: اتبع طريق أهل مصر غير الظلمة، فإنه يعلم أن الظلمة منهم، فأريد هنا التعريف بأن النعمة عامة ولو لم تكن إلا بالإيجاد، ومن المعلوم أن السلوك لا بد وأن يصادف طريق بعضهم وهم منعم عليهم فلا يفيد السؤال حينئذ، فعرف أن المسؤول إنما
(1/39)
 
 
هو طريق أهل النعمة بصفة الرحيمية تشوقت النفوس إلى معرفتهم فميزهم ببيان أضدادهم تحذيرا منهم، فعرف أنهم قسمان: قسم أريد للشقاوة فعاند في إخلاله بالعمل فاستوجب الغضب، وقسم لم يرد للسعادة فضل من جهة إخلاله بالعلم فصار إلى العطب فقال مخوفا بعد الترجية ليكمل الإيمان بالرجاء والخوف معرفا بأن النعمة عامة والمراد منها ما يخص أهل الكرامة: {غير المغضوب عليهم} أي الذين تعاملهم معاملة الغضبان لمن وقع عليه غضبه، وتعرفت «غير» لتكون صفة للذين بإضافتها إلى الضد فكان مثل: الحركة غير السكون، ولما كان المقصود من «غير» النفي لأن السياق له وإنما عبر بها دون أداة استثناء دلالة
(1/40)
 
 
على بناء الكلام بادىء بدء على إخراج المتلبس بالصفة وصونا للكلام عن إفهام أن ما يعد أقل ودون لا {ولا الضالين} فعلم مقدار النعمة على القسم الأول وأنه لا نجاة إلا باتباعهم وأن من حاد عن سبيلهم عامدا أو مخطئا شقي ليشمر أولو الجد عن ساق العزم وساعد الجهد في اقتفاء آثارهم للفوز بحسن جوارهم في سيرهم وقرارهم.
قال الحرالي: {المغضوب عليهم} الذين ظهر منهم المراغمة وتعمد
(1/41)
 
 
المخالفة فيوجب ذلك الغضب من الأعلى والبغض من الأدنى. {الضالين} الذين وجهوا وجهة هدى فزاغوا عنها من غير تعمد لذلك. «أمين» كلمة عزم من الأمن، مدلولها أن المدعو مأمون منه أن يرد من دعاه لأنه لا يعجزه شيء ولا يمنعه وهي لا تصلح إلا لله لأن ما دونه لا ينفك عن عجز أو منع انتهى وهو صوت سمي به الفعل الذي هو استجب وقد انعطف المنتهى على المبتدأ بمراقبة القسم الأول اسم الله فحازوا ثمرة الرحمة وخالف هذان القسمان فكانوا من حزب الشيطان فأخذتهم النقمة، وعلم أن نظم القرآن على ما هو عليه معجز، ومن ثم اشتراط
(1/42)
 
 
في الفاتحة في الصلاة لكونها واجبة في الترتيب، فلو قدم فيها أو أخر لم تصح الصلاة وكذا لو أدرج فيها ما ليس منها للإخلال بالنظم.
قال الأصبهاني: فإن القرآن معجز والركن الأبين الإعجاز يتعلق بالنظم والترتيب. انتهى. والحاصل أنه لما رفعت تلك الصفات العلية لمخاطبها الحجب وكشفت له بسمو مجدها وعلو جدها وشرف حمدها جلائل الستر وأشرقت به رياض الكرم ونشرت له لطائف عواطفها بسط البر والنعم ثم اخترقت به مهامه العظمة والكبرياء وطوت في تيسيرها له مفاوز الجبروت والعز وأومضت له بوارق
(1/43)
 
 
النقم من ذلك الجناب الأشم وصل إلى مقام الفناء عن الفاني وتمكن في رتبة شهود البقاء للباقي فبادر الخضوع له عن السوى حاكما على الأغيار بما لها من ذواتها من العدم والتوى فقال: {إياك نعبد} وفي تلك الحال تحقق العجز عن توفية ذلك المقام ما له من الحق فقال: {وإياك نستعين} .
فكشف له الشهود في حضرات المعبود عن طرق عديدة ومنازل سامية بعيدة ورأى أحوالا جمة وأودية مدلهمة وبحارا مغرقة وأنوارا هادية وأخرى محرقة، ورأى لكل أهلا قد أسلكوا فجاء تارة حزنا وأخرى سهلا، وعلم أن لا نجاة إلا بهدايته ولا عصمة بغير عنايته ولا سعادة إلا برحمته ولا سلامة لغير أهل نعمته؛ فلما أشرق واستنار
(1/44)
 
 
وعرف مواقع الأسرار بالأقدار كأنه قيل له: ماذا تطلب وفي أي مذهب تذهب؟ فقال: {اهدنا الصراط المستقيم} .
ولما طلب أشرف طريق سأل أحسن رفيق فقال: {صراط الذين أنعمت عليهم} ولما كانت النعمة قد تخص الدنيوية عينها واستعاذ من أولئك الذين شاهدهم في التيه سائرين وعن القصد عائرين جائرين أو حائرين فقال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} .
وقد أشير في أم الكتاب. كما قال العلامة سعد الدين مسعود ابن عمرو التفتازاني الشافعي. إلى جميع النعم فإنها ترجع إلى إيجاد وإبقاء أولا وإلى إيجاد وإبقاء ثانيا في دار الفناء والبقاء، أما الإيجاد الأول فبقوله {الحمد لله رب العالمين} فإن الإخراج من العدم إلى الوجود أعظم تربية، وأما الإبقاء الأول فبقوله: {الرحمن الرحيم} أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها التى بها البقاء، وأما الإيجاد الثاني فبقوله: {مالك
(1/45)
 
 
يوم الدين} وهو ظاهر، وأما الإبقاء الثاني فبقوله: {إياك نعبد} إلى آخرها، فإن منافع ذلك تعود إلى الآخرة.
ثم جاء التصدير بالحمد بعد الفاتحة في أربع سور أشير في كل سورة منها إلى نعمة من هذه النعم ترتيبها. انتهى، وسيأتي في أول كل سورة من الأربع ما يتعلق بها من بقية كلامه إن شاء الله تعالى، وهذا يرجع إلى أصل مدلول الحمد فإن مادته بكل ترتيب تدور على بلوغ الغاية ويلزم منه الاتساع والإحاطة والاستدارة فيلزمها مطأطأة الرأس وقد يلزم الغاية الرضا فيلزمه الشكر وسيبين وينزل على الجزئيات في سورة النحل إن شاء الله تعالى، ثم في أول سبأ تحقيق ما قاله الناس فيه وفي النسبة بينه وبين الشكر فقد بان سر الافتتاح من حيث تصديرها بالحمد جزئيا فكليا الذي كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه فهو أجذم؛ وتعقبه بمدح المحمود بما ذكر من
(1/46)
 
 
أسمائه الحسنى مع اشتمالها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فهي أم القرآن لأنها له عنوان وهو كله لما تضمنته على قصرها بسط وتبيان.
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل في آخر الباب التاسع منه: ولننه هذه الأبواب بذكر القرآن ومحتواه على الكتب وجمعه وقراءته وبيانه وتنزيله وإنزاله وحكيمه ومبينه ومجيده وكريمه وعظيمه ومرجعه إلى السبع المثاني والقرآن العظيم أم القرآن ومحتواها عليه، فنذكر جميع ذلك في الباب العاشر، الباب العاشر في محل أم القرآن من القرآن ووجه محتوى القرآن على جميع الكتب والصحف المتضمنة لجميع الأديان.
اعلم أن الله سبحانه جمع نبأه العظيم كله عن شأنه العظيم في السبع المثاني أم القرآن وأم الكتاب وكنزها تحت عرشه ليظهرها في الختم عند تمام أمر الخلق وظهور بادىء الحمد بمحمد، لأنه تعالى يختم بما به بدأ ولم يظهرها قبل ذلك، لأن ظهورها
(1/47)
 
 
يذهب وهل الخلق ويمحو كفرهم ولا يتم بناء القرآن إلا مع قائم بمشهود بيان الفعل ليتم الأمر مسمعا ومرأى وذلك لمن يكون من خلقه كل خلق ليبين به ما من أمره كل أمر، ثم فيما بين بدء الأمر المكنون وخاتم الخلق الكامل تدرج تنشؤ الخلق وبدو الأمر على حسب ذلك الأمر صحفا فصحفا وكتابا فكتابا، فالصحف لما يتبدل سريعا، والكتاب لما يثبت ويدوم أمدا، والألواح لما يقيم وقتا.
ففي التوراة أحكام الله على عباده في الدنيا بالحدود والمصائب والضراء والبأساء، وفي القرآن منها ما شاء الله وما يظهره الفقه من الحدود، ومعارف الصوفية من مؤاخذة المصائب؛ وفي الإنجيل أصول تلك الأحكام والإعلام بأن المقصود بها ليست هي بل ما وراءها من أمر الملكوت، وفي القرآن منها ما شاء الله مما يظهره العلم والحكمة الملكوتية، وفي الزبور تطريب الخلق وجدا وهم عن أنفسهم إلى ربهم، وفي الفرآن منه ما شاء الله مما تظهره الموعظة الحسنة، ثم أنهى
(1/48)
 
 
الأمر والخلق من جميع وجوهه، فصار قرآنا جامعا للكل متمما للنعمة مكملا للدين
{اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] الآية، بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وإن إلى ربك المنتهى.
ووجه فوت أم القرآن للقرآن أن القرآن مقصود تنزيله التفصيل والجوامع، فيه نجوم مبثوثة غير منتظمة، واحدة إثر واحدة، والجوامع في أم القرآن منتطمة واحدة بعد واحدة إلى تمام السبع على وفاء لا مزيد فيه ولا نقص عنه؛ أظهر تعالى بما له سورة صورة تجليه من بدء الملك إلى ختم الحمد، وبما لعبده مصورة تأديه من براءته من الضلال إلى هدى الصراط المستقيم، {ووجدك ضالا فهدى} [الضحى: 7] وبما بينه وبينه قيام ذات الأمر والخلق فكان ذلك هو القرآن
(1/49)
 
 
العظيم الجامع لما حواه القرآن المطلق الذكر بما فيه من ذلك تفصيلا من مبينه وهو ما عوينت آية مسموعة، ومن مجيده وهو ما جربت أحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ما علم، يعلم ما شهد فكان معلوما بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي وما شهد له من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه، ومن كريمه وهو ما ظهرت فيه أفانين إنعامه فيما دق وجل وخفي وبدا، ومن حكيمه وهو ما ظهر في الحكمة المشهورة تقاضيه وانتظام مكتوب خلقه على حسب تنزيل أمره؛ وما كان منه بتدريج وتقريب للأفهام ففاءت من حال إلى حال وحكم إلى حكم كان تنزيلا، وما أهوى به من علو إلى سفل كان إنزالا، وهو إنزال حيث لا وسائط وتنزيل حيث الوسائط؛ وبيانه حيث الإمام العامل به مظهره في أفعاله وأخلاقه كان خلقه القرآن، وقرآنه تلفيق تلاوته على حسب ما تتقاضاه النوازل.
(1/50)
 
 
آخر آية أنزلت {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281] قال صلى الله عليه وسلم في مضمون قوله تعالى {إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 17] «اجعلوها بين آية الدين والآية التي قبلها» لأنه ربما تقدم كيان الآية وتأخر في النظم قرآنها على ما تقدم عليها، آية {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك} [الأحزاب: 50] الآية متأخرة الكيان متقدمة القرآن على آية {لا يحل لك النساء من بعد} [الأحزاب: 52] فقد يتطابق قرآن الأمر وتطوير الخلق وقد لا يتطابق والله يتولى إقامتهما؛ وأما الجمع ففي قلبه نسبة جوامعه السبع في أم القرآن إلى القرآن بمنزلة نسبة جمعه في قلبه لمحا واحدا إلى أم القرآن {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} [القمر: 50] فهو جمع في قلبه، وقرآن على لسانه،
(1/51)
 
 
وبيان في أخلاقه وأفعاله، وجملة في صدره، وتنزيل في تلاوته، {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] قال الله تعالى: كذلك أي كذلك أنزلناه، إلا ما هو منك بمنزلة سماء الدنيا من الكون
{إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [الدخان: 3] أي إلى سماء الدنيا {ونزلناه تنزيلا} [الإسراء: 106] وعلى لسانه في أمد أيام النبوة، وقال في تفسيره: القرآن باطن وظاهره محمد صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضى الله عنها: كان خلقه القرآن، فمحمد صلى الله عليه وسلم صورة باطن سورة القرآن، فالقرآن باطنه وهو ظاهره {نزل به الروح الأمين * على قلبك} [الشعراء: 194] .
وقال في تفسير الفاتحة: وكانت سورة الفاتحة أما للقرآن، لأن القرآن جميعه مفصل من مجملها، فالآيات الثلاث الأول شاملة لكل معنى تضمنته الأسماء الحسنى والصفات العلى، فكل ما في القرآن من ذلك فهو مفصل من جوامعها، والآيات الثلاث الأخر من قوله:
(1/52)
 
 
{اهدنا} شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الوصول إلى الله والتحيز إلى رحمة الله والانقطاع دون ذلك، فكل ما في القرآن منه فمن تفصيل جوامع هذه، وكل ما يكون وصلة بين مما ظاهرهن هذه من الخلق ومبدؤه وقيامه من الحق فمفصل من آية {إياك نعبد وإياك نستعين} انتهى.
ومن أنفع الأمور في ذوق هذا المشرب استجلاء الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة
(1/53)
 
 
رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولبعدي ما سأل فإذا قال العبد» الحمد لله رب العالمين «قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال» الرحمن الرحيم «قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال:» مالك يوم الدين «قال الله: مجدني عبدي. وقال مرة: فوض إلي عبدي، وإذا قال:» إياك نعبد وإياك نستعين «قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال:» اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين «قال:» هذا لعبدي ولعبدي ما سأل «والله أعلم.
(1/54)
 
 
(سورة البقرة)
مقصودها إقامة الدليل على أن الكتاب هدى ليتبع يفي كل ما قال، وأعظم ما يهدي إليه الإيمالن بالغيب، ومجمعه الإيمان بالآخرة، فمداره الإيمان بالبعث الذي أعربت عنه قصة البقرة التي مجارها الإيمان بالغيب فلذلك سميت بها السورة
(1/55)
 
 
وكانت بذلك أحق من قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنها في نوع البشر ومما تقدمها في قصة بني إسرائيل من الأحياء بعد الإماتة بالصعق وكذلك ما شاكلها، لأن الأحياء في في قصة البقرة عن سبب ضعيف في الظاهر بمباشرة من كان من آحاد الناس فهي أدل على القدرة ولا سيما وقد اتبعت بوصف القلوب والحجارة بما عم اللمهتدين بالكتاب والضالين فوصفها بالقسوة الموجبة للشقوة ووصفت الحجارة بالخشية الناشئة في الجملة عن التقوى المانحة للمدد المتعدي نفعه إلى عباد الله، وفيها إشارة إلى أن هذا الكتاب فينا كما لو كان فينا خليفة من أولي العزم من الرسل يرشدنا في كل أمر إلى صواب
(1/56)
 
 
المخرج منه فمن أعرض خاب، ومن تردد كاد، ومن أجاب اتقى وأجاد.
وسميت الزهراء لإنارتها طريق الهداية والكفاية في الدنيا والآخرة، ولأيجابها إسفار الوجوه يفي يوم الجزاء لمن آمن بالغيب ولم يكن في شك مريب فيحال بينه وبين ما يشتهي، بالسنام لأنه ليس في الإيمان بالغيب بعد التوحيد الذي هو الأساس الذي يتبني عليه كل خير والمنتهى الذي هو غاية السير والعالي على كل غير بأعلى
(1/57)
 
 
ولا أجمع من الإيمان بالآخرة، ولأن السنام أعلى ما في بطن المطية الحاملة والكتاب الذي هي سورته هو أعلى ما في الحامل للأمر وهو اللشرع الذي أتاهم به رسولهم (صلى الله عليه وسلم) .
بسم الله الذي نصب مع كونه باطنا دلائل الهدى حتى كان ظاهرا، " الرحمن " الذي أفاض رحمته على سائر خلقه بعد الإيجاد ببيان الطريق، " الرحيم " الذي خص أهل وده بالتوفيق. قال العلامة أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة لمفتاح الباب المقفل في معنى ما رواه عن ابن وهب من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " كان الكتاب الأول ينزل من باب
(1/58)
 
 
واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه، وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه آمنوا بمتشابهه وقولوا: آمنا به، كل من عند ربنا " وهذا الحديث رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده وأبو يعلى الموصلي ومن طريقة ابن حبان في صحيحه، كلهم من طريق ابن وهب عن حيوة عن عقيل بن خالد عن سلمة بن أبي سلمة بت عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه. فذكره من غير ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وقال العلامة الحافظ أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي الشافعي في كتابه " المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز " بعد أن ساق هذا الحديث من رواية سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(1/59)
 
 
قال أبو عمر بن عبد البر: هذا الحديث عند أهل الحديث لم يثبت، وأبو سلمة لم يلق ابن مسعود، وابنه سلمة ليس مم يحتج به، نوهذا الحديث مجمع على ضعفه من جهة إسناده وقد رده قوم من أهل النظر منهم أحمد بن أبي عمران فيما سمعه الطحاتوي منه ويرويه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أم سلمة عن أبي سلمة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) مرسلا، قال أبو شامة: وهكذا رواه البيهقي في كتاب المدخل وقال: هذا مرسل جيد، أبو سلمة لم يدرك ابن مسعود، ثم رواه موصولا وقال: فإن صح فمعنى قوله: سبعة أحرف، أي سبعة أوجه، وليس المراد به اللغات التي أبيحت القراءة عليها وهذا المراد به الأنواع التي نزل القرآن عليها والله أعلم.
قلت: عزاه شيخنا العلامة مقرئ زمانه شمس الدين محمد بن محمد بن محمد ابن الجزري الدمشقي الشافعي في أوائل كتابه " النشر في
(1/60)
 
 
القراءات العشر " إلى الطبراني من حديث عمر بن أبي سلمة المخزومي رضي الله عنهما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لابن مسعود رضي الله عنه: " إن الكتب كانت تنزل من السماء من باب واحد وإن القرآن أنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف: حلال وحرام ومحكم ومتشابه وضرب أمثال و [آمر و] زاجر، فأحل حلاله وحرم حرامه واعم لبمحكمه وقف عند ةمتشابهه واعتبر أمثاله، فإن كلا من عند الله وما يذكر إلا أولو الألباب ورواه الحافظ أبو بكر بن أبي داود في متالب المصاحف " من وجه آخر عن عبد الله قال: " إن القرآن أنزل على نبيكم (صلى الله عليه وسلم) من سبعة أبواب على سبعة أحرف أو حروف. وإن الكتاب قبلكم كان ينزل أو نزل. من باب واحد على حرف واحد ورواه البيهقي في فضل القرآن من الشعب عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: " نزل القرآن على خمسة أوجه: حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ".
قال الحرالي: في حديث آخر من طريق ابن عمر رضي الله عنهما: إن الكتب كانت تنزل من باب واحد وإن هذا القرآن أنزل من
(1/61)
 
 
سبعة أبواب على سبعة أحرف وقال في معنى ذلك: اعلم أن القرآن منزل عند انتهاء الخلق وكمال كل الأمر بدءا فكان
المتخلق به جامعا لانتهاء كل خلق وكمال أمر فلذلك (صلى الله عليه وسلم) قثم الكون وهو الجامع الكامل. ولذلك كان خاتما، وكان كتابه ختما، وبدأ المعاد من حد ظهوره، إنه هو يبدئ، ويعيد، فاستوفى
(1/62)
 
 
صلاح هذه الجوامع الثلاث التي قد خلت في الأولين بداياتها وتمت عنده نهاياتها " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " رواه أحمد عن معاذ رضي الله عنه رفعه، وهي صلاح الدنيا والدين والمعاد التي جمعها في قوله (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي " وفي كل صلاح إقدام وأحجام فتصير الثلاثة الجوامع ستة مفصلات هي حروف القرآن الستة التي لم يبرح يستزيدها من ربه حرفا حرفا، فلما استوفى الستة وهبه ربه حرفا جامعا سابعا فردا لا زوج له ن فتم إنزاله على سبعة أحرف.
فأدنى تلك الحروف هو حرف إصلاح الدنيا، فلها حرفان،
(1/63)
 
 
أحدهما: حرف الحرام الذي لا تصلح النفس والبدن إلا بالتطهير منه لبعدهع عن تقويمها، والثاني حرف الحلال الذي تصلح النفس والبدن عليه لموافقته لتقويمها، وأصل هذين الحرفين في التوراة، وتمامهما في القرآن.
ثم يلي هذين حرفا صلاح المعاد: أحدهما حرف الزجر والنهي التي لا تصلح الآخرة إلا بالتطهير منه لبعده عن حسناها، والثاني حرف الأمر الذي تصلح الآخرة عليه لتقاضيه بحسناها، وقد يتضرر على ذلك حال الدنيا، لأنه يأتي على كثير من حلالها لوجوب إيثار الآخرة لبقائها ىوكليتها على الدنيا لفنائها وجزئيتها، لكون خير الدنيا جزءا من ماله وشر الدنيا جزءا من سبعين جزءا ولا يؤثر
(1/64)
 
 
هذا الجزء الأدنى لحضوره على ذلك الكل الأنهى لغيابه إلا من سفه نفسه وضعف إيمانه، فتخلص المرء من حرف الحرام طهره وتخلصه من النهي طيبه، وأصل هذين الحرفين في الإنجيل وتمامهما في القرآن.
ثم يلي هذين حرفا صلاح الدين: أحدهما حرف المحكم الذي بان للعبد فيه خطاب ربه من جهة أحوال قلبه وأخلاق نفسه وأعمال بدنه فيما بينه وبين ربه من غير التفات لغرض النفس في عاجل الدنيا ولا آجلها، والثاني حرف المتشابه الذي لا يبين للعبد فيه خطاب ربه من جهة قصور عقله من إدراكه ووجوب تسبيح ربه عن تمثل عبده إلى أن يؤيده الله بتأييده. والحروف الخمسة للاستعمال وهذا الحرف السادس للوقوف ليكون العبد قد وقف لله بقلبه عن حرف كما قد كان أقدم لله على تلك الحروف ولينسخ بعجزه وإيمانه عند هذا الحرف السادس انتهاء ما تقدم من طوقه وعلمه في تلك الحروف ابتداء، وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلها وتمامها
(1/65)
 
 
في القرآن.
فهذه الحروف الستة يشترك فيها القرآن مع سائر الكتب ويزيد عليها تمامها وبركة جمعها، ويختص القرآن بالحرف السابع الجامع مبين المثل الأعلى ومظهر اللمثول الأعظم حرف الحمد الخاص بمحمد (صلى الله عليه وسلم) وهو حرف المثل. وعن جمعه وكمال جمعه لمحمد (صلى الله عليه وسلم) في قلبه وقراءته على لسانه وبيانه في ذاته ظهرت عليه خواص خلقه الكريم وخلقه العظيم، ولا ينال إلا موهبة من الله تعالى لعبده بال واسطة والستة تتنزل بتوسطات من استواء الطبع وصفاء العقل بمثابة وحي النبي وإلهام الولي.
ولما كان حرف الحمد هو سابعها الجامع افتتح الله به سبحانه وتعالى الفاتحة أم القرآن وأم الكتاب وجمع فيها جوامع الحروف السبعة التي بثها في القرآن كما جمع في القرآن ما بث في جميع الكتب المتقدمة، كفضة ثقلت على مريد السفر فابتاع بها ذهبا فذلك مثل القرآن ثم ثقل عليه الذهب فابتاع به جواهرا، فذلك مثل أم القرآن فأذن كمال الحروف التي أنزل عليها القرآن موجودة في جوامع
(1/66)
 
 
أم القرآن، فالآية الأولى تشتمل على حرف الحمد السابع، والثانية تشتمل على حرفي الحلال والحرام الذين أقامت الرحمانية بهما الدنيا يريد - والله سلحانه وتعالى أعلم - أن الرحمانية وسعت على العباد الاستمتاع بالمخلوق من النعم والخيرات الموافقة لطباعهم وأمزجتهم زقبول نفوسهم في جميع جهات الاستمتاع، فكان في ذلك رحمتان: رحم بالإباحة وهي إزالة حرج الحظر ورحمة يمنع لحاق حرج الإثم أو يجعل المباح شهيا للطبع، وأما الرحيمية فطهرتهم من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ومجهلة قلوبهم، ففي ذلك رحمة واحدة وهي حمية المحبوب عن المضار من المحبوب، أو يريد - وهو والله تعالى أعلم أقرب - أن الرحمانية أقامت بعمومها كل ما شملته الربوبية من إفاضة النعم وإزاحة النقم على وجه مسعد أو مشق، والرحيمية أقامت بخصوصها كما تقدم بما ترضاه الإلهية إدرار النعم ودفع النقم على الوجه المسعد خاصة. انتهى.
والآية الثالثة تشتمل على أمر المللك القيم على حرفي الأمر والنهي
(1/67)
 
 
اللذين ييبدو أمرهما في الدين، والرابعة تشتمل على حرفي المحكم في قوله) إياك نعبد) [الفاتحة: 5] والمتشابه في قوله) وإياك نستعين) [الفاتحة: 5] ولما كانت بناء خطاب محاضرة لم تردد مسألتها في السورةى فانفرد هذان الحرفان عن الدعاء فيهما / وعادتت مسألة الآيةى الخاتمسة على حرف الحمد ومسألة الآية السادسة على آية النعمة من حرفي الحلال والحرام ومسألأة الآية السابعة على آية الملك من حرفي الأمر والنهي فجمعت الفاتحة جوامع الحروف السبعة.
ولما ابتئت الفاتحة أم القرآن بالسابع الجامع الموهوب ابتدئ القرآن بالحرف السادس المعجوز عنه وهو حرف المتشابه، لأنه
(1/68)
 
 
عن إظهار العجز ومحض الإيمان كانت الهبة والتأييد، وليكون العبد يفتتح القرآن بالإيمان يغيب متشابه في قوله " الم " فيكون أتم انقيادا لما دونه وبريئا عن الدعنوى في مستطاعه في سائر الحروف، ثم ولى السادس المفتتح به القرآن الخامس المحكم كم وجه في قوله سبحانه وتعالى) ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (لأن من عمل بها من قلبه شعبة إيمان وعلم كانت له من المحكم، ومن عمل بها ائتمارا وإلجاء ولم يدخل الإيمان في قلبه كانت له حرف أمر) وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا) [الحجرات: 14] .
وهذا إنما وقع ترتيبه هكذا في القرآن المتلو، وأما تنزيله يفي ترتيب البيان فإن أ، ل ما نزل على النبي (صلى الله عليه وسلم) هو حرف المحكم وهو قوله سبحانه وتعالى) اقرأ باسم ربك الذي خلق
(1/69)
 
 
خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم 8) [العلق: 1 - 5] الآياتن الخمس، وأونل ما أنزل إلى الأمة يفي ترتيب البيان هو من حرف الزجر والنهي وهو قوله سبحانه وتعالى) يا أيها المدثر قم فأنذر) [المدثر: 1 - 2] أي) نذير لكم بين يدي عذاب شديد) [سبأ: 46] أعلمهم بما تخاف عاقبته في الآخرة وإن كانوا قد اتخذوا في الدنيا مودة بأوثانهم وقال تعالى) إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض) [العنكبوت: 25] الآية، فابتدأ سبحانه وتعالى ترتيل الأمة بإصلاح المعاد الأهم لأن عليه يصلح أمر الدنيا، من استقل بآخرته كفاه الله أمر دنياه،
(1/70)
 
 
وبدأ منها بحرف الزجر والنهي وهو المبدوء به في الحديث ورده النبي (صلى الله عليه وسلم) لفظ الزجر بلفظ النهي لأن المقصود بهما واحد وهو الردع عما يضر في المعاد إلا أن الردع عل وجهين: خطاب لمعرض ويسمى زجرا كما يسمى في حق البهائم، وخطاب لمقبل على التفهم ويسمى نهيا، قكأن الزجر يزيع الطبع والنهي يزيع العقل، انتهى. وقد بان من هذا سر افتتاح البقرة بالمعروف المقطعة.
ولما كان الذي ابتدئت به السور من ذلك شطر حروف المعجم كان كأنه قيل من زعم أن القرآن ليس كلام الله فليأخذ الشطر الآخر ويركب عليه كلاما يعارضه به، نقل ذلك الزركشي في البرهان عن القاضي أبي بكر قال: وقد علم ذلك بعض أرباب الحقائق، وجمعها
(1/71)
 
 
الزركشي في قوله: نص حكيم قاطع له سر، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه: في كل كتا بسر وسر الله في القرآن أوائل السوروعن علي رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه: أن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.
ولما كانت حروف المعجم تسعة وعشرين حرفا بالهمزة وكان أحد شطرها على التحرير متعذرا فقسمت خمسة عشر وأربعة عشر، وأخذ الأقل من باب الأنصاف وفرق في تسع وعشرين سورة
(1/72)
 
 
على عدد الحروف، وتحدي به على هذا الوجه، وأبدى الإمام شمس الدين ابن فقيم الجوزيه الدمشقي الحنبلي يفي كتاب به كالتذكرة سماه " بدائع الفرائد " سرا غريبا في ابتداء القرآن بقوله) الم (حاصله أن حروفه الثلاثة جمعت المخارج الثلاثية: الحلق واللسان والشفتان. على ترتيبها وذلك إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي المعاد والوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي، وفي ذلك تنبيه على أن هذا الكتاب الذي ركب من هذه الحروف التي لا تعدو المخارج الثلاثة التي بها يخاطب جميع الأمم جامع لما
(1/73)
 
 
يصلحكم من أحوال بدء الخلق وإعادته وما بين ذلك، وكل سورة افتتحت بهذه الحروف ذكرت فيها الأحوال الثلاثة.
وقال الحرالي في تفسيره: " الف " اسم للقائم الأعلى المحيط ثم لكل مستخلف في القيام كآدم والكعبة، " ميم " اسم للظاهر الأعلى الذي من أظهرة ملك يوم الدين، واسم للظاهر الكامل المؤتى جوامع الكلم محمد (صلى الله عليه وسلم) . ثم لكل ظاهر دون ذلك كالسماء والفلك والأرض " لام " اسم لما بين باطن الإلهية التي هي محار العقول التي هي وصل تنزل ما بينهما كاللطيف ونحوه، ثم للوصل الذي كالملائكة وما تتولاه من أمر الملكوت، وهذه الألفاظ عند انعجام معناها تسمى حروفا، والحرف طرف الشيء الذي لا يؤخذ منفردا وطرف القول الذي لا يفهم وحده، وأحق ما تسمى حروفا إذا نظر إلى صورها ووقوعها أجزاء من الكلم
(1/74)
 
 
ولم تفهم لها دلالة فتضاف إلى مثلها جزء من كلمة مفهومة تسمى عند ذلك حروفا وعند النطق بها هكذا ألف لا ميم فينبغي أن يقال فيها أسماء وإن كانمت غير معلومة الدلالة كحروف ألف باء تاء فإنها كلها أسماء على ما فهمه الخليل وإنها إنما تسمى حروفا عند ما تكون أجزاء كلمة محركة للإبتداء أو مسكنة للوقف والانتهاء.
وأما حقيقتها فهي جوامع أصلها في ذمر أول من كلام الله تعالى فنزلت إلى الكلم العربية وترجمت بها ونظم منها هذا القرآن العربي المبين، فهي في الكنب العلوية الملكوتية المترتبة في الجمع والتفصيل آية وكلم وذات كتاب، فلما نزلت إلى غاية مفصل القرآن أبقيت
(1/75)
 
 
في افتتاحه لتكون علما على نقله للتفصيل من ذلك الكتاب، ولأنها أتم وأوجز فغيء الدلالة على الجمع من المفصل منها ودلالتها جامعة للوجود كله من أبطن قيمه إلى أظهره وأظهر مقامه وما بينهما من الوصلة والواصلة وهي جامعة الدلالة على الكون المرئي للعين بالعين والوحي المسموع، ولأجل ما اقتضته من الجمع لم تنزل يفي كتاب متقدم لأن كتا بكل وقت مطابق بحال الكون فيه والكون كان بعد لم يكمل فكانت كتبه وصحفه بحسبه ن ولما كمل الكون في وقت سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) كان كتابه كاملا جامعا فوجب ظهور هذه الجوامع فيه ليطابق الختم البدئ، لأنهما طرفا كمال وما بينهما تدرج إليه، وقد كان وعد بإنزالهما في بعض تلك الكتب فكان نزولها نجازا لذلك. انتهى.
(1/76)
 
 
وأما مناسبة ما بعد ذلك للفاتحة فهو أنه لما أخبلا سبحانه وتعالى أن عباده المخلصين سألوا في الفاتحة هداية الصراط المستقيم الذي همو غير طرلايق الهالكين أرشدهك في أول التي تليها إلى أن الهدى المؤول إنما هو في هذا الكتاب، وبين لهم صفات الفريقين الممنوحين بالهداية حتى على التخلق بها والممنوعين منها زجرا عن قربها. فكاتن ذلك أعظم المناسبات لعقيب الفاتحة بالبقرة، لأنها سيقت لنفي الريب عن هذا الكتاب ولأنه هدى للمتقين، ولوصف المتقين وما يجازون به بما في الآيات الثلاث ولوصف الكافرين الذين لا يؤمنون لما وقع من الختم على جواسهم والحتم لعقابهم ليعلم أن ما اتصف به المتقون هو الصراط المستقيم فيلزم وما اتصف به من
(1/77)
 
 
عداهم هو طريق الهالكين فيترك، وفي الوصف بالتقوى بعد ذكر المغضوب عليهم والضالين إشارة إلى أن المقام مقام الخوف.
وإن شئت قلت: مقصود هذه السورة وصف الكتاب فقط وما عدا ذلك فتوابع ولوازم ولن يثبت أنه هدى إلا بإثبات أ، هـ حق معنى ونظما، ولما كان المعنى أهم قدم الاستدلال عليه فأخبر من تماديهم على الكفر بما يكون تكذيبهم به تصديقا له، واتبع ذلك بذكر المنافقين إعلاما بأن المنفي الإيمان بالقلب وأنه لا عبرة باللسان إذا تجرد عنه،
(1/78)
 
 
وساق ذلك على وجه يعلمون به أنه الحق بما هتك من سرائرهم وكشف من ضمائرهم، فلما تم ذلك وكان المقصود منه الدعاء إلى الله انتهزت تلك الفلبرصة بقوله تعالى (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) [البقرة: 21] لما أسس لها من الترغيب بالترهيب، ثم أقيم الدليل على حقية نظمه بتقصيرهم عن مدى سهمه، فرجع حاصل ذلك إلى إثباته بعجزهم عن معارضته في معناه بإيجاد من أخبر بنفيه وفي نظمه بالإتيان بمثله، فلما ثبت ذلك ثبت أنه من عند الله فثبت تأهله لتعليم الشرائع فجعلها ضمن مجادلة أهل الكتاب بما يعلمون حقيته بلا ارتياب من الدعاء إلى ما أخفوه من الدعائم الخمس التي بني عليها الإسلام
(1/79)
 
 
الم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5) إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7) ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10) وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون (14) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)
ولما كان معنى {الم} هذا كتاب من جنس حروفكم التي قد فقتم في التكلم بها سائر الخلق فما عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله إلا لأنه كلام الله أنتج ذلك كماله، فأشير إليه بأداة البعد ولام الكمال في قوله {ذلك الكتاب} لعلو مقدار بجلالة آثاره وبعد رتبته عن نيل المطرودين. ولما علم كماله أشار إلى تعظيمه بالتصريح بما ينتجه ويستلزمه ذلك التعظيم فقال {لا ريب فيه} أي في شيء من معناه ولا نظمه في
(1/79)
 
 
نفس الأمر عند من تحقق بالنظر فالمنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له، ولم يقدم الظرف لأنه كان يفيد الاختصاص فيفهم أن غيره من الكتب محل الريب.
قال الحرالي: «ذا» اسم مدلوله المشار إليه، واللام مدلوله معها بعدما {الكتاب} من الكتب وهو وصل الشيء المنفصل بوصلة خفية من أصله كالخرز في الجلد بقد منه والخياطة في الثوب بشيء من جنسه ليكون أقرب لصورة اتصاله الأول، فسمي به ما ألزمه الناس من الأحكام وما أثبت بالرقوم من الكلام {لا} لنفي ما هو ممتنع مطلقا أو في وقت «الريب» التردد بين موقعي تهمة بحيث يمتنع من الطمأنينة على كل واحد منها. انتهى. وأصله قلق النفس واضطرابه، ومنه
(1/80)
 
 
ريب الزمان لنوائبه المقلقة، ولما كان ذلك يستلزم الهدى قال: {هدى} وخص المنتفعين لأن الألد لا دواء له والمتعنت لا يرده شيء فقال: {للمتقين} أي الذين جبلوا في أصل الخلقة على التقوى؛ فافهم ذلك أن غيرهم لا يهتدي به بل يرتاب وإن كان ليس موضعا للريب أصلا.
قال الحرالي: جمع المتقي وهو المتوقف عن الإقدام على كل أمر لشعوره بتقصيره عن الاستبداد وعلمه بأنه غير مستغن بنفسه فهو متق لوصفه وحسن فطرته والمتقي كذا متوقف لأجل ذلك، والتقوى
(1/81)
 
 
أصل يتقدم الهدى وكل عبادة، لأنها فطرة توقف تستحق الهدى وكل خير وهي وصية الله لأهل الكتاب. انتهى.
ثم وصفهم بمجامع الأعمال تعريفا لهم فقال: {الذين يؤمنون بالغيب} أي الأمر الغائب الذي لا نافع في الإيمان غيره، وعبر بالمصدر للمبالغة. {ويقيمون الصلاة} أي التي هي حضرة المراقبة وأفضل أعمال البدن بالمحافظة عليها وبحفظها في ذاتها وجميع أحوالها. ولما ذكر وصلة الخلق بالخالق وكانت النفقة مع أنها من أعظم دعائم الدين صلة بين الخلائق أتبعها بها فقال مقدما للجار ناهيا عن الإسراف ومنبها
(1/82)
 
 
بالتبعيض على طيب النفقة لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وآمرا بالورع وزاجرا عما فيه شبهة [لأن الرزق يشمل الحلال والحرام والمشتبه] {ومما رزقناهم} أي مكناهم من الانتفاع به على عظمة خزائننا وهو لنا دونهم {ينفقون} أي في مرضاتنا مما يلزمهم من الزكاة والحج والغزو وغيرها ومما يتطوعون به من الصدقات وغيرها، والمراد بهذه الأفعال هنا إيجاد حقائقها على الدوام.
قال أبو حيان وغيره في قوله تعالى في سورة الحج {إن الذين كفروا ويصدون} [الحج: 25] المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار. انتهى. وهذا مما لا محيد عنه وإلا لم يشمل هذا في هذه السورة المدنية من تخلق به قبل الهجرة وقوله تعالى {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} [البقرة: 91] قاطع في ذلك.
(1/83)
 
 
وقال الحرالي: {يؤمنون} ، من الإيمان وهو مصدر آمنه يؤمنه إيمانا إذا آمن من ينبهه على أمر ليس عنده أن يكذبه أو يرتاب فيه، و «الغيب» ما غاب عن الحس ولم يكن عليه علم يهتدي به العقل فيحصل به العلم؛ وصيغة {يؤمنون} و {يقيمون} تقتضي الدوام على الختم، وإدامة العمل إلى الختم تقتضي ظهوره عن فطرة أو جبلة وأنه ليس عن تعمل ومراءاة، وعند ذلك يكون علما على الجزاء؛ و {الصلاة} الإقبال بالكلية على أمر، فتكون من الأعلى عطفا شاملا، ومن الأدنى وفاء بأنحاء التذلل والإقبال بالكلية على التلقي، وإيمانهم بالغيب قبولهم من النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقاه بالوحي من أمر غائب الدنيا الذي هو الآخرة وما فيها وأمر غائب الملكوت وما فيه إلى غيب الجبروت وما به بحيث يكون عملهم على الغائب الذي تلقته قلوبهم على سبيل آذانهم كعملهم على ما تلقته أنفسهم على سبيل
(1/84)
 
 
أعينهم وسائر حواسهم وداموا على عملهم ذلك حكم إيمانهم إلى الخاتمة.
ولما كانت الصلاة التزام عهد العبادة مبنيا على تقدم الشهادة متممة بجماع الذكر وأنواع التحيات لله من القيام له تعالى والركوع له والسجود الذي هو أعلاها والسلام بالقول الذي هو أدنى التحيات كانت لذلك تعهدا للإيمان وتكرارا، ولذلك من لم يدم الصلاة ضعف إيمانه وران عليه كفر فلا إيمان لمن لا صلاة له، والتقوى وحده أصل والإيمان فالصلاة ثمرته، والإنفاق خلافة ولذلك البخل عزل عن خلافة الله {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7] وهذا الأمر بتمامه هو الذي جعلت الخلافة لآدم به إلى ما وراء ذلك من كمال أمر الله الذي أكمله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالتقوى قلب باطن، والإنفاق وجه ظاهر، والإيمان فالصلاة وصلة بينهما. ووجه ترتب الإيمان بالغيب على التقوى أن المتقي لما كان متوقفا غير متمسك بأمر كان إذا أرشد
(1/85)
 
 
إلى غيب لا يعلمه لم يدفعه بمقتضى ما تقدم علمه؛ ووجه ترتب الإنفاق على الإيمان بالغيب أن المدد غيب، لأن الإنسان لما كان لا يطلع على جميع رزقه كان رزقه غيبا، فاذا أيقن بالخلف جاد بالعطية، فمتى أمد بالأرزاق تمت خلافته وعظم فيها سلطانه وانفتح له باب إمداد برزق أعلى وأكمل من الأول.
فاذا أحسن الخلافة فيه بالإنفاق منه أيضا انفتح له باب إلى أعلى إلى أن ينتهي إلى حيث ليس وراءه مرأى وذلك هو الكمال المحمدي، وإن بخل فلم ينفق واستغنى بما عنده فلم يتق فكذب تضاءل أمر خلافته وانقطع عنه المدد من الأعلى؛ فبحق سمي الإنفاق زكاة؛ وفي أول الشورى كلام في الإيمان عن علي رضي الله عنه نفيس. انتهى.
ولما وصفهم بالإيمان جملة أشار إلى تفصيله على وجه يدخل
(1/86)
 
 
فيه أهل الكتاب دخولا أوليا فقال {والذين يؤمنون} أي يوجدون هذا الوصف بعد سماعهم للدعوة إيجادا مستمرا {بما أنزل اليك} أي القرآن والسنة سواء كان قد وجد أو سيوجد؛ {وما أنزل من قبلك} أي على الأنبياء الماضين، ولما كان الإيمان بالبعث من الدين بمكان عظيم جدا بينه بالتقديم إظهارا لمزيد الاهتمام فقال: {وبالآخرة} أي التي هي دار الجزاء ومحل التجلي وكشف الغطاء ونتيجة الأمر. قال الحرالي: الآخرة معاد تمامه على أوليته. انتهى. ولما تقدم من الاهتمام عبر بالإيقان وأتى بضمير الفصل فقال: {هم يوقنون}
(1/87)
 
 
لأن ذلك قائد إلى كل خير وذائد عن كل ضير، والإيقان كما قال الحرالي صفاء العلم وسلامته من شوائب الريب ونحوه، من يقن الماء وهو ما نزل من السماء فانحدر إلى كهف جبل فلم يتغير من قرار ولا وارد. انتهى. فهو يكون بعد شك ولذا لا يوصف به الله. والوصف بهده الأوصاف كما ترى إشارة إلى أمهات الأعمال البدنية
(1/88)
 
 
والماليه من الأفعال والتروك، فالإيمان أساس الأمر والصلاة مشار بها إلى التحلي بكل خير والتخلي عن كل شر {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] وكلاهما من أعمال البدن، والنفقه عمل مالي، فحصل بذلك حصر الفعل والترك الضابطين لجميع الأعمال كيف ما تشعبت، وصرح بالفعل وأومى إلى الترك إيماء لا يفهمه إلا البصراء تسهيلا على السالكين، لأن الفعل من حيث هو ولو كان صعبا أيسر على النفس من الكف عما تشتهي. وفي وصفهم أيضا بالإيمان بما أنزل إليه وإلى من قبله من التقريع والتبكيت لمن سواهم ما ستراه في الآيات الآتيه.
ولما أخبر عن أفعالهم الظاهرة والباطنة أخبر بثمرتها فقال: {أولئك} أي الموصوفون بتلك الصفات الظاهرات، ولما تضمن ما مضى أن إيمانهم كان من أعظم استدلال فأثمر لهم التمسك بأوثق العرى من الأعمال استحقوا الوصف بالاستعلاء الذي معناه التمكن فقال: {على
(1/89)
 
 
هدى} أي عظيم، وزاد في تعظيمه بقوله: {من ربهم} أي المحسن إليهم بتمكينهم منه ولزومهم له تمكين من علا على الشيء، ولما لم يلازم الهدى الفلاح عطف عليه قوله مشيرا بالعاطف إلى مزيد تمكنهم في كل من الوصفين {وأولئك} أي العالو الرتبه {هم} أي خاصة {المفلحون} أي الكاملون في هذا الوصف الذين انفتحت لهم وجوه الظفر، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته من الفاء والعين نحو فلج بالجيم وفلق وفلذ وفلى.
(1/90)
 
 
قال الحرالي: وخرج الخطاب في هذه الآية مخرج المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ومخرج إحضار المؤمنين بموضع الإشارة وهي مكانة حضرة دون مكانة حضرة المخاطب. انتهى. وكونها للبعد إعلام بعلو مقامهم. والفلاح الفوز والظفر بكل مراد ونوال البقاء الدائم في الخير.
ولما أردف البيان لأوصاف المؤمنين التعريف بأحوال الكافرين وكانوا قد انقسموا على مصارحين ومنافقين وكان المنافقون قسمين جهالا من مشركي العرب وعلماء من كفار بني إسرائيل كان الأنسب ليفرغ من قسم برأسه على عجل البداءة أولا بالمصارحين فذكر ما أراد من أمرهم في آيتين، لأن أمرهم أهون وشأنهم أيسر لقصدهم بما يوهنهم بالكلام أو بالسيف على أن ذكرهم على وجه يعم جميع الأقسام فقال
(1/91)
 
 
مخاطبا لأعظم المنعم عليهم على وجه التسلية والإعجاز في معرض الجواب لسؤال من كأنه قال: هذا حال الكتاب للمؤمنين فما حاله للكافرين؟ {إن الذين كفروا} أي حكم، بكفرهم دائما حكما نفذ ومضى فستروا ما أقيم من الأدلة على الوحدانية عن العقول التى هيئت لإدراكه والفطر الأولى التي خلصت عن مانع يعوقها عن الانقياد له وداموا على ذلك بما دل عليه السباق بالتعبير عن أضدادهم بما يدل على تجديد الإيمان
(1/92)
 
 
على الدوام واللحاق بالختم والعذاب، ولعله عبر بالماضي والموضع للوصف تنفيرا من مجرد إيقاع الكفر ولو للنعمة وليشمل المنافقين وغيرهم.
ولما دل هذا الحال على أنهم عملوا ضد ما عمله المؤمنون من الانقياد كان المعنى {سواء عليهم أأنذرتهم} أي إنذارك في هذا الوقت بهذا الكتاب {أم لم تنذرهم} أي وعدم إنذارك فيه وبعده وقد انسلخ عن أم والهمزة معنى الاستفهام، قال سيبوية: جرى هذا على
(1/93)
 
 
حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. انتهى. ولعله عبر بصورة الاستفهام وقد سلخت عن معناه إفهاما لأنهم توغلوا في الكفر توغل من وصل في الحمق إلى أنه لو شاهد الملك يستفهمك عنه ما آمن.
ولما كان كأنه قيل في أي شيء استوت حالتاهم قبل في أنهم {لا يؤمنون} وهي دليل على خصوص كونه هدى للمتقين وعلى وقوع التكليف بالممتنع لغيره فإنه سبحانه كلفهم الإيمان وأراد منهم الكفران، فصار ممتنعا لإرادته عدم وقوعه، والتكليف به جار على سنن الحكمة فإن إرادة عدم إيمانهم لم تخرج إيمانهم عن حيز الممكن فيما يظهر، لعدم العلم بما أراد الله من كل شخص بعينه، فهو على سنن الابتلاء ليظهر في عالم الشهادة المطيع من غيره لإقامة الحجة؛ ويأتي في الصافات عند {افعل ما تؤمر}
[الصافات: 102] تتمة لهذا.
(1/94)
 
 
قال الحرالي: فحصل بمجموع قوله: {سواء عليهم} إلى آخره وبقوله: {لا يؤمنون} خبر تام عن سابقة أمرهم ولاحقة كونهم، فتم بالكلامين الخبر عنهم خبرا واحدا ملتئما كتبا سابقا وكونا لاحقا. انتهى. وكل موضع ذكر فيه الكفر فإنما عبر به إشارة إلى أن الأدلة الأصلية في الوضوح بحيث لا تخفى على أحد ولا يخالفها إلا من ستر مرآة عقله إما عنادا وإما بإهمال النظر السديد والركون ألى نوع تقليد.
ولما كان من أعجب العجب كون شيء واحد يكون هدى لناس دون ناس علل ذلك بقوله: {ختم الله} أي بجلاله {على قلوبهم} أي ختما مستعليا عليها فهي لا تعي حق الوعي، لأن الختم على الشيء يمنع
(1/95)
 
 
الدخول إليه والخروج منه، وأكد المعنى بإعادة الجار فقال: {وعلى سمعهم} فهم لا يسمعون حق السمع، وأفرده لأن التفاوت فيه نادر، قال الحرالي: وشركه في الختم مع القلب لأن أحدا لا يسمع إلا ما عقل. انتهى. {وعلى أبصارهم غشاوة} فهم لا ينظرون بالتأمل.
ولما سوى هنا بين الإنذار وعدمه كانت البداءة بالقلوب أنسب تسوية لهم بالبهائم، ولما كان الغبي قد يسمع أو يبصر فيهتدي وكان إلى السمع أضر لعمومه وخصوص البصر بأحوال الضياء نفى السمع ثم البصر تسفيلا لهم عن حال البهائم، بخلاف ما في الجاثية فإنه لما أخبر فيها بالإضلال وكان الضال أحوج شيء إلى سماع الهادي نفاه، ولما
(1/96)
 
 
كان الأصم، إذا كان ذا فهم أو بصر أمكنت هدايته وكان الفهم أشرف نفاهما على ذلك الترتيب.
ولما وصفهم بذلك أخبر بمآلهم فقال: {ولهم عذاب عظيم} قال الحرالي: وفي قوله: {ولهم} إعلام بقوة تداعي حالهم لذلك العذاب واستحقاقهم له وتنشؤ ذواتهم إليه حتى يشهد عيان المعرفة به - أي العذاب - وبهم أنه لهم وكان عذابهم عظيما آخذا في عموم ذواتهم لكونهم لم تلتبس أبدانهم ولا نفوسهم ولا أرواحهم بما يصد عنهم شيئا من عذابها كما يكون للمعاقبين من مذنبي مؤمني الأمم حيث يتنكب العذاب عن وجوههم ومواضع وضوئهم ونحو ذلك. انتهى.
(1/97)
 
 
وسيأتى عند قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا} [البقرة: 165] ما يلتفت إلى هنا.
قال الحرالي: «الكفر» تغطية ما حقه الإظهار، و «الإنذار» الإعلام بما يحذر، و «الختم» إخفاء خبر الشيء بجمع أطرافه عليه على وجه يتحفظ به و «القلب» مبدأ كيان الشيء من غيب قوامه، فيكون تغير كونه بحسب تقلب قلبه في الانتهاء ويكون تطوره وتكامله بحسب مدده في الابتداء والنماء، والقلب من الإنسان بمنزلة السكان من السفينة بحسب تقلبه يتصرف سائره، وبوضعه للتقلب والتقليب سمي قلبا، وللطيف معناه في ذلك كان أكثر قسمه صلى الله عليه وسلم بمقلب القلوب، «والغشاوة» غطاء مجلل لا يبدو معه من المغطى شيء و «العذاب» إيلام لا إجهاز فيه، و «العظيم» الآخذ في الجهات كلها.
(1/98)
 
 
انتهى. وفي تعقيب ذكر المؤمنين بذكر المختوم على مداركهم المختوم بمهالكهم تعظيم للنعمة على من استجاب له. إذ قال «اهدنا» فهداه، وإعلام بأن الهدى ليس إلا بيده ليلحلوا في الطلب ويبرؤوا من ادعاء حول أو قوة.
ولما افتتح سبحانه بالذين واطأت قلوبهم ألسنتهم في الإيمان وثنى بالمجاهرين من الكافرين الذين طابق إعلانهم إسرارهم في الكفران اتبعه ذكر المساترين الذين خالفت ألسنتهم قلوبهم في الإذعان وهم المنافقون، وأمرهم أشد لإشكال أحوالهم والتباس أقوالهم وأفعالهم، فأضر الأعداء من يريك الصداقة فيأخذك من المأمن؛ وما أحسن ما ينسب إلى الإمام أبي سليمان الخطابي في المعنى:
تحرز من الجهال جهدك أنهم ... وإن أظهروا فيك المودة أعداء
وإن كان فيهم من يسرك فعله ... فكل لذيذ الطعم أوجله داء
لا جرم ثنى سبحانه بإظهار أسرارهم وهتك أستارهم في سياق شامل لقسميهم،
(1/99)
 
 
فقبح أمورهم ووهى مقاصدهم وضرب لهم الأمثال وبسط لهم بعض البسط في المقال فقال تعالى: {ومن الناس من يقول} أي لما أرسلنا رسولنا انقسم الناس قسمين: مؤمن وكافر، وانقسم الكافر قسمين: فمنهم من جاهر وقال: لا نؤمن أبدا، ومنهم من يقول، ولعله أظهر ولم يضمر لانفرادهم عن المجاهرين ببعض الأحكام، أو لأنه سبحانه لما ذكر طرفي الإيمان والكفر وأحوال المؤمنين وأحوال الذين كفروا ذكر المنافقين المترددين بين الاتصاف بالطرفين بلفظ الناس لظهور معنى النوس فيهم لاضطرابهم بين الحالين، لأن النوس هو حركة الشيء اللطيف المعلق في الهواء كالخيط المعلق الذي ليس في طرفه الأسفل ما يثقله فلا يزال
(1/100)
 
 
مضطربا بين جهتين، ولم يظهر هذا المعنى في الفريقين لتحيزهم إلى جهة واحده. قال الحرالي، وعرف للجنس أو للعهد في الذين كفروا لأنهم نوع منهم، وسر الإظهار موضع الإضمار على هذا ما تقدم، {آمنا بالله} أي وحده بما له من الجلال والجمال مستحضرين لذلك، ولما كانوا متهمين أكدوا بإعادة الجار فقالوا: {وباليوم الآخر} الذي جحده المجاهرون، {وما هم بمؤمنين} أي بعريقين في الإيمان كما ادعوه بذكر الاسم الأعظم وإعادة الجار، ولعله نفى العراقة فقط لأن منهم من كان مزلزلا حين هذا القول غير جازم بالكفر وآمن بعد ذلك، وحذف متعلق الإيمان تعميما في السلب عنهم لما ذكروا وغيره، وجمع هنا وأفرد في [يقول] تنبيها على عموم الكفر لهم كالأولين وقلة
(1/101)
 
 
من يسمح منهم بهذا القول إشارة إلى غلظتهم وشدة عثاوتهم في الكفر وقوتهم.
وفي ذكر قصتهم وتقبيح أحوالهم تنبيه على وجوب الإخلاص وحث على الاجتهاد في الطهارة من الأدناس في سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم.
وتصنيف الناس آخر الفاتحة ثلاثة أصناف: مهتدين ومعاندين وضالين، مثل تصنيفهم أول البقرة ثلاثة: متقين وكافرين مصارحين وهم المعاندون وضالين وهم المنافقون، وإجمالهم في الفاتحة وتفصيلهم هنا من بديع الأساليب وهو دأب القرآن العظيم الإجمال ثم التفصيل.
وقد سمى ابن إسحاق كثيرا من المنافقين في السيرة الشريفة في أوائل أخبار ما بعد الهجرة، قال ابن هشام في تلخيص ذلك: وكان ممن انضاف إلى يهود ممن سمي لنا من المنافقين من الأوس والخزرج، من الأوس زوي بن الحارث وبجاد بن عثمان ابن عامر ونبتل بن الحارث وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل! وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1/102)
 
 
يتحدث إليه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال: إنما محمد أذن» وعباد بن حنيف أخو سهل وعمرو بن خذام وعبد الله بن نبتل وبحزج وهو ممن كان بنى مسجد الضرار وكذا جارية بن عامر ابن العطاف وابنه زيد وخذام بن خالد وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره ومربع بن قيظي وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عامد إلى أحد: لا أحل لك يا محمد إن كنت نبيا أن تمر في حائطي! فابتدره المسلمون ليقتلوه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال «هذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر» ، وأخوه أوس بن قيظي وهو الذي قال يوم الخندق «إن بيوتنا عورة» وحاطب بن أمية بن رافع وكان شيخا جسيما قد عسى في الجاهلية وكان ابنه يزيد من خيار المسلمين، قتل رضي الله عنه يوم أحد فقال أبوه لمن بشره بالجنة: غررتم والله هذا المسكين من نفسه! وبشير بن أبيرق أبو طعيمة. وفي نسخة: طعمة، وهو سارق الدرعين الذي أنزل الله فيه {ولا
(1/103)
 
 
تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} [النساء: 107] وقزمان حليف لهم أجاد يوم أحد القتال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه من أهل النار، فجرح فبشر بالجنة فقال: والله ما قاتلت إلا حمية لقومي! فلما اشتدت به الجراحة قطع رواهش يده فمات» .
ومن الخزرج رافع بن وديعه وزيد بن عمرو وعمرو بن قيس وقيس بن عمرو بن سهل والجد بن قيس وهو الذي قال: «ائذن لي ولا تفتني» وعبد الله بن أبي رأس المنافقين وإليه كانوا يجتمعون
(1/104)
 
 
وهو القائل {ليخرجن الأعز منها الأذل} [المنافقون: 8] وفيه وفي وديعة العوفي ومالك بن أبي فوقل وسويد وداعس وهم من رهطه نزل {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب} [الحشر: 11] الآية حكاية لما كانوا يدسونه إلى بني النضير إذ حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدق الله وكذبوا.
وكان ممن تعوذ بالإسلام وأظهره وهو منافق من أحبار يهود من بني قينقاع سعد ابن حنيف وزيد بن اللصيت وهو الذي قال في عزوة تبوك: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فأعلمه الله بقوله وبمكان الناقة، ونعيمان بن أوفى بن عمرو وعثمان بن أوفى ورافع بن حريملة وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات: «قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين» ، ورفاعة بن زيد بن التابوت وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هبت تلك الريح وهو قافل من غزوة بني المصطلق: «لا تخافوا، إنما هبت لموت عظيم من عظماء المنافقين» ، وسلسلة بن برهام وكنانه بن صوريا. فكان هؤلاء من المنافقين ومن نحا نحوهم يحضرون المسجد فيسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم. انتهى. وفيه اختصار فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات.
(1/105)
 
 
وابتدئت قصتهم بالتنبيه على قلة عقولهم وخفة حلومهم من حيث أن محط حالهم أنهم يخادعون من لا يجوز عليه الخداع وأن الذي حملهم على ذلك أنهم ليس لهم نوع شعور ولا شيء من إدراك بقوله تعالى - جوابا لسؤال من كأنه قال: فما قصدهم بإظهار الإيمان والإخبار عن أنفسهم بغير ما هي متصفة به مع معرفتهم بقبح الكذب وشناعته وفظاعته وبشاعته؟ {يخادعون الله} أي يبالغون في معاملته هذه المعاملة بإبطان غير ما يظهرون مع ما له من الإحاطة بكل شيء، والخداع أصله الإخفاء والمفاعلة في أصلها للمبالغة لأن الفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده {والذين آمنوا} أي يعاملونهم تلك المعاملة، وأمره تعالى بإجراء أحكام الإسلام عليهم في الدنيا صورته صورة الخدع وكذا امتثال المؤمنين أمره تعالى فيهم. قال
(1/106)
 
 
الحرالي: وجاء بصيغة المفاعلة لمكان إحاطة علم الله بخداعهم ولم يقرأ غيره ولا ينبغي، والخداع إظهار خير يتوسل به إلى إبطان شر يؤول إليه أمر ذلك الخير المظهر. انتهى.
{وما يخدعون} أي بما يغرون به المؤمنين {إلا أنفسهم} يعني أن عقولهم لخباثتها إنما تسمى نفوسا، والنفس قال الحرالي ما به ينفس المرء على غيره استبدادا منه واكتفاء بموجود نفاسته على من سواه. انتهى. وقراءة الحذف هذه لا تنافي قراءة يخادعون لأن المطلق لا يخالف المقيد بالمبالغة، وعبر هنا بصيغة المفاعلة لشعورهم كما قال الحرالي بفساد
(1/107)
 
 
أحوالهم في بعض الأوقات ومن بعض الأشخاص وبصيغة المجرد لعمههم عن فساد أحوالهم في أكثر أوقاتهم وعمه عامتهم ولا يكون من الله سبحانه إلا بلفظ الخدع لأنهم لا يعلمون ما يخفى عنهم من أمره ولذلك جاء في آية النساء
{يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء: 142] . انتهى.
{وما يشعرون} أي نوع شعور لإفراط جهلهم بأنهم لا يضرون غير أنفسهم لأن الله يعلم سرهم كما يعلم جهرهم. وحذف متعلق بالشعور للتعميم والشعور كما قال الحرالي أول الإحساس بالعلم كأنه مبدأ إنباته قبل أن تكمل صورته تتميز. وانتهى.
ثم بين سبحانه أن سبب الغفلة عن هذا الظاهر كون آلة إدراكهم مريضة، شغلها المرض عن إدراك ما ينفعها فهي لا تجنح إلا إلى ما يؤذيها، كالمريض لا تميل نفسه إلى غير مضارها فقال جوابا لمن كأنه قال: ما سبب فعلهم هذا من الخداع وعدم الشعور؟ {في قلوبهم مرض} أي من
(1/108)
 
 
أصل الخلقة يوهن قوى الإيمان فيها ويوجب ضعف أفعالهم الإسلامية وخللها، لأن المرض كما قال الحرالي: ضعف في القوى يترتب عليه خلل في الأفعال {فزادهم الله} أي بما له من صفات الجلال والإكرام لمخادعتهم بما يرون من عدم تأثيرها {مرضا} أي سوء اعتقاد بما يزيد من خداعهم وألما في قلوبهم بما يرون من خيبة مطلوبهم، فانسد عليهم باب الفهم والسداد جملة، والزيادة قال الحرالي: استحداث أمر لم يكن في موجود الشيء. انتهى. {ولهم} أي مع ضرر الغباوة في الدنيا الملحقة بالبهائم {عذاب أليم} في الآخرة أي شديد الألم وهو الوجع اللازم. قاله الحرالي {وبما كانوا} قال الحرالي: من كان الشيء وكان الشيء كذا إذا ظهر وجوده وتمت صورته أو ظهر ذلك الكذا من ذات نفسه. انتهى. {يكذبون} أي يوقعون الكذب وهو الإخبار عن أنفسهم بالإيمان مع تلبسهم بالكفران، والمعنى على قراءة التشديد يبالغون
(1/109)
 
 
في الكذب، أو ينسبون الصادق إلى الكذب، وذلك أشنع الكذب.
ولما أخبر تعالى عن بواطنهم أتبعه من الظاهر ما يدل عليه فبين أنهم إذا نهوا عن الفساد العام ادعوا الصلاح العام بقوله: {وإذا قيل لهم} وبناؤه للمجهول إشارة إلى عصيانهم لكل قائل كائنا من كان {لا تفسدوا في الأرض} أي بما نرى لكم من الأعمال الخبيثة، والفساد انتقاض صورة الشيء. قاله الحرالي، {قالوا} قاصرين فعلهم على الصلاح نافين عنه كل فساد مباهتين غير مكترثين {إنما نحن مصلحون} والإصلاح تلافي خلل الشيء. قاله الحرالي.
ولما كان حالهم مبينا على الخداع بإظهار الخير وإبطان الشر وكانوا يرون إفسادهم لما لهم من عكس الإدراك إصلاحا فكانوا يناظرون عليه
(1/110)
 
 
بأنواع الشبه كان قولهم ربما غر من سمعه من المؤمنين لأن المؤمن غر كريم والكافر خب لئيم فقال تعالى محذرا من حالهم مثبتا لهم ما نفوه عن أنفسهم من الفساد وقاصرا له عليهم {ألا إنهم هم} أي خاصة {المفسدون} أي الكاملو الإفساد البالغون من العراقة فيه ما يجعل إفساد غيرهم بالنسبة إلى إفسادهم عدما لما في ذلك من خراب ذات البين وأخذ المؤمن من المأمن.
وقال الحرالي: ولما كان حال الطمأنينة بالإيمان إصلاحا وجب أن يكون اضطرابهم فيه إفسادا لا سيما مع ظنهم أن كونهم مع هؤلاء تارة ومع هؤلاء تارة من الحكمة والإصلاح وهو عين الإفساد لأنه بالحقيقة مخالفة هؤلاء وهؤلاء فقد أفسدوا طرفي الإيمان والكفر، ولذلك قيل: ما يصلح المنافق، لأنه لا حبيب مصاف ولا عدو مبائن، فلا يعتقد منه على شيء - انتهى.
ولما كان هذا الوصف موجبا لعظيم الرهبة اتبعه ما يخففه بقوله: {ولكن لا يشعرون} أي هم في غاية الجلافة حتى لا شعور لهم
(1/111)
 
 
يحسنون به التصرف فيما يحاولونه من الفساد الآن بما دلت عليه ما في الآية السابقة الدالة على أن المضارع للحال ولا فيما يستقبل من الزمان لأن لا لا تقارنه إلا وهو بمعنى الاستقبال، فلأجل ذلك لا يؤثر إفسادهم إلا في أذى أنفسهم، فلا تخافوهم فإني كافيكموهم.
ولما بين حالهم إذا أمروا بالصلاح العام بين أنهم إذا دعوا إلى الصلاح الخاص الذي هو أس كل صلاح سموه سفها فقال: {وإذا قيل} أي من أي قائل كان {لهم آمنوا} أي ظاهرا وباطنا {كما آمن الناس} أي الذين هم الناس ليظهر عليكم ثمرة ذلك من لزوم الصلاح واجتناب الفساد والإيمان المضاف إلى الناس أدنى مراتب الإيمان قاله الحرالي،
(1/112)
 
 
وهو مفهم لما صرح به قوله: وما هم بمؤمنين {قالوا أنؤمن} أي ذلك الإيمان {كما آمن السفهاء} أي الذين استدرجهم إلى ما دخلوا فيه بعد ترك ما كان عليه آباؤهم خفة نشأت عن ضعف العقل، ثم رد سبحانه قولهم بحصر السفه فيهم فقال: {ألا إنهم هم السفهاء} لا غيرهم لجمودهم على رأيهم مع أن بطلانه أظهر من الشمس ليس فيه لبس {ولكن لا يعلمون} أي ليس لهم علم أصلا لا بذلك ولا بغيره، ولا يتصور لهم علم لأن جهلهم مركب وهو أسوأ الجهل والعلم، قال الحرالي: ما أخذ بعلامة وأمارة نصبت آية عليه - انتهى. ولما كان الفساد يكفي في معرفته والسد عنه أدنى تأمل والسفه لا يكفي في إدراكه والنهي عنه إلا رزانة العلم ختمت كل آية بما يناسب ذلك من الشعور والعلم ولما كان العام جزء الخاص قدم عليه.
(1/113)
 
 
ولما بين نفاقهم وعلته وسيرتهم عند دعاء الداعي إلى الحق بهذة الآيات بين سيرتهم في أقوالهم في خداعهم دليلا على إفسادهم بقوله: {وإذا لقوا} واللقاء اجتماع بإقبال {الذين آمنوا} أي حقا ظاهرا وباطنا، ولكن إيمانهم كما قال الحرالي فعل من أفعالهم لم ينته إلى أن يصير صفة لهم، وأما المؤمنون الذين صار إيمانهم صفة لهم فلا يكادون يلقونهم بمقتضاه، لأنهم لا يجدون معهم مدخلا في قول ولا مؤانسة، لأن اللقاء لا بد فيه من إقبال ما من الملتقيين.
انتهى {قالوا} خداعا {آمنا} معبرين بالجملة الفعلية الماضية التي يكفي في إفادتها لما سقيت له أدنى الحدوث.
(1/114)
 
 
{وإذا خلوا} منتهين {إلى شياطينهم} أي الذين هم رؤوسهم من غير أن يكون معهم مؤمن، والشيطان هو الشديد البعد عن محل الخير - قاله الحرالي، {قالوا إنا معكم} معبرين بالأسمية الدالة على الثبات مؤكدين لها دلالة على نشاطهم لهذا الإخبار لمزيد حبهم لما أفاده ودفعا لما قد يتوهم من تبدلهم من رأى نفاقهم للمؤمنين ثم استأنفوا في موضع الجواب لمن قال: ما بالكم تلينون للمؤمنين قولهم؟ {إنما نحن مستهزئون} أي طالبون للهزء ثابتون عليه فيما نظهر من الإيمان والهزء إظهار الجد وإخفاء الهزل فيه قاله الحرالي.
فأجيب من كأنه قال: بماذا جوزوا؟ بقوله: {الله يستهزىء بهم} أي يجازيهم على فعلهم بالاستدراج بأن يظهر لهم من أمره
(1/115)
 
 
المرذي لهم ما لا يدركون وجهه فهو يجري عليهم في الدنيا أحكام أهل الإيمان ويذيقهم في الدارين أعلى هوان مجددا لهم ذلك بحسب استهزائهم، وذلك أنكأ من شيء دائم توطن النفس عليه، فلذلك عبر بالفعليه دون الاسمية. مع أنها تفيد صحة التوبة لمن تاب دون الاسمية.
{ويمدهم} من المد بما يلبس عليهم. وقال الحرالي: من المدد وهو مزيد متصل في الشيء من جنسه، {في طغيانهم} أي تجاوزهم الحد في الفساد. وقال الحرالي: إفراط اعتدائهم حدود الأشياء ومقاديرها انتهى. وهذا المد بالإملاء لهم حال كونهم {يعمهون} أي يخبطون خبط الذي لا بصيرة له أصلا. قال الحرالي: من العمه وهو انبهام الأمور
(1/116)
 
 
التي فيها دلالات ينتفع بها عند فقد الحس فلا يبقى له سبب يرجعه عن طغيانه، فلا يتعدون حدا إلا عمهوا فلم يرجعوا عنه فهم أبدا متزايدو الطغيان - انتهى.
فلما تقرر ذلك كله كانت فذلكته من غير توقف {أولئك} أي الشديدو البعد من الصواب {الذين اشتروا} أي لجوا في هواهم فكلفوا أنفسهم ضد ما فطرها الله عليه مع ما نصب من الأدلة حتى أخذوا {الضلالة} أي التي هي أقبح الأشياء {بالهدى} الذي هو خير الأشياء ومدار كل ذي شعور عليه، فكأنه لوضوح ما قام عليه من الأدلة مع ما ركز منه في الفطر كان في أيديهم فباعوه بها، وسيأتي في سورة يوسف عليه السلام بيان أن مادة شرى بتراكيبها الاثني عشر تدور على اللجاجة {فما} أي فتسبب عن فعلهم هذا أنه ما {ربحت تجارتهم} مع ادعائهم أنهم أبصر الناس بها {وما كانوا} في نفس جبلاتهم {مهتدين} لأنهم مع أنهم لم يربحوا أضاعوا رأس المال، لأنه لم يبق
(1/117)
 
 
في أيديهم غير الضلال الذي صاحبه في دون رتبة البهائم مع زعمهم أنه لا مثل لهم في الهداية.
(1/118)
 
 
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لا يرجعون (18) أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير (20) ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22)
فلما علم ذلك كله وكانت الأمثال ألصق بالبال وأكشف للأحوال مثل حالهم في هداهم الذي باعوه بالضلالة بالأمور المحسوسة، لأن للتمثيل بها شأناعظيما في إيصال المعاني حتى إلى الأذهان الجامدة وتقريرها فيها بقوله تعالى {مثلهم} أي في حالهم هذه التي طلبوا أن يعيشوا بها {كمثل الذي استوقد نارا} أي طلب أن توقد له وهي هداه ليسير في نورها، وأصلها من نار إذا نفر لتحركها واضطرابها، فوقدت وأنارت.
{فلما أضاءت} أي النار، وأفراد الضمير باعتبار لفظ «الذي» فقال:
(1/118)
 
 
{ما حوله} وأراد أن ينتفع بها في إبصار ما يريد، وهو كناية عما حصل لهم من الأمنة بما قالوه من كلمة الإسلام من غير اعتقاد {ذهب الله} الذي له كمال العلم والقدرة، وجمع الضمير نظرا إلى المعنى لئلا يتوهم أن بعضهم انتفع دون بعض بعد أن أفراد تقليلا للنور وإن كان قويا في أوله لانطفائه في آخر فقال: {بنورهم} أي الذي نشأ من تلك النار بإطفائه لها ولا نور لهم سواه؛ ولم يقل: بضوئهم، لئلا يتوهم أن المذهوب به الزيادة فقط، لأن الضوء أعظم من مطلق النور {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا} [يونس: 5] فذهب نورهم وبقيت نارهم ليجتمع عليهم حرها مع حر الفقد لما ينفعهم من النور، وعبر بالإضاءة أولا إشارة إلى قوة أولهم وانمحاق آخرهم، لأن محط حالهم الباطل والباطل له صولة ثم تضمحل عند من ثبت لها ليتبين الصادق من الكاذب، وعبر بالذهاب به دون إذهابه ليدل نصا على أنه سبحانه ليس معهم وحقق ذلك بالتعبير عن صير بترك فقال: {وتركهم في ظلمات}
(1/119)
 
 
أي بالضلالة من قلوبهم وأبصارهم وليلهم أي ظلمات لا ينفذ فيها بصر، فلذا كانت نتيجته {لا يبصرون} أي لا إبصار لهم أصلا ببصر ولا بصيرة.
ولما فرغ من المثل كشف المراد بظلماتهم بأنها ما في آذانهم من الثقل المانع من الانتفاع بالسماع، وما في ألسنتهم من الخرس عن كلام الخير الناشىء عن عدم الإدراك الناشىء عن عمى البصائر وفساد الضمائر والسرائر، وما على أبصارهم من الغشاوة المانعة من الاعتبار وعلى بصائرهم من الأغطية المنافية للادكار فقال: {صم} أي عن السماع النافع {بكم} عن النطق المفيد لأن قلوبهم مختوم عليها فلا ينبعث منها
(1/120)
 
 
خير تقذفه إلى الألسنة {عمي} في البصر والبصيرة عن الإبصار المرشد لما تقدم من الختم على مشاعرهم، ولما كان في مقام إجابة الداعي إلى الإيمان قدم السمع لأنه العمدة في ذلك، وثنى بالقول لأنه يمكن الأصم الإفصاح عن المراد، وختم بالبصر لإمكان الاهتداء به بال