غرائب القرآن ورغائب الفرقان3

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
  
 
الكتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف: نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1416 هـ - 1996 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 6
تحقيق : الشيخ زكريا عميران
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
 
" صفحة رقم 3 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء السابع من أحزاء القرآن الكريم
( المائدة : ( 82 - 86 ) لتجدن أشد الناس . . . .
" لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم " ( ثم وصف شدة شكيمة اليهود ولين عريكه النصارى فقال ) لتجدن ( يا محمد أوكل من له اهلية الخطاب ) أشد الناس عداوة ( وقد تعلقت بها اللام في قوله ) للذين آمنوا ( كما تعلقت بالمودة فيما بعد .
و ظاهر الآية يدل على ان اليهود في غاية العداوة للمسلمين وكيف لا وقد نبه على تقدم قدمهم في العداوة بتقديمهم على الذين أشركوا وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله ) لكنه روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي أن المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على رسول لله ( صلى الله عليه وسلم ) وآمنوا به وم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين .
و قال آخرون : مذهب اليهود أنه يجب عليهم ايصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان ، بالقتل أو بغصب الماء أو بوجوه المكايد والحيل ، وليس النصارى مذهبهم ذلك بل الايذاء في دينهم حرام وهذا هو وجه التفاوت بالعداوة والمودة ، وقد أكد ذلك بوصف العداوة والمودّة بالأشد والأقرب .
وفي الآية من الفائدة أن التمرد والمعصية عادة لهم ففرغ قلبك يا محمد ولا تبال بمكرهم ولا تحزن على كيدهم .
ثم ذكر سبب ذالك التفاوت فقال ) ذلك بان منهم قسيسين ورهباناً ( القس والقسيس اسم لرئيس النصارى في العلم والدين وكأنه من القس وهو تتبع الشيء وطلبه .
قال قطرب : هو العالم بلغة الروم وهذا مما وقع فبه الوفاق بين اللغتين .
و قال عروة بن الزبيرضيعت النصارى الإنجيل وادخلت فيه ما ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين يسمى قسيساً ، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس .
و الرهبان جمع راهب كركبان وفرسان في راكب وفارس .
و قيل : إنه واحد وجمعه رهابين كقربان وقرابين ولكن النظام يأباه .
وأصله من الرهبة بمعنى الخوف من الله تعالى ، وإنما صارت الرهبانية
 
 
" صفحة رقم 4 "
ممدوحة في مقابلة قساوة اليهود وغلظتهم وإلا فهي مذمومة في نفسها لقوله تعالى ) ورهبانية ابتدعوها ) [ الحديد : 27 ] ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا رهبانية في الإسلام ) ههنا نكتة هي أن كفر النصارى حيث أنهم ينازعون في الإلهيات والنبوات جميعاً أغلظ في الحقيقة من كفر اليهود لأنهم لا ينازعون إلا في النبوات إلا بعضهم القائلين بأن عزيزاً ابن الله .
ثم إن النصارى لما يشتد حرصهم على طلب الدنيا وعلى الحياة وأقبلو على العلم والبراءة من الكبر خصهم الله تعالى بالمدح وذم اليهود حيث قال ) و لتجدنهم أحرص الناس على الحياة ) [ البقرة : 96 ] ( غلت أيديهم ) [ المائدة : 64 ] فتبين صحة قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) قال ابن عباس : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاف على اصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه إلى النجاشي وقال : أنه ملك صالح لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا اليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا .
فلما وردوا عليه أكرمهم وقال لهم : هل تعرفون شيئاً مما انزل عليكم ؟ قالوا : نعم .
فقرؤا وحوله القسيسون والرهبان فكلما قرؤا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. و قال آخرون : قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة هو وأصحابه ومعهم سبعون رجلاً بعثهم النجاشي وفداً إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم ثياب الصوف ؛ اثنان وستون من الحبشة وثمانية من من أهل الشأم وهم بحيرا الراهب وأبرهة وغيرهما ، فقرأ عليهم رسول الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا وأمنوا فنزلت والخطاب في ) ترى ( لكل راء .
و قد وضع الفيض الذي هو مسبب الامتلاء موضع الامتلاء وأصله تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض بعد الامتلاء ، ويحتمل ان يكون الدمع مصدر دمعت عينه وقصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء كأنّ الاعين تفيض بأنفاسها .
و معنى ) مما عرفوا من الحق ( أي مما نزل على محمد صلى الله عيه وسلم وهو الحق ف ( من ) الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع نشأ من معرفة الحق ، والثانية للبيان ويحتمل التبعيض يعني أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوا كله وأحاطوا بالسنة ؟ ) ربنا آمنا ( المراد إنشاء الايمان لا الإخبار عنه ) فاكتبنا مع الشاهدين ( مع امة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقد مر مثله في آل عمران .
) وما لنا ( إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع حصول موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بإدخالهم دار ثوابه مع الصالحين .
قالوا ذلك في أنفسهم أو فيما بينهم أو في جواب قومهم حين رجعوا إليهم ولاموهم .
و محل ) لانؤمن ( نصب على الحال نحو : مالك قائماً .
و العامل فيه معنى الفعل أي ما نصنع غير المؤمنين. و هو العامل أيضاً في ) ونطمع ( لكن مقيداً
 
 
" صفحة رقم 5 "
بالحال الأولى لأنك لو حذفتها وقلت : وما لنا ونطمع لا حلت ، ويحتمل أن يكون ) ونطمع ( حالاً من ) لا نؤمن ( كأنهم أنكروا أن لا يوحدوا الله وهم يطمعون في الثواب وأن يكون عطفاً على ) لا نؤمن ( أي ما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع ، أو ما لنا لا نجمع بين الإيمان وبين الطمع ) فأثابهم الله بما قالوا ( ظاهرة يدل على إنهم إنما استحقوا الثواب بمجرد القول ، ولكن فيما سبق من وصفهم بمعرفة الحق ما يدل على خلوص عقيدتهم فلا جرم لما انضاف إليه القول كل الإيمان .
و يحتمل أن يكون مأخوذاص من قولك : هذا قول فلان أي اعتقاده ومذهبه .
و روى عطاء بن عباس أن المراد بما سألوا من قولهم فاكتبنا مع الشاهدين .
قال أهل السنة : فيه دليل على أن المعرفة مع الإقرار توجب حصول الثواب ، وصاحب الكبيرة له المعرفة والإقرار فلابد أن يؤل حاله إلى هذا الثواب .
والمعتزلة سلموا ان القرار مع المعرفة يوجب الثواب ولكن بشرط عدم الإحباط .
التاويل : لقد اخنا ميثاق بني إسرائيل مع ذرات ذرّيات آدم عليه السلام ) و أرسلنا إليهم رسلاً ( بالأجساد في عالم الشهادة ، ومن الواردات الروحانية في عالم ال غيب ) فريقاً كذبوا ( يعني الإلهامات والواردات ) وفريقاً ( يقتلون في عالم الحس ) لقد كفر الذين قالوا ( النصارى أرادوا أن يسلكوا طريق الحق بقدم العقل فتاهوا في اودية الشبهات ، وأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سلكوا الطريق بأقدام جذبات الأولوهية على وفق المتابعة الجبيبية فأسقط عنهم براهين الوصال كلفة الاستدلال ، ولهذا كان الشبلي يغسل كتبه بالماء ويقول : نعم الدليل أنت .
و لكن الاشتغال بالدليل بعد الوصول ال المدلول محال فتحقق لهم ان عيسى بعد التزكية والتحلية صار قابلاً للفيض الإلهي فكان يخلق ما يخلق ويفعل ما يفعل بإذن الله ، كما ان المريا المحرقة تحرق بما قبلت من فيض الشمس ) إنه من يشرك بالله ( ظاهراً ) فقد حرم الله عليه الجنة ( ومن يشرك به باطناًحرم عليه القربة على لسان داود وعيسى ابن مريم .
هذا سر الخلافة فإن الأنسان الكامل المستحق للخلافة قبوله قبول الحق ورده رد الحق ) لا يتناهون عن المنكر ( سمى العصيان منكراً لأنه يوجب النكرة كما سمى الطاعة معروفاص لأنها توجب المعرفة ) ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً ( .
يعني أن تعارف الأرواح يُوجب ائتلاف الأشباح ، فالنصارى ببركة علمائهم وعبادهم وصفاء قلوبهم وخضوعهم ثبت لهم القرابة والمودة من أهل الإيمان وعرفوا الحق الذي سمعوه في الازل يوم الميثاق ، فأمنوا وذلك جزاء المحسنين الذين يعبدون الله ويشاهدونه بلوائح المعرفة وطوالع المحبة فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه .
 
 
" صفحة رقم 6 "
( المائدة : ( 87 - 100 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون "
( القراآت )
بما عقدتم ( بالتخفيف : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل ، وقرأ ابن ذكوان ) عاقدتم ( بالألف .
الباقون ) عقدتم ( بالتشديد ) من أوصط ( مثل ) مبصوطتان ) [ المائدة : 64 ] ( فجزاء ( بالتنوين ) مثل ( بالرفع : يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم عن المفضل .
) كفارة طعام ( بالإضافة : أبو جعفر ونافع وابن عامر .
الباقون ) كفارة ( بالتنوين ) طعام ( بالرفع ) فبما ( بغير ألف ابن عامر .
 
 
" صفحة رقم 7 "
الوقوف : ( ولا تعتدوا ( ط ) المعتدين ( ه ) طيباً ( ص لعطف المتفقتين ) مؤمنون ( ه ) الأيمان ( ج لااختلاف النظم مع اتحاد الكلام وفاء التعقيب .
) رقبة ( ط ) ثلاثة أيام ( ط ) حلفتم ( ط للإضمار أي حلفتم وحنثتم ) أيمانكم ( ط ) تشكرون ( ه ) تفلحون ( ه ) وعن الصلاة ( ج لابتداء الستفهام لأجل التحذير مع دخول الفاء فيه .
) منتهون ( ه ) واحذروا ( ط ) المبين ( ه ) ولأحسنوا ( ط ) المحسنين ( ه ) بالغيب ( ج ) أليم ( ه ) وأنتم حرم ( ط ) وبال أمره ( ط ) سلف ( ط ) منه ( ط ) انتقام ( ه ) وللسيارة ( ج لطول الكلام وتضاد المعنيين وإن اتفقت الجملتان لفظاً .
) حرما ( ط لإطلاق الأمر بالابتداء ) تحشرون ( ه ) والقلائد ( ط ) عليم ( ه ) رحيم ( ه ) البلاغ ( ط ) تكتمون ( ه ) كثرة الخبيث ( ج لاتفاق الجملتين مع وقوع العارض ) تفلحون ( ه .
التفسير : إنه سبحانه بعد استقصاء المناظرة مع أهل الكتابين عاد إلى بيان الأحكام فبدأ بحل المطاعم والمشارب واستيفاء اللذات كيلا يتوهم متوهم أن مدح القسيسين والرهبان يوجب إيثار طريقتهم في هذا الدين .
قال المفسرون : جلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً فذكر الناس ووصف القيامة ولم يزدهم على التخويف ، فرق الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون منهم أبوبكر وعلي وابن مسعود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي واتفقوا على ظان يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا الالنساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ويترهبوا ويجبوا المذاكير ، فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهم ( ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ) قالوا يا رسول الله وما اردنا إلا الخير .
فقال ( أني لم أؤمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم ، من رغب عن سنتي فليس مني ) .
ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما أني لست أمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولااتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان ، فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقايهم في الدريات والصوامع ، فأنزل الله هذه الآية ، فقالوا : يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها - وكانو حلفوا على ما اتفقوا عليه - فنزلت هذه الآية
 
 
" صفحة رقم 8 "
) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ( فهذا وجه اتصال الآيات .
فإن قيل ما الحكمة في قوله ) لاتحرّموا ( ومن المعلوم أن توسع الأنسان في اللذات والطيبات يمنعه عن الاستغراق في تحصيل السعادات الباقيات ، ولهذا قالت الحكماء : إذا شبعت الأجسام صارت الأرواح أجساداً ، وإذا جاعت الأجساد أرواحاً ؟ فالجواب ان الرهبانية المفرطة مما توقع الآفة في الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والكبد والدماغ والأنثيان فيختل الفكر ويقل التأمل في الجواهر الروحانية ومباديها ، على أن النفوس القوية لا يمنعها التصرف في الجسمانيات عن التأمل في الروحانيات .
فالرهبانية دليل الضعف والقصور والكمال في الوفاء بالجهتين ، وكيف والرهبانية توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل وترك الترهب مع رعاية وظائف الطاعة يفضي إلى سعادة الدارين ، قال القفال : إنه تعالى قال في أوّل السورة ) أوفوا بالعقود ) [ المائدة : 1 ] فبين أنه كما لا يجوز تحليل محرم لايجوز تحريم المحلل ، و ذلك أنهم كانوا يحللون الميتة والدم ويحرمون البحائر والسوائب .
و معنى ) لاتحرموا ( لا تعتقدوا تحريم ) ما أحل الله ( ولا تظهروا باللسان تحريمه ولا تجتنبوه اجتناباً يشبه اجتناب المحرمات .
فهذه الوجوه محمولة على الإعتقاد والقول والعمل ، ويحتمل أن يراد لا تحرموا على غيركم بالفتوى ، أو لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين كقوله ) يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ) [ التحريم : 1 ] أو لا تخالطوا المملوك بالمغضوب أو الطاهر بالنجس خلطاً لالا يبقى معه التمييز فإنه يحرم الكل .
و الطيبات المستلذات التي تشتهيها النفوس وتميل اليها القلوب .
ثم نهى عن الاعتداء مطلقاً ليدخل تحته النهي عن الإسراف كقوله ) كلوا واشربوا ولا تسرفوا ) [ الأعراف : 31 ] و ) كلوا ( أمر إباحة وتحليل ) مما رزقكم الله ( في إدخال ( من ) التبعيضية إرشاد إلى الاقتصاد والاقتصار في الأكل على البعض وصرف الباقي إلى المحتاجين ، وفيه أنه تعالى هو الذي يرزق عبيده وتكفل برزقهم .
قال في التفسير الكبير : قوله ) حلالاً طيباً ( إن كان متعلقاً بالأكل كان حجة للمعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً لاأنه يدل على الأذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن في أكل الحلال فيلزم أن يكون كل رزق حلالاً ، وإن كان متعلقاً بالمأكول أي كلوا من الرزق الذي يكون حلالاً كان حجة لأصحابنا لأن التقييد يؤذن بأن الرزق قد لا يكون حلالاَ .
أقول : هذا فرق ضعيف ولهذا قال في الكشاف : ( حلالاً ( حال ) مما رزقكم الله ( مع انه من المعتزلة .
ثم أكد التوصية بقوله ) واتقوا الله ( وواده تأكيداً بقوله ) الذي أنتم به مؤمنونؤ لأن الإيمان به يوجب اتقاءه في أوامره ونواهيه .
ثم قال ) لايؤاخدكم ( وقد ذكرنا وجه النم آنفاً ، وقد تقدم معنى يمين اللغو في سورة البقرة .
أما قوله ) بما عقدتم
 
 
" صفحة رقم 9 "
الأيمان ( فمن قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير فلا إشكال ، ومن قرأ بالتشديد فإن أبا عبيدة اعترض عليه بأن التشديد للتكثير فهذه القراءة توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة .
وأجاب الواحدي بأن عقد بالتخفيف وعقد بالتشديد واحد في المعنى ، ولو سلم فالتكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه ، أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر فلا كفارة .
ومن قرأ بالألف فمثل القراءة المخففة كقولك : عاقبت الص وعافاه الله .
و المعنى على القراآت : ولكن يؤاخكم بعقد الأيمان أو بتعقيدها أو معاقدتها إذا حنثتم .
فحذف الظرف للعلم به ، أو المراد بنكث ما عقدتم بحذف المضاف ) فكفارته ( أي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها أحد هذه الأمور ويسمى بالواجب المخير .
و حاصله أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها ، ولا يجوز الإخلال بجميعها ، ولكنه إذا أتى بأيّ واحد منها فإنه يخرج عن العهدة ، ومن هنا قال أكثر الفقهاء الواجب واحد لابعينه من الغطعام والكسوة وتحرير الرقبة فأن عجز عنها جميعاً فالواجب شيء آخر وهو الصوم .
امل مقدار الطعام فقد قال الشافعي : نصيب كل مسكين مد أي ثلثا منّ ، وهو ول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم لأنه تعالى قال ) من أوسط ما تطعمون ( فإن كان المراد ما كان متوسطاً في العرف فثلثا منّ من الحنطة إذا جعل دقبقاً وخبز فإنه يصير قريباً من المنّ وذلك كاف لواحد في يوم واحد ، وإن كان المراد ما كان متوسطاً في الشرع فليس له في الشرع مقدار إلا ما جاء في قصة الأعرابي المفطر في نهار رمضان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمره بإطعام ستين مسكيناً من غير ذكر مقدار .
فقال الرجل : ما أجد .
فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعرق فيه خمسة عشر صاعاً فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أطعم هذا ) .
وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع وهو مدّ .
ولا تلزم كفارة الحلق لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل فكان تكفيرها معتبراً بصدقة الفطر وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد .
وقال أبو حنيفة : الواجب نصف صاع من الحنطة أ صاع من غيرها قال : لأن الأسط هو الأعدل .
وما ذكره الشافعي هو أدنى ما يكفي .
وأما الأعدل فيكون بإدام وهكذا روي عن ابن عباس مدّ بإدامه والإدام تبلغ قيمته مداً آخر ويزيد في الأغلب .
أجاب الشافعي أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام ومقداره ما ذكرنا ، وجنس الطعام المخرج جنس الفطرة .
ثم قال الشافعي : الواجب تمليك الطعام قياساً على الكسوة .
وقال أبو حنيفة : إذا غدى وعشى عشرة مساكين جاز لأن ذلك إطعام ، ولأن إطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك وقد قال ) منأوسط ما تطعمون أهليكم ( والقائل أن يقول : ذكر إطعام الأهل لتعيين مقدار المطعم لا لأجل كيفية الإطعام .
وقال أبو حنيفة : لو أطعم مسكيناً
 
 
" صفحة رقم 10 "
واحد عشر مرات جاز .
وقال الشافعي : لا يجزي إلا إطعام عشرة لأن مدار الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه فيجب الوقوف على مورد النص قال في الكشاف ) أو كسوتهم ( عطف على محل ) من أوسط ( ووجه بأن البدل هو المقصود فكأنه قيل : فكفارته من أوسط .
وأقول : الأظهر أن يكون ) من أوسط ( مفعولاً آخر للإطعام سواء كان ( من ) للابتداء أو للتبعيض ، ويكون ) كسوتهم ( معطوفاً على الإطعام .
و الكسوة معناها اللباس وهو كل ما يكتسى به .
قال الشافعي يجزىء في الكفارة أقل ما يقع عليه أسم الكسوة وهو الثوب يغطي العورة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة لكل مسكين ثوب واحد لما روي عن ابن عباس كانت العباءة تجزىء يومئذٍ .
وعن مجاهد : ثوب جامع .
وقال الحسن : ثوبان أبيضان .
و المراد بالرقبة الجملة كان الأسير في العرب تجمع يداه إلى رقبته فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الإطلاق من الحبل فك رقبة .
ثم أجرى ذلك على العتق هكذا قيل في أصل هذا المجاز .
ومذهب أهل الظاهر أن جميع الرقاب تجزئه .
و قال الشافعي : لا يجزىء إلا كل سليمة من عيب يخل بالعمل صغيرة كانت أو كبيرة ذكراً أو أنثى بعد أن كانت مؤمنة قياساً على كفارة القتل ، ولم يجوز إعتاق المكاتب ولا شراء القريب .
و في تقديم الإطعام على العتق من أن العتق أفضل تنبيه على التخيير وأن الأمر مبني على التخفيف .
ويكمن أن يقال : الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام أو لايكون هنالك من يعطيه فبقع في الضر ، أما العبد فيجب على مولاه طعامه وكسوته ، فالعتق يحتمل التأخير ة الإطعام قد لا يحتمل ذلك .
) فمن لا يجد ( أحد الأمور الثلاثة المذكورة ) فصيام ( فعليه صيام ) ثلاثة أيام ( قال الشافعي : إذا وجد قوت نفسه وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام ، وإن لم يكن عنده ذلك القدر جاز له الصيام وذلك أنه علق جواز الصيام على عدم وجدان الخصال الثلاث فعند وجدانها وجب أن لايجوزالصوم .
تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام ، وإن لم يكن عنده ذلك القدر جاز له الصيام وذلك أنه علق جواز الصيام على عدم وجدان الخصال الثلاث فعند وجدانها وجب أن لايجوز الصوم .
تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقوت عياله يوماً وليلة لأن ذلك ضروري ، وتقديم حق النفس على حق الغير واجب شرعاً فبقي الآية معمولاً بها في غيره .
و عند أبي حنيفة : يجوز الصيام إذا كان عنده من المال ما لا تحب فيه الزكاة .
ثم صيام الأيام الثلاثة المشروط عند أبي حنيفة بالتتاع تمسكاً بقراءة أبيّ وابن مسعود ) فصيام ثلاثة أيام متتابعات ( فإن قراءتهما لا تتخلف عن روايتهما .
وقال الشافعي في أصح قوليه : إن التفريق جائز والقراءة الشاذة لا يعتدّ بها لأنها لو كانت صحيحة لنقلت نقلاً متوتراً وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلاً قال له : عليّ أيام من رمضان
 
 
" صفحة رقم 11 "
أفأقضيها متفرقات ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم أما كان يجزيك ) قال : بلى .
قال ( فالله أحق أن يعفو ويصفح ) .
وإذا جاز هذا التفريق في صوم رمضان ففي غيره أولى ، وأيضاً العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
) مسألة ( : من صام ستة أيام عن يمنين أجزاته ولا حاجة إلى تعيين إحدى الثلاثين لإحدى اليمينين لأن الواجب عن كل منهما ثلاثة أيام وقد اتى بها فيخرج عن العهدة ) ذلك ( المذكور ) كفارة أيمانكم إذا حلفتم ( وحتثتم فحذف ذكر الحنث للعلم بأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف ، وللتنبيه غلى أن الكفارة لا يجوز تقديمها على اليمين ، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فيجوز وبه قال مالك والشافعي وأحمد موافقاً لما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً فكفر عن يمينيك ثم ائت بالذي هو خير ) .
ولأن الكفارة حق ماليّ يتعلق بسببين فجاز تعجيله بعد وجود أحد السببين كتعجيل الزكاة بعد وجود النصاب. هذا إذا كان يكفر بغير الصوم ، أما الصوم فلا يجوز تقديمه لأن العبادات البدنية لا تقدّم على وقتها إذا لم تمس إليه حاجة كالصلاة وصوم رمضان ، ولأن الصوم إنما يجوز التكفير به عند العجز عن جميع الخصال المالية ، وأنما يتحقق العجز بعد الوجوب وإن كان الحنث بارتكاب محظور كأن حلف أن لايشرب الخمر أجزأه التكفير قبل الشرب أيضاً لوجود أحد السببين .
و التكفير لايتعلق به استباحة ولا تحريم بل المحلوف عيه حرام قبل اليمين وبعدها وقبل التكفير وبعده لا أثر اهما فيه .
جميع ما ذكرنا ظاهر مذهب الشافعي ، أما عند أبي حنيفة وأصحابه فلا يجوز التكفير قبل الحنث مطلقاً .
) واحفظوا أيمانكم ( قللوا ولا تكثروا منها ، أو احفظوها إذا حلفتم عن الحنث ، وعلى هذا تكون الأيمان المختصة بالتي الحنث فيها معصية كمن حلف أن لا يشرب الخمر بخلاف مالو حلف ليشربن فإنه لا يؤمر حينئذ بالحفظ عن الحنث .
وقيل : احفظوها بأن تكفروها أو المراد لا تنسوها تهاوناً بها ) كذلك ( مثل ذلك البيان الشافي ) يبين الله لكم آياته ( أحكامه وأعلام شريعته ) لعلكم تشكرون ( نعمة البيان وتسهيل المخرج من الحرج .
 
 
" صفحة رقم 12 "
ثم أنه سبحانه استثنى من جملة الأمور المستطابة الخمر الميسر - وقد تقدم معناهما وما يتعلق بهما في سورة البقرة ، وسلك في سلك التحريم الأنصاب والأزلام وقد ذكرناهما في أول هذه السورة .
واعلم أنه كانت تحدث قبل تحريم الخمر أشياء يكرهها رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) منها قصة علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وكرم اللّه وجهه مع عمه حمزة على ما روي في الصحيحين أنه قال : كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعطاني شارفاً من الخمس ، فلما أردت أن أبني بفاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واعدت رجلاً صوّاغاً من بني قينقاع أن يرتحل معي لأذخر ، أردت أن أبيعه من الصوّاغين فأستعين به في وليمة عرسي .
فبينا أنا أجمع لشارفيّ متاعاً من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار ، أقبلت فإذا أنا بشارفيّ قد جبت أسنتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر وقلت : من فعل هذا ؟ فعاه حمزة بن عبد المطلب وهو في البيت في شرب مع امرأة من الأنصار غنت أغنية فقالت في غنائها :
ألا يا حمزة للشرف النواء
وهن معقلات بالفناء
ضع السكين في اللبات منها
فضرجهن حمزة بالدماء
واطعم من شرائحها كباباَ
ملهوجة على وهج الصلاء
فأنت أبا عمارة المرجى
لكشف الضر عنا والبلاء
فوثب إلى السيف أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما .
قال علي رضي اللّه عنه : فانطلقت حتى دخلت على النبي صلى اللّه عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة فعرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي أتيت له فقال : ما لك ؟ فقلت يا رسول اللّه ما رأيت كاليوم عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتها وبقر خواصرهما ها هوذا في بيت معه شرب .
قال : فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بردائه ثم انطلق يمشي واتبعت أثره ، - أنا وزيد بن حارثة - حتى جاء البيت الذي فيه .
فاستأذن فأذن له فإذا هم شرب ، فطفق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه ، فنظر إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال : وهل أنتم إلا عبيد أبي ؟ فعرف رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه ثمل فنكص على عقبيه القهقرى ، فخرج وخرجنا فكانت هذه القصة من الأسباب الموجبة لنزول تحريم الخمر .
قالت العلماء : هذه الآية تدل على تحريمها من وجوه منها : تصدير الجملة ب ( إنما ) الدالة على الحصر معناه ليست
 
 
" صفحة رقم 13 "
الخمر إلا الرجس وعمل الشيطان .
ومنها أنه قرنها بعبادة الأصنام ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم ( شارب الخمر كعابد الوثن ) و منها انه جعلها رجساً كما قال في موضع آخر ) فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) [ الحج : 30 ] وأصل الرجس العمل القبيح القذر .
قال الفراء : ( ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) [ يونس : 100 ] أي العقاب والغضب وكأنه إبدال الرجز والرجس بالفتح الصوت الجديد من الرعد ومن هدير البعير فلهذا سمي العمل القوي الدرجة في القبح رجساً .
ومنها أنع جعلها من عمل الشيطان ، ومن المعلوم أنه لا يصدر منه إلا الشر البحت .
ومنها أنه امر بالإجتناب وظاهر الامر للوجوب .
ومنها انه جعل الاجتناب من الفلاح فيكون القرب منه خيبة .
و الضمير في ) اجتنبوه ( عائد على رجس أو العمل أو إلى المضاف المحذوف أي إنما تعاطي الخمر ونحو ذلك .
ومنها شرح أنواع المفاسد المنتجة منها من التعادي والتباغض والصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة خصوصاً وفيه أن غرض الشرب من الاجتماع تأكدالألفة والمودة .
ثم إنها تورث نقيض المقصود لأن العقل إذا زال استولت الشهوة والغضب ويؤدي إلى التنازع واللجاج ، وكذا القمار يفضي إلى إفناء النال وإلى أن يقامر على حليلته وأهله وولده وكل ذلك يورث العداوة والفتن وهذا من مكايد الشيطان ومضادّان لمصالح الانسان .
وأيضاً الخمرسبب تهيج اللذه الجسمية ، والقمار يورث لذة الغلبة الحالية ، وكتاهما توجب الاشتغال عن اللذات الحقيقية الحصالة من الاستغراق في طاعة المعبود .
وإنما أفرد ذكر الخمر والميسر ثانياً لأن الخطاب مع المؤمنين فقرنهما أولاً بذكر الأنصاب والأزلام تنبيهاً على أنها جميعاً من أعمال الجاهلية وأهل الشرك ، ثم أفردها لأن الكلام مسوق لتحريمهما على المخاطبين حيث إنهم كانوا لا يتعاطون سوى هذين .
ومنها سوق الكلام بطريق الاستفهام في قوله ) فهل أنتم منتهون ( كأنه قيل : قد تلي عليكم ما هو كاف في باب المنع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم تزجروا ؟ ولهذا قالوا قد انتهينا يا رب .
إذ فهموا التحريم المؤكد .
ومنها إنه قال عقيب ذلك ) و أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول واحذروا ( والظاهر أن المراد الطاعة فيما تقدم من بقوله ) فإن توليتم ( الآية .
والمراد إن أعرضتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة البلاغ وقد أعذر من أنذر وجزاء المخالف إلى اللّه المقتدر .
عن أنس قال : كنت ساقي القوم يوم حرمت في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا فضيح البسر والتمر ، فإذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت .
قال : فجزت في سكك المدينة فقال أبو طلحة : اخرج فأرقها .
فقالوا : قتل فلان وفلان وهي في بطونهم فأنزل اللّه تعالى ) ليس على الذين آمنوا
 
 
" صفحة رقم 14 "
وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا ( الطعم خلاف الشرب في الاغلب وقد يقع على المشروب كقوله تعالى ) ومن لم يطعمه فإنه مني ) [ البقرة : 249 ] فيجوز ان يكون المراد فيما شربوا من الخمر ، ويحتمل أن يكون معنى الطعم راجعاً إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب جميعاً ، فقد تقول العرب : أطعم أي ذق .
و نظير هذه الآية قوله القبلة ) وما كان اللّه ليضيع إيمانكم ) [ البقرة : 143 ] والعامل في ) إذا ما اتقوا ( معنى الكلام المتقدم أي لا يأثمون في ذلك إذا اتقوا المحرمات لأنهم شربوها حين كانت محللة .
و المراد أن أولئك كانوا على هذه الصفة وهو ثناء عليهم وحمد لأحوالهم في الإيمان والتقوي والإحسان .
وزعم بعض الجهلة أن هذا الحكم متعلق بالمستقبل وإلا قيل : لم يكن أو ما كان جناح مثل ) وما كان اللّه ليضيع ) [ البقرة : 143 ] والمعنى لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه العداوة والبغضاء وسائر المفاسد المذكورة بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق .
والجواب أن صيغة طعموا وهي المضي تاباه ، وأيضاً سبب نزول الآية يكذبه .
روى أب بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قالأبو بكر : يا رسول اللّه كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربا الخمر وأكلوا القمار ، وكيف بالغائبين عنا في البلاد لا يشعرون بتحريم الخمر وهم يطعمونها ؟ فنزلت .
وعلى هذا فالحال قد ثبت فيما يستقبل لكن في حق الغائبين الذين يبلغهم هذا النص .
ثم أنه سبحانه شرط في نفي الجناح حصول التقوى والإيمان مرتين ، وفي الثالثة التقوى والإحسان .
فقال الأكثرون : الأول فعل الاتقاء ، والثاني دوامه والثبات عليه ، والثالث اتقاء ظلم العباد مع الإحسان إليهم .
وقيل الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول الآية ، والثاني اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية ، والثالث اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية ، وهذا قول الأصم .
وقيل : اتقوا الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر .
وقال القفال : الأول الاتقاء من القدح في صحة النسخ ليثبت تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة ، والثاني الإتيان بالعمل المطابق للآية ، والثالث المداومة على التقوى مع الإحسان إلى الخلق .
ثم إنه سبحانه استثنى بعض الصيد من المحللات فقال على سبيل المثال التوكيد القسمي ) ليبلونكم اللّه ( أي ليعاملنكم معاملة المختبر ) بشيءٍ ( التنوين للتحقير وفيه أنه ليس من الفتن العظام التي تدحض عندها الأقدام كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال ، فامتحن اللّه أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم بصيد ا لبر كما امتحن أصحاب أيلة بصيد البحر .
قال مقاتل بن حيان : ابتلاهم بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى إن الوحش والطير يغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذها بالأيدي وصيدها بالرماح وما راوا مثل ذلك قط ، فنهاهم اللّه عن ذلك ابتلاء .
قال الواحدي : الذي تناله أيديهم من الصيد الفراخ والبيض وصغار
 
 
" صفحة رقم 15 "
الوحش ، والذي تناله الرماح الكبار .
و ( من ) في ) من الصيد ( للبيان أو للتبغيض وهو صيد البر أو صيد الإحرام والمراد به العين لا الحدث بدليل عود الضمير في ) تناله ( إليه ) ليعلم اللّه ( ليظهر معلومة وهو خوف الخائف أو أو ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم أو ليعلم أولياء اللّه ومحل ) بالغيب ( النصب على الحال أي يخافه حال كونه غائباً عن رؤيته أو عن حضور الناس ) فمن اعتدى ( فصاد ) بعد ذلك ( الابتلاء ) فله عذاب أليم ( في اللآخرة وقيل في الدنيا .
عن ابن عباس : هو أن يضرب بطنه وظهره ضرباً وجيعاً وينزع ثيابه .
) لاتقتلوا الصيد ( قال الشافعي : إنه البري المتوحش المأكول اللحم .
اما الأول فلقوله تعالى بعد ذلك ) أحل لكم صيد البحر ( وأما المتوحش فيدخل فيه نحو الظبي وإن صار مستأنساً ويخرج الإنسي وإن صار متوحشاً إبقاء لحكم الأصل ، وأما كونه مأكولاً فلقوله تعالى ) وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً ( فيعلم منه أنه مما يحل اكله في غير الإحرام .
وقال أبو حنيفة : المحرم إذا قتل سبعاً لا يؤكل لحمه ضمن .
وسلم أنه لا يجب الضمان في قتل الذئب وفي قتل الفواسق الخمس فقال الشافعي : لا معنى في قتلها إلا الإيذاء فيلزم جواز قتل جميع المؤذيات لا سيما وقد جاء ( خمس يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب والعقور ) وفي رواية بزيادة السبع العادي واحتج لأبي حنيفة بقول علي رضي اللّه عنه :
صيد الملوك أرانب وثعالب
فإذا ركبت فصيدي الأبطال .
وزيف بأن الثعلب عندنا حلال .
) وأنتم حرم ( أي محرمون بالحج والعمرة أيضاً على الأصح .
وقيل : وقد دخلتم الحرم .
وقيل : هما مرادان بالآية وهو قول الشافعي .
وقوله ( لا تقتلوا ( يفيد المنع ابتداء والمنع تسبباً فليس له أن يتعرض للصيد ما دام محرماً أو في الحرم بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم ) ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل ( من قرا ) جزاء ( بالتنوين ) ومثل ( بالرفع فالمعنى : فعليه جزاء صفته كذا .
ومن قرأ بالإضافة فمن باب إضافة المصدر إلى المفعول أي فعلية أن يجزىء مثل ما قتل .
قال بعض العلماء : المثل مقحم للتأكيد إذ الواحب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فهو قولهم : انا أحب مثلك أي أحبك .
وقيل : الإضافة بمعنى ( من ) اي جزاء من مثل ما قتل .
قال سعيد بن الجبير : المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه
 
 
" صفحة رقم 16 "
شيء .
وهو قول داود لأن النهي ورد عن التعمد وهو أن يقتله ذاكراً لإحرامه أو أو عالماً أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله ، فإن قتله وهو ناس لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن انه ليس بصيد ، أو رمى غير الصيد فعدل السهم فأصاب صيداً فهو مخطىء لا شيء عليه لفقدان القيد المذكور .
ويتأكد هذا الرأي بقوله ) ليذوق وبال امره ( وبقوله ) ومن عاد ( أي إلى ما تقدم ذكره وهو القتل العمد ، والانتقام أيضاً يناسب العمد لا الخطأ قال جمهور الفقهاء : يلزمه الضمان سواء قتل عمداً أو خطأ قياساً على سائر المحظورات الإحرام كحلق الرأس وغيره وكما في ضمان مال المسلم ، فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يختلف ذلك بكونه عمداً أولاً .
وإنما وردت الآية بالتعمد لأن العمد أصل والخطأ ملحق به للتغليظ ، ولما روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له : إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت الآية على وفق القصة .
وعن الزهري نزل كتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ .
قال صلى اللّه عليه وسلم ( في الضبع كبش إذا قتله المحرم ) وقالت الصحابة : في الظبي شاة .
أطلقوا الضمان من غير فرق بين العمد والخطأ .
ثم العلماء اختلفوا في المثل فقال الشافعي ومحمد بن الحسن : الصيد ضربان : منه ما له مثل ومنه ما لا مثل له فيضمن بالقيمة .
وقال أبو حنيفة وابو يوسف : المثل الواجب هو القيمة قياساً على ما لا مثل له .
حجة الشافعي قوله تعالى ) من النعم ( فإنه بيان للمثل وكذا قوله ) هدياً بالغ الكعبة ( وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه حكم في الضبع بكبش .
وعن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر أنهم حكموا في أمكنة مختلفة وازان متعدّدة في جزاء الصيد بالمثل من النعم .
فحكموا في النعامة ببدنة ، وفي حمارالوحش ببقرة ، في الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنزة ، وفي الظبي بشاة ، وفي الأرنب بحمل - وفي رواية بعناق - وفي الضب بسخلة ، وفي اليربوع بجفرة ، وفي الحمام بشاة ، ويعني به كل ما عب وهدر كالقمري والدبسي الفاختة .
والعب شرب الماء مرة ، والهدير ترجيعه صوته وتغريده .
وفيه دليل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبهاً بالصيد من النعم ، ولو نظروا إلى القيمة لاختلف باختلاف الأسعار .
والظبي الذكر من هذا الجنس والغزال أنثاه ، والجفرة من اولاد المعز إذا أنفصلت من أمها ، والعناق الأنثى من اولاد المعز .
وأيضاً المقصود من الضمان جبر الهلاك فكلما كانت المماثلة أتم كان الجبر أكمل .
( وههنا مسائل ) الأولى : جماعة محرومون قتلوا صيداً .
فالشافعي وأحمد وإسحق : لا
 
 
" صفحة رقم 17 "
يجب عليهم إلاجزاء واحد لأن مثل الواحد واحد .
وقال أبو حنيفة ومالك والثوري : على كل منهم جزاء واحد كما لو قتل جماعة واحداً يقتص منهم جميعاً ، وكذا لو حلف كل منهم أن لايقتل صيداً فقتلوا صيداً واحداً لزم كلاًمنهم كفارة .
واجيب بان قتل الجماعة بالواحد تعبدي وتعدد الكفارة لتعدد الإيمان .
الثانية : قال الشافعي : المحرم إذا دل غيره على صيد فقتله لم يضمن كما لا يجب بالدلالة كفارة القتل ولا الدية ، وكما لو دل مال المسلم وذلك لأن الدلالة ليست بقتل ولا إتلاف .
و قال أبو حنيفة : يضمن لما روي أن عمر عبدالرحمن بن عوف وابن عباس أوجبوا الجزاء على الدال .
الثالثة : قال الشافعي : إذا جرح ظبياً فنقض من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة إرشاد إلى ما هو أسهل لأنه قد لايجد شريكاً في ذبح الشاة ويتعذر عليه إخراج قسط من الحيوان .
وقال المزني : عليه شاة .
وقال داود : لاضمان إلا بالقتل لظاهر الآية حيث نيط الجزاء بالقتل فقط .
الرابعة : إذا قتل المحرم صيدا وأدى جزاءه ثم قتل صيداً لآخر لزمه جزاء آخر الخلافة لداود ، وينقل عن ابن عباس وشريح .
حجة الجمهور أت الحكم يتكرر بتكرر العلة بخلاف ما لو قال لنسائه : من دخل منكن الدار فهي طالق فدخلت واحدة مرتين ، فإنه لايقع إلا طلاق واحد لأن تكرر الحكم بتكرر الشرط غير لازم .
حجة داود ) ومن عاد فينتقم اللّه منه ( فإنه جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة .
الخامسة : قال الشافعي : إذا أصاب صيداً أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله والصحيح أحب ، كذا الكبير لأجل الصغير .
و الذكر يفدى بالذكر والأنثى بالذكر الأنثى والأولى أن لا يغير تحقيقاً للمثلية .
فالأنثى أفضل لأنها تلد ، الذكر أفضل من حيث إن لحمه أطيب وصورته أحسن .
قوله سبحانه ) يحكم به ذوا عدل منكم ( قال ابن عباس : أي رجلان صالحان فقيهان من أهل دينكم ينظران إلى اشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به .
وبهذا احتج من نصر قول أبي حنيفة فقال : التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد ، وأما الخلقة والصورة فمشاهد لا يفتقر
 
 
" صفحة رقم 18 "
إلى الاجتهاد .
ورد بأن وجه المشابه بين النعم والصيد أيضاً يتوقف على الاجتهاد .
عن قبيصة بن جابر أنه ضرب ظبياً في الإحرام فمات فسأل عمر وكان إلى جانبه عبدالرحمن ابن عوف فقال له : ما ترى ؟ قال : عليه شاة .
قال : وأنا أرى ذلك ، فاذهب فأهد شاة .
قال قبيصة : فخرجت إلى صاحبي وقلت : إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره .
قال : ففاجأني عمر وعلاني بالدرّة وقال : أتقتل في الحرم وتسفه الحكم ؟ قال اللّه تعالى ) يحكم به ذ عدل منكم ( فأنا عمر وهذا عبدالرحمن .
قال الشافعي : ما ورد فيه نص فهو متبع كما روي أنه صلىاللّه عليه وسلم قضى في الضبع بكبش .
وكل ما حكم به عدلان من الصحابة أو التابيعين أو من أهل عصر آخر من النعم أن مثل الصيد المقتول يتبع حكمهم ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم لأن بحثهم أوفى ونظرهم أعلى .
وقال مالك يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم .
وهل يجوز أن يكون قاتل الصيد حكماً ؟ إن كان القتل عمداً عدواناً فلا لأنه يورث الفسق والحكم موصوف بالعدالة ، وإن كان خطا أو كان مضطراً إليه فكذلك عند مالك كما في تقويم المتلفات .
و جوّزه الشافعي لما روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبياً فسأل عمر فقال : احكم فيه .
فقال : أنت خير مني وأعلم يا أمير المؤمنين .
فقال : إنما أمرتك أن تحكم فيه ولم لآمرك أن تزكيني .
فقال الرجل : أرى فيه جدياً فقال عمر : فذلك فيه .
وأيضاً فإنه حق اللّه فيجوز أن يكون من عليه أميناً فيه كما أن رب المال أمين في الزكاة .
ولو حكم عدلان بأن اللّه له مثلاً وآخران بأنه لامثل له فلأخذ بقول الأولين .
ولو حكم عدلان بمثل آخران بمثل آخر فأصح الوجهين أنه يتخير والآخر أنه يأخذ بالأغلظ .
قيل في الآية دلالة على أن العمل بالاجتهاد والقياس جائز. وأجيب بأنه لا نزاع في الصور الجزئية كالاجتهاد في القبلة وكالعمل بشهادة الشاهدين وبتقويم المقوّمين في قيم المتلفات وأروش الجنايات ، وكعمل العامي بالفتوى ، وكالعمل بالظن في مصالح الدنيا ، إنما النزاع في إثبات شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والإنصاف أن تجويز الاجتهاد في القبلة وفي تعيين مثل الصيدالمقتول أمر كلي أيضاً .
وانتصب ) هدياً ( على أنه حال من ) جزاء ( عند من وصفه بمثل لأنه حينئذ قريب من المعرفة أو بدل من محل ) مثل ( عند من أضاف ، أو حال من الضمير في ) به ( ووصف هدياً ببالغ الكعبة لأن إضافته غير حقيقية تقديره بالغاُ الكعبة .
والعرب تسمى كل بيت مربع كعبة ولا سيما إذا كان مرتفعاً .
ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح في الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في نفس الكعبة ولا في غاية القرب والتلاصق منها فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حياً لم يجز .
قال الشافعي : يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضاً لأن نفس الذبح إيلام ولا قربة فيه وإنما القربة في التصدّق على فقراء الحرم .
وقال أبو حنيفة : له أن يتصدق به حيث شاء لأنها لما وصلت
 
 
" صفحة رقم 19 "
إلى الكعبة فقد خرج عن العهدة .
قوله ) أو كفارة ( عطف على قوله ) فجزاء ( و ) طعام مساكين ( بيان له .
ومن أضاف فللبيان أيضاً أي كفارة من طعام مساكين مثل : خاتم فضة ) أو عدل ذلك ( الطعام ) صياماُ ( نصب على التميز كقولك : لي مثله رجلاً .
وعدل الشيء ما عدله من غير جنسه ، والعدل بالكسر المثل تقول : عندي عدل غلامك إذا كان غلاماً يعدل غلاماُ ، فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت العين .
ثم مذهب الشافعي أنه يصوم لكل مد يوماً .
ومذهب أبي حنيفة أنه يصوم لكل نصف صاع يوماً وذلك بحسب الاختلاف في طعام مسكين واحد كما مر في كفارة اليمين .
وبالجملة فحاصل مذهب أبي حنيفة أنه يوجب قيمة الصيد يقوّم حيث صيد ، فإن بلغت قيمته ثمن هدي تخير بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد وبين أن يشتري بقيمته طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره ، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً .
وحاصل مذهب الشافعي أن الصيد قسمان : ما له مثل من النعم وما ليس كذلك .
فالأول جزاؤه على التخيير والتعديل فيتخير بين أن يذبح مثله فيبصدق به على مساكين الحرم إما بأن يفرق اللحم أو يملك جملته إياهم مذبوحاً ، وبين أن يقوّم المثل بداراهم ولا يجوز أن يتصدق بالدراهم ولكن إن شاء اشترى بها طعاماً وتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوماً حيث كان .
والثاني وهو ليس بمثلي كالعصافير وغيرها .
وبالجملة كل ما دون الحمام أو فوقه فيه قيمته ولا يتصدق بها بل يجعلها طعاماً ، ثم إن شاء تصدق بها وإن شاء صام عن كل مد يوماً ، فإن انكسر مد في القسمين صام يوماً لأن الصوم لا يتبعض .
فللجزاء في القسم الأوّل ثلاثة أركان : الحيوان والطعام والصيام .
وفي القسم الثاني ركنان : الطعام والصيام و ) أو ( هنا على التخيير في ظاهر المذهب لا على الترتيب .
ووافق مالك وأبو حنيفة لأن ( أو ) للتخيير غالباً ، وخالف أحمد وزفر فقالا إنها في الآية للترتيب لأن الواجب هنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله ) ليذوق وبال أمره ( والتخيير ينافي التغليظ .
ثم القائلون بالتخيير اتفقوا على أن الخيار في تعيين هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد كما هو ظاهر الآية إلا محمد بن الحسن فإنه قال : الخيار إلى الحكمين قياساً على تعيين المثل .
ثم إن يكن الصيد مثلياً فالعبرة في القيمة بمحل الإتلاف قياساً على كل متلف متقوّم ، والمعتبر في الصرف إلى الطعام سعر الطعام بمكة .
وإن كان مثلياً وأراد تقويم مثله من النعم ليرجع إلى الإطعام أو الصيام فالعبرة في قيمته بمكة يومئذ أنها محل الذبح لو كان يذبح .
ولا جزاء عل المحرم بأكل الصيد سواء ذبحه بنفسه أو اصطيد له أو بدلالته لأنه ليس بنام عدالذبح ولا يؤل إلى النماء فالا يتعلق بإتلافه الجزاء ، كما لو أتلف بيضة مذرة هذا في الجديد من قولي الشافعي
 
 
" صفحة رقم 20 "
وفي قوله القديم - وبه قال مالك وأحمد - يلزمه القيمة بعدما أكل .
وإذا ذبح المحرم صيداً لم يحل له الأكل منه ولا لغيره في الجديد - وبه قال مالك وأحمد أبو حنيفة - لأنه يكن ميتة كذبيحية المجوسي حتى لو كان مملكاً وجب مع مع الجزاء القيمة للممالك .
وهل يحل له بعد زوال الإحرام ؟ أظهر الوجهين لا ، وكذا الكلام في الصيد الحرم إذا ذبح .
أما قوله ) ليذوق ( فإنه متعلق بقوله ) فجزاء ( أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق ، ويحتمل أن يقال : يتعلق بحذوف أي شرعنا ما شرعنا ليذوق سوء عاقبة فعله وهو هتك حرمة الحرم والاحرام .
و التركيب يدور على الثقل يقال : مرعى وبيل أذا كان فيه وخامة ، وطعام وبيل تقيل على الطبع والمعدة .
والأمور الثلاثة اثنان منها نقص في المال فيثقل على الطبع ، والثالث وهو الصوم الثقيل علىالبدن أيضاً ، وكل منها نوع عقوبة ) عفا اللّه عما سلف ( في الجاهلية لأنهم متعبدون بشرع من قبلهم ، أو عما سلف قبل التحيم في الإسلام .
وعلى مذهب داود ) عفا اللّه عما سلف ( في المرة الأولى بسسب أداء الجزاء ) ومن عاد ( فإنه أعظم من أن يعفى بالجزاء ) فينتقم اللّه منه ( أي فهو ينتقم اللّه منه وإلا لم يحتج إلى إدخال فاء الجزاء لارتباطه بنفسه .
) أحل لكم صيد البحر ( أي مصيداته .
ويعني بالبحر جميع هذه المياه والأنهار وجملة ما يصاد منه ثلاث أجناس : الحيتان وجميع أنواعها حلال ، والضفادع وجميع أنواعها حرام ، وفيما سوى هذين خلاف. فقال أبو حنيفة : حرام .
وقال ابن أبي ليلى والأكثرون : حلال .
قوله ) وطعامه ( العطف يقتضي المغايرة وفيه وجوه : يروى عن أبي بكر الصديق أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته ، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه .
و قال جمع من العلماء : الاضطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره كاصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها .
فالمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصطاد في البحر ، وأحل لكم أكل المأكول منه .
وعن سعيد بن الجبير أن الصيد هو الطري ، والطعام هوالقديد منه وفي الفرق ضعف .
قال الشافعي : السمكة الطافية في البحر محللة لأنه طعام البحر وقد قال تعالى ) أحل لكم صيد البحر وطعامه ( وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في البحر ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) ) متاعاً لكم ( في الحضر طرياً و ) للسيارة ( في السفر مالحاً .
وانتصب ) متاعاً ( على أنه مفعول له ولكنه
 
 
" صفحة رقم 21 "
مختص بالطعام. وقال الزجاج : انه مصدر مؤكد لأن قوله ) أحل لكم ( في معنى التمتيع ) وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً ( قال العلماء : صيد البحر هو الذي لايعيش إلا في الماء ، اما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر ، والسلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء كل ذلك من صيد البر ويجب على قاتله الجزاء .
واتفق المسلمون على أن المحرم يحرم عليه الصيد الذي صاده أما الذي صاده الحلال عفن علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس والثوري واسحق أن الحكم كذلك لإطلاق الآية ، ولما روي عن علي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أهدي إليه حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله .
و قال مالك والشافعي وأحمد : إن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له لما روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : ( صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم ) وعن أبي هريرة وعطاء ومجاهد أنهم أجازو للمحرم ما صاده الحلال وإن لأجله إذا لم يدل لم يشر ، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفه وأصحابه لما روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هل أشرتم ؟ هل أعنتم ؟ فقالوا : هل بقي من لحمه شيء ؟ قالوا معنا رجله .
فأخذها النبي صلى اللّه عليه وسلم فأكلها .
هذان قولان مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد .
وقال في الكشاف .
أخذ أبو حنيفة بالمفهوم فكأنه قيل : وحرم عليكم أيها المحرمون ما صدتم في البر ، فيخرج عنه مصيد غيرهم .
ويرد عليه ان المفهوم ليس بحجة .
ثم حث على الطاعة والاجتناب عن المعاصي بقوله ) واتقوا اللّه الذي إليه تحشرون ( وهو كلام جامع للوعد والوعيد .
ثم ذكر سبب حرمة الصيد في الحرم وفي الإحرام فقال ) جعل اللّه ( أي حكم بين بالخطاب والتعريف ، أو صير بخلق دواعي التعظيم في القلوب ) قياماً للناس ( وهم العرب ووجه المجاز أن أهل البلدة إذا قالوا ( الناس فعلوا كذا ) أرادوا أهل بلدتهم فنطق القرآن على مجرى عادتهم .
وبيان القيام أن قوام المعيشه إما بكثرة المنافع وقد جعله بحيث يجبي إليه ثمرات كل شيء ، وإما بدفع المضار وقد صيره حرماً آمناً ، وإما بحصول الجاه الرياسة وتوفر الدواعي والرغبات وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام .
) فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) [ إبراهيم : 37 ] ثم المنافع الدينية الحاصلة من مناسكها وشعائرها أكثر من أن تحصى
 
 
" صفحة رقم 22 "
وأظهر من أن تخفى .
وانتصب ) البيت الحرام ( على أنه عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح إذ الكعبة أوضح من أن توضح ، ويحتمل أن يراد بالناس عامة الناس لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم الدينية والدنيوية .
وعن عطاء بن أبي رباح : لو تركوه عاماً واحداً لم ينظرا ولم يؤخروا .
وتفسير الشهر الحرام والهدي والقلائد تقدم في أول السورة .
وإنما كان الشهر الحرام سبباً لقيام الناس وقوامهم لأنه إذا دخل الشهر الحرام كان يزول خوفهم وقدرون على الأسفار وتحصيل الأقوات قدر ما يكفيهم طول السنة ، فلولا حرمة ذلك لهلكوا من الجوع .
وأيضاً هو سبب لاكتساب الثواب من قبل مناسك الحج وإقامتها .
وأما الهدي فأنه نسك للمهدي وقوام لمعايش الفقراء ، كذا القلائد فكان من قلد الهدي أو قلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد ، وكل ذلك لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم الكعبة وما يتعلق بها ذلك الذي ذكر من جعل الكعبة قياماً للناس أو من حفظ حرمة الإحرام والحرم مشروع ) لتعلموا أن اللّه يعلم ما في السموات وما في الأرض وذلك أنه علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص على القتل والغارة وكان ذلك مما يفضي إلى الفناء وانقطاع النسل ، فدبر هذا التدبير المحكم والفعل المتقن كي يصير سبباً للأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمان فتستقيم مصالح الإنسان .
ولا ريب أن مثل هذا التقدير والتدبير لا يصح إلا ممن يعلم الكائنات أسبابها وغايتها بل يعلم المعلومات بأسرها كلياتها وجزئياتها قديمها وحديثها ، عللها ومعلومها ، موجودها ومعدومها ، وذلك قوله ) وأن الله بكل شيء عليم ( فما أحسن هذا الترتيب ثم خوّفها وأطعمهم بقوله ) اعلموا أن الله شديد العقاب ( لمن انتهك محارمه ) وأن اللّه غفور رحيم ( لمن حافظ عليها .
وذكر الوصفتين في جانب الرحمة دليل على أن جانب الرحمة أغلب كما قال ( سبقت رحمتي غضبي ) .
ثم قرر أن رسول الله ما كان مكلفاً إلا بالتبليغ فإذا بلغ خرج من العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنه تعالى يعلم جهركم وسركم ، وفيه من الوعيد مافيه ، عن جابر أن النبي صلىاللّه عليه وسلم قال ( إن اللّه عز وجل حرم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب الا وإن الخمر لعن اللّه شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها ) .
فقام أعرابي فقال : يا رسول اللّه إني كنت رجلاً هذه تجارتي واستفدت
 
 
" صفحة رقم 23 "
من بيع الخمر مالاً فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعةاللّه ؟ فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ( إن أنفقته في الحج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند اللّه جناح بعوضة ، إن الله لا يقبل إلا الطيب ) وأنزل اللّه عز وجل تصديقاً لقول رسوله ) قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ( وهو عام في حرام الاموال وحلالها وفاسد الأعمال وصالحها وسقيم المذاهب وصحيحها ورديء النفوس وجيدها ، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية ، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة اللّه تعالى وطاعته ، والبون بين الصنفين في العالم الروحاني أبعد منه في العالم الجسماني ، لأن أثرهما في عالم الأرواح أبقى وأدوم وأجل وأعظم ، فلا تستبدل الخيبث يا أنسان بالطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ، لأن كثرته في تحقيق قلة ، ولذته في نفس الأمر ذلة ، ونقده زيف وصرف العمر في طلبه حيف .
التأويل : ( لاتحرموا ( على أنفسكم بالاستمتاعات النفسانية ) طيبات ما أحل الل ه لكم ( دون سائر المخلوقات من المواهب الربانية ) ولاتعتدوا ( ولا تجاوزوا عن حد العبودية ) وكلوا مما رزقكم اللّه ( واجتهدوا في طلب ما خصكم به اللّه من تجلى جماله وجلاله ) حلالاَ طيباً ( يحل فيكم بريئاً من سمات النقائص .
) باللغو في أيمانكم ( أن تحلفوا بآلائه عن التبرم من ولائه لملالة النفوس وكلالة القوي واستيلاءالنفس وغلبة سلطان الهوى في أثناء ال مجاهدات وإعواز المشاهدات ) ولكن يؤاخذكم ( إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان ) فكفارته ( حينئذ ) إطعام عشرة مساكين ( الحواس الظاهرة والباطنة .
) من أوسط ما تطعمون أهليكم ( وهم القلب والسر والروح والخفاء ، طعامهم الشوق والمحبة والصدق والإخلاص والتفويض والتسليم والرضا والأنس والهيبة والشهود والكشوف ، وأوسطه الذكر والتذكر والفكر والتفكر والشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء يشغل الحواس العشرة بهذه الأمور ، أو يكسوهم لباس التقوى ، أو يحرو رقبة النفس من عبودية الحرص والهوى ) فمن لم يجد ( أمسك في اليوم الماضي عما عزم عليه وفي اليوم الحاضر عما لايعنيه وفي اليوم المستقبل عن العود إليه .
ومن لغو اليمين عند أرباب اليقين أن الطالب الصادق عند غلبات الشوق ووجدان الذوق يقسم عليه بجماله وحلاله أن يرزقه شيئاً من إقباله ووصاله وذلك في شريعة الرضا لغو ، وفي مذهب التسليم سهو ولكن يرجى له عفو فلا يؤاخذه بمقالة لعلمه بضعف حاله والكمال في الثبات والاستقامة .
أريد وصاله ويريد هجر
فأترك ما أريد لما يريد
ومن الغو في اليمين عندهم ما يجري على لسانهم في حال غلبات الوجد من تجديد
 
 
" صفحة رقم 24 "
العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم :
وحقنك ما نظرت إلى سواكا
بعين مودّة حتى أراكا
فإن هذا ينافي التوحيد وأين في دار الديار كلا بل هو اللّه الواحد القهار ) ليس على الذين آمنوا ( بالتقليد ) وعملوا الصالحات ( الأعمال البدنية الشرعية ) جناح فيما طعموا ( من المباحات ) إذا ما اتقوا ( الشبه والإسراف ) وآمنوا ( بالتحقيق بعد التقليد ) وعملوا الصالحات ( الأعمال القلبية الحقيقية من تخليةالقلب عما سواه ومن تحليته بالأخلاق المضادة لهواه كالصدق والإخلاص والتوكل والتسليم وما عداه ) ثم اتقوا ( شرك الأنانية ) وآمنوا ( بهويته ) ثم اتقوا ( هذا الشرك وهوالفناء في الفناء ) وأحسنوا ( وهو البقاء به فافهم جعل اللّه البلاء لأهل الولاء كاللهب للذهب فقال ) يا أيها الذين آمنوا ( إيمان المحسنين الذين تجردوا عن الملاذ وشهواتها الحلال وأحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال ) ليبلونكم اللّه ( في أثناء السلوك بشيء من الصيد وهوالمطالب النفسانية والمقاصد الدنيوية الدنية .
) تناله أيديكم ( يعني اللذات البدنية ورماحكم يعني اللذات الخيالية ) فله عذاب ( الردّ والصد ) ولاتقتلوا الصيد وأنتم حرم ( يعني من أحرم لزيارة كعبة الوصال فعليه حسم الأطماع من الحرام والحلال ) معتمداً ( أي عالماً بما في الالتفات إلى غيره من المضار ) مثل ما قتل من النعم ( يجازي نفسه برياضة ومجاهدة يماثل ألمها تلك اللذة ) ذوا عدل ( هما القلب والروح يحكمان على مقدار الإسلام وعلى حسب قوّة السالك بتقليل الطعام والشراب ، أو ببذل المال أو بترك الجاه أو بالعزلة وضبط الحواس ) هدياً بالغ الكعبة ( خالصاً عن الخلق لأجل الحق ) طعام مساكين ( هم العقل والقلب والسر والروح والخفاء كانوا محرومين عن أغذيتهم الروحانية فيطعمهم المعاملات الروحانية من صدق التوجه والصبر على المكاره والفطام عن المألوفات ومن الشكر والرضا وغير ذلك .
) أو عدل ذلك صياماً ( هو الإمساك عن الأغيار والركون إلى الواحد القهار لتذوق النفس الأمارة وبال أمرها ، فإن كل هذه الأمور على خلاف طبعها ) ذو انتقام ( ينتقم من أحبائه بنقاب الدلال ، ومن أعدائه بحجاب الملام والملال .
) أحل لكم الصيد ( بحر المعارف والكشوف تنتفعون بالواردات وتطعمون منها السائرين إلى الله من أهل الإرادات ) صيد البر ( ما سنح للسائرين من مطالب الدنيا ) ما دمتم حرماً ( أي في حال المحو لا في حال الصحو .
رجعل اللّه الكعبة ( كعبة الظاهر ) قياماً ( للعوام والخواص يستنجحون بها حاجاتهم الدنيوية والأخروية ، وكعبة القلب قواماً للخواص ولخواص الخواص يلوذون بها بدوام الذكر ونفي الخواطر حتى يعلموا أن لا
 
 
" صفحة رقم 25 "
موجود إلا هو ، ولاوجود إلا له ) البيت الحرام ( حرام أن يسكن في الكعبة القلب غيره والشهر الحرام هو أيام الطلب حرام على الطالب فيها مخالطة الخلق وملاحظة ما سوى الحق .
والهدي هو النفس البهيمية تساق إلى كعبة القلب مع قلائد أركان الشريعة فتذبح على عتبة القلب بسكين آداب الطريقة عن شهواتها ، فإذا وصل العبد إلى كعبة القلب شاهد بأنواره أن للّه ما في السموات والأرض .
) شديد العقاب ( يسدل الحجاب لغير الأحباء غفور رحيم للصادقين في الطلب بفتح الأبواب ) إلا البلاغ ( بالقال يتلو عليهم آياته وبالحال ويزكيهم ) ما تبدون ( بإقرار اللسان ) وما تكتمون ( من تصديق الجنان الخبيث ما يشغلك عن اللّه والطيب ما يوصلك إلى اللّه بل الطيب هو اللّه والخبيث ما سوى اللّه وفي ذلك كثرة واللّه أعلم. قول اللّه عز وجل .
( المائدة : ( 101 - 120 ) يا أيها الذين . . . .
" يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم
 
 
" صفحة رقم 26 "
بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير "
( القراآت )
ينزل ( من الإنزال : أبو عمر وابن كثير وسهل ويعقوب ) شهادة ( بالتنوين ) آللّه ( بالمد : روح وزيد .
الباقون بالإضافة. ( استحق ) على البناء للفاعل : حفص والأعشى في اختياره الباقون علىالبناء للمفعول .
) الأولين ( جمع الأول نقيض الآخر .
سهل ويعقوب وحمزة خلف وعاصم غير حفص والأعشى في اختياره الباقون ) الأوليان ( تثنية الأولى الأحق ) الغيوب ( بكسر الغين حيث كان : حمزة وحماد وأبوبكر غير الشموني والبرجمي والخزاعي عن ابن فليح في ) ساحر ( وكذلك في هود والصف : حمزة وعلي وخلف الباقون ) سحر ( ) هل تستطيع ( بتاء الخطاب ) ربك ( بالنصب : علي والأعشى في اختياره ، الباقون بالياء وبالرفع ) أن ينزل ( بالتخفيف من الإنزال : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب .
الباقون بالتشديد ) منزلها ( بالتشديد : عاصم وأبو جعفر نافع وابن عامر .
الباقون بالتخفيف ) فإني أعذبه ( بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع ) وامي ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص ) لي أن ( بالفتح : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
الباقون بالسكون ) يوم ينفع ( بفتح الميم : نافع .
الباقون بالوفع .
الوقوف : ( تسؤكم ( ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف .
) تبدلكم ( ط ) عنها ( ط
 
 
" صفحة رقم 27 "
) حليم ( ه ) كافرين ( ه ) ولاحام ( لا للاستدراك .
) الكذب ( ط ) لا يعقلون ( ه ) آبائنا ( ط ) ولا يهتدون ( ه ) أنفسكم ( ج لاحتمال الاستئناف أو الحال أي احفظوا أنفسكم غير مضرورين ) اذا اهتديتم ( ط ) تعلمون ( ه ) مصيبة الموت ( ط ) قربى ( ز لأن وقوله ( ولا نكتم ( من جواب القسم .
) شهادة ( ط لمن قرأ ) آللّه ( بالمد ) الآثمين ( ه ) وما اعتدينا ( ز لظاهر ( إن ) والوصل أجوز لتعلق ( إذا ) بقوله ) وما اعتدينا ( ز ) للظالمين ( ه ) أيمانكم ( ط لابتداء الأمر ) واسمعوا ( ط ) الفاسقين ( ه ) أجبتم ( ط ) لنا ( ط ) الغيوب ( ه ) والدتك ( لا لئلا يوهم أنه ظرف لا ذكر بل عامله محذوف والتقدير : واذكر إذا أيدتك ) وكهلاً ( ج ) والإنجيل ( ج ) والأبرص بإذني ( ج ) الموتى ( ج لأن ( إذ ) يجوز تعلقه تعلق به ( إذ ) الأول ، ويمكن تعلق كل واحد بمحذوف آخر لتفصيل النعم ) سحر مبين ( ه ) وبرسولي ( ط لاحتمال أن قالوا مستأنف أو عامل في ) إذا أوحيت ( ) مسلمون ( ) من السماء ( الأولى ط ) مؤمنين ( ه ) الشاهدين ( ه ) وآية منك ( ج لاتفاق الجملتين مع وقوع عارض ) الرازقينؤ ه ) عليكم ( ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب ) العالمين ( ه ) من دون اللّه ( ط ) ما ليس لي ( ط قد قيل وهو تعسف لأن المنكر لايقسم به والقسم لا يجاب بالشرط بل الوقف على ) بحق ( ) علمته ( ط ) نفسك ( ط ) الغيوب ( ه ) وربكم ( ج على أن الواو للاستئناف أو الحال أي وقد كنت ) فيهم ( ط لأن عامل ( لما ) متأخر وفاء التعقيب دخلتها ) عليهم ( ط لأن الواو لا يحتمل الحال للتعميم في كل شيء ) شهيد ( ه ) عبادك ( ج لابتداء الشرط مع الواو ) الحكيم ( ه ) صدقهم ( ط لاختلاف الجملتين بلا عطف ) أبداً ( ط ) عنه ( ط ) العظيم ( ه ) وما فيهن ( ط ) قدير ( ه .
التفسير : عن أنس أنهم سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال ( فأسألوني فواللّه لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به ) .
فقام عبد اللّه بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال : يا نبي الله من أبي ؟ فقال : أبوك حذافة بن قيس وقال سراقة بن مالك - ويروي عكاشة بن محصن - يا رسول اللّه الحج علينا في كل عام ؟ فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أعاد مرتين أو ثلاثاً فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله إن قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لتركتم ، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه .
وقام آخر فقال : يا رسول اللّه أين أبي ؟ فقال : في النار .
ولما اشتد غضب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قام فقال : رضينا باللّه رباً وبالسلام ديناً وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم نبياً .
فأنزل اللّه هذه الآية .
فهي عائدة إلى قوله ) ما على الرسول إلا البلاغ ( كأنه قال : ما آتاكم الرسول فخذوه ولا تخوضوا في غيره فلعله يجببكم بما شق عليكم .
 
 
" صفحة رقم 28 "
وأيضاً كان المشركون يطالبونه بعد ظهر المعجزات بمعجزات أخر كقوله حاكياً عنهم ) لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ) [ الإسراء : 90 ] إلى تمام الآية .
وكان لبعض المسلمين أيضاً ميل إلى ظهورها فمنعوا ذلك لأن طلب الزيادة بعد ثبوت الرسالة من باب التحكم ، ولعلها لو ظهرت ثم أنكرت أستحق المنكر العقاب العاجل ، ويحتمل أن يكون وجه النظم قوله ) واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون ) [ النور : 29 ] فأتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسالوا عن أشياء مخفية إن تبد لكم تسؤكم .
وللنحويين في منع صرف أشياء وجوه ، فقال الخليل وسيبويه : أصلها ( شياء ) على وزن ( حمراء ) فهو اسم جمع لشيء استثقلوا الهمزتين في آخره فنقلوا الهمزة التي هي لام الفعل إلى أوّل الكلمة فصار وزنه ( لفعاء ) .
وقال الفراء : أصلها ( أفعلاء ) بناء على أن شيا مخفف شيء يقال ( هين ) في ( هين ) وقد يجمع ( فيعل ) على ( أفعلاء ) كنبي وانبياء ، لكنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فحذفوا اللام فبقي ( أشياء ) على وزن ( أفعاء ) .
وقال الكسائي : وزنها ( أفعال ) ومنع الصرف تشبيهاً له بحمراء .
ولايلزم صرف ( أبناء ) و ( أسماء ) لأن ما ثبت على خلاف الدليل لا يلزم اطراده ولكنه يكون مقصوراً على المسموع. و الحاصل أن السؤال عن الأشياء الصعبة .
فالذي يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتب عليه تكاليف شاقة صعبة .
فالذي سأل عن أبيه لم يأمن أن يلحق بغير أبيه فيبفضح ، والسائل عن الحج كاد أن يوجبه في كل عام وقد قال الرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( إن أعظّم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسالته ) وكان عبيد بن عمير يقول إن اللّه أحل وحرم ، فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه ، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من اللّه تعالى فاقبلوه .
وقال أبو ثعلبة إن اللّه تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها .
ثم لما رتب المساءة على السؤال ذكر أن الإبداء سيكون لأن الوحي غير منقطع فقال ) وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن ( أي في زمان الوحي لأن الرسول بين أظهركم ) تبد لكم ( تلك الأمور أو التكاليف .
فالحالصل أنهم إن سألوا عن ساءتهم .
وقيل : السؤال قسمان : أحدهما السؤال عن شيء لم المقدميتن أنهم إن سألوا عنها ساءتهم .
وقيل : السؤال قسمان : أحدهما السؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة فنهى عنه بقوله ) لا تسألوا ( والثاني السؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي وهذا السؤال غير مذموم فأشار إلى هذا القسم بقوله : ( وإن تسألو ( رفعاً للحرج وتميزاً لهذا القسم من الأوّل .
وإنما حسن عود الضمير
 
 
" صفحة رقم 29 "
في ( عنها ) إلى الأشياء إن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين ، لأن كلاً منهما مسؤول عنه في الجملة .
وقيل : المعنى وإن تسألوا عن تلك السؤلاات هل هي جائزة أم لا تبد لكم .
والمراد أن تطلب الرخصة في السؤال أولاً ثم يسأل ) عفا اللّه عنها ( أي عما سلف من مسألتكم وإغضابكم الرسول فلا تعودوا ( إليها ، أو المراد بالعفو أنه تعالى ما أظهر عند تلك المسائل ما يشق عليهم من التكاليف .
وقيل أن الجملة صفة أخرى للأشياء كما أن الجملة الشرطية والمعطوف عليها صفة لها .
و المعنى لاتسألوا عن أشياء أمسك اللّه عنها وكف عن ذكرها كما جاء في الحديث ) ( عفوت عن صدقة الخيل والرقيق ) اي خفف عنكم بإسقاطها ) قد سألها ( يعني المسألة التي دل عليها لا تسألوا ) قوم من قبلكم ( سأل الناقة قوم صالح فعقروها ، وسأل الرؤية قوم موسى عليه السلام فصار وبالاً عليهم ، وسأل المائدة قوم عيسى عليه السلام فكفروا بها ، ويحتمل أن يعود الضمير في سألها إلى الأشياء فكأن أمة محمد صلىاللّه عليه وسلم سألوا عن أحوال الأشياء والمتقدمين سألوا نفس الأشياء كالناقة والمائدة والرؤية فلما اختلفت الأسئلة اختلفت العبارة إلا أن كل واحد من القسمين يشتركان في وصف هو الخوض في الفضول والشروع فيما لا يعني فتوجه الذم عليهما جميعاً .
ولما منعهم عن أمور تكلفوا البحث عنها ذم سيرة قوم تكلفوا التزام أمور لم يؤمروا بها .
ومعنى ) ما جعل ( ما حكم بذلك ولا شرع .
والبحيرة ( فعيلة ) من البحر الشق .
وبحر ناقته إذا شق أذنها وهي بمعنى المفعول .
قال أبو عبيدة والزجاج : كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكراً شقوا أذن الناقة ومنعوا ركوبها وسيبوها لآلهتهم لا تنحر ولا يحمل على ظهرها ولا تطرد عن ماء والا ترد عن مرعى ولا ينتفع بها حتى لو لقيها المعي لايركبها تحرجاً .
وأما السائبة فإنها فاعلة من ( ساب ) إذا جرى على وجه الأرض .
يقال ساب الماء وسابت الحية ، فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب إلى حيث شاءت ، قال أبو عبيدة : كان الرجل إذا مرض أو قدم من السفر أو نذر نذراً أو شكر نعمة سيب بعيره فكان بمنزلة البحيرة في أحكامها .
وقيل : هي أم البحيرة كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو ضيف حتى تموت ، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعاً وبحرت أذن بنتها الأخيرة وكانت بمنزلة أمها في أنها سائبة .
وقال ابن عباس : السائبة هي التي تسيب الأصنام أي تعتق لها وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل .
وقيل هي العبد يعتق على أن يكون عليه ولاء ولا
 
 
" صفحة رقم 30 "
ميراث وأما الوصيلة فإذا ولدت الشاة آنثى فهي لهم ، إن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم ، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبجوا الذكر لآلهتهم .
فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها بغيرها أو بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها .
وأما الحامي فيقال : حماه يحميه إذا حفظه .
قال السدي : هو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى وقيل : إن الفحل إذا ركب ولد ولدة قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت .
فإن قيل إذا جاز إعتاق العبيد والإماء فام لا يجوز إعتاق البهائم من الذبح والإلام ؟ فالجواب أن الإنسان خلق لعبادة اللّه تعالى فإذا أزيل الرق عنه كان ذلك معيناً له على ما خلق لأجله ، أما العجم من الحيونات فإنما خلقت لمنافع المكلفين فتركها يقتضي تفويت كمالها عليها .
وأيضاً الإنسان إذا أعتق قدر على تحصيل المنافع ودفع المضار بخلاف البهائم فإنها عاجزة عن جذب الملائم ودفع المنافي في الأغلب ، فإعناقها يفضي إلى ضياعها فظهر الفرق .
) ولكن الذين كفروا يفترون علىاللّه الكذب ( قال ابن عباس : يريد عمرو بن لحى وأصحابه كان قد ملك مكة شرفها اللّه وكان أول من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام .
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حقه ( لقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبة ) والقصب الأمعاء هذا حال رؤسائهم ) وأكثرهم لا يعقلون ( يعني العوام والأتباع. ثم رد على أهل التقليد بقوله ) وإذا قيل لهم ( الآية وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة .
فنفى العقل عنهم هناك والعلم ههنا مع نفي الاهتداء في الموضعين وفيه دليل على أن القتداء لا يجوز إلا بالعاقل العالم المهتدي لابتناء قوله على الحجة والدليل لا على التقليد والأضاليل .
قال أهل البرهان : العلم أبلغ درجة من العقل ولهذا يوصف اللّه تعالى بالعلم ولا يوصف بالعقل ، وكان دعواهم ههنا أبلغ لقولهم ) حسبنا ما وجدنا ( فناسب أن ينفي عنهم العلم الذي هو أبلغ .
ثم ذكر أن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الإعذار الإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل أصروا على جهالتهم وضلالتهم فلا تبالوا بهم أيها المؤمنون ، فإن جهلهم لايضركم إذا كنتم منقادين لتكاليف اللّه مطيعين لأوامره ونواهيه .
تقول العرب : عليك زيداً وعندك عمراً يعدونهما إلى المفعول كأنه قيل : خذ زيداً فقدعلاك أي أشرف عليك ووحضرك عمرو فخذه .
وليس المراد في عليك أنه حرف جر مع مجروره متعلق بمحذوف ، بل الجار والمجرور معاً منقول إلى معنى الفعل نقل الأعلام ولهذا سمي أسم فعل .
فإن قيل : ظاهر الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب ، فالجواب المنع فإن الآية لا تدل إلا على أن المطيع لربه غير مؤاخذ بذنب العاصي وهذا خطب أبو بكر فقال : إنكم تقرؤن هذه الآية وتضعونها في غير موضعها
 
 
" صفحة رقم 31 "
وإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ( إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم اللّه بعقاب ) .
وعن عبداللّه بن المبارك أن هذه الآية آكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن معنى ) عليكم أنفسكم ( احفظوها والزموا صلاحها بأن يعظ بعضكم بعضاً ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات ) لا يضركم ( ضلال ) من ضل إذا اهتديتم ( فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم كما قال اللّه لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ) فقاتل في سبيل اللّه لاتكلف إلا نفسك ) [ النساء : 84 ] وقيل : إن الآية مخصوصة بما إذا خاف الأنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله .
وكان ابن شبرمة يقول : من فرَّ من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر .
وقيل : إنها مختصة بالكفار الذين علم اللّه أنه لا ينفعهم الوعظ ، يؤكده ما روي في سبب النزول عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أقر المجوس هجر بالجزية قال منافقو العرب : عجباً من محمد يزعم أن اللّه بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلا نراه إلا قد قبل من مشركي أهل هجر ما رد على مشركي العرب فأنزل اللّه تعالى الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى والحق .
وقيل : كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة فنزلت تسلية لهم كما قال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم ) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) [ فاطر : 8 ] وعن ابن مسعود أن الآية قرئت عنده فقال : إن هذا في آخر الزمان .
ومثله ما روي عن أبي ثعلبة الخشني أنه سئل عن ذلك فقال للسائل : سألت عنها خبيراً سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنها فقال ( ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا ما رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودينا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام ، وإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن كقبض على الجمر للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله ) .
وقيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا له : سفهت آباءك ولاموه فنزلت .
ثم أنه سبحانه لما أمر بحفظ النفس في قوله ) عليكم انفسكم ( أمر بحفظ المال .
عن ابن عباس أن تميماً الداري وأخاه عدياً - وكانا نصرانيين - ، خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص - وكان مسلماً مهاجر - خرجوا للتجارة .
فلما قدموا الشأم مرض بديل فكتب كتاباً فيه نسخة جميع ما معه وأخفاه بين الأقمشة ولم يخبر صاحبيه بذلك ، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات .
ففتشا متاعه فأخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشاً بالذهب ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما ، فأصاب أهل البديل الصحيفة فطالبوها بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت .
ومعنى ) شهادة بينكم ( شهادة ما بينكم أي من التنازع والتشاجر .
وإنما أضيفت الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما
 
 
" صفحة رقم 32 "
يحتاج إليهم عند النزاع ) وإذا حضر ( ظرف للشهادة ) حين الوصية ( بدل منه .
وفي هذا دليل على أن الوصية مما لاينبغي أن يتهاون بها المسلم عند ظهور أمارات الموت فكأنّ وقتيهما واحد وهما متلازمان .
وارتفع ) اثنان ( على أنه قام مقام الخبرية أي شهادة بينكم أن يشهد اثنان .
وفي قوله اثنين ، أو على أنه فاعل فعل محذوف والتقدير شهادة ما بينكم أن يشهد اثنان .
وفي قوله ) منكم ( و ) من غيركم ( قولان : فعن الحسن والزهري وعليه جمهور الفقهاء أن ) منكم ( أي من أقاربكم و ) من غيركم ( أي من الأجانب .
و المعنى إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من أقاربكم فاستشهدوا على الوصية أجنبيين .
وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بحال الميت وأرأف به .
وعن ابن عباس وابي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومجاهد وابن جريح وابن سرين أن ) منكم ( أي من أهل ملتكم و ) من غيركم ( أي من كافر كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو عابد وثن .
قال الشافعي : مرض رجل من المسلمين في الغربة فلم يجد أحد من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة وأتيا أبا أبا موسى الأشعري وكان والياً عليها فأخبراه بالواقعة. فقال أبو موسى : هذا أمر لم يقع بعد النبي صلىاللّه عليه وسلم فحلفهما في مسجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم بعد العصر باللّه العظيم أنهما ما كذبا وما بدلا وأجاز شهادتهما .
والذاهبون إلى هذا القول احتجوا بأن الخطاب في ) منكم ( لجميع المؤمنين فيلزم أن يكون غيرهم كافرين ، وبأن هذين الشاهدين لو كا