فتح القدير للشوكاني 024

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
وَلَا بِالْقُرْآنِ، وَلَا صَلَّى لِرَبِّهِ، وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: فَلَا صَدَّقَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا صَلَّى لِلَّهِ، وَقِيلَ: فَلَا آمَنَ بِقَلْبِهِ وَلَا عَمِلَ بِبَدَنِهِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ لَا بِمَعْنَى لَمْ، وَكَذَا قَالَ الْأَخْفَشُ:
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَا ذَهَبَ، أَيْ: لَمْ يَذْهَبْ، وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا ... وأيّ عبد لك لا أَلَمَّا
وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَيْ: كَذَّبَ بِالرَّسُولِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَتَوَلَّى عَنِ الطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَيْ: يَتَبَخْتَرُ وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ افْتِخَارًا بِذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَطِيِّ وَهُوَ الظَّهْرُ، وَالْمَعْنَى: يَلْوِي مَطَاهُ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ يَتَمَطَّطُ، وَهُوَ التَّمَدُّدُ وَالتَّثَاقُلُ، أَيْ: يَتَثَاقَلُ وَيَتَكَاسَلُ عَنِ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى - ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أَيْ: وَلِيَكَ الْوَيْلَ، وَأَصْلُهُ أَوْلَاكَ اللَّهُ مَا تَكْرَهُهُ، وَاللَّامُ مَزِيدَةٌ كَمَا فِي رَدِفَ لَكُمْ «1» وهذا تهديد شديد، والتكرير للتأكيد، أي: يتكرر عَلَيْكَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ أَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ قَالَ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: بِأَيِّ شَيْءٍ تُهَدِّدُنِي لَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلَا رَبُّكَ أَنْ تَفْعَلَا بِي شَيْئًا، وَإِنِّي لَأَعَزُّ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: الْوَيْلُ لَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
هَمَمْتُ بِنَفْسِي كل الهموم ... فَأَوْلَى لِنَفْسِي أَوْلَى لَهَا
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ الْوَيْلُ، قِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوَيْلٌ لَكَ، ثُمَّ أَخَّرَ الْحَرْفَ الْمُعْتَلَّ. قِيلَ: وَمَعْنَى التَّكْرِيرِ لِهَذَا اللَّفْظِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَالْوَيْلُ لَكَ حَيًّا، وَالْوَيْلُ لَكَ مَيْتًا، وَالْوَيْلُ لَكَ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَالْوَيْلُ لَكَ يَوْمَ تَدْخُلُ النَّارَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ الذَّمَّ لَكَ أَوْلَى لَكَ مِنْ تَرْكِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَنْتَ أَوْلَى وَأَجْدَرُ بِهَذَا الْعَذَابِ قَالَهُ ثَعْلَبٌ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَوْلَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ مُقَارَبَةُ الْهَلَاكِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ وَلِيتُ الْهَلَاكَ وَقَدْ دَانَيْتَهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَكَ الْوَلَاءُ «2»
أَيْ: قَارِبَ أَنْ يَكُونَ لَكَ، وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
أَوْلَى لِمَنْ هَاجَتْ لَهُ أَنْ يُكَمَّدَا
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَيْ: هَمَلًا، لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَلَا يُحَاسَبُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ الْمُهْمَلُ، وَمِنْهُ إِبِلٌ سُدًى، أَيْ: تَرْعَى بِلَا رَاعٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَيَحْسَبُ أَنْ يُتْرَكَ فِي قَبْرِهِ كَذَلِكَ أَبَدًا لَا يُبْعَثُ. وَجُمْلَةُ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى مُسْتَأْنَفَةٌ، أَيْ: أَلَمْ يَكُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَطْرَةً مِنْ مَنِيٍّ يُرَاقُ فِي الرَّحِمِ، وَسْمِي الْمَنِيُّ مَنِيًّا لِإِرَاقَتِهِ، وَالنُّطْفَةُ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ، يُقَالُ: نَطَفَ الماء إذا قطر.
__________
(1) . النمل: 72.
(2) . في القرطبي قاله الأصمعي هكذا: وأولى أن يكون له الولاء.
(5/411)
1
قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلَمْ يَكُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى إِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَى الْإِنْسَانِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ تَوْبِيخًا لَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا: تُمْنَى بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنُّطْفَةِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمَنِيِّ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَاخْتَارَهَا أَبُو حَاتِمٍ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أَيْ: كَانَ بَعْدَ النُّطْفَةِ عَلَقَةً، أَيْ: دَمًا فَخَلَقَ أَيْ: فَقَدَّرَ بِأَنْ جَعَلَهَا مُضْغَةً مُخَلَّقَةً فَسَوَّى أَيْ: فَعَدَّلَهُ وَكَمَّلَ نَشْأَتَهُ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَجَعَلَ مِنْهُ أَيْ: حَصَّلَ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: مِنَ الْمَنِيِّ الزَّوْجَيْنِ أَيِ: الصِّنْفَيْنِ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَيِ: الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ أَلَيْسَ ذلِكَ أي: أليس ذَلِكَ الَّذِي أَنْشَأَ هَذَا الْخَلْقَ الْبَدِيعَ وَقَدَرَ عَلَيْهِ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أَيْ: يُعِيدُ الْأَجْسَامَ بِالْبَعْثِ كَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْإِعَادَةَ أَهْوَنُ مِنَ الِابْتِدَاءِ، وَأَيْسَرُ مُؤْنَةً مِنْهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِقادِرٍ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَقْدِرُ فِعْلًا مُضَارِعًا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُحْيِيَ بِنَصْبِهِ بِأَنْ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَالْفَيَّاضُ بْنُ غَزَوَانَ بِسُكُونِهَا تَخْفِيفًا، أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ كَمَا مَرَّ فِي مَوَاضِعَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ مَنْ راقٍ
قَالَ: تَنْتَزِعُ نَفْسُهُ حَتَّى إِذَا كَانَتْ فِي تَرَاقِيهِ، قِيلَ: مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ أَوْ مَلَائِكَةَ الْعَذَابِ؟
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ قَالَ: التفت عليه الدنيا والآخرة وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ أَيُّهُمْ يَرْقَى بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ ابن حميد عنه وَقِيلَ مَنْ راقٍ
قال: مَنْ رَاقٍ يَرْقِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ يَقُولُ: آخِرُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدنيا وأوّل يوم من أيام الآخرة، فتلتقي الشِّدَّةُ بِالشِّدَّةِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا يَتَمَطَّى قَالَ: يَخْتَالُ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سألت ابن عباس عن قوله: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أَشَيْءٌ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جَهْلٍ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، أَمْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ؟ قَالَ: بَلْ قَالَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، ثُمَّ أَنْزَلَهُ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً قَالَ: هَمَلًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ صَالِحِ أَبِي الْخَلِيلِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبَلَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَكَ رَبِّي وَبَلَى» . وَأَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ: «بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا» : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ «1» فَلْيَقُلْ: بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَمَنْ قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى
__________
(1) . التين: 8.
(5/412)
1
إِلَى قَوْلِهِ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَبَلَغَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ «1» فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ» وَفِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَرَأْتَ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَبَلَغْتَ أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى فقل: بلى» .
__________
(1) . سورة المرسلات بتمامها.
(5/413)
1
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
سورة الإنسان
قَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ، وَقِيلَ: فِيهَا مَكِّيٌّ مِنْ قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا «1» إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَمَا قَبْلَهُ مَدَنِيٌّ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلْ وَاسْتَفْهِمْ» ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلْتُمْ عَلَيْنَا بِالْأَلْوَانِ وَالصُّوَرِ وَالنُّبُوَّةِ، أَفَرَأَيْتَ إِنْ آمَنْتُ بِمَا آمَنْتَ بِهِ وَعَمِلْتُ بِمَا عَمِلْتَ بِهِ أَنِّي كَائِنٌ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لِيُرَى بَيَاضُ الْأَسْوَدِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَسَنَةً» وَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ إلى قوله: مُلْكاً كَبِيراً فَقَالَ الْحَبَشِيُّ: وَإِنَّ عَيْنِي لِتَرَى مَا تَرَى عَيْنَاكَ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، فَاشْتَكَى حَتَّى فَاضَتْ نَفْسُهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْلِيهِ فِي حُفْرَتِهِ بِيَدِهِ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ: أَنَّ رَجُلًا أَسْوَدَ كَانَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَكْثَرْتَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَهْ يَا عُمَرُ. وَأُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى ذِكْرِ الْجَنَّةِ زَفَرَ الْأَسْوَدُ زَفْرَةً خَرَجَتْ نَفْسُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَاتَ شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ» .
وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَه وَابْنُ مُنَيْعٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظْمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالضِّيَاءُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصَّعِدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
 
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)
__________
(1) . الإنسان: 23.
(5/414)
1
حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ الْمَعَانِي أَنَّ هَلْ هُنَا بِمَعْنَى قَدْ، وَلَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «هَلْ» تَكُونُ جَحْدًا، وَتَكُونُ خَبَرًا، فَهَذَا مِنَ الْخَبَرِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: هَلْ أَعْطَيْتُكَ؟ تُقَرِّرُهُ بِأَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ، وَالْجَحْدُ أَنْ تَقُولَ: هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا؟ وَقِيلَ:
هِيَ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى قَدْ فَفِيهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَالْأَصْلُ: أَهَلْ أَتَى، فَالْمَعْنَى: أَقَدْ أَتَى، وَالِاسْتِفْهَامُ للتقرير والتقريب، والمراد بالإنسان هنا آدم، قاله قَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ قِيلَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خُلِقَ مِنْ طِينِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ صَلْصَالٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَمَّ خَلْقُهُ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: الْحِينُ الْمَذْكُورُ هُنَا لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ بَنُو آدَمَ، وَالْحِينُ مُدَّةُ الْحَمْلِ، وَجُمْلَةُ: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْإِنْسَانِ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعِ صِفَةٍ لِحِينٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ وَثَعْلَبٌ: الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ جَسَدًا مُصَوَّرًا تُرَابًا وَطِينًا لَا يُذْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ وَلَا يُدْرَى مَا اسْمُهُ وَلَا مَا يُرَادُ بِهِ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَصَارَ مَذْكُورًا.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ: لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا فِي الْخَلْقِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الْإِخْبَارُ، فَإِنَّ إِخْبَارَ الرَّبِّ عَنِ الْكَائِنَاتِ قَدِيمٌ، بَلْ هُوَ الذِّكْرُ بِمَعْنَى الْخَطَرِ وَالشَّرَفِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَا كَانَ مَذْكُورًا لِلْخَلْقِ وَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
كَانَ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا. فَجُعِلَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقَيْدِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: قَدْ مَضَتْ أَزْمِنَةٌ وَمَا كَانَ آدَمُ شَيْئًا وَلَا مَخْلُوقًا وَلَا مَذْكُورًا لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلِيقَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: هَلْ أَتَى حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، لِأَنَّهُ خَلَقَهُ بَعْدَ خَلْقِ الْحَيَوَانِ كله، ولم يخلق بعده حيوان إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا ابْنُ آدَمَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَالنُّطْفَةُ: الْمَاءُ الَّذِي يُقَطَّرُ، وَهُوَ الْمَنِيُّ، وَكُلُّ مَاءٍ قَلِيلٌ فِي وِعَاءٍ فَهُوَ نُطْفَةٌ، وجمعها نطف، وأَمْشاجٍ صِفَةٌ لِنُطْفَةٍ، وَهِيَ جَمْعُ مُشُجٍ، أَوْ مَشِيجٍ، وَهِيَ الْأَخْلَاطُ، وَالْمُرَادُ نُطْفَةُ الرَّجُلِ وَنُطْفَةُ الْمَرْأَةِ وَاخْتِلَاطُهُمَا. يُقَالُ: مَشَجَ هَذَا بِهَذَا فَهُوَ مَمْشُوجٌ، أَيْ: خَلَطَ هَذَا بِهَذَا فَهُوَ مَخْلُوطٌ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: مَشَجَ يَمْشُجُ إِذَا اخْتَلَطَ، وَهُوَ هُنَا اخْتِلَاطُ النُّطْفَةِ بِالدَّمِ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
يطرحن كلّ معجل نشّاج ... لم يكس جلدا في دم أمشاج
__________
(1) . الزخرف: 44.
(5/415)
1
قَالَ الْفَرَّاءُ: أَمْشَاجٌ: اخْتِلَاطُ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ وَالدَّمِ وَالْعَلَقَةِ، وَيُقَالُ: مَشَجَ هَذَا إِذَا خَلَطَ، وَقِيلَ: الْأَمْشَاجُ: الْحُمْرَةُ فِي الْبَيَاضِ وَالْبَيَاضُ فِي الْحُمْرَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ يَخْتَارُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ.
قَالَ الْهُذَلِيُّ:
كَأَنَّ الرّيش والفوقين منه ... خلاف النّصل سيط بِهِ «1» مَشِيجُ
وَذَلِكَ لِأَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ فَيُخْلَقُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْأَمْشَاجُ:
الْأَخْلَاطُ لِأَنَّهَا ممتزجة من أنواع يخلق الإنسان منها ذا طباع مُخْتَلِفَةٌ. وَقِيلَ: الْأَمْشَاجُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ كَبِرْمَةِ أَعْشَارٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا وُقُوعُهُ نَعْتًا لِنُطْفَةٍ، وَجُمْلَةُ: نَبْتَلِيهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ خَلَقْنَا، أَيْ: مُرِيدِينَ ابْتِلَاءَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْنَى: نَبْتَلِيهِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَبِالتَّكَالِيفِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً لنبتليه وَهِيَ مُقَدِّمَةٌ مَعْنَاهَا التَّأْخِيرُ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْحَالُ مُقَدَّرَةً، وَقِيلَ: مُقَارَنَةً. وَقِيلَ: مَعْنَى الِابْتِلَاءِ: نَقْلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مَا يَصِحُّ مَعَهُ الِابْتِلَاءُ فَقَالَ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً أَيْ: بَيَّنَّا لَهُ، وَعَرَّفْنَاهُ طَرِيقَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «2» قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ بَيَّنَّا السَّبِيلَ إِلَى الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ: السَّبِيلُ هُنَا خُرُوجُهُ مِنَ الرَّحِمِ، وَقِيلَ: مَنَافِعُهُ وَمَضَارُّهُ الَّتِي يَهْتَدِي إِلَيْهَا بِطَبْعِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ، وَانْتِصَابُ شَاكِرًا وَكَفُورًا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ هَدَيْناهُ أَيْ: مَكَّنَّاهُ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ فِي حَالَتَيْهِ جَمِيعًا، وَقِيلَ:
عَلَى الْحَالِ مِنْ سَبِيلٍ عَلَى الْمَجَازِ، أَيْ: عَرَّفْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا سَبِيلًا شَاكِرًا وَإِمَّا سَبِيلًا كَفُورًا. وَحَكَى مَكِّيٌّ عَنِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِمَّا: هِيَ إِنْ شُرْطِيَّةٌ زِيدَتْ بَعْدَهَا مَا، أَيْ: بَيَّنَّا لَهُ الطَّرِيقَ إِنْ شَكَرَ وَإِنْ كَفَرَ. وَاخْتَارَ هَذَا الْفَرَّاءُ، وَلَا يُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ لِأَنَّ إِنِ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ إِلَّا أَنْ يُضْمَرَ بَعْدَهَا فِعْلٌ، وَلَا يَصِحُّ هُنَا إِضْمَارُ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ رَفْعُ شَاكِرًا وَكَفُورًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُضْمَرَ فعل ينصب شاكرا وكفورا، وَتَقْدِيرُهُ:
إِنْ خَلَقْنَاهُ شَاكِرًا فَشَكُورٌ وَإِنْ خَلَقْنَاهُ كَافِرًا فَكَفُورٌ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِمَّا. وَقَرَأَ ابن السّمّال وَأَبُو الْعَجَّاجِ بِفَتْحِهَا، وَهِيَ عَلَى الْفَتْحِ إِمَّا الْعَاطِفَةُ فِي لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ، أَوْ هِيَ التفصيلية وجوابها مقدّر، وقيل: انتصب شاكرا وكفورا بِإِضْمَارِ كَانَ، وَالتَّقْدِيرُ: سَوَاءٌ كَانَ شَاكِرًا أَوْ كَانَ كَفُورًا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ فَقَالَ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عاصم وهشام عن ابن عامر سلاسلا بالتنوين، ووقف قنبل وابن كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ وَقَفُوا بِالْأَلِفِ. وَوَجْهُ مَنْ قَرَأَ بِالتَّنْوِينِ فِي سَلَاسِلَ مَعَ كَوْنِ فِيهِ صِيغَةُ مُنْتَهَى الْجُمُوعِ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ التَّنَاسُبَ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً، وَمَا بَعْدَهُ وَهُوَ أَغْلالًا وَسَعِيراً
__________
(1) . «سيط به» : أي خرج شيء من الريش مختلط من الدم والماء.
(2) . البلد: 10.
(5/416)
1
مُنَوَّنٌ أَوْ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَصْرِفُ جَمِيعَ مَا لَا يَنْصَرِفُ كَمَا حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ.
قَالَ الْأَخْفَشُ: سَمِعْنَا مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَصْرِفُ كُلَّ مَا لَا يَنْصَرِفُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ الصَّرْفُ وَتَرَكَ الصَّرْفَ لِعَارِضٍ فِيهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَجُرُّ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا إِلَّا قَوْلُهُمْ: هُوَ أَظْرَفُ مِنْكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَجُرُّونَهُ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
كَأَنَّ سُيُوفَنَا فِينَا وَفِيهِمْ ... مَخَارِيقٌ بِأَيْدِي لَاعِبِينَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَإِذَا الرِّجَالُ رَأَوْا يَزِيدَ رَأَيْتَهُمْ ... خُضُعَ الرِّقَابِ نَوَاكِسِ الْأَبْصَارِ
بِكَسْرِ السِّينِ مِنْ نَوَاكِسِ، وَقَوْلُ لَبِيَدٍ:
وجزور أستار دعوت لحتفها ... بمغالق مُتَشَابِهٌ أَعْلَاقُهَا
وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
فَضْلًا وَذُو كَرَمٍ يعين على النّدى ... سمح كسوب رَغَائِبٍ غَنَّامُهَا
وَقِيلَ: إِنَّ التَّنْوِينَ لِمُوَافَقَةِ رَسْمِ الْمَصَاحِفِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْكُوفِيَّةِ فَإِنَّهَا فِيهَا بِالْأَلِفِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّنْوِينَ بَدَلٌ مِنْ حَرْفِ الْإِطْلَاقِ، وَيَجْرِي الْوَصْلُ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَالسَّلَاسِلُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَالْخِلَافُ فِيهَا هَلْ هِيَ الْقُيُودُ، أَوْ مَا يُجْعَلُ فِي الْأَعْنَاقِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
... وَلَكِنْ ... أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ وَالْأَغْلَالُ
جَمْعُ غُلٍّ تُغَلُّ بِهِ الْأَيْدِي إِلَى الْأَعْنَاقِ، وَالسَّعِيرُ: الْوَقُودُ الشَّدِيدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ السَّعِيرِ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَعَدَّهُ لِلشَّاكِرِينَ فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ الْأَبْرَارُ: أَهْلُ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقُ، جَمْعُ بَرٍّ أَوْ: بَارٍّ. قَالَ فِي الصَّحَّاحِ: جَمْعُ الْبَرِّ الْأَبْرَارُ، وَجَمْعُ الْبَارِّ الْبَرَرَةُ، وَفُلَانٌ يَبَرُّ خَالِقَهُ وَيَبْرُرُهُ، أَيْ: يُطِيعُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْبَرُّ الَّذِي لَا يُؤْذِي الذَّرَّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَبْرَارُ الَّذِينَ يُؤَدُّونَ حَقَّ اللَّهِ وَيُوفُونَ بِالنَّذْرِ. وَالْكَأْسُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِنَاءُ الَّذِي فِيهِ الشَّرَابُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ الشَّرَابُ لَمْ يُسَمَّ كَأْسًا، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِالزُّجَاجَةِ، بَلْ يَكُونُ مِنَ الزُّجَاجِ وَمِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالصِّينِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَتْ كَاسَاتُ الْعَرَبِ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْكَأْسُ عَلَى نَفْسِ الْخَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَكَأْسٌ شُرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
كانَ مِزاجُها كافُوراً أَيْ: يُخَالِطُهَا وَتُمْزَجُ بِهِ، يُقَالُ مَزَجَهُ يَمْزُجُهُ مَزْجًا، أَيْ: خلطه يخلطه خلطا، ومنه قول الشاعر «1» :
__________
(1) . هو حسان.
(5/417)
1
كأنّ سبيئة مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... كَأَنَّ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
وَقَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
صَدَدْتِ الْكَأْسَ عَنَّا أُمَّ عَمْرٍو ... وَكَانَ الْكَأْسُ مَجْرَاهَا الْيَمِينَا
مُعَتَّقَةً «1» كَأَنَّ الحُصَّ «2» فِيهَا ... إِذَا مَا الْمَاءُ خَالَطَهَا سَخِينَا
وَمِنْهُ مِزَاجُ الْبَدَنِ، وَهُوَ مَا يُمَازِجُهُ من الأخلاط، وكافُوراً قِيلَ: هُوَ اسْمُ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ يُقَالُ لها الكافور تُمْزَجُ خَمْرُ الْجَنَّةِ بِمَاءِ هَذِهِ الْعَيْنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: تُمْزَجُ لَهُمْ بِالْكَافُورِ وَتُخْتَمُ لَهُمْ بِالْمِسْكِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مِزَاجُهَا طَعْمُهَا، وَقِيلَ: إِنَّمَا الْكَافُورُ فِي رِيحِهَا لَا فِي طَعْمِهَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ الْكَافُورَ فِي بَيَاضِهِ وَطِيبِ رَائِحَتِهِ وَبَرْدِهِ، لِأَنَّ الْكَافُورَ لَا يُشْرَبُ كَمَا فِي قوله: حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً «3» أي ك: نار. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ:
طَيَّبَهَا الْمِسْكُ وَالْكَافُورُ وَالزَّنْجَبِيلُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَيْسَ هُوَ كَافُورُ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ مَا عِنْدَهُ بِمَا عِنْدَكُمْ حَتَّى تَهْتَدِيَ لَهُ الْقُلُوبُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ جَرِّ صِفَةٍ لِكَأْسٍ. وَقِيلَ: إِنَّ كَانَ هُنَا زَائِدَةٌ، أي: من كأس مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ انْتِصَابُ عَيْنًا عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ كافُوراً، لِأَنَّ مَاءَهَا فِي بَيَاضِ الْكَافُورِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّهَا بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّ مِنْ كَأْسٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَشْرَبُونَ خَمْرًا خَمْرُ عَيْنٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُنْتَصِبَةٌ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولُ يَشْرَبُونَ، أَيْ: عَيْنًا مِنْ كَأْسٍ، وَقِيلَ: هِيَ مُنْتَصِبَةٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَقِيلَ: مُنْتَصِبَةٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: يَشْرَبُونَ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وتكون وجملة يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ صفة لعينا. وَقِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ فِي يَشْرَبُ بِها زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى مَنْ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَيَعْضُدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ «يَشْرَبُهَا عِبَادُ اللَّهِ» . وَقِيلَ:
إِنَّ يَشْرَبُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى يَلْتَذُّ، وَقِيلَ: هِيَ متعلقة بيشرب، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْكَأْسِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَشْرَبُهَا وَيَشْرَبُ بِهَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى، وَكَأَنَّ يَشْرَبُ بِهَا يُرْوَى بِهَا وَيُنْتَفَعُ بِهَا، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْهُذَلِيِّ:
شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ «4»
قَالَ: وَمِثْلُهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ حَسَنٍ، وَتَكَلَّمَ كَلَامًا حَسَنًا يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أَيْ: يَجُرُّونَهَا إِلَى حَيْثُ يُرِيدُونَ وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا كَمَا يَشَاءُونَ، وَيَتْبَعُهُمْ مَاؤُهَا إِلَى كُلِّ مَكَانٍ يُرِيدُونَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ، فَهُمْ يَشُقُّونَهَا شَقًّا كَمَا يُشَقُّ النَّهْرُ وَيُفَجَّرُ إِلَى هُنَا وهنا. قال مجاهد: يقودونها حيث شاؤوا، وَتَتْبَعُهُمْ حَيْثُ مَالُوا مَالَتْ مَعَهُمْ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ أخرى لعينا، وَجُمْلَةُ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ مُسْتَأْنَفَةٌ مُسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَا لِأَجْلِهِ رُزِقُوا مَا ذَكَرَ. وَكَذَا مَا عُطِفَ عَلَيْهَا، وَمَعْنَى النَّذْرِ فِي اللُّغَةِ الْإِيجَابُ، وَالْمَعْنَى: يُوفُونَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّاعَاتِ. قال قتادة ومجاهد: ويوفون بطاعة الله
__________
(1) . في شرح المعلقات السبع: مشعشعة.
(2) . «الحص» : الورس، وهو نبت له نوار أحمر يشبه الزعفران.
(3) . الكهف: 96.
(4) . وعجز البيت: متى لجج خضر لهنّ نئيج. و «نئيج» : أي: مرّ سريع مع صوت. [.....]
(5/418)
1
مِنَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِمَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يُوفُونَ إِذَا نَذَرُوا فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالنَّذْرُ فِي الشَّرْعِ: مَا أَوْجَبَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَالْمَعْنَى: يُوفُونَ بِمَا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ: كَانُوا يُوفُونَ بالنذر في الدنيا. وقال الكلبي: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أَيْ: يُتَمِّمُونَ الْعَهْدَ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ النَّذْرِ هُنَا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً الْمُرَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَعْنَى اسْتِطَارَةُ شَرِّهِ: فَشُوُّهَ وَانْتِشَارُهُ، يُقَالُ: اسْتَطَارَ يَسْتَطِيرُ اسْتِطَارَةً فَهُوَ مُسْتَطِيرٌ، وَهُوَ اسْتَفْعَلَ مِنَ الطَّيَرَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
فبانت وقد أسأرت فِي الْفُؤَا ... دِ صَدْعًا عَلَى نَأْيِهَا مُسْتَطِيرَا
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: اسْتَطَارَ الصَّدْعُ فِي الْقَارُورَةِ وَالزُّجَاجَةِ إذا امتدّ، ويقال: استطار الحرق إِذَا انْتَشَرَ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُسْتَطِيرُ: الْمُسْتَطِيلُ. قَالَ قَتَادَةُ: اسْتَطَارَ شَرُّ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى مَلَأَ السموات وَالْأَرْضَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ شَرُّهُ فَاشِيًا فِي السموات فَانْشَقَّتْ وَتَنَاثَرَتِ الْكَوَاكِبُ وَفَزِعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَفِي الْأَرْضِ نُسِفَتِ الْجِبَالُ وَغَارَتِ الْمِيَاهُ. وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً أَيْ: يُطْعِمُونَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ الْأَصْنَافِ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ لَدَيْهِمْ وَقِلَّتِهِ عِنْدَهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى قِلَّتِهِ وَحُبِّهِمْ إِيَّاهُ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ فَقَوْلُهُ عَلى حُبِّهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَائِنَيْنِ عَلَى حُبِّهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «1» وَقِيلَ: عَلَى حُبِّ الْإِطْعَامِ لِرَغْبَتِهِمْ فِي الْخَيْرِ. قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: عَلَى حُبِّ إِطْعَامِ الطَّعَامِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي حُبِّهِ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّ اللَّهِ، أَيْ: يُطْعِمُونَ إِطْعَامًا كَائِنًا عَلَى حُبِّ اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ وَالْمِسْكِينُ: ذُو الْمَسْكَنَةِ، وَهُوَ الْفَقِيرُ، أَوْ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ مِنَ الْفَقِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالْيَتِيمِ يَتَامَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَسِيرُ: الَّذِي يُؤْسَرُ فَيُحْبَسُ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: الْأَسِيرُ: الْمَحْبُوسُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْأَسِيرُ: الْعَبْدُ. وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ: الْأَسِيرُ: الْمَرْأَةُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَسَخَ هَذَا الْإِطْعَامَ آيَةُ الصَّدَقَاتِ وَآيَةُ السَّيْفِ فِي حَقِّ الْأَسِيرِ الْكَافِرِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَإِطْعَامُ الْمِسْكِينِ وَالْيَتِيمِ عَلَى التَّطَوُّعِ، وَإِطْعَامُ الْأَسِيرِ لِحِفْظِ نَفْسِهِ إلّا أَنْ يَتَخَيَّرَ فِيهِ الْإِمَامُ، وَجُمْلَةُ إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ بِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ: يَقُولُونَ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ، أَوْ قَائِلِينَ: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّعُونَ الْمُكَافَأَةَ وَلَا يُرِيدُونَ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. قال الواحدي: قال المفسرون: لم يَسْتَكْمِلُوا بِهَذَا، وَلَكِنْ عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَعَلِمَ مِنْ ثَنَائِهِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً أَيْ: لَا نَطْلُبُ مِنْكُمُ الْمُجَازَاةَ عَلَى هَذَا الْإِطْعَامِ وَلَا نُرِيدُ مِنْكُمُ الشُّكْرَ لَنَا، بَلْ هُوَ خَالِصٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَنْ أَطْعَمَ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا يُرِيدُ الْمُكَافَأَةَ وَلَا يَطْلُبُ الشُّكْرَ لَهُ مِمَّنْ أَطْعَمَهُ إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً أَيْ: نَخَافُ عَذَابَ يَوْمٍ مُتَّصِفٍ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ. وَمَعْنَى عَبُوسًا:
أَنَّهُ يَوْمٌ تَعْبِسُ فِيهِ الْوُجُوهُ مِنْ هَوْلِهِ وَشِدَّتِهِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ذُو عَبُوسٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ
__________
(1) . آل عمران: 92.
(5/419)
1
وَقُمَاطِرٌ إِذَا كَانَ صَعْبًا شَدِيدًا، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
بَنِي عَمِّنَا هَلْ تَذْكُرُونَ بَلَاءَنَا ... عَلَيْكُمْ إِذَا مَا كَانَ يَوْمَ قُمَاطِرَ
قَالَ الْأَخْفَشُ: الْقَمْطَرِيرُ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَيَّامِ وَأَطْوَلُهُ فِي الْبَلَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَفِرُّوا إِذَا مَا الْحَرْبُ ثَارَ غُبَارُهَا ... وَلَجَّ بِهَا الْيَوْمُ الْعَبُوسُ الْقُمَاطِرُ
قَالَ الْكِسَائِيُّ: اقْمَطَرَّ الْيَوْمَ وَازْمَهَرَّ إِذَا كَانَ صَعْبًا شَدِيدًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» :
بَنُو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة ... وَمَنْ يَلْقَ مِنَّا ذَلِكَ الْيَوْمَ يَهْرُبِ
وَقَالَ مجاهد: إن العبوس بالشفتين، والقمطرير بِالْجَبْهَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ، فَجَعَلَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْمُتَغَيِّرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِمَا يَرَاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَأَنْشَدَ ابن الأعرابي:
يغدو على الصّيد يعود مُنْكَسِرْ ... وَيُقَمْطِرُ سَاعَةً وَيَكْفَهِرْ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يقال قمطرير، أي: متقبض مَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ اقْمَطَرَّتِ النَّاقَةُ إِذَا رَفَعَتْ ذَنَبَهَا وَجَمَعَتْ قُطْرَيْهَا وزمّت بأنفها، فاشتقّه مِنَ الْقَطْرِ، وَجَعَلَ الْمِيمَ مَزِيدَةً. فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي: دفع عنهم شرّه بسبب خوفهم منه وإطعامهم لوجهه وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً أَيْ:
أَعْطَاهُمْ بَدَلَ الْعُبُوسِ فِي الْكُفَّارِ نَضْرَةً فِي الْوُجُوهِ وَسُرُورًا فِي الْقُلُوبِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَالنَّضْرَةُ: الْبَيَاضُ وَالنَّقَاءُ فِي وُجُوهِهِمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْحُسْنُ وَالْبَهَاءُ، وَقِيلَ: النَّضْرَةُ أَثَرُ النِّعْمَةِ. وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أَيْ: بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى التَّكَالِيفِ، وَقِيلَ: عَلَى الْفَقْرِ، وَقِيلَ: عَلَى الْجُوعِ، وَقِيلَ: عَلَى الصَّوْمِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ الصَّبْرُ عليه طاعة لله سبحانه، و «ما» مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بِصَبْرِهِمْ جَنَّةً وَحَرِيراً أَيْ: أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ وَأَلْبَسَهُمُ الْحَرِيرَ، وَهُوَ لِبَاسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عِوَضًا عَنْ تَرْكِهِ فِي الدُّنْيَا امْتِثَالًا لِمَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِنْ تَحْرِيمِهِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَنْ خَافَ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَطْعَمَ لِوَجْهِ اللَّهِ وَخَافَ مِنْ عَذَابِهِ، وَالسَّبَبُ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا كَمَا سَيَأْتِي فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَيَدْخُلُ سَبَبُ التَّنْزِيلِ تَحْتَ عُمُومِهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ قَالَ: كُلِّ إِنْسَانٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْشاجٍ قَالَ: أمشاجها: عروقها. وأخرج سعيد ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَمْشاجٍ قَالَ: الْعُرُوقُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ قَالَ: مَاءُ الرَّجُلِ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ حِينَ يَخْتَلِطَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ:
أَمْشاجٍ أَلْوَانٍ نُطْفَةُ الرَّجُلِ بَيْضَاءُ وَحَمْرَاءُ، وَنُطْفَةُ الْمَرْأَةِ خَضْرَاءُ وَحَمْرَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عنه
__________
(1) . حذيفة بن أنس الهذلي.
(5/420)
1
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
أَيْضًا قَالَ: الْأَمْشَاجُ: الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى أَثَرِ الْبَوْلِ كَقِطَعِ الْأَوْتَارِ، وَمِنْهُ يَكُونُ الْوَلَدِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً قال: فاشيا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَأَسِيراً قَالَ: هُوَ الْمُشْرِكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِسْكِيناً قَالَ: فَقِيرًا وَيَتِيماً قَالَ:
لَا أَبَ لَهُ وَأَسِيراً قَالَ: الْمَمْلُوكُ وَالْمَسْجُونُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ الْآيَةَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَفَاطِمَةَ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: يَوْماً عَبُوساً قَالَ: ضَيِّقًا قَمْطَرِيراً قَالَ: طَوِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً قَالَ: يَقْبِضُ مَا بَيْنَ الْأَبْصَارِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْقَمْطَرِيرُ الرَّجُلُ الْمُنْقَبِضُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَوَجْهِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً قَالَ: نَضْرَةً في وجوههم وسرورا في صدورهم.
 
[سورة الإنسان (76) : الآيات 13 الى 22]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
قَوْلُهُ: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ جَزَاهُمْ، وَالْعَامِلُ فِيهَا جَزَى، وَلَا يَعْمَلُ فِيهَا صَبَرُوا لِأَنَّ الصَّبْرَ إِنَّمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَجَوَّزَ أَبُو البقاء أن يكون صفة لجنة. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ مُتَّكِئِينَ تَابِعًا، كَأَنَّهُ قَالَ: جَزَاهُمْ جَنَّةً مُتَّكِئِينَ فِيهَا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَالضَّمِيرُ مِنْ فِيها يَعُودُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْأَرَائِكُ: السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ مَفْعُولِ «جَزَاهُمْ» ، فَتَكُونُ مِنَ الْحَالِ الْمُتَرَادِفَةِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُتَّكِئِينَ، فَتَكُونُ مِنَ الْحَالِ الْمُتَدَاخِلَةِ، أَوْ صِفَةً أُخْرَى لِلْجَنَّةِ، وَالزَّمْهَرِيرُ: أَشَدُّ الْبَرْدِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِي الْجَنَّةِ حَرَّ الشَّمْسِ وَلَا بَرْدَ الزَّمْهَرِيرِ، وَمِنْهُ قول الأعشى:
منعّمة طفلة كالمها ... ة لَمْ تَرَ شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرَا
وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الزّمهرير: القمر بلغة طيّئ، وَأَنْشَدَ لِشَاعِرِهِمْ:
وَلَيْلَةً ظَلَامُهَا قَدِ اعْتَكَرْ ... قَطَعْتُهَا والزّمهرير ما زهر
__________
(1) . هذان الأثران لا يستندان إلى دليل شرعي فلا يعتد بهما.
(5/421)
1
وَيُرْوَى: مَا ظَهَرَ، أَيْ: لَمْ يَطْلُعِ الْقَمَرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ. وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها قَرَأَ الْجُمْهُورُ «دَانِيَةً» بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ «لَا يَرَوْنَ» ، أَوْ عَلَى «مُتَّكِئِينَ» ، أَوْ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ، أَيْ:
وَجَنَّةٍ دَانِيَةٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَجَزَاهُمْ جَنَّةً دَانِيَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ صِفَةٌ لِجَنَّةٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ «وَدَانِيَةٌ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَظِلَالُهَا مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ظِلَالَ الْأَشْجَارِ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ، مُظِلَّةٌ عَلَيْهِمْ، زِيَادَةً فِي نَعِيمِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَا شَمْسَ هُنَالِكَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي شَجَرُهَا قَرِيبٌ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «وَدَانِيًا عَلَيْهِمْ» .
وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا مَعْطُوفٌ عَلَى دَانِيَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمُذَلَّلَةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَالْقُطُوفُ: الثِّمَارُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا سُخِّرَتْ ثِمَارُهَا لِمُتَنَاوِلِيهَا تَسْخِيرًا كَثِيرًا، بِحَيْثُ يَتَنَاوَلُهَا الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ وَالْمُضْطَجِعُ، لَا يَرُدُّ أَيْدِيَهُمْ عَنْهَا بُعْدٌ وَلَا شَوْكٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْمُذَلَّلُ: الْقَرِيبُ الْمُتَنَاوَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَائِطٌ ذَلِيلٌ، أَيْ: قَصِيرٌ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ذُلِّلَتْ:
أُدْنِيَتْ، مِنْ قَوْلِهِمْ حَائِطٌ ذَلِيلٌ، أَيْ: كَانَ قَصِيرَ السُّمْكِ. وَقِيلَ: ذُلِّلَتْ أَيْ: جُعِلَتْ مُنْقَادَةً، لَا تَمْتَنِعُ على قطّافها كيف شاؤوا وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ أَيْ: يدور عَلَيْهِمُ الْخَدَمُ إِذَا أَرَادُوا الشَّرَابَ بِآنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَالْأَكْوَابُ: جَمْعُ كُوبٍ، وَهُوَ الْكُوزُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أُذُنَ لَهُ وَلَا عُرْوَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عديّ:
متّكئا تُقْرَعُ أَبْوَابُهُ ... يَسْعَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ بِالْكُوبِ
وَقَدْ مضى تفسيره في سورة الزخرف كانَتْ قَوارِيرَا- قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ أي: في صفاء القوارير وَفِي بَيَاضِ الْفِضَّةِ، فَصَفَاؤُهَا صَفَاءُ الزُّجَاجِ وَلَوْنُهَا لَوْنُ الْفِضَّةِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ قَوارِيرَا- قَوارِيرَا بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا مَعَ الْوَصْلِ، وَبِالْوَقْفِ عَلَيْهِمَا بِالْأَلِفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ في تفسير قوله:
سلاسلا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ وَجْهَ صَرْفِ مَا فِيهِ صِيغَةُ مُنْتَهَى الْجُمُوعِ فَارْجِعْ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِعَدَمِ التَّنْوِينِ فِيهِمَا وَعَدَمِ الْوَقْفِ بِالْأَلِفِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُمَا مُمْتَنِعَانِ لِصِيغَةِ مُنْتَهَى الْجُمُوعِ.
وَقَرَأَ هِشَامٌ بِعَدَمِ التَّنْوِينِ فِيهِمَا مَعَ الْوَقْفِ عَلَيْهِمَا بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَنْوِينِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَالْوَقْفِ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْأَلِفِ دُونِ الثَّانِي. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ بِعَدَمِ التَّنْوِينِ فِيهِمَا، وَالْوَقْفِ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْأَلِفِ دُونِ الثَّانِي، وَالْجُمْلَةُ فِي محل جرّ صفة لأكواب. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَحُسْنُ التَّكْرِيرِ لِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ بَيَانِ أَصْلِهَا.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: جَعَلَ اللَّهُ قَوَارِيرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ فِضَّةٍ، فَاجْتَمَعَ لَهَا بَيَاضُ الْفِضَّةِ وَصَفَاءُ الْقَوَارِيرِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَوَارِيرُ الَّتِي فِي الدُّنْيَا مِنَ الرَّمْلِ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ فَضْلَ تِلْكَ الْقَوَارِيرِ أَنَّ أَصْلَهَا مِنْ فِضَّةٍ يُرَى مِنْ خَارِجِهَا مَا فِي دَاخِلِهَا، وَجُمْلَةُ قَدَّرُوها تَقْدِيراً صِفَةً لِقَوَارِيرَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «قَدَّرُوهَا» بِفَتْحِ الْقَافِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ: قَدَّرَهَا السُّقَاةُ مِنَ الْخَدَمِ الَّذِينَ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الشَّارِبُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ دُونِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: أَتَوْا بِهَا عَلَى قَدْرِ رَيِّهِمْ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَذَلِكَ أَلَذُّ وَأَشْهَى، وَقِيلَ: قَدَّرَهَا الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: قَدَّرَهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ الشَّارِبُونَ عَلَى مقدار شهواتهم
(5/422)
1
وحاجتهم فَجَاءَتْ كَمَا يُرِيدُونَ فِي الشَّكْلِ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ والشّعبي وزيد ابن عليّ وعبيد بن عمير وأبو عمرو، وفي رِوَايَةٍ عَنْهُ «قُدِّرُوهَا» بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: جُعِلَتْ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ إِرَادَتِهِمْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، قَالَ: لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ: قُدِّرَتْ عَلَيْهِمْ لَا قَدَّرُوهَا، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قُدِّرُوا عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: التَّقْدِيرُ: قُدِّرَتِ الْأَوَانِي عَلَى قَدْرِ رَيِّهِمْ، فَمَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مَحْذُوفٌ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَالْأَقْرَبُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَنْ يُقَالَ:
قُدِّرَ رَيُّهُمْ مِنْهَا تَقْدِيرًا، فَحُذِفَ الْمُضَافُ فَصَارَ: قُدِّرُوهَا. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأَخِيرَةَ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَكَأَنَّ الْأَصْلَ قَدَرُوا عَلَيْهَا فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
آلَيْتُ حُبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرُ آكُلُهُ ... وَالْحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ
أَيْ: آلَيْتُ عَلَى حُبِّ الْعِرَاقِ وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَأْسَ هُوَ الْإِنَاءُ فِيهِ الْخَمْرُ، وَإِذَا كَانَ خَالِيًا عَنِ الْخَمْرِ فَلَا يُقَالُ لَهُ كَأْسٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُسْقَوْنَ فِي الْجَنَّةِ كَأْسًا مِنَ الْخَمْرِ، مَمْزُوجَةٌ بِالزَّنْجَبِيلِ. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَلِذُّ مَزْجَ الشَّرَابِ بِالزَّنْجَبِيلِ لِطِيبِ رَائِحَتِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ:
الزَّنْجَبِيلُ: اسْمٌ لِلْعَيْنِ الَّتِي يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ زَنْجَبِيلٌ لَا يُشْبِهُ زَنْجَبِيلَ الدُّنْيَا عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا انْتِصَابُ عَيْنًا عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ كَأْسًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يُسْقَوْنَ عَيْنًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنْ عَيْنٍ، وَالسَّلْسَبِيلُ: الشَّرَابُ اللَّذِيذُ، مَأْخُوذٌ مِنَ السَّلَاسَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا شَرَابٌ سَلِسٌ، وَسَلْسَالٌ، وَسَلْسَبِيلٌ، أَيْ: طَيِّبٌ لَذِيذٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: السَّلْسَبِيلُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَاءٍ فِي غَايَةِ السَّلَاسَةِ حَدِيدُ الْجَرْيَةِ يَسُوغُ فِي حُلُوقِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:
يُسْقَوْنَ مِنْ وَرْدِ الْبَرِيصِ عَلَيْهِمُ ... كَأْسًا «1» يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ «2»
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ وَصْفِ شَرَابِهِمْ، وَوَصْفِ آنِيَتِهِمْ، وَوَصْفِ السُّقَاةِ الَّذِينَ يَسْقُونَهُمْ ذَلِكَ الشَّرَابَ. وَمَعْنَى: مُخَلَّدُونَ بَاقُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّبَابِ وَالطَّرَاوَةِ وَالنَّضَارَةِ، لَا يَهْرَمُونَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ، وَقِيلَ: مَعْنَى مُخَلَّدُونَ لَا يَمُوتُونَ، وَقِيلَ: التَّخْلِيدُ: التَّحْلِيَةُ، أَيْ مُحَلَّوْنَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ ظَنَنْتَهُمْ لِمَزِيدِ حُسْنِهِمْ وَصَفَاءِ أَلْوَانِهِمْ وَنَضَارَةِ وُجُوهِهِمْ لُؤْلُؤًا مُفَرَّقًا. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ فِي بَيَاضِ اللَّوْنِ وَحُسْنِهِ، وَاللُّؤْلُؤُ إِذَا نُثِرَ مِنَ الْخَيْطِ عَلَى الْبِسَاطِ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ مَنْظُومًا. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّمَا شُبِّهُوا بِالْمَنْثُورِ لِانْتِثَارِهِمْ فِي الْخِدْمَةِ، وَلَوْ كَانُوا صَفًّا لَشُبِّهُوا بِالْمَنْظُومِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا شَبَّهَهُمْ بِالْمَنْثُورِ لِأَنَّهُمْ سِرَاعٌ فِي الْخِدْمَةِ بِخِلَافِ الْحُورِ الْعِينِ فَإِنَّهُ شَبَّهَهُنَّ بِاللُّؤْلُؤِ المكنون لأنهنّ لا يمتهنّ بالخدمة.
__________
(1) . في تفسير القرطبي: بردى. وهو نهر بدمشق.
(2) . «البريص» : نهر بدمشق. «يصفق» : يمزج. «الرحيق» : الخمر البيضاء.
(5/423)
1
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً أَيْ: وَإِذَا رَمَيْتَ بِبَصَرِكَ هُنَاكَ، يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ رَأَيْتَ نَعِيمًا لَا يُوصَفُ، وَمُلْكًا كَبِيرًا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَ «ثَمَّ» ظَرْفُ مَكَانٍ، وَالْعَامِلُ فِيهَا «رَأَيْتَ» . قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ «مَا» مُضْمَرَةٌ، أَيْ: وَإِذَا رَأَيْتَ مَا ثَمَّ، كقوله: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «1» أَيْ: مَا بَيْنَكُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ مُعْتَرِضًا عَلَى الْفَرَّاءِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْمَوْصُولِ وَتَرْكُ الصِّلَةِ، وَلَكِنْ «رَأَيْتَ» يَتَعَدَّى فِي الْمَعْنَى إِلَى «ثَمَّ» . وَالْمَعْنَى: إِذَا رَأَيْتَ بِبَصَرِكَ ثَمَّ، وَيَعْنِي بِثَمَّ الْجَنَّةَ، قَالَ السُّدِّيُّ: النَّعِيمُ: مَا يُتَنَعَّمُ بِهِ، وَالْمُلْكُ الْكَبِيرُ: اسْتِئْذَانُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّ «رَأَيْتَ» لَيْسَ لَهُ مَفْعُولٌ مَلْفُوظٌ وَلَا مُقَدَّرٌ وَلَا مَنْوِيٌّ، بَلْ مَعْنَاهُ: أَنَّ بَصَرَكَ أَيْنَمَا وَقَعَ فِي الْجَنَّةِ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «عَالِيهِمْ» بِسُكُونِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَثِيَابٌ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، أَوْ عَلَى أَنَّ عاليهم مبتدأ، وثياب مُرْتَفِعٌ بِالْفَاعِلِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَمِدِ الْوَصْفَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
هُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: ثِيَابُ سُنْدُسٍ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مُرَادٌ بِهِ الْجَمْعُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَثِيَابٌ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَوْقَهُمْ ثِيَابٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
إِنَّ عَالِيَهُمْ بِمَعْنَى فَوْقَهُمْ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: عَالٍ وَعَالِيَةٌ اسْمُ فَاعِلٍ، فَيَحْتَاجُ فِي كَوْنِهِمَا ظَرْفَيْنِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَى هَذَا الزَّجَّاجُ وَقَالَ: هَذَا مِمَّا لَا نَعْرِفُهُ في الظروف، ولو كان ظرفا لَمْ يَجُزْ إِسْكَانُ الْيَاءِ، وَلَكِنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أَيْ: عَلَى الْأَبْرَارِ وِلْدانٌ، عَالِيًا الْأَبْرَارَ ثِيابُ سُندُسٍ، أَيْ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْوِلْدَانِ، أَيْ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا فِي حَالِ عُلُوِّ الثِّيَابِ أَبْدَانِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْعَامِلُ فِي الْحَالِ إِمَّا «لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا» ، وَإِمَّا «جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا» . قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: «عَلَيْهِمْ» ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ وَاضِحَةُ الْمَعْنَى ظَاهِرَةُ الدَّلَالَةِ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى لِقِرَاءَةِ ابْنِ مسعود: «عاليتهم» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ ثِيَابٍ إِلَى سُنْدُسٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِتَنْوِينِ ثِيَابٌ وقطعها عن الإضافة ورفع سندس، وخُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ عَلَى أَنَّ السُّنْدُسَ نَعْتٌ لِلثِّيَابِ لِأَنَّ السُّنْدُسَ نَوْعٌ مِنَ الثِّيَابِ، وَعَلَى أَنَّ خُضْرٍ نَعْتٌ لِسُنْدُسٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَخْضَرُ وَغَيْرُ أَخْضَرٍ، وَعَلَى أَنَّ إِسْتَبْرَقٍ مَعْطُوفٌ عَلَى سُنْدُسٍ، أَيْ: وَثِيَابُ إِسْتَبْرَقٍ، وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْقُرَّاءِ اخْتَلَفُوا فِي خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَرِّ سُنْدُسٍ بِإِضَافَةِ ثِيَابُ إِلَيْهِ فَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِجَرِّ خُضْرٍ نعتا لسندس، وَرَفْعِ إِسْتَبْرَقُ عَطْفًا عَلَى ثِيَابُ، أَيْ: عَلَيْهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ وَعَلَيْهِمْ إِسْتَبْرَقٌ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وابن عامر برفع خضر نعتا لثياب، وَجَرِّ إِسْتَبْرَقٍ نَعْتٌ لِسُنْدُسٍ. وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ لِأَنَّ الْخُضْرَ أَحْسَنُ مَا كَانَتْ نَعْتًا لِلثِّيَابِ فَهِيَ مَرْفُوعَةٌ، وَالْإِسْتَبْرَقُ مِنْ جِنْسِ السُّنْدُسِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ بِرَفْعِ: «خضر وإستبرق» لأن خضر نعت للثياب، وإستبرق عطف على
__________
(1) . الأنعام: 94.
(5/424)
1
الثِّيَابِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِجَرِّ: «خُضْرٍ وإستبرق» على أن خضر نعت للسندس، وإستبرق مَعْطُوفٌ عَلَى سُنْدُسٍ. وَقَرَءُوا كُلُّهُمْ بِصَرْفِ إِسْتَبْرَقٍ إِلَّا ابْنُ مُحَيْصِنٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَصْرِفْهُ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ إِلَّا أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ عَلَمٌ لِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الثِّيَابِ. وَالسُّنْدُسُ: مَا رَقَّ مِنَ الدِّيبَاجِ.
وَالْإِسْتَبْرَقُ: مَا غَلُظَ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ عَطْفٌ عَلَى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ. ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هُنَا أَنَّهُمْ يُحَلَّوْنَ بِأَسَاوِرِ الْفِضَّةِ وَفِي سُورَةِ فَاطِرٍ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ «1» وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً «2» وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ سِوَارَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَلُؤْلُؤٍ، أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَلْبَسُونَ سِوَارَاتِ الذَّهَبِ تَارَةً، وَسِوَارَاتِ الْفِضَّةِ تَارَةً، وَسِوَارَاتِ اللُّؤْلُؤِ تَارَةً، أَوْ أَنَّهُ يَلْبَسُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ عَالِيَهُمْ بِتَقْدِيرِ قَدْ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الشَّرَابِ الَّذِي يَمُنُّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ: هُوَ طَهُورٌ لَيْسَ بِنَجِسٍ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مَوْصُوفًا بِالنَّجَاسَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ طَاهِرٌ لَيْسَ كَخَمْرِ الدُّنْيَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ عَيْنُ مَاءٍ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا نَزَعَ اللَّهُ مَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مَنْ غَشٍّ وَغِلٍّ وَحَسَدٍ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُؤْتُونَ بِالطَّعَامِ، فَإِذَا كَانَ آخِرُهُ أَتَوْا بِالشَّرَابِ الطَّهُورِ، فَيَشْرَبُونَ فَتَضْمُرُ بُطُونُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَيَفِيضُ عَرَقٌ مِنْ أَبْدَانِهِمْ مِثْلَ رِيحِ الْمِسْكِ إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ كَانَ لَكُمْ جَزَاءً بِأَعْمَالِكُمْ، أَيْ: ثَوَابًا لَهَا وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أَيْ: كَانَ عَمَلُكُمْ فِي الدُّنْيَا بِطَاعَةِ اللَّهِ مَرْضِيًّا مَقْبُولًا، وَشُكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعَمَلِ عَبْدِهِ هُوَ قَبُولُهُ لِطَاعَتِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الزَّمْهَرِيرُ هُوَ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَجَعَلَ لَهَا نَفَسَيْنِ: نَفَسًا فِي الصَّيْفِ، وَنَفَسًا فِي الشِّتَاءِ، فَشِدَّةُ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا، وَشِدَّةُ مَا تَجِدُونَ فِي الصَّيْفِ مِنَ الْحَرِّ مِنْ سَمُومِهَا» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وهناد ابن السَّرِيِّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قَوْلِهِ: وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها قَالَ: قَرِيبَةٌ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ قِيَامًا وَقُعُودًا ومضطجعين وعلى أيّ حال شاؤوا. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: ذُلِّلَتْ فَيَتَنَاوَلُونَ مِنْهَا كَيْفَ شاؤوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وُصَفَاؤُهَا كَصَفَاءِ الْقَوَارِيرِ قَدَّرُوها تَقْدِيراً قَالَ: قُدِّرَتْ لِلْكَفِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ: لَوْ أَخَذْتَ فضة من فضة
__________
(1) . فاطر: 33.
(2) . الحج: 23.
(5/425)
1
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)
الدُّنْيَا فَضَرَبْتَهَا حَتَّى جَعَلْتَهَا مِثْلَ جَنَاحِ الذُّبَابِ لَمْ يُرَ الْمَاءُ مِنْ وَرَائِهَا، وَلَكِنْ قَوَارِيرَ الجنة ببياض الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الْقَوَارِيرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ أَعْطَيْتُمْ فِي الدُّنْيَا شِبْهَهُ إِلَّا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: قَدَّرُوها تَقْدِيراً قَالَ: أَتَوْا بِهَا عَلَى قَدْرِ الْفَمِ لَا يُفَضِّلُونَ شَيْئًا وَلَا يَشْتَهُونَ بَعْدَهَا شَيْئًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَيْضًا قَدَّرُوها تَقْدِيراً قَالَ: قَدَّرَتْهَا السُّقَاةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهَنَّادٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا مَنْ يَسْعَى عَلَيْهِ أَلْفُ خَادِمٍ كُلُّ خَادِمٍ عَلَى عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً.
 
[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
قَوْلُهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أَيْ: فَرَّقْنَاهُ فِي الْإِنْزَالِ وَلَمْ نُنْزِلْهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى: نَزَّلْنَاهُ عَلَيْكَ وَلَمْ تَأْتِ بِهِ مِنْ عِنْدِكَ كَمَا يَدَّعِيهِ الْمُشْرِكُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أَيْ: لِقَضَائِهِ، وَمِنْ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ تَأْخِيرُ نَصْرِكَ إِلَى أَجَلٍ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ. قِيلَ: وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أَيْ: لَا تُطِعْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مُرْتَكِبٍ لِإِثْمٍ وَغَالٍ فِي كُفْرٍ، فَنَهَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْأَلِفَ هُنَا آكُدُ مِنَ الْوَاوِ وَحْدَهَا لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا تُطِعْ زَيْدًا وَعَمْرًا، فَأَطَاعَ أَحَدَهُمَا كَانَ غَيْرَ عَاصٍ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ لَا يُطِيعَ الِاثْنَيْنِ، فَإِذَا قَالَ: لَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلٌ أَنْ يُعْصَى، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا تُخَالِفِ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ، فَقَدْ قُلْتَ إِنَّهُمَا أَهْلٌ أَنْ يُتَّبَعَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلٌ أَنْ يُتَّبَعَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: «أَوْ» هُنَا بِمَنْزِلَةِ لَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا كَفُورًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
آثِماً عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَبِقَوْلِهِ: أَوْ كَفُوراً الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِأَنَّهُمَا قَالَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَنَحْنُ نُرْضِيكَ بِالْمَالِ وَالتَّزْوِيجِ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أَيْ: دُمْ عَلَى ذِكْرِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: صَلِّ لِرَبِّكَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، فَأَوَّلُ النَّهَارِ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَآخِرُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أَيْ: صَلِّ الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الصَّلَاةُ فِي بَعْضِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَمِنْ:
لِلتَّبْعِيضِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا أَيْ: نَزِّهْهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ الذِّكْرُ بِالتَّسْبِيحِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ التَّطَوُّعُ فِي اللَّيْلِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقِيلَ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ. وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ
(5/426)
1
يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ وَمَنْ هُوَ مُوَافِقٌ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ الدَّارَ الْعَاجِلَةَ، وَهِيَ دَارُ الدُّنْيَا وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا أَيْ: يَتْرُكُونَ وَيَدَعُونَ وَرَاءَهُمْ، أَيْ: خَلْفَهُمْ أَوْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَمَامَهُمْ يَوْمًا شَدِيدًا عَسِيرًا، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَسُمِّيَ ثَقِيلًا لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ. ومعنى كونه يَذَرُونَهُ وَرَاءَهُمْ: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعِدُّونَ لَهُ وَلَا يَعْبَئُونَ بِهِ، فَهُمْ كَمَنَ يَنْبِذُ الشَّيْءَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ تَهَاوُنًا بِهِ وَاسْتِخْفَافًا بِشَأْنِهِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْحَقِيقَةِ مُسْتَقْبِلِينَ لَهُ وَهُوَ أَمَامَهُمْ نَحْنُ خَلَقْناهُمْ أَيِ: ابْتَدَأْنَا خَلْقَهُمْ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ إِلَى أَنْ كَمُلَ خَلْقَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِنَا فِي ذَلِكَ عَمَلٌ وَلَا سَعْيٌ لَا اشْتِرَاكًا وَلَا اسْتِقْلَالًا وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ الْأَسْرُ: شِدَّةُ الْخَلْقِ، يُقَالُ: شَدَّ اللَّهُ أَسْرَ فُلَانٍ: أَيْ قَوَّى خَلْقَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُمْ: شَدَدْنَا خَلْقَهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: شَدَدْنَا أَوْصَالَهُمْ بَعْضًا إِلَى بَعْضٍ بِالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ فَرَسٌ شَدِيدُ الْأَسْرِ، أَيِ: الْخَلْقِ. قَالَ لَبِيدٌ:
سَاهِمُ الْوَجْهِ شَدِيدٌ أَسْرُهُ ... مُشْرِفُ الْحَارِكِ محبوك الكتد
وَقَالَ الْأَخْطَلُ:
مِنْ كُلِّ مُجْتَنِبٍ شَدِيدٍ أَسْرُهُ ... سَلِسِ الْقِيَادِ تَخَالُهُ مُخْتَالَا
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأُسَرُ الْقُوَّةُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْإِسَارِ، وَهُوَ الْقَدُّ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ الْأَقْتَابُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنُ أحمر يصف فرسا:
يمشي بأوظفة شداد أسرها ... صمّ السّنابك لا تقي بِالْجُدْجُدِ «1»
وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أَيْ: لَوْ شِئْنَا لَأَهْلَكْنَاهُمْ وَجِئْنَا بِأَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
مَسَخْنَاهُمْ إِلَى أَسْمَجِ صُورَةٍ وَأَقْبَحِ خِلْقَةٍ إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ يَعْنِي إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تَذْكِيرٌ وَمَوْعِظَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي: طريقا يتوصّل بِهِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ: إِلَى ثوابه أو إلى جنّته وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي: وما تشاؤون أَنْ تَتَّخِذُوا إِلَى اللَّهِ سَبِيلًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَالْأَمْرُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ إِلَيْهِمْ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ بِيَدِهِ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، فَمَشِيئَةُ الْعَبْدِ مُجَرَّدَةٌ لَا تَأْتِي بِخَيْرٍ وَلَا تَدْفَعُ شَرًّا، وَإِنْ كَانَ يُثَابُ عَلَى الْمَشِيئَةِ الصَّالِحَةِ، وَيُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِ الْخَيْرِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . قَالَ الزجاج: أي لستم تشاؤون إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، أَيْ: بَلِيغُ الْعَلَمِ وَالْحِكْمَةِ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أَيْ: يُدْخِلُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُدْخِلَهُ فِيهَا، أَوْ يُدْخِلُ فِي جَنَّتِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ عَطَاءٌ: مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ أَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً انْتِصَابُ الظَّالِمِينَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ: يُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ، نُصِبَ الظَّالِمِينَ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مَنْصُوبٌ، أَيْ: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ في رحمته ويعذب الظالمين، أي: المشركين،
__________
(1) . «الجدجد» : الأرض الصلبة.
(5/427)
1
وَيَكُونُ «أَعَدَّ لَهُمْ» تَفْسِيرًا لِهَذَا الْمُضْمَرِ، وَالِاخْتِيَارُ النَّصْبُ وَإِنَّ جَازَ الرَّفْعُ، وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ فِعْلٌ يَقَعُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ قَالَ: خَلَقَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ قَالَ: هي المفاصل.
(5/428)
1
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)
سورة المرسلات
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. قَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا آيَةً مِنْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ «1» فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
«بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غار بمنى إذا نَزَلَتْ سُورَةُ: الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، فَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لَأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا، إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْتُلُوهَا، فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إِنَّهَا آخَرُ مَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
 
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 28]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
قَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ الرِّيَاحُ، وَقِيلَ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالْكَلْبِيُّ، وَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِالرِّيَاحِ الْمُرْسَلَةِ لِمَا يَأْمُرُهَا بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ «2» وَقَوْلِهِ: يُرْسِلُ الرِّياحَ «3» وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَعَلَى الثَّانِي أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُرْسَلَةِ بِوَحْيِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَعَلَى الثَّالِثِ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِرُسُلِهِ الْمُرْسَلَةِ إِلَى عِبَادِهِ لِتَبْلِيغِ شَرَائِعِهِ، وَانْتِصَابُ عُرْفاً إِمَّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ: الْمُرْسَلَاتُ لِأَجْلِ الْعُرْفِ وهو ضدّ النكر، ومنه قول الشاعر:
__________
(1) . المرسلات: 48.
(2) . الحجر: 22.
(3) . النمل: 63.
(5/429)
1
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازَيْهِ ... لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ
أَوْ عَلَى أنه حال بمعنى متابعة ويتبع بَعْضُهَا بَعْضًا كَعُرْفِ الْفَرَسِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: سَارَ النَّاسُ إِلَى فُلَانٍ عُرْفًا وَاحِدًا إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ، وَهُمْ عَلَى فُلَانٍ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِذَا تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَأَنَّهُ قَالَ:
وَالْمُرْسَلَاتُ إِرْسَالًا، أَيْ: مُتَتَابِعَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: وَالْمُرْسَلَاتُ بِالْعُرْفِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «عُرْفًا» بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِضَمِّهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُرْسَلَاتِ السَّحَابُ لِمَا فِيهَا مِنْ نِعْمَةٍ وَنِقْمَةٍ فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَهِيَ الرِّيَاحُ الشَّدِيدَةُ الْهُبُوبِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ، يُقَالُ:
عَصَفَ بِالشَّيْءِ إِذَا أَبَادَهُ وَأَهْلَكَهُ، وَنَاقَةٌ عُصُوفٌ، أَيْ: تَعْصِفُ بِرَاكِبِهَا فَتَمْضِي كَأَنَّهَا رِيحٌ فِي السُّرْعَةِ، وَيُقَالُ: عَصَفَتِ الْحَرْبُ بِالْقَوْمِ إِذَا ذَهَبَتْ بِهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالرِّيَاحِ يَعْصِفُونَ بِهَا، وَقِيلَ:
يَعْصِفُونَ بِرُوحِ الْكَافِرِ، وَقِيلَ: هِيَ الْآيَاتُ الْمُهْلِكَةُ كَالزَّلَازِلِ وَنَحْوِهَا وَالنَّاشِراتِ نَشْراً يَعْنِي الرِّيَاحَ تَأْتِي بِالْمَطَرِ وَهِيَ تَنْشُرُ السَّحَابَ نَشْرًا، أَوِ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالسَّحَابِ يَنْشُرُونَهَا، أَوْ يَنْشُرُونَ أَجْنِحَتَهُمْ فِي الْجَوِّ عِنْدَ النُّزُولِ بِالْوَحْيِ، أَوْ هِيَ الْأَمْطَارُ لِأَنَّهَا تَنْشُرُ النَّبَاتَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُرِيدُ مَا يُنْشَرُ مِنَ الْكُتُبِ وَأَعْمَالِ بَنِي آدَمَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: إِنَّهُ الْبَعْثُ لِلْقِيَامَةِ بِنَشْرِ الْأَرْوَاحِ، وَجَاءَ بِالْوَاوِ هُنَا لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافُ قَسَمٍ آخَرَ فَالْفارِقاتِ فَرْقاً يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَأْتِي بِمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الرِّيحُ تُفَرِّقُ بَيْنَ السَّحَابِ فَتُبَدِّدُهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ تَفْرُقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقِيلَ: هِيَ الرُّسُلُ فَرَقُوا مَا بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً هِيَ الْمَلَائِكَةُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِإِجْمَاعٍ، أَيْ:
تُلْقِي الْوَحْيَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ، وَسُمِّيَ بِاسْمِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَقِيلَ: هِيَ الرُّسُلُ يُلْقُونَ إِلَى أُمَمِهِمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قاله قُطْرُبٌ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «فَالْمُلْقِيَاتِ» بِسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ اسْمُ فَاعِلٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مِنَ التَّلْقِيَةِ وَهِيَ إِيصَالُ الْكَلَامِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ لِلرِّيَاحِ، وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا عُذْراً أَوْ نُذْراً انْتِصَابُهُمَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ذِكْرًا، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا الْمَصْدَرُ الْمُنَوَّنُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ- يَتِيماً «1» أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ: أَيْ لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ بِالتَّأْوِيلِ الْمَعْرُوفِ، أَيْ: مُعَذِّرِينَ أَوْ مُنْذِرِينَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِسْكَانِ الذَّالِ فِيهِمَا. وقرأ زيد بن ثابت وابنه خارجة ابن زَيْدٍ وَطَلْحَةُ بِضَمِّهِمَا. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِسُكُونِهَا فِي عُذْراً وَضَمِّهَا فِي نُذْراً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: «عُذْرًا أَوْ نُذْرًا» عَلَى الْعَطْفِ بِأَوْ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَقَتَادَةُ عَلَى الْعَطْفِ بِالْوَاوِ بِدُونِ أَلِفٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تلقي الوحي عذ