فتح القدير للشوكاني 014

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي «تَارِيخِهِ» أَنَّ صَاحِبَ أَذْرَبِيجَانَ أَيَّامَ فَتْحِهَا وَجَّهَ إِنْسَانًا مِنْ نَاحِيَةِ الْجُزُرِ فَشَاهَدَهُ، وَوَصَفَ أَنَّهُ بُنْيَانٌ رَفِيعٌ وَرَاءَ خندق وثيق منيع، ووَجَدَ مِنْ دُونِهِما أَيْ: مِنْ وَرَائِهِمَا مَجَازًا عَنْهُمَا، وَقِيلَ: أَمَامَهُمَا قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُفْقِهُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ مِنْ أَفْقَهَ إِذَا أَبَانَ، أَيْ: لَا يُبَيِّنُونَ لِغَيْرِهِمْ كَلَامًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ، أَيْ: لَا يَفْهَمُونَ كَلَامَ غَيْرِهِمْ، وَالْقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَمَعْنَاهُمَا لَا يَفْهَمُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ وَلَا يُفْهِمُونَ غَيْرَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ لُغَةِ أَنْفُسِهِمْ قالُوا أَيْ: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ لَا يُفْهِمُونَ قَوْلًا، قِيلَ: إِنَّ فَهْمَ ذِي الْقَرْنَيْنِ لِكَلَامِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لِتُرْجُمَانِهِمْ، فَقَالَ لِذِي القرنين بما قالوا له: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اسْمَانِ عَجَمِيَّانِ بِدَلِيلِ مَنْعِ صَرْفِهِمَا، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُ.
وَقِيلَ: مُشْتَقَّانِ مِنْ أَجَّ الظَّلِيمُ فِي مَشْيِهِ إِذَا هَرْوَلَ، وتأججت النار إذا تلهبت، قرأهما الجمهور غير هَمْزٍ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِالْهَمْزِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَجْهُ هَمْزِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَصْلٌ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ هَمَزَتْ حُرُوفًا لَا يُعْرَفُ للهمز فيها أصل كقولهم: كبأثت وَرَثَأَتْ وَاسْتَشْأَتْ الرِّيحُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَرَبِيَّيْنِ، فَمَنْ هَمَزَ فَهُوَ عَلَى وَزْنِ يَفْعُولٍ مِثْلَ يَرْبُوعٍ، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ فَقَلَبَهَا أَلِفًا مِثْلَ رَاسٍ. وَأَمَّا مَأْجُوجُ، فَهُوَ مَفْعُولُ مِنْ أَجَّ، وَالْكَلِمَتَانِ مَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ فِي الِاشْتِقَاقِ. قَالَ: وَتُرِكَ الصَّرْفُ فِيهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا عَرَبِيَّيْنِ لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّعْرِيفِ كَأَنَّهُ اسْمٌ لِلْقَبِيلَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِمْ فَقِيلَ: هُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، وَقِيلَ يَأْجُوجُ مِنَ التُّرْكِ وَمَأْجُوجُ من الجيل وَالدَّيْلَمِ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: احْتَلَمَ آدَمُ فَاخْتَلَطَ مَاؤُهُ بِالتُّرَابِ فَخُلِقُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَحْتَلِمُونَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ، كَذَلِكَ قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي صِفَتِهِمْ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَصِفُهُمْ بِصِغَرِ الْجُثَثِ وَقِصَرِ الْقَامَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصِفُهُمْ بِكِبَرِ الْجُثَثِ وَطُولِ الْقَامَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ مَخَالِبُ كَمَخَالِبِ السِّبَاعِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ صِنْفًا يَفْتَرِشُ إِحْدَى أُذُنَيْهِ وَيَلْتَحِفُ بِالْأُخْرَى، وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَخْبَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ.
وَاخْتُلِفَ فِي إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، فَقِيلَ: هُوَ أَكْلُ بَنِي آدَمَ، وَقِيلَ: هُوَ الظُّلْمُ وَالْغَشْمُ وَالْقَتْلُ وَسَائِرُ وُجُوهِ الْإِفْسَادِ وَقِيلَ: كَانُوا يَخْرُجُونَ إِلَى أَرْضِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ شَكَوْهُمْ إِلَى ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي أَيَّامِ الرَّبِيعِ فَلَا يَدَعُونَ فِيهَا شَيْئًا أَخْضَرَ إِلَّا أَكَلُوهُ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مِنْ بَابِ حُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ ذِي الْقَرْنَيْنِ.
وَقُرِئَ خَرَاجًا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْخَرَاجُ يَقَعُ عَلَى الضَّرِيبَةِ، وَيَقَعُ عَلَى مَالِ الْفَيْءِ، وَيَقَعُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَعَلَى الْغَلَّةِ. وَالْخَرَاجُ أَيْضًا: اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَرَائِضِ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْخَرْجُ الْمَصْدَرُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْخَرْجُ الْجِزْيَةُ، وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ: الْخَرْجُ مَا يُخْرِجُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ مَالِهِ، وَالْخَرَاجُ: مَا يَجْبِيهِ السُّلْطَانُ وَقِيلَ:
هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا أَيْ: رَدْمًا حَاجِزًا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. وَقُرِئَ سَدًّا بِفَتْحِ السِّينِ.
قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: الضَّمُّ هُوَ الِاسْمُ، وَالْفَتْحُ الْمَصْدَرُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْفَتْحُ وَالضَّمُّ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي
(3/368)
1
إِسْحَاقَ: مَا رَأَتْهُ عَيْنَاكَ فَهُوَ سُدٌّ بِالضَّمِّ، وَمَا لَا تَرَى فَهُوَ سَدٌّ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ مَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ وَبِالضَّمِّ فِي السَّدَّيْنِ قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي أَيْ: قَالَ لَهُمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ: مَا بَسَطَهُ اللَّهُ لِي مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ خَيْرٌ مِنْ خَرْجِكُمْ، ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمُ الْمُعَاوَنَةَ لَهُ فَقَالَ: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَيْ: بِرِجَالٍ مِنْكُمْ يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ، أَوْ أَعِينُونِي بِآلَاتِ الْبِنَاءِ، أَوْ بِمَجْمُوعِهِمَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: بِعَمَلٍ تَعْمَلُونَهُ مَعِي. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ «مَا مَكَّنَنِي» بِنُونَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً هَذَا جَوَابُ الْأَمْرِ، وَالرَّدْمُ: مَا جُعِلَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَتَّصِلَ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: يُقَالُ رَدَمْتُ الثُّلْمَةَ أَرْدِمُهَا بِالْكَسْرِ رَدْمًا، أَيْ: سَدَدْتُهَا، وَالرَّدْمُ أَيْضًا الِاسْمُ، وَهُوَ السَّدُّ، وَقِيلَ: الرَّدْمُ أَبْلَغُ مِنَ السَّدِّ، إِذِ السَّدُّ كُلُّ مَا يُسَدُّ بِهِ، وَالرَّدْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ نَحْوِهِمَا حَتَّى يَقُومَ مِنْ ذَلِكَ حِجَابٌ مَنِيعٌ، وَمِنْهُ رَدَمَ ثَوْبَهُ: إِذَا رَقَعَهُ بِرِقَاعٍ مُتَكَاثِفَةٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدِّمِ «1»
............... ........
أَيْ: مِنْ قَوْلٍ يَرْكَبُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أي: أعطوني وناولوني، وزبر الْحَدِيدِ جَمْعُ زُبْرَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ. قَالَ الْخَلِيلُ: الزُّبْرَةُ مِنَ الْحَدِيدِ الْقِطْعَةُ الضَّخْمَةُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: معنى آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ايتوني بِهَا، فَلَمَّا أُلْقِيَتِ الْيَاءُ زِيدَتْ أَلِفًا، وَعَلَى هَذَا فَانْتِصَابُ زُبُرَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ وَالصَّدَفَانِ: جَانِبَا الْجَبَلِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ لِجَانِبَيِ الْجَبَلِ صَدَفَانِ إِذَا تَحَاذَيَا لِتَصَادُفِهِمَا، أَيْ: تَلَاقِيهِمَا، وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ والهروي. قال الشاعر:
كلا الصّدفين ينفذه سِنَاهَا ... تُوقِدُ مِثْلَ مِصْبَاحِ الظَّلَامِ
وَقَدْ يُقَالُ لِكُلِّ بِنَاءٍ عَظِيمٍ مُرْتَفِعٍ صَدَفٌ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ الصَّدَفَيْنِ بِفَتْحِ الصَّادِ وَالدَّالِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَالْيَزِيدِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الصَّادِ وَالدَّالِ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الدَّالِ. وَقَرَأَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَضَمِّ الدَّالِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ لِأَنَّهَا أَشْهَرُ اللُّغَاتِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ زُبَرَ الْحَدِيدِ، فَجَعَلَ بيني بِهَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ حَتَّى سَاوَاهُمَا قالَ انْفُخُوا أَيْ: قَالَ لِلْعَمَلَةِ «2» : انْفُخُوا عَلَى هَذِهِ الزُّبَرِ بِالْكِيرَانِ حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا أَيْ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَنْفُوخَ فِيهِ، وَهُوَ الزُّبَرُ نَارًا: أَيْ كَالنَّارِ فِي حَرِّهَا وَإِسْنَادُ الْجَعْلِ إِلَى ذِي الْقَرْنَيْنِ مَجَازٌ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ بِالنَّفْخِ. قِيلَ: كَانَ يَأْمُرُ بِوَضْعِ طَاقَةٍ مِنَ الزُّبَرِ وَالْحِجَارَةِ ثُمَّ يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى يتحمّى، وَالْحَدِيدُ إِذَا أُوقِدَ عَلَيْهِ صَارَ كَالنَّارِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالنُّحَاسِ الْمُذَابِ فَيُفْرِغُهُ عَلَى تِلْكَ الطَّاقَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْقِطْرُ النُّحَاسُ الذَّائِبُ، وَالْإِفْرَاغُ: الصَّبُّ، وَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْقِطْرُ الْحَدِيدُ الْمُذَابُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْهُمُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
هُوَ الرَّصَاصُ الْمُذَابُ فَمَا اسْطاعُوا أَصْلُهُ اسْتَطَاعُوا، فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْمُتَقَارِبَانِ، وَهُمَا التاء والطاء خففوا
__________
(1) . وعجزه: أم هل عرفت الدّار بعد توهّم.
(2) . أي العمّال. [.....]
(3/369)
1
بِالْحَذْفِ. قَالَ ابْنُ السِّكِيتِ: يُقَالُ مَا أَسْتَطِيعُ، وَمَا أَسْطِيعُ، وَمَا أَسْتِيعُ. وَبِالتَّخْفِيفِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ فَمَا اسْطاعُوا بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ كَأَنَّهُ أَرَادَ اسْتَطَاعُوا فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الطَّاءِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةُ الْوَجْهِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: هِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ فَمَا اسْتَطَاعُوا عَلَى الْأَصْلِ، وَمَعْنَى أَنْ يَظْهَرُوهُ أَنْ يَعْلُوهُ أَيْ فَمَا اسْتَطَاعَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أَنْ يَعْلُوا عَلَى ذَلِكَ الرَّدْمِ لِارْتِفَاعِهِ وَمَلَاسَتِهِ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً يُقَالُ نَقَبْتُ الْحَائِطَ: إِذَا خَرَقْتَ فِيهِ خَرْقًا فَخَلَصَ إِلَى مَا وَرَاءَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا قَدَرُوا أَنْ يَعْلُوا عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِهِ وَانْمِلَاسِهِ، وَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَنْقُبُوهُ مِنْ أَسْفَلِهِ لِشِدَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أَيْ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مُشِيرًا إِلَى السَّدِّ: هَذَا السَّدُّ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، أَيْ: أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَجَاوِزِينَ لِلسَّدِّ ولمن خلفهم ممن يخشى عليه مَعَرَّتَهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ السَّدُّ وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى التَّمْكِينِ مِنْ بِنَائِهِ فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي أَيْ: أَجَلُ رَبِّي أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَهُ دَكَّاءَ أَيْ: مُسْتَوِيًا بِالْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا «1» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَيْ:
مُسْتَوِيًا، يُقَالُ نَاقَةٌ دَكَّاءٌ: إذا ذهب سنامها. وقال القتبي: أَيْ: جَعَلَهُ مَدْكُوكًا مُلْصَقًا بِالْأَرْضِ. وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: قطعا متكسرا. قال الشاعر:
هل غير غاد دَكَّ غَارًا فَانْهَدَمَ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: دَكَكْتُهُ، أَيْ: دَقَقْتَهُ. وَمَنْ قَرَأَ دَكَّاءً بِالْمَدِّ وَهُوَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أَرَادَ التَّشْبِيهَ بِالنَّاقَةِ الدَّكَّاءِ، وَهِيَ الَّتِي لَا سَنَامَ لَهَا، أَيْ: مِثْلُ دَكَّاءٍ لِأَنَّ السَّدَّ مُذَكَّرٌ فَلَا يُوصَفُ بِدَكَّاءٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ دَكًّا بِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَمَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْحَالِ، أَيْ: مَدْكُوكًا وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أَيْ: وَعْدُهُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، أَوِ الْوَعْدُ الْمَعْهُودُ حَقًّا ثَابِتًا لَا يَتَخَلَّفُ، وَهَذَا آخِرُ قَوْلِ ذِي الْقَرْنَيْنِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قَالَ: الْجَبَلَيْنِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالَ: التُّرْكُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ شِبْرٌ وَشِبْرَانِ وَأَطْوَلُهُمْ ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ آدَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ وَلَوْ أُرْسِلُوا لَأَفْسَدُوا عَلَى النَّاسِ مَعَايِشَهُمْ، وَلَا يَمُوتُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا، وَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِمْ ثَلَاثَ أُمَمٍ:
تَاوِيلُ، وَتَارِيسُ، وَمَنْسَكُ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: «أَنَّهُ لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
__________
(1) . الفجر: 21.
(3/370)
1
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
«إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَفْتَحُونَهُ غَدًا، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ أَشَدَّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ، وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ حَفَرُوا، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَفْتَحُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَسْتَثْنِي، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيَسْتَقُونَ الْمِيَاهَ، وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً بِالدِّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا مَنْ فِي السَّمَاءِ قَسْرًا وَعُلُوًّا، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَهْلِكُونَ» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فو الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمَنُ وَتَبْطَرُ وَتَشْكُرُ شُكْرًا مِنْ لُحُومِهِمْ» . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ قَالَتِ: «اسْتَيْقَظَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ، وَحَلَّقَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» . وَأَخْرَجَا نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابن عباس في قَوْلِهِ: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً قَالَ: أَجْرًا عَظِيمًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: رَدْماً قَالَ: هُوَ كَأَشَدِّ الْحِجَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: زُبَرَ الْحَدِيدِ قَالَ:
قِطَعُ الْحَدِيدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ. قَالَ: الْجَبَلَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن مجاهد قال: رؤوس الْجَبَلَيْنِ. وَأَخْرَجَ هَؤُلَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قِطْراً قَالَ: النُّحَاسُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ قَالَ: أَنْ يَرْتَقُوهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَنْ يَعْلُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ دَكَّاءَ قَالَ: لَا أَدْرِي الْجَبَلَيْنِ يعني به أم بينهما.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 108]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)
قَوْلُهُ: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ كَلَامِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَالضَّمِيرُ فِي بَعْضِهِمْ لِيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أَيْ: تَرَكْنَا بَعْضَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَوْمَ مَجِيءِ الْوَعْدِ، أَوْ يَوْمَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ آخَرَ مِنْهُمْ، يُقَالُ: مَاجَ النَّاسُ إِذَا دَخَلَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ حَيَارَى كَمَوْجِ الْمَاءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَضْطَرِبُونَ وَيَخْتَلِطُونَ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بَعْضِهِمْ لِلْخَلْقِ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ: وَجَعَلْنَا
(3/371)
1
بَعْضَ الْخَلْقِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَتَرَكْنَا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَوْمَ كَمَالِ السَّدِّ وَتَمَامِ عِمَارَتِهِ بَعْضُهُمْ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فِي الْأَنْعَامِ، قِيلَ: هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً فَإِنَّ الْفَاءَ تُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّفْخَةَ الْأُولَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا ذِكْرُ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ.
وَالْمَعْنَى: جَمَعْنَا الْخَلَائِقَ بعد تلاشي أبدانهم ومصيرهم تُرَابًا جَمْعًا تَامًّا عَلَى أَكْمَلِ صِفَةٍ وَأَبْدَعِ هَيْئَةٍ وَأَعْجَبِ أُسْلُوبٍ وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الْمُرَادُ بِالْعَرْضِ هُنَا الْإِظْهَارُ، أَيْ: أَظْهَرْنَا لَهُمْ جَهَنَّمَ حَتَّى شَاهَدُوهَا يَوْمَ جَمْعِنَا لَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ عَظِيمٌ لِمَا يَحْصُلُ مَعَهُمْ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا مِنَ الْفَزَعِ وَالرَّوْعَةِ.
ثُمَّ وَصَفَ الْكَافِرِينَ الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي أَيْ: كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي غِطَاءٍ وَهُوَ مَا غَطَّى الشَّيْءَ وَسَتَرَهُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ عَنْ ذِكْرِي عَنْ سَبَبِ ذِكْرِي، وَهُوَ الْآيَاتُ الَّتِي يُشَاهِدُهَا مَنْ لَهُ تَفَكُّرٌ وَاعْتِبَارٌ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّمْجِيدِ، فَأَطْلَقَ الْمُسَبَّبَ عَلَى السَّبَبِ، أَوْ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَأَمُّلِ مَعَانِيهِ وَتَدَبُّرِ فَوَائِدِهِ. ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْعَمَى عَنِ الدَّلَائِلِ التَّكْوِينِيَّةِ أَوِ التَّنْزِيلِيَةِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا، أَرَادَ أَنْ يَصِفَهُمْ بِالصَّمَمِ عَنِ اسْتِمَاعِ الْحَقِّ فَقَالَ: وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ لِمَا فِيهِ الْحَقُّ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قَالَ وَكَانُوا صُمًّا لَأَنَّ الْأَصَمَّ قَدْ يَسْتَطِيعُ السَّمْعَ إِذَا صِيحَ بِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِي ذِكْرِ غِطَاءِ الْأَعْيُنِ وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ السَّمَاعِ تَمْثِيلٌ لِتَعَامِيهِمْ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ بِالْأَبْصَارِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْحُسْبَانُ هُنَا بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، كَنَظَائِرِهِ. وَالْمَعْنَى: أَفَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِمَا عَبَدُوهُ مَعَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ اللَّهِ، وَتَمَرُّدِهِمْ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَمَعْنَى أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَيْ: يَتَّخِذُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَسِيحُ وَالشَّيَاطِينُ أَوْلِياءَ أَيْ: مَعْبُودِينَ، قَالَ الزَّجَّاجُ:
الْمَعْنَى أَيَحْسَبُونَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ ذَلِكَ، وَقُرِئَ أَفَحَسِبَ بِسُكُونِ السِّينِ، وَمَعْنَاهُ أَكَافِيهِمْ وَمُحْسِبُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِيهِمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا حَسِبُوا إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أَيْ: هَيَّأْنَاهَا لَهُمْ نُزُلًا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ عِنْدَ وُرُودِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: النُّزُلُ: الْمَأْوَى وَالْمَنْزِلُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي يُعَدُّ لِلضَّيْفِ، فَيَكُونُ تَهْكُّمًا بِهِمْ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَهَنَّمَ مُعَدَّةٌ لَهُمْ عِنْدَنَا كَمَا يُعَدُّ النُّزُلُ لِلضَّيْفِ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا انْتِصَابُ أَعْمَالًا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْجَمْعُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِرَادَةِ الْأَنْوَاعِ مِنْهَا، وَمَحَلُّ الْمَوْصُولِ وَهُوَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الفعل عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِضَلَالِ السَّعْيِ بُطْلَانُهُ وَضَيَاعُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الذَّمِّ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْأَخْسَرِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ أَيْضًا هُوَ أُولَئِكَ وَمَا بَعْدَهُ، وَأَوَّلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ هُوَ أَوْلَاهَا، وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ
__________
(1) . آلِ عمران: 21.
(3/372)
1
فَاعِلِ ضَلَّ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ فِي ذَلِكَ مُنْتَفِعُونَ بِآثَارِهِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ مُسْتَأْنَفَةً مَسُوقَةً لِتَكْمِيلِ الْخُسْرَانِ وَبَيَانِ سَبَبِهِ، هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الأوّل الراجح لا على الوجوه الآخرة، فَإِنَّهَا هِيَ الْجَوَابُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ: كُفْرُهُمْ بِدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ مِنَ الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةِ وَالتَّنْزِيلِيَّةِ، وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِلِقَائِهِ: كُفْرُهُمْ بِالْبَعْثِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أَيْ: الَّتِي عَمِلُوهَا مِمَّا يَظُنُّونَهُ حَسَنًا، وَهُوَ خُسْرَانٌ وَضَلَالٌ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أَيْ: لَا يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَنَا قَدْرٌ وَلَا نَعْبَأُ بِهِمْ، وَقِيلَ: لَا يُقَامُ لَهُمْ مِيزَانٌ تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَهَؤُلَاءِ لَا حَسَنَاتٍ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرَبُ تَقُولُ مَا لِفُلَانٍ عِنْدَنَا وَزْنٌ، أَيْ: قَدْرٌ لِخِسَّتِهِ، وَيُوصَفُ الرَّجُلُ بِأَنَّهُ لَا وَزْنَ لَهُ لِخِفَّتِهِ، وَسُرْعَةِ طَيْشِهِ، وَقِلَّةِ تَثَبُّتِهِ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرٌ وَلَا مَنْزِلَةٌ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ يُقِيمُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ: فَلَا يُقِيمُ اللَّهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ وَمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فَقَالَ: ذلِكَ أَيْ: الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ جَزَاؤُهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: جَهَنَّمُ عَطْفَ بَيَانٍ لِلْجَزَاءِ، أَوْ جُمْلَةُ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ مُبْتَدَأٌ وخبر الجملة خَبَرُ ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ ضَمُّوا إِلَى الْكُفْرِ اتِّخَاذَ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّخَاذَ رُسُلِهِ هُزُوًا، فَالْبَاءُ فِي بِما كَفَرُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ هُزُوًا أَنَّهُمْ مَهْزُوءٌ بِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، فَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقِيلَ: كُفَّارُ مَكَّةَ، وَقِيلَ: الْخَوَارِجُ، وَقِيلَ: الرُّهْبَانُ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ لِكُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذَا الْوَعِيدِ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْوَعْدَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَهُمَا حَتَّى كَانُوا عَلَى ضِدِّ صِفَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ كانَتْ لَهُمْ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: كَانَتْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ كَانَتْ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْفِرْدَوْسُ فِيمَا سَمِعْتُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ وَالْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْعِنَبُ. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْفِرْدَوْسَ الْبُسْتَانُ بِاللُّغَةِ الرُّومِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ النُّزُلِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَالْمَعْنَى:
كَانَتْ لَهُمْ ثِمَارُ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا مُعَدًّا لَهُمْ مُبَالَغَةً فِي إِكْرَامِهِمْ، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها عَلَى الْحَالِ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْحِوَلُ مَصْدَرٌ، أَيْ: لَا يَطْلُبُونَ تَحَوُّلًا عَنْهَا إِذْ هِيَ أَعْزُ مِنْ أَنْ يَطْلُبُوا غَيْرَهَا، أَوْ تَشْتَاقَ أَنْفُسُهُمْ إِلَى سِوَاهَا. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ:
الْحِوَلُ اسْمٌ بِمَعْنَى التَّحَوُّلِ يَقُومُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: إِنَّ الْحِوَلَ التَّحْوِيلُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ الْآيَةَ قَالَ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً قَالَ: لَا يَعْقِلُونَ سَمْعًا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال أبو عبيد بِجَزْمِ السِّينِ وَضَمِّ الْبَاءِ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
(3/373)
1
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:
سَأَلْتُ أَبِي قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأما النصارى فكذبوا بِالْجَنَّةِ وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ، وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ «1» ، وَكَانَ سَعْدٌ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ والفريابي وسعيد ابن مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الْحَرُورِيَّةُ هُمْ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَالْحَرُورِيَّةُ: قَوْمٌ زَاغُوا فَأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي خميصة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ ابن أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا إِنَّهُمُ الرُّهْبَانُ الَّذِينَ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي السَّوَارِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَسَأَلَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ فَقَالَ:
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا قَالَ: فَجَرَةُ قُرَيْشٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا قَالَ:
لَا أَظُنُّ إِلَّا أَنَّ الْخَوَارِجَ مِنْهُمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَقَالَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهَا سُرَّةُ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْفِرْدَوْسِ يَسْمَعُونَ أَطِيطَ الْعَرْشِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً، وَمِنْ فَوْقِهَا يَكُونُ الْعَرْشُ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الْأَرْبَعَةُ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ» ، وَالْأَحَادِيثُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:
الْفِرْدَوْسُ بُسْتَانٌ بِالرُّومِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هُوَ الْكَرْمُ بِالنَّبَطِيَّةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ كَعْبًا عَنِ الْفِرْدَوْسِ قَالَ: هِيَ جَنَّاتُ الْأَعْنَابِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا قال: متحوّلا.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 109 الى 110]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
__________
(1) . البقرة: 27.
(3/374)
1
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ نَبَّهَ عَلَى كَمَالِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُمِّيَ الْمِدَادُ مِدَادًا لِإِمْدَادِهِ الْكَاتِبَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَمَجِيءِ الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ، وَيُقَالُ لِلزَّيْتِ الَّذِي يُوقَدُ بِهِ السِّرَاجُ مِدَادٌ، وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ هُنَا الْجِنْسُ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كُتِبَتْ كَلِمَاتُ عِلْمِ اللَّهِ وحكمته، وفرض أن جنس البحر مدادا لَهَا لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ نُفُودِ الْكَلِمَاتِ، وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِ الْبَحْرِ مِدَادًا لَنَفِدَ أَيْضًا، وَقِيلَ فِي بَيَانِ الْمَعْنَى: لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِلْقَلَمِ وَالْقَلَمُ يَكْتُبُ لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَقَوْلُهُ:
وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً كَلَامٌ مِنْ جِهَتِهِ سُبْحَانَهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كانَ وَفِيهِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ وَتَأْكِيدٍ، وَالْوَاوُ لِعَطْفِ مَا بَعْدَهُ عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ مَدْلُولٍ عَلَيْهَا بِمَا قَبْلَهَا، أَيْ: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُهُ لَوْ لم يجيء بمثله مدادا وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، وَالْمَدَدُ الزِّيَادَةُ وَقِيلَ: عَنَى سُبْحَانَهُ بِالْكَلِمَاتِ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ وَلَا مُنْتَهًى، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَقَدْ عَبَّرَتِ الْعَرَبُ عَنِ الْفَرْدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَوَجْهٌ نَقِيُّ اللَّوْنِ صَافٍ يُزَيِّنُهُ ... مَعَ الْجِيدِ لُبَّاتٌ لَهَا وَمَعَاصِمُ
فَعَبَّرَ بِاللُّبَّاتِ عَنِ اللُّبَّةِ. قَالَ الْجِبَائِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِهِ قَدْ تَنْفَدُ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَا ثَبَتَ عَدَمُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِ تِلْكَ الصِّفَةِ الْأَزَلِيَّةِ وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ: إِنَّ نَفَادَ شَيْءٍ قَبْلَ نَفَادِ شَيْءٍ آخَرَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفَادِ الشَّيْءِ الْآخَرِ، وَلَا عَلَى عَدَمِ نَفَادِهِ، فَلَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا كَثْرَةُ كَلِمَاتِ اللَّهِ بِحَيْثُ لَا تَضْبِطُهَا عُقُولُ الْبَشَرِ أَمَّا أَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ، أَوْ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآيَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَابِعَةٌ لِمَعْلُومَاتِهِ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَالْكَلِمَاتُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مِدَادًا وَهِيَ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مَدَداً وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَسْلُكَ مَسْلَكَ التَّوَاضُعِ، فَقَالَ: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَيْ: إِنَّ حَالِي مَقْصُورٌ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ لَا يَتَخَطَّاهَا إِلَى الْمَلَكِيَّةِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ لَا يَدَّعِي الْإِحَاطَةَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ امْتَازَ عَنْهُمْ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: يُوحى إِلَيَّ وَكَفَى بِهَذَا الْوَصْفِ فَارِقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْبَشَرِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَفِي هَذَا إِرْشَادٌ إِلَى التَّوْحِيدِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّوْحِيدِ فَقَالَ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الرجاء توقع وصول الْخَيْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمَعْنَى، مَنْ كَانَ لَهُ هَذَا الرَّجَاءُ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَهُوَ مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ عَمَلُ خَيْرٍ يُثَابُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ سَوَاءٌ كَانَ صَالِحًا، أَوْ طَالِحًا، حَيَوَانًا أَوْ جَمَادًا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا يُرَائِي بِعَمَلِهِ أَحَدًا. وَأَقُولُ:
إِنَّ دُخُولَ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى دُخُولِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ الَّذِي هُوَ الرِّيَاءُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِ هَذَا الْخَفِيِّ تَحْتَهَا، إِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِهِ هُوَ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
(3/375)
1
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لِكَلِماتِ رَبِّي يَقُولُ: عِلْمُ رَبِّيَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ يَنْفَدُ مَاءُ الْبَحْرِ قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ كَلَامُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَقِفُ الْمَوَاقِفَ أَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ جُنْدُبُ بْنُ زُهَيْرٍ إِذَا صَلَّى أَوْ صَامَ أَوْ تَصَدَّقَ فَذُكِرَ بِخَيْرٍ ارْتَاحَ لَهُ، فَزَادَ فِي ذَلِكَ لِقَالَةِ النَّاسِ فَلَا يُرِيدُ بِهِ اللَّهُ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْتِقُ وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى، وَأَتَصَدَّقُ وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى، فَنَزَلَتْ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ» وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَهُ هَنَّادٌ فِي الزُّهْدِ عَنْهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ:
لَا أَجْرَ لَهُ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَعَادَ الرَّجُلُ فَقَالَ: لَا أَجْرَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْإِخْلَاصِ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الرِّيَاءَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَيْضًا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ، ثُمَّ قَرَأَ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ شَدَّادٍ أَيْضًا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي، مَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا فَإِنَّ عَمَلَهُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَهُ أنا عنه غنيّ» . وأخرج أحمد والحكيم والترمذي، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَهْذِيبِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيخِ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي لِمَكَانِ رَجُلٍ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ، قُلْتُ: أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا، وَلَكِنْ يُرَاءُونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ؟ قَالَ: يُصْبِحُ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ وَيُوَاقِعُ شَهْوَتَهُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ جَرِيرٍ
(3/376)
1
وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ» وَفِي لَفْظٍ: «فَمَنْ أَشْرَكَ بِي أَحَدًا فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ» ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الرِّيَاءِ وَأَنَّهُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُهُ، وَقَدِ اسْتَوْفَاهَا صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، بَلِ الشِّرْكُ الْجَلِيُّ يَدْخُلُ تَحْتَهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُوَ الرِّيَاءُ كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضَائِلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِخُصُوصِهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي حَكِيمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا خَاتِمَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ لَكَفَتْهُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالشِّيرَازِيُّ فِي الْأَلْقَابِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنِ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الْآيَةَ، كَانَ لَهُ نُورٌ مِنْ عَدَنِ أَبْيَنَ إِلَى مَكَّةَ حَشْوُهُ الْمَلَائِكَةُ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: غَرِيبٌ جِدًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَنْ حَفِظَ خَاتِمَةَ الْكَهْفِ كَانَ لَهُ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ لَدُنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ وَقَالَ: إِنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا أَثَرٌ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ آخِرُ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْكَهْفُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ، وَلَعَلَّ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا مَا يَنْسَخُهَا وَلَا يُغِيِّرُ حُكْمَهَا، بَلْ هِيَ مُثْبَتَةٌ مُحْكَمَةٌ، فَاشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ فَرَوَى بِالْمَعْنَى على ما فهمه.
(3/377)
1
كهيعص (1)
سورة مريم
أَخْرَجَ النَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ بِمَكَّةَ سُورَةُ كهيعص. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ مَرْيَمَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ قَالَ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ اللَّهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ كهيعص فَبَكَى النَّجَاشِيُّ حَتَّى أخضل لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ القصّة بطولها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
 
[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
قَوْلُهُ: كهيعص قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ هَذِهِ الْحُرُوفَ مُقَطَّعَةً، وَوَصَلَهَا الْبَاقُونَ، وَأَمَالَ أبو عمرو الهاء وفتح الياء، وَعَكَسَ ذَلِكَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ، وَأَمَالَهُمَا جَمِيعًا الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَخَلَفٌ، وَقَرَأَهُمَا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَفَتْحَهُمَا الْبَاقُونَ. وَعَنْ خَارِجَةَ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَضُمُّ كَافَ، وَحَكَى عَنْ غَيْرِهِ أنه كان بضم هَا.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ ضَمُّ الْكَافِ وَلَا الْهَاءِ وَلَا الْيَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَحْسَنِ مَا فِي هَذَا، وَالْإِمَالَةُ جَائِزَةٌ فِي هَا وَفِي يَا، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ جَمَاعَةٌ. وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِهَا أَنَّهُ كَانَ يُشِمُّ الرَّفْعَ فَقَطْ. وَأَظْهَرَ الدَّالَ مِنْ هِجَاءَ: صَادْ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أبي عبيد وَأَدْغَمَهَا الْبَاقُونَ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ التَّفْخِيمَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْإِمَالَةَ فَرْعٌ عَنْهُ، فَمَنْ قَرَأَ بِتَفْخِيمِ الْهَاءِ وَالْيَاءِ فَقَدْ عَمِلَ بِالْأَصْلِ، وَمَنْ أَمَالَهُمَا فَقَدْ عَمِلَ بِالْفَرْعِ، وَمَنْ أَمَالَ أَحَدَهُمَا وَفَخَّمَ الْآخَرَ فَقَدْ عَمِلَ بِالْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمَحِلِّ هَذِهِ الْفَاتِحَةِ إِنْ جُعِلَتِ اسْمًا لِلسُّورَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهَا مَا بَعْدَهَا، قَالَهُ الفرّاء. واعترضه
(3/378)
1
الزَّجَّاجُ فَقَالَ: هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ كهيعص لَيْسَ هُوَ مِمَّا أَنْبَأَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَنْ زَكَرِيَّا، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ وَعَمَّا بُشِّرَ بِهِ، وَلَيْسَ كهيعص مِنْ قِصَّتِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَسْرُودَةً عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، فَقَوْلُهُ: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ. وَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكَ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ. قال الزجّاج: ذكر مرتفع بالمضمر، وَالْمَعَنَى: هَذَا الَّذِي نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا يَعْنِي إِجَابَتَهُ إِيَّاهُ حِينَ دَعَاهُ وَسَأَلَهُ الْوَلَدَ، وَانْتِصَابُ عَبْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِلرَّحْمَةِ قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: لِلذِّكْرِ. وَمَعْنَى ذِكْرِ الرَّحْمَةِ بُلُوغُهَا وَإِصَابَتُهَا، كَمَا يُقَالُ: ذَكَرَنِي مَعْرُوفُ فُلَانٍ، أَيْ: بَلَغَنِي. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ ذِكْرُ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ «عَبْدُهُ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَفَاعِلُ الذِّكْرِ هُوَ عَبْدُهُ، وَزَكَرِيَّا عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَقَرَأَ الْكَلْبِيُّ ذَكَرَ عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ عَبَدُهُ، وَقَرَأَ ابْنُ مَعْمَرٍ عَلَى الْأَمْرِ، وَتَكُونُ الرَّحْمَةُ عَلَى هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ زَكَرِيَّا، لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ رَحْمَةٌ لِأُمَّتِهِ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ رَحْمَةِ، وَقِيلَ: ذِكْرُ، وَقِيلَ: هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ زَكَرِيَّا. وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ كَوْنِ نِدَائِهِ هَذَا خَفِيًّا، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ، وَقِيلَ: أَخْفَاهُ لِئَلَّا يُلَامَ عَلَى طَلَبِهِ لِلْوَلَدِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَلِكَوْنِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: أَخْفَاهُ مَخَافَةً مِنْ قَوْمِهِ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ قَدْ صَارَ ضَعِيفًا، هَرِمًا، لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجَهْرِ قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: نَادَى رَبَّهُ، يُقَالُ: وَهَنَ يَهِنُ وَهْنًا إِذَا ضَعُفَ، فَهُوَ وَاهِنٌ، وَقُرِئَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، أَرَادَ أَنَّ عِظَامَهُ فَتَرَتْ وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَذَكَرَ الْعَظْمَ لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ، وَبِهِ قِوَامُهُ، وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ، فَإِذَا وَهَنَ تَدَاعَى وَتَسَاقَطَتْ قُوَّتُهُ، وَلِأَنَّ أَشَدَّ مَا فِي الْإِنْسَانِ صُلْبُهُ، فَإِذَا وَهَنَ كَانَ مَا وَرَاءَهُ أَوْهَنَ، وَوَحَّدَ العظم قصدا إِلَى الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِشُمُولِ الْوَهَنِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعِظَامِ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِإِدْغَامِ السِّينِ فِي الشِّينِ، وَالْبَاقُونَ بِعَدَمِهِ، وَالِاشْتِعَالُ فِي الْأَصْلِ: انْتِشَارُ شُعَاعِ النَّارِ، فَشَبَّهَ بِهِ انْتِشَارَ بَيَاضِ شَعَرِ الرَّأْسِ فِي سَوَادِهِ بِجَامِعِ الْبَيَاضِ وَالْإِنَارَةِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ، بِأَنْ حَذَفَ الْمُشَبَّهَ بِهِ وَأَدَاةَ التَّشْبِيهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مِنْ أَبْدَعِ الِاسْتِعَارَاتِ وَأَحْسَنِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ لِلشَّيْبِ إِذَا كَثُرَ جِدًّا قد اشتعل رأس فلان، وأنشد للبيد:
إن تَرِي رَأْسِي أَمْسَى وَاضِحًا ... سُلِّطَ الشَّيْبُ عَلَيْهِ فَاشْتَعَلَ
وَانْتِصَابُ شَيْبًا عَلَى التَّمْيِيزِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّ مَعْنًى اشْتَعَلَ: شَابَ.
قَالَ النَّحَّاسُ: قَوْلُ الْأَخْفَشِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فَعَلَ، وَالْمَصْدَرِيَّةُ أَظْهَرُ فِيمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْأَصْلُ اشْتَعَلَ شَيْبُ رَأْسِي، فَأُسْنِدَ الِاشْتِعَالُ إِلَى الرَّأْسِ لِإِفَادَةِ الشُّمُولِ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أَيْ: لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ خَائِبًا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، بَلْ كُلَّمَا دَعَوْتُكَ اسْتَجَبْتَ لِي.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَجْمَعَ فِي دُعَائِهِ بَيْنَ الْخُضُوعِ، وَذِكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَ زَكَرِيَّا هَاهُنَا، فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً غَايَةَ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ وَإِظْهَارِ الضَّعْفِ وَالْقُصُورِ عَنْ نَيْلِ مَطَالِبِهِ، وَبُلُوغِ مَآرِبِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ذِكْرُ مَا عَوَّدَهُ اللَّهُ مِنَ الْإِنْعَامِ
(3/379)
1
عَلَيْهِ بِإِجَابَةِ أَدْعِيَتِهِ، يُقَالُ: شَقِيَ بِكَذَا، أَيْ: تَعِبَ فِيهِ، وَلَمْ يُحَصِّلْ مَقْصُودَهُ مِنْهُ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي قَرَأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَأَبُوهُ عَلِيٌّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ «خَفَّتِ» بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ وَفَاعِلُهُ الْمَوالِيَ أَيْ: قَلُّوا وَعَجَزُوا عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الدِّينِ بَعْدِي، أو انقطعوا بالموت، مأخوذا من خفت القوم إذا ارتحلوا، وهذه قراءة شَاذَّةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «خِفْتُ» بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ ضمير يعود إلى زكريا، ومفعوله الموالي، ومن وَرَائِي مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ لَا بِخِفْتُ، وَتَقْدِيرُهُ: خِفْتُ فِعْلَ الْمَوَالِي مِنْ بَعْدِي. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَرائِي بِالْهَمْزِ وَالْمَدِّ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْهَمْزِ وَالْمَدِّ وَفَتْحِ الْيَاءِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قرأ بالقصر مفتوح الياء، مثل عصاي، والموالي هُنَا:
هُمُ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ يَرِثُونَ وَسَائِرُ الْعَصَبَاتِ مِنْ بَنِي الْعَمِّ وَنَحْوِهُمْ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي هَؤُلَاءِ مَوَالِيَ، قَالَ الشَّاعِرُ «1» :
مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا ... لَا تَنْشُرُوا «2» بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا
قِيلَ: الْمَوَالِي النَّاصِرُونَ لَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْمَخَافَةِ مِنْ زَكَرِيَّا لِمَوَالِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَقِيلَ: خَافَ أَنْ يَرِثُوا مَالَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَرِثَهُ وَلَدُهُ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمْ كَانُوا مُهْمِلِينَ لِأَمْرِ الدِّينِ، فَخَافَ أَنْ يَضِيعَ الدِّينُ بِمَوْتِهِ، فَطَلَبَ وَلِيًّا يَقُومُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرَّثُونَ، وَهُمْ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَعْتَنُوا بِأُمُورِ الدُّنْيَا، فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا وِرَاثَةَ الْمَالِ، بَلِ الْمُرَادُ وِرَاثَةُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْقِيَامُ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَقَدْ ثبت عن نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «نَحْنُ مَعَاشِرُ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرَّثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» . وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً الْعَاقِرُ: هِيَ الَّتِي لَا تَلِدُ لِكِبَرِ سِنِّهَا، وَالَّتِي لَا تَلِدُ أَيْضًا لِغَيْرِ كِبَرٍ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَا يَلِدُ عاقر أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ:
لَبِئْسَ الْفَتَى إِنْ كُنْتَ أَعْوَرَ عَاقِرَا «3»
............... .....
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ اسْمُ امْرَأَتِهِ أَشَاعَ بِنْتَ فَاقُودَ بْنِ مَيْلَ، وَهِيَ أُخْتُ حَنَّةَ، وَحَنَّةُ هِيَ أمّ مريم. وقال القتبي: هي أشاع بنت عمران، فعلى القول يَكُونُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا ابْنَ خَالَةِ أُمِّ عِيسَى، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونَانِ ابْنَيْ خَالَةٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أَيْ: أَعْطِنِي مِنْ فَضْلِكَ وَلِيًّا، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِطَلَبِ الْوَلَدِ لِمَا عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ صَارَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ فِي حَالَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهَا حُدُوثُ الْوَلَدِ بَيْنَهُمَا وَحُصُولُهُ مِنْهُمَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ ابْنَ بِضْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: بَلْ أَرَادَ بالوليّ الذي طلبه هو الولد، ولا مانع من سؤال من كَانَ مِثْلَهُ لِمَا هُوَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ يُكْرِمُ رُسُلَهُ بِمَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قَرَأَ أهل الحرمين والحسن وعاصم
__________
(1) . هو الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لهب.
(2) . في تفسير القرطبي (11/ 78) : لا تنبشوا.
(3) . وعجزه: جبانا فما عذري لدى كلّ محضر.
(3/380)
1
وحمزة وابن محيصن واليزيدي ويحيى بن المبارك «1» بِالرَّفْعِ فِي الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِلْوَلِيِّ وَلَيْسَا بِجَوَابٍ لِلدُّعَاءِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْجَزْمِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا جَوَابٌ لِلدُّعَاءِ. وَرَجَّحَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: هِيَ أَصْوَبُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ طَلَبَ وَلِيًّا هَذِهِ صِفَتُهُ فَقَالَ: هَبْ لِي الَّذِي يَكُونُ وَارِثِي. وَرَجَّحَ ذَلِكَ النَّحَّاسُ وَقَالَ: لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْمُجَازَاةِ، تَقُولُ: أَطِعِ اللَّهَ يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، أَيْ: إِنْ تُطِعْهُ يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ، وَكَيْفَ يُخْبِرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا، أَعْنِي كَوْنَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ وَلِيًّا يَرِثُهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَالْوِرَاثَةُ هُنَا هِيَ وِرَاثَةُ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ عَلَى مَا هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا سَلَفَ. وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ يَعْقُوبَ الْمَذْكُورَ هُنَا هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ يَعْقُوبُ بن ماهان أخو عمران بن ماهان، وبه قال الكلبي ومقاتل، وآل يَعْقُوبَ هُمْ خَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَؤُولُ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ لِلْقَرَابَةِ أَوِ الصُّحْبَةِ أَوِ الْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَنْبِيَاءُ وَمُلُوكٌ، وَقُرِئَ: يَرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ يَرِثُنِي. وَقُرِئَ وَأَرِثُ آلَ يَعْقُوبَ أَيْ: أَنَا. وقرئ أو يرث آل يعقوب بلفظ التخيير على أن المخيّر فاعل وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ فِي غَايَةِ الشُّذُوذِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أَيْ: مَرْضِيًّا فِي أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَقِيلَ: رَاضِيًا بِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ، وَقِيلَ: رَجُلًا صَالِحًا تَرْضَى عَنْهُ، وَقِيلَ: نَبِيًّا كَمَا جَعَلْتَ آباءه أنبياء يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى قَالَ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا النِّدَاءَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْمَلَائِكَةِ، لقوله في آل عمران: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ «2» ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: فَاسْتَجَابَ لَهُ دُعَاءَهُ، فقال: يا زكريا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ بيحيى وزكريا.
قَالَ الزَّجَّاجُ: سُمِّيَ يَحْيَى لِأَنَّهُ حَيِيَ بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي أُوتِيَهَا لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ:
مَعْنَاهُ لَمْ نُسَمِّ أَحَدًا قَبْلَهُ يَحْيَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مِثْلًا وَلَا نَظِيرًا، فيكون على هذا مأخوذ مِنَ الْمُسَامَاةِ أَوِ السُّمُوِّ، وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَفْضِيلَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَمْ تَلِدْ عَاقِرٌ مِثْلَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَفِي إِخْبَارِهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَهُ أَحَدٌ فَضِيلَةٌ لَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى تَسْمِيَتَهُ بِهِ، وَلَمْ يَكِلْهَا إِلَى الْأَبَوَيْنِ. وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ تَسْمِيَتَهُ بِاسْمٍ لَمْ يُوضَعْ لِغَيْرِهِ يُفِيدُ تَشْرِيفَهُ وَتَعْظِيمَهُ قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي: كيف أو من أين يكون لِي غُلَامٌ؟ وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارَ، بَلِ التَّعَجُّبَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، حَيْثُ يُخْرِجُ وَلَدًا مِنِ امْرَأَةٍ عَاقِرٍ وَشَيْخٍ كَبِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا يُقَالُ: عَتَا الشَّيْخُ يَعْتُو عِتِيًّا إِذَا انْتَهَى سِنُّهُ وَكَبُرَ، وَشَيْخٌ عَاتٍ إِذَا صَارَ إلى حال اليبس والجفاف، والأصل عتوّ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ فَأَبْدَلُوهُ يَاءً لِكَوْنِهَا أَخَفَّ، وَمِثْلُ مَا فِي الْآيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّمَا يُعْذَرُ الْوَلِيدُ وَلَا يُعْ ... ذَرُ مَنْ كَانَ فِي الزَّمَانِ عِتِيَّا
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَالْأَعْمَشُ عِتِيًّا بِكَسْرِ العين، وقرأ الباقون بضم
__________
(1) . قوله: (واليزيدي ويحيى بن المبارك) ، الصواب: ويحيى بن المبارك اليزيدي.
(2) . آل عمران: 39.
(3/381)
1
الْعَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَمَحَلُّ جُمْلَةِ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَمَحَلُّ جُمْلَةِ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا النَّصْبُ أَيْضًا عَلَى الْحَالِ، وَكِلَا الْجُمْلَتَيْنِ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِبْعَادِ وَالتَّعَجُّبِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أَيْ: كَيْفَ يَحْصُلُ بَيْنَنَا وَلَدٌ الْآنَ، وَقَدْ كَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا لَمْ تَلِدْ فِي شَبَابِهَا وَشَبَابِي، وَهِيَ الْآنَ عَجُوزٌ، وَأَنَا شَيْخٌ هَرِمٌ؟ ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ الْمُشْعِرِ بِالتَّعَجُّبِ وَالِاسْتِبْعَادِ بِقَوْلِهِ: قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ الْكَافُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، أَيْ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِ زَكَرِيَّا، ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: قالَ رَبُّكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ النَّصْبَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ:
قَالَ قَوْلًا مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ بذلك إِلَى مُبْهَمٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَأَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ مُسْتَأْنَفَةً مَسُوقَةً لِإِزَالَةِ اسْتِبْعَادِ زَكَرِيَّا بَعْدَ تَقْرِيرِهِ، أَيْ: قَالَ هُوَ مَعَ بُعْدِهِ عِنْدَكَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَهُوَ فَيْعَلٌ مِنْ هَانَ الشَّيْءُ يَهُونُ إِذَا لَمْ يَصْعُبْ وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الْمُرَادِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ: خَلْقُهُ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: فَخَلْقُ الْوَلَدِ لَكَ كَخَلْقِكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُ ابْتِدَاءً وَأَوْجَدَهُ مِنَ الْعَدَمِ الْمَحْضِ، فَإِيجَادُ الْوَلَدِ لَهُ بِطْرِيقِ التَّوَالُدِ الْمُعْتَادِ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ وَأَسْهَلُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْسِبْ ذَلِكَ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَوْنِهِ الْمَخْلُوقَ مِنَ الْعَدَمِ حَقِيقَةً بِأَنْ يَقُولَ: وَقَدْ خَلَقْتُ أَبَاكَ آدَمَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ لَهُ حَظٌّ مِنْ إِنْشَاءِ آدَمَ مِنَ الْعَدَمِ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةَ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَقَرَأَ سَائِرُ الْكُوفِيِّينَ وَقَدْ خَلَقْنَاكَ مِنْ قَبْلُ قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ عَلَامَةً تدلني على وقوع المسؤول وَتَحَقُّقِهِ وَحُصُولِ الْحَبَلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ تَعْرِيفُهُ وَقْتَ الْعُلُوقِ حَيْثُ كَانَتِ الْبِشَارَةُ مُطْلَقَةً عَنْ تَعْيِينِهِ.
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَهُ تَاقَتْ إِلَى سُرْعَةِ الْأَمْرِ، فَسَأَلَ اللَّهَ آيَةً يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى قُرْبِ مَا منّ به عليه، وقيل: طلب آية تدله عَلَى أَنَّ الْبُشْرَى مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا مِنَ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ أَوْهَمَهُ بِذَلِكَ، كَذَا قال الضحاك والسدّي، وهو بعيد جدّا قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ مُسْتَوْفًى، وَانْتِصَابُ «سَوِيًّا» عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: آيَتُكَ أَنْ لَا تَقْدِرَ عَلَى الْكَلَامِ وَالْحَالُ أنك سويّ الخلق ليس بك آفة تَمْنَعُكَ مِنْهُ، وَقَدْ دَلَّ بِذِكْرِ اللَّيَالِي هُنَا وَالْأَيَّامِ فِي آلِ عِمْرَانَ أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ وَهُوَ مُصَلَّاهُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَرْبِ، كَأَنَّ مُلَازِمَهُ يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ وَقِيلَ: مِنَ الْحَرَبِ مُحَرَّكًا، كَأَنَّ مُلَازِمَهُ يَلْقَى حَرَبًا وَتَعَبًا وَنَصَبًا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا قِيلَ: مَعْنَى أَوْحَى: أَوْمَأَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: إِلَّا رَمْزاً وَقِيلَ: كَتَبَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالْقُرَظِيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ مُنَبِّهٍ، وَبِالثَّانِي قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَحْيُ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
سِوَى الْأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا ... بَقِيَّةُ وَحْيٍ فِي بُطُونِ الصَّحَائِفِ
وَقَالَ عنترة:
(3/382)
1
كَوَحْيِ صَحَائِفَ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى ... فَأَهْدَاهَا لِأَعْجَمَ طمطميّ «1»
وأَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ سَبِّحُوا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مُفَسِّرَةٌ، وَالْمَعْنَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ بِأَنْ صَلُّوا، أَوْ أَيْ صَلُّوا، وَانْتِصَابُ بُكْرَةً وَعَشِيًّا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَشِيُّ يُؤَنَّثُ، وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ إِذَا أُبْهِمَ. قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ الْعَشِيُّ جَمْعُ عَشِيَّةٍ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ هُوَ قَوْلُهُمْ سُبْحَانَ اللَّهِ فِي الْوَقْتَيْنِ، أَيْ: نَزِّهُوا رَبَّكُمْ طَرَفَيِ النَّهَارِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
كهيعص كَبِيرٌ هَادٍ أَمِينٌ عَزِيزٌ صَادِقٌ، وَفِي لَفْظٍ كَافٍ بَدَلُ كَبِيرٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَآدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي التَّوْحِيدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كهيعص قَالَ: كَافٌ مِنْ كِرِيمٍ، وَهَاءٌ مِنْ هَادٍ، وَيَاءٌ مِنْ حَكِيمٍ، وَعَيْنٌ مِنْ عَلِيمٍ، وَصَادٌ مَنْ صَادِقٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كهيعص هُوَ الْهِجَاءُ الْمُقَطَّعُ الْكَافُ مِنَ الْمَلِكِ، وَالْهَاءُ مِنَ اللَّهِ، وَالْيَاءُ وَالْعَيْنُ مِنَ الْعَزِيزِ، وَالصَّادُ مِنَ الْمُصَوِّرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ كهيعص فَحَدَّثَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَافٌ هَادٍ عَالِمٌ صَادِقٌ» . وَأَخْرَجَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ عَلِيٍّ قَالَتْ: كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ يَا كهيعص اغْفِرْ لِي. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كهيعص قَالَ: الْكَافُ الْكَافِي، وَالْهَاءُ الْهَادِي، وَالْعَيْنُ الْعَالِمُ، وَالصَّادُ الصَّادِقُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي كهيعص وحم ويس وَأَشْبَاهِ هَذَا: هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ.
وَكَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَقَعَ بَيْنَ مَنْ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يَصِحَّ مَرْفُوعًا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَمَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مَا يُخَالِفُهُ، وَقَدْ يُرْوَى عَنِ الصَّحَابِيِّ نَفْسِهِ التَّفَاسِيرُ الْمُتَخَالِفَةُ الْمُتَنَاقِضَةُ فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ، فَلَا يَقُومُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حُجَّةً، بَلِ الْحَقُّ الْوَقْفُ، وَرَدُّ الْعِلْمِ فِي مِثْلِهَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ هَذَا فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ آخِرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ زَكَرِيَّا بْنُ أَزَرَ بْنِ مُسْلِمٍ، مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ دَعَا رَبَّهُ سِرًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي إِلَى قَوْلِهِ: خِفْتُ الْمَوالِيَ قَالَ: وَهُمُ الْعَصَبَةُ يَرِثُنِي نُبُوَّتِي وَنُبُوَّةَ آلِ يَعْقُوبَ، فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى فلما سمع النداء جاءه الشيطان فقال:
__________
(1) . «الطمطمي» : الأعجم الذي لا يفصح.
(3/383)
1
يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّ الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعْتَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ سَخِرَ بِكَ، فَشَكَّ وَقَالَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ يَقُولُ مِنْ أَيْنَ يَكُونُ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ، قَالَ اللَّهُ: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي قال: الورثة، وهم عصبة الرجل. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ زَكَرِيَّا لَا يولد له فسأل ربه فقال: ربّ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قَالَ: يَرِثُ مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قَالَ: مِثْلًا. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: لَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ عِتِيًّا أَوْ عِسِيًّا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: عِتِيًّا قَالَ: لَبِثَ زَمَانًا فِي الْكِبَرِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هَرِمًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا قَالَ: اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ، وَفِي لَفْظٍ مِنْ غَيْرِ خَرَسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا:
فَأَوْحى إِلَيْهِمْ قَالَ: كَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ سَبِّحُوا قَالَ: أمرهم بالصلاة بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
 
[سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15]
يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
قَوْلُهُ: يَا يَحْيى هَاهُنَا حَذْفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: وَقَالَ اللَّهُ لِلْمَوْلُودِ يَا يَحْيَى، أَوْ فَوُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَبَلَغَ الْمَبْلَغَ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ فِيهِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا يَحْيَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فَوَهَبْنَا لَهُ وَقُلْنَا لَهُ يَا يَحْيَى. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ لِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ حِينَئِذٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا مُخْتَصًّا بِهِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُهُ الْآنَ، وَالْمُرَادُ بِالْأَخْذِ إِمَّا الْأَخْذُ الْحِسِّيُّ أَوِ الْأَخْذُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْ