غرائب القرآن ورغائب الفرقان6

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
  
 
الكتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف: نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1416 هـ - 1996 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 6
تحقيق : الشيخ زكريا عميران
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
 
" صفحة رقم 3 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الرابع والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
( الزمر : ( 32 - 75 ) فمن أظلم ممن . . . .
" فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها
 
 
" صفحة رقم 4 "
الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد
 
 
" صفحة رقم 5 "
ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين "
( القراآت )
عباده ( على الجمع : يزيد وحمزة وعلي وخلف. ) أرادني الله ( بسكون الياء : حمزة. ) كاشفات ( بالتنوين ) ضره ( بالنصب وهكذا ) ممسكات رحمته ( أبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون : بالإضافة فيهما ) قضى عليها ( مجهولاً ) الموت ( بالرفع : حمزة وعلي وسهل ويعقوب ، والوقف للجميع بالياء لا غير. ) يا حسرتاي ( بياء بعد الف : يزيد. الآخرون : بالألف وحدها ) وينجي الله ( بالتخفيف : روح ) بمفازاتهم ( على الجمع : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل ) تأمرني ( بتشديد النون وفتح الياء : ابن كثير ) تأمرونني ( بنونين وسكون الياء : ابن عامر ) تأمروني ( بنون واحدة وفتح الياء : أبو جعفر ونافع. الباقون : بتشديد النون وسكون الياء. ) لنحبطن ( بالنون من الإحباط ) عملك ( بالنصب : يزيد. الآخرون : على الغيبة وفتح العين ) عملك ( بالرفع ) وسيق ( بضم السين وكسر الياء : ابن عامر وعلي ورويس ) فتحت ( بالتخفيف : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل في الحرفين. الوقوف : ( إذ جاءه ( ط ) للكافرين ( 5 ) المتقون ( 5 ) عند ربهم ( ط ) المحسنين ( 5 ج لاحتمال تعلق اللام بمحذوف كما يجيء. ) يعملون ( 5 ) عبده ( ط ) من دونه ( ط ) من هاد ( 5 ج ) مضل ( ط ) انتقام ( 5 ) لقولن الله ( ط ) رحمته ( ط ) حسبي الله ( ط ) المتوكلون ( 5 ) عامل ( ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب ) تعلمون ( 5 لا ) مقيم ( 5 ) بالحق ( ج لاختلاف الجملتين ) فلنفسه ( ج ) عليها ( ج للابتداء بالنفي مع العطف ) بوكيل ( 5 ج ) في منامها ( ج ) مسمى ( ط ) يتفكرون ( 5 ) شفعاء ( ط ) يعقلون ( 5 ) جميعاً ( ط ) والأرض ( ط بناء على أن ( ثم ) لترتيب الأخبار ) ترجعون ( 5 ) بالآخرة ( ط ج فصلاً بين الجملتين مع اتفاقهما نظماً ) يستبشرون ( 5 ) يختلفون ( 5 ) القيامة ( ط ) يحتسبون ( 5 ) يستهزؤن ( 5 ) دعانا ( ز فصلاً بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين ) منا ( لا لأن ما بعده جواب ) على علم ( ط ) لا يعلمون ( 5 ) يكسبون ( 5 ) ما كسبوا ( الأولى ط ) ما كسبوا ( الثانية لا لأن الواو للحال ) بمعجزين ( 5 ) ويقدر ( ط ) يؤمنون ( 5 ) رحمة الله ( ط ) جميعاً ( ط ) الرحيم ( 5 ) لا تنصرون ( 5 ) لا تشعرون ( 5 لا ) الساخرين ( 5 لا ) المتقين ( 5 لا ) المحسنين ( 5 ) الكافرين ( 5 ) مسودّة ( ط ) للمتكبرين ( 5 ) بمفازتهم ( ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه
 
 
" صفحة رقم 6 "
) يحزنون ( 5 ) كل شيء ( ز للفصل بين الوصفين تعظيماً مع اتفاق الجملتين ) وكيل ( 5 ) والأرض ( ط ) الخاسرون ( 5 ) الجاهلون ( 5 ) من قبلك ( ج لحق القسم المحذوف ) الخاسرين ( 5 ) الشاكرين ( 5 ) بيمينه ( ط ) يشركون ( 5 ) من شاء الله ( ج بياناً لتراخي النفخة الثانية عن الأولى مع اتفاق الجملتين ) ينظرون ( 5 ) لا يظلمون ( 5 ) يفعلون ( 5 ) زمراً ( ط ) هذا ( ط ) الكافرين ( 5 ) فيها ( ج ) المتكبرين ( 5 ) زمراً ( ط ) خالدين ( 5 ) نشاء ( ج ) العاملين ( 5 ) ربهم ( ج [ ن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولا حتمال جعله حالاً وقد قضى بين الزمرين ) العالمين ( 5. التفسير : لما ضرب لعبدة الأصنام مثلاً أشار إلى نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو أنهم يضمون على على كذبهم على الله بإضافة الشريك والولد إليه تكذيبهم بالصدق يعني الأمر الذي هو الصدق بعينه أي القرآن. ومعنى ) إذ جاءه ( أنه لم يراع طريقة أهل الإنصاف والتدبر لكنه لما سمع به فاجأه بالتكذيب. واللام في قوله ) للكافرين ( لهؤلاء المعهودين الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق. قال جار الله : ويحتمل أن يكون للعموم فيشملهم وغيرهم من الكفرة. وحين بين وعيدهم عقبه بوعد الصادقين المصدّقين وهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه. وقيل : الرسول وأبو بكر والتعميم أولى لقوله ) أولئك هم المتقون ( قوله ) ليكفر ( ظاهره تعلقه ب ) يشاؤن ( فتكون لام العاقبة. ويحتمل تعلقه بمحذوف أي جزاؤهم وإكرامهم لأجل ذلك. قال جار الله : الأسوأ ههنا ليس للتفضيل وإنما هو كقولهم : الأشج أعدل بني مروان. وفائدة صيغة التفضيل استعظامهم المعصية حتى إن الصغائر عندهم أسوأ أعمالهم. وقال بعض المفسرين : أراد به الكفر السابق الذي يمحوه الإيمان. واستدل مقاتل وكان شيخ المرجئة بهذه الآية فإنها تدل على أن من صدّق الأنبياء فإنه تعالى يكفر عنه أسوأ الأعمال التي أتى بها بعد الإيمان والوصف بالتقوى وفيه نظر .
ثم إنهم كانوا يخوّفون المؤمنين والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) برفض آلهتهم وتحقيرها .
ويروى أنه بعث خالداً إلى العزى ليكسرها فقال له سادنها : أحذركها يا خالد ، إن لها شدّة .
فعمد خالد إليها فهشم أنفها فأنزل الله تعالى ) أليس الله بكاف عبده ( أي نبيه بدليل قوله ) ويخوّفونك ( ومن قرأ على الجمع فهي للعموم .
والآيات إلى قوله ) بوكيل ( ظاهرة مع أنها تعلم مما سبق ذكرها مراراً .
والعذاب الخزي عذاب يوم بدر ، والعذاب المقيم العذاب الدائم في الآخرة ، ومدار هذه الآي على تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم أكد كون الهداية والضلال من الله تعالى بقوله ) والله يتوفى الأنفس ( وذلك أن الحياة واليقظة تشبه الهداية ، والموت والنوم يضاهي الضلال .
فكما أن الحياة والموت واليقظة والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله وتكوينه
 
 
" صفحة رقم 7 "
فكذلك الهداية والضلال ، والعارف بهذه الدقيقة عارف بسر الله في القدر ، ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ، ففيه تسلية أخرى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل في وجه النظم : إنه تعالى أراد أن يذكر حجة أخرى على إثبات الإله العليم القدير ليعلم أنه أحق بالعبادة من كل ما سواه فضلاً عن الأصنام .
ومعنى الآية أن الله تعالى يتوفى الأنفس حين موتها .
قال جار الله : أراد بالأنفس الجملة كما هي لأنها هي التي تنام وتموت ) و ( يتوفى الأنفس ) التي لم تمت في منامها ( أي يتوفاها حيت تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى كقوله ) وهو الذي يتوفاكم بالليل ) [ الأنعام : 60 ] والحاصل أنه يتوفى مستعمل في الأول حقيقة وفي الثاني مجازاً ، ولم يجوّزه كثير من أئمة الأصول .
وقال الفراء : ( في ) متعلقة بالموت وتقديره : ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها عند انقضاء حياتها .
ثم بين الفرق بين الحالين بقوله ) فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الآخرى إلى أجل مسمى ( من غير غلط .
وقال حكماء الإسلام : النفس الإنسانية جوهر مشرق نوراني إذا تعلق بالبدن حصل ضوءه في جميع الأعضاء ظاهرها وباطنها وهو الحياة واليقظة .
وأما في وقت النوم فإن ضوءه لا يقع إلا على باطن البدن وينقطع عن ظاهره ، فتبقى نفس الحياة التي بها النفس وعمل القوى البدنية في الباطن ويفنى ما به التمييز والعقل ، وإذا نقطع هذا الضوء بالكلية عن البدن فهو الموت ، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا من القدير الخبير الذي لا شريك له في ملكه ولا نظير ، ولهذا ختم الآية بقوله ) إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( ثم كان لمشرك أن يقول : إنما نعبد الأصنام لأنها تماثيل أشخاص كانوا عند الله مقربين فنحن نرجو شفاعتهم فأنكر الله عليهم بقوله ) أم اتخذوا من دون الله ( أي من دون إذنه ) شفعاء ( و ( أم ) بمعنى ( بل ) ، والهمزة الإنكارية وتقرير الإنكار أن هؤلاء الكفار إما أن يطعموا في شفاعة تلك التماثيل وإما في شفاعة من هذه التماثيل تماثيلهم .
والأول باطل لأن هذه الأصنام جمادات لا تملك شيئاً ولا تعقل وأشار إلى هذا المعنى بقوله ) قل أولو كانوا ( يعني أيشفعون ولو كانوا بحيث ) لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ( والثاني أيضاً مستحيل لأن يوم القيامة لا يشفع أحد إلا بإذن الله وهو المراد بقوله ) قل لله الشفاعة ( وانتصب ) جميعاً ( على الحال .
ولو كان تأكيداً للشفاعة لقيل جمعاء .
وحين قرر أن لا شفاعة لأحد إلا بإذن الله برهن على ذلك بقوله ) له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون ( يوم القيامة ولا ملك في ذلك اليوم إلا له .
ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعال المشركين فقال ) وإذا ذكر الله وحده ( أي منفرداً ذكره عن ذكر آلهتهم
 
 
" صفحة رقم 8 "
) واشمأزت ( أي نفرت وانقبضت منه ) قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دون ( سواء ذكر الله معهم أو لم يذكر ) إذا هم يستبشرون ( أي فاجأ وقت ذكر آلهتهم وقت استبشارهم .
وفي الآية طباق ومقابلة لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى يظهر أثره في بشرته .
والاشمئزاز أن يمتلىء غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه وذلك لاحتباس الروح الحيواني في القلب .
وقيل : معنى الآية أنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
نفروا لأن فيه نفياً لآلهتهم .
وفي بعض التفاسير أن هذا إشارة إلى ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما قرأ سورة النجم وسوس الشيطان إليه بقوله ( تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى ) فاستبشر المشركون وسجدوا .
ولما حكى عنهم هذا الجهل الغليظ والحمق الشديد وهو الاشمئزاز عن ذكره رأس السعادات وعنوان الخيرات والاستبشار بذكر أخس الأشياء وهي الجمادات ، أمر رسوله بهذا الدعاء ) اللهم فاطر السموات والأرض ( وهو وصفه بالقدرة التامة ) عالم الغيب والشهادة ( وهو نعته بالعلم الكامل .
وإنما قدم وصفه بالقدرة على وصفه بالعلم لأن العلم بكونه قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً كما بين في أصول الدين وقد أشرنا إلى ذلك فيما سلف ) أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ( يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم بالشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل فلا حيلة في إزالته إلا باستعانة القدير العليم .
عن عائشة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يفتتح صلاته بالليل فيقول : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي إلى صراط مستقيم .
وعن الربيع بين خثيم .
وكان قليل الكلام أنه أخبر بقتل الحسين عليه السلام وقالوا : الآن يتكلم ، فما زاد على أن قال آه أوقد فعلوا وقرأه هذه الآية .
وروي أنه قال على أثره : قتل من كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
يجلسه في حجره ويضع فاه في فيه .
ثم ذكر وعيدهم على ذلك المذهب الباطل بقوله ) ولو أن للذين ظلموا ( أي بالشرك وقد مر نظير الآية مراراً أوّلها في آل عمران وفيه قوله ) وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ( نظير قوله في أهل الوعد ) فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ) [ السجدة : 17 ] وقيل : عملوا أعمالاً حسبوها حسنات فإذا هي سيئات .
يروى أن محمد بن المنكدر جزع عند موته فقيل له في ذلك فقال : أخشى آية من كتاب الله وتلاها ، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم يكن في حسباني .
وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال : ويل لأهل الرياء .
ثم صرح بما أبهم قائلاً ) وبدا لهم سيئات ما كسبوا ( و ( ما ) موصولة أو مصدرية أي ظهرت لهم سيئات أعمالهم التي اكتسبوها ، أو سيئات كسبهم وذلك عند عرض الصحائف أو غير ذلك من المواقف .
وجوّز أهل البيان أن يراد بالسيئات جزاء أفعالهم كقوله ) وجزاء
 
 
" صفحة رقم 9 "
سيئة سيئة ) [ الشورى : 40 ] وإنما قال في الجاثية ) سيئات ما عملوا ) [ الجاثية : 33 ] لمناسبة ألفاظ العمل ، وههنا قد وقع من ألفاظ الكسب .
ثم حكى نوعاً آخر من قبيح أعمالهم قائلاً ) فإذا مسّ الإنسان ( وقد مر مثله في مواضع أقر بها أول السورة إلا أنه ذكر ههنا بفاء التعقيب لأن هذا مناقض لما حكى عنهم عن قريب وهو أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده فكيف التجأوا إليه وحده عند ضر يصيبهم .
ومعنى ) أوتيته على علم ( أوتيته على علم لله بكوني مستحقاً لذلك أو على علم عندي صار سبباً لهذه المزية ككسب وصنعة ونحو ذلك .
ولا شك أن هذا نوع من الغرور فلهذا قال سبحانه ) بل هي فتنة ( بلاء واختبار يتميز بها الشاكر عن الكافر .
ذكر الضمير أوّلاً بتأويل المخوّل وأنثه ثانياً بتأويل النقمة .
ثم أشار بقوله ) قد قالها ( أي مجموع الكلمة التي صدرت عنهم و ) الذين من قبلهم ( هم قارون وقومه حيث ) قال إنما أوتيته على علم عندي ) [ القصص : 78 ] وقومه راضون بها فكأنهم قالوها .
ويجوز أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها ) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ( من الأموال أو من المعاصي وأشار بقوله ) هؤلاء ( إلى أهل مكة أصابهم قتل في يوم بدر وغيره وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين ثم بسط لهم فطروا سبع سنين فقيل لهم : أولم يعلموا أن الباسط والقابض هو الله وحده ؟ وذلك أن انتهاء الحوادث المتسلسلة يجب أن يكون إلى إرادته ومشيئته ، ولا ينافي هذا توسيط عالم الأسباب وأن يكون للكواكب كلها تأثيرات في عالمنا هذا بإذن مبدعها وفاطرها .
وقول الشاعر :
فلا السعد يقضي به المشتري
ولا النجس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السماء
وقاضي القضاة تعالى وجل
كلام من غير تبين واستبصار بسر القدر .
والذي يشكك به الإمام فخر الدين الرازي من أنه قد يولد إنسانان في طالع واحد ثم يصير أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة كلام غير محقق ، لأنا لو سلمنا وقوع ذلك فاختلاف القابل ، وليس تأثير العامل السماوي في طالع ولد السلطان مثله في طالع ولد الحمامي ، وكذا اختلافات أخر لا نهاية لها .
نعم لو ادعى عسر إدراك جميع الجزئيات فلا نزاع في ذلك إلا المنتفع بما ينتفع به عليه أن يقنع بما يصل إليه فهمه فلكل شيء حد وفوق كل ذي علم عليم .
وحين أطنب في الوعيد أردفه ببيان كمال رحمته ومغفرته فقال ) يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ( عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبدالأوثان وقتل النفس التي حرم الله لن يغفر له ونحن قد عبدنا الأوثان وقتلنا الأنفس فأنزل الله هذه الآية .
وعن ابن عمر : نزلت
 
 
" صفحة رقم 10 "
في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم عذبوا فارتدوا فنزلت فيهم ، وكان عمر كاتباً فكتبها إلى عياش والوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا .
وقيل : نزلت بالمدينة في وحشيّ وقد سبق .
ثم إن قلنا : العباد عام فالإسراف على النفس يعم الشرك ، ولا نزاع أن عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطاً بالتوبة والإيمان .
وإن قلنا : العباد المضاف في عرف القرآن مختص بالمؤمنين فالإسراف إما بالصغائر ولا خلاف في أنها مكفرة ما اجتنبت الكبائر ، وأما بالكبائر وحينئذ يبقى النزاع بين الفريقين .
فالمعتزلة شرطوا التوبة ، والأشاعرة العفو وقد مر مراراً .
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ) فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك ؟ فسكت ساعة ثم قال : ( ألا ومن أشرك ثلاث مرات ) رواه في الكشاف .
وعلى هذا يكون مخصوصاً بشرط الإيمان .
ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات الرحمة : أوّلها تسمية المذنب عبداً والعبودية تشعر بالاختصاص مع الحاجة ، واللائق بالكريم الرحيم إفاضة الجود والرحمة على المساكين .
وثانيها من جهة الإضافة الموجبة للتشريف .
وثالثها من جهة وصفهم بقوله ) الذين أسرفوا على أنفسهم ( كأنه قال يكفيهم من تلك الذنوب عود مضرتها عليهم لا عليّ .
ورابعها نهاهم عن القنوط ، والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم .
وخامسها قوله ) من رحمة الله ( مع إمكان الاقتصار على الضمير بأن يقول ( من رحمتي ) فإيراد أشرف الأسماء في هذا المقام يدل على أعظم أنواع الكرم واللطف .
وسادسها تكرير اسم الله تعالى في قوله ) إن الله يغفر الذنوب جميعاً ( مع تصدير الجملة ب ( إن ) ، ومع إيراد صيغة المضارع المنبئة عن الاستمرار ، ومع تأكيد الذنوب بقوله ) جميعاً ( أي حال كونها مجموعة .
وسابعها إرداف الجملة بقوله ) إنه هو الغفور الرحيم ( ومع ما فيه من أنواع المؤكدات ومع جميع ذلك لم يخل الترغيب عن الترهيب ليكون رجاء المؤمن مقروناً بخوفه فقال ) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ( وذلك أن الأشاعرة أيضاً يجوّزون أن يدخل صاحب الكبيرة النار مدة ثم يخرج منها .
ومع احتمال هذا العذاب يجب الميل إلى الإنابة والإخلاص لله في العمل على أن الخوف للتقصير في الطاعة يكفي عن الخوف للتصريح بالمعصية ، وللصديقين في الأول مندوحة عن الثاني .
وقال بعضهم : إن الكلام قد تم على الآية الأولى ، ثم خاطب الكفار بهذه الآيات من قوله ) وأنيبوا ( والمراد بالعذاب إما عذاب الدنيا كما للأمم السابقة ، وإما الموت لأنه أول أهوال الآخرة .
وقوله ( أحسن ما أنزل إليكم ( كقوله ) يستمعون القول فيتبعون أحسنه ( وقد مر الأقوال فيه .
وحين خوّفهم
 
 
" صفحة رقم 11 "
بالعذاب حكى عنهم أنهم بتقدير نزول العذاب ماذا يقولون ؟ فذكر ثلاثة أنواع من الكلمات : الأوّل أن تقول والتقدير أنذرناكم العذاب المذكور كراهة أن تقول أو لئلا .
تقول .
قال جار الله : إنما نكرت نفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر ، أو نوع من الأنفس متميزة بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم .
وجوز أن يكون التنكير لأجل التكثير كقوله ( رب وفد أكرمته ) .
) يا حسرتا على ما فرّطت ( أي قصرت .
والتفريط إهمال ما ينبغي أن يقدّم ) في جنب الله ( واعلم أن بعض أهل التجسيم يحكمون بورود هذا اللفظ على إثبات هذا العضو لله سبحانه ولا يدري أنه بعد التسليم لا معنى للتفريط فيه ما لم يصر إلى التأويل .
والصحيح ما ذهب إليه علماء البيان أن هذا من باب الكناية ، لأنك إذا أثبت الشيء في مكان الرجل وحيزه وجانبه وناحيته فقد أثبته كقوله :
إن السماحة والمروءة والندى
في قبة ضربت على ابن الحشرج
وتقول : لمكانك فعلت كذا .
أي لأجلك .
وفي الحديث ( من الشرك الخفي أن يصلى الرجل لمكان الرجل ) ولا بد من تقدير مضاف سواء ذكر الجنب أو لم يذكر ، وللمفسرين فيه عبارات .
قال ابن عباس : أي ضيعت من ثواب الله .
وقال مقاتل : ضيعت من ذكر الله .
وقال مجاهد : في أمر الله .
وقال الحسن : في طاعة الله .
وعن سعيد بن جبير : في حق الله .
وقيل : في قرب الله من الجنة من قوله ) والصاحب بالجنب ) [ النساء : 36 ] وقال ابن جبير : في جانب هدى الله لأن الطريق متشعب إلى الهدى والضلال فكل واحد جانب وجنب .
والتحقيق في المسألة أن الشيء الذي يكون من لوازم الشيء ومن توابعه كأنه حدّ من حدوده وجانب من جوانبه ، فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازماً للشيء وتابعاً له ، لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب في الآية على أحد هذه المضافات .
قال الشاعر وهو سابق البربري :
أما لتقين الله في جنب عاشق .
له كبد حرّى عليك تقطع ؟
ثم زاد في التحسر بقوله ) وإن كنت لمن الساخرين ( أي المستهزئين بالقرآن والنبي والمؤمنين .
( إن ) مخففة ، واللام فارقة ، والواو تحتمل العطف والحال .
قال قتادة .
لم يكفه ما ضيع من أمر الله حتى سخر من المصدّقين .
النوع الثاني من كلمات النفس المعذبة
 
 
" صفحة رقم 12 "
) لو أن الله هداني ( يجوز أن يقول مرة هذا ومرة ذلك ، أو يكون قائل كل من الكلمتين بعد أخرى والمعنى لو أرشدني إلى دينه .
) لكنت من المتقين ( النوع الثالث قوله عند رؤية العذاب ) لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ( قال جار الله : لما حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب وهو الثاني ، صح أن تقع ( بلى ) جواباً له مع أنه غير منفي ، لأن قوله ) لو أن الله هداني ( في معنى ما هديت .
قلت : هذا يصلح جواباً للقولين الثاني والثالث أي بلى قد هديت بالوحي فكذبت واستكبرت عن قبوله فلا فائدة في الرجعة ، فإن عدم القابلية وكونه واقعاً في جانب القهر لن يزول عنه .
ثم صرح ببعض أنواع العذاب قائلاً ) ويوم القيامة نرى الذين كذبوا على الله ( وقوله ( وجوههم مسودّة ( مفعول ثان إن كانت الرؤية القلبية وإلا فموضعه نصب على الحال .
والظاهر أن الكذب على الله هو المشار إليه في قوله ) فكذبت بها ( ويشمل الكذب عليه باتخاذ الشريك والولد ، ونسبته إلى العجز عن الإعادة ، ونسبة القرآن إلى كونه مختلفاً ونحو ذلك .
وأما المسائل الاجتهادية التي يختلف فيها كل فريق إسلامي ولا سيما الفروعية ، فالظاهر أنها لا تدخل فيها والله أعلم .
وأما سواد الوجه فإن كان في الصورة فظاهر ويكون كسائر أوصاف أهل النار من زرقة العيون وغيره ، وإن كان المراد به الخجل وشدّة الحياء ونحو ذلك فالله تعالى أعلم بمراده .
ولا ريب أن الجهل والإخبار على خلاف ما عليه الأمر ونحو ذلك من الأخلاق الذميمة كلها ظلمات كما أن العلم والصدق ونحوهما أنوار كلها وفي ذلك العالم تظهر حقيقة كل شيء على المكلف ) هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ) [ يونس : 30 ] .
ثم حكى حال المتقين يومئذ قائلاً ) وينجي الله الذين اتقوا ( الشرك أو المعاصي كبائر وصغائر ) بمفازتهم ( هي ( مفعلة ) من الفوز .
فمن وجد فلأنه مصدر ، ومن جمع فلاختلاف أجناسها فلكل متق مفازة وهي الفلاح .
ولا شك أن الباء هي التي في نحو قولك ( كتب بالقلم ) .
فقال جار الله : تارة تفسير المفازة هي قوله ) لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ( فلا محل للجملة لأنه كأنه قيل : وما مفازتهم ؟ فقيل : ( لا يمسهم السوء ( أي في أبدانهم .
) ولا هم يحزنون ( يتألمون قلباً على ما فات .
وقال : أخرى يجوز أن يراد بسبب فلاحهم أو منجاتهم وهو العمل الصالح ، وذلك أن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة .
ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها .
وعلى هذه الوجوه يكون قوله ) لا يمسهم ( منصوباً على الحال .
وعن الماوردي أن المفازة ههنا البرية أي بما سلكوا مفازة الطاعات الشاقة وهو غريب .
وحين تمم الوعد والوعيد أتبعه شيئاً من دلائل
 
 
" صفحة رقم 13 "
المالكية قائلاً ) الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ( وقد مر في ( الأنعام ) .
ثم أكده بقوله ) له مقاليد السموات والأرض ( وهو كقوله في ( الأنعام ) ) وعنده مفاتح الغيب ) [ الآية : 59 ] والمقاليد المفاتيح أيضاً فقيل : لا واحد لها من لفظها .
وقيل : مقليد أو مقلد أو إقليد .
والظاهر أنه في الأصل فارسي والتعريب جعله من قبيل العربي .
ويروى أنه سأل عثمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن تفسير الآية فقال : يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك ، تفسير المقاليد لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير .
وقال العلماء : يعني أن هذه الكلمات مفاتيح خيرات السموات والأرض وقد يوحد الله بها ويمجد .
قال أهل العرفان : بيده مفاتيح خزائن اللطف والقهر ، فيفتح على من يشاء أبواب خزائن لطفه في قلبه فتخرج ينابيع الحكمة وجواهر الأخلاق الحسنة وللآخر بالضد .
قال في الكشاف قوله ) والذين كفروا ( متصل بقوله ) وينجي ( وما بينهما اعتراض دل على أنه خالق الأشياء كلها مهيمن عليها ، لا يخفى عليه أعمال المكلفين وجزاؤها فإن كل شيء في السموات والأرض فإن مفتاحه بيده .
هذا والظاهر أنه لا حاجة إلى هذا التقدير البعيد حتى يعطف جملة اسمية على جملة فعلية .
والأقرب أنه لما وصف نفسه بصفات المالكية والقدرة ذكر بعده ) والذين كفروا ( بدلائل ملكه وملكه مع كونها ظاهرة باهرة فلا أخسر منهم لأنهم عمي في الدارين فاقدون لأشرف المطالب ولذلك وبخ أهل الشرك بقوله ) قل أفغير الله ( أي قل لهم بعد هذا البيان أفغير الله وهو منصوب ) بأعبد ( و ) تأمروني ( اعتراض والمعنى أفغير الله ) أعبد ( بأمركم .
وذلك أن المشركين دعوه إلى دين آبائه .
وجوز جار الله : أن ينصب بما يدل عليه جملة قوله ) تأمروني أعبد ( لأنه في معنى تعبدونني غير الله وتقولون لي اعبد .
والأصل تأمرونني أن أعبد فحذف أن ورفع الفعل .
ويمكن أن يعترض عليه بأن صلة ( أن ) كيف تتقدّم عليه .
ويحتمل أن يجاب بأن العامل هو ما دل عليه الجملة كما قلنا لا قوله ) أن أعبد ( وقيل : التقدير أفبعبادة غير الله تأمروني ؟ وقوله ( أيها الجاهلون ( لا يكون أليق بالمقام منه لأنه لا جهل أشدّ من جهل من نهى عن عبادة أشرف الأشياء وأمر بعبادة أخس الأشياء .
ثم هددّ الأمة على الشرك مخاطباً نبيه بقوله ) ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك ( من الأنبياء مثله ) لئن أشركت ( فاقتصر على الأول ويجوز أن يراد ولقد أوحى إليك وإلى كل واحد ممن قبلك لئن أشركت كما تقول : كسانا حلة أي كل واحد منا وقد مر نظير هذه الآية بقوله ) ولئن أتبعت أهواءهم ) [ البقرة : 120 ] وبينا أن ذلك على سبيل الفرض والشرطية لا حاجة في صدقها إلى صدق جزأيها ، أو المراد الأمة كما قلنا .
وفي قوله ) ولتكونن من الخاسرين ( إشارة إلى أن منصب النبوة
 
 
" صفحة رقم 14 "
الذي هو أشرف مراتب الإنسانية وأقربها من الله إذا بدل بضدّه الذي هو البعد عن الحضرة الإلهية لم يكن خسران وراء ذلك .
ثم ردّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى ما هوالحق الثابت في نفس الأمر وهو تخصيص الله بالعبادة فقال ) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ( على ذلك لأن توفيق العبادة منه وحده ولذا جعله مظهر اللطف حتى صار سيد ولد آدم .
ثم بين أنهم لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة في العبادة ما عرفوا الله حق معرفته وقد مر في ( الأنعام ) و ( الحج ) .
ثم أردفه بما يدل على كمال عظمته قائلاً ) والأرض جميعاً قبضته ( قال جار الله : الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة حقيقة أو إلى جهة مجاز .
وكذلك حكم ما يروى عن عبدالله بن مسعود أن رجلاً من أهل الكتاب جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا أبا القاسم ، إن الله يمسك السموات يوم القيامة على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والجبال على أصبع ، والشجر على أصبع ، والثرى على أصبع ، وسائر الخلق على أصبع ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك .
فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تعجباً مما قال وأنزل الله الآية تصديقاً له .
وقال جار الله : وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من غير ذلك ، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة ، وأن الأفعال العظام التي لا تكتنهها الأوهام هينة عليه ، ثم ذكر كلاماً آخر طويلاً .
واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي بأن هذا الكلام الطويل لا طائل تحته لأنه هل يسلم أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته أم لا .
وعلى الثاني يلزم خروج القرآن بكليته عن كونه حجة فإن لكل أحد حينئذ أن يؤوّل الآية بما شاء .
وعلى الأول وهو الذي عليه الجمهور يلزمه بيان أنه لا يمكن حمل اللفظ الفلاني على معناه الحقيقي لتعين المصير إلى التأويل .
ثم إن كان هناك مجازان وجب إقامة الدليل على تعيين أحدهما ، ففي هذه الصورة لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الجوارح إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع الأعضاء والجوارح لله تعالى فوجب المصير إلى التأويل صوتاً للنص عن التعطيل .
ولا تأويل إلا أن يقال : المراد كونها تحت تدبيره وتسخيره كما يقال : فلان في قبضة فلان .
وقال تعالى ) وما ملكت أيمانهم ) [ الأحزاب : 50 ] ويقال : هذه الدار في يد فلان ويمينه ، وفلان صاحب اليد .
وأنا أقول : هذا الذي ذكره الإمام طريق أصولي ، والذي ذكره جار الله طريق بياني ، وأنهم يحيلون كثيراً من المسائل إلى الذوق فلا منافاة بينهما .
ولا يرد اعتراض الإمام وتشنيعه وقد مر لنا في هذا
 
 
" صفحة رقم 15 "
الكتاب الأصل الذي كان يعمل به السلف في باب المتشابهات في مواضع فتذكر .
ولنرجع إلى الآية .
قوله ) والأرض ( قالوا : المراد بها الأرضون لوجهين : أحدهما قوله ) جميعاً ( فإنه يجعله في معنى الجمع كقوله ) كل الطعام ) [ آل عمران : 93 ] وقوله ( والنخل باسقات ) [ ق : 10 ] والثاني قوله ) والسموات ( ولقائل أن يقول : كل ما هو ذو أجزاء حساً أو حكماً فإنه يصح تأكيده بالجميع .
وعطف السموات على الأرض في القرآن كثير .
نعم قيل : إن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهو مقتض للمبالغة وليس ببعيد .
والقبضة بالفتح المرة من القبض يعني والأرضون جميعاً مع عظمهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته فهن ذوات قبضته .
وعندي أن المراد منه تصرفه يوم القيامة فيها بتبديلها كقوله ) يوم تبدل الأرض غير الأرض ) [ إبراهيم : 48 ] ( والسموات مطويات بيمينه ( كقوله ) يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ) [ الأنبياء : 104 ] وقيل : معنى مطويات كونها مستولى عليها استيلاءك على الشيء المطوي عندك بيدك .
وقيل : معنى مطويات كونها مستولى عليها بيمينه أي بقسمه لأنه تعالى حلف أن يطويها ويفنيها في الآخرة .
وفي الآية إشارة إلى كمال استغنائه ، وأنه إذا حاول تخريب الأرض والسموات وتبديلها .
وذلك في يوم القيامة سهل عليه كل السهولة ، ولذلك نزه نفسه عن الشركاء بقوله ) سبحانه وتعالى عما يشركون ( ثم ذكر سائر أهوال القيامة وأحوالها بقوله ) ونفخ في الصور فصعق ( الظاهر أن نفخ الصور مرتان ، وبعضهم روى أنه ثلاث نفخات الأولى للفزع كما جاء في ( النمل ) ، والثانية للموت وهو معنى الصعق ، والثالثة للإعادة .
والأظهر أن الفزع يتقدم الصعق فلا يلزم منه إثبات نفختين ، وقد مر في ( النمل ) تفسير باقي الآية .
قال جار الله : تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة ) ثم نفخ فيه أخرى ( وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان .
ومعنى ) ينظرون ( يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب ، أو ينظرون ماذا يفعل بهم .
ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجهود تحيراً .
ثم وصف أرض القيامة بقوله ) وأشرقت الأرض بنور ربها ( الظاهر أن هذا نور تجليه سبحانه .
وقد مر شرح هذا النور في تفسر قوله ) الله نور السموات والأرض ) [ الآية : 35 ] وفي غيره من المواضع .
وقال علماء البيان : افتتح الآية بذكر العدل كما اختتم الآية بنفي الظلم .
ويقال للملك العادل : أشرقت الآفاق بنور عدلك وأضاءت الدنيا بقسطك ، وفي ضدّه أظلمت الدينا بجوره .
وأهل الظاهر من المفسرين لم يستبعدوا أن يخلق الله في ذلك اليوم للأرض نوراً مخصوصاً .
وقيل : أراد أرض الجنة .
ثم إن أهل البيان أكدوا قولهم بأنه أتبعه قوله ) ووضع الكتاب ( إلى آخره .
وكل
 
 
" صفحة رقم 16 "
ذلك من الأمور الدالة على غاية العدل .
والمراد بالكتاب إما اللوح المحفوظ يقابل به صحف الأعمال أو الصحف نفسها ولكنه اكتفى باسم الجنس .
) وجيء بالنبيين ( ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة ويجيب قومهم بما يجيبون .
والمراد بالشهداء الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار ومن الجوارح والمكان والزمان أيضاً .
وقيل : هم الذين قتلوا في سبيل الله ولعله ليس في تخصيصهم بالذكر فائدة .
وحين بين أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الخصومات ذكر أنه يوصل أهل النار ، وختم السورة بذكر أهل الجنة فقال : ( وسيق ( وهو على عادة إخبار الله تعالى .
والزمر الأفواج المتفرقة واحدها زمرة وكذلك في صفة أهل الجنة ، وذلك أنه يحشر أمة بعد أمة مع إمامها إلى الجنة أو النار ، أو بعضهم قبل الحساب وبعضهم بعد الحساب على اختلاف المراتب والطبقات ، فلا ريب أن الناس محقين أو مبطلين فرق ذاهبون في طرق شتى جماعة جماعة .
والخزنة جمع خازن ، والمراد بكلمة العذاب قوله ) لأملأن جهنم ) [ السجدة : 13 ] أو علم الله السابق وكان القياس التكلم إلا أنه عدل إلى الظاهر فقيل على الكافرين ليعلم سبب العذاب .
سؤال السوق في الكفار له وجه لأنهم أهل الطرد والعنف فما وجهه في أهل الجنة ؟ الجواب من وجوه : قال جار الله : المضاف هنا محذوف أي وسيق مراكب الذين اتقوا لأنهم لا يذهبون إلا راكبين كالوافدين على ملوك الدنيا ، وحثها إسراع لهم إلى دار الكرامة والرضوان : وقيل : طباق .
وقيل : أكثر أهل الجنة البله فيحتاجون إلى السوق لأنهم لا يعرفون ما فيه صلاحهم .
وقيل : إنهم يقولون لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي فيتأخرون لهذا السبب وحينئذ يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة .
وقال أهل العرفان : المتقون قد عبدوا الله لله لا للجنة فيصير شدة استغراقهم في مشاهدة مطالع الجمال والجلال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة ، فلا جرم يفتقرون إلى السوق .
وقال الحكيم : كل خصلة ذميمة أو شريفة في الإنسان فإنها تجره من غير اختياره شاء أم أبى إلى ما يضاهيه حاله فذاك معنى السوق .
سؤال آخر : لم قيل في صفة أهل النار ) فتحت أبوابها ( من غير واو وفي صفة أهل الجنة ) وفتحت أبوابها ( بالواو ؟ والجواب البحث عن مثل هذه الواو قد يقال له واو الثمانية قد مر في قوله ) التائبون العابدون ) [ التوبة : 112 ] وفي سورة الكهف إلا أن الذي اختص بالمقام هو أن بعضهم قالوا : إن أبواب جهنم مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها ، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها لقوله ) جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ) [ ص : 50 ] فلذلك جيء بالواو كأنه قيل : حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها ، وعلى هذا فجواب ) حتى إذا ( محذوف وحق موقعه ما بعد ) خالدين ( أي كان ما كان من أصناف الكرامات
 
 
" صفحة رقم 17 "
والسعادات .
وقيل : حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها أي مع فتح أبوابها .
وقيل : لأهل التأويل أن يقولوا : إن أبواب الجنة وهي أسباب حصول الكمالات مفتوحة بمعنى أنها غير ممنوع عنها بل مندوب إليها مرغب فيها ، وأبواب جهنم مغلقة بمعنى أن أسبابها ممنوع عنها على لسان الشرع والعقل جميعاً .
ومعنى تسليم الخزنة الإكرام والتهنئة بأنهم سلموا من أحوال الدنيا وأهوال القيامة .
ومعنى ) طبتم ( قيل : إخبارهم عن كونهم طيبين في الدنيا بالأفعال الصالحة والأخلاق الفاضلة ، أو طبتم نفساً بما نلتم من الجنة ونعيمها .
وقيل : إن أهل الجنة إذا انتهوا إلى بابها وجدوا عنده عينين تجريان من ساق شجرة فيتطهرون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلن تتغير أبشارهم بعدها أبداً ، ويشربون من الأخرى فيذهب ما في بطونهم من أذى وقذى فيقول لهم الخزنة : طبتم .
وقال جار الله : أرادوا طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا ، ولهذا عقبه بقوله ) فادخلوها خالدين ( ليعلم أن الطهارة عن المعاصي هي السبب في دخول الجنة والخلود فيها لأنها دار طهرها الله من دنس فلا يدخلها إلا من هو موصوف بصفتها رزقنا الله تعالى بعميم فضله وحسن توفيقه نسبة توجب ذلك .
ثم حكى قول المتقين في الجنة فقال ) وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده ( أي الوعد بدخول الجنة ) وأورثنا الأرض ( أرض الجنة عبر عن التمليك بالإيراث وقد مرّ مراراً ) تتبوّأ منها حيث نشاء ( لأن لكل متق جنة توصف سعة فيتبوّأ من جنته كما يريد من غير منازع .
وقال حكماء الإسلام : الجنات الجسمانية كذلك ، أما الروحانية فلا مانع فيها من المشاركة وأن يحصل لغيره ما يحصل لبعض الأشخاص .
ثم وصف مآب الملائكة المقربين بعد بعثهم فقال ) وترى ( أيها الرائي أو النبي ) الملائكة حافين ( محدّقين وهو نصب على الحال .
قال الفراء : لا واحد له لأنه لا بد فيه من الجمعية .
وأقول : لعله عني من حيث الاستعمال .
وقيل : الحاف بالشيء الملازم له .
وقوله ( من حول العرش ( ( من ) زائدة أو ابتدائية أي مبتدأ خوفهم من هناك إلى حيث شاء الله أو متصل بالرؤية ) يسبحون بحمد ربهم ( تلذذاً لا تعبداً .
وكان جوانب العرش دار ثواب الملائكة وإنها ملاصقة لجوانب الجنة .
والضمير في قوله ) وقضي بينهم ( للعباد كلهم لقرائن ذكر القيامة فإن إدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون الإقضاء بينهم بالحق والعدل .
وقيل : بين الأنبياء وأممهم .
وقيل : تكرار لقوله ) وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق ( وقيل : هو حال وقد مقدرة معه أي يسبحون بحمد ربهم وقد قضى بينهم يعني بين الملائكة على أن ثوابهم ليس على سنن واحد .
ويحتمل عندي أن يعود الضمير إلى البشر والملائكة جميعاً ، والقضاء بينهم هو إنزال البشر مقامهم من الجنة أو النار ، وإنزال الملائكة حول العرش .
ثم ختم السورة بقوله ) وقيل الحمد لله ( والقائل
 
 
" صفحة رقم 18 "
المقتضي بينهم وهم جميع العباد كقوله ) وآخر دعواهم أن الحمد لله ) [ يونس : 10 ] جميع الملائكة حمدوا الله على إنزال كلّ منزلته .
 
 
" صفحة رقم 19 "
سورة المؤمن
( سورة المؤمن وهي مكية إلا آية قوله إن الذين يجادلون حروفها أربعة آلاف وتسعمائة وسبعون كلمها ألف ومائتان غير كلمة آياتها خمس وثمانون ) بسم الله الرحمن الرحيم
( غافر : ( 1 - 22 ) حم
" حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في
 
 
" صفحة رقم 20 "
الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب "
( القراآت )
حم ( وما بعده بالإمالة : حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان .
وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب وذلك طبعاً لا اختلافاً لمعان مذكورة في ( ص ) .
) كلمات ربك ( على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر ) لتنذر ( بالتاء الفوقانية على أن الضمير للروح ، وقد تؤنث ، أو على خطاب الرسول : يعقوب غير رويس ) التلاقي ( بالياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب وافق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل .
) والذين تدعون ( على الخطاب : نافع وهشام غير الرازي وابن مجاهد والنقاش وابن ذكوان ) أشد منكم ( ابن عامر .
الباقون ) منهم ( .
الوقوف : ( حم ( ط كوفي ) العليم ( 5 لا ) الطول ( ط ) إلا هو ( ط ) المصير ( 5 ) البلاد ( 5 ) من بعدهم ( ص لعطف الجملتين المتفقتين ) فأخذتهم ( ط للابتداء بالتهديد ) عقاب ( 5 ) النار ( لئلا يتوهم أن ما بعده صفة أصحاب النار ) آمنوا ( ج لحق القول المحذوف ) الجحيم ( 5 ) وذرياتهم ( ط ) الحكيم ( 5 وقد يوصل للعطف ) السيئات ( ط ) رحمته ( ط ) العظيم ( 5 ) فتكفرون ( 5 ) سبيل ( 5 ) كفرتم ( ج للابتداء بالشرط مع العطف ) تؤمنوا ( ط ) الكبير ( 5 ) رزقاً ( ط ) ينيب ( 5 ) الكافرون ( 5 ) ذو العرش ( ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال ) التلاق ( 5 لا ) بارزون ( ج لاحتمال الاستئناف وتعلقه بالظرف ) شيء ( ط ) اليوم ( ط فصلاً بين السؤال والجواب ) القهار ( 5 ) كسبت ( ط ) اليوم ( ط ) الحساب ( 5 ) كاظمين ( ط ) يطاع ( 5 ط ) الصدور ( 5 ) بالحق ( ط ) بشيء ( ط ) البصير ( 5 ) من قبلهم ( ط ) واق ( 5 ) فأخذهم الله ( ط ) العقاب ( 5 .
التفسير : ( حم ( اسم الله الأعظم .
وقيل : ( حم ( ما هو كائن أي قدّر .
وروي أن أعرابياً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما حم ؟ فقال : أسماء وفواتح سور .
وقد تقدم القول في حواميم في مقدمات الكتاب وفي أول ( البقرة ) .
ومن جملة تلك التقادير أن يقال : السورة المسماة بحم .
) تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ( وقد مر نظيره في أول ( الزمر ) .
ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد فقال ) غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ( قالت المعتزلة : معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بالتوبة إن كان كبيراً ، أو طاعة
 
 
" صفحة رقم 21 "
أعظم منه ثواباً إن كان صغيراً .
وقال الأشعري : إنه قد يعفو عن الكائر بدون التوبة لئلا يلزم التكرار بقوله ) قابل التوب ( وليفيد المدح المطلق ويؤيده إدخال الواو بين هذين الوصفين فقط كأنه قيل : الجامع بين المغفرة إن كانت بدون توبة وبين القبول إن كانت بتوبة فقد جمع للمذنب بين رحمتين بحسب الحالتين .
وقيل : غفر الذنب الصغير وقابل التوب عن الكبير ، أو غافر الذنب بإسقاط العقاب وقابل التوب بإيجاب الثواب .
ثم إن قبول التوبة واجب على الله أم لا ؟ فيه بحث أيضاً للفريقين .
فالمعتزلة أوجبوه ، والأشعري يقول : إنه على سبيل التفضيل وإلا لم بتمدّح به .
والظاهر أن التوب مصدر .
وقيل : جمع توبة أي ما ذنب تاب منه العبد إلا قبل توبته .
وقد ذكر أهل الإعراب ههنا سؤالاً وهو أن غافر الذنب وقابل التوب يمكن بوجيههما بأنهما معرفتان كما سبق في ) مالك يوم الدين ( ) الفاتحة : 3 ( وهو أنهما بمعنى الماضي أو الاستمرار فيصح وقوعهما صفتين لله إلا أن قوله ) شديد العقاب ( لا يمكن فيه هذا الوجه لأنه في معنى شديد عقابه .
فإن قلنا إنه صفة لزم وقوع النكرة صفة للمعرفة ، وإن قلنا إنه بدل لزم نبوّ ظاهر للزوم بدل واحد فيما بين صفات كثيرة .
وأجيب على تقدير أن لا يكون الكل أبدالاً بأن الألف واللام من شديد محذوف لمناسبة ما قبله مع الأمن من اللبس ومن جهالة الموصوف ، أو تعمد تنكيره من بين الصفات للإبهام والدلالة على فرط الشدة .
وجوزوا أن تكون هذه النكتة سبباً لجعله بدلاً من بين سائر أخواته .
وهذا ما قاله صاحب الكشاف .
وعندي أنه لا مانع من جعل ) شديد العقاب ( أيضاً للاستمرار والدوام حتى يصير إضافة حقيقية .
قوله ) ذي الطول ( أي ذي الفضل بسبب ترك العقاب وقد مر في قوله ) ومن لم يستطع منكم طولاً ) [ النساء : 25 ] وإنما أورد هذا الوصف بعد وصفه نفسه بشدة العقاب ليعلم أن خاتمة أمره مبنية على التفضل كما أن فاتحته مبنية على الغفران وقبول التوبة وقد تقع عقوبة في الوسط أعاذنا الله منها ، إلا أنه لا يبقى مؤمن في النار خالداً ببركة قوله لا إله إلا الله وهو المبدأ وسبب علمه أنه إليه المصير وهو المعاد .
وفيه أن من آمن بالمبدأ والمعاد فإن أخل في الوسط ببعض التكاليف كان مرجواً أن يغفر الله له ويقبل توبته .
ثم بين أحوال من لا يقبل هذه التقريرات ولا يخضع لها فقال ) ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ( والجدال في آياته نسبتها إلى الشعر تارة وإلى السحر أخرى إلى غير ذلك من المطاعن وفضول الكلام .
فأما البحث عنها لاستنباط حقائقها والوقوف على دقائقها وحل مشكلاتها فنوع من الجهاد في سبيل الله ، ولمكان الفرق بين هذين الجدالين قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن جدالاً في القرآن كفر ) فنكر الجدال
 
 
" صفحة رقم 22 "
ليشمل أحد نوعيه فقط وهو الجدال بالباطل كما يجيء في قوله ) وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ( ثم عقب الكلام بقوله ) فلا يغررك ( ليعلم أن جدالهم الصادر عن البطر والأشر والجاه والخدم لا اعتبار به وكذا ) تقلبهم في البلاد ( للتجارات والمكاسب فإن قريشاً كانت أصحاب أموال متجرين إلى الشام واليمن مترفين بأموالهم مستكبرين عن قبول الحق لذلك .
ثم مثل حالهم بحال الأمم السالفة الذين تحزبوا على الرسل وكادوا يقتلونهم فأهلكهم الله ودمرهم ونجى الرسل .
ثم بين بقوله ) وكذلك حقت ( أنهم في الآخرة أيضاً معذبون .
وقوله ( أنهم أصحاب النار ( بدل من ) كلمة ربك ( أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم في الآخرة من أصحاب النار .
وجوّز جار الله أن يكون ) أنهم ( في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل .
وقوله ( الذين كفروا ( قريش أي كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء لأن العلة الجامعة وهي أنهم أصحاب النار واحدة في الفريقين .
ومن قرأ ) كلمات ( على الجمع أراد بها علم الله السابق أو معلوماته التي لا نهاية لها ، أو الآيات الواردة في وعيد الكفار .
وحين بين أن الكفار بالغوا في إظهار عداوة المؤمنين حكى أن أشرف طبقات أكثر المخلوقات وهم حملة العرش ، والحافون حلوه يبالغون في محبتهم ونصرتهم كأنه قيل : إن كان هؤلاء الأراذل يعادونهم فلا تبال بهم ولا تقم لهم وزناً فإن الأشراف يحابونهم .
روى صاحب الكشاف أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يعرفون طرفهم .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق من الملائكة فإن خلقاً من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع وهو طائر صغير شبه العصفور ) وروي أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة .
وقيل : خلق الله العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام ، وعدد حملة العرش يوم القيامة ثمانية لقوله عز وجل ) ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ( ) الحاقّة : 17 ( أما في غير ذلك الوقت فلا يعلم به إلا الله .
أما الذين حول العرش فقيل : سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر .
وهذه الآثار كلها منقولة من كتاب
 
 
" صفحة رقم 23 "
الكشاف .
سؤال : ما فائدة قوله ) ويؤمنون به ( ولا يخفى أن حملة العرش ومن حوله مؤمنون ؟ أجاب في الكشاف بأن فائدته التنبيه على شرف الإيمان والترغيب فيه .
وأيضاً فيه تكذيب المجسمة فإن الأمر لو كان على زعمهم لكانت الملائكة يشاهدونه فلا يوصفون بالإيمان به لأنه لا يوصف بالإيمان إلا الغائب ، فعلم أن إيمانهم كإيمان أهل الأرض والكل سواء في أن إيمانهم بطريق النظر والاستدلال .
واستحسن هذا الكلام الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير حتى ترحم عليه وقال : لو لم يكن في كتابه إلا هذه النكتة لكفى به فخراً وشرفاً .
وأنا أقول : لا نسلم أن الإيمان لا يكون إلا بالغائب وإلا لم يكن الإيمان بالنبي وقت تحديه بالقرآن .
وإن شئت فتأمل قوله تعالى ) الذين يؤمنون بالغيب ( فلو لم يكن إيمان بالشهادة لم يكن لقوله ) بالغيب ( فائدة .
على أنه يحتمل أن يشاهد الرب وينكر كونه إلهاً ، ويمكن أن يكون محمول الشيء محجوباً عن ذلك الشيء فمن أين يلزم تكذيب المجسمة ؟ وقال بعضهم في الجواب : أراد أنهم يسبحون تسبيح تلفظ لا تسبيح دلالة .
وزعم فخر الدين أن في الآية دلالة أخرى على إبطال قول أهل التجسيم إن الإله على العرش فإنه لو كان كما زعموا وحامل الشيء حامل لكل ما على ذلك الشيء لزم أن تكون الملائكة حاملين لا إله العالم حافظين له ، والحافظ أولى بالإلهية من المحفوظ .
قلت : لا شك أن هذه مغالطة فإن جاز الحمل لأجل العظمة وإظهار الكبرياء على ما يزعم الخصم في المسألة كيف يلزم منه ذلك ؟ وهل يزعم عاقل أن الحمار أشرف من الإنسان الراكب عليه من جهة الركوب عليه ؟ وإنما ذكرت ما ذكرت لكونه وارداً على كلام الإمامين مع وفور فضلهما وبعد غورهما ، لا لأني مائل في المسألة على ما يزعم الخصم إلى غير معتقدهما .
قال جار الله : وقد روعي التناسب في قوله ) ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ( كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم ، وفيه أنهم بعد التعظيم لأمر الله يقبلون على الشفقة على خلق الله ولا سيما المؤمنين لأن الإيمان جامع لا أجمع منه يجذب السماوي إلى الأرضي ، والروحاني إلى العنصري .
احتج كثير من العلماء بالآية على أفضلية الملك قالوا : لأنها تدل على أنه لا معصية للملائكة وإلا لزم بحكم ( ابدأ بنفسك ) أن يستغفروا أوّلاً لأنفسهم قال الله تعالى ) واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) [ محمد : 19 ] ( وقال نوح رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً ) [ نوح : 28 ] قلت : لا نزاع بالنسبة إليهم وإلى غير المعصومين من البشر وإنما النزاع بينهم وبين المعصومين فلا دليل في الآية ، ولا يلزم من طلب الاستغفار لأحد .
لو سلم أن قوله ) للذين آمنوا ( عام أن يكون المستغفر له عاصياً على أنه قد خص الاستغفار في قوله
 
 
" صفحة رقم 24 "
) فاغفر للذين تابوا ( وهذا فيه بحث يجيء .
وفي قولهم ) ربنا وسعت كل شيء رحمة ( ولو بإعطاء الوجود ) وعلماً ( وقد مر في ( الأنعام ) إشارة إلى أن الحمد والثناء ينبغي أن يكون مقدماً على الدعاء .
وفي لفظ ) ربنا ( خاصية قوية في تقديم الدعاء كما ذكرنا في آخر ( آل عمران ) كأن الداعي يقول : كنت نفياً صرفاً وعدماً محض فأخرجتني إلى الوجود وريبتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك ، ولا ريب أن ذكر الله أول كل شيء بمنزلة الإكسير الأعظم للنحاس من حيث إنه يقوّي جوهر الروح ويكسبه إشراقاً وصفاء .
وفي تقديم الرحمة على العلم فائدة هي أن مطلوب الملائكة في هذا المقام هو أن يرحم المؤمنين فكأنهم قالوا : ارحم من علمت منه التوبة واتباع الدين .
قالت علماء المعتزلة : الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون ، طلب مزيد الكرامة والثواب فهو بمنزلة الشفاعة ، وإذا ثبت شفاعة الملائكة لأهل الطاعة فكذلك شفاعة الأنبياء ضرورة أنه لا قائل بالفرق .
وقال علماء السنة : إن مراد الملائكة ) فاغفر للذين تابوا ( عن الكفر ) واتبعوا سبيلك ( الإيمان وهذا لا ينافي كون المستغفر لهم مذنبين ومما يؤيد ما قلنا أن الاستغفار طلب المغفرة والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العذاب ، أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفاراً .
قال أهل التحقيق : هذا الاستغفار من الملائكة يجري مجرى الاعتذار من قولهم ) أتجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] أما قوله ) وقهم عذاب الجحيم ( فتصريح بالمطلوب بعد الرمز لأن دلالة المغفرة على الوقاية من العذاب كالضمنية .
وحين طلبوا لأجلهم إسقاط العذاب ضمناً وصريحاً طلبوا إيصال الثواب إليهم بقولهم ) ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ( قال علماء السنة : كل أهل الإيمان موعودون بالجنة وإن كانوا من أهل الكبائر غاية ذلك أنهم يعذبون بالنار مدّة إن لم يكن عفواً وشفاعة ثم يخرجون إلى الجنة .
قال الفراء والزجاج : قوله ) ومن صلح ( يجوز أن يكون معطوفاً على الضمير في ) وأدخلهم ( فيكون دعاء من الملائكة بإدخال هؤلاء الأصناف الجنة تكميلاً لأنس الأولين وتتميماً لابتهاجهم وإشفاقاً على هؤلاء أيضاً .
ويجوز أن يكون عطفاً على الضمير في ) وعدتهم ( لأنه تعالى قال في سورة الرعد ) أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ) [ الآية : 23 ] وعلى هذا لا يشمل دعاء الملائكة هؤلاء الأصناف اللهم إلا ضمناً .
قال أهل السنة : المراد بمن صلح أهل الإيمان منهم وإن كانوا ذوي كبائر .
ثم ختم الآية بقوله ) إنك أنت العزيز الحكيم ( لأنه إن لم يكن غالباً على الكل لم يصح منه وقوع المطلوب كما يراد ، وإن لم يكن حكيماً أمكن منه وضع الشيء في غير موضعه .
ثم قالوا ) وقهم السيئات ( فقيل :
 
 
" صفحة رقم 25 "
يعني العقوبات أو عذاب السيئات على حذف المضاف .
واعترض بأنهم قالوا مرة وقهم عذاب الجحيم فيلزم التكرار .
وأجيب بأن الأوّل دعاء للأصول وهذه لفروعهم وهم الأصناف الثلاثة ، أو الأول مخصوص بعذاب النار وهذا شامل لعذاب الموقف وعذاب الحساب وعذاب السؤال ، أو المراد بالسيئات العقائد الفاسدة والأعمال الضارة ، وعلى هذا يكون ) يومئذ ( في قوله ) ومن تق السيئات يومئذ ( إشاة إلى الدنيا .
وقوله ( فقد رحمته ( يجوز أن يكون في الدنيا وفي الآخرة .
قال في الكشاف : السيئات هي الصغائر والكبائر المتوب عنها ، والوقاية منها التكفير أو قبول التوبة .
ثم إنه تعالى عاد إلى شرح أحوال الكفرة المجالدين في آياته وأنهم سيعترفون يوم القيامة بما كانوا ينكرونه في الدنيا من البعث ، وذلك إذا عاينوا النشأة وتذكروا النشأة الأولى فقال ) إن الذين كفروا ينادون ( أي يوم القيامة .
وفي الآية حذف وفيها تقديم وتأخير .
أما الحذف فالتقدير لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم ، فاستغنى بذكرها مرة .
وأما التقديم والتأخير فهو أن قوله ) إذ تدعون ( منصوب بالمقت الأول .
وفي المقت وجوه : الأول كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون ، وذلك أشد من مقتكم أنفسكم اليوم في النار إذ أوقعتكم فيها باتباعكم هواهنّ وفيه توبيخ .
ولا ريب أن سخط الله وبغضه الشديد لا نسبة له إلى سخط غيره ولهذا أوردهم النار .
الثاني عن الحسن : لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا بلسان خزنة جهنم لمقت الله وهو قريب من الأول .
الثالث قال محمد بن كعب : إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله ) وما كان لي عليكم من سلطان ( إلى قوله ) ولوموا أنفسكم ) [ إبراهيم : 22 ] وفي هذه الحالة مقتوا أنفسهم .
فلعل المعنى .
لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ومن لعنه إياه .
وأما قول الكفرة في الجواب ) ربنا أمتنا اثنتين ( أي إماتتين اثنتين ) وأحييتنا ( إحياءتين ) اثنتين ( فللعلماء في تعيين كل من الاثنتين خلاف .
أما في الكشاف فذهب إلى أن الإماتتين إحداهما خلقهم أوّلاً أمواتاً ثم نطفة ثم علقة الخ كما في الآية الأخرى ) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً ) [ البقرة : 28 ] ونسب هذا القول إلى ابن عباس ووجهه بأنه كقولك للحفار : ضيق فم الركية ووسع أسفلها وليس ثم نقل من كبر إلى صغر أو بالعكس ، وإنما أردت الإنشاء على هذه الصفة .
والسبب في صحته أن كلا النعتين جائز على المصنوع الواحد وللصانع أن يختار أحدهما .
قلت : ومما يؤيد قوله أنه بدأ بالإماتة وإلا كان الأظهر أن يبدأ بالإحياء .
قال : والإماتة الثانية هي التي في الدنيا والإحياءة الأولى هي التي في الدنيا ، والثانية هي التي بعد البعث .
وأورد على هذا القول أنه يلزم أن لا تكون الإحياءة في القبر
 
 
" صفحة رقم 26 "
والإماتة فيه مذكورتين في القرآن بل تكونان منفيتين مع ورودهما في الحديث .
أجاب بعضهم بأن حياة القبر والإماتة ممنوعة لأنه تعالى لم يذكرها ، والأحاديث الواردة فيها آحاد ، ولأن الذي افترسه السبع لو أعيد حياً لزم نقصان شيء من السبع وليس بمحسوس ، ولأن الذي مات لو تركناه ظاهراً بحيث يراه كل أحد لم يحس منه حياة وتجويز ذلك مع عدم الرؤية سفسطة وفتح لباب الجهالات .
وزيف هذا الجواب أهل الاعتبار بأن عدم ذكر الشيء لا يدل على عدمه ، والأحاديث في ذلك الباب صحيحة مقبولة .
وإذا كان الإنسان جوهراً نورانياً مشرقاً مدبراً للبدن في كل طور على حد معلوم كما ورد في الشريعة الحقة زالت سائر الإشكالات ، ولا يلزم قياس ما بعد الموت على ما قبله وللشرع في إخفاء هذه الأمور عن نظر المكلفين حكم ظاهرة حققناها لك مرات .
وقال بعضهم : في الجواب هذا كلام الكفار فلا يكون حجة .
وضعف بأنه لو لم يكن صادقاً لأنكر الله عليهم .
وقيل : إن مقصودهم تعديد أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة : الموتة الأولى ، والحياة في القبر ، والموتة الثانية ، والحياة في القيامة .
فأما الحياة في الدنيا فإنها وقت ترفههم وتنعمهم فلهذا السبب لم يذكروها .
وقيل : أهملوا ذكر حياة القبر لقصر مدتها أو لأنهم لم يموتوا بعد ذلك بل يبقون أحياء في الشقاوة حتى اتصل بها حياة القيامة وكانوا من جملة المستثنين في قوله ) فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) [ الزمر : 68 ] ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال متكلفة ولا سيما الأخير فإن قوله ) الذين كفروا ( عام .
ولو فرض أنه مخصوص بكفار معهودين فتخصيصهم بالحياة في القبر حتى يكونوا من المستثنين بعيد جداً .
وقد يدور في الخلد أن هذا النداء يحتمل أن يكون في القبر ، وعلى هذا لا يبقى إشكال لأن الإماتة والإحياء التي بعد ذلك تخرج من غير تكلف وثبت سؤال القبر كما جاء في الحديث والله تعالى أعلم بمراده .
وقوله ( فهل إلى خروج من سبيل ( أي إلى نوع من الخروج والرد من القبر إلى الدنيا خروج سريع أو بطيء من سبيل قط أم اليأس الكلي واقع ، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط .
وكان الجواب الصريح أن يقال : لا أو نعم إلا أنه سبحانه رمز إلى عدم الخروج بقوله ) ذلكم ( أي ذلكم اليأس وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم في وقت التمكن من التوحيد أو ان التكليف ) فالحكم لله العلي الكبير ( حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي وكما يناسب عظمته وكبرياءه .
قيل : إن تحكيم الحرورية وهو قولهم ( لا حكم إلا لله ) مأخوذ من هذه الآية .
ثم أراد أن يذكر طرفاً من دلائل وحدانيته وكماله فقال ) هو الذي يريكم آياته ( من الريح والسحاب والرعد والبرق ) وينزل لكم من السماء ( ماء هو سبب الرزق ) وما يتذكر إلا من ينيب ( أي ما يعتبر إلا الذي أناب إلى الله وأعرض
 
 
" صفحة رقم 27 "
عن الشرك لينفتح عليه أبواب الأنوار والمكاشفات .
ثم قال للمنيبين ) فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ( قال جار الله : قوله ) رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح ( ثلاثة أخبار لقوله هو مترتبة على الأول وهو قوله ) الذي يريكم ( أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً أوسطها معرفة .
ثم إن الرفيع إما أن يكون بمعنى الرافع أو بمعنى المرتفع ، وعلى الأول فإما أن يراد رافع درجات الخلق في العلم والأخلاق الفاضلة كما قال ) يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) [ المجادلة : 11 ] وكذا في الرزق والأجل بل جعل للملائكة مقامات معينة وللأجسام البسيطة العلوية والسفلية درجات معينة كما يشهد به علم الهيئة ، وقد أشرنا إلى ذلك في أثناء هذا الكتاب .
أو يراد رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة .
وأما على الثاني فلا ريب أنه سبحانه أشرف الموجودات وأجلها رتبة من جهة استغنائه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه ، وافتقار كل ما سواه إليه في الوجود وفي توابع الوجود .
واعلم أن كمال كبرياء الله لا يصل إليه عقول البشر فالطريق في تعريفه أن يؤيد المعقول بنحو من المحسوس ، فلهذا عقب الله تعالى هذه الصفة بصفتين أخريين ، وذلك أن ما سوى الله إما جسمانيات وإما روحانيات .
أما الجسمانيات فأعظمها العرش فأشار بقوله ) ذو العرش ( إلى استيلائه على كلية عالم الأجسام ، وأما الروحانيات فأشار إلى كونها تحت تسخيره بقوله ) يلقي الروح ( أي الوحي ) من أمره ( أي من عالم أمره ) على من يشاء من عباده ( وقد مر نظيره في الآية في أول سورة النحل .
وقيل من أمره حال ثم بين الغرض من الإلقاء بقوله ) لينذر يوم التلاق ( ووجه التسمية ظاهر لتلاقي الأجساد والأرواح فيه ، أو لتلاقي أهل السماء والأرض كما قال عز من قائل ) ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً ) [ الفرقان : 25 ] ولأن كل واحد يلاقي جزاء عمله .
وقال ميمون بن مهران : يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم ، فربما ظلم رجل رجلاً وانفصل عنه ولم يمكن التلاقي أو استضعف المظلوم ففي يوم القيامة لا بد أن يتلاقيا .
وقوله ( يوم هم بارزون ( بدل من الأول .
ومعنى البروز ما مر في آخر سورة إبراهيم في قوله ) وبرزوا لله الواحد القهار ) [ الآية : 48 ] وقوله ( لا يخفى على الله منهم شيء ( تأكيد لذلك وهذا ، وإن كان عاماً في جميع الأحوال وشاملاً للدنيا والآخرة إلا أنه خصص بالآخرة لأنهم في الدنيا كانوا يظنون أن بعض الأعمال تخفى على الله عند الاستتار بالحجب كما قال ) ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون ( فهو نظير قوله ) مالك يوم الدين ) [ الفاتحة : 3 ] ثم أكد تفرّده في ذلك اليوم بالحكم والقضاء بقوله ) لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ( ولا ريب
 
 
" صفحة رقم 28 "
أن الكلام مشتمل على جواب وسؤال وليس في لفظ الآية ما يدل على تعيين السائل ولا المجيب .
فقال جم من المفسرين ومن أرباب القلوب : إذا هلك كل من في السموات ومن في الأرض يقول الرب تعالى : لمن الملك اليوم ؟ فلا يجيبه أحد .
فهو سبحانه يجيب عن نفسه فيقول : لله الواحد القهار .
وأما الذين ألغوا صرف المعقول من أهل الأصول فقد أنكروا هذا القول إنكاراً شديداً لأنه تعالى بين أن هذا النداء في يوم التلاقي والبروز يوم تجزى كل نفس بما كسبت ، وكل هذا ينافي في كون الخلق هالكين وقتئذ ، ولأن التكلم من غير سامع ولا مجيب عبث إلا أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء لكن المفروض فناء كل المخلوقين ، فأما أن يكون حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به وذلك أن ينادي مناد فيقول : لمن الملك اليوم ؟ فيجيبه أهل المحشر لله الواحد القهار ، يقوله المؤمن تلذذاً والكافر هواناً وتحسراً على أن فاتتهم هذه المعرفة في الدنيا فإن الملك كان له من الأزل إلى الأبد .
وفائدة تخصيص هذا النداء يوم القيامة كما عرفت في ) مالك يوم الدين ) [ الفاتحة : 3 ] يحكى أن نصر بن أحمد لما دخل نيسابور وضع التاج على رأسه ودخل عليه الناس فخطر بباله شيء فقال : هل فيكم من يقرأ آية ؟ فقرأ رجل روّاس ) رفيع الدرجات ذو العرش ( فلما بلغ قوله ) لمن الملك اليوم ( نزل الأمير عن سريره ورفع التاج عن رأسه وسجد لله تعالى وقال : لك الملك لا لي .
فلما توفي الروّاس رؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي وقال لي إنك عظمت ملكي في عين عبدي فلان يوم قرأت تلك الآية فغفرت لك وله .
ومما يدل على تفرده سبحانه قوله ) لله الواحد القهار ( فإن كل واحد من الأسماء الثلاثة ينبىء عن غاية الجلال والعظمة كما مر مراراً ، وباقي الآية أيضاً مما سلف تفسيره مرات .
ثم وصف يوم القيامة بأنواع أخر من الصفات الهائلة فقال ) وأنذرهم يوم الآزفة ( وهي فاعلة من أزف الأمر أزوفاً إذا دنا ، ولا ريب أن القيامة قريبة وإن استبعد الناس مداها لأن كل ما هو كائن فهو قريب .
قال جار الله : يجوز أن يريد بيوم الآزفة وقت لحظة الآزفة وهي مشارفتهم دخول النار فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا .
وقال أبو مسلم : يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل لأنه تعالى ذكر يوم القيامة في قوله ) يوم التلاق يوم هم بارزون ( فناسب أن يكون هذا اليوم غير ذلك اليوم ، ولأنه تعالى وصف يوم الموت بنحو هذه الصفة في مواضع أخر قال ) فلولا إذا بلغت الحلقوم ) [ الواقعة : 83 ] ( كلا إذا بلغت التراقي ) [ القيامة : 26 ] ولا ريب أن الرجل عند معاينة
 
 
" صفحة رقم 29 "
أمارات الموت يعظم خوفه ، فلو جعلنا كون القلوب لدى الحناجر كناية عن شدّة الخوف جاز ، ولو حملناه على ظاهره فلا بأس .
وقوله ( كاظمين ( أي مكروبين .
والكاظم الساكت حال امتلائه غماً وغيظاً قال عز من قائل ) والكاظمين الغيظ ( ) آل عمران : 134 ( وانتصابه على أنه حال عن أصحاب القلوب كأنه قيل : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها ، أو عن القلوب .
وجمع جمع السلامة بناء على أن الكظم من أفعال العقلاء كقوله ) فظلت أعناقهم لها خاضعين ) [ الشعراء : 4 ] أو عن ضمير المفعول في ) وأنذرهم ( أي وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الظم فيكون حالاً مقدّرة .
وفي قوله ) ما للظالمين من حميم ولا شفيع ( بحث بين الأشاعرة والمعتزلة حيث حمله الأوّلون على أهل الشرك ، والآخرون على معنى أعم حتى يشمل أصحاب الكبائر .
وقد مرّ مراراً ولا سيما في قوله ) وما للظالمين من أنصار ( ) آل عمران : 192 ( ومعنى قوله ) يطاع ( يجاب أي لا شفاعة ولا إجابة كقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر
وذلك أنه لا يشفع أحد في ذلك اليوم إلا بإذن الله ، فإن أذن له أجيب وإلا فلا يوجد شيء من الأمرين .
والفائدة في ذكر هذه الصفة أن يعلم أن الغرض من الشفيع منتفٍ في حقهم وإن فرض شفيع على ما يزعم أهل الشرك من أن الأصنام يشفعون لهم .
وقوله ( يعلم خائنة الأعين ( خبر آخر لقوله ) هو الذي يريكم آياته ( إلا أنه فصل بالتعليل وهو قوله ) لينذر ( وذكر وصف القيامة استطراداً ، قال جار الله : هي صفة للنظرة أو مصدر بمعنى الخيانة كالعافية ، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب .
قال : ولا يحسن أن تكون الخائنة صفة للأعين مضافة إليها نحو ( جرد قطيفة ) أي يعلم العين الخائنة لأن قوله ) وما تخفي الصدور ( لا يساعد عليه .
قلت : يعني أن عطف العرض على الجوهر والمعنى على العين غير مناسب .
وقيل : هي قول الإنسان رأيت ولم ير وما رأيت ورأى .
ومضمرات الصدرو أي القلوب فيها لأنها فيها .
قيل : هي ما يستره الإنسان من أمانة وخيانة .
وقيل : الوسوسة .
وقال ابن عباس : ما تخفي الصدور بعد النظر إليها أيزني بها أم لا .
أقول : والحاصل أنه تعالى أراد أن يصف نفسه بكمال العلم فإن المجازاة تتوقف على ذلك .
ففي قوله ) يعلم خائنة الأعين ( إشارة إلى أنه عالم بجميع أفعال الجوارح ، وفي قوله ) وما تخفى الصدور ( دلالة على أنه عالم بجميع أفعال القلوب .
وإذا علمت هذه الصفة وقد عرفت من الأصناف السابقة كمال قدرته واستغنائه لم يبق شك في حقيّة قضائه فلذلك قال ) والله يقضى بالحق ( ثم وبخهم على عبادة من لا قضاء له ولا سمع ولا بصر
 
 
" صفحة رقم 30 "
بقوله ) والذين يدعون ( الخ .
ثم وعظهم بالنظر في أحوال الأمم السالفة وقد مر نظير الآية في مواضع .
وإنما قال في هذه السورة ) ذلك بأنهم كانت ( وفي ( التغابن ) ) ذلك بأنه كانت ) [ الآية : 6 ] موافقة لضمير الفصل في قوله ) كانوا هم أشد ( .
التأويل : الحاء والميم حرفان من وسطاسم الرحمن ومن وسط اسم محمد ففي ذلك إشارة إلى سر بينه وبين حبيبه ( صلى الله عليه وسلم ) لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ) غافر الذنب ( للظالم ) وقابل التوب ( للمقتصد ) شديد العقاب ( للكافر ) ذي الطول ( للسابق ) وقهم عذاب الجحيم ( أي عن موجباتها كالرياء واتباع الهوى ) لمقت الله ( إياكم حين حكم عليكم بالبعد والحرمان ) أكبر من مقتكم أنفسكم ( لو كنتم تمقتونها في الدنيا فإنها أعدى عدوّكم .
ومقتها منعها من هواها ، ولا ريب أن عذاب البعد الأبديّ أشدّ من رياضة أيام معدودة قلائل .
) ذو العرش ( عرش القلوب استوى عليها بجميع الصفات وهم العلماء بالله المستغرقون في بحر معرفته .
( غافر : ( 23 - 50 ) ولقد أرسلنا موسى . . . .
" ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر
 
 
" صفحة رقم 31 "
مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال "
( القراآت )
ذروني ( بفتح الياء : ابن كثير ) إني أخاف ( بفتح الياء : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
أو بصيغة الترديد : عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب .
الباقون : بواو العطف .
) يظهر ( بضم الياء وكسر الهاء من الإظهار الفساد بالنصب : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل وحفص .
الآخرون : بفتحهما ورفع الفساد ) عذت ( مدغماً : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وإسماعيل وهشام ) التنادي ( بالياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب وافق يزيد ورش وسهل وعباس في الوصل ) قلب متكبر ( بالتنوين فيهما على الوصف : أبو عمرو وقتيبة وابن ذكوان .
الباقون : على الإضافة .
) لعلي أبلغ الأسباب ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ) فأطلع ( بالنصب : حفص .
) اتبعوني ( بالياء في الحالين : سهل
 
 
" صفحة رقم 32 "
وابن كثير ويعقوب وافق أبو عمرو ويزيد والأصفهاني عن ورش وإسماعيل وأبو نشيط عن قالون في الوصل .
) مالي ( بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع ) أمري إلى الله ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) تقوم ( بتاء التأنيث : الرازي عن هشام ) أدخلوا ( من الإدخال : أبو جعفر ونافع ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص .
وعلى هذه القراءة الخطاب للزبانية .
وانتصب ) آل ( و ) أشدّ ( على أنهما مفعول بهما .
وعلى القراءة الأخرى هو لآل فرعون ، وانتصب ) آل ( على النداء لا على أنه مفعول به .
الوقوف : ( مبين ( 5 لا ) كذاب ( 5 ) نساءهم ( ط ) ضلال ( 5 ) رّبه ( ج لاحتمال اللام ) مؤمن ( قف قد قيل : بناء على أن الجار يتعلق بالفعل بعده والوصل أصح أنه كان من القبط ، ولو فرض أنه لم يكن منهم فالجملة وصف له ) من ربكم ( ج لانتهاء الاستفهام إلى الابتداء بالشرط ) كذبه ( ج للعطف والشرط ) بعدكم ( ط ) كذاب ( 5 ) في الأرض ( ز لابتداء الاستفهام والوجه الوصل لأن المقصود الوعظ به ) جاءنا ( ط ) الرشاد ( 5 ) الأحزاب ( 5 لا لأن ما بعده بدل ) بعدهم ( ط ) للعباد ( 5 ) التناد ( 5 ط لأجل البدل ) مدبرين ( ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً ) من عاصم ( ج لاحتمال كون ما بعده ابتداء إخبار من الله سبحانه وكونه من كلام المؤمن ) من هاد ( 5 ) جاءكم به ( ط ) رسولاً ( ط ) مرتاب ( 5 ج لاحتمال البدل فإن ( من ) في معنى الجمع أو الاستئناف أي هم الذين أو أعني أنهم ) آمنوا ( ط ) جبار ( 5 ) الأسباب ( 5 لا ) كاذباً ( ط ) السبيل ( ط ) تباب ( 5 ) الرشاد ( ج لأن النداء يبدأ به مع أنه تكرار للأول ) متاع ( ز للفصل بين تنافي الدارين مع اتفاق الجملتين ) القرار ( 5 ) مثلها ( ج لعطف جملتي الشرط ) حساب ( 5 ) النار ( 5 ج لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار ولاحتمال ابتداء استفهام آخر ) الغفار ( 5 ) النار ( 5 ) لكم ( ط ) إلى الله ( ط ) بالعباد ( 5 ) العذاب ( 5 ج لاحتمال البدل والابتداء ) وعشياً ( ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف ) الساعة ( قف لحق القول المحذوف أي يقال لهم أو للزبانية ) لعذاب ( 5 ) من النار ( 5 ) العباد ( 5 ) من العذاب ( 5 ) بالبينات ( ط ) بلى ( ط ) فادعوا ( ج لاحتمال أن ما بعده من قول الخزنة أو ابتداء إخبار من الله تعال ) ضلال ( 5 .
التفسير : لما وبخ الكفار بعدم السير في الأرض للنظر والاعتبار أو بعدم النظر في أحوال الماضين مع السير في الأقطار وقد وصف الماضين بكثرة العدد والآثار الباقية ، أراد أن يصرح بقصة واحدة من قصصهم تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وزيادة توبيخ وتذكير لهم .
وكان في قصة موسى وفرعون من العجائب ما فيها ، فلا جرم أوردها ههنا مع فوائد زائدة على ما في
 
 
" صفحة رقم 33 "
المواضع الأخر منها : ذكر مؤمن من آل فرعون وما وعظ ونصح به قومه .
ولأن القصة قد تكررت مراراً فلتقتصر في التفسير على ما يختص بالمقام .
قوله ) بالحق ( أي بالمعجزات الظاهرة .
وقوله ( اقتلوا ( يريد به إعادة القتل كما مر في ( الأعراف ) في قوله ) سنقتل أبناءهم ) [ الآية : 127 ] قوله ) إلا في ضلال ( أي في ضياع واضمحلال .
فإن كان اللام في ) الكافرين ( للجنس فظاهر لأن وبال كيدهم يعود بالآخرة عليهم حين يهلكون ويدخلون النار ، وإن كان للعهد وهم فرعون وقومه فأظهر كما قص عليك من حديث إغراقهم وإستيلاء موسى وقومه على ديارهم .
قوله ) ذروني أقتل موسى ( ظاهره مشعر بأن قومه كانوا يمنعونه من قتله وفيه احتمالات : الأول لعله كان فيهم من يعتقد نبوّة موسى فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون .
الثاني قال الحسن : إن أصحابه قالوا لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك ، وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا : إنه كان محقاً وعجزوا عن جوابه فقتله .
الثالث : لعل مراد أمرائه أن يكون فرعون مشغول القلب بأمر موسى حتى إنهم يكونون في أمن وسعة .
قال جار الله : إن فرعون كان فيه خب وجريرة وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء فكيف لا يقصد قتل من أحسن بأن في وجوده هدم ملكه وتغيير ما هو عليه من عبادة أصنامه كما قال ) إني أخاف أن يبدّل ( الآية .
ولكنه كان قد استيقن أنه نبي وكان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك .
قال : وقوله ( وليدع ربّه ( شاهد صدق على فرط خوفه من دعوة ربه .
وقال غيره : هو على سبيل الاستهزاء يعني إن أقتله فليقل لربه الذي يدّعي وجوده حتى يخلصه .
ومعنى تبديل الدين تغيير عبادة الأصنام كما مر في ( الأعراف ) في قوله ) ويذرك وآلهتك ) [ الآية : 127 ] والفساد التهارج والتنازع واختلاف الآراء والأهواء ، أراد أن يحدث لا محالة من إبقائه فساد الدين والدنيا جميعاً ، أو أحد الأمرين على القراءتين .
ثم حكى ما ذكره موسى في دفع شر فرعون وهو العوذ بالله .
وفي تصدير الجملة بأن دلالة على أن الطريق المعتبر في دفع الآفات الاستغاثة والاستعاذة برب الأرض والسموات .
وفي قوله ) بربي ( إشارة إلى أن الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني سيعصمني من شر هذا المارد الجاني .
وفي قوله ) وربكم ( احتراز عن أن يظن ظانّ أنه يريد به فرعون لأنه رباه في صغره ) ألم نربك فينا وليد )