غرائب القرآن ورغائب الفرقان5

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
  
 
الكتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف: نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1416 هـ - 1996 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 6
تحقيق : الشيخ زكريا عميران
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
 
" صفحة رقم 3 "
سورة الأنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء السابع عشر من أجزاء القرآن الكريم
( سورة الأنبياء مكية حروفها أربعة آلاف وثمانمائة وتسعون كلمها ألف ومائة وثمان وسبعون آياتها مائة وست عشرة ( بسم الله الرحمن الرحيم ( الأنبياء : ( 1 - 20 ) اقترب للناس حسابهم . . . .
" اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون " (
 
 
" صفحة رقم 4 "
القراآت ) قال ربي ( بالألف : حمزة وعلي وحفص. الباقون ) قل ( على الأمر ) نوحي ( بالنون مبنياً للفاعل : حفص غير الخراز. الباقون : بالياء مجهولاً. الوقوف : ( معرضون ( ح للآية مع احتمال كون ما بعده صفة أو استئنافاً. ) يلعبون ( لا لأن ) لاهية ( حال أخرى مترادفة أو متداخلة من ضمير ) يلعبون ( وهي لقلوبهم في المعنى. ) قلوبهم ( ط ) مثلكم ( ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول ) تبصرون ( 5 ) والأرض ( ز لاتفاق الجملتين مع استغناء الثانية عن الأولى ) العليم ( 5 ) شاعر ( ج لاختلاف النظم مع اتحاد المقول ) الأولون ( 5 ) أهلكناها ( ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول ) يؤمنون ( 5 ) لا تعلمون ( 5 ) خالدين ( 5 ) المسرفين ( 5 ) ذكركم ( 5 ) تعقلون ( 5 ) آخرين ( 5 ) يركضون ( 5 ط لتقدير القول ) تسألون ( 5 ) ظالمين ( 5 ) خامدين ( 5 ) لاعبين ( 5 ) من لدنا ( 5 على جعل ( إن ) نافية والأصح أنها للشرط ) فاعلين ( 5 ) زاهق ( لا ) تصفون ( 5 ) والأرض ( ط لأن ما بعده مبتدأ ) يستحسرون ( 5 ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً ، ) لا يفترون ( 5. التفسير : قال جار الله : اللام في قوله ) للناس ( إما صلة لاقترب أو تأكيد لإضافة الحساب إليهم كقولك في أزف رحيل الحي أزف للحي الرحيل ، فيه تأكيد إن من جهة تقديم الحي ومن جهة إظهار اللام ، ثم تزيد تأكيداً آخر من جهة وضع ضمير الحي مضافاً إليه الرحيل ، موضع لام التعريف فيه فتقول : أزف للحي رحيلهم. والمراد اقترب للناس وقت حسابهم وهو القيامة كقوله ) اقتربت الساعة ) [ القمر : 1 ] فإذا اقتربت الساعة فقد إقترب ما يكون فيها من الحساب وغيره ، كأنه لما هدد في خاتمة السورة المتقدمة بقوله ) فستعلمون ( بين في أول هذه السورة أن وقت ذلك العلم قريب. فإن قيل : كيف وصف بالاقتراب وقد مضى دون هذا القول أكثر من سبعمائة عام فالجواب أن كل ما هو آتٍ قريب ، وإنما البعيد الذي دخل في خبر كان قال القائل : شعر فلا زال ما تهواه أقرب من غد
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
على أنه لم يمض بعد يوم من ايام الله ) وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ) [ الحج : 47 ] ومما يدل على أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وقد وعد خاتم النبيين في آخر الزمان ، وفي ذكر هذا الاقتراب تنبيه للغافلين وزجر للمذنبين. فالمراد بالناس كل من له مدخل في الحساب وهم جميع
 
 
" صفحة رقم 5 "
المكلفين. وما روي عن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون فمن باب إطلاق اسم الجنس على بعضه بالدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين من الغفلة والإعراض وغيرهما. والذكر الطائفة النازلة من القرآن ، وقرئ ) محدث ( بالرفع صفة على المحل ، واحتجت المعتزلة بالآية على أن القرآن محدث ، وأجاب الأشاعرة بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف لأنه متجدد في النزول ، وإنما النزاع في الكلام النفسي الذي لا يصح عليه الإتيان والنزول. وزعم الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه أن حاصل قول المعتزلة في هذا المقام يؤل إلى قولنا القرآن ذكر ، وبعض الذكر محدث لأن قوله ) من ذكر من ربهم محدث ( لا يدل على حدوث كل ما كان ذكراً بل على أن ذكراً ما محدث ، كما أن قول القائل : لا يدخل هذا البلد رجل فاضل إلا يبغضونه ، لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلاً ، وإذا كان كذلك فيصير صورة القياس كقولنا ( الإنسان حيوان وبعض علم الميزان. قلت : إن المعتزلة لا يحتاجون في إثبات دعواهم إلى تركيب مثل هذا القياس لأن مدعاهم يثبت بتسنيم إحدى مقدمتي القياس الذي ركبه وهي قوله طبعض الذكر محدث ) لأنه نقيض ما يدعيه الأشاعرة وهو لا شيء من القرآن بمحدث. وإذا صدق أحد النقيضين كذب بالضرورة ، فظهر أن الإمام غلطهم في هذا القياس الذي ركبه ، ثم لقائل أن يقول تتميماً لقول المعتزلة : إذا ثبت أن بعض القرآن محدث لزم أن يكون كله محدثا لأن القائل قائلان : أحدهما ذهب إلى قدم كله ، والثاني إلى حدوث كله ، ولم يذهب أحد إلى قدم بعضه وحدوث بعضه. قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة ) من ربهم محدث ( لموافقة قوله بعد هذا ) قل ربي يعلم ( وقال في الشعراء ) من ذكر من الرحمن محدث ) [ الآية : 5 ] لكثرة الرحيم فيها. فكان ( الرحمن بالرحيم ) أنسب. قوله تعالى ) يلعبون ( اللعب الاشتغال بما لا يعني قوله ) لاهية ( هي من لهى عنه بالكسر إذا ذهل وغفل. وفيه إن هم كالأنعام بل هم لا يحصلون من الاستماع والتذكير إلا على مثل ما تحصل هي عليه آذانهم تسمع وقلوبهم لا تعي ولا تفقه. ومعنى ) وأسروا النجو ( بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لها ولا يعلم أنهم متناجون وفي ( واو ) اسروا وجهان : أحدهما أن على لغة من يجوز إلحاق علامة
 
 
" صفحة رقم 6 "
التثنية والجمع بالفعل إذا كان مقدماً على فاعله ، وثانيهما وهو الأقوى أن الواو ضمير راجع إلى الناس المقدم ذكرهم و ) الذين ظلموا ( بدل منهم. أو هو منصوب المحل على الذم ، أو هو مبتدأ خبره ) أسروا النجوى ( مقدماً عليه. وعلى التقادير أراد وأسروا النجوى هءلاء فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم ثم أبدل من النجوى قوله ) هل هذا إلا بشراً ( إلى قوله ) وأنتم تبصرون ( أي أتقبلون سحره وتحضرون هناك وأنتم ترون أنه رجل مثلكم ، أو تلعمون أنه سحر وأنتم من أهل البصر والعقل ؟ وجوز بعضهم أن يكون قوله ) هل هذا ( إلى آخره مفعولاً لقالوا مضمراً ، وإنما أسروا نجوى هذا الحديث لأنهم أرادوا شبه التشاور فيما بينهم تحرياً لهدم أمر النبي كما جاء في كلام الحكماء. ويرفع أيضاً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( استعينوا على حوائجكم بالكتمان ) ويجوز أن يسروا بذلك ثم يقولوا للرسول والمؤمنين : إن كان ما تدعون حقاً فأخبرونا بما اسررنا. من قرأ ) قال ربي ( فعلى حكاية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قال : إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فإن ربي عالم بذلك ، وإنه من وراء عقابه يصف نفسه في بعض المواضع بأنه يعلم السر وذلك حين يريد تخصيصه بعلم الغيب ، ووصف نفسه ههنا بأنه يعلم القول. قال جار الله : هذا آكد لأنه عام يشمل السر والجهر ، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة ، وأقول هذا إذا كان اللام في القول للاستغراق ، أما إذا كان للجنس فلا يلزم زيادة العلم إذ لا دلالة للعام على الخاص. بل نقول : العلم بالسر يستلزم العلم بالجهر بالطريق الأولى فلا مزية لإحدى العبارتين على الأخرى ) وهو السميع العليم ( خصص علمه بالمسموعات أولاً ثم عمم وقال الإمام قدم ( السميع ) على ( العليم ) لأنه لا بد من استماع الكلام أولاً ثم من حصول العلم بمعناه. قلت : هذا قياس للغائب على الحاضر قوله ) بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر ( معنى هذه الإضطرابات مع ملاحظة ما قبلها أنهم أنكروا أولاً كون الرسول من جنس البشر ، ثم كأنهم قالوا : سلمنا ذلك ولكن الذي ادعين أ ، ه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة ، وليس كل ما هو خارق للعادة معجزاً فقد يكون سحراً هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن العادة ، لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فإنا ندعي أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضغاث أحلام وهي الأحلام المختلطة التي لا أصل لها وقد مر في سورة يوسف. سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده ؟ سلمنا أنه كلام فصيح ولكنه لا يتجاوز فصاحة الشعراء ، وإذا كان حال هذا المعجز هكذا. ) فليأتنا بآية ( لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات ) كما أرسل الأولون ( اي كما أى الأولون بالآيات لأن إرسال الرسل متضمن لإتيانهم بالآيات. ومن تأمل في هذه الأقوال المحكية عن أولئك الكفرة علم أ ، ها كلام مبطل متحير هائم في أودية الضلال وألا يكفي في إعجاز القرآن أنهم عدلوا حين تحدوا به عن
 
 
" صفحة رقم 7 "
المعارضة بالحروف إلى المقارعة بالسيوف. ثم بين أن الآيات التي يقترحونها لا فائدة لهم فيها لأنهم أعتى من الأمم السالفة وأنهم ما آمنوا عند مجيء الايات المقترحة فأهلكوا لأجل ذلك رافهم يؤمنون ( مع شدة شكيمتهم فيه معنى الإنكار أي لا يؤمنون ألبتة وحينئذ يجب إهلاكهم ، ولكن قد سبق القول من الله أن هذه الأمة أمنوا من عذاب الاستئصال. ثم أجاب عن شبهتهم الأولى وهي قولهم ) هل هذا إلا بشر مثلكم ( بقوله ) وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً ( وقد مر مثله في آخر سورة يوسف وفي النحل. وإنما جاز الأمر بالرجوع إلى أهل الكتاب وإن كانوا من الكفرة ، لأن هذا الخبر قد تواتر عندهم وبلغ حد الضرورة على أن أهل الكتاب كانوا يتابعون المشركين في معادة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكان قولهم عندهم حجة. وقيل : أهل الذكر أهل القرآن. وضعف بأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكيف يؤمرون بالرجوع إلى قولهم ؟ واستدل كثير من الفقهاء بالآية في أن للعاميّ أن يرجع غلى فتيا العلماء ، وللمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر وأجيب بأنها خطاب مشافهة وارد في الواقعة المخصوصة ، وفي السؤال عن أهل الكتاب فلا يتعدى عن مورد النص وقد مر في آخر سورة يوسف الفرق بين قوله ) وما ارسلنا من قبلك ( وقوله ( وما أرسلنا قبلك ( بغير ( من ) وليس إلا ههنا وفي أوائل الفرقان ) وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ) [ الآية : 20 ] ثم أكد كون الرسل من جنس البشر بقوله ) وما جعلناهم جسداً ( الآية كأنهم قالوا : إنه بشر يأكل كما نأكل ويموت كما نموت ، فلعلهم اعتقدوا خلود الملائكة لا أقل من العمر الطويل ، ولا بد من تقدير مضاف محذوف اي وما جعلنا الأنبياء قبلك ذوي جسد غير طاعمين وإلا قيل : وما جعلنا لهم جسداً. ووحد الجسد لإرادة الجنس اي ذوي ضرب من الأجساد وأراد كل واحد منهم قوله : ( صدقناهم الوعد ( أصله في الوعد فنصب بنزع الخافض ، ثم فسر الوعد بقوله ) فأنجيناهم ومن نشاء ( وهم المؤمنون ، ثم نبههم على عظيم نعمه عليهم بقوله ، ) لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم ( أي شرفكم وصيتكم ، أو فيه بيان مكارم الآخلاق التي بها يبقى الذكر الجميل مع الثواب الجزيل ، ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال ) وكم قصمنا ( والقصم القطع الكبير وهو الذي يبين تلاؤم الأجزاء ، وإذا لم يبين فهو الفصم بالفاء ، وذلك أن القاف حرف شديد والفاء رخو لوحظ جانب المعنى في اللفظ ومعنى ) من قرية ( من أهل قرية لقوله روأنشأنا بعدها قوماً آخرين ( وللضمائر في قوله ) فلما أحسوا ( إلى آخر القصة. والمراد بالإحساس الإدراك بحاسة اللمس أو علم لا شك فيه كالمحسوس الشماهد. والركض ضرب الدابة بالرجل كأنهم ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم حين أدركتهم مقدمة العذاب ، قال الجوهري :
 
 
" صفحة رقم 8 "
الركض تحريك الرجل على الدابة استحثاثاً لها ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا ، فعلى هذا يجوز أن القوم كانوا يعدون على أرجهلم فقيل لهم لا تركضوا. والقائل إما من الملائكة أو من المؤمنين أو يجعلون أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، أو أسمع رب العزة ملائكته هذا القول لينفعهم في دينهم ، أو ألهم الله الكفار ذلك فحدثوا به أنفسهم : ( وارجعوا غلى ما أترفتم فيه ( من العيش الهنيء والإتراف إبطار النعمة ) لعلكم تسألون ( غداً عما جرى عليكم وعلى أموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو أجلسوا في مجالسكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم بما تأمرون وماذا ترسمون فينفذ فيهم أمركم ونهيكم ، أو يسألكم الناس مستعينين بتدابيركم بآرائكم ، أو يسألكم الوافدون وأرباب الطمع مستمطرين سحاب أكفكم إما لأنهم كانوا أسخياء ولكن سمعة ورياء ، إما لأنهم بخلاء وفي كل هذه الوجوه تهكم بهم وتوبيخ لهم ) فما زالت تلك ( الدعوى وهي قولهم ) يا ويلنا ( لأن المولول كأنه يدعو الويل ) دعواهم ( الأول اسم ( ما زال ) والثاني خبره أو بالعكس. والدعوى بمعنى الدعوة وقد مر في قوله ) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] والحصيد المحصود كقوله ) منها قائم وحصيد ( شبهوا بالزرع المستأصل والنار التي تخمد فتصير رماداً أي جعلناهم مشبهين بالمحصود والخامد ، ووحد ) حصيداً ( لأن المراد زرعاً حصيداً ، ولأن ( فعيلاً ) قد يستوي فيه الواحد والجمع ، عن ابن عباس أن الآية نزلت في حضور وسحول قريتين باليمن تنسب غليهما الثياب. وفي الحديث كفن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ثوبين سحوليين. وروى حضوريين بعث الله غليهم نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم فكأن القوم حصدوا بالسيف وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء بالثارات الأنبياء. قال أهل النظم : لما بين إهلاك كثير من القرى لأجل ظلمهم وتكذيبهم منها اللتان رواهما ابن عباس ، أتبعه ما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً ومجازاة لا عبثاً ولا مجازفة فقال : ( وما خلقنا السماء والأرض ( الاية أي وما سوينا هذا لسيقف المرفوع والمهاد الموضوع ) وما بينهما ( من الأركان والمواليد كما تسوي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم للهو أو اللعب ، وإنما سويناهما لغايات صحيحة ومنافع للخلق دينية ودنيوية كما مر طرف منها في أول ( البقرة ) ويمكن أن يقال : المقصود من سياق الآية تقرير نبوة محمد والرد على منكريه لأنه ظهر المعجز عليه ، فإن كان صادقاً فهو المطلوب ، وإن كان كاذباً كان إظهار المعجز عليه من باب اللعب وهو منفي عنه سبحانه. قال القاضي عبد الجبار : فيه دليل على أنه لا يخلق اللعب وكل قبيح وإلا كان لاعباً وعورض بمسألتي العلم والداعي. ثم بين أن
 
 
" صفحة رقم 9 "
السبب في ترك اتخاذ اللهو اللعب ليس هو العجز والضعف ولكن لأن الحكمة تنافيه ، معنى ) من لدنا ( من جهة قدرتنا وقيل : اللهو الولد بلغة اليمن أو المرأة ، وقيل : من لدنا اي من الملائكة لا من الإنس رداً على من قال : عزير ابن الله والمسيح ابن الله. ويحتمل أن يقال من لدنا أي من عندنا على سبيل الخفية فلا تعرفونه ولا ستمعون اسمه فيكون الرد شاملاً لكل من ادعى الله ولداً ولو من الملائكة. ثم اضرب عن اتخاذ اللهو واللعب فوصف نفسه بما يضاد فعل العبث قائلاً ) بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو ( يعني الباطل ) زاهق ( اي ففاجأ الدمغ زهوق الباطل ، قال علماء المعاني : هذا من باب استعارة المحسوس للمعقول بجامع عقلي : فأصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام لأن القذف الرمي بنحو الحجارة ، والدمغ من دمغه إذا شجه حتى بلغت الشجة الدماغ ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل ، والدمغ لإذهاب الباطل بجامع الزهوق ، ثم وبخهم ونعى عليهم بما وصفوه بالولد وغير ذلك مما لا يجوز عليه وينافي وجوب الوجود بما وصفوا رسوله به من السحر والشعر وغير ذلك من الأوصاف المضادة للرسالة فقال ) ولكم الويل مما تصفون ( اي تصفونه به. ثم بين كمال قدرته ونهاية حلمه وحكمته فقال ) وله من السموات والأرض ( والمراد بمن عنده الملائكة المقربون والمقصود عندية الشرف والرتبة. فأما عندية المكان ففيها بحث طويل. قال الزجاج : ( لا يستحسرون ( أي لا يتعبون ولا يمسهم الإعياء. قال جار الله : كان الأبلغ في وصفهم أن يينفي عنهم أدنى الحسور ولكنه ذكر بلفظ المبالغة وهو ( استفعل ) لبيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور ، وأنهم أحقاء بتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا ومع ذلك لا يعدُّونها تعباً عليهم. ثم أكد ذلك بقوله ) يسبحون الليل والنهار ( منصوبان على الظرفية ) لا يفترون ( لا يلحقهم الفتور والكلال. وحاصل الآية أؤن الملائكة مع غاية شرفهم ونهاية قربهم لا يستنكفون عن طاعة الله ، فكيف يليق بالبشر مع ضعفهم ونقصهم أن يتمردوا عن طاعته ؟ وقد مر في أول سورة البقرة استدلال مفضلي الملائكة على الأنبياء بهذه الآية وبغيرها فلا حاجة إلى إعادته عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال : قلت لكعب الأحبار : أرايت قول الله عز وجل ) يسبحون الليل والنهار ولا يفترون ( ثم قال : ( جاعل الملائكة رسلاً ) [ فاطر : 1 ] ( أولئك عليهم لعنة الله والملائكة ) [ البقرة : 161 ] أليس الرسالة واللعن ما نعين لهم عن التسبيح ؟ أجاب كعب بأن التسبيح لهم كالنفس لنا لا يمنعهم عن الاشتغال بشيء آخر. واعترض بأن ىلة التنفس فينا مغايرة للسان فلهذا صح اجتماع التنفس والتكلم. وأجيب بأ ، ه لا استبعاد في أن يكون لهم ألسن كثيرة ، أو يكون المراد بعدم الفتور أنهم لا يتركون التسبيح في أوقاته اللائقة به. التأويل : اقترب لأهل النسيان أن يحاسبوا أنفسهم ) ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع
 
 
" صفحة رقم 10 "
قلوبهم لذكر الله ) [ الحديد : 16 ] ( وما يأتيهم من ذكر ( وعظ وتذكير من عالم رباني ) محدث ( إلهامه إلا أنكروه عليه ونسبوه إلى التخليط ونحوه ) وما جعلناهم جسداً ( فيه أن الله قادر على أن لا يجعل النبي الولي ذا جسد ولكن اقتضت حكمته كونهم ذوي أجساد آكلين للطعام فإن الطعام للروح الحيواني الذي هو مركب الروح الإنساني كالدهن للسراج ، وبالقوى الحيوانية تتم الكمالات النفسانية وتدرك المحسوسات وتستفاد العلوم المستندة إلى الإحساس والتجربة وتفصيله أكثر من أن يحصى. قال بعض المشايخ ، لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً غلى الله ) وما كانوا خالدين ( والسر فيه أن يعلموا من الموت حقيقة اسم المميت كما علموا من الحياة حقيقة اسم المحيي. ) ثم صدقناهم الوعد ( الذي وعدناهم حين أهبطوا إلى الأرض ) فأنجيناهم ومن نشاء ( من متابعيهم من هاوية الهوان وعالم الطبيعة ) وأهلكناهم المسرفين ( الذين اسرفوا على أنفسهم بالكون إلى أسفل سافلين الطبائع. ) وكم قصمنا من ( أهل ) قرية ( قالت ) فلما أحسوا بأسنا ( وهي شدة قطع التعلق عن الكونين فإن الفطام عن المألوف شديد ) لا تركضوا ( منا بل ففروا إلينا ) وارجعوا ( غلى التنعمات الروحاينة ) ومساكنكم ( الصلية ) لعلكم تسألون ( عزة وكرامة ) وما خلقنا ( سموات الأرواح وأرض الأجساد ، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار من غير غاية ، وإنما خلقناها لتكون لطفنا وقهرنا ) بل نقذف بالحق على الباطل ( للحق ثلاث مراتب : مرتبة أفعال الحق ومرتبة صفات الحق ومرتبة ذات الحق ، ففي كل مرتبة يتجلى الحق فيها للعبد ، ارهق باطل تلك المرتبة عن العبد حتى إذا تجلى له بأفعاله ذهب عنه باطل الأفعال ، وإذا تجلى له بصفاته ذهب باطل صفاته ، وإذا تجلى له بذاته في ذاته فيقول : أنا الحق وسبحاني والويل لمن لم يذهب باطله بإحدى هذه المراتب فيبقى متصفاً بالوجود المجازي. ( الأنبياء : ( 21 - 50 ) أم اتخذوا آلهة . . . .
" أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين أولم ير الذين كفروا أن السماوات
 
 
" صفحة رقم 11 "
والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون "
( القراآت )
إلا نوحي إليه ( بالنون : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ) إني إله ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ابن ذكوان. ) ألم ير ( بغير واو : ابن كثير الآخرون بواو متوسطة بين همزة الاستفهام والفعل ونظائرها كثيرة ) ترجعون ( بفتح التاء وكسر الجيم : يعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان. ) ولا تسمع ( من الاسماع خطأ بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) الصم بالنصب : ابن عامر. الآخرون على الغيبة من السماع. ) الصم ( بالرفع ) مثقال حبة ( بالرفع على ( كان ) التامة وكذلك في سورة لقمان : أبو جعفر ونافع. الباقون بالنصب .
 
 
" صفحة رقم 12 "
الوقوف : ( ينشرون ( 5 ) لفسدتا ( ج للابتداء ) سبحان ( للتعظيم مع فاء التعقيب تعجيلاً للتنزيه ) يصفون ( 5 ) يسالون ( 5 ) آلهة ( ط ) برهانكم ( ج لاتحاد المقول من غير عاطف ) قبلي ( ط ) لا يعلمون ( 5 لا لأن ما بعده مفعول ) معرضون ( 5 ) فاعبدون ( 5 ) سبحانه ( ط ) مكرمون ( 5 ط لأن ما بعده صفة بعد صفة ) يعملون ( 5 ) ولا يشعفون ( 5 لا للاستثناء ) مشفقون ( 5 ) جهنم ( ط ) الظالمين ( 5 ) ففتقناهما ( ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار ) حي ( ط ) يؤمنون ( 5 ) يهتدون ( 5 ) محفوظاً ( ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال ) معرضون ( 5 ) والقمر ( ط ) يسبحون ( 5 ) الخلد ( ط ) الخالدون ( 5 ) الموت ( ط ) فتنة ( ط ) ترجعون ( 5 ) هزوا ( ط ) آلهتكم ( ج لاحتمال الواو الإستئناف والحال ) كافرون ( 5 ) من عجل ( ط ) فلا تستعجلون ( 5 ) صادقين ( 5 ) ينصرون ( 5 ) ينظرون ( 5 ) يستهزئون ( 5 ط ) من الرحمن ( ط ) معرضون ( 5 ) من دوننا ( ط فصلاً بين الاستفهام والإخبار ) يصبحون ( 5 ) العمر ( ط ) من أطرافها ( ط ) الغالبون ( 5 ) بالوحي ( ط لاستئناف ولا يسمع بالياء التحتانية والوصل أجوز لتتميم المقول ، ومن قرأ على الخطاب وقف لأنه خرج عن المقول ) ينذرون ( 5 ) ظالمين ( 5 ) شيئاً ( ط ) أتينا بها ( ط ) حاسبين ( 5 ) للمتقين ( 5 لا لاتصال الصفة ولا يخفى أنه يحتمل النصب أو الرفع على المدح فيجوز أن لا يوصل. ) مشفقون ( 5 ) أنزلناه ( ط ) منكرون (. التفسير : إنه سبحانه بدأ في أول السورة بذكر المعاد ثم انجر الكلام إلى النبوات وما يتصل بها سؤالاً وجواباً فختم الكلام بالإلهيات لأنها المقصود بالذات فقال على سبيل الإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها بواسطة ( أم ) المنقطعة ) أم اتخذوا آلهة من الأرض ( نسبت غلى الأرض كما يقال ( فلان من مكة ) لأنها اصنام تعبد من الأرض ، لأن الالهة على ضربين أرضية وسماوية. أو أراد أنها من جنس الأرض لأنها تنحت من حجر أو تعمل من جوهر آخر أرضي. ويقال : أنشر الله الموتى ونشرها اي أحياها. ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات كأ ، هم بإدعائهم لها الإلهية أدعوا لها الإنشار وإن كانوا منكرين البعث فضلاً عن قدرة الأصنام عليه لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور. والإنشار من جملة المقدورات بالدلائل الباهرة وفيه باب من التهكم والتسجيل وغشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده ، لأن الاقتدار على الإبداء والإعادة من لوازم الإلهية. ومعنى ) هم ( افادت الخصوصية كأنه قيل : أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم ، وفيه رمز إلى أن الأمر المختص بالاهتداء هو وحده. ولما قدم الإنكار شرع في دليل التوحيد فقال : ( لو كان فيهما ( أي في السموات والأرض وقد مر ذكرهما ) آلهة إلا
 
 
" صفحة رقم 13 "
الله ( اي غير الله. قال النحويون : إلا ههنا بمعنى لتعذر حمل إلا على الاستثناء لأنها تابعة لجمع منكور غير محصور ، والاستثناء لا يصح إلا إذا كان المستثنى داخلاً في المستثنى منه لولا الاستثناء وقد يقال : إن ( إلا ) في هذه المادة لا يمكن أن تكون للاستثناء لأنا لو حملناها على الاستثناء لصار المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله لم يحصل الفساد. وللمفسرين في تفسير الآية طريقان : أحدهما حمل الغائب على الشاهد والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة غير الواحد الذي هو فاطرهما ) لفسدتا ( وفيه دلالة على أمرين : الأول وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحداً
والثاني أن لاي كون ذلك الواحد إلا إياه لقوله رغير الله ( وإنما وجب الأمر أن لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وثانيهما طريق التمانع بأن يقال : لو فرضنا غلهين واراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه ، فإن وقع مرادهما لزم اجتماع الضدين في محل واحد ، وإن لم يقع مرادهما لزم عجزهما ، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر فذلك الآخر عاجز لا يصلح لإلهية. والاعتراض على هذا التقدير من وجهين : الأول أن اختلافهما في الإرادة أمر ممكن والممكن لا يجب أن يقع. والثاني أن الفساد في السموات والأرض كيف يترتب على اختلافهما وفي الجواب طريقان : أحدهما الرجوع إلى التفسير الأول وهو إحالة الأمر على ما هو الغالب المعتاد من أن الملك عقيم ولا يجتمع فحلان على شول ، والشول جماعة النوق التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية ، فلا بد من وقوع التنازع والاختلاف وحدوث الهرج والمرج عند ذلك. الطريق الثاني العدول إلى ضرب آخر من البيان ، وهو أن اتفاق الإلهين على مقدور واحد محال لأن كلاً منهما مستقل بالتأثير كامل في القدرة ، فإذا وقع المقدور بأحدهما استحال أن يقع بالآخر مرة أخرى على أنه لو اراد كل واحد منهما أن يوجده لا بعينه فهذه إرادة مبهمة لا تصلح للتأثير ، فلا بد من الاختلاف وقد عرفت حاله ولزوم الفساد حينئذ ظاهر ، لأن كل ما يصدر عن إلهين عاجزين أو غله عاجز لم يكن على الوجه الأصلح والنمط الأصوب ، بل العاجز لا يصلح للإيجاد اصلاً فلا يوجد على ذلك التقدير شيء من الممكنات وهو الفساد الكلي. ومنهم من يقرر دليل التمانع على وجوه أخر منها : أنا لو قدرنا إلهين فهل يقدر كل واحد منهما على أن يمنع صاحبه عن مراده أم لا ؟ فإن قلت : يقدر. كان كل منهما مقهوراً للآخر ، وإن قلت : لا يقدر فقد ثبت عجز كل واحد
 
 
" صفحة رقم 14 "
منهما. ومنها أن أحدهما هل يقدر على أن يستر شيئاً من أفعاله عن الآخر أو لا ؟ فإِن قدر فالمستور عنه جاهل عاجز وإلا فالأول عاجز. ولا يخفى ما في أمثال هذين الوجهين من الضعف لأن عدم القدرة على المحال لا يسمى عجزاً ولهذا لا يمكن أن يقال : إنه تعالى عاجز عن خلق مثله أو إنه إذا أوجد شيئاً نفذت قجرته عن خلق ذلك الشيء وحصل له عجز. ومن الطاعتين في دليل التمانع من فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله كما تزعم عبدة الأصنام لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على وجوه التدبير والتصرف لأنفسها فضلاً عن غيرها. ولقائل أن يقول : إن الآلهة لو كانت منفردة بالتدبير يلزم الفساد. أما أنها لو كانت وسائط أو معاونة لإله الأعظم كما تزعم عبدة الأوثان فمن أين يلزم الفساد. واعلم أنا قد بينا دلائل التوحيد في مواضع من هذا الكتاب ولا سيما في سورة البقرة في تفسير قوله ) وإلهكم إله واحد ) [ الآية : 163 ] ولنا في هذا المقام طريقة أخرى ما أظنها وطئت قبلي فأقول وبالله التوفيق : إن الوحدة من صفات الكمال وقد ركز ذلك في العقول حتى إن كل عامل مهما تم له أمر بواحد لم يتعد فيه إلى اثنين ، وإذا اضطر إلى الشركة والتعاون راعى فيه الأبسط فالأبسط لا يزيد العدد إلا بقدر الافتقار وعلى هذا مدار الأمور السياسية والمنزلية هذا في المؤثر. وأما في الأثر فلا ريب أنه استند إلى ما هو بسيط حقيقي لم يكن فيه إلا جهة واحدة افتقارية وإذا استند إلى ما فوق ذلك كان فيه من الجهات الافتقارية بحسب ذلك فيكون النقص تابعاً لقلة جهات الافتقار وكثرتها ، وكل مرتبة للممكنات تفرض من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر والمواليد ، فإن كان مبدأ تلك السلسلة الطويلة واحداً كانت الجهات الاعتبارية الافتقارية فيها أقل مما لو كان المبدأ أزيد من واحد. وهذه قضية يقينية إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه سبحانه أراد أن يدفع هذا النقص من الممكنات و ( لو ) هذه بمعنى ( أن ) والمراد أن هذا انلقص والفساد لازم لوجود ىلهة غير الله سواء كان الله من جملتهم أم لا ، ولن يرضى العاقل بما فيه نقصه وفساده فوجب أن لا يعتقد إلهاً غير الله وهذه النتيجة هي المراد بقوله ) فسبحان الله رب العرش عما يصفون ( من الأنداد والشركاء فتكون هذه الآية نظيره قوله ) ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً ) [ الزمر : 29 ] وفيه قول زيد بن عمرو بن انفيل حين فارق قومه : أرباً واحداً أم الف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعاً
كذلك يفعل الرجل البصير
ثم أكد تفرده بالإِلهية بقوله ) لا يسأل عما يفعل ( وفيه رد على الثنوية والمجوس
 
 
" صفحة رقم 15 "
الذين أثبتوا لله شريكاً فاعلاً للشرور والآلام ، وذلك أنهم طلبوا الحكمة في أفعال الله تعالى فقالوا : لو كان مدبر العالم واحداً لم يخص هذا بأنواع الخيرات من الصحة والغنى وذلك بأصناف الشرور من المرض والفقر ، فذكر سبحانه أن الاعتراض على أفعاله ينافي الديانة وأن له أن يفعل ما يشاء ولا مجال للسؤال عن أفعاله ، فكل من الأشاعرة والمعتزلة سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت ، ولكنهم حملوا عدم جواز السؤال على مأخذ آخر. أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن أفعاله لا تعلل بالمصالح والأغراض ولم بحكم الماليكة أن يفعل في مخلوقاته ما شاء فإن من تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت ، وكيف يتصور في حقه استحقاق الذم واستحقاق المدح له قديم ؟ وما يثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات. وكما أ ، ذاته غير معللة بشيء فكذلك صفاته وأفعاله ، وإنه غير محتاج غلى الأسباب والوسائط والأغراض والمقاصد. وأما المعتزلة فقد قالوا : إنه تعالى عالم بقبح المقابح وعالم بكونه غنياً عنها ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح. وإذا عرف المكلف إجمالاً أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب وجب أن يسكت عن ( لم ) وإذا كان الملوك المجازيون لا يسألهم من في مملكتهم عما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيباً وإجلالاً لهم مع جواز الخطأ والزلل عليهم ، فملك الملوك ورب الأرباب أولى بأن لا يسال عن أفعاله مع ما ركز في العقول من أن كل ما يفعله فهو حسن مشتمل على الغايات الصحيحة. ثم زاد الإلهية تأكيداً بقوله ) وهم يسألون ( وفيه رد على منكري التكليف الذاهبين إلى أن العباد لا يسألون عما فعلوا في دار الدنيا قالوا : إن التكليف أمر غير معقول لأنه إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته غلى الفعل والترك وهو محال لأن صدور الفعل عن المكلف يستدعي الترجيح فالتكليف بالترجيح في حال عدم الترجيح تكليف بالمحال ، وإما أن يتوجه حال الرجحان ويكون الفعل حينئذ واجب الوقوع فيكون التكليف عبثاً. وأيضاً التكليف بما هو معلوم الوقوع لله عبث لأنه واجب الوقوع وبما هو غير معلوم الوقوع تكليف بما لا يطاق ، وأيضاً سؤال العبد لعبد إن لم يكن فيه فائدة فعبث ، وإن ، كان فيه فائدة فإِن عادت إلى الله تعالى كان محتاجاً مستكملاً ، وإن عادت غلى العبد فالله تعالى قادر على إيصالها إليه من غير واسطة التكليف ، على أن السؤال إن كان لأجل إيصال الضرر فذلك لا يليق بالكريم الرحيم ، وجوابهم أن السباب والوسائط معتبرة في كل شيء من عالم الأسباب حتى الثواب والعقاب ، على أن حاصل الشبهات يرجع إلى أن المنكر كأنه قال : إنه تعالى لم كلف عباده ولم كلفهم مالا يطيقون وهو يناقص القاعدة الممهدة أنه لا يسال عما يفعل. ثم كرر رأم اتخذوا من دونه آلهة ( استفظاعاً لكفرهم وليرتب عليه قوله ) قل هاتوا برهانكم ( على ذلك عقلاً أو نقلاً. أما العقل فقد مر أنه يقضي بعدم الشريك حذراً من
 
 
" صفحة رقم 16 "
الفساد ، وأما النقل فقوله ) هذا ذكر من معي ( هو من إضافة المصدر إلى المفعول أي عظة لأمتي. عن ابن عباس واختاره القفال والزجاج أنه اراد هذا هو الكتاب المنزل على من معي من الأمة وهذا هو الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وأممهم يعني التوراة والإنجيل والزبور والصحف والكل وارد في معنى التوحيد ونفي الشركاء. وعن سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله ) وذكر من قبلي ( صفة للقرآن ايضاً لأنه اشتمل على أحوال الأمم الماضية كما اشتمل على أحوال هذه الأمة. ثم ختم الآية بقوله ربل أكثرهم ( تنبيهاً على أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد وهو عدم العلم وفقد التمييز بين الحق والباطل ، فلذلك أعرضوا عن استماع الحق وطلبه ، وفي لفظ الأكثر غشارة إلى أن فيهم من يعلم ولكنه يعاند ، أو أجري لفظ الأكثر على الكل على عادة الفصحاء كي لا يكون الكلام بصدد المنع. ثم قرر آي التوحيد خصوصاً قوله ) هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ( على أحد التفسيرين بقوله ) وما أرسلناك ( الآية. ثم رد على خزاعة وأمثالهم القائلين بأن الملائكة بنات الله بقوله ) وقالوا اتخذ الرحمن ولداً ( ثم نزه نفسه عن ذلك بقوله ) سبحانه ( ثم أخبر عما هم عليه في الواقع وهو أن الملائكة عباد الله ) مكرمون ( مقربون ) لا يسبقونه بالقول ( أي بقولهم اي يتبعون قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله ) وهم بأمره يعملون ( فهم التابعون لأمر الله في أقوالهم وافعالهم ) يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ( وقد مر تفسيره في ( طه ) وفي آية الكرسي ) ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ( كقوله في طه ) لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً ) [ طه : 109 ] وقد مر البحث فيه. قال في الكشاف ) وهم من خشيته مشفقون ( أي متوقعون من أمارة بخلاف البشر فإنهم لا يتوقعون ذلك غلا من أمارة قوية. ويحتمل أن يقال : إنهم يخشون الله ومع ذلك يحذرون من أن تلك الخشية يقع فيها تقصير. عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه رأى جبرئيل عليه السلام ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله عز وجل. ثم نبه على غاية عظمته ونهاية جبروته بقوله ) ومن يقل منهم إني إله من دونه ( فيحتمل أن يدعي الإلهية لنفسه دون الله أو يدعي أنه إله مع الله أي بعد مجاوزة إلهيته وهذا على سبيل الفرض والتقدير كقوله ) ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) [ الأنعام : 88 ] وفي قوله ) فذلك ( دون أن يقول فهو تبعيد للمشرك الاحد عن ساحة عزته وفيه تفظيع لأمر الشرك وتهديد عظيم لمن أشرك ، وأراد بالظلم ههنا الشرك ، والمعتزلة عمموه والأول أظهر. ثم عدل في أدلة التوحيد إلى منهج آخر من البيان وهو الاستدلال بالآفاق
 
 
" صفحة رقم 17 "
والأنفس قائلاً ) أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض ( أي جماعة السموات وجماعة الأرض ) كانتا تقاً ففتقناهما ( الرتق بالسكوت السد. رتقت الشيء فارتتق أي التأم ومنه امرأة رتقاء ومصدرها الرتق بالتحريك ، والفتقاء ضدها أي كانتا مرتوقتين فجعلناهما مفتوقتين. عن ابن عباس في رواية عكرمة وهو قول الحسن ، وقتادة أن المراد كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. ومثله قول كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ، ثم خلق ريحاً توسطتهما فحصل الفتق ، وقال أبو صالح ومجاهد : كانت السموات متلاصقات لا فرج بينها ففتقها الله بأن جعلها سبعاً وكذلك الأرضون. وعنابن عباس في رواية أخرى وعليه كثير من المفسرين ، أن السموات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر. ويشبه أن يراد بالسموات على هذا التفسير السحب نظيره قوله ) والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع ) [ الطارق : 12 ] ويؤيده قوله عقيبه ) وجعلنا من الماء كل شيء حي ( وقيل : إنهما جمع السموات وإن كان نزول المطر من السماء الدنيا فقط باعتبار الجهة لأن جهتها هي جهتين ، أو باعتبار أن كل قطعة منها سماء فيكون كقولهم ( ثوب أخلاق ) ( وبرمة أعشار ) وقريب من هذا قول من قال : المعنى أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما الله تعالى بإظهار النور فيهما كقوله ) وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) [ يس : 37 ] وقال أبو مسلم الاصفهاني : الرتق حالة العدم إذ ليس فيها ذوات متميزة فكأنها أمر واحد متصل متشابه ، والفتق الإِيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض فيكون كقوله ) فاطر السموات والأرض ) [ الأنعام : 14 ] والفطر الشق. وعن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثنية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة ، والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة ولتغير الفصول وفيه بعد. وههنا سؤال : وهو أن الكفار متى رأوهما رتقاً حتى صح هذا الاستفهام للتقرير ؟ كيف وقد قال الله تعالى ) ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ( ؟ [ الكهف : 51 ] والجواب على الأقوال الأخيرة ظاهر فإن فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات أو فتقهما بتنفيذ النور فيهما وإظهاره عليهما أمور محسوسة ، وكذا إدخالهما من العدم غلى الوجود مما يشهد به الحس السليم والعقل المستقيم. وأما على القولين الأولين فلعلهم علموا ذلك من أهل الكتاب وكانوا يقبلون قولهم لما بينهما من التوافق في عداوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال صاحب الكشاف في الجواب : إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد ، أو أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من
 
 
" صفحة رقم 18 "
مخصص وهو القديم سبحانه. قوله ) وجعلنا من الماء كل شيء حي ( قال السكاكي صاحب المفتاح : اي جعلنا مبدأ كل حي من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. واعترض عليه بأنه كيف يصح ذلك وآدم من تراب والجن من نار والمشهور أن الملائكة ليست أجساماً مائية ؟ وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء ، والجن من نار خلقها منه ، وآدم من تراب خلقه منه. وقال صاحب الكشاف : إنما قال خلقنا كل شيء حي من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله ) خلق الإنسان من علق ( وجوز أن لا يكون الجعل بمعنى الخلق بل يكون بمعنى التصيير متعدياً إلى مفعولين ، فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه. وقال في التفسير الكبير : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة قائمة فإن الدليل لا بد أن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب غلى المقصود ، فبهذا الكريق تخرج الملائكة والجن وآدم لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك : قلت : فعلى هذا يكون قوله ) وجعلنا ( داخلاً في حيز الاستفهام كأ ، ه قيل : ألم يروا أنا فتقنا السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل حيوان. ومن المفسرين من جعل الحي شاملاً للنبات أيضاً كقوله ) فأحيا به الأرض بعد موتها ) [ الجاثية : 5 ] قوله ) وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم ( قد مر تفسيره في أول ( النحل ) وباقي الآية كقوله في طه ) وسلك لكم فيها سبلاً ) [ الاية : 53 ] والفجاج جمع الفج وهو الطريق الواسع وهي صفة ) سبلاً ( قدمت عليه فصارت حالاً عنه أراد أنه حين خلقها جعلها على تلك الصفة فهذا كالبيان لما أبهم في قوله : ( لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً ) [ نوح : 20 ] والاهتداء إما حسي أي تهتدون غلى البلاد ، وإما عقلي وهو الاهتداء إلى وحدانية الله تعالى. ومنهم من زعم أن الضمير في قوله ) وجعلنا ( فيها عائد إلى الجبال منضمة فلما أغرق قوم نوح فرقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً. قال علماء الإسلام : ليس في قوله ) وجعلنا السماء سقفاً ( إن السماء للأرض كالسقف للبيت لأنها فوق لا يقابله مثله ، ولكنه أطلق عليها اسم السيقف لأنها كذلك في النظر بالنسبة غلى سكان كل بقعة. وفي المحفوظ وجهان : أي ) محفوظاً ( بقدرته من أن يقع على الأرض أو محفوظ بالشهب عن الشياطين. ) وهم عن آياتها معرضون ( فلا يتدبرون في ترتيبها ومسيراتها وطلوع أجرامها وغروبها واتصالاتها وانصرافاتها وتأثيراتها فيما دونها بإذن خالقها ومبدعها. قوله ) كل في فلك ( من مقلوب الكل. والفلك في اللغة ل شيء دائر وجمعه أفلاك. وزعم الضحاك أنه ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم. والأكثرون على أن الفلك جسم تدور النجوم عليه. ثم اختلفوا في حقيقته فقال الكلبي : ماء مكفوف أي مجموع تجري فيه الكواكب بدليل قوله ) يسبحون (
 
 
" صفحة رقم 19 "
والسباحة لا تكون إلا في الماء. ورد بأنه يقال فرس سابح إذا امتد في الجري. وقالت الحكماء : هو جسم كروي لا ثقيل ولا خفيف غير قابل للخرق والاتئام والنمور والذبول ، ولذلك منعوا من كون الفلك ساكناً ، والكواكب متحركة فيه كالسمك في الماء واعتذروا عن السباحة بأ ، ها في النظر كذلك. قال صاحب الكشاف : التنوين في كل عوض من المضاف إليه أي كلهم فورد عليه إشكالان : أحدهما أنه لم يسبق إلا ذكر الشمس والقمر فكيف يعود ضمير الجمع إليهما ؟ وأجاب بأن ذلك باعتبار كثرة مطالعهما كما يجمع بالشموس والقمار لذلك. ويمكن أن يقال : أقل الجمع اثنان أو أنه جعل النجوم تبعاً لذكرهما. الثاني أن كلهم ليسوا في فلك ولكن كل منهم في فلك آخر على ما يشهد به علم الهيئة ، وأجاب بأنه اراد جنس الفلك كقولك ( كسانا الأمير حلة ) ، أو اراد كل واحد. قلت : لو صح هذا التقدير الثاني لم يرد الإشكال الأول ولكنه ينافي قوله ) يسبحون ( مجموعاً. قال بعض الحكماء في هذا الجمع دلالة على أن الكواكب أحياء ناطقة. وأجيب بأنه إنما جمع جمع العقلاء لأن السباحة من فعلهم. قلت : قد يسبح كثير من الحيوانات ، فلعل المختص بالعقلاء هو السباحة الصناعية المكتسبة. وههنا بحث وهو أن الإمام فخر الدين الرازي استحسن قول بعض الأوائل أن الحركة السماوية صنف واحد وهي الآخذة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض كالحركات الغربية ، وكذا اختلافات تلك الحركات بسبب تلك المختلفات. قال : وهذا أقرب ليكون غاية سرعة الحركة للفلك الأعظم وغاية السكون للجرم الذي هو أبعد عن المحيط تحرك الجرم الواحد في زمان واحد بحركتين مختلفتين غلى جهتين فإنه يستلزم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين. قلت : أما حديث كون ما هو أبعد عن المركز اسرع حركة فإقناعي ، وأما لزوم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين فممنوع لأن التي تظهر في المتحرك هي الحركة المركبة الحاصلة من فضل الأسرع على الأبطأ لا كل من الحركتين ، وهذا مشاهد من حركة الملة إلى خلاف جهة حركة الرحى ، ومن حركة راكب السفينة فيها إلى خلاف جهة حركتها. وأما الذي استحسنه من كلام الأوائل فباطل لأنه لو كان كذلك لحصلت الأظلال اللائقة بكل جزء من أجزاء فلك البروج في يوم بليلة ، وكذا الارتفاعات المناسبة لها في البلاد المتفقة العرض وليس كذلك ، وقد ذكرنا هذا المعنى في كتبنا النجومية أيضاً. وحين فرغ من بيان طرف من هيئة الأجرام السماوية ومنافعها الدنيوية نبه بقوله ) وما جعلنا البشر من قبل الخلد ( على أن هذه الآثار لا تدوم ولا تخلق للبقاء وإنما
 
 
" صفحة رقم 20 "
خلقت للابتداء والامتحان ولكي يتوصل بها المكلفون إلى السعادات المدخرة لهم في الآخرة وهي دار الخلود. وبوجه آخر لما فرغ من دلائل الآفاق شرع في دلائل الأنفس فقال : ( وما جعلنا ( الآية ، عن مقاتل أن ناساً كانوا يقولون إن محمداً لا يموت فنزلت وقيل : لعلهم ظنوا أنه لو مات لتغير الشرع وهذا ينافي كونه خاتم الأنبياء ، فبين الله سبحانه أن حاله كحال من تقدمه من الأنبياء في المفارقة من دار الدنيا. والأكثرون على أن سبب النزول هو أنهم كانوا يقدرون أ ، ه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة لهذه وفي معناه قول القائل : فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا .
قوله ) كل نفس ذائقة الموت ( قد تقدم في آخر ىل عمران تفسيره. قوله ) ونبلوكم ( أي نعاملكم معاملة المختبر بما نسوق إليكم من الشرور والخيرات فيظهر عندهما صبركم وشكركم. وقدم الشر لأن الموت من باب الشرور في نظر أهل الظاهر. و ) فتنة ( مصدر مؤكد ) لنبلوكم ( من غير لفظه. وحين أثبت الموت الذي هو الفراق عن دار التكليف بين بقوله ) وإلينا ترجعون ( أن الجزاء على الأعمال ثابت مرئي ألبتة بعد المفارقة. استدلت المجسمة بقوله ) وإلينا ( أنه تعالى جسم ليمكن الرجوع إلى حيث هو ، والتناسخية بأن الرجوع مسبوق بالكون في المكان المرجوع إليه ، وجواب الأولين أنه أراد الرجوع إلى المبدأ غير الرجوع إلى دار الدنيا ، واعلم أن مثل هذه الآية سيجيء في سورة العنكبوت إلا أنه قال هناك ) ثم إلينا ( ولم يذكر قوله ) ونبلوكم بالشر والخير فتنة ( فكأن هذه الفاصلة قامت مقام التراخي في ( ثم ) قال السدي ومقاتل : مر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأبي جهل وأبي سفيان فقال أبو جهل لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف. فقال أبو سفيان : وما تنكر أن يكون نبياً في بني عبد مناف فسمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قولهما فقال لأبي جهل : ما اراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة ، وأما أنت يا أيا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية فأنزل الله تعالى ) وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك ( أي ما يتخذونك ) إلا هزوا ( ثم فسر ذلك بقوله ) أهذا الذي يذكر آلهتكم ( والذكر أعم من أن يكون بالخير أو بالشر إلا أنه إذا كان من العدو يفهم منه الذم لا الثناء ، والمعنى أنه يبطل معبوديتها وينكر عبادتها ويقبح أمرها ثم بين غاية جهالتهم وتعكيس قضيتهم بقوله ) وهم بذكر الرحمن هم كافرون ( قدم الجار والمجرور وكرر الضمير ليفيد أنهم عاكفون هممهم على ذكر آلهتم من
 
 
" صفحة رقم 21 "
كونها شفعاء وشهداء ، ولو ذكرها بخلاف ذلك ساءهم. وأما ذكر الرحمن الذي منه جلائل النعم ودقائقها وأصولها وفروعها فلا يخطر منهم ببال ، ولو ذكره ذاكر استهزؤا به حتى إن بعضهم يقولون : ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة فهم أحق أن يتخذوا هزواً. ويحتمل أن تكون الباء للسببية أي هم كافرون بسبب ذكرهم الرحمن لا على ما ينبغي ، فيكون الذكر في الموضعين بمعنى واحد. وقيل ) بذكر الرحمن ( أي بما أنزل إليك من القرآن وكانوا يستعجلون بعذاب الله كما يجيء من قوله ) ويقولون متى هذا الوعد ( فقدم لذلك أولاً مقدمة هي قوله ) خلق الإنسان ( أي هذا الجنس ) من عجل ( أراد أنه مجبول على إفراط العجلة كما مر في قوله ) وكان الإنسان عجولاً ) [ الإسراء : 11 ] وعن ابن عباس أنه آدم اراد أن يقوم حين بلغ الروح صدره ، وعن مجاهد أن آدم لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال : يا رب عجل خلقي قبل أن تغيب الشمس. وعن ابن عباس أيضاً أ ، ه النضر بن الحرث والأول أظهر. وقيل : العجل الطين بلغة حمير ، وقال الأخفش : اي من العجل في الأمر وهو قوله ) كن ( وقيل : هو على القلب أي خلق العجل من الإنسان ) سأريكم آياتي ( وهي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة ) فلا تستعجلون ( فإنها كائنة لا محالة في وقتها وقيل : هي أدلة التوحيد وصدق الرسول. وقيل : آثار القرون الخالية بالشام وايمن. سؤال : ( خلق الإنسان من عجل ( فيه أن الآدمي معذور على الستعجال لأنه له كالأمر الطبيعي الذي لا بد منه ، فلم رتب عليه النهي بقوله ) فلا تستعجلون ( ؟ وأجيب بأن فيه تنبيهاً على أن ترك العجلة حالة شريفة وخصلة عزيزة. وقال جار الله : هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها. آخر : القوم استعجلوا الوعد على جهة التكذيب ، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلاً في الحقيقة ؟ أجيب بأن الاستعجال على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه استعجال على أمر موهوم عندهم لا معلوم ) لو يعلم ( جواب ( لو ) مخحذوف و ) حين ( مفعول به ) ليعلم ( والمعنى لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه وهو وقت إحاطة النار بهم ، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال. ويجوز أن يكون ) يعلم ( متروك المفعول أي لو كانوا من أهل العلم لما كانوا مستعجلين ، وعلى هذا يكون ) حين ( منصوباً بمضمر أي حين لا يكفون يعلمون أنهم كانوا على الباطل ، وخص الوجوه والظهور بالذكر لأن نكاية النار في هذين العضوين اشد مع أن الإحاطة التامة تفهم منهما. ثم بين أن وقت مجيء العذاب غير
 
 
" صفحة رقم 22 "
معلوم لهم فإن مجيء الساعة مخفي عن المكلفين ليكونوا أقرب غلى تلاقي الذنوب فقال ) بل تأتيهم بغتة فتبهتهم ( قال جار الله : أي لا يكفونها بل تفجؤهم فتغلبهم. قلت : فائدة ( بل ) في هذه المقامات للانتقال من جملة إلى أخرى أهم من الأولى ، ويحتمل أن تكون ( لو ) لظاهر التمني والضمير للنار. وقيل : للساعة. وفي قوله ) ولا هم ينظرون ( تذكير بإمهالهم في دار الدنيا أي ثم يهلكون بعد طول الإمهال. ثم سلى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ) ولقد استهزئ ( الآية. وقد مرت في أول الأنعام. ولما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار ذكر أنهم في الدنيا ايضاً مفترقون غلى حراسة الله وكلاءته فقال ) قل من يكلؤكم بالليل ( إذا نمتم ) والنهار ( إذا تقلبتم في وجوه المصالح ) من الرحمن ( أي من بأسه وعذابه كالقتل والسبي ونحوهما. قيل : إنما خص الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك ونظيره ) ما غرك بربك الكريم ) [ الإنفطار : 6 ] ثم أضرب عن الأمر بالاستفهام قائلاً ) بل هم عن ذكر ربهم معرضون ( لا يخطرونه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه كأنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالئ ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. أما قوله ) أم لهم آلهة تمنعهم ( فذكر في الكشاف أنه إضراب عن الكلام السابق بما في ( أم ) من معنى ( بل ). وقال غيره : الميم زائدة وإنه استفهام مستأنف والتقدير ألهم ىلهة تمنعهم من دوننا من العذاب ، ومعنى ) من دوننا ( أن تلك الآلهة لا تتجاوز منعنا وحفظنا ثم استأنف فقال ) لا يستطيعون ( ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف اي تلك الآلهة ليست تقدر على نصر أنفسها فكيف تحفظ غيرها وتنصرها. وقوله ( ولا هم منا يصبحون ( قال المازني : هو من أصحبت الرجل إذا منعته. والأكثرون على أ ، ه من الصحبة بمعنى النصرة والمعونة ومنه قولهم ( صبحك الله ). والحاصل أن من لا يكون قادراً على دفع الآفات ولا يكون مصحوباً من الله بالإعانة والنصرة كيف يتوقع منه دفع ضر أو جلب نفع ولما ابطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلاً إلى بيان أن ما هم فيه من الحفظ والكلاءة والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله لا من مانع يمنعهم من الإهلاك ولا من ناصر يعينهم على أسباب التمتع سوى الله. وفي قوله ) حتى طال عليهم العمر ( إشارة إلى أنه لما امتدت أيام الروح والطمأنينة حسبوا أن ذلك لن يزول عنهم فاغتروا به ونسوا المنعم فاستأهلوا العقاب كما أشار إليه بقوله ) أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ( وفي لفظ الإتيان تصوير ما كان الله يجريه على أيدي السملمين الذين هم حزب الله من نقص ديار الكفر وتخريبها وعمارة حوزة الإسلام وتشييد مبانيه وقد مر مثله في آخر سورة الرعد. والاستفهام في قوله ) أفهم الغالبون ( للتقرير أي لنحن الغالبون وهم المغلوبون .
 
 
" صفحة رقم 23 "
ثم بين أن هذه الإنذارات ليست من قبل الرسول ولكنه بالوحي ، ثم مهد عذر الرسول إن لم تنجع فيهم رسالته بأن الصم لا يسمعون دعاء المنذر. واللام في ) الصم ( للعهد أي لا يسمع هؤلاء الإنذار فوضع ) الصم ( في موضع اسم الإشارة إيذاناً بأنهم هم الموسومون بالصمم عن استماع الحق ، ولو كان اللام للجنس لكان الأنسب إطلاق الدعاء لأن الصم لا تسمع الدعاء بشروا أو أنذروا. ثم ذكر أنهم لا يعترفون بالتقصير والظلم إلا عند معاينة العذاب فقال : ( ولئن مستهم نفحة ( وفي ذكر المس وبناء المرة من النفح الذي هو بمعنى القلة والنزارة. منه قولهم ( نفحه بعطية ) اي رضخة ، ( ونفحته الدابة ) وهو رمح يسير دليل على أنهم في غاية الضعف يجزعون من أدنى أثر من عذاب الله. قوله ) ونضع الموازين القسط ( المراد من الوضع الإحضار والقسط اي العدل صفة الموازين وإن كان موحداً كقولهم للقوم ( إنهم عدل ) قاله الفراء. وعن الزجاج أراد ذوات القسط. واللام في ) ليوم القيامة ( بمعنى الوقت كما يقال ( جئت لتاريخ كذا ). وقيل : أراد لأجل الحساب يوم القيامة. وقد مر تحقيق الوزن وما يتعلق به من الأبحاث في أول سورة الأعراف. يروي أن داود عليه السلام سال ربه أن يريه الميزان ، فلما رآه غشي عليه ثم افاق فقال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات ؟ فقال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة. وفي قوله ) فلا تظلم نفس شيئاً ( بحث بين المعتزلة والأشاعرة وقد مر مراراً ) وإن كان ( أي الوزن والعمل ) مثقال حبة من خردل أتينا بها ( أنت ضمير المثقال باعتبار إضافته إلى الحبة. قيل : الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال : حبة من خردل ؟ وأجيب بأن الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار ، والظاهر أنه أراد الحبة من حيث اللغة. وقوله ( من خردل ( بيان لها لأن الحبة أعم من أن تكون من الخردل أو من الحنطة أو من غيرهما ولكن المبالغة في الأول أكثر ، وذلك أن الخردلة سدس شعيرة وهي نصف سدس ثمن الدينار عند الحساب ونصف سدس سدس سدسه في الشرع ، والحبة ثمن تسع الدينار في عرف حساب فارس والعراق ، فمثقال حبة من خردل يكون على الوجه الأول ثمن تسع خردلة ، وعلى ما قلنا يكون هو الخردل بعينه. والحاصل أن شيئاً من الأعمال صغيراً كان أو كبيراً غير ضائع من علم الله وأنه يجازي عليه. رؤي الشبلي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : حاسبوني فدققوا
ثم منوا فأعتقوا
قال في التفسير الكبير : زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة
 
 
" صفحة رقم 24 "
يستحق بها خمسين جزءاً من الثواب فهذا الأقل منحبط بالأكثر كما كان. والآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط ، ولو كان الأمر كما قاله الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة. قلت : للجبائي أن يقول : الإتيان بالطاعة مشروط عندي بعدم الإحباط كما أن العقاب على المعصية مشروط عندكم بعدم العفو. ) وكفى بنا حاسبين ( كقوله ) وكفى بالله حسيباً ) [ النساء : 6 ] وحين فرغ من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء تسلية لنبيه وتثبيتاً وعظة لأمته وتذكيراً ، وقد مر قصة موسى إلا أنه أوجز فيها ههنا والموجز تقدمه الفصحاء غالباً ، ولأن موسى أقوى حالاً ومعجزة ، ولأن ذكر التوراة يناسب ما تقدم من قوله ) قل إنما أنذركم بالوحي ( وصف التوراة بأنها جامعة لكونها فرقانا يفرق به بين الحق والباطل ، وقد مر سائر تفاسير الفرقان في أول البقرة ) وضياء ( كقوله ) فيها هدى ونور ) [ المائدة : 44 ] ( وذكر للمتقين ( اي شرفاً وموعظة ، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم وقوله ( بالغيب ( إما حال من الرب أي حال كونه غائباً عنحسهم والله لا يغيب عنه شيء فيكون كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وإما حال منهم أي حال كونهم غائبين عن عذاب الآخرة وأهوالها ، أو غائبين عن الناس أي يخشون ربهم في الخلوات. ثم عظم شأن القرآن بقوله ) وهذا ذكر مبارك ( أي كثير البركة ) أنزلناه أفأنتم له منكرون ( أي أنتم دون سائر الناس مع علمكم بفصاحته وإعجازه تخصونه بالإنكار. ولا يخفى ما فيه من التوبيخ للعرب ومن داناهم. التأويل : ( أم اتخذوا آلهة ( من ارض البشرية ثم هم يحيون القلوب الميتة بل الله يحييها بنور ذكره وطاعته لو كان في سماء الروحانية وأرض البشرية ) آلهة إلا الله ( كالعقل والهوى ) لفسدتا ( كما فسد سماء أرواح الفلاسفة حين اثبتت عقولهم للواجب صفات لا تليق به ، وفسد أرض بشرية الطبائعية حين زلت قدمهم عن استعمال قوانين الشريعة بمقتضى هوى الطبيعة ) لا يسأل عما يفعل ( لأن أفعاله تعالى صادرة عن الحكمة والقدرة ) وهم يسألون ( لأن أفعالهم منشؤها الظلومية والجهولية ) لا يسبقونه بالقول ( لأنه ليس فيهم ما يخالف داعية العقل وهو الطبع الذي يجذب صاحبه إلى السفل ، ولهذا وصفهم بالإكرام ووصف بني آدم بالتكريم في قوله ) ولقد كرمنا بني آدم ) [ الإسراء : 70 ] ففي التكريم تكثير ليس في
 
 
" صفحة رقم 25 "
الإكرام والسبب أن أمر بني آدم أشكل وحالهم أصعب ) يعلم ما بين أيديهم ( من خجالة قولهم ) أتجعل فيها من يفسد فيها ) [ البقرة : 30 ] ( وما خلفهم ( من الأمر بسجود آدم والاستغفار لمن في الأرض ) أو لم ير الذين كفروا ( يعني أنهم رأوها في عالم الأرواح لأنها خلقت قبل الأجساد بألفي عام ، وفي رواية بأربعة ألاف سنة ) كانتا رتقاً ( أي كانت سموات الأرواح متعلقة بأرض القوالب ) ففتقناهما ( بالمفارقة وقطع التعلق ) وجعلنا من ( ماء حياة العلم ) كل شيء حي ( بالحياة الأبدية ) وجعلنا في الأرض ( أرض القالب ) رواسي ( هي هموم العلائق البدنية ) أن تميد بهم ( فلولاها لمالت كل نفس إلى عمالها وبطل الغرض من التكليف ، ويمكن أن يكون الرواسي إشارة إلى الأبدال الذين هم أوتاد الأرض بهم يرزق ويمطر الناس ) فجاجاً سبلاً ( هي طرق الإرشاد والتسليك ) وجعلنا ( سماء القلب ) سقفاً محفوظاً ( من وساوس شياطين الإنس والجن ) وهو الذي خلق ( ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس المعرفة وقمر الإسلام ) كل في فلك يسبحون ( فأهل الإسلام في فلك الشريعة ، وأهل الإيمان في فلك الطريقة ، وأهل الولاية في فلك اطوار الحقيقة ) كل نفس ذائقة الموت ( أما النفس الحيوانية فلأن من خواصها أن تصير الغذاء من جنسها فلا جرم إذا عجز الغذاء عن التشبيه بها لعجز القوة الغاذية حل أجلها ، وأما النفس الناطقة فلأن من خواصها أنها تصير من جنس غذائها وهو الكمالات العلمية والعملية التي هي فيوض ربانية يتجوهر الروح بجوهرها فيحصل له الفناء عن وجوده والبقاء بشهود ربه ) ونبلوكم ( بالمكروهات التي تسمونها شراً بالمحبوبات التي تحسبونها خيراً ) فتنة ( فربما كان الأمر عكس ما تصورتم ) وإلينا ترجعون ( اختياراً وقهراً ) وإذا رآك الذين كفروا ( فيه أن الأغيار لا ينظرون إلى الأخيار إلا بعين الإنكار ) خلق الإنسان من عجل ( بالنسبة غلى خلق السموات والأرض وما بينهما فإنها خلقت في ستة أيام وخمرت طينة آدم أربعين صباحاً مع أن فيها أنموذجاً من الكل واستعداداص لقبول الخلافة وقابلية تجلي الذات والصفات ومظهرية الكنز الخفي وأشار غلى هذه المعاني بقوله ) سأريكم آياتي ( اي في مظاهر الآفاق ومرايا أنفسكم بالتدريج وبالتربية في كل طور ) فلا تستعجلون ( فإن حد الاستكمال من المهد إلى اللحد بل من الأزل إلى الأبد وهذا منطق الطير لا يفهمه إلا سليمان الوقت. ويمكن أيضاً أن يقال : إن الروح الإنساني أول شيء تعلقت به القدرة وهذا معنى العجلة ) قل من يكلؤكم ( فيه أن ملوك الأرض لو حرسوهم ) بالليل والنهار ( من الخصوم والأعداء فمن لهم حتى يحفظونهم في ليل البشرية ونهار الروحانية من سطوات قهر الجلال الذي الرحمانية من صفاته كما أن الرحيمية من صفات الجمال ، فلو وكلهم بالخذلان إلى ظلمة البشرية بقوا في الجهل ، ولو وكلهم بالإضلال في نور المعقولات تاهوا في أودية الحيرة والحجب النورية ، والمنع من
 
 
" صفحة رقم 26 "
الحجب الظلمانية والجهل البسيط أسرع من إزالة الجهل المركب ) بل متعنا هؤلاء ( الجهال ) وآباءهم ( الذين علموهم تلك المعقولات التي صارت حجباً نورية لهم حتى اغتروا بظاهر الحال وأنكروا المعاد والشريعة. ثم بين أن الحق يغلب على الباطل ألبتة فقال ) أو لم يروا أنا نأتي الأرض ( البشرية ) ونضع الموازين ( ميزان الفضل قد نصب في الأزل ) نحن قسمنا ( ) تلك الرسل فضلنا ( وميزان العدل ينصب في الأبد ) ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ( فالأول كالبزرة والثاني كالثمرة. ( الأنبياء : ( 51 - 91 ) ولقد آتينا إبراهيم . . . .
" ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه
 
 
" صفحة رقم 27 "
غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين " ( القراآت ) جذاذاً بكسر الجيم ( : علي. الآخرون بضمها ) اف ( بفتح الفاء : ابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب ) أف ( بالكسر والتنوين : أبو جعفر ونافع وحفص. الباقون بالكسر من غير تنوين ) لنحصنكم ( بالنون : أبو بكر وحماد ورويس وبالتاء الفوقانية والضمير للصنعة أو للدرع لأنها مؤنثة سماعاً : ابن عامر ويزيد وحفص والمفضل وروح وزيد. الباقون بالياء التحتانية والضمير لداود عليه السلام أو للبوس والكل بتخفيف الصاد والرياح على الجمع : يزيد بطريق المفضل الآخرون على التوحيد. ) مسني الضر ( و ) عبادي الصالحون ( في آخر السورة مرسلة الياء : حمزة. الباقون بفتحها ) وأن لن ( يقدر بالياء مجهولاً : يعقوب ) ننجي ( بضم النون الواحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء : ابن عامر وعباس وأبو بكر وحماد. الآخرون من الإنجاء مخففاً. الوقوف : ( عالمين ( ج 5 لأن ( إذ ) يصلح ظرفاً لآتينا أو ) لرشده ( أو للعلم به مفعولاً لأذكر محذوفاً ) عاكفون ( 5 ) عابدين ( 5 ) مبين ( 5 ) لاعبين ( 5 ) فطرهن (. لواو الابتداء والحال أولى ) الشاهدين ( 5 ) يرجعون ( 5 ) الظالمين ( 5 ) إبراهيم (
 
 
" صفحة رقم 28 "
5 ) يشهدون ( 5 ) يا إبراهيم ( 5 ط ) فعله (. وفيه بعد ويجيء في التفسير ) ينطقون ( 5 ) الظالمون ( 5 لا للعطف ) على رؤوسهم ( ج لاتحاد المقصود مع إضمار القول ) ينطقون ( 5 ) ولا يضركم ( ط لاستئناف الدعاء عليهم ) من دون الله ( ط ) تعقلون ( 5 ) فاعلين ( 5 ) على إبراهيم ( 5 لا بناء على أن التقدير وقد أرادوا ) الأخسرين ( ج 5 للعطف والآية ) للعالمين ( 5 ) إسحق ( ط بناء على أن المراد ووهبنا له يعقوب حال كونه نافلة ) نافلة ( ط ) صالحين ( 5 ) الزكاة ( ج لاحتمال الاستئناف والحال ) عابدين ( 5 وكان ينبغي أن لا يوقف للعطف ولكنهم حكموا بالوقف لتمام القصة وكذلك أمثالها ) الخبائث ( ط ) فاسقين ( 5 لا بناء على أن التقدير وقد أدخلناه ) رحمتنا ( ط ) الصالحين ( 5 ) العظيم ( 5 ج للعطف مع الآية ) بآياتنا ( ط ) أجميعن ( 5 ) غنم القوم ( ج لاحتمال الواو بعده الاستئناف والحال ) شاهدين ( 5 لا للعطف بالفاء ) سليمان ( ج لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتحاد الكلام ) وعلماً ز لعطف المتفقين مع نوع عدول ) والطير ( ط ) فاعلين ( 5 ) من بأسكم ( ج للاستفهام مع الفاء ) شاكرون ( 5 ) فيها ( ط ) عالمين ( 5 ) دون ذلك ( ج لاحتمال الاستئناف والحال ) حافظين ( 5 ) الراحمين ( 5 ط للفاء وللآية ) للعابدين ( 5 ) وذا الكفل ( ط ) الصابرين ( 5 وقد يوصل لعطف ) وأدخلناهم ( على ) نجينا ( للقدرة ) في رحمتنا ( ط الصالحين 5 ) سبحانك ( قد يوقف لأجل ( أن ) ولكنه داخل في حكم النداء ) الظالمين ( ج 5 على ما ذكر في الوجهين فاستجبنا لهر لا لاتفاق الجملتين واتصال النجاة بالاستجابة ) من الغم ( ط ) المؤمنين ( 5 ) الوارثين ( 5 فاستجبنا لهر 5 لا مكان الفصل بين الإستجابة المعجلة وحصول الولد الموهوب على المهلة ) زوجه ( ط ) ورهباناً ( ط ) خاشعين ( ط ) للعالمين ( 5. التفسير : الرشد الاهتداء لوجوه المصالح في الدين والدنيا وقد يخص ههنا بالنبوة لقوله ) رشده ( ومعنى الإضافة أن لهذا الرشد شأناً ولقوله ) وكنا به عالمين ( وفيه أنه علم منه أسراراً عجيبة وأحوالاً بديعة حتى اتخذه خليلاً واصطفاه نبياً نظيره ) الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] وعلى هذا فمعنى قوله ) من قبل ( اي من قبل موسى وهارون قاله ابن عباس : وعلى الأول يحتمل هذا وأن يراد من قبل البلوغ حين استدل بالكواكب قاله مقاتل. وعن ابن عباس في رواية الضحاك حين أخذ الله ميثاق النبيين في صلب آدم. قالت الأشاعرة : أراد بإيتاء الرشد خلق ذلك فيه إذ لو حمل على أسباب ذلك تناول الكفار. أجاب الكعبي بأن هذا إنما يقال فيمن قبل لا فيمن رد ، نظيره بأن يعطي الأب كل واحد من ولديه ألفاً فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه فيقال : أغنى
 
 
" صفحة رقم 29 "
فلان ابنه فيمن ثمر المال ، ولا يقال مثله فيمن ضيع. واعترض بأن قبوله على هذا التقدير يكون جزءاً من مسمى الرشد وحينئذ لا يصح إستناد إيتاء الرشد إلى الله وحده ، وهذا بخلاف نص القرآن. والتمثال اسم للشيء الصمنوع مشبهاً بخلق من خلق الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء شبهته به ، وإسم ذلك الممثل تمثال جعل إبراهيم عليه السلام هذا التجاهل والتغابي ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيحلها لهم مع ما في هذا السؤال من تحقير آلهتهم وتسفيه أخلافهم. وفي قوله ) أنتم لها عاكفون ( دون أن يقول عليها كقوله ) يعكفون على أصنام لهم ) [ الأعراف : 138 ] نوع آخر من التجهيل والتوبيخ لأنه ادعى عليهم أنهم جعلوا العكوف مختصاً بها دون خالقها وخالق كل شيء ) قالوا وجدنا آبائنا لها عابدين ( لا يمكن لهم أن يتمسكوا بشيء آخر سوى التقليد فزيف طيقتهم بالتنبيه على خطئهم وخطأ أسلافهم فقال : ( لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ( لأن كل مذهب لا يستند إلى دليل كان صاحبه ضالاً أو في حكم ذلك. ثم إن القوم تعجبوا من تضليلهم مع كثرتهم ووحدته ومنعهم عما ألفوه وضروا به فقالوا ) أجئتنا بالحق ( أي بما ليس بهزل ودعابة ) أم أنت من اللاعبين ( فحينئذ عدل إبراهيم عن مجرد التنبيه إلى إثبات الدعوى بالبينة والدليل وجاهدهم أولاً باللسان قائلاً ) بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن ( الظاهر أن الضمير للسموات والأرض إلا أنه قيل : كونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم. وقوله ( وأنا على ذلكم من الشهداء ( فيه تأكيد وتحقيق لما قاله كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه ( أشهد إنه كريم أو لئيم ) لأن الشهادة خبر قاطع. وفيه أنه قادر على إثبات ما ادعاه بالحجج والبينات كما شاؤوا ثم أخبر أنه سيجاهدهم جهاداً بالفعل من غير تقية وخوف قال ) وتالله لأكيدن أصنامكم ( قال جار الله : في تاء القسم مع أنه عوض عن الباء زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من سهولة الكيد على يده لأن ذلك لصعوبته كان كالمقنوط منه خصوصاً في زمن نمرود مع شدة شكيمته وقوة سلطانه. قلت : لا ريب أن هذا مستبعد عادة ولكنه سهل لمن ايده الله ونصره كما قال علي رضي الله عنه : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة رحمانية. سؤال : الكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به فكيف يتصور ذلك في حق الأصنام ؟ وجوابه أنه قال ذلك بناء على زعمهم أنه يجوز ذلك عليها ، أو أراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أهمهم وأحزنهم. قال السدي : كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم : لو خرجت معنا ؟ فخرج معهم. فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي
 
 
" صفحة رقم 30 "
رجلي ، فلما بقي هو وضعفاء الناس نادى وقال الله لأكيدن أصنامكم. وروى الكلبي أن إبراهيم كان من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا غلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضاً ، فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لصحابه : إني أراني أشتكي عدا فذلك قوله في الصافات ) فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) [ الصافات : 88 ، 89 ] وأصبح من الغد معصوباً رأسه ، فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال سراً : أما والله لأكيدن أصنامكم ، فسمعه رجل واحد وأخبر به غيره وانتشر الخبر. وعلى الوجهين يصح قوله فيما بعد ) قالوا سمعنا فتى يذكرهم ( وروي أن آزر خرج به في عيد لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم وقالوا : إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا ، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنماً مصطفة وثمة صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه ) فجعلهم جذاذاً ( قال الجوهري : جذذت الشيء جذاً قطعته وكسرته ، والجذاذ ما كسر منه وضمه أفصح من كسره. قلت : فعلى هذا هو اسم جمع لا جمع ) إلا كبيراً لهم ( أي في الخلقة كما روينا. وقيل : في التعظيم. ويحتمل أن يكون جامعاً للأمرين. أما الضمير الواحد في قوله ) لعلهم إليه يرجعون ( فيحتمل عوده إلى إبراهيم أي جعلهم جذاذاً واستبقى الكبير رجاء أنهم يرجعون غلى دينه أو غلى السؤال عنه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بقوله ) بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم ( ويحتمل عوده الكبير كما ذهب إليه الكلبي. والمعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحاً والفأس على عاتقك ، وهذا بناء على ظنهم أن الأصنام قد تتكلم وتجيب ، على أن نفس ذلك الكبير كان دليلاً على فساد مذهبهم لأن الآلهة يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء لأنهم كانوا يعظمونها ويقولون : إن المستخف بها يلحقه ضرر عظيم ، فحين كسرها إبراهيم ولم ينله ضرر من تلك الجهة بطل ما اعتقدوه. فلما انكشفت لهم جلية الحال و ) قالوا من فعل هذا ( الكسر والحطم والاستخفاف ) بآلهتنا إنه لمن الظالمين ( المعدودين في جملة من يضع الشيء في غير موضعه لأنه وضع الإهانة مكان التعظيم ) قالوا سمعنا ( احتمل أن يكون القائل واحداً ، ونسب القول إلى الجماعة لأنه منهم ، واحتمل أن يكون جمعاً على الوجهين اللذين رويناهما ، أو لأنهم سمعوا منه قوله على وجه الاستهزاء ) ما هذه التماثيل ( والفعلان بعد ) فتى ( صفتان له إلا أن ، الأول ضروري ذكره لأنك لا تقول ( سمعت زيداً ) وتسكت حتى تذكر شيئاً مما تسمع ، والثاني ليس كذلك. والأصح أن قوله ) إبراهيم ( قاعل ) يقال ( لأن
 
 
" صفحة رقم 31 "
المراد الاسم لا المسمى وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أو منادى. ) قالوا ( اي فيما بينهم ) فأتوا به على أعين الناس ( الجار والمجرور في محل الحال اي بمرأى منهم ومنظر أو معايناً ومشاهداً شقال. في الكشاف : معنى الاستعلاء في ( على ) أنه يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه ) لعلهم يشهدون ( عليه بما سمع منه وبما فعله فيكون حجة عليه قاله الحسن وقتادة والسدي وعطاء عن ابن عباس. وقال محمد بن إسحاق : معناه لعلهم يحضرون عقوبتنا له ليكون ذلك زاجراً لهم عن الإقدام على مثل فعله. وههنا إضمار أي فأتوا به ثم ) قالوا أأنت فعلت هذا ( الظلم والاستخفاف ) بآلهتنا يا إبراهيم ( طلبوا منه الاعتراف ليقدموا على إيذائه ) فقال بل فعله كبيرهم ( وقوله ( هذا ( صفة كبيرهم. زعم الطاعنون في عصمة الأنبياء أن هذا القول من إبراهيم كذب وأكدوا قولهم بما جاء في الحديث ( إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات ) وللعلماء في جوابهم طريقان : أحدهما تسليم أنه كذب ولكنهم قالوا : الكذب ليس قبيحاً لذاته وإنما يقبح لاشتماله على مفسدة. وقد يحسن الكذب إذا اشتمل على مصلحة كتخليص نبي ونحوه ، وزيف هذا الطريق بأنا لو جوزنا أن يكذب النبي لمصلحة لبطل الوثوق بالشرائع ، فلعل الأنبياء أخبروا عما أخبروا لمصلحة المكلفين في باب المعاش مع أنه ليس للمخبر عنه وجود كما في الواقع. الطيق الثاني وعليه جمهور المحققين المنع من أنه كذب وبيانه من وجوه : الأول أنه من المعاريض التي يقصد بها الحق وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط في غاية الحسن ، أنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط فقلت له : بل كتبته أنت. كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع استهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي. الثاني أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزينة ، وكان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها. الثالث أن يكون ذلك حكاية لما يؤل إليه مذهبهم كأ ، ه قال : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبدو يدعى إلهاً أن يقدر على أمثال هذه الأفعال ، ويؤيد هذا الوجه ما يحكى أنه قال ) فعله كبيرهم هذا ( غضب أن تعبد معه هذه الصغار ، الرابع ما يروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله ) بل فعله ( ثم يبتدئ ) كبيرهم هذا ( أي فعله من فعله. الخامس عن بعضهم أنه يقف عند قوله ) كبيرهم هذا فاسئلوهم ( وأراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم. السادس أن في الكلام تقديماً وتأخيراً والتقديم ( بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم ). فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطاً
 
 
" صفحة رقم 32 "
بكونهم ناطقين ، فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين ، السابع قراءة محمد بن السميفع ) فعله كبيرهم ( بالتشديد أي فلعل الفاعل ) كبيرهم ( وفيه تعسف. وأما قول إبراهيم عليه السلام ) إني سقيم ( فلعله كان به سقم قليل وسوف يجيء تمام البحث فيه. وأما قوله لسارة ( إنها أختي ) فالمراد أنها أخته في الدين فلم يكن وقتئذ على وجه الأرض مسلم سواهما ) فرجعوا إلى أنفسهم ( حين نبههم على قبح طريقتهم ) فقالوا إنكم أنتم الظالمون ( لأنكم تعبدون من لا يستحق العبادة. وقال مقاتل : معناه فلاموا أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير. وقيل : أنتم الظالمون لأنفسكم إذا سألتم منه ذلك حتى أخذ يستهزئ بكم في الجواب. يقال : نكسته اي قلبته فجعلت أسفله أعلاه ، وانتكس انقلب ، وانتكاس الإنسان هو أن يكون رأسه من تحت فلهذا قال ) ثم نكسوا على رؤوسهم ( والمراد أنهم استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤوا بالفكرة الصالحة ، ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة قائلين ) لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ( وفيه أنهم رضوا بإلاهتها مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق. وقال ابن جرير : المعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم وبيان انتكاس الحجة قولهم ) لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ( فإن هذه حجة عليهم لا لهم. وقيل : المراد بانتكاس رؤوسهم إطراقهم خجلاً وانكساراً. ثم زاد إبراهيم في توبيخهم قائلاً ) افتعبدون ( الآية وقد مر في سورة سبحان أن ( أف ) صوت يدل على التضجر ، والام لبيان المتأفف به ، أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف وذلك أنه أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم. ) قالوا حرقوه ( المشهور أن الذي اشار بتحريقه هو نمرود بن كنعان ابن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح. وقال مجاهد : سمعت ابن عمر يقول : إنه رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وعن ابن جريج عن وهب أن الذي قال هذا القول قد خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. روى مقاتل أن نمرود وقومه أجمعوا على إحراقه فحبسوه ثم بنوا بيتاً كالحظيرة بكوثى وهي من قرى الأنباط وذلك قوله ) ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم ) [ الصافات : 97 ] ثم جمعوا له الحطب الكثير اربعين يوماً حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول : إن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم. فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ثم أخذوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فضجت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة إلا الثقلين ضجة واحدة : أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك ، فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : إن استغاث بأحد
 
 
" صفحة رقم 33 "
منكم فأغيثوه وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا ول