فتح القدير للشوكاني 017

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها فَنَزَعَ مِنْهُ فُصُوصَهُ وَمَرَافِقَهُ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَ قِيلَ لَهَا أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وأمر الشياطين فجعلوا لها صرحا ممرّدا من قوارير فيها تماثيل السمك، فيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا فَإِذَا فِيهَا شَعْرٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِصَنْعَةِ النُّورَةِ فَصُنِعَتْ، فَقِيلَ لَهَا:
َّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها قَالَ: إِذَا أَخَذُوهَا عَنْوَةً أَخْرَبُوهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ قال: أرسلت لبنة مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا قَدِمُوا إِذَا حِيطَانُ الْمَدِينَةِ من ذهب فذلك قوله: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ الْآيَةَ. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ أَهَدَتْ لَهُ صَفَائِحَ الذَّهَبِ فِي أَوْعِيَةِ الدِّيبَاجِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَوَارِي لِبَاسُهُنَّ لِبَاسُ الْغِلْمَانِ، وَغِلْمَانٌ لِبَاسُهُمْ لِبَاسُ الْجَوَارِي. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَهْدَتْ مِائَتَيْ فَرَسٍ عَلَى كُلِّ فَرَسٍ غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ، وَعَلَى كُلِّ فَرَسٍ لَوْنٌ لَيْسَ عَلَى الْآخَرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتِ الْهَدِيَّةُ جَوَاهِرَ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ: طَائِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: اسْمُ الْعِفْرِيتِ:
صَخْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قَالَ: مِنْ مَجْلِسِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ قَالَ: هُوَ آصِفُ بْنُ بَرْخِيَا، وَكَانَ صَدِيقًا يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن مُجَاهِدٍ قَالَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا أَنْظُرُ فِي كِتَابِ رَبِّي، ثُمَّ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» قَالَ: فَتَكَلَّمَ ذَلِكَ الْعَالِمُ بِكَلَامٍ دَخَلَ الْعَرْشَ فِي نَفَقٍ تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ قَالَ: قَالَ لِسُلَيْمَانَ انْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَمَا أَطْرَفَ حَتَّى جَاءَهُ بِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَجْرِ عَرْشُ صَاحِبَةِ سَبَأٍ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَلَكِنِ انْشَقَّتْ بِهِ الْأَرْضُ، فَجَرَى تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى ظَهَرَ بَيْنَ يدي سليمان.
 
[سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
قَوْلُهُ: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها التَّنْكِيرُ: التَّغْيِيرُ، يَقُولُ: غَيِّرُوا سَرِيرَهَا إِلَى حَالٍ تُنْكِرُهُ إِذَا رَأَتْهُ. قِيلَ:
جَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ، وَقِيلَ: غُيِّرَ بِزِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا أَمَرَ بِتَنْكِيرِهِ لِأَنَّ
(4/162)
1
الشَّيَاطِينَ قَالُوا لَهُ إِنَّ فِي عَقْلِهَا شَيْئًا، فَأَرَادَ أَنْ يَمْتَحِنَهَا، وَقِيلَ: خَافَتِ الْجِنُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا سُلَيْمَانُ، فَيُولَدُ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ فَيَبْقَوْنَ مُسَخَّرِينَ لِآلِ سُلَيْمَانَ أَبَدًا، فَقَالُوا لِسُلَيْمَانَ إِنَّهَا ضَعِيفَةُ الْعَقْلِ وَرِجْلُهَا كَرِجْلِ الْحِمَارِ، وَقَوْلُهُ: نَنْظُرْ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَبِالْجَزْمِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ أَبُو حَيَّانَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَتَهْتَدِي إِلَى مَعْرِفَتِهِ، أَوْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى ذَلِكَ فَلَمَّا جاءَتْ أَيْ: بِلْقِيسُ إِلَى سُلَيْمَانَ قِيلَ لَهَا، وَالْقَائِلُ هُوَ سُلَيْمَانُ، أَوْ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ أَهكَذا عَرْشُكِ لَمْ يَقُلْ هَذَا عَرْشُكِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ تَلْقِينًا لَهَا فَلَا يَتِمُّ الِاخْتِبَارُ لِعَقْلِهَا قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ قَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلَتْ تَعْرِفُ وَتُنْكِرُ وَتَعْجَبُ مِنْ حُضُورِهِ عِنْدَ سُلَيْمَانَ، فَقَالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَرَفَتْهُ وَلَكِنَّهَا شَبَّهَتْ عَلَيْهِمْ كَمَا شَبَّهُوا عَلَيْهَا، وَلَوْ قِيلَ لَهَا: أَهَذَا عَرْشُكِ؟ لَقَالَتْ: نَعَمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَتْ حَكِيمَةً، قَالَتْ: إِنْ قَلْتُ هُوَ خَشِيتُ أَنْ أَكْذِبَ، وَإِنْ قُلْتُ لَا خَشِيتُ أَنْ أَكْذِبَ، فَقَالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ، وَقِيلَ: أَرَادَ سُلَيْمَانُ أَنْ يُظْهِرَ لَهَا أَنَّ الْجِنَّ مُسَخَّرُونَ لَهُ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ قِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ بِلْقِيسَ، أَيْ: أُوتِينَا الْعِلْمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْعَرْشِ «وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» مُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ، أَيْ: أتينا الْعِلْمَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ بِلْقِيسَ، وَقِيلَ: أُوتِينَا الْعِلْمَ بِإِسْلَامِهَا وَمَجِيئِهَا طَائِعَةً مِنْ قَبْلِهَا، أَيْ: مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهَا، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ قَوْمِ سُلَيْمَانَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَرْجَحُ مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بَيَانٌ لِمَا كَانَ يَمْنَعُهَا مِنْ إِظْهَارِ مَا ادَّعَتْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَفَاعِلُ صَدَّ هُوَ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، أَيْ: مَنَعَهَا مِنْ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ مَا كَانَتْ تَعْبُدُهُ، وَهِيَ الشَّمْسُ. قَالَ النَّحَّاسُ:
أَيْ صَدَّهَا عِبَادَتُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقِيلَ: فَاعِلُ صَدَّ هُوَ اللَّهُ، أَيْ: مَنَعَهَا اللَّهُ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِهِ فَتَكُونُ «مَا» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَقِيلَ: الْفَاعِلُ سُلَيْمَانُ، أَيْ: وَمَنَعَهَا سُلَيْمَانُ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، وَالْأَوَّلُ: أَوْلَى، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْبَيَانِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَجُمْلَةُ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ تَعْلِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَيْ: سَبَبُ تَأَخُّرِهَا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمَنْعِ مَا كَانَتْ تَعْبُدُهُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ مُتَّصِفِينَ بِالْكُفْرِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «إِنَّهَا» بِالْكَسْرِ.
وَقَرَأَ أَبُو حَيَّانَ بِالْفَتْحِ. وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجُمْلَةَ بَدَلٌ مِمَّا كَانَتْ تَعْبُدُ. وَالثَّانِي أَنَّ التَّقْدِيرَ:
لِأَنَّهَا كَانَتْ تعبد، فسقط حرف التعليل يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّرْحُ: القصر.
وقال الزجاج: الصرح الصحن. يُقَالُ هَذِهِ صَرْحَةُ الدَّارِ وَقَاعَتُهَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الصَّرْحُ بَلَاطٌ اتُّخِذَ لَهَا مِنْ قَوَارِيرَ وَجُعِلَ تَحْتَهُ مَاءٌ وَسَمَكٌ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ أَنَّ الصَّرْحَ كُلُّ بِنَاءٍ عَالٍ مرتفع، وأن الممرّد الطويل لَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
أَيْ: فَلَمَّا رَأَتِ الصَّرْحَ بَيْنَ يَدَيْهَا حَسِبَتْ أَنَّهُ لُجَّةٌ، وَاللُّجَّةُ مُعْظَمُ الْمَاءِ، فَلِذَلِكَ كَشَفَتْ عَنْ ساقيها لتخوض الماء، فلما فعلت ذلك الَ
سليمان نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
الْمُمَرَّدُ الْمَحْكُوكُ الْمُمَلَّسُ، ومنه الأمر، وتمرّد الرجل إذا لم تخرج لحيته، قال الْفَرَّاءُ. وَمِنْهُ الشَّجَرَةُ الْمَرْدَاءُ الَّتِي لَا وَرَقَ لَهَا. وَالْمُمَرَّدُ أَيْضًا الْمُطَوَّلُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحِصْنِ: مَارِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
غَدَوْتُ صَبَاحًا بَاكِرًا فَوَجَدْتُهُمْ ... قُبَيْلَ الضُّحَى فِي السَّابِرِيِّ الْمُمَرَّدِ
أَيِ: الدُّرُوعِ الْوَاسِعَةِ الطَّوِيلَةِ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِلْقِيسُ ذَلِكَ أذعنت واستسلمت، والَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
(4/163)
1
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
أَيْ: بِمَا كُنْتُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِكَ، وَقِيلَ: بِالظَّنِّ الَّذِي تَوَهَّمَتْهُ فِي سُلَيْمَانَ، لِأَنَّهَا تَوَهَّمَتْ أَنَّهُ أَرَادَ تَغْرِيقَهَا فِي اللُّجَّةِ، وَالْأَوَّلُ أولى أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
مُتَابِعَةً لَهُ دَاخِلَةً فِي دِينِهِ لَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
الْتَفَتَتْ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، قِيلَ: لِإِظْهَارِ مَعْرِفَتِهَا بِاللَّهِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهَا الْتَفَتَتْ لِمَا فِي هَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَسْمَاءِ، وَلِكَوْنِهِ عَلَمًا لِلذَّاتِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها قَالَ: زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ لِ نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي قَالَ: لِنَنْظُرْ إِلَى عَقْلِهَا فَوُجِدَتْ ثَابِتَةُ الْعَقْلِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها قَالَ: مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: لَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
قَالَ: بَحْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي أَثَرٍ طَوِيلٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو بكر ابن أَبِي شَيْبَةَ: مَا أَحْسَنَهُ مِنْ حَدِيثٍ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ حِكَايَتِهِ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: بَلْ هُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَلَعَلَّهُ مِنْ أَوْهَامِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَقْرَبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ أَنَّهَا مُتَلَقَّاةُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا يُوجَدُ فِي صُحُفِهِمْ، كَرِوَايَاتِ كَعْبٍ وَوَهْبٍ سَامَحَهُمَا اللَّهُ، فِيمَا نَقَلَا إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَوَابِدِ وَالْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ، مِمَّا كَانَ، وَمِمَّا لَمْ يَكُنْ، وَمِمَّا حُرِّفَ وَبُدِّلَ وَنُسِخَ، انْتَهَى، وَكَلَامُهُ هَذَا هُوَ شُعْبَةٌ مِمَّا قَدْ كَرَّرْنَاهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَنَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَى ذَلِكَ غَيْرِي. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِمِثْلِ هَذَا الْحَافِظِ المنصف. وأخرج البخاري في تاريخه والعقيلي عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَنْ صُنِعَتْ لَهُ الْحَمَّامَاتُ سُلَيْمَانُ» وروي عنه مرفوعا من طرق أُخْرَى رَوَاهَا الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عُدَيٍّ فِي الْكَامِلِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِلَفْظِ «أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ سُلَيْمَانُ فَلَمَّا وَجَدَ حَرَّهُ قَالَ أَوَّهُ من عذاب الله» .
 
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)
قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا معطوف على قوله: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَاللَّامُ: هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ جُمْلَةِ بَيَانِ قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ وصالِحاً عطف بيان،
(4/164)
1
وأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ تفسير للرسالة، وأن: هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: بِأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَإِذَا، فِي فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ هي: الفجائية، أي: ففاجؤوا التفرق والاختصام، والمراد بال فَرِيقانِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ وَالْكَافِرُونَ، وَمَعْنَى الِاخْتِصَامِ: أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يُخَاصِمُ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخُصُومَةَ بَيْنَهُمْ في صالح، هل هو مرسل أو لَا؟ وَقِيلَ: أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ: صَالِحٌ، وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ:
جميع قومه، وهو ضعيف قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أَيْ: قَالَ صَالِحٌ لِلْفَرِيقِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ، مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟ قَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْعَذَابِ قَبْلَ الرَّحْمَةِ. وَالْمَعْنَى: لِمَ تُؤَخِّرُونَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجْلِبُ إِلَيْكُمُ الثَّوَابَ، وَتُقَدِّمُونَ الْكُفْرَ الَّذِي يَجْلِبُ إِلَيْكُمُ الْعُقُوبَةَ؟ وَقَدْ كَانُوا لِفَرْطِ كُفْرِهِمْ يَقُولُونَ: ائْتِنَا يَا صَالِحُ بِالْعَذَابِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ هَلَّا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، وَتَتُوبُونَ إِلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ رَجَاءً أَنْ تُرْحَمُوا أَوْ كَيْ تُرْحَمُوا فَلَا تُعَذَّبُوا، فَإِنَّ اسْتِعْجَالَ الْخَيْرِ، أَوْلَى مِنِ اسْتِعْجَالِ الشَّرِّ، وَوَصْفُ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ سَيِّئَةٌ مَجَازًا، إِمَّا لِأَنَّ الْعِقَابَ مِنْ لَوَازِمِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يُشْبِهُهُ فِي كَوْنِهِ مَكْرُوهًا، فَكَانَ جَوَابُهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الْإِرْشَادِ الصَّحِيحِ وَالْكَلَامِ اللَّيِّنِ أَنَّهُمْ قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أَصْلُهُ: تَطَيَّرْنَا، وَقَدْ قُرِئَ بِذَلِكَ، والتطير: التشاؤم، أي: تشاءمنا بك، وَبِمَنْ مَعَكَ مِمَّنْ أَجَابَكَ، وَدَخَلَ فِي دِينِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَصَابَهُمْ قَحْطٌ، فَتَشَاءَمُوا بِصَالِحٍ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ أَكْثَرُ النَّاسِ طِيَرَةً، وَأَشْقَاهُمْ بِهَا، وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا سَفَرًا، أَوْ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ، نَفَرُوا طَائِرًا مِنْ وَكْرِهِ، فَإِنْ طَارَ يَمْنَةً سَارُوا، وَفَعَلُوا مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ طَارَ يَسْرَةً تَرَكُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قالَ لَهُمْ صَالِحٌ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: ليس ذلك بسبب الطير الَّذِي تَتَشَاءَمُونَ بِهِ، بَلْ سَبَبُ ذَلِكَ عِنْدَ الله، وهو مَا يُقَدِّرُهُ عَلَيْكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشُّؤْمَ الَّذِي أَصَابَكُمْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، ثُمَّ أَوْضَحَ لَهُمْ سَبَبَ مَا هُمْ فِيهِ بِأَوْضَحِ بَيَانٍ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أَيْ: تُمْتَحَنُونَ، وَتُخْتَبَرُونَ، وَقِيلَ: تُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِكُمْ، وَقِيلَ: يَفْتِنُكُمْ غَيْرُكُمْ، وَقِيلَ: يَفْتِنُكُمُ الشَّيْطَانُ بِمَا تَقَعُونَ فِيهِ مِنَ الطِّيَرَةِ، أَوْ بِمَا لِأَجْلِهِ تَطَيَّرُونَ، فَأَضْرَبَ عَنْ ذِكْرِ الطَّائِرِ إِلَى مَا هُوَ السَّبَبُ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي فِيهَا صَالِحٌ، وَهُوَ الْحِجْرُ تِسْعَةُ رَهْطٍ أَيْ: تِسْعَةُ رِجَالٍ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَشْرَافِ، وَالرَّهْطُ: اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا رُؤَسَاءَ يَتْبَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَالْجَمْعُ: أَرْهُطٌ وَأَرَاهِطُ، وَهَؤُلَاءِ التِّسْعَةُ هُمْ أَصْحَابُ قُدَارَ عَاقِرِ النَّاقَةِ، ثُمَّ وُصِفَ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أَيْ: شَأْنُهُمْ وَعَمَلُهُمُ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ صَلَاحٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ التِّسْعَةِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: احْلِفُوا بِاللَّهِ، هَذَا عَلَى أَنَّ تَقَاسَمُوا: فِعْلُ أَمْرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا ماضيا مفسرا لقالوا، كَأَنَّهُ قِيلَ مَا قَالُوا، فَقَالَ: تَقَاسَمُوا. أَوْ يَكُونَ حَالًا عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، أَيْ: قَالُوا ذَلِكَ مُتَقَاسِمِينَ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَصْلُحُونَ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ» وَلَيْسَ فِيهَا قَالُوا، وَاللَّامُ فِي لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ جَوَابُ الْقَسَمِ، أَيْ: لَنَأْتِيَنَّهُ بَغْتَةً فِي وَقْتِ الْبَيَاتِ، فَنَقْتُلُهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالنُّونِ لِلْمُتَكَلِّمِ، فِي لَنَبِيتَنَّهُ، وَفِي لَنَقُولَنَّ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ
(4/165)
1
والكسائي بالفوقية على خطاب بعضهم لبعضهم، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وحميد بالتحتية فيهما، والمراد بوليّ صَالِحٍ: رَهْطُهُ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أَيْ: مَا حَضَرْنَا قَتْلَهُمْ وَلَا نَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ، وَقَتَلَ أَهْلَهُ، وَنَفْيُهُمْ لِشُهُودِهِمْ لِمَكَانِ الْهَلَاكِ، يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ شُهُودِهِمْ لِنَفْسِ الْقَتْلِ بِالْأَوْلَى، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَهْلِكَ بِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالسُّلَمِيُّ مَهْلَكَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ والمفضل بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فِيمَا قُلْنَاهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ تَحَالَفُوا أن يبيتوا صالحا وأهله، ثم ينكروا عن أَوْلِيَائِهِ أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَا رَأَوْهُ وَكَانَ هَذَا مَكْرًا مِنْهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: وَمَكَرُوا مَكْراً أَيْ: بِهَذِهِ الْمُحَالَفَةِ وَمَكَرْنا مَكْراً جَازَيْنَاهُمْ بِفِعْلِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِمَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَيِ: انْظُرْ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ أَمْرُهُمُ الَّذِي بَنَوْهُ عَلَى الْمَكْرِ، وَمَا أَصَابَهُمْ بِسَبَبِهِ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِهَا، فَمَنْ كَسَرَ جَعَلَهُ اسْتِئْنَافًا. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: مَنْ كَسَرَ اسْتَأْنَفَ، وَهُوَ يُفَسِّرُ بِهِ مَا كَانَ قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ تَابِعًا لِلْعَاقِبَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: الْعَاقِبَةُ إِنَّا دَمَّرْنَاهُمْ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ، يَكُونُ التَّقْدِيرُ بأنا دمرناهم، أو لأنا دمرناهم، وكان تامة، وعاقبة فَاعِلٌ لَهَا، أَوْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ عَاقِبَةُ، أَوْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَانَ نَاقِصَةً وكيف خَبَرَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهَا أَنَّا دَمَّرَنَا.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ أَنْ دَمَّرْنَاهُمْ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ دَمَّرَ التِّسْعَةَ الرَّهْطَ الْمَذْكُورِينَ، وَدَمَّرَ قَوْمَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِمْ لِذَلِكَ، وَمَعْنَى التَّأْكِيدِ بِأَجْمَعِينَ، أَنَّهُ لَمْ يَشِذَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا سَلِمَ مِنَ الْعُقُوبَةِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِمْ، وَجُمْلَةُ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ خَاوِيَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فَانْظُرْ إِلَى بُيُوتِهِمْ حَالَ كَوْنِهَا خَاوِيَةً، وَكَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَالنَّحَّاسُ، أَيْ: خَالِيَةً عَنْ أَهْلِهَا خَرَابًا، لَيْسَ بِهَا سَاكِنٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: نَصْبُ خَاوِيَةً عَلَى الْقِطَعِ، وَالْأَصْلُ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمُ الْخَاوِيَةُ، فَلَمَّا قُطِعَ مِنْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ نُصِبَتْ، كَقَوْلِهِ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً وَقَرَأَ عاصم بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِرَفْعِ «خَاوِيَةٌ» عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَبُيُوتَهُمْ بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ خَبَرٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَخَاوِيَةٌ خَبَرٌ آخَرَ، وَالْبَاءُ فِي بِما ظَلَمُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بسبب ظلمهم إِنَّ فِي ذلِكَ التدمير والإهلاك لَآيَةً عَظِيمَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ: يَتَّصِفُونَ بِالْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ صَالِحُ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَكانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ طائِرُكُمْ قَالَ: مَصَائِبُكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ، وَقَالُوا حِينَ عَقَرُوهَا: نُبَيِّتُ صَالِحًا وَأَهْلَهُ فَنَقْتُلَهُمْ، ثُمَّ نَقُولُ لِأَوْلِيَاءِ صَالِحٍ: مَا شَهِدْنَا مِنْ هَذَا شَيْئًا، وَمَا لَنَا بِهِ عِلْمٌ، فَدَمَّرَهُمُ اللَّهُ أجمعين.
(4/166)
1
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 66]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)
انْتِصَابُ لُوطًا: بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ معطوف على أرسلنا، أي: وأرسلنا لوطا، وإِذْ قالَ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ اذْكُرْ وَالْمَعْنَى: وَأَرْسَلْنَا لُوطًا وَقْتَ قَوْلِهِ: لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أَيِ: الْفِعْلَةَ الْمُتَنَاهِيَةَ فِي الْقُبْحِ وَالشَّنَاعَةِ، وَهُمْ أَهْلُ سَدُومَ، وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مُتَضَمِّنَةٌ لِتَأْكِيدِ الْإِنْكَارِ، أَيْ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا فَاحِشَةٌ. وَذَلِكَ أَعْظَمُ لِذُنُوبِكُمْ، عَلَى أَنَّ تُبْصِرُونَ مِنْ بَصَرِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْعِلْمُ، أَوْ بِمَعْنَى النَّظَرِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَتِرُونَ حَالَ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ عُتُوًّا وَتَمَرُّدًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الْأَعْرَافِ مُسْتَوْفًى أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً فِيهِ تَكْرِيرٌ لِلتَّوْبِيخِ مَعَ التَّصْرِيحِ، بِأَنَّ تِلْكَ الْفَاحِشَةَ: هِيَ اللُّوَاطَةُ، وَانْتِصَابُ شَهْوَةٍ عَلَى الْعِلَّةِ، أَيْ: لِلشَّهْوَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِتْيَانًا شَهْوَةً، أَوْ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْحَالِ، أَيْ: مُشْتَهِينَ لَهُمْ مِنْ دُونِ النِّساءِ أَيْ: مُتَجَاوِزِينَ النِّسَاءَ اللَّاتِي هُنَّ مَحَلٌّ لِذَلِكَ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ التَّحْرِيمَ، أَوِ الْعُقُوبَةَ عَلَى هذه المعصية، واختار الخليل، وسيبويه تخفيف الهمزة من أإنكم فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ جَوَابَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهَا إِلَّا أَنْ قَالُوا، أَيْ: إِلَّا قَوْلُهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِرَفْعِ جَوَابٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ، وَخَبَرُهَا مَا بَعْدَهُ، ثُمَّ عَلَّلُوا مَا أَمَرُوا بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْإِخْرَاجِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ: أَيْ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ، قَالُوا ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ بِهِمْ فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أَيْ: قَدَّرْنَا أَنَّهَا مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ، وَمَعْنَى قَدَّرْنَا قَضَيْنَا.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ قَدَّرْنَا بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ مَعَ دَلَالَةِ زِيَادَةِ الْبِنَاءِ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى
(4/167)
1
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً هَذَا التَّأْكِيدُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْمَطَرِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: سَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مَطَرَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْمُنْذَرِينَ الَّذِينَ أُنْذِرُوا فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ فِي الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي:
قِيلَ لِلُوطٍ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى هَلَاكِهِمْ، وَخَالَفَهُ جماعة فقالوا: إن هذا خطاب لنبينا صلّى الله عليه وسلم، أي: قل الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى هَلَاكِ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَكُلُّ مَا فِيهِ فَهُوَ مُخَاطِبٌ بِهِ، إِلَّا مَا لَمْ يَصِحَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِغَيْرِهِ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِعِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى: أَمَةُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فِي ذلك الأنبياء وأتباعهم آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: آللَّهُ الَّذِي ذَكَرْتَ أَفْعَالَهُ وَصِفَاتِهُ الدَّالَّةَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ خَيْرٌ، أَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَهَذِهِ الْخَيْرِيَّةُ لَيْسَتْ بِمَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ، بَلْ هِيَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
فَيَكُونُ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، إِذْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ أَصْلًا. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ:
السَّعَادَةُ أَحَبُّ إِلَيْكَ، أَمِ الشَّقَاوَةُ، وَلَا خَيْرَ فِي الشَّقَاوَةِ أَصْلًا. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَثْوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ، أَمْ عُقَابُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ؟ وَقِيلَ: قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ جَرْيًا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ خَيْرًا.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْخَبَرُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُشْرِكُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ «يُشْرِكُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَ «أم» في «يشركون» هي المتصلة، وأما فِي قَوْلِهِ: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ المنقطعة. وقال أبو حاتم: تقديره آلهتكم خير أم من خلق السموات وَالْأَرْضَ وَقَدَرَ عَلَى خَلْقِهِنَّ؟ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَعِبَادَةُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ أَوْثَانِكُمْ خَيْرٌ، أَمْ عِبَادَةُ من خلق السموات وَالْأَرْضَ؟ فَتَكُونُ أَمْ عَلَى هَذَا مُتَّصِلَةً، وَفِيهَا مَعْنَى التَّوْبِيخِ، وَالتَّهَكُّمِ، كَمَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «أَمَنْ» بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً أَيْ: نَوْعًا مِنَ الْمَاءِ، وَهُوَ الْمَطَرُ فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ جَمْعُ حَدِيقَةٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَدِيقَةُ الْبُسْتَانُ الَّذِي عَلَيْهِ حَائِطٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَائِطٌ فَهُوَ الْبُسْتَانُ، وَلَيْسَ بِحَدِيقَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: الْحَدَائِقُ النَّخْلُ ذاتَ بَهْجَةٍ أَيْ ذَاتَ حُسْنٍ وَرَوْنَقٍ.
وَالْبَهْجَةُ: هِيَ الْحُسْنُ الَّذِي يَبْتَهِجُ بِهِ مَنْ رَآهُ وَلَمْ يَقُلْ ذَوَاتَ بَهْجَةٍ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ جَمَاعَةُ حَدَائِقَ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَيْ مَا صَحَّ لَكُمْ أَنْ تفعلوا ذلك، ومعنى هذا النفي الحظر والمنع مَنْ فَعَلَ هَذَا، أَيْ: مَا كَانَ لِلْبَشَرِ وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدِرَتِهِمْ لِعَجْزِهِمْ عَنْ إِخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.
ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ مُوَبِّخًا لَهُمْ وَمُقَرِّعًا أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أَيْ: هَلْ مَعْبُودٌ مع الله الذي تقدّم ذكر بعض أفعاله حتى يقرن به، ويجعل له شَرِيكًا لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَقُرِئَ «أَإِلَهًا مَعَ اللَّهِ» بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: أَتَدْعُونَ إِلَهًا. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ تَقْرِيعِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ، وَانْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ سُوءِ حَالِهِمْ مَعَ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَقَالَ:
بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَيْ: يَعْدِلُونَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، أَوْ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا فَقَالَ: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً الْقَرَارُ: الْمُسْتَقِرُّ، أَيْ: دَحَاهَا وسوّاها بحيث
(4/168)
1
يُمْكِنُ الِاسْتِقْرَارُ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: «أمن خلق السموات وَالْأَرْضَ» وَلَا مُلْجِئَ لِذَلِكَ، بَلْ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا إِضْرَابٌ، وَانْتِقَالٌ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ بِمَا قَبْلَهَا، إِلَى التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ بِشَيْءٍ آخَرَ وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً الْخِلَالُ: الْوَسَطُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ في قوله: وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً «1» وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أَيْ: جِبَالًا ثَوَابِتَ تُمْسِكُهَا، وَتَمْنَعُهَا مِنَ الْحَرَكَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً الْحَاجِزُ: الْمَانِعُ، أَيْ: جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ مِنْ قُدْرَتِهِ حَاجِزًا، وَالْبَحْرَانِ هُمَا: الْعَذْبُ وَالْمَالِحُ، فَلَا يختلط أحدها بِالْآخَرِ، فَلَا هَذَا يُغَيِّرُ ذَاكَ، وَلَا ذَاكَ يَدْخُلُ فِي هَذَا، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أَيْ: إِذَا أثبت أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ فَهَلْ إِلَهٌ فِي الْوُجُودِ يَصْنَعُ صُنْعَهُ وَيَخْلُقُ خَلْقَهُ؟
فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ بِهِ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَوْحِيدُ رَبِّهِمْ، وَسُلْطَانُ قُدْرَتِهِ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ هذا الاستدلال مِنْهُ سُبْحَانَهُ، بِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إِلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ، والمضطر: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الِاضْطِرَارِ: وَهُوَ الْمَكْرُوبُ الْمَجْهُودُ الَّذِي لَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُذْنِبُ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي عَرَاهُ ضُرٌّ مِنْ فَقْرٍ أَوْ مَرَضٍ، فَأَلْجَأَهُ إِلَى التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ. وَاللَّامُ فِي الْمُضْطَرِّ لِلْجِنْسِ لَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَقَدْ لَا يُجَابُ دُعَاءُ بَعْضِ الْمُضْطَرِّينَ، لِمَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، بِسَبَبٍ يُحْدِثُهُ الْعَبْدُ، يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِجَابَةِ دُعَائِهِ، وَإِلَّا فَقَدَ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِجَابَةَ دُعَاءِ الْمُضْطَرِّ إِذَا دَعَاهُ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْوَجْهُ فِي إجابة الْمُضْطَرِّ أَنَّ ذَلِكَ الِاضْطِرَارَ الْحَاصِلَ لَهُ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الْإِخْلَاصُ، وَقَطْعُ النَّظَرِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَ الْمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَإِنْ كَانُوا كَافِرِينَ فَقَالَ: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ «2» وَقَالَ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ «3» فَأَجَابَهُمْ عِنْدَ ضَرُورَتِهِمْ، وَإِخْلَاصِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَيَعُودُونَ إِلَى شِرْكِهِمْ وَيَكْشِفُ السُّوءَ أَيِ: الَّذِي يَسُوءُ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَقِيلَ: هُوَ الضُّرُّ، وَقِيلَ: هُوَ الْجَوْرُ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَيْ: يَخْلُفُ كُلُّ قَرْنٍ مِنْكُمُ الْقَرْنَ الَّذِي قَبْلَهُ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ، وَالْمَعْنَى: يُهْلِكُ قَرْنًا، وَيُنْشِئُ آخَرِينَ، وَقِيلَ: يَجْعَلُ أَوْلَادَكُمْ خَلَفًا مِنْكُمْ، وَقِيلَ: يَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ خَلَفًا مِنَ الْكُفَّارِ، يَنْزِلُونَ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الَّذِي يُوَلِّيكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ الْجِسَامَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَيْ: تَذَكُّرًا قَلِيلًا مَا تَذْكُرُونَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ وَيَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخَبَرِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَيْ: يُرْشِدُكُمْ فِي اللَّيَالِي الْمُظَلَّمَاتِ إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْبَرِّ أَوِ الْبَحْرِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ: مَفَاوِزُ الْبَرِّ الَّتِي لَا أَعْلَامَ لَهَا، وَلُجَجُ الْبِحَارِ، وَشَبَّهَهَا بِالظُّلُمَاتِ لِعَدَمِ مَا يَهْتَدُونَ بِهِ فِيهَا وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا: الْمَطَرُ، أَيْ: يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ، وَقَبْلَ نُزُولِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَيُوجِدُهُ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ وُجُودِ مَا يَجْعَلُونَهُ شريكا له أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ سبحانه هو الخالق فألزمهم
__________
(1) . الكهف: 33.
(2) . يونس: 22.
(3) . العنكبوت: 65. [.....]
(4/169)
1
الْإِعَادَةَ، أَيْ: إِذَا قَدَرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَدَرَ عَلَى الْإِعَادَةِ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ، أَيْ: هُوَ خَيْرٌ أَمْ مَا تَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لَهُ، مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ حَتَّى تجعلوه شريكا له قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ: حجتكم على أن الله سُبْحَانَهُ شَرِيكًا، أَوْ هَاتُوا حُجَّتَكُمْ أَنَّ ثَمَّ صَانِعًا يَصْنَعُ كَصُنْعِهِ، وَفِي هَذَا تَبْكِيتٌ لَهُمْ، وَتَهَكُّمٌ بِهِمْ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ أَيْ: لَا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السموات وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ في قوله: إلا الله منقطع، أي: اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَرَفْعُ مَا بَعْدَ إِلَّا مَعَ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا هُوَ عَلَى اللُّغَةِ التَّمِيمِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ:
إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ «1» وَقِيلَ: إِنَّ فَاعِلَ يَعْلَمُ: هُوَ مَا بعد إلا، ومن في السموات: مفعوله، والغيب بدل من مَنْ: أَيْ لَا يَعْلَمُ غَيْبَ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ مَنْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِلَّا اللَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَنْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا رُفِعَ مَا بَعْدَ إِلَّا لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا خَبَرٌ، كَقَوْلِهِمْ: مَا ذَهَبَ أَحَدٌ إِلَّا أَبُوكَ، وَهُوَ كَقَوْلِ الزجاج. قال الزجاج: ومن نَصَبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أَيْ: لَا يَشْعُرُونَ مَتَى يُنْشَرُونَ مِنَ الْقُبُورِ، وأيان مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَيَّ وَإِنَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَالضَّمِيرُ لِلْكَفَرَةِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: إِيَّانَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وهي لغة بني سليم، وهي منصوبة بيبعثون، ومعلقة بيشعرون، فَتَكُونُ هِيَ، وَمَا بَعْدَهَا، فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: وَمَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ، وَمَعْنَى أَيَّانَ: مَعْنَى مَتَى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «ادَّارَكَ» وَأَصْلُ ادَّارَكَ تَدَارَكَ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ، وَجِيءَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ لِيُمْكِنَ الِابْتِدَاءُ بِالسَّاكِنِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحُمَيْدٌ «بَلْ أَدْرَكَ» من الإدراك. وقرأ عطاء ابن يَسَارٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالْأَعْمَشُ «بَلَ ادَّرَكَ» بِفَتْحِ لَامِ بَلْ، وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ «بَلْ أَدْرَكَ» عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْمَشُ وَالْأَعْرَجُ «بَلَى ادّراك» بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي بَلْ، وَبِهَمْزَةِ قَطْعٍ، وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ «بَلْ تَدَارَكَ» وَمَعْنَى الْآيَةِ: بَلْ تَكَامَلَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا كُلَّ مَا وُعِدُوا بِهِ وَعَايَنُوهُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: تَتَابَعَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ مَعْنَاهَا كمل عِلْمِهِمْ فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْمُعَايَنَةِ، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْعِلْمُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُكَذِّبِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ أَيْ: لَمْ يُدْرِكْ عِلْمُهُمْ عِلْمَ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: بَلْ ضَلَّ وَغَابَ علمهم في الآخرة، فليس لهم فيها عِلْمٌ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ: كَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، فَافْتَعَلَ، وَتَفَاعَلَ، قَدْ يَجِيئَانِ لِمَعْنًى، وَالْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: هِيَ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ كَأَنَّهُ وَجَّهَهُ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ قِرَاءَاتٌ أُخَرُ، لَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِذِكْرِهَا وَتَوْجِيهِهَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أَيْ: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا فِي شَكٍّ مِنَ الْآخِرَةِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ فَقَالَ: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ فَلَا يُدْرِكُونَ شيئا من دلائلها لاختلال بصائرهم
__________
(1) . البيت لعامر بن الحارث وعجزه: وبقر ملمّع كنوس.
(4/170)
1
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
التي يكون بها الإدراك، وعمون جَمْعُ عَمٍ: وَهُوَ مَنْ كَانَ أَعْمَى الْقَلْبِ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ جَهْلِهِمْ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى شَيْءٍ، مِمَّا يُوَصِّلُ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا، فَمَنْ قَالَ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى أَعْنِي بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهُ كَمُلَ عِلْمُهُمْ وَتَمَّ مَعَ الْمُعَايَنَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إِلَخْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى الِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ، وَالتَّبْكِيتُ لَهُمْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْيِيدِ قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إِلَخْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَيَظْهَرُ ظُهُورًا بَيِّنًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى. قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَالْأَوْلَى: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْمِيمِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ والنسائي والطبراني عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَلْجَهْمِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى مَا تَدْعُو؟
قَالَ: «أَدْعُو اللَّهَ وَحْدَهُ الَّذِي إِنْ مَسَّكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشْفَهُ عَنْكَ» هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَبَيَّنَ اسْمَ الصَّحَابِيِّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ الْهُجَيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ الْهُجَيْمِيِّ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «ثلاث مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمْ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفرية» وقالت في آخره: «ومن زعم أنّه يخبر النّاس بما يكون في غد، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ قَالَ: حِينَ لَا يَنْفَعُ الْعِلْمُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ «بَلِ ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» قَالَ: لَمْ يُدْرَكْ عِلْمُهُمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي أَنَّهُ قَرَأَهَا بِالِاسْتِفْهَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا «بَلِ ادَّرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» يَقُولُ: غَابَ عِلْمُهُمْ.
 
[سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 82]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ (82)
(4/171)
1
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي شَكٍّ مِنَ الْبَعْثِ، وَأَنَّهُمْ عَمُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِهِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ غَايَةَ شُبَهِهِمْ، وَهِيَ مُجَرَّدُ اسْتِبْعَادِ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ بَعْدَ صَيْرُورِتِهِمْ تُرَابًا فقال: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ وَالْعَامِلُ فِي إِذَا مَحْذُوفٌ، دَلَّ عَلَيْهِ مُخْرَجُونَ، تَقْدِيرُهُ: أَنُبْعَثُ، أَوْ نُخْرَجُ إِذَا كُنَّا؟ وَإِنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ مُخْرَجُونَ، لِتَوَسُّطِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَإِنَّ وَلَامُ الِابْتِدَاءِ بَيْنَهُمَا. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِاسْتِفْهَامَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ. وَقَرَأَ عاصم وحمزة باستفهامين، إلا أنهما حَقَّقَا الْهَمْزَتَيْنِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ بِهَمْزَةٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عامر وورش ويعقوب «أإذا» بِهَمْزَتَيْنِ «وَإِنَّنَا» بِنُونَيْنِ عَلَى الْخَبَرِ، وَرَجَّحَ أَبُو عبيدة قِرَاءَةَ نَافِعٍ، وَرَدَّ عَلَى مَنْ جَمَعَ بَيْنَ اسْتِفْهَامَيْنِ وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمُ اسْتَنْكَرُوا وَاسْتَبْعَدُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءَ، بَعْدَ أَنْ قَدْ صَارُوا تُرَابًا، ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ الِاسْتِبْعَادَ بِمَا هُوَ تَكْذِيبٌ لِلْبَعْثِ فَقَالُوا: لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا يَعْنُونَ الْبَعْثَ نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ وَعْدِ مُحَمَّدٍ لَنَا، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ الْإِنْكَارِ، مُصَدَّرَةً بِالْقَسَمِ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ إِنْ هَذَا الْوَعْدَ بِالْبَعْثِ إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَحَادِيثُهُمْ وَأَكَاذِيبُهُمُ الْمُلَفَّقَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْأَسَاطِيرِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ، ثُمَّ أَوْعَدَهُمْ سُبْحَانَهُ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْبَعْثِ، فَأَمَرَهُمْ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، الْمُكَذِّبَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَمَا عُوقِبُوا بِهِ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ فَقَالَ:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْبَعْثِ، وَمَعْنَى النَّظَرِ: هُوَ مُشَاهَدَةُ آثَارِهِمْ بِالْبَصَرِ، فَإِنَّ فِي الْمُشَاهَدَةِ زِيَادَةَ اعْتِبَارٍ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَانْظُرُوا بِقُلُوبِكُمْ وَبَصَائِرِكُمْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِمْ «1» ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَمْرِهِمْ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنِ الْإِصْرَارِ على الكفر وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ الضَّيْقُ: الْحَرَجُ، يُقَالُ: ضَاقَ الشَّيْءُ ضَيْقًا بِالْفَتْحِ، وَضِيقًا بِالْكَسْرِ قُرِئَ بِهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ فِي صَدْرِ فُلَانٍ ضَيْقٌ وَضِيقٌ وَهُوَ مَا تَضِيقُ عَنْهُ الصُّدُورُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخرة سُورَةِ النَّحْلِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أَيْ: بِالْعَذَابِ الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي ذَلِكَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ يُقَالُ رَدِفْتُ الرَّجُلَ وَأَرْدَفْتُهُ إِذَا رَكِبْتُ خَلْفَهُ، وَرَدِفَهُ إِذَا اتَّبَعَهُ وَجَاءَ فِي أَثَرِهِ، وَالْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي بِهِ تُوعَدُونَ تَبِعَكُمْ وَلَحِقَكُمْ، فَتَكُونُ اللَّامُ زَائِدَةً لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ بِمَعْنَى: اقْتَرَبَ لَكُمْ، وَدَنَا لَكُمْ، فَتَكُونُ غَيْرَ زَائِدَةٍ. قَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: مَعْنَى رَدِفَ لَكُمْ تَبِعَكُمْ، قَالَ وَمِنْهُ رِدْفُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهَا مِنْ خَلْفِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
عَادَ السَّوَادُ بَيَاضًا فِي مَفَارِقِهِ ... لَا مَرْحَبًا بِبَيَاضِ الشَّيْبِ إِذْ رَدِفَا
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَأَرْدَفَهُ لُغَةٌ فِي رَدِفَهُ، مِثْلُ تَبِعَهُ وَأَتْبَعَهُ بِمَعْنًى. قَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ نَهْدٍ:
إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظَّنُونَا
__________
(1) . هذه العبارة وما قبلها تفسير لقوله تعالى: «المكذبين» التي وردت في الأصل بدلا من قوله تعالى: الْمُجْرِمِينَ وهو خطأ والصحيح ما أثبت.
(4/172)
1
قَالَ الْفَرَّاءُ: رَدِفَ لَكُمْ: دَنَا لَكُمْ وَلِهَذَا قِيلَ لَكُمْ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ «رَدَفَ لَكُمْ» بِفَتْحِ الدَّالِّ وَهِيَ لُغَةٌ، وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَزِفَ لَكُمْ» وَارْتِفَاعُ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أَيْ: عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ رَدِفَ، وَالْمُرَادُ: بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ: عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرُبَ، وَدَنَا، وَأَزِفَ بَعْضُ ذَلِكَ، قِيلَ: هُوَ عَذَابُهُمْ بِالْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فَضْلَهُ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ فَقَالَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فِي تَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ وَيَكُونُ تَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ مِنْ جُمْلَةِ أَفْضَالِهِ سُبْحَانَهُ وَإِنْعَامِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ فَضْلَهُ وَإِنْعَامَهُ وَلَا يَعْرِفُونَ حَقَّ إِحْسَانِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي صُدُورِهِمْ، فَقَالَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أَيْ:
مَا تُخْفِيهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُكِنُّ» بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَكَنَّ. وَقَرَأَ ابن محيصن وابن السميقع وَحُمَيْدٌ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْكَافِ، يُقَالُ كَنَنْتُهُ: بِمَعْنَى سَتَرْتُهُ، وَخَفَيْتُ أَثَرَهُ وَما يُعْلِنُونَ وَمَا يُظْهِرُونَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَا مِنْ شَيْءٍ غَائِبٍ، وَأَمْرٍ يَغِيبُ عَنِ الْخَلْقِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، إِلَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي اللوح المحفوظ، وغائبة: هي من الصفات الغالبة، وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: الْغَائِبَةُ هُنَا: هِيَ الْقِيَامَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عِلْمُ مَا يَسْتَعْجِلُونَ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ مُبَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ غَابَ عَنِ الْخَلْقِ. وَقَالَ ابْنُ شَجَرَةَ: الْغَائِبَةُ هُنَا جَمِيعُ مَا أَخْفَى اللَّهُ عَنْ خَلْقِهِ، وَغَيْبُهُ عَنْهُمْ مُبَيَّنٌ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ ما يستعجلونه من العذاب، فإنه موقت بِوَقْتٍ، وَمُؤَجَّلٌ بِأَجَلٍ عِلْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُونَهُ قَبْلَ أَجْلِهِ الْمَضْرُوبِ لَهُ؟ إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ تَفَرَّقُوا فِرَقًا، وَتَحَزَّبُوا أَحْزَابًا، يَطْعَنُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَلَوْ أُخِذُوا بِهِ لَوَجَدُوا فِيهِ مَا يَرْفَعُ اخْتِلَافَهُمْ، وَيَدْفَعُ تَفَرُّقَهُمْ وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَتَابَعَ رَسُولَهُ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ، وَمِنْ جَمْلَتِهِمْ مَنْ آمَنَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ أَيْ: يَقْضِي بين المختلفين من بين إِسْرَائِيلَ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَيُجَازِي الْمُحِقَّ، وَيُعَاقِبُ الْمُبْطِلَ، وَقِيلَ: يَقْضِي بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيُظْهِرُ مَا حَرَّفُوهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِحُكْمِهِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ. وَقَرَأَ جَنَاحٌ بِكَسْرِهَا وَفَتَحِ الْكَافِ، جَمْعُ حِكْمَةٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، وَالْعَلِيمُ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ، أَوِ الْكَثِيرُ الْعِلْمِ، ثُمَّ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالتَّوَكُّلِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ، فَقَالَ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالْمَعْنَى: فَوِّضْ إِلَيْهِ أَمْرَكَ، وَاعْتَمَدْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَاصِرُكَ. ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِعِلَّتَيْنِ: الْأُولَى قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أَيِ: الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: الْمَظْهِرُ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ الْمَوْتَى فِي انْتِفَاءِ الْجَدْوَى بِالسَّمَاعِ، أَوْ كَحَالِ الصُّمِّ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَلَا يَفْهَمُونَ، وَلَا يَهْتَدُونَ صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا قَوِيًّا فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِمْ، شَبَّهَ الْكُفَّارَ بِالْمَوْتَى الَّذِينَ لَا حِسَّ لَهُمْ وَلَا عَقْلَ، وَبِالصُّمِّ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ الْمَوَاعِظَ، وَلَا يُجِيبُونَ الدُّعَاءَ إِلَى اللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ جُمْلَةً لِتَكْمِيلِ التَّشْبِيهِ، وَتَأْكِيدِهِ فَقَالَ: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ أَيْ: إِذَا أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ إِعْرَاضًا تَامًّا، فَإِنَّ الْأَصَمَّ لَا
(4/173)
1
يَسْمَعُ الدُّعَاءَ إِذَا كَانَ مُقْبِلًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مُعْرِضًا عَنْهُ مُوَلِّيًا مُدْبِرًا. وَظَاهِرُ نَفْيِ إِسْمَاعِ الْمَوْتَى الْعُمُومُ، فَلَا يُخَصُّ مِنْهُ إِلَّا مَا وَرَدَ بِدَلِيلٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أنه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ خَاطَبَ الْقَتْلَى فِي قُلَيْبِ بَدْرٍ، فَقِيلَ له: يا رسول الله! إنما تكلم أجساد لَا أَرْوَاحَ لَهَا، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ الْمُشَيِّعِينَ لَهُ إِذَا انْصَرَفُوا.
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ «لَا يَسْمَعُ» بِالتَّحْتِيَّةِ مَفْتُوحَةٌ وَفَتْحُ الْمِيمِ، وَفَاعِلُهُ الصُّمُّ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «تُسْمِعُ» بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ أَسْمَعَ. قَالَ قَتَادَةُ الْأَصَمُّ إِذَا وَلَّى مُدْبِرًا ثُمَّ نَادَيْتَهُ لَمْ يَسْمَعْ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يَسْمَعُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ. ثُمَّ ضَرَبَ الْعَمَى مَثَلًا لَهُمْ فَقَالَ: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أَيْ: مَا أَنْتَ بِمُرْشِدِ مَنْ أَعْمَاهُ اللَّهُ عَنِ الْحَقِّ إِرْشَادًا يُوصِّلُهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «1» قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ هَادِي إِلَى الْعُمْيِ.
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ وَأَبُو حَيَّانَ «بِهَادٍ الْعُمْيَ» بِتَنْوِينِ هَادٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ «تَهْدِي» فِعْلًا مُضَارِعًا، وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ «وَمَا أَنْ تَهْدِيَ الْعُمْيَ» إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أَيْ: مَا تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ لَا مَنْ يَكْفُرُ، وَالْمُرَادُ بِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْآيَاتِ مَنْ يُصَدِّقُ الْقُرْآنَ، وَجُمْلَةُ فَهُمْ مُسْلِمُونَ تَعْلِيلٌ لِلْإِيمَانِ، أَيْ: فَهُمْ مُنْقَادُونَ مُخْلِصُونَ. ثُمَّ هَدَّدَ الْعِبَادَ بِذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَهْوَالِهَا: فَقَالَ: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى وُقُوعِ الْقَوْلِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ قَتَادَةُ: وَجَبَ الْغَضَبُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَقَّ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: حَقَّ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: وَجَبَ السُّخْطُ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ مَجِيءِ السَّاعَةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ فُنُونِ الْأَهْوَالِ الَّتِي كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَهَا، وَقِيلَ: وَقَعَ الْقَوْلُ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ وَذَهَابِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: إِذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ. والحاصل أن المراد بوقع:
وَجَبَ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ: مَضْمُونُهُ، أَوْ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ على المفعول، أي: القول، وَجَوَابُ الشَّرْطِ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الدَّابَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: إِنَّهَا فَصِيلُ نَاقَةِ صَالِحٍ يَخْرُجُ عِنْدَ اقْتِرَابِ الْقِيَامَةِ وَيَكُونُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: هِيَ دَابَّةٌ ذَاتُ شَعْرٍ، وَقَوَائِمَ طِوَالٍ، يُقَالُ لَهَا الْجَسَّاسَةُ. وَقِيلَ: هِيَ دَابَّةٌ عَلَى خِلْقَةِ بَنِي آدَمَ، وَهِيَ فِي السَّحَابِ وَقَوَائِمُهَا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: رَأَسُهَا رَأْسُ ثَوْرٍ، وَعَيْنُهَا عَيْنُ خِنْزِيرٍ، وَأُذُنُهَا أُذُنُ فِيلٍ، وَقَرْنُهَا قَرْنُ إِيَّلٍ، وَعُنُقُهَا عُنُقُ نَعَامَةٍ، وَصَدْرُهَا صَدْرُ أَسَدٍ، وَلَوْنُهَا لَوْنُ نَمِرٍ وَخَاصِرَتُهَا خَاصِرَةُ هِرٍّ، وَذَنَبُهَا ذَنَبُ كَبْشٍ، وَقَوَائِمُهَا قَوَائِمُ بَعِيرٍ، بَيْنَ كُلِّ مِفْصَلٍ وَمِفْصَلٍ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا. وَقِيلَ: هِيَ الثُّعْبَانُ الْمُشْرِفُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ الَّتِي اقْتَلَعَهَا الْعُقَابُ، حِينَ أَرَادَتْ قُرَيْشٌ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَقِيلَ: هِيَ دَابَّةٌ مَا لَهَا ذَنَبٌ وَلَهَا لِحْيَةٌ، وَقِيلَ: هِيَ إِنْسَانٌ نَاطِقٌ مُتَكَلِّمٌ يُنَاظِرُ أَهْلَ البدع ويراجع الكفار، وقيل: غير ذلك ممالا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ، وَقَدْ رَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَاخْتُلِفَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ تَخْرُجُ؟ فَقِيلَ: مِنْ جَبَلِ الصَّفَا بِمَكَّةَ، وَقِيلَ: تَخْرُجُ مِنْ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ. وَقِيلَ:
__________
(1) . القصص: 56.
(4/174)
1
لَهَا ثَلَاثُ خَرْجَاتٍ: خَرْجَةٌ فِي بَعْضِ الْبَوَادِي حَتَّى يَتَقَاتَلَ عَلَيْهَا النَّاسُ، وَتُكْثُرَ الدِّمَاءُ ثُمَّ تَكْمُنُ، وَتَخْرُجُ فِي الْقُرَى، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ، وَأَكْرَمِهَا وَأَشْرَفِهَا، وَقِيلَ: تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَقِيلَ: تَخْرُجُ فِي تِهَامَةَ، وَقِيلَ: مِنْ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ مِنْ حَيْثُ فَارَ التَّنُّورُ، وَقِيلَ: مِنْ أَرْضِ الطَّائِفِ، وَقِيلَ: مِنْ صَخْرَةٍ مِنْ شِعْبِ أَجْيَادَ، وَقِيلَ مِنْ صَدْعٍ فِي الْكَعْبَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: «تُكَلِّمُهُمْ» فَقِيلَ: تُكَلِّمُهُمْ بِبُطْلَانِ الْأَدْيَانِ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ:
تُكَلِّمُهُمْ بِمَا يَسُوءُهُمْ، وَقِيلَ: تُكَلِّمُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ أَيْ: بِخُرُوجِهَا لِأَنَّ خُرُوجَهَا مِنَ الْآيَاتِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُكَلِّمُهُمْ» مِنَ التَّكْلِيمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ «تَنَبِّئُهُمْ» وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ: تَكْلَمُهُمْ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْكَافِ مِنَ الْكَلْمِ، وَهُوَ الْجَرْحُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: أَيْ تَسِمُهُمْ وَسْمًا، وَقِيلَ: تَجْرَحُهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْكَلْمِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ الْجَرْحُ، وَالتَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِفَتْحِ «أَنَّ» قَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ «بِأَنَّ النَّاسَ» وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «بِأَنَّ النَّاسَ» بِالْبَاءِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَوْضِعُهَا نَصْبٌ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهَا، أَيْ: تُخْبِرُهُمْ أَنَّ النَّاسَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالَّذِي تَكَلَّمَ النَّاسُ بِهِ هُوَ قَوْلُهُ: أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ كَمَا قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا تَكُونُ مِنْ كَلَامِ الدَّابَّةِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَجَزَمَ بِهِ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ كَسْرَ «إِنَّ» هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ أَيْ تَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّ النَّاسَ» إِلَخْ، فَيَرْجِعُ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى عَلَى هَذَا إِلَى مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ فِي الْآيَةِ: هُمُ النَّاسُ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مُكَلَّفٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْكُفَّارُ خَاصَّةً، وَقِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ قَالَ: اقْتَرَبَ لَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ قَالَ: يَعْلَمُ مَا عَمِلُوا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا وَما مِنْ غائِبَةٍ الْآيَةَ. يَقُولُ: مَا مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً إِلَّا يَعْلَمُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ قَالَ: إِذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ يَنْهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ فَسَّرَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا أُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ قَالَ: تُحَدِّثُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ كَلَامُهَا تُنْبِئُهُمُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن أَبِي دَاوُدَ نُفَيْعٍ الْأَعْمَى قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: تُكَلِّمُهُمْ يَعْنِي هَلْ هُوَ مِنَ التَّكْلِيمِ بِاللِّسَانِ أَوْ مِنَ الْكَلْمِ وَهُوَ الْجُرْحُ، فَقَالَ: كُلُّ
(4/175)
1
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
ذَلِكَ وَاللَّهِ تَفْعَلُ تُكَلِّمُ الْمُؤْمِنَ وَتَكْلِمُ الْكَافِرَ، أَيْ: تَجْرَحُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْآيَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ليس ذلك حديث ولا كلام وَلَكِنَّهَا سِمَةٌ تَسِمُ مَنْ أَمَرَهَا اللَّهُ بِهِ، فَيَكُونُ خُرُوجُهَا مِنَ الصَّفَا لَيْلَةَ مِنًى، فَيُصْبِحُونَ بَيْنَ رَأْسِهَا وَذَنَبِهَا لَا يُدْحَضُ دَاحِضٌ وَلَا يُجْرَحُ جَارِحٌ، حَتَّى إِذَا فَرَغَتْ مِمَّا أَمَرَهَا اللَّهُ بِهِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ وَنَجَا مَنْ نَجَا، كَانَ أَوَّلُ خُطْوَةٍ تَضَعُهَا بِأَنْطَاكِيَةَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الدَّابَّةُ ذَاتُ وَبَرٍ وَرِيشٍ مُؤَلِّفَةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ تَخْرُجُ بِعَقِبٍ مِنَ الْحَاجِّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ فَتَسِمُ عَلَى خَرَاطِيمِهِمْ، ثُمَّ يَعْمُرُونَ فِيكُمْ حَتَّى يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ مِمَّنِ اشْتَرَيْتَهَا؟ فَيَقُولُ: مِنَ الرَّجُلِ الْمُخَطَّمِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ للدّابّة ثلاث خَرَجَاتٍ» ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَدَّمْنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ رَفَعَهُ قَالَ: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةً» . وَأَخْرَجَ سعيد بن منصور ونعيم ابن حَمَّادٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَخْرُجُ مِنْ بَعْضِ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخْرُجُ دَابَّةُ الْأَرْضِ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ، فَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْخَاتَمِ، وَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْعَصَا، حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى الْخِوَانِ، يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ» . وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّابَّةَ فَقَالَ: لَهَا ثَلَاثُ خَرَجَاتٍ مِنَ الدَّهْرِ» وَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَفِي صِفَتِهَا، وَمَكَانِ خُرُوجِهَا، وَمَا تَصْنَعُهُ، وَمَتَى تَخْرُجُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا صَحِيحٌ، وَبَعْضُهَا حَسَنٌ، وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ. وَأَمَّا كَوْنُهَا تَخْرُجُ. وَكَوْنُهَا مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، فَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ صَحِيحَةٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ كَحَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ» وَذَكَرَ مِنْهَا الدَّابَّةَ فَإِنَّهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَكَحَدِيثِ «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالِ، وَالدَّابَّةِ» فَإِنَّهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَكَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضحى» فإنه في صحيح مسلم أيضا.
 
[سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 93]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87)
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
(4/176)
1
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ طَرَفًا مُجْمَلًا مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ، فِعْلٌ مَحْذُوفٌ خوطب به النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَشْرِ هُوَ حَشْرُ الْعَذَابِ بَعْدَ الْحَشْرِ الْكُلِّيِّ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، وَمِنْ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ كَالزُّمْرَةِ، وَمِنْ فِي مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا بَيَانِيَّةٌ فَهُمْ يُوزَعُونَ أَيْ: يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُسْتَوْفًى، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَدْفَعُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ:
وَكَمْ وَزَعْنَا مِنْ خَمِيسٍ جَحْفَلِ «1»
وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَاذْكُرْ يا محمد، يوم نَجْمَعُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ جَمَاعَةً مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِنَا، فَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَشْرِ، يَرُدُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، أَوْ يَدْفَعُونَ، أَيِ: اذْكُرْ لَهُمْ هَذَا أَوْ بَيِّنْهُ تَحْذِيرًا لَهُمْ وَتَرْهِيبًا حَتَّى إِذا جاؤُ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي الَّتِي أَنْزَلْتُهَا عَلَى رُسُلِي، وأمرتهم بإبلاغها إليكم «و» الحال أنكم لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً بَلْ كَذَّبْتُمْ بِهَا بَادِئَ بَدْءٍ، جَاهِلِينَ لَهَا غَيْرَ نَاظِرِينَ فِيهَا، وَلَا مُسْتَدِلِّينَ عَلَى صِحَّتِهَا، أَوْ بُطْلَانِهَا تَمَرُّدًا، وَعِنَادًا وَجُرْأَةً عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رُسُلِهِ، وَفِي هَذَا مَزِيدُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمًا فَقَدْ كَذَّبَ فِي تَكْذِيبِهِ، وَنَادَى عَلَى نَفْسِهِ بِالْجَهْلِ، وَعَدَمِ الْإِنْصَافِ، وَسُوءِ الْفَهْمِ، وَقُصُورِ الْإِدْرَاكِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَنْ تَصَدَّى لِذَمِّ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ لِذَمِّ عِلْمٍ هُوَ مُقَدَّمَةٌ مِنْ مُقَدَّمَاتِهَا، وَوَسِيلَةٌ يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَيْهَا، وَيُفِيدُ زِيَادَةَ بَصِيرَةٍ فِي مَعْرِفَتِهَا، وَتَعَقُّلِ مَعَانِيهَا كَعُلُومِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِأَسْرِهَا، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ عِلْمًا، وَعِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى بَيَانِ قَوَاعِدِ اللُّغَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَهَكَذَا كُلُّ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي لَهَا مَزِيدُ نَفْعٍ فِي فَهْمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ نَادَى عَلَى نَفْسِهِ، بِأَرْفَعِ صَوْتٍ، بِأَنَّهُ جَاهِلٌ مُجَادِلٌ بِالْبَاطِلِ، طَاعِنٌ عَلَى الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، مُسْتَحِقٌّ لِأَنْ تَنْزِلَ بِهِ قَارِعَةٌ مِنْ قَوَارِعِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي تَزْجُرُهُ عَنْ جَهْلِهِ، وَضَلَالِهِ، وَطَعْنِهِ عَلَى مَا لَا يَعْرِفُهُ، وَلَا يَعْلَمُ بِهِ، وَلَا يُحِيطُ بِكُنْهِهِ حَتَّى يَصِيرَ عِبْرَةً لِغَيْرِهِ، وَمَوْعِظَةً يَتَّعِظُ بِهَا أَمْثَالُهُ مِنْ ضِعَافِ الْعُقُولِ وَرِكَاكِ الأديان، ورعاع المتلبسين بالعلم زورا وكذبا، وأما في قوله: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَالْمَعْنَى: أَمْ أَيُّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حَتَّى شَغَلَكُمْ ذَلِكَ عَنِ النَّظَرِ فِيهَا، وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهَا، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى طَرِيقِ التَّبْكِيتِ لَهُمْ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ قَرِيبًا، وَالْبَاءُ فِي بِما ظَلَمُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: وَجَبَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ الظُّلْمِ، الَّذِي أَعْظَمُ أَنْوَاعِهِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ عِنْدَ وُقُوعِ الْقَوْلِ عَلَيْهِمِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ يَنْطِقُونَ بِهِ، أَوْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْقَوْلِ لِمَا يَرَوْنَهُ مِنَ الْهَوْلِ العظيم.
__________
(1) .