تفسير السمرقندي بحر العلوم ط الفكر 006

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
58
وابنة عمتك
فنزل " وما كان لمؤمن " يعني ما جاز لمؤمن يعني زيد بن حارثة " ولا مؤمنة " يعني زينب بنت جحش " إذا قضى الله ورسوله أمرا " يعني حكم حكما في تزويجهما " أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " يعني اختيارا من أمرهم بخلاف ما أمر الله ورسوله
قرأ حمزة والكسائي وعاصم " أن يكون " بالياء بالتذكير
وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث
فمن قرأ بالتاء فلأن لفظ الخيرة مؤنث ومن قرأ بالياء فإنه ينصرف إلى المعنى ومعناهما الاختيار ولتقدم الفعل
ثم قال " ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " يعني بينا فلما سمعت زينب بنت جحش نزول هذه الآية قالت قد أطعتك يا رسول الله
سورة الأحزاب 37 - 39
ثم قال عز وجل " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " يعني زيد بن حارثة قد أنعم الله عز وجل عليه بالإسلام " وأنعمت عليه " بالعتق " أمسك عليك زوجك " قال قتادة جاء زيد بن حارثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن زينب اشتد علي لسانها وإني أريد أن أطلقها
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( اتق الله " وأمسك عليك زوجك " )
وكان يحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها وخشي مقالة الناس أن أمره بطلاقها فنزلت هذه الآية
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إلى زيد بن حارثة يطلبه في حاجة له فإذا زينب بنت جحش قائمة في درع وخمار فلما رآها أعجبته ووقعت في نفسه فقال ( سبحان الله يا مقلب القلوب ثبت قلبي )
فلما سمعت زينت جلست فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما جاء زيد ذكرت ذلك له فعرف زيد أنها وقعت في نفسه وأعجب بها النبي صلى الله عليه وسلم
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إن زينب امرأة فيها كبر تعصي أمري ولا تبر قسمي فلا حاجة لي فيها
فقال له ( اتق الله يا زيد في أهلك وأمسك عليه زوجك )
(3/58)
1
59
فطلقها زيد ونزلت هذه الآية " وتخفي في نفسك " يعني تسر في نفسك ليت أنه طلقها " ما الله مبديه " يعني مظهره عليك حتى ينزل به قرآنا " وتخشى الناس " يعني تستحي من الناس
ويقال " وتخشى " مقالة الناس " والله أحق أن تخشاه " في أمرها
قال الحسن ما أنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد منها ولو كان كاتما شيئا من الوحي لكتمها
ثم قال " فلما قضى زيد منها وطرا " يعني حاجة " زوجناكها " فلما انقضت عدتها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم
قال الحسن فكانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول أما أنتن فزوجكن آباؤكن وأما أنا فزوجني رب العرش تعني قوله " زوجناكها " ثم قال " لكيلا يكون على المؤمنين حرج " يعني لكيلا يكون على الرجل حرج بأن يتزوج امرأة ابنه الذي تبناه " في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا " يعني حاجة " وكان أمر الله مفعولا " يعني تزوج النبي صلى الله عليه وسلم إياها كائن لا بد واللام للزيادة وكي مثله فلو كان أحدهما لكان يكفي ولكن يجوز أن يجمع بين حرفين زائدين إذا كانا جنسين وإنما لا يجوز إذا كانا من جنس واحد كما قال " ليس كمثله شيء " [ الشورى11 ] ولا يصلح أن يقال مثل مثل أو كي كي فإذا كانا جنسين جاز
فقالت اليهود والمنافقون يا محمد تنهى عن تزوج امرأة الابن ثم تتزوجها فنزل قوله عز وجل " ما كان على النبي من حرج " يقول ليس على النبي إثم " فيما فرض الله له " يعني في الذي رخص الله عز وجل من تزوج زينب " سنة الله في الذين خلوا من قبل " يعني هكذا سنة الله في الذين مضوا يعني في كثرة تزوج النساء كما فعل الأنبياء عليهم السلام " وكان أمر الله قدرا مقدورا " يعني قضاء كائنا
قوله عز وجل " الذين يبلغون رسالات الله " قال مقاتل يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده
ويقال ينصرف إلى قوله " سنة الله في الذين خلوا من قبل " " الذين يبلغون رسالات الله "
" ويخشونه " في كتمان ما أظهر الله عليهم " ولا يخشون أحدا " في البلاغ " إلا الله وكفى بالله حسيبا " يعني شهيدا بأن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة عن الله عز وجل ويقال شهيدا يعني حفيظا
سورة الأحزاب 40
قوله عز وجل " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " يعني بالتبني
وليس بأب لزيد بن حارثة " ولكن رسول الله " يعني ولكنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال لم يكن أب الرجال لأن
(3/59)
1
60
بنيه ماتوا صغارا ولو كان الرجال بنيه لكانوا أنبياء ولا نبي بعده فذلك قوله " وخاتم النبيين " قرأ بعضهم " ولكن رسول الله " بضم اللام ومعناه ولكن هو رسول الله ومن قرأ بالنصب معناه ولكن كان رسول الله وكان " خاتم النبيين " وقرأ عاصم في إحدى الروايتين " وخاتم النبيين " بنصب التاء وقرأ الباقون بالكسر
فمن قرأ بالكسر يعني آخر النبيين
ومن قرأ بالنصب فهو على معنى إضافة الفعل إليه يعني أنه ختمهم وهو خاتم
قال أبو عبيد وبالكسر نقرأ لأنه رويت الآثار عنه أنه قال ( أنا خاتم النبيين ) فلم يسمع أحد من فقهائنا يروون إلا بكسر التاء
" وكان الله بكل شيء عليما " بمن يصلح للنبوة وبمن لا يصلح
فإن قيل كيف يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يظهر من نفسه خلاف ما في قلبه قيل له يجوز مثل هذا لأن في قوله " أمسك عليك زوجك واتق الله " أمر بالمعروف وفيه رد النفس عما تهوى وهذا عمل الأنبياء والصالحين عليهم السلام
وقال بعضهم للآية وجه آخر وهو أن الله تعالى قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون زوجته فلما زوجها من زيد بن حارثة لم يكن بينهما ألفة وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه عن الطلاق ويخفي في نفسه ما أخبره الله تعالى وقال بأنها تكون زوجته
فلما طلقها زيد بن حارثة كان يمتنع من تزوجها خشية مقالة الناس يتزوج امرأة ابنه المتبنى به
فأمره الله عز وجل بأن يتزوجها ليكون ذلك سبب الإباحة لنكاح امرأة الابن المتبنى لأمته فنزل " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " [ الأحزاب 37 ] الآية
سورة الأحزاب 41 - 44
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " يعني اذكروا الله باللسان
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد )
قيل يا رسول الله فما جلاؤها قال ( تلاوة كتاب الله عز وجل وكثرة ذكره )
وذكر أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن شرائع الإسلام قد كثرت فأنبئني منها بأمر أتشبث به
فقال ( لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل )
ويقال ليس شيء من العبادات أفضل من ذكر الله تعالى لأنه قدر لكل عبادة مقدارا ولم يقدر للذكر وأمر بالكثرة فقال " اذكروا الله ذكرا كثيرا " يعني اذكروه في الأحوال كلها لأن الإنسان لا يخلو من أربعة
(3/60)
1
61
أحوال إما أن يكون في الطاعة أو في المعصية أو في النعمة أو في الشدة
فإذا كان في الطاعة ينبغي أن يذكر الله عز وجل بالإخلاص ويسأله القبول والتوفيق
وإذا كان في المعصية ينبغي أن يذكر الله عز وجل بالامتناع عنها ويسأل منه التوبة منها والمغفرة
وإذا كان في النعمة يذكره بالشكر وإذا كان في الشدة يذكره بالصبر
ثم قال " وسبحوه بكرة وأصيلا " يعني غدوا وعشيا
يعني صلوا لله بالغداة والعشي
يعني الفجر والعصر
ويقال بالغداة
يعني صلوا أول النهار وهي صلاة الفجر " وأصيلا " يعني صلوا آخر النهار وأول النهار وهي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء
ثم قال عز وجل " هو الذي يصلي عليكم " يقول هو الذي يرحمكم ويغفر لكم " وملائكته " أي يأمر الملائكة عليهم السلام بالاستغفار لكم " ليخرجكم من الظلمات إلى النور " يعني أخرجكم من ظلمة الكفر إلى الإيمان ووفقكم لذلك
اللفظ لفظ المستأنف والمراد به الماضي يعني أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ونور قلوبكم بالمعرفة
ويقال معناه ليثبتكم على الإيمان ويمنعكم عن الكفر
ويقال " ليخرجكم من الظلمات " يعني من المعاصي إلى نور التوبة والطهارة من الذنوب
ويقال من ظلمات القبر إلى نور المحشر
ويقال من ظلمات الصراط إلى نور الجنة
ويقال من ظلمات الشبهات إلى نور البرهان والحجة
ثم قال " وكان بالمؤمنين رحيما " يعني بالمصدقين الموحدين " رحيما " يرحم عليهم
ثم قال عز وجل " تحيتهم يوم يلقونه سلام " قال مقاتل يعني يلقون الرب في الآخرة بسلام
وقال الكلبي تجيبهم الملائكة عليهم السلام على أبواب الجنة بالسلام فإذا دخلوها حيا بعضهم بالسلام
وتحية الرب إياهم حين يرسل إليهم بالسلام
ويقال يعني يسلم بعضهم على بعض ويقال يسلمون على الله تعالى " وأعد لهم أجرا كريما " يعني جزاء حسنا في الجنة
ويقال مساكن في الجنة حسنة
سورة الأحزاب 45 - 48
قوله عز وجل " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا " يعني شهيدا على أمتك بالبلاغ " ومبشرا " بالجنة لمن أطاع الله في الآخرة وفي الدنيا بالنصرة " ونذيرا " من النار يعني مخوفا لمن عصى الله عز وجل " وداعيا إلى الله " يعني أرسلناك داعيا إلى توحيد الله ومعرفته " بإذنه " يعني بأمره " وسراجا منيرا " يعني أرسلناك سراجا منيرا لأنه يضيء الطريق فهذه كلها صارت نصبا لنزع الخافض
(3/61)
1
62
ثم قال عز وجل " وبشر المؤمنين " يعني بشر يا محمد المصدقين بالتوحيد " بأن لهم من الله فضلا كبيرا " في الجنة
وذلك أنه لما نزل قوله عز وجل " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [ الفتح 20 ] فقال المؤمنون هذا لك
فما لنا فنزل قوله تعالى " وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا " في الجنة فلما سمع المنافقون ذلك قالوا فما لنا فنزل و " وبشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما " [ النساء 138 ]
ثم رجع إلى ما ذكر في أول السورة فقال تعالى " ولا تطع الكافرين " من أهل مكة " والمنافقين " من أهل المدينة " ودع أذاهم " أي تجاوز عن المنافقين ولا تقتلهم
ويقال " ودع أذاهم " يعني اصبر على أذاهم
وإن خوفك شيء منهم " فتوكل على الله " يعني فوض أمرك إلى الله
وروى الأعمش عن سفيان بن سلمة عن ابن مسعود قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة فقال رجل من الأنصار إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فأخبر بذلك فاحمر وجهه فقال ( رحم الله أخي موسى عليه السلام لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )
ثم قال " وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا " يعني حافظا نصيرا
سورة الأحزاب 49
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن " قرأ حمزة والكسائي " تماسوهن " وقرأ الباقون " تمسوهن " مثل الاختلاف الذي ذكرنا في سورة البقرة " فما لكم عليهن من عدة " يعني ليس للأزواج عليهن عدة " تعتدونها " وإنما خص المؤمنات لأن نكاح المؤمنات كان مباحا في ذلك الوقت فلما أحل الله تعالى نكاح الكتابيات صار حكم الكتابية وحكم المؤمنة في هذا سواء إذا طلقها قبل أن يخلو بها لا عدة عليها بالإجماع وإن طلقها بعد ما خلا بها ولم يدخل بها فقد روي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا لا عدة عليها
وقال عمر وعلي ومعاذ وزيد بن ثابت وجماعة منهم رضي الله عنهم أن عليها العدة وهو أحوط الوجهين أنه إذا خلا بها ولم تكن المرأة حائضا ولم يكن أحدهما مريضا ولا محرما ولا صائما صوم فرض يجب على الزوج المهر كاملا وعليها العدة احتياطا
وأما إذا كانت المرأة حائضا أو مريضة أو محرمة أو صائمة عن فرض أو الرجل مريض أو صائم عن فرض أو محرم فطلقها بعد الخلوة قبل الدخول فعليه نصف المهر وعليها العدة احتياطا
ثم قال " فمتعوهن " يعني متعة الطلاق ثلاثة أبواب وهي مستحبة غير واجبة " وسرحوهن سراحا جميلا " يعني خلو سبيلهن تخلية حسنة وهو أن يعطيها حقها
(3/62)
1
63
سورة الأحزاب 50
قوله عز وجل " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك " يعني نساءك " اللاتي آتيت أجورهن " يعني أعطيت مهورهن لأن غيره كان له أكثر من أربع نسوة أمره أن يترك ما زاد على الأربع وقد أحل للنبي صلى الله عليه وسلم إمساك التسع ولم يأمره بالفرقة
" وما ملكت يمينك " يعني أحللنا لك من الإماء مثل مارية القبطية " مما أفاء الله عليك " من الغنيمة يعني أعطاك الله كقوله تعالى " وما أفاء الله على رسوله " [ الحشر 7 ]
ثم قال " وبنات عمك " يعني أحللنا لك نكاح بنات عمك " وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك " يعني هاجرن معه من مكة إلى المدينة أو قبله أو بعده
ثم قال " وامرأة مؤمنة " يعني أحللنا لك امرأة مؤمنة " إن وهبت نفسها للنبي " صلى الله عليه وسلم وقرأ الحسن " أن وهبت " بنصب الألف ومعناه إذا وهبت ويكون ذلك الفعل خاصة لامرأة واحدة
وقراءة العامة " إن " بالكسر فيكون معناه لكل امرأة إن فعلت ذلك في المستقبل
قال مقاتل وذلك أن أم شريك وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم بغير مهر كذا قال الكلبي
وروى معمر عن الزهري في قوله " إن وهبت نفسها للنبي " قال بلغنا أن ميمونة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ووهبت سودة يومها لعائشة رضي الله عنهن
وروى وكيع عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي وعمرو بن الحكم وعبد الله بن عبيدة قال تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشر امرأة ستة من قريش خديجة بنت خويلد وعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية
وثلاثا من بني عامر وامرأتين من بني هلال ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وزينب أم المساكين وامرأة من بني بكر وهي التي اختارت الدنيا وامرأة من بني الحزن من كندة وهي التي استعاذت منه
وقال يحيى بن أبي كثير تزوج أربعة عشر خديجة وسودة وعائشة تزوج هؤلاء الثلاث بمكة وتزوج بالمدينة زينب بنت خزيمة وأم سلمة وجويريه من بني المصطلق
(3/63)
1
64
وميمونة بنت الحارث وصفية بنت حيي بن أخطب وزينب بنت جحش وكانت امرأة زيد بن حارثة وعالية بنت ظبيان وحفصة وأم حبيبة والكندية وامرأة من كلب
وروى الزهري عن عروة قال لما دخلت الكندية على النبي صلى الله عليه وسلم قالت أعوذ بالله منك فقال ( لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك )
ثم قال " إن أراد النبي أن يستنكحها " يعني أن يتزوجها بغير صداق " خالصة لك من دون المؤمنين " يعني خالصا للنبي صلى الله عليه وسلم بغير مهر ولا يحل لغيره
وقال الزهري الهبة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ولا تحل لأحد أن تهب له امرأة نفسها بغير صداق
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال لم تحل الموهوبة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم
واختلف الناس في جواز النكاح قال أهل المدينة باطل وقال أهل العراق النكاح جائز ولها مهر مثلها
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أجاز ذلك
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن خولة بنت حكيم وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت من المهاجرات الأول
وقال القتبي العرب تخبر عن الغائب ثم ترجع إلى الشاهد فتخاطبه كما قال هاهنا " إن وهبت نفسها للنبي " بلفظ الغائب ثم قال " خالصة لك من دون المؤمنين "
ثم قال " قد علمنا ما فرضنا عليهم " يعني ما أوجبنا عليهم " في أزواجهم " يعني في أن لا يتزوجوا إلا بالمهر
ويقال إلا أربعا " وما ملكت أيمانهم " ويقال يعني إلا ما لا وقت فيهن " لكيلا يكون عليك حرج " في الهبة بغير مهر
وفي الآية ومعناه أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم لكي لا يكون عليك حرج
ثم قال " وكان الله غفورا " يعني غفورا فيما تزوج قبل النهي " رحيما " في تحليل ذلك
سورة الأحزاب 51 - 52
(3/64)
1
65
قوله عز وجل " ترجي من تشاء منهن " قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم " ترجىء " بالهمزة وقرأ الباقون بغير الهمز كلاهما في اللغة واحد وأصله من التأخير
يقول تؤخر من تشاء منهن ولا تتزوجها " وتؤوي إليك من تشاء " يعني تضم فتتزوجها فخيره في تزويج القرابة
ويقال تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء
وقال قتادة جعله في حل أن يدع من يشاء منهن ويضم إليه من يشاء يعني إن شاء جعل لهن قسما وإن شاء لم يجعل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم
وقال الحسن كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة فليس لأحد أن يخطبها حتى يتزوجها أو يدعها وفي ذلك نزل " ترجي من تشاء منهن "
ثم قال " ومن ابتغيت " يعني آثرت " ممن عزلت " يعني تركت " فلا جناح عليك " يعني لا إثم عليك " ذلك أدنى " يعني أحرى وأجدر إذا علمن أنك تفعل بأمر الله " أن تقر أعينهن " يعني تطمئن قلوبهن " ولا يحزن " مخافة الطلاق " ويرضين بما آتيتهن " يعني أعطيتهن " كلهن " من النفقة إذا علمن أنه من الله عز وجل
وقرئ في الشاذ " كلهن " بالنصب صار نصبا لوقوع الفعل عليه وهو الإعطاء وقراءة العامة " أتيتهن كلهن " بالضم ومعناه يرضين كلهن بما أعطيتهن
ثم قال " والله يعلم ما في قلوبكم " من الحب والبغض " وكان الله عليما " بما في قلوبكم " حليما " بالتجاوز
قوله عز وجل " لا يحل لك النساء من بعد " قال مجاهد أي لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات " من بعد " يعني من بعد المسلمات " ولا أن تبدل بهن من أزواج "
يقول لا تبديل اليهوديات ولا النصرانيات على المؤمنات
يقول لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية إلا ما ملكت يمينك من اليهوديات والنصرانيات يتسراهن
قال الحسن وابن سيرين خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه بين الدنيا والآخرة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة فشكر الله لهن على ذلك فحبسه عليهن
فقال " لا يحل لك النساء من بعد " " ولا أن تبدل بهن من أزواج " يعني لا يحل لك أن تطلق واحدة منهن وتتزوج غيرهن
قرأ أبو عمرو " لا تحل " بالتاء بلفظ التأنيث وقرأ الباقون بالياء يعني لا يحل لك من النساء شيء
ويقال معناه لا تحل لك جميع النساء
فمن قرأ بالتاء بالتأنيث يعني جماعة النساء
ثم قال " ولو أعجبك حسنهن " يعني أسماء بنت عميس أراد أن يتزوجها فنهاه الله تعالى عز وجل عن ذلك فتركها وتزوجها أبو بكر رضي الله عنه بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلا ما ملكت يمينك " من السريات " وكان الله على كل شيء رقيبا " من أمر التزويج " رقيبا " يعني
(3/65)
1
66
حفيظا
وروى عمرو بن دينار عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حل له النساء بعد قوله " لا يحل لك النساء "
سورة الأحزاب 53 - 55
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي " وذلك أن أناسا من المسلمين كانوا يتحينون غذاء النبي صلى الله عليه وسلم ويدخلون عليه بغير إذن ويجلسون وينتظرون الغداء وإذا أكلوا جلسوا طويلا ويتحدثون طويلا فأمرهم الله عز وجل بحفظ الأدب فقال " لا تدخلوا بيوت النبي " " إلا أن يؤذن لكم إلى طعام " يعني إلا أن يدعوكم ويأذن لكم في الدخول " غير ناظرين إناه " يعني من غير أن تنتظروا وقته
ويقال أصله إدراك الطعام يعني غير ناظرين إدراكه
ويقال " إناه " يعني نضج الطعام
ثم قال " ولكن إذا دعيتم فادخلوا " يعني إذا دعاكم إلى الطعام فادخلوا بيته " فإذا طعمتم " الطعام " فانتشروا " يعني تفرقوا " ولا مستأنسين لحديث " أي لا تدخلوا مستأنسين للحديث " إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم " أن يقول لكم تفرقوا " والله لا يستحي من الحق " يعني من بيان الحق أن يأمركم بالخروج بعد الطعام
قال الفقيه أبو الليث في الآية حفظ الأدب والتعليم أن الرجل إذا كان ضيفا لا ينبغي أن يجعل نفسه ثقيلا ولكنه إذا أكل ينبغي أن يخرج
ثم قال " وإذا سألتموهن متاعا " يعني إذا سألتم من نسائه متاعا فلا تدخلوا عليهن " فاسألوهن من وراء حجاب " يعني من خلف الستر
ويقال خارج الباب " ذلكم أطهر " من الريبة " لقلوبكم وقلوبهن "
ثم قال " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " قال وذلك أن طلحة بن عبيد الله قال لئن مات محمد لأتزوجن بعائشة فنزل " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " " ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا " يعني ولا أن تتزوجوا أزواجه من بعد وفاته أبدا " إن ذلك كان عند الله عظيما " في العقوبة
ويقال إنما نهى عن ذلك لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة
وروي عن حذيفة أنه قال لامرأته إن أردت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تتزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها ولذلك حرم الله تعالى على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجن بعده
وروي أن أم الدرداء قالت لأبي الدرداء عند موته إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا فأنكحاك وإني أخطبك إلى نفسك في الآخرة فقال لها فلا تنكحي بعدي فخطبها معاوية بن أبي سفيان فأخبرته بالذي كان وأبت أن تتزوجه
وروي في خبر آخر بخلاف هذا أن أم حبيبة قالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المرأة منا كان لها زوجان لأيهما تكون في الآخرة فقال ( إنها تخير فتختار أحسنهما خلقا معها )
ثم قال ( يا أم حبيبة إن حسن الخلق ذهب بالدنيا والآخرة
(3/66)
1
)
ثم قال عز وجل " إن تبدوا شيئا أو تخفوه " يعني إن تظهروا شيئا من أمر التزويج أو تسروه وتضمروه " فإن الله كان بكل شيء عليما " من السر والعلانية يعلم ما أعلنتم وما أخفيتم يجازيكم به
ثم خص الدخول على نساء ذوات محرم بغير حجاب فرخص في ذلك وهو قوله عز وجل " لا جناح عليهن في آبائهن " يعني في الدخول عليهن " ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن " يعني نساء أهل دينهن " ولا ما ملكت أيمانهن " من الخدم " واتقين الله " يعني اخشين الله وأطعن الله فلا يراهن غير هؤلاء " إن الله كان على كل شيء شهيدا " يعني عالما بأعمالهم
سورة الأحزاب 56 - 58
قوله عز وجل " إن الله وملائكته يصلون على النبي " فالصلاة من الله الرحمة والمغفرة ومن الملائكة عليهم السلام الاستغفار يعني أن الله عز وجل يغفر للنبي ويأمر ملائكته بالاستغفار والصلاة عليه
(3/67)
1
67
سورة سبأ 34 - 35
قوله عز وجل " وما أرسلنا في قرية من نذير " يعني من رسول " إلا قال مترفوها " يعني جبابرتها ورؤساؤها للرسل " إنا بما أرسلتم به كافرون " يعني جاحدون بالتوحيد والمترف المتنعم وإنما أراد به المتكبرين " وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا " في الدنيا " وما نحن بمعذبين " في الآخرة
ومعناه أن الكفار المتقدمين استخفوا بالفقراء وآذوا الرسل كما يفعل بك قومك وافتخروا بما أعطاهم الله عز وجل من الأموال كما افتخر قومك
وأمره بأن يأمرهم بأن لا يفتخروا بالمال فإن الله تعالى يعطي المال لمن يشاء
سورة سبأ 36 - 39
قوله عز وجل " قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء " أي يوسع المال لمن يشاء وهو مكر منه واستدراج " ويقدر " يعني يقتر على من يشاء وهو نظر له لكي يعطى في الآخرة من الجنة بما قتر عليه في الدنيا " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " أن التقتير والبسط من الله عز وجل
ويقال لا يصدقون أن الذين اختاروا الآخرة خير من الذين اختاروا الدنيا فأخبرهم الله تعالى أن أموالهم لا تنفعهم يوم القيامة فقال عز وجل " وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى " يعني قربة ومعناه وما أموالكم بالتي تقربكم ولا أولادكم ولو كان على سبيل الجمع لقال بالذين يقربونكم لأن الحكم للآدميين إذا اجتمع معهم غيرهم
ثم قال " إلا من آمن " يعني إلا من صدق بالله ورسوله " وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف " يعني أجرة مثل ما يكون لغيره
ويقال الذي يقربكم إلى الله " فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا " يعني للواحد عشرة إلى سبعمائة وإلى ما لا يحصى
وقال القتبي أراد بالضعف التضعيف أي لهم جزاء وزيادة
قال ويحتمل " جزاء الضعف " أي جزاء الأضعاف كقوله " عذابا ضعفا من النار " [ الأعراف 38 ] أي مضافا
وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال إن الغني إذا كان تقيا يضاعف الله له الأجر مرتين ثم قرأ هذه الآية
" وما أموالكم ولا أولادكم " إلى قوله " فأولئك لهم جزاء الضعف " يعني أجره مثلي ما يكون لغيره
ويقال هذا لجميع من عمل صالحا
(3/68)
1
68
ثم أمر المسلمين بالصلاة عليه فقال " يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه " روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أنه قال قلنا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ) إلى آخره
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( صلوا علي فإن الصلاة علي زكاة لكم واسألوا الله لي الوسيلة )
قالوا وما الوسيلة يا رسول الله قال ( أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو )
وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات )
ويقال ليس شيء من العبادات أفضل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن سائر العبادات أمر الله تعالى بها عباده
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد صلى عليه أولا هو بنفسه وأمر الملائكة بذلك ثم أمر العباد بذلك
ثم قال " وسلموا تسليما " يعني اخضعوا له خضوعا
ويقال ائتمروا بما يأمركم الله تعالى
ويقال لما نزلت هذه الآية قال المسلمون هذا لك فما لنا فنزل " هو الذي يصلى عليكم وملائكته " [ الأحزاب 43 ]
ثم قال عز وجل " إن الذين يؤذون الله ورسوله " يعني اليهود والنصارى حيث قالوا " يد الله مغلولة غلت أيديهم " [ المائدة 64 ] ونحو ذلك من الكلمات ويقال أذاهم الله وهو قولهم لله ولد ونحو ذلك وإيذاءهم رسوله أنهم زعموا أنه ساحر ومجنون " لعنهم الله في الدنيا " يعني عذبهم الله في الدنيا بالقتل والسبي " والآخرة " بالنار
ويقال هم الذين يجعلون التصاوير ويقولون تخلق كما يخلق الله تعالى " وأعد لهم عذابا مهينا " يهانون فيه
ثم قال عز وجل " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا " يعني بغير جرم " فقد احتملوا بهتانا " يعني قالوا كذبا " وإثما مبينا " يعني ذنبا بينا
قال مقاتل قال السدي نزلت هذه الآية في أمر عائشة وصفوان ويقال في جميع من يؤذي مسلما بغير حق
وقال عثمان لأبي بن كعب إني قرأت هذه الآية " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات " فوقعت مني كل موقع والله إني لأضربهم وأعاقبهم
فقال له أبي إنك لست منهم إنك مؤدب معلم
سورة الأحزاب 59
(3/69)
1
69
قوله عز وجل " يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك " وذلك أن المهاجرين نزلوا في ديار الأنصار فضاقت الدور عليهم وكن النساء يخرجن بالليل إلى التخلي يقضين حوائجهن وكان الزناة يرصدون في الطريق المؤمنات وكانوا يطلبون الولائد ولم يعرفوا المرأة الحرة من الأمة بالليل
فأمر الحرائر بأخذ الجلباب
وقال الحسن كن النساء والإماء بالمدينة يقال لهن كذا وكذا يخرجن فيتعرض لهن السفهاء فيؤذونهن فكانت الحرة تخرج فيحسبون أنها أمة ويؤذونها فأمر الله تعالى المؤمنات " أن يدنين عليهم من جلابيبهن "
وقال القتبي يلبسن الأردية
ويقال يعني يرخين الجلابيب على وجههن
وقال مجاهد " يدنين عليهن من جلابيبهن " يعني متجلببين ليعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى من قول ولا ريبة
" ذلك أدنى " يعني أحرى أن يعرفن الحرائر " فلا يؤذين " " وكان الله غفورا رحيما " إذا تابوا ورجعوا
سورة الأحزاب 60 - 62
ثم أوعد المنافقين وخوفهم لينزجروا عن الحرائر والإماء فقال عز وجل " لئن لم ينته المنافقون " عن نفاقهم " والذين في قلوبهم مرض " يعني الميل إلى الزنى إن لم يتوبوا عن ذلك " والمرجفون في المدينة " يعني الذي يخبرون بالأراجيف
وكانوا يخبرون المؤمنين بما يكرهون من أمر عدوهم
والأراجيف هي أول الأخبار وأصل الرجف هو الحركة فإذا وقع خبر الكذب فإنه يقع الحركة بالناس فسمي إرجافا
ويقال الأراجيف تلقح الفتنة يعني إن لم ينتهوا عن النفاق وعن والفجور وعن القول بالأراجيف
" لنغرينك بهم " يعني لنسلطنك عليهم ويقال لنحملنك على قتلهم
وروى سفيان عن منصور عن أبي رزين قال " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة " فإن هذا كله شيء واحد
يعني أنه نعتهم بأعمالهم الخبيثة
" ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا " يعني لا يساكنونك في المدينة إلا قليلا حتى أهلكهم
ويقال إلا جوارا قليلا ويقال إلا قليلا منهم
وقال قتادة إن أناسا من المنافقين أرادوا أن يظهروا نفاقهم فنزلت هذه الآية
ثم قال عز وجل " ملعونين أينما ثقفوا " يعني يجعلهم ملعونين أينما وجدوا فأوجب الله تعالى لهم اللعنة على كل حال أينما وجدوا وأدركوا " أخذوا وقتلوا تقتيلا " فلما سمعوا بالقتل انتهوا عن ذلك
قوله عز وجل " سنة الله في الذين خلو من قبل " يعني سنة الله في الزناة القتل
(3/70)
1
70
ويقال هكذا سنة الله في الذين مضوا
يعني الذين أضمروا النفاق بأن يسلط الله عليهم الأنبياء بالقتل ويقال " سنة الله " " ولن تجد لسنة الله تبديلا " يعني مبدلا ومغيرا
سورة الأحزاب 63 - 68
قوله عز وجل " يسألك الناس عن الساعة " يعني عن قيام الساعة وذلك أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله متى الساعة فقال صلى الله عليه وسلم ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل )
فنزل " قل إنما علمها عند الله " يعني علم قيام الساعة عند الله " وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا " يعني سريعا
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال من أشراط الساعة أن يفتح القول ويحزن الفعل وأن ترفع الأشرار وتوضع الأخيار
ومعنى يفتح الأقوال أن تقول أفعل غدا
فإذا جاء غدا خالف قوله وقت الفعل
وأصل الفتح الابتداء وأن يعد لأخيه عدة حسنة ثم يخالفه وقال عطاء بن أبي رباح من اقتراب الساعة مطر ولا نبات وعلو أصوات الفساق في المساجد وظهور أولاد الزنا وموت الفجأة وانبعاث الدويبضة يعني السفلة من الناس
وقوله " لعل الساعة تكون قريبا " ولم يقل قريبة لأنها جعلت ظرفا وبدلا ولم تجعل نعتا وصفة
ثم قال عز وجل " إن الله لعن الكافرين " يعني خذلهم وطردهم من رحمته " وأعد لهم سعيرا " يعني جهنم
ويقال لعن الكافرين في الدنيا بالقتل وفي الآخرة أعد لهم سعيرا " خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا " يعني قريبا ينفعهم " ولا نصيرا " أي مانعا يمنعهم من العذاب والسعير في اللغة هو النار الموقدة
ثم قال عز وجل " يوم تقلب وجوههم في النار " يعني هذا العذاب في " يوم تقلب وجوههم في النار " يعني تحول عن الحسن إلى القبح من حال البياض إلى حال السواد وزرقة الأعين
ويقال " تقلب " يعني تجدد كقوله " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها " [ النساء 56 ] فيندمون على فعلهم ويوبخون أنفسهم و " يقولون يا ليتنا أطعنا الله " فيما أمرنا ونهانا " وأطعنا الرسولا " فيما دعانا إلى الحق " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا " يعني قادتنا وأشرافنا وعظماءنا " فأضلونا السبيلا " يعني صرفونا عن طريق الإسلام
ويقال أضللت
(3/71)
1
71
الطريق وأضللته عن الطريق بمعنى واحد
قرأ ابن عامر " ساداتنا "
وقرأ الباقون " سادتنا " جمع سيد وساداتنا جمع الجمع
ثم قال عز وجل " ربنا آتهم ضعفين من العذاب " يعني زدهم واحمل عليهم
يعني عذبهم بذنوبهم وارفع عنا بعض العذاب واحمل عليهم فإنهم هم الذين أضلونا " والعنهم لعنا كبيرا " قرأ عاصم وابن عامر في إحدى الروايتين " كبيرا " بالباء من الكبر والعظم يعني عذبهم عذابا عظيما
وقرأ الباقون " كثيرا " من الكثرة يعني عذبهم عذابا كثيرا دائما
سورة الأحزاب 69 - 71
قوله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى " يعني لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى عليه السلام
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرني الثقة بإسناده عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده
فقال بعضهم والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا به أدرة فذهب موسى عليه السلام مرة يغتسل
فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه فخرج موسى بأثره يقول حجر ثوبي حجر ثوبي حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى
فقالوا والله ما بموسى من بأس
فقام الحجر وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا )
فقال أبو هريرة ستة أو سبعا
والله إن بالحجر لندبا سبعة بضرب موسى وذلك قوله " فبرأه الله مما قالوا " ويقال إن موسى وهارون خرجا فتوفي هارون في تلك الخرجة فلما رجع موسى إلى قومه قالت السفهاء من بني إسرائيل لموسى أنت قتلت هارون
فخرج موسى مع جماعة من بني إسرائيل فأحيا الله تعالى هارون عليه السلام فأخبر أنه لم يقتله أحد وأنه مات بأجله فذلك قوله تعالى " فبرأه الله مما قالوا " " وكان عند الله وجيها " يعني مكينا وكان له جاه عنده منزلة وكرامة
ثم قال عز وجل " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله " يعني أطيعوا الله واخشوا الله " وقولوا قولا سديدا " يعني عدلا صوابا وهو قولهم ابن فلان فأمرهم أن ينسبوهم إلى آبائهم
ويقال " قولوا قولا سديدا " يعني لا إله إلا الله
ويقال قولا مخلصا " يصلح لكم أعمالكم " يعني يقبل أعمالكم " ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله " في السر والعلانية " فقد فاز فوزا عظيما " يعني نجا بالخير وأصاب نصيبا وافرا
(3/72)
1
72
سورة الأحزاب 72 - 73
قوله عز وجل " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال " قال مجاهد لما خلق الله عز وجل الأمانة عرضها على السموات والأرض والجبال " فأبين أن يحملنها " فلما خلق آدم عليه السلام عرض عليه الأمانة فحملها فما كان بين أن حملها وبين أن أخرج من الجنة إلا كما بين الظهر والعصر
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال " إنا عرضنا الأمانة يعني الفرائض على السموات والأرض والجبال
فقال لهن أتأخذن بما فيها فقلن وما فيها يا رب قال إن أحسنتن جزيتن وإن أسأتن عوقبتن
فقلن يا رب إن تعرضها علينا فلا نريد وإن أمرتنا بها فنحن نجتهد
وعرضت على الإنسان يعني آدم عليه السلام فقبلها وحملها
وقال بعضهم هذا على وجه المثل إن لم تظهر الخيانة في الأمانة إلا من الإنسان فلم تظهر من السموات والأرض والجبال كما قال " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل " [ الحشر 21 ] فكأنه يقول لو عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال لأبين عن حملها " وأشفقن منها وحملها الإنسان " يعني آدم وذريته " إنه كان ظلوما جهولا " بالقبول
وروي عن الحسن أنه قال عرض على السموات عرض التخيير لا عرض الإيجاب فلذلك لم تعص بترك قبولها ويقال " عرضنا الأمانة على السموات " يعني على ملائكة السموات والأرض والجبال كما قال " وسئل القرية " [ يوسف 82 ] يعني أهل القرية
وقال السدي لما آدم أراد أن يحج عرض الأمانة يعني أمر ولده شيث وهابيل وقابيل فعرض على قابيل أخذ خزائنه والائتمار والقيام في شغل الدنيا والعيش حتى يرجع هو من الحج إلى وطنه فقبله فقبله ثم خانه فقتل أخاه
وإنما كان عرض آدم عليه السلام بأمر الله عز وجل فلذلك قال " عرضنا "
وقال بعضهم إن الله عز وجل لما استخلف آدم على ذريته وسلطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والوحوش والطير عهد إليه عهدا أمره فيه ونهاه فقبله ولم يزل عاملا به إلى أن حضرته الوفاة فسأل ربه أن يعلمه من يستخلف بعده ويقلده الأمانة فأمره أن يعرض على السموات والأرض بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى " فأبين " أن يقبلنها شفقا من عذاب الله عز وجل فأمره أن يعرض على الأرض والجبال وكلها
(3/73)
1
73
أبت ثم أمره أن يعرض على ولده فعرض عليه فقبله بالشرط " إنه كان ظلوما جهولا " لعاقبة ما تقلده يعني المتقبل الذي تقبله
وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم قال " الأمانة " ثلاث في الصلاة والصيام والجنابة
ثم قال عز وجل " ليعذب الله المنافقين والمنافقات " يعني عرضنا الأمانة على الإنسان لكي يعذب الله المنافقين والمنافقات " والمشركين والمشركات " بما خانوا الأمانة " ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات " بما أوفوا الأمانة " وكان الله غفورا رحيما " " وكان " صلة في الكلام يعني والله غفور لذنوب المؤمنين رحيم بهم
وروى سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال قال أبي بن كعب كانت سورة الأحزاب لتقارب سورة البقرة أو أطول منها وكان فيها آية الرجم قلت يا أبا المنذر وما آية الرجم فقال إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله العزيز الحكيم والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وسلم
74
سورة سبأ
مكية وهي خمسون وأربع آيات
سورة سبأ 1 - 2
قول الله تعالى " الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض " من الخلق " وله الحمد في الآخرة " يعني يحمده أهل الجنة
ويقال يحمدونه في ستة مواضع أحدهما حين نودي " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " [ يس 59 ] فإذا تميز المؤمنون من الكافرين يقولون " الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين " [ المؤمنون 28 ] كما قال نوح عليه السلام حين أنجاه الله عز وجل من قومه
والثاني حين جازوا الصراط قالوا " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " [ فاطر 34 ]
والثالث لما دنوا إلى باب الجنة واغتسلوا بماء الحيوان ونظروا إلى الجنة وقالوا " الحمد لله الذي هدانا لهذا " [ الأعراف 43 ]
والرابع لما دخلوا الجنة استقبلتهم الملائكة عليهم السلام بالتحية فقالوا " الحمد لله الذي صدقنا وعده " [ الزمر 74 ] الآية
والخامس حين استقروا في منازلهم وقالوا " الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله " [ فاطر 34 ، 35 ]
والسادس كلما فرغوا من الطعام قالوا " والحمد لله رب العالمين " [ الفاتحة 1 ] وقال بعضهم أنا الذي أتوجب الحمد في الآخرة كما استوجب الحمد في الدنيا ثم قال " وهو الحكيم الخبير " يعني حكم بالبعث " الخبير " يعني العليم
ثم قال عز وجل " يعلم ما يلج في الأرض " يعني ما يدخل في الأرض من المطر والأموات والطيور والكنوز " وما يخرج منها " من النبات والكنوز والميت " وما ينزل من السماء " من مطر أو وحي أو رزق أو مصيبة " وما يعرج فيها " يعني يصعد إلى السماء من الملائكة وأعمال بني آدم " وهو الرحيم " بخلقه " الغفور " بتأخير العذاب عنهم
سورة سبأ 3
(3/74)
1
75
سورة سبأ 4 - 5
قوله عز وجل " وقال الذين كفورا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي " قسم أقسم به يعني بلى والله
( لتأتينكم عالم الغيب ) قرأ ابن عامر ونافع " عالم " بالضم جعله رفعا بالابتداء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم " عالم الغيب " بكسر الميم وهو صفة لله تعالى وهو قوله " الحمد لله " ويقال رده إلى حرف القسم وهو قوله " قل بلى وربي عالم الغيب "
وقرأ حمزة والكسائي " علام الغيب " وهو على المبالغة في وصف الله عز وجل بالعلم
ويقال من قرأ " عالم الغيب " بضم الميم فهو على المدح ومعناه هو " عالم الغيب "
ويقال هو على الابتداء وخبره " لا يعزب عنه "
قرأ الكسائي " لا يعزب " بكسر الزاي وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد أي لا يغيب عنه " مثقال ذرة " يعني وزن ذرة صغيرة
والذرة النملة الصغيرة الحمراء ويقال التي ترى في شعاع الشمس " في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين " يعني قد بين الله عز وجل في اللوح المحفوظ
قوله عز وجل " ليجزي " يعني لكي يثيب " الذين آمنوا " بأعمالهم في الدنيا " وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة " لذنوبهم " وزرق كريم " أي ثواب حسن في الجنة
قوله عز وجل " والذين سعوا في آياتنا " يعني عملوا في القرآن " معاجزين " يعني متسابقين ليسبق كل واحد منهم بالتكذيب قرأ أبو عمرو وابن كثير " معجزين " أي مثبطين يثبطون الناس عن الإيمان بالقرآن " أولئك لهم عذاب من رجز أليم " قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص " أليم " بضم الميم وكذلك في الجاثية جعلاه من نعت العذاب يعني عذاب أليم من رجز على معنى التقديم عذاب شديد
وقرأ الباقون بالكسر فيكون صفة للرجز يعني عذاب من العذاب الأليم
سورة سبأ 6 - 9
ثم قال عز وجل " ويرى الذين أوتوا العلم " يعني ويعلم الذين أتوا العلم
وهكذا في قراءة ابن مسعود يعني به مؤمني أهل الكتاب يعني إنهم يعلمون أن " الذي أنزل إليك من ربك " يعني القرآن " هو الحق ويهدي " يعني يدعو ويدل " إلى صراط العزيز الحميد "
(3/75)
1
76
يعني إلى طريق الرب العزيز بالنقمة لمن لم يجب الرسل " الحميد " في فعاله
قوله عز وجل " وقال الذين كفروا " يعني كفار أهل مكة " هل ندلكم على رجل " يعني قال بعضهم لبعض هل ندلكم على رجل " ينبئكم " يعني يخبركم " إذا مزقتم كل ممزق " يعني يخبركم أنكم إذا متم وتفرقتم في الأرض وأكلتكم الأرض كل ممزق وكنتم ترابا " إنكم لفي خلق جديد " يعني بعد هذا كله صرتم خلقا جديدا
قوله عز وجل " افترى على الله كذبا " يعني قالوا إن الذي يقول إنكم لفي خلق جديد اختلق على الله كذبا " أم به جنة " يعني به جنون
يقول الله " بل الذين لا يؤمنون بالآخرة " هم أكذب حين كذبوا بالبعث " في العذاب والضلال البعيد " يعني هم في العذاب في الآخرة والخطأ الطويل في الدنيا عن الحق
ثم خوفهم ليعتبروا فقال عز وجل " أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض " لأن الإنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض
قال قتادة إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك أو بين يديك أو من خلفك رأيت السماء والأرض " إن يشأ يخسف بهم الأرض " يعني تغور بهم وتبتلعهم الأرض " أو نسقط عليهم كسفا من السماء " يعني جانبا من السماء
قرأ حمزة والكسائي " إن يشأ يخسف " " أو يسقط " الثلاثة كلها بالياء
وقرأ الباقون كلها بالنون
فمن قرأ بالياء فمعناه إن يشأ الله ومن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه
ثم قال عز وجل " إن في ذلك لآية " يعني لعبرة " لكل عبد منيب " يعني مقبل إلى طاعة الله عز وجل ويقال مخلص القلب بالتوحيد ويقال " أفلم يروا إلى ما بين أيديهم " يعني أفلم يعلموا أن الله خالقهم وخالق السموات والأرض وهو قادر على أن يخسف بهم إن لم يوحدوا " إن في ذلك لآية " أي لعلامة لوحدانيتي
سورة سبأ 10 - 11
قوله عز وجل " ولقد آتينا داود منا فضلا " يعني أعطيناه النبوة والملك حتى قلنا " يا جبال أوبي معه " يعني سبحي مع داود
وأصله في اللغة من الرجوع وإنما سمي التسبيح إيابا لأن المسبح يسبح مرة بعد مرة
وقال القتبي أصله التأويب من السير وهو أن يسير النهار كله كأنه أراد أوبي النهار كله بالتسبيح إلى الليل
ثم قال " والطير " وقرئ في الشاذ " والطير " بالضم وقراءة العامة بالنصب
فمن قرأ بالضم فهو على وجهين
أحدهما أن يكون نسقا على ما في " أوبي " والمعنى يا جبال ارجعي بالتسبيح معه أنت والطير
ويجوز أن يكون مرفوعا على النداء والمعنى أيها الجبال وأيها الطير
ومن قرأ بالنصب فلثلاث معان أحدها لنزع الخافض ومعناه أوبي معه ومع
(3/76)
1
77
الطير
والثاني أنه عطف على قوله " ولقد آتينا داود منا فضلا " وآتيناه الطير يعني وسخرنا له الطير
والثالث أن النداء إذا كان على أثره اسم فكان الأول بغير الألف واللام والثاني بالألف واللام فإنه في الثاني بالخيار إن شاء نصبه وإن شاء رفعه والنصب أكثر كما قال الشاعر
( ألا يا زيد والضحاك سيرا % فقد جاوزتما خمر الطريق )
ورفع زيدا لأنه نداء مفرد ونصب الضحاك بإدخال الألف واللام
ثم قال عز وجل " وألنا له الحديد " يعني جعلنا له الحديد مثل العجين " أن اعمل سابغات " يعني قلنا له اعمل الدروع الواسعة وكان قبل ذلك صفائح الحديد مضروبة
ثم قال " وقدر في السرد " قال السدي " السرد " المسامير التي في حلق الدروع
وقال مجاهد " وقدر في السرد " أي لا تدق المسامير فتقلقل في الحلقة ولا تغلظها فتقصمها واجعله قدرا بين ذلك
وقال في رواية الكلبي هكذا وقال بعضهم هذا لا يصح لأن الدروع التي عملها داود عليه السلام بغير مسامير لأنها كانت معجزة له ولو كان محتاجا إلى المسمار لما كان بينه وبين غيره فرق
وقد يوجد من بقايا تلك الدروع بغير مسامير ولكن معنى قوله " وقدر في السرد " أي قدر في نسجها وطولها وعرضها وضيقها وسعتها
ويقال " قدر " في تأليفه
والسرد في اللغة تقدمة الشيء إلى الشيء يأتي متسقا بعضه في أثر بعض متتابعا
ويقال سرد في الكلام إذا ذكره بالتأليف ومنه قيل لصانع الدروع سردا وزراد يبدل من السين الزاي
ثم قال " واعملوا صالحا " يعني أدوا فرائضي وقد خاطبه بلفظ الجماعة كما قال " يا أيها الرسل كلوا من الطيبيات " [ المؤمنون 51 ] وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة
ويقال إنه أراد به داود وقومه " إني بما تعملون بصير " يعني عالم
سورة سبأ 12 - 14
قوله عز وجل " ولسليمان الريح " قرأ عاصم في رواية أبي بكر " الريح " بالضم وقرأ الباقون بالنصب
فمن قرأ بالنصب فمعناه " وسخرنا لسليمان الريح " كما اتفقوا في سورة الأنبياء ومن قرأ بالضم فمعناه " ولسليمان الريح " مسخرة يكون رفعا على معنى الخبر
(3/77)
1
78
ثم قال " غدوها شهر ورواحها شهر " تسير به الريح عند الغداة مسيرة شهر فتحمله مع جنوده من بيت المقدس إلى اصطخر
" ورواحها شهر " يعني تسير به عند آخر النهار مسيرة شهر من اصطخر إلى بيت المقدس واصطخر عند بلاد فارس " وأسلنا له عين القطر " يعني أجرينا له عين الصفر المذاب
يقال تسيل له في كل شهر ثلاثة أيام يعمل بها ما أحب
وروى سفيان عن الأعمش قال سيلت له كما سيل الماء ويقال جرى له عين النحاس في اليمن
وقال شهر بن حوشب جرى له عين النحاس من صنعاء " ومن الجن من يعمل بين يديه " يعني وسخرنا لسليمان " من الجن من يعمل بين يديه " " بإذن ربه " أي بأمر ربه " ومن يزغ منهم عن أمرنا " يعني من يعص سليمان فيما أمره " نذقه من عذاب السعير " قال بعضهم كان معه ملك ومعه سوط من عذاب السعير فإذا خالف سليمان أحد الشياطين ضربه بذلك السوط
وقال مقاتل يعني به عذاب الوقود في الآخرة
قوله عز وجل " يعملون له ما يشاء من محاريب " يعني المساجد
ويقال الغرف
" وتماثيل " يعني على صور الرجال من الصفر والنحاس لأجل الهيبة في الحرب وغيره
ويقال ويجعلون صورا للأنبياء ليستزيد الناس رغبة في الإسلام
ثم قال " وجفان كالجواب " يعين قصاعا كالحياض الكبيرة ويجلس على قصعة واحدة ألف رجل أو أقل أو أكثر
الجابية في اللغة الحوض الكبير وجماعته جوابي
قرأ ابن كثير " كالجوابي " بالياء في الوقف والوصل جميعا وقرأ أبو عمرو وبالياء في الوصل والباقون بغير ياء
فمن قرأ بالياء فلأنه الأصل ومن حذف فلاكتفائه بكسر الياء
" وقدور راسيات " يعني ثابتات في الأرض وكان سليمان يتخذ القدور من الجبال
قال مقاتل كان ملكه ما بين مصر وبابل وقال بعضهم جميع الأرض
ثم قال " اعملوا آل داود " يعني يا آل داود " شكرا " لما أعطيتكم من الفضل
ويقال معناه اعملوا عملا تؤدوا بذلك شكر نعمتي " وقليل من عبادي الشكور " و " الشكور " هو المبالغة في الشكر وهو من كان عادته الشكر في الأحوال كلها وقيل مثل هذا في الناس قليل وهذا معنى قوله " وقليل من عبادي الشكور " وروي عن أبي العالية أنه قال هو شكر الشكر يعني إذا شكر النعمة يعلم أن ذلك الشكر بتوفيق الله عز وجل ويشكر لذلك الشكر وهذا في الناس قليل
ثم قال عز وجل " فلما قضينا عليه الموت " يعني على سليمان عليه الصلاة والسلام فكان سليمان يبني في بيت المقدس فرأى أن ذلك لا يتم إلا بالجن فأمرهم بالعمل وقال لأهله لا تخبروهم بموتى
فكان قائما في الصلاة متكئا على عصاه وكان سليمان عليه السلام يطول الصلاة وكان الجن إذا حضروا رأوه قائما فرجعوا ويقولون إنه قائم يصلي فيقبلون على أعمالهم
(3/78)
1
79
وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال كان سليمان عليه السلام إذا مر بشجرة يعني بشيء من نبات الأرض قال لها ما شأنك فتخبره الشجرة أنها كذا وكذا ولمنفعة كذا وكذا فيدفعها إلى الناس حتى ينتفعوا بها
فمر بشجرة فقال لها ما اسمك يا شجرة فقالت أنا خرنوبة
فقال ما شأنك قالت أنا لخراب المسجد
فتعصى سليمان منها عصا فكانت الجن يقولون للإنس إنا نعلم الغيب وإن سليمان سأل الله عز وجل أن يخفي موته
فلما قضى الله عز وجل على سليمان الموت لم تدر الجن ولا الإنس ولا أحد كيف مات ولم يطلع أحد على موته
والجن تعمل أشد ما كانوا عليه حتى خر سليمان عليه السلام فنظروا كيف مات فلم يدروا فنظروا إلى العصا فرأوا العصا قد أكلت يعني قد أكل منها وفي العصا أرضة
فنظروا إلى أين أكلت الأرضة من العصا فجعلوا لها علما ثم ردوا الأرضة فيها فأكلت شهرا ثم نظروا كم أكلت في هذا الشهر ثم قاسوها بما أكلت من قبل فكان لموته اثنا عشر شهرا فتبين للجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين
فقالت الجن إن لها علينا حقا يعني للأرضة فم يبلغونها الماء فلا يزل لها طينة رطبة فذلك قوله " فلما قضينا عليه الموت " " ما دلهم على موته " يعني ما دل الجن على موت سليمان " إلا دابة الأرض " يعني الأرضة " تأكل منسأته " يعني عصاه
قرأ نافع وأبو عمرو " منساته " بلا همز وقرأ الباقون بالهمز
فمن قرأ بالهمز فهو من نسأ ينسأ إذا زجر الدابة ثم تمسى عصاه منسأة لأنه يزجر بها الدابة
ومن قرأ بغير همز فقد حذف الهمزة للتخفيف وكلاهما جائز
" فلما خر " يعني سقط سليمان عليه السلام " تبينت الجن " عند ذلك للأنس أن الجن لا يعلمون الغيب
ويقال " تبينت الجن " يعني ظهر لهم أنهم لو علموا الغيب " ما لبثوا في العذاب المهين " فتفرقوا عند ذلك
قرأ حمزة " من عبادي الشكور " بسكون الياء وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان وكلاهما جائز
سورة سبأ 15 - 17
قوله عز وجل " لقد كان لسبإ " قرئ بالنصب والكسر وقد ذكرناه من قبل
فمن قرأ بالكسر والتنوين جعله اسم أب القبيلة ومن قرأ بالنصب جعله أرضا والأول أشبه
لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن سبأ
فقال ( هو اسم رجل )
ويقال هو سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان
وروي عن ابن بعاس أنه قال ( هي قرى اليمن بعث عز وجل ثلاثة عشر نبيا
(3/79)
1
80
عليهم السلام إلى ثلاث عشرة قرية باليمن اتبع بعضهم بعضا حتى اجتمعت الرسل في آل سبأ
وقرية أخرى فأتوهم فذكروهم نعم الله عز وجل وخوفوهم عقابه )
وروى أسباط عن السدي قال كانت أرضهم أرضا خصيبة وكانت المرأة تخرج على رأسها مكتلا فلا ترجع حتى تملأ مكتلها من أنواع الفاكهة من غير أن تمد يدها وكان الماء يأتيهم من مسيرة عشرة أيام حتى يحبس بين جبلين وكانوا قد ردموا ردما بين جبلين فحبسوا الماء وكان يأتيهم من السيول فيسقون بساتينهم وأشجارهم
ويقال كان لهم وادي وكان للوادي ثلاث درقات فإذا كثر الماء فتحوا الدرقة العليا وإذا انتقص فتحوا الدرقة الوسطى وإذا قل الماء فتحوا السفلى فأخصبوا وكثرت أموالهم واتخذوا من الجنان ما شاؤوا
فلما أحبوا ذلك وكذبوا رسلهم بعث الله عز وجل عليهم جرذا فنقب ذلك الردم بجنب بستان رجل منهم يقال له عمران بن عامر وهو أبو الأنصار والأزد وغسان وخزاعة وكانوا يسمون المنسأة العرم فدخل البستان فإذا هو ينقب العرم وقد سال فأمر به فسد ثم نظر إلى الجرذة تنقل أولادها من أصل الجبل إلى أعلاه
وكان كاهنا فقال ما تنقل هذه أولادها من أصل الجبل إلى أعلاه إلا وقد حضر هلاك هذه البلدة
فدعا ابن أخ له فقال إذا رأيتني جلست في جماعة قومي فائتني فقل أي عم أعطني ميراثي من أبي فإني سأقول وهل ترك أبوك شيئا فأردد علي وكذبني فإذا كذبتني فإني سألطمك فالطمني
فقال أي عم ما كنت لأفعل هذا بك قال بلى
فلما رأى لعمه في ذلك هوى منه فعل ما مره ففعل
فقال ابن عامر لله علي كذا وكذا أن أسكن هذه البلاد من يشتري ما لي
فلما عرفوا منه الجد قال هذا أعطيك كذا
وقال هذا أعطيك كذا فنظر إلى أجودهم صفقة فقال عجل إلى مالي فقد حلفت أن لا أبيت بها فعجلوا إليه ماله وارتحل من يومه حتى شخص عنهم فاتسع ذلك الخرق حتى انهدم وغرق بلادهم وتفرقوا في البلدان
فذلك قوله " لقد كان لسبأ " " في مسكنهم " قرأ الكسائي " في مسكنهم " بكسر الكاف والنون وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص " مسكنهم " بنصب الكاف وكسر النون وقرأ الباقون " مساكنهم " بالألف المسكن والمسكن بنصف الكاف وكسره واحد وهما لغتان مثل مطلع ومطلع والمساكن جمع مسكن
وقد قيل المسكن جمع المساكن يعني لقد كان في منازلهم وقرياتهم " آية " أي علامة لوحدانيتي " جنتان عن يمين وشمال " يعني بستانان عن يمين الوادي وعن شماله
وإنما أراد بالبستان البساتين
ويقال بساتين عن يمين الطريق وبساتين عن شماله فأرسل الله تعالى إليهم الرسل فذكروهم النعم فقيل لهم " كلوا من رزق ربكم " يعني من فضل ربكم عليكم " واشكروا له " فيما رزقكم " بلدة طيبة " يعني هذه بلدة طيبة لينة بلا
سبخة " ورب غفور " لمن تاب من الشرك
" فأعرضوا " عن الإيمان
وقالوا من الذي يأخذ منا هذه النعم " فأرسلنا عليهم سيل العرم " والعرم هو اسم لذلك الوادي ويقال اسم للمنسأة
ويقال هو اسم للفأرة التي
(3/80)
1
81
قرضت النهر حتى سال علهم الماء وجرى في بساتينهم وفي بيوتهم فخربها وندت أنعامهم وأخذ كل واحد منهم بيد ولده وامرأته فصعدوا بهم الجبل فذلك قوله تعالى " وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط " يعني أبدلهم الله تعالى مكان الفاكهة ذواتي أكل خمط أي الأراك " وأثل " يعني الطرفاء " وشيء من سدر قليل " والسدر كانوا يستظلون في ظله ويأكلون من ثمره
قرأ أبو عمرو " أكل خمط " بكسر اللام بغير تنوين وقرأ الباقون بالتنوين فمن قرأ بالتنوين أراد " ذواتي " ثمر يؤكل ثم قال " خمط " جعله بدلا من أكل
والمعنى ذواتي خمط وأكله ثمرة
ومن قرأ بغير تنوين أضاف الأكل إلى الخمط والخمط هو الأراك في اللغة المعروفة
وقال بعضهم كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا مكن أكله فهو خمط
ثم قال " ذلك جزيناهم " يعني ذلك الذي أصابهم عقوبة لهم عاقبناهم " بما كفروا " أي بكفرهم " وهل نجازي إلا الكفور " يعني وهل يعاقب بمثل هذه العقوبة إلا الكفور بنعمة الله تعالى ويقال " الكفور " الكافر
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " وهل نجازي " بالنون وكسر الزاي " إلا الكفور " بالنصب
وقرأ الباقون " يجازي " بالياء وفتح الزاي " إلا الكفور " بالضم
فمن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه والكفور نصب لوقوع الفعل عليه
ومن قرأ " يجازى " بالياء فهو على فعل ما لم يسم فاعله يعني هل يعاقب بمثل هذه العقوبة إلى الكفور بنعمة الله تعالى ويقال هل يجازي الله ومعنى الآية أن المؤمن يكفر عنه السيئات بالحسنات وأما الكافر فإنه يحبط عمله كله فيجازى بكل سوء يعمله كما قال " أضل أعمالهم " [ محمد 1 ] أي أبطل أعمالهم وأحبطها فلم ينفعهم منها شيء وهذا معنى قوله " وهل يجازي إلا الكفور "
سورة سبأ 18 - 21
ثم قال عز وجل " وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها " قال في رواية الكلبي إنهم قالوا للرسل إنا قد عرفنا نعمة الله علنيا فوالله لئن رد الله فيئتنا وجماعتنا والذي كنا عليه لنعبدنه عبادة لم يعبدها إياه قوم قط
ودعت لهم الرسل ربهم فرد الله لهم ما كانوا عليه وأتاهم نعمه وجعل لهم من أرضهم إلى أرض الشام قرى متصلة بعضها إلى بعض فذلك
(3/81)
1
82
قوله " وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها " " قرى ظاهرة " ثم عادوا إلى الكفر فأتاهم الرسل فذكروهم نعمة الله فكذبوهم فمزقهم الله كل ممزق
وقال غيره " وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها " هذا حكاية عما كانوا فيه من قبل أن يرسل عليهم سيل العرم " قرى ظاهرة " يعني متصلة على الظهور من حيث يرى بعضها من بعض " وقدرنا فيها السير " للمبيت والمقيل من قرية إلى قرية " سيروا فيها " يعني ليسيروا فيها
اللفظ لفظ الأمر والمراد به الشرط والجزاء
فلم يشكروا ربهم فسألوا ربهم أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض
" فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا " وقد كانوا في قراهم منعمين آمنين فذلك قوله " ليالي وأياما آمنين " يعني أنهم كانوا يسيرون من قرية إلى قرية بالليل والنهار آمنين من الجوع والعطش واللصوص والسباع
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " بعد " بغير ألف وتشديد العين وقرأ الباقون " باعد " بالألف وهما لغتان بعد باعد
وقرأ يعقوب الحضرمي وكان من أهل البصرة " ربنا " بضم الباء " باعد " بنصب العين وهو على معنى الخبر
وروى الكلبي عن أبي صالح أنه قرأ هكذا معناه وقالوا " ربنا باعد بين أسفارنا " فلذلك لا ينصب
ثم قال " وظلموا أنفسهم " بالشرك وتكذيب الأنبياء " فجعلناهم أحاديث " يعني أهلكهم الله تعالى فصاروا أحاديث للناس يتحدثون في أمرهم وشأنهم لم يبق أحد منهم في تلك القرى " ومزقناهم كل ممزق " أي فرقناهم في كل وجه فألقى الله الأزد بعمان والأوس والخزرج بالمدينة وهما أخوان وأهل المدينة كانوا من أولادهما إحدى القبيلتين الخزرج والأخرى ألاوس فسموا باسم أبيهم
وخزاعة بمكة كانوا بنو خزاعة منهم لخم وجذام بالشام ويقال كلب وغسان " إن في ذلك " يعني في هلاكهم وتفريقهم " لآيات " أي لعبرات " لكل صبار شكور " يعني للمؤمنين الذين صبورا على طاعة الله تعالى وشكروا نعمته
قوله عز وجل " ولقد صدق عليهم إبليس ظنه " يعني على أهل سبأ ويقال هذا ابتداء يعني جميع الكفار
وذلك أن إبليس قد قال " قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " [ ص 82 - 83 ] فكان ذلك ظنا منه فصدق ظنه " فاتبعوه إلا فريقا " يعني طائفة " من المؤمنين " وهم الذين قال الله تعالى " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " [ الحجر 42 ] وقال سعيد بن جبير كان ظنه أنه قال أنا ناري وآدم طيني والنار تأكل الطين
وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر " ولقد صدق " بالتخفيف يعني صدق في ظنه وقرأ الباقون " صدق " بالتشديد يعني صار ظنه صدقا
قوله عز وجل " وما كان له عليهم من سلطان " يعني لم يكن له عليهم ملك
يقهرهم
وقال الحسن البصري رحمه الله والله ما ضربهم بعصا ولا أكرههم على شيء وما كان إلا
(3/82)
1
83
غرورا وأماني دعاهم إليها فأجابوه
وقال قتادة والله ما كان ظنه إلا ظنا فنزل الناس عند ظنه
وقال معمر قال لي مقاتل إن إبليس لما أنزل آدم عليه السلام ظن أن في ذريته من سيكون أضعف منه فصدق عليهم ظنه
فإن قيل في آية أخرى " إنما سلطنه على الذين يتولونه " [ النحل 100 ] وهاهنا يقول " وما كان له عليهم من سلطان " قيل له أراد بالسلطان هناك الحجة يعني إنما حجته على الذين يتولونه وهاهنا أراد به الملك والقهر يعني لم يكن له عليهم ملك يقهرهم به
ويقال معنى الآيتين واحد لأن هناك قال إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا
وهاهنا قال " وما كان له عليهم من سلطان " يعني حجة وعلى فريق من المؤمنين إلا بالتزيين والوسوسة منه
" إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة " يعني يميز من يصدق بالبعث " ممن هو في شك " يعني من قيام الساعة
وقال القتبي علم الله نوعان أحدهما علم ما يكون من إيمان المؤمنين وكفر الكافرين من قبل أن يكون وهذا علم لا يجب به حجة ولا عقوبة
والآخر علم الأمور الظاهرة فيحق به القول ويقع بوقوعها الجزاء
يعني ما سلطانه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهرا موجودا وكفر الكافرين ظاهرا موجودا
وكذلك قوله " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " [ آل عمران 142 ] الآية
ثم قال عز وجل " وربك على كل شيء حفيظ " يعني عالما باليقين والشك ويقال عالم بما يكون منهم قبل كونه ويقال " حفيظ " يحفظ أعمالهم ليجازيهم
سورة سبأ 22 - 23
ثم قال عز وجل " قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله " يعني قل لكفار مكة " ادعو الذين زعمتم من دون الله " أنهم آلهة فيكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم من الجوع يعني الأصنام
ويقال الملائكة عليهم السلام " لا يملكون مثقال ذرة " يعني نملة صغيرة " في السموات ولا في الأرض " يعني إذا كان حالهم هذا فمن أين جعلوا لهم الشركة في العبادة
ثم قال " وما لهم فيهما من شرك " يعني في خلق السموات والأرض من عون ويقال ما لهم فيها من نصيب " وما له منهم من ظهير " يعني معين من الملائكة الذين يعبدونهم
ثم ذكر أن الملائكة لا يملكون شيئا من الشفاعة فقال عز وجل " ولا تنفع الشفاعة عنده " يعني لا تنفع الشفاعة لأحد لا نبيا ولا ملكا " إلا لمن أذن له " أن يشفع لأحد من أهل التوحيد
قرأ نافع وابن كثير وعاصم في إحدى الروايتين " إلا لمن أذن له " بالنصب يعني حتى يأذن الله عز وجل له
قرأ الباقون بالضم على فعل ما لم يسم فاعله ومعناه مثل الأول
(3/83)
1
84
ثم أخبر عن خوف الملائكة أنهم إذا سمعوا الوحي خروا سجدا من مخافة الله عز وجل وكيف يعبد من هذه حاله فذلك قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " وذلك أن أهل السموات لم يكونوا سمعوا صوت الوحي بين عيسى ومحمد عليهما السلام فسمعوا صوتا كوقع الحديد على الصفا وذلك صوت الوحي ويقال صوت نزول جبريل عليه السلام فخروا سجدا مخافة القيامة فهبط جبريل عليه السلام على أهل كل سماء فأخبرهم أنه الوحي فذلك قوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " وذكر عن بعض أهل اللغة أنه قال إذا كانت " حتى " موصولة بإذا تكون بمعنى لما ويقع موقع الابتداء كقوله عز وجل " حتى إذا فتحنا عليهم بابا " [ المؤمنون 77 ] كقوله " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " [ الأنبياء 96 ] وكقوله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " [ سبأ 23 ] يعني لما فزع عن قلوبهم ومعناه انجلاء الفزع عن قلوبهم فقاموا عن السجود وسأل بعضهم بعضا " قالوا ماذا قال ربكم " يعني ماذا قال جبريل عليه السلام عن ربكم " قالوا الحق " يعني الوحي
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثنا الخليل بن أحمد
قال حدثنا الدبيلي
قال حدثنا أبو عبد الله
قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خفقانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان " فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم " قالوا الذي قال " الحق " الذي قال والشياطين بعضهم فوق بعض فإذا سمع الأعلى منهم الكلمة رمى بها إلى الذي تحته وربما أدركه الشهاب قبل أن ينبذها وربما نبذها قبل أن يدركه الشهاب فينبذها بعضهم إلى بعض حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى على لسان الكاهن والساحر فيكذب معها مائة كذبة فيصدق فيقول أليس قد أخبر بكذا وكذا وكان حقا وهي الكلمة التي سمع من السماء )
قرأ ابن عامر " حتى إذا فزع " بنصب الفاء والزاي يعني كشف الله الفزع وقرأ الباقون بضم الفاء وكسر الزاي على معنى فعل ما لم يسم فاعله
وقرأ الحسن " حتى إذا فرغ " بالراء والغين يعني فرغ الفزع عن قلوبهم وقراءة العامة بالزاي أي خفف عنها الفزع
وقال مجاهد معناه حتى إذا كشف عنها الغطاء يوم القيامة ثم قال " وهو العلي الكبير " يعني هو أعلى وأعظم وأجل من أن يوصف له شريك
سورة سبأ24 - 25
(3/84)
1
85
سورة سبأ 26 - 30
قوله عز وجل " قل من يرزقكم من السموات والأرض " يعني المطر والنبات فإن أجابوك وإلا ف " قل الله " يعني الله يرزقكم من السموات والأرض ثم قال " وإنا أو إياكم " يعني قل لهم أحدنا " لعلى هدى " والأخرى على الضلالة
يعني إنا على الهدى وأنتم على الضلالة وهذا كرجل يقول لآخر أحدنا كاذب وهو يعلم أنه أراد به صاحبه
ويقال في الآية تقديم يعني وإنا على الهدى وإياكم لفي " ضلال مبين "
ثم قال عز وجل " قل لا تسألون عما أجرمنا " يعني لا تسألون عن جرم أعمالنا " ولا نسأل عما تعملون " يعني لا نسأل عن جرم أعمالكم
ويقال لا تأخذون بجرمنا ولا نؤخذ بجرمكم
قوله عز وجل " قل يجمع بيننا ربنا " يعني يوم القيامة نحن وأنتم " ثم يفتح بيننا " يعني يقضي بيننا بالحق يعني بالعدل " وهو الفتاح " يعني القاضي " العليم " بما يقضي " قل أروني الذين ألحقتم به شركاء " يعني أروني آلهتكم الذين تعبدون من دون الله وتزعمون أنها له شركاء
أي ماذا خلقوا في السموات والأرض من الخلق " كلا " يعني ما خلقوا شيئا " بل هو الله " خالق كل شيء " العزيز " في ملكه " الحكيم " في أمره
قوله عز وجل " وما أرسلناك إلا كافة للناس " أي عامة للناس " بشيرا "
وروى خالد الحذاء عن قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي بعثت إلى كل أحمر وأسود فليس أحد من أحمر وأسود يدخل في أمتي إلا كان منهم ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر وجعلت فاتحا وخاتما وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتنا الصلاة صلينا وإن لم نجد ماء تيممنا وأطعمنا غنائمنا ولم يطعمها أحد كان قبلنا كانت قربانهم تأكله النار )
ثم قال " بشيرا ونذيرا " يعني " بشيرا " بالجنة لمن أطاعه " ونذيرا " بالنار لمن عصاه " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يعني لا يصدقون بالجنة ولا بالنار " ويقولون متى هذا الوعد " يعني البعث " إن كنتم صادقين " يعني إن كنت صادقا بالعبث
ويقال إن كنت رسول الله
(3/85)
1
86
قوله عز وجل " قل لكم ميعاد يوم " يعني ميقاتا في العذاب
ويقال ميعادا في البعث والعذاب " لا تستأخرون عنه " يعني عن الميعاد والعذاب " ساعة " يعني قدر ساعة " ولا تستقدمون " قبل الأجل
ويقال معناه أنا قادر اليوم على عذابهم ولكن أؤخرهم في الوعد الذي كتب لهم في اللوح المحفوظ
سورة سبأ 31 - 33
قوله عز وجل " وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه " من التوراة والإنجيل
يعني لا نصدق بذلك كله فحكى قولهم ثم ذكر عقوبتهم في الآخرة فقال " ولو ترى إذ الظالمون " يعني لو رأيت يا محمد الظالمين يوم القيامة " موقوفون عند ربهم " يعني محبوسين في الآخرة " يرجع بعضهم إلى بعض القول " يعني يرد بعضهم بعضا الجواب
ثم أخبر عن قولهم فقال " يقول الذين استضعفوا " وهم السفلة والأتباع " للذين استكبروا " يعني القادة والرؤساء " لولا أنتم لكنا مؤمنين " يعني لولا دعوتكم وتعريفكم إيانا لكنا مصدقين
قوله عز وجل " قال الذين استكبروا للذين استضعفوا " وهم الأتباع " أنحن صددناكم عن الهدى " يعني أنحن منعناكم عن الإيمان " بعد إذ جاءكم " به الرسول " بل كنتم مجرمين " يعني مشركين
قوله عز وجل " وقال الذين استضعفوا " يعني ردت الضعفاء عليهم الجواب ويقولون " للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار " يعني قولكم لنا بالليل والنهار واحتيالكم بالدعوة إلى الشرك
" إذ تأمروننا أن نكفر بالله " يعني نجحد بوحدانية الله تعالى " ونجعل له أندادا " يعني نقول له شركاء " وأسروا الندامة " يعني أخفوا الحسرة
ويقال أظهروا الندامة والحسرة " لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال " يعني نجعل الأغلال يوم القيامة " في أعناق الذين كفروا " من الرؤساء والسفلة " هل يجزون " يعني هل يثابون في الآخرة " إلا ما كانوا يعملون " في الدنيا
(3/86)
1
صفحة فارغة
(3/87)
1
88
ثم قال " وهم في الغرفات آمنون " قرأ حمزة " وهم في الغرفة "
وقرأ الباقون " وهم في الغرفات " والغرفة في اللغة كل بناء يكون علوا فوق سفل وجمعه غرف وغرفات
ومعناه وهم في الجنة آمنون من الموت والهرم والأمراض والعدو وغير ذلك من الآفات
ثم قال عز وجل " والذين يسعون في آياتنا معجزين " والقراءة قد ذكرناها " أولئك في العذاب محضرون " يعني في النار معذبون " قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له " وقد ذكرناه " وما أنفقتم من شيء " يعني ما تصدقتم من صدقة " فهو يخلفه " يعني فإن الله يعطي خلفه في الدنيا وثوابه في الآخرة " وهو خير الرازقين " يعني أقوى المعطين
وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما طلعت الشمس ولا غربت الشمس إلا بعث بجنبيها ملكان يناديان اللهم عجل لمنفق ماله خلفا وعجل لممسك ماله تلفا )
سورة سبأ 40 - 42
ثم قال عز وجل " ويوم يحشرهم جميعا " يعني الملائكة عليهم السلام ومن عبدهم
قرأ بعضهم من أهل البصرة " يحشرهم " بالياء يعني يحشرهم الله عز وجل وقراءة العامة بالنون على معنى الحكاية عن نفسه " ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون " يعني أنتم أمرتم عبادي أن يعبدوكم وهذا سؤال توبيخ كقوله لعيسى عليه السلام " ءأنت قلت للناس اتخذوني " [ المائدة 116 ] الآية " قالوا سبحانك " فنزهت الملائكة ربها عن الشرك وقالوا " سبحانك " يعني تنزيها لك " أنت ولينا من دونهم " ونحن براء منهم من أن نأمرهم أن يعبدونا " بل كانوا يعبدون الجن " يعني أطاعوا الشياطين في عبادتهم إيانا " أكثرهم بهم مؤمنون " يعني مصدقين الشياطين مطيعين لها
يقول الله تعالى " فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا " يعني شفاعة " ولا ضرا " يعني ولا دفع الضر عنهم " ونقول للذين ظلموا " يعني كفروا في الدنيا
يعني يقال لهم في الآخرة " ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون " إنها غير كائنة
سورة سبأ 43
(3/88)
1
89
سورة سبأ 44 - 45
ثم أخبر عن أفعالهم في الدنيا فقال عز وجل " وإذا تتلى " يعني تقرأ وتعرض " عليهم آياتنا بينات " بالأمر والنهي والحلال والحرام " قالوا " ما نعرف هذا " ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم " يعني يصرفكم " عما كان يعبد آباؤكم " من عبادة الأصنام " وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى " يعني كذبا مختلقا " وقال الذين كفروا للحق " يعني القرآن " لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين " يعني كذب بين
ثم قال عز وجل " وما آتيناهم " يعني وما أعطيناهم " من كتب يدرسونها " يعني يقرؤونها وفيها حجة لهم بأن مع الله شريكا " وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير " يعني من رسول في زمانهم " وكذب الذين من قبلهم " يعني من قبل قومك رسلهم كما كذبك قومك " وما بلغوا " يعني ما بلغ قومك " معشار ما آتيناهم " يعني ما بلغ أهل مكة عشر الذي أعطينا الأمم الخالية من الأموال والقوة فأهلكتهم بالعذاب حين " فكذبوا رسلي فكيف كان نكير " يعني كيف كان إنكاري وتغييري عليهم وإيش خطر هؤلاء بجنب أولئك فاحذروا مثل عذابهم
سورة سبأ 46 - 49
ثم قال عز وجل " قل إنما أعظكم بواحدة " يعني بكلمة واحدة ويقال بخصلة واحدة " أن تقوموا لله " بالحق " مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة " يعني آمركم بالإنصاف أن تتأملوا حق التأمل وتتفكروا في أنفسكم هل لهذا الرجل الذي يدعوكم إلى خالقكم وخالق السموات والأرض هل رأيتم به جنونا
ثم قال " ما بصاحبكم من جنة " يعني من جنون
وقال القتبي تأويله أن المشركين لما قالوا إنه ساحر ومجنون وكذاب فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم اعتبروا أمري بواحدة أن تنصحوا لأنفسكم ولا يميل بكم هوى فتقوموا لله في دار يخلو فيها الرجل منكم بصاحبه فيقول لهم هلم فلنتصادق هل رأينا بهذا الرجل جنة أم جربنا عليه كذبا ثم ينفرد كل واحد منهما عن صاحبه فيتفكروا وينظروا فإن ذلك يدل على أنه نذير
قال وكل من تحير في أمر قد اشتبه عليه واستبهم أخرجه من الحيرة أن يسأل ويناظر فيه ثم يتفكر ويعتبر
(3/89)
1
90
ثم قال " إن هو إلا نذير لكم " أي ما هو إلا مخوف لكم " بين يدي عذاب شديد " أي بين يدي القيامة
ثم قال عز وجل " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كفار مكة أن لا يؤذوا قراباته فكفوا عن ذلك ونزل " قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " [ الشورى 23 ] فكفوا عن ذلك
ثم سمعوا بذكر آلهتهم فقالوا لا تنظرون إليه ينهانا عن إيذاء قرابته وسألناه أن لا يؤذينا في آلهتنا فلا يمتنع فنزل " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم " إن شئتم آذوهم وإن شئتم امتنعتم
" إن أجري إلا على الله " فهو الحافظ والناصر " وهو على كل شيء شهيد " بأني نذير وما بي جنون
ثم قال عز وجل " قل إن ربي يقذف بالحق " يعني يبين الحق من الباطل ويقال يأمر بالحق ويقال يتكلم بالحق يعني بالوحي " علام الغيوب " يعني هو عالم كل غيب
قوله عز وجل " قل جاء الحق " يعني ظهر الإسلام " وما يبدئ الباطل " يعني لا يقدر الشيطان أن يخلق أحدا " وما يعيد " يعني لا يقدر أن يحييه بعد الموت والله تعالى يفعل ذلك
ويقال " الباطل " أيضا الصنم
وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول " جاء الحق وزهق الباطل " " قل جاء الحق " " وما يبدي الباطل وما يعيد "
سورة سبأ 50 - 54
قوله عز وجل " قل " يا محمد " إن ضللت فإنما أضل على نفسي " يعني وزر الضلال على نفسي " وإن اهتديت " إلى الحق والهدى " فبما يوحي إلي ربي " يعني اهتديت بما يوحي إلي من القرآن " إنه سميع " للدعاء " قريب " بالإجابة ممن دعاه
وقيل للنابغة حين أسلم أصبوت يعني آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم قال بلى هو غلبني بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل فأردت أن أقول ثلاثة أبيات من الشعر على قافيتها فلما سمعت هذه الآيات فعييت فيها ولم أطق فعلمت أنه ليس من كلام البشر وهي هذه " قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب " " قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد " " قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فيما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب "
قوله عز وجل " ولو ترى إذ فزعوا " يعني خافوا من العذاب " فلا فوت " يعني فلا
(3/90)
1
91
نجاة لهم منها " وأخذوا من مكان قريب "
روي عن الكلبي أنه قال نزلت الآية في قوم يقال لهم السفيانية يخرجون في آخر الزمان عددهم ثلاثون ألف رجل إلى أن يبلغوا أرض الحجاز فافترقوا فرقتين فتقدمت فرقة إلى موضع يقال له بيداء صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فخسف بهم الأرض كلهم إلا واحدا منها ينجو فيحول وجهه إلى خلفه فيرجع إلى الفرقة الأخرى فيخبرهم بما أصابهم يعني ولو ترى يا محمد فزعهم حين صاح بهم جبريل عليه السلام " فلا فوت " أي لا يفوت منهم فائت " وأخذوا من مكان قريب " يعني خسف بهم بالبيداء بقرب مكة
ويقال يعني يوم القيامة
" ولو ترى " يا محمد " إذ فزعوا " حين نزل بهم العذاب يوم القيامة " فلا فوت وأخذوا من مكان قريب " كما قال " وبرزت الجحيم " [ النازعات 36 ]
وقال الحسن " ولو ترى إذ فزعوا " من قبورهم يوم القيامة وقال الضحاك يعني يوم بدر
ثم قال عز وجل " وقالوا آمنا به " يعني بالعذاب حين رأوه يقول الله تعالى " وأنى لهم التناوش " يعني من أين لهم التوبة ويقال من أين لهم الرجفة
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في إحدى الروايتين " التناؤش " بالهمز وقرأ الباقون بغير همز
فمن قرأ بالهمز فهو من التناوش وهو الحركة في إبطاء والمعنى من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم
ومن قرأ بغير همز فهو من التناول ويقال تناول إذا مد يده إلى شيء ليصل إليه وتناوش يده إذا مد يده إلى شي لا يصل إليه
ثم قال " من مكان بعيد " يعني من الآخرة إلى الدنيا
وروي عن ابن عباس أنه قال " من مكان بعيد " قال سألوا الرد حين لا رد
ثم قال عز وجل " وقد كفروا به من قبل " يعني كفروا بالله من قبل الموت ويقال " به " يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال بالقرآن " ويقذفون بالغيب " يعني يتكلمون بالظن في الدنيا " من مكان بعيد " أنه لا جنة ولا نار ولا بعث
ثم قال " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " يعني من الرجعة إلى الدنيا ويقال من التوبة
كيف ينالون التوبة في هذا الوقت وقد كفروا به من قبل
ثم قال " كما فعل بأشياعهم من قبل " يعني بأهل دينهم الأقدمون الأولون من قبل والأشياع جمع الجمع
يقال شيعة وشيع وأشياع
ثم قال " إنهم كانوا في شك مريب " يعني هم في شك مما نزل بهم " مريب " يعني إنهم لا يعرفون شكهم
وقال القتبي في قوله " فلا فوت " يعني لا مهرب ولا ملجأ وهذا مثل قوله " فنادوا ولات حين مناص " [ ص 3 أي نادوا حين لا مهرب والله أعلم
(3/91)
1
92
سورة فاطر
مكية وهي أربعون وخمس آيات
سورة فاطر 1 - 2
قوله الله سبحانه وتعالى " الحمد لله فاطر السموات والأرض " يعني خالق السموات والأرض
يقال فطر الشيء إذا بدأه قال ابن عباس رضي الله عنه ما كنت أعرف فاطر حتى اختصما لي أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها يعني بدأتها
" جاعل الملائكة رسلا " يعني مرسل الملائكة بالرسالة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والكرام الكاتبين عليهم السلام " أولي أجنحة " يعني ذوي أجنحة ولفظ " أولي " يستعمل في الجماعة ولا يستعمل في الواحد وواحدها ذو
ثم قال " مثنى وثلاث ورباع " يعني من الملائكة من له جناحان ومنهم من له ثلاثة أجنحة ومنهم من له أربعة أجنحة
ويقال " ثلاث " معدول من ثلاثة ثلاثة يعني ثلاثة ثلاثة
" ورباع " معدول من أربعة أربعة يعني أربعة أربعة
ثم قال " يزيد في الخلق ما يشاء " يعني يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء
وروي عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته فقال له جبريل إنك لا تطيق ذلك فقال ( إني أحب أن تفعل )
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه ثم أفاق وجبريل عليه السلام يسنده واضع إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سبحان الله ما كنت أرى شيئا من الخلق هكذا ) فقال جبريل فكيف لو رأيت إسرافيل إن له اثني عشر جناحا منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب وأن العرش لعلى كاهله وإنه لينضال بالأحايين لعظمة الله فيعود مثل الوضع يعني عصفورا حتى لا يحمل عرشه إلا عظمته
(3/92)
1
93
فذلك قوله تعالى " يزيد في الخلق ما يشاء " يعني في خلق الملائكة
ويقال " يزيد في الخلق ما يشاء " يعني الشعر الحسن والصوت الحسن
ويقال " يزيد في الخلق ما يشاء " يعني في الجمال والكمال والدماثة
ثم قال " إن الله على كل شيء قدير " من الزيادة والنقصان وغيره
ثم قال عز وجل " ما يفتح الله للناس من رحمة " يعني ما يرسل الله للناس من رزق كقوله " ابتغاء رحمة من ربك " [ الإسراء 28 ] ويقال الغيث
ويقال " من رحمة " يعني من كل خير " فلا ممسك لها " يعني لا يقدر أحد على حبسها " وما يمسك " يعني ما يحبس من رزق " فلا مرسل له من بعده " يعني فلا معطي أحد بعد الله عز وجل
قال في أول الكلام " فلا ممسك لها " بلفظ التأنيث لأنه انصرف إلى اللفظ وهو الرحمة
ثم قال " فلا مرسل له " بلفظ التذكير لأنه ينصرف إلى المعنى وهو المطر والرزق ولو كان كلاهما بلفظ التذكير أو كلاهما بلفظ التأنيث لجاز في اللغة
فذكر الأول بلفظ التأنيث لأن الرحمة كانت أقرب إليه وفي الثاني كان أبعد وقد ذكر بلفظ التذكير لجاز حذف ما
ثم قال " وهو العزيز " فيما أمسك " الحكيم " فيما أرسل
سورة فاطر 3 - 4
قوله عز وجل " يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم " يعني احفظوا نعمة الله عليكم ثم ذكر النعمة فقال " هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض " يعني النبات والمطر
قرأ حمزة والكسائي " غير الله " بكسر الراء وقرأ الباقون بالضم مثل ما في سورة الأعراف
والاستثناء إذا كان بحرف إلا فإن الإعراب يكون على ما بعده
وإذا كان الاستثناء بحرف غير فإن الإعراب يقع على نفس الغير
فمن قرأ بالكسر صار كسرا على البدل
ومن قرأ بالرفع فمعناه هل خالق غير الله لأن " من " موكدة ولفظ الآية لفظ الاستفهام والمراد به النفي يعني أنتم تعلمون أنه لا يخلق أحد سواه ولا يرزقكم أحد سواه
ثم وحد نفسه فقال " لا إله إلا هو " يفعل بكم ذلك " فأنى تؤفكون " يعني من أين تكذبون وأنتم تعلمون أنه لا يخلق أحد سواه
ثم قال عز وجل " وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك " كما كذبك قومك وهذا تعزية يعزي بها نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم " وإلى الله ترجع الأمور " يعني إليه ترجع عواقب الأمور بالبعث
سورة فاطر 5
(3/93)
1
94
سورة فاطر 6 - 8
ثم قال عز وجل " يا أيها الناس " يعني يا أهل مكة " إن وعد الله حق " يعني البعث بعد الموت حق كائن " فلا تغرنكم الحياة الدنيا " يعني حياتكم في الدنيا والدنيا في الأصل هي القربى سميت بهذا لأن حياتهم صارت هذه أقرب إليهم
ويقال هي فعلى من الأدون يعني حياة الأدون " ولا يغرنكم بالله الغرور " يعني الباطل وهو الشيطان
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله حدثني أبي قال حدثنا أبو الحسن الفراء الفقيه السمرقندي قال حدثنا أبو بكر الجرجاني الإمام بسمرقند ذكر بإسناده عن العلاء بن زياد
قال رأيت الدنيا في النوم امرأة قبيحة عمشاء عليها من كل زينة فقلت من أنت أعوذ بالله منك فقالت أنا الدنيا فإن سرك أن يعيذك الله مني فأبغض الدراهم يعني لا تمسكها عن النفقة في موضع الحق
ثم قال عز وجل " إن الشيطان لكم عدو " يعني حين يأمركم بالكفر ومن عداوته مع أبيكم ترك طاعة الله " فاتخذوه عدوا " يعني فعادوه بطاعة الله
ومعناه أطيعوا الله عز وجل لأنك إذا أطعت الله فقد اتخذت الشيطان عدوا " إنما يدعو حزبه " يعني شيعته إلى الكفر " ليكونوا من أصحاب السعير " يعني من أهل النار
ثم بين مصير من أطاع الشيطان ومصير من عصاه فقال " الذين كفروا " يعني جحدوا بوحدانية الله عز وجل " لهم عذاب شديد " في الآخرة " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " يعني صدقوا بوحدانية الله وعملوا الطاعات واتخذوا الشيطان عدوا " لهم مغفرة " في الدنيا لذنوبهم " وأجر كبير " يعني ثوابا حسنا في الجنة
قوله عز وجل " أفمن زين له سوء عمله " يعني قبيح عمله " فرآه حسنا " يعني يظنه حقا
والجواب فيه مضمرا يعني أفمن زين له سوء عمله كمن لم يزين له ذلك وقال الزجاج " أقمن زين له سوء عمله " يعني أبا جهل وأصحابه كمن لم يزين له ذلك وهداه الله تعالى
ثم قال " فإن الله يضل من يشاء " عن دينه " ويهدي من يشاء " لدينه " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " قال القتبي هذا من الإضمار
يعني ذهبت نفسك حسرة عليهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات بتركهم الإيمان
وقرئ في الشاذ " فلا تذهب " بضم التاء وكسر الهاء
(3/94)
1
95
" نفسك " بنصب السين
من أذهب يذهب يعني لا تقتل نفسك وقراءة العامة " فلا تذهب نفسك " بنصب التاء والهاء وضم السين " إن الله عليم بما يصنعون " من الخير والشر
سورة فاطر 9 - 11
ثم قال عز وجل " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا " أي ترفعه وتهيجه " فسقناه " يعني نسوقه " إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها " يعني بعد يبسها " كذلك النشور