تفسير السمرقندي بحر العلوم ط الفكر 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
 
535
الجنة قال مقاتل فأقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف داخلون النار معهم فقالت الملائكة لأهل النار أهولاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة ويقال إن أهل النار يقولون لأصحاب الأعراف ما أغنى عنكم جمعكم وعملكم وأنتم والله تكونون معنا في النار ولا تدخلون الجنة فتقول الملائكة لأهل النار أهولاء الذين أقسمتم يعني لأصحاب الأعراف لا ينالهم الله برحمته ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف " أدخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون "
سورة الأعراف 50 - 53
قوله تعالى " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله " يعني اسقونا من الماء أو شيئا من الفواكه وثمار الجنة فإن فينا من معارفكم فأعلم الله تعالى أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب فأجابهم أهل الجنة " قالوا إن الله حرمهما على الكافرين " يعني الماء والثمار وروي في الخبر أن أبا جهل بن هشام بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستهزئ به أطعمني من عنب جنتك أو شيئا من الفواكه فقال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قل له إن الله حرمهما على الكافرين
ثم وصفهم فقال عز وجل " الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا " يعني اتخذوا الإسلام باطلا ودخلوا في غير دين الإسلام ويقال اتخذوا عيدهم لهوا وفرحا " وغرتهم الحياة الدنيا " يعني غرهم ما أصابهم من زينة الدنيا " فاليوم ننساهم " يعني نتركهم في النار " كما نسوا لقاء يومهم هذا " يعني كما تركوا العمل ليومهم هذا ويقال كما تركوا الإيمان ليومهم هذا يعني أنكروا البعث " وما كانوا بآياتنا يجحدون " يعني ويجحدون بآياتنا بأنها ليست من الله تعالى
قوله تعالى " ولقد جئناهم بكتاب " يعني أكرمناهم بالقرآن " فصلناه " يعني بينا فيه الآيات والحلال والحرام " على علم " يعني بعلم منا " هدى " يعني بيانا من الضلالة ويقال جعلناه هاديا " ورحمة " يعني نعمة ونجاة من العذاب " لقوم يؤمنون " يعني لمن آمن وصدق به يعني أكرمناهم بهذا الكتاب فلم يؤمنوا ولم يصدقوا وإنما أضاف إلى المؤمنين لأنهم هم الذين يهتدون ويستوجبون به الرحمة
(1/535)
1
 
536
ثم قال الله تعالى " هل ينظرون إلا تأويله " يعني ما ينتظرون إلا عاقبة ما وعدهم الله تعالى في القرآن من العذاب " يوم يأتي تأويله " يعني عاقبة ما وعدهم الله وهو يوم القيامة
" يقول الذين نسوه " يعني يقول الذين تركوا العمل والإيمان " من قبل " يعني في الدنيا " قد جاءت رسل ربنا بالحق " وذلك أنهم حين عاينوا العذاب وذكروا قول الرسل فندموا على تكذيبهم إياهم يقولون " قد جاءت رسل ربنا بالحق " يقول بأمر وأخبار عن القيامة والبعث فكذبناهم في ذلك " فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " لأنهم يرون الشفعاء يشفعون للمؤمنين فيقال لهم ليس لكم شفيع فيقولون " أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل " يقولون هل نرد إلى الدنيا فنصدق الرسل ونعمل غير الشرك " فنعمل " صار نصبا لأنه جواب الاستفهام وجواب الاستفهام إذا كان بالفاء فهو نصب وكذلك جواب الأمر والنهي
يقول الله تعالى " قد خسروا أنفسهم " يعني غبنوا حظ أنفسهم " وضل عنهم ما كانوا يفترون " يعني يكذبون بأن الآلهة شفعاؤهم عند الله وقرئ " أو نرد " بالنصب عطف على " فيشفعوا " أو لأن " أو " بمعنى إلى أن وقرئ " أو نرد " بالرفع والمعنى هل نرد وهو قول الفراء أو عطف على المعنى وهو قول الزجاج أي هل يشفع لنا أحد أو نرد وقرأ الحسن " أو نرد " " فنعمل " برفعهما
سورة الأعراف 54
قوله تعالى " إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عير المشركين بعبادة آلهتهم ونزل قوله تعالى " لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له " الحج73 وقوله " كمثل العنكبوت أتخذت بيتا " العنكبوت 41 سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا من ربك الذي تدعونا إليه وأرادوا أن يتخذوا في اسمه طعنا أو في شيء من أفعاله فنزلت هذه الآية فتحيروا وعجزوا عن الجواب فقال " إن ربكم الله " يعني خالقكم ورزاقكم " الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام " قال ابن عباس يعني من أيام الآخرة طول كل يوم ألف سنة وقال الحسن البصري من أيام الدنيا ويقال " في ستة أيام " أي في ست ساعات من ستة أيام من أطول أيام الدنيا ولو شاء أن يخلقها في ساعة واحدة لخلقها ولكن علم عباده التأني والرفق والتدبير في الأمور
" ثم استوى على العرش " قال بعضهم هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله وذكر عن يزيد بن هارون أنه سئل عن تأويله فقال تأويله الإيمان به وذكر أن رجلا دخل على مالك بن أنس فسأله عن قوله " الرحمن على العرش استوى " طه5 فقال الاستواء غير
(1/536)
1
 
537
مجهول والكيفية غير معقولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا ضالا فأخرجوه وذكر عن محمد بن جعفر نحو هذا وقد تأوله بعضهم وقال " ثم " بمعنى الواو فيكون على معنى الجمع والعطف لا بمعنى الترتيب والتراخي ومعنى قوله " استوى " يعني استولى كما يقال فلان استوى على بلد كذا يعني استولى عليه فكذلك هذا معناه خالق السموات والأرض ومالك العرش ويقال ثم صعد أمره إلى العرش وهذا معنى قول ابن عباس قال صعد على العرش يعني أمره يعني قال له كن فكان ويقال " ثم استوى على العرش " يعني كان فوق العرش قبل أن يخلق السموات والأرض ويكون " على " بمعنى العلو والارتفاع ويقال " استوى " بمعنى استعلى وذكر أن أول شيء خلقه الله تعالى القلم ثم اللوح فأمر القلم بأن يكتب في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق ما شاء ثم خلق العرش ثم خلق حملة العرش ثم خلق السموات والأرض وإنما خلق العرش لا لحاجة نفسه ولكن لأجل عباده ليعلموا أين يتوجهون في دعائهم لكي لا يتحيروا في دعائهم كما خلق الكعبة علما لعبادتهم ليعلموا إلى أين يتوجهون في العبادة فكذلك خلق العرش علما لدعائهم ليعلموا إلى أين يتوجهوا بدعائهم
ثم قال تعالى " يغشى الليل النهار " يعني إن الليل يأتي على النهار فيغطيه ولم يقل يغشى النهار الليل لأن في الكلام دليلا عليه وقد بين في آية أخرى " يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل " الزمر 5 فكذلك هاهنا معناه يغشى النهار الليل ويغشى الليل النهار يعني إذا جاء النهار يذهب بظلمة الليل وإذا جاء الليل يذهب بنور النهار
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " يغشى الليل النهار " بتشديد الشين ونصب الغين وقرأ الباقون بجزم الغين مع تخفيف الشين وهما لغتان غشى ويغشى وأغشى يغشى
ثم قال " يطلبه حثيثا " يعني سريعا في طلبه أبدا ما دامت الدنيا باقية
ثم قال " والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره " يعني جاريات مذللات لبني آدم بأمره
قرأ ابن عامر " والشمس والقمر والنجوم " كلها بالضم على معنى الابتداء وقرأ الباقون بالنصب على معنى العطف أي " خلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره "
ثم قال " إلا له الخلق والأمر " " ألا " كلمة التنبيه يعني اعلموا أن الخلق لله تعالى وهو الذي خلق الدنيا والأشياء كلها وأمره نافذ في خلقه قال سفيان بن عيينه الخلق هو الخلائق والأمر هو القرآن وهو كلام الله تعالى وليس بمخلوق ولا هو مباين منه وتصديقه قوله تعالى " ذلك أمر الله أنزله إليكم " الطلاق 5 ويقال الأمر هو القضاء
ثم قال " تبارك الله رب العالمين " قال ابن عباس يعني تعالى الله عما يقول
(1/537)
1
 
538
الظالمون ويقال " تبارك الله " يعني تفاعل من البركة بمعنى ذو البركة يعني البركة كلها من الله تعالى والبركة فيما يذكر عليه اسم الله رب العالمين يعني سيد الخلق أجمعين
سورة الأعراف 55 - 57
فلما وصف وبالغ في ذلك وأعجزهم فأمرهم أن يدعوه فقال عز وجل " ادعوا ربكم تضرعا وخفية " قال الكلبي يعني في خفض وسكون ويقال " خفية " يعني اعتقدوا عبادته في أنفسكم لأن الدعاء معناه العبادة ويقال علانية وسرا ويقال هذا أمر بالدعاء في الأحوال كلها يعني ادعوا الذي خلق هذه الأشياء في الأحوال كلها
ثم قال " إنه لا يحب المعتدين " يعني أن تدعوا بما لا يحل أو تدعوا على أحد باللعن والخزي أو تدعوا عليه بالشر
ثم قال تعالى " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " وذلك أن الله تعالى إذا بعث نبيا فأطاعوه صلحت الأرض وصلح أهلها وفي المعصية فساد الأرض وفساد أهلها ويقال " لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " يعني لا تجوروا في الأرض فتخربوها لأن الأرض قامت بالعدل ويقال لا تخربوا المساجد فتتركوا الجماعة " وادعوه " يعني اعبدوه " خوفا وطمعا " يعني " خوفا " من عذابه " وطمعا " في رحمته ويقال ادعوه في حال الخوف والضيق ويقال خوفا عن قطيعته ورجاء في لقائه
ثم قال " إن رحمة الله قريب من المحسنين " ولم يقل قريبة قال بعضهم لأن البعيد والقريب يصلحان للواحد وللجمع المذكر والمؤنث كما قال " لعل الساعة تكون قريبا " الأحزاب 63 وقال " وما هي من الظالمين ببعيد " هود 83 وقال بعضهم تفسير الرحمة هاهنا المطر فذكر بلفظ التذكير وقال بعضهم لأن الرحمة بمعنى الغفران والعفو فانصرف إلى المعنى ومعناه المحسنون قريب من الجنة وهم المؤمنون
ثم قال عز وجل " وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " يعني قدام المطر قرأ حمزة والكسائي " الريح " بلفظ الوحدان وقرأ الباقون " الرياح " بلفظ الجماعة واختار أبو عبيدة ان كل ما ذكر في القرآن من ذكر الرحمة فهو رياح وكل ما ذكر فيه العذاب فهو ريح واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا هبت الريح اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا
(1/538)
1
 
539
وقرأ ابن عامر " نشرا " بضم النون وجزم الشين وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع " نشرا " بضمتين وقرأ حمزة والكسائي " نشرا " بنصب النون وجزم الشين وقرأ عاصم " بشرا " بالباء ويكون من البشارة كما قال في آية أخرى " يرسل الرياح مبشرات " الروم 46
ومن قرأ " نشرا " بالنون والنصب يكون معناه ( يرسل الرياح ) تنشر السحاب نشرا ومن قرأ " نشرا " بضمتين يكون جمع نشور يقال ريح نشور تنشر نشرا السحاب ورياح نشر ومن قرأ بضمة واحدة لأنه لما اجتمعت الضمتان حذفت إحداهما للتخفيف
ثم قال تعالى " حتى إذا أقلت سحابا ثقالا " والسحاب جمع السحابة يعني الريح حملت سحابا ثقالا من الماء " سقناه لبلد ميت " يعني السحاب تمر بأمر الله تعالى إلى أرض ليس فيها نبات " فأنزلنا به الماء " يعني بالمكان ويقال بالسحاب " فأخرجنا به من كل الثمرات " يعني نخرج بالماء من الأرض من ألوان الثمرات
ثم قال " كذلك نخرج الموتى " يعني هكذا نحيي الموتى بالمطر كما أحييت الأرض الميتة بالمطر وذكر في الخبر انه إذا كان قبل النفخة الأخيرة أمطرت السماء أربعين ليلة مثل مني الرجال فتشرب الأرض فتنبت الأجساد بذلك الماء ثم ينفخ في الصور فإذا هم قيام ينظرون وفي هذه الآية إثبات القياس وهو رد المختلف فيه إلى المتفق عليه لأنهم كانوا متفقين أن الله تعالى هو الذي ينزل المطر ويخرج النبات من الأرض فاحتج عليهم لإحيائهم بعد الموت بإحياء الأرض بعد موتها
ثم قال " لعلكم تذكرون " يعني لكي تتعظوا وتعتبروا في البعث أنه كائن
سورة الأعراف 58
ثم ضرب مثلا للمؤمنين والكافرين فقال عز وجل " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه " يعني المكان العذب الزكي اللين من الأرض يخرج نباته إذا أمطرت فينتفغ به كذلك المؤمن يسمع الموعظة فتدخل في قلبه فينتفع بها وينفعه القرآن كما ينفع المطر البلد الطيب " والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " يعني الأرض السبخة لا يخرج نباتها إلا من كد وعناء فكذلك الكافر لا يسمع الموعظة ولا يتكلم بالإيمان ولا يعمل بالطاعة إلا كرها لغير وجه الله
ثم قال " كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون " يعني هكذا نبين الآيات والعلامات والأمثال لمن آمن وشكر رب هذه النعم ووحده
سورة الأعراف 59 -
(1/539)
1
 
540
64
قوله تعالى " لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " يعني بعثنا نوحا إلى قومه بالرسالة فاتاهم ويقال وجعلنا نوحا رسولا إلى قومه " فقال يا قوم اعبدوا الله " يعني وحدوا الله وأطيعوه " ما لكم من إله غيره " يعني ليس لكم رب سواه
قرأ الكسائي " إله غيره " بكسر الراء وقرأ الباقون " غيره " بضم الراء فمن قرأ بكسر الراء فلأجل " من " وجعله كله كلمة واحدة والغير تابعا له ومن قرأ بالضم فمعناه ما لكم إله غيره ودخلت " من " مؤكدة
ثم قال " إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " وهو الغرق
قوله تعالى " قال الملأ من قومه " وهم الرؤساء والأجلة والأشراف سموا بذلك لأنهم ملئوا بما يحتاج إليه منهم ويقال لأنهم ملؤوا الناظر هيبة إذا اجتمعوا في موضع قالوا " إنا لنراك في ضلال مبين " يعني في خطأ بين " قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين " وفي الآية بيان أدب للخلق في حسن الجواب والمخاطبة لأنه رد جهلهم بأحسن الجواب وهذا كما قال الله تبارك وتعالى " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سالما " الفرقان 63 يعني السداد من القول
ثم قال عز وجل " أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم " يعني أمنعكم من الفساد وأدعوكم إلى التوحيد وأحذركم من العذاب وقال أهل اللغة أنصح لكم وأنصحكم لغتان بمعنى واحد كما يقال شكرت لك وشكرتك
ثم قال " وأعلم من الله ما لا تعلمون " يعني أعلم أنكم إن لم تتوبوا يأتيكم العذاب وأنتم لا تعلمون ذلك وذلك أن سائر الأنبياء عليهم السلام خوفوا أممهم بعذاب الأمم السالفة كما قال شعيب لقومه " يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط عنكم ببعيد " هود 89 وأما قوم نوح فلم يكن بلغهم هلاك أمة قبلهم فقال لهم نوح " وأعلم من الله ما لا تعلمون " من العذاب الذي ينزل بكم فقال الكبراء للضعفاء لا تتبعوه فإن هذا بشر مثلكم فأجابهم نوح فقال " أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم " يعني ينزل الكتاب والرسالة على رجل منكم تعرفون حليته ونسبه " لينذركم " بالنار " ولتتقوا " بالشرك قال بعضهم هذه الواو صلة وهو زيادة في الكلام ومعناه " لينذركم " لكي تتقوا " ولعلكم ترحمون " يعني لكي تطيعوه فترحموا وتنجوا من العذاب قرأ أبو عمرو
(1/540)
1
 
541
" أبلغكم " بجزم الباء والتخفيف وقرأ الباقون " أبلغكم " بالتشديد من المبالغة
قوله تعالى " فكذبوه " يعني نوحا " فأنجيناه والذين معه في الفلك " يعني الذين اتبعوه من المؤمنين في السفينة والفلك اسم للواحد والجماعة يعني أنجينا المؤمنين من الغرق " وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين " عن نزول العذاب ويقال " عمين " عن الحق جعلوا أمره باطلا وقد بين الله تعالى قصته في سورة هود
سورة الأعراف 65 - 72
قوله تعالى " وإلى عاد أخاهم هودا " يعني أرسلنا إلى عاد نبيهم هودا عطفا على قوله " لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا وهود لم يكن أخاهم في الدين ولكن كان من نسبهم وقال السدي كانت عاد قوما من أهل اليمن فأتاهم هود فدعاهم إلى الإيمان والتوحيد وذكرهم ووعظهم فكذبوه ويقال عاد اسم ملك ينسب القوم كلهم إليه ويقال اسم القرية " قال يا قوم اعبدوا الله " يعني وحدوه " ما لكم من إله غيره " وقد ذكرناه " أفلا تتقون " يعني الشرك
قوله تعالى " قال الملأ الذين كفروا من قومه " وقد ذكرناه " إنا لنراك في سفاهة " يعني جهالة " وإنا لنظنك من الكاذبين " بأنك رسول الله " قال يا قوم ليس بي سفاهة " يعني جهالة " ولكني رسول من رب العالمين " إليكم " أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين " يعني كنت فيكم قبل اليوم أمينا فكيف تتهموني اليوم
قوله تعالى " أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم " يعني الرسالة والبيان " على رجل منكم " تعرفون نسبه " لينذركم " بالعذاب " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح " يعني خليفة في الأرض بعد هلاك قوم نوح " وزادكم في الخلق بسطة " يعني فضيلة في الطول على
(1/541)
1
 
542
غيركم والخلفاء والخلائف جمع الخليفة
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " بسطة " بالسين وقرأ حمزة بإشمام الزاي وقرأ الباقون بالصاد قال ابن عباس كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا وروى إبراهيم بن يوسف عن المسيب عن الكلبي قال كان طول قوم عاد أطولهم مائة وعشرين ذراعا وأقصرهم ثمانين ذراعا وقال مقاتل كان طول كل رجل منهم اثني عشرا ذراعا فذلك قوله " لم يخلق مثلها في البلد " الفجر 8 ويقال كان بين نوح وبين آدم عشرة آباء كلهم على الإسلام
وكان إدريس جد أبي نوح ولم يكن بين آدم ونوح نبي مرسل وكان إدريس نبيا ولم يؤمر بدعوة الخلق ويقال أنزل عليه عشرون صحيفة وقد آمن به كثير من الناس وكان بين نوح وإبراهيم ألف سنة ويقال ألفان وأربعون سنة وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وكان بين موسى وعيسى ألف سنة وبين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وكان هود بين نوح وإبراهيم فلما دعا قومه فكذبوه أنذرهم بالعذاب فقال إن الله تعالى يرسل عليكم الريح فيهلككم بها فاستهزؤوا به وقالوا أي ريح تقدر علينا فأمر الله تعالى خازن الريح أن يخرج من الريح العقيم التي هي تحت الأرض مقدار ما يخرج من حلقة الخاتم كما قال في آية أخرى " وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم " الذاريات 41 فجاءتهم وحملت الرجال والدواب كالأوراق في الهواء فأهلكتهم كلهم فلم يبق منهم أحد كما قال " فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين " الأحقاف 25 وذلك بعد ما أنذرهم وأخذ عليهم الحجة وذكرهم نعم الله تعالى في حقهم قال لهم " فاذكروا آلاء الله " يعني اشكروا نعمة الله قال بعضهم الآلاء اتصال النعمة والنعماء دفع البلية وقال بعضهم على ضد هذا وقال أكثر المفسرين الآلاء والنعماء بمعنى واحد " لعلكم تفلحون " يعني أي لكي تنجوا من عذابه
قوله تعالى " قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده " يعني قالوا له يا هود أتأمرنا أن نعبد ربا واحدا " ونذر ما كان يعبد آباونا " يعني نترك عبادة آلهتنا التي كان يعبدها آباؤنا قال لهم هود عليه السلام إن لم تفعلوا ما آمركم يأتيكم العذاب قالوا " فأتنا بما تعدنا " يعني تخوفنا من العذاب " إن كنت من الصادقين " في أنك رسول الله
قوله تعالى " قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب " يعني وجب عليكم عذاب وغضب من ربكم " أتجادلولني في أسماء سميتموها أنتم وآباوكم " يعني تجعلون قول أنفسكم وقول آبائكم حجة من غير أن تثبت لكم من الله حجة وقد اتخذتم الأصنام بأيديكم وسميتموها آلهة " ما نزل الله بها من سلطان " يقول ليس لكم عذر وحجة في عبادة الأصنام " فانتظروا " أي الهلاك " إني معكم من المنتظرين " يعني الهلاك بكم لأنهم أرادوا أن
(1/542)
1
يهلكوه
قوله تعالى " فأنجيناه والذين معه برحمة منا " يعني بنعمة منا عليهم " وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا " يعني قطع أصلهم واستأصلهم " وما كانوا مؤمنين " يعني الذين أهلكهم الله
543
تعالى كلهم كانوا كافرين
سورة الأعراف 73 - 74
قوله تعالى " وإلى ثمود أخاهم صالحا " يعني أرسلنا إلى ثمود نبيهم صالحا قال بعضهم " ثمود " اسم القرية وقال بعضهم " ثمود " اسم القبيلة وأصله في اللغة الماء القليل ويقال بئر كانت بين الشام والحجاز ويقال هي عين يخرج منها ماء قليل في تلك الأرض ويقال لها أرض الحجر كما قال في آية أخرى " ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين " الحجر 80 وقال بعضهم كان في تلك القرية تسعمائة أهل بيت وقال بعضهم ألف وخمسمائة فدعاهم صالح إلى الله تعالى سنين كثيرة فكذبوه وأرادوا قتله فخرجوا إلى عيد لهم فأتاهم صالح ودعاهم إلى الله تعالى فقالوا له إن كنت نبيا فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء حتى نؤمن بك ونصدقك فقام صالح وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فتحركت الصخرة فانصدعت عن ناقة عشراء ذات زغب فلم يؤمنوا به فولدت الناقة ولدا وقال بعضهم خرج ولدها خلفها من الصخرة فصارت الناقة بلية ومحنة عليهم وكانت من أعظم الأشياء فتأتي مراعيهم فتنفر منهم دوابهم وتأتي العين وتشرب جميع ما فيها من الماء فجعل صالح الماء قسمة بينهم يوما للناقة ويوما لأهل القرية فإذا كان اليوم الذي تشرب الناقة لا يحضر أحد العين وكانوا يحلبونها في ذلك اليوم مقدار ما يكفيهم وكان في المدنية تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون فاجتمعوا لقتل الناقة فقال لهم صالح لا تفعلوا فأنكم إذا قتلتموها يأتيكم العذاب فجاؤوا ووقفوا على طريق الناقة فلما مرت بهم الناقة متوجهة إلى العين رماها واحد منهم يقال له مصدع بن دهر فأصاب السهم رجل الناقة فلما رجعت الناقة من العين خرج قذار بن سالف وهو أشقى القوم كما قال الله تعالى " إذ انبعث أشقها " الشمس 12 فضربها بالسيف ضربة فقتلها وقسموا لحمها على أهل القرية
وروي عن الحسن البصري أنه قال لما عقرت ثمود الناقة ذهب فصيلها حتى صعد جبلا وقال ثلاث مرات أين أمي أين أمي أين أمي فأخبر بذلك صالح فقال يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام فقالوا وما العلامة في ذلك فقال أن تصبحوا في اليوم الأول وجوهكم مصفرة وفي اليوم الثاني وجوهكم محمرة وفي اليوم الثالث وجوهكم مسودة ثم خرج
(1/543)
1
 
544
من بين أظهرهم مع من آمن منهم فأصبحوا في اليوم الأول وجعل بعضهم يقول لبعض قد اصفر وجهك وفي اليوم الثاني يقول بعضهم لبعض قد احمر وجهك وفي اليوم الثالث يقول بعضهم لبعض قد اسود وجهك فأيقنوا جميعا الهلاك فجاء جبريل عليه السلام وصاح بهم صيحة فماتوا كلهم ويقال قد أتتهم النار فأحرقتهم فذلك قوله " قال يا قوم اعبدوا الله " يعني وحدوا الله " ما لكم من إله غيره " قد ذكرناه
ثم قال " قد جاءتكم بينة من ربكم " يقول قد أتيتكم بعلامة نبوتي وهي الناقة كما قال الله تعالى " هذه ناقة الله لكم آية " يعني علامة لنبوتي لكي تعتبروا وتوحدوا الله ربكم " فذروها تأكل في أرض الله " يقول دعوها ترتع في أرض الحجر " ولا تمسوها بسوء " يقول لا تعقروها " فيأخذكم عذاب أليم " وهو ما عذبوا به
قوله تعالى " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد " يعني من بعد هلاك عاد " وبوأكم في الأرض " يعني أنزلكم في أرض الحجر " تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا " وذلك أنه كانت لهم قصور يسكنون فيها أيام الصيف وقد اتخذوا بيوتا في الجبل لأيام الشتاء فذكرهم الله تعالى نعمته فقال واذكروا هذه النعم حيث وفقكم الله حين اتخذتم القصور في سهل الأرض واتخذتم البيوت في الجبال " فآذكروا آلاء الله " يعني نعم الله عليكم " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي
سورة الأعراف 75 - 79
قوله تعالى " قال الملأ الذين استكبروا من قومه " قرأ ابن عامر " وقال الملأ " بالواو وقرأ الباقون بغير واوا يعني قال الملأ الذين تكبروا عن الإيمان من قومه وهم القادة " للذين استضعفوا " " لمن آمن منهم " بصالح " أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه " يعني أتصدقون صالحا بأنه مرسل من ربكم إليكم " قالوا " يعني المؤمنين " إنا بما أرسل به مؤمنون " يعني مصدقين به " قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون " يعني برسالة صالح
قوله تعالى " فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم " يعني عصوا وتركوا أمر ربهم وأبوا عن طاعته في التوحيد ويقال فيه تقديم ومعناه عتوا عن أمر ربهم وعقروا الناقة وروي عن ابن عباس أنه قال إنهم عقروا الناقة ليلة الأربعاء في عشية الثلاثاء فأهلكهم الله في يوم السبت
(1/544)
1
 
545
" وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا " يعني بما تخوفنا به من العذاب " إن كنت من المرسلين " يعني إن كنت رسول رب العالمين " فأخذتهم الرجفة " يعني الزلزلة ويقال صيحة جبريل كما قال " فأخذتهم الصيحة مصبحين " الحجر 83 وقيل الزلزلة ثم أخذتهم الصيحة بعد ويقال النار " فأصبحوا في دارهم جاثمين " يعني صاروا في مدينتهم ومنازلهم ميتين لا يتحركون وأصله من الجثوم ويقال أصابهم العذاب بكورة يوم الأحد
قوله تعالى " فتولى عنهم " فيه تقديم وتأخير يعني حين كذبوه خرج من بين أظهرهم " وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم " يعني دعوتكم إلى التوبة وحذرتكم بالعذاب " ولكن لا تحبون الناصحين " يعني لا تطيعون الداعين ويقال إنما قال ذلك بعد هلاكهم على وجه الحزن أي قد بلغتكم الرسالة وروي عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى لم يهلك قوما ما دام الرسول فيهم فإذا خرج من بين ظهرانيهم أتاهم ما أوعد لهم وقال في رواية الكلبي لما هلك قوم صالح رجع صالح ومن معه من المؤمنين فسكنوا ديارهم وقال في رواية الضحاك خرج صالح إلى مكة فكان هناك حتى قبضه الله تعالى
سورة الأعراف 80 - 84
قوله تعالى " ولوطا إذ قال لقومه " يعني وأرسلنا لوطا إلى قومه ويقال معناه واذكروا لوطا " إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة " يعني اللواطة " ما سبقكم بها " يعني لم يعمل مثل عملكم " من أحد من العالمين " قبلكم " إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء " يعني تجامعون الرجال من دون النساء يعني إن إتيان الرجال أشهى عندكم من إتيان النساء وقرأ أبو عمرو " آينكم " بالمد بغير همز وقرأ ابن كثير ونافع " إنكم " بهمزة واحدة بغير مد وقرأ الباقون بهمزتين بغير مد ومعنى ذلك كله واحد وهو الاستفهام
ثم قال " بل أنتم قوم مسرفون " يعني معتدين من الحلال إلى الحرام
قوله تعالى " وما كان جواب قومه " وإنما صار الجواب نصبا لأنه خبر كان والاسم هو ما بعده " إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " يعني يتقذرون منا ويتنزهون عن فعلنا " فأنجيناه وأهله " يعني ابنتيه زعوراء وريثا " إلا امرأته " وهي واعلة " كانت من الغابرين " يعني من الباقين في الهلاك فيمن أهلكوا " وأمطرنا عليهم مطرا " يعني الحجارة ويقال أمطر للعذاب ومطر للرحمة ويقال أمطر ومطر بمعنى واحد " فانظر كيف كان عاقبة
(1/545)
1
 
546
المجرمين ) يعني كيف كان عاقبة أمرهم وقد بين قصته في سورة هود
وقال مجاهد لو أن الذي يعمل عمل قوم لوط اغتسل بكل قطرة في السماء وبكل قطرة في الأرض ما زال نجسا إلى يوم القيامة وقد اختلف الناس في حده قال بعضهم هو كالزاني فإن كان محصن رجم وإن كان غير محصن جلد وروي عن الشعبي أنه قال يرجم في الأحوال كلها محصنا كان أو غير محصن وروي عن علي بن أبي طالب أنه أتي برجل قد عمل ذلك العمل فأمر بأن يلقى من أشرف البناء منكوسا ثم يتبع بالحجارة لأن الله تعالى ذكر قتلهم بالحجارة قال بعضهم يعزر ويحبس حتى يظهر توبته ولا يحد وهو قول أبي حنيفة رحمه الله
سورة الأعراف 85 - 87
قوله تعالى " وإلى مدين أخاهم شعيبا " يعني أرسلنا إلى أهل مدين نبيهم شعيبا ومدين هو آل مدين وكان مدين بن إبراهيم خليل الرحمن تزوج ريثاء ابنة لوط فولدت آل مدين فتوالدوا وكثروا ثم صار هو اسما للمدينة فسميت المدينة مدين وسمي أولئك القوم مدين فكفروا بالله تعالى ونقصوا الميزان والمكيال في البيع وأظهروا الخيانة فبعث الله تعالى إليهم شعيبا وقال الضحاك كان شعيبا أفضلهم نسبا وأصدقهم حديثا وأحسنهم وجها ويقال إنه بكى من خشية الله تعالى حتى ذهب بصره وصار أعمى فدعا قومه إلى الله تعالى و " قال يا قوم اعبدوا الله " يعني وحدوه وأطيعوه " ما لكم من إله غيره قد جاءتكم موعظة من ربكم " قال بعضهم مجيء شعيب عليه السلام إليهم آية ولم يكن لشعيب علامة سوى مجيئه وإخباره بأن الله واحد وقال بعضهم كانت له علامة لأن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا وقد جعل له علامة ليظهر تصديق مقالته إلا أن الله تعالى لم يبين لنا علامته وقد بين علامة بعض الأنبياء ولم يبين علامة الجميع
ثم قال " فأوفوا الكيل والميزان بالقسط " يعني أتموا الكيل والميزان بالعدل " ولا تبخسوا الناس أشياءهم " يقول ولا تنقصوا الناس حقوقهم في البيع والشراء " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي بعد ما بين الله تعالى طريق الحق
(1/546)
1
 
547
وأمركم بالطاعة " ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين " يعني وفاء الكيل وترك الفساد في الأرض خير لكم من النقصان والفساد في الأرض " إن كنتم مؤمنين " يعني مصدقين بما حرم الله عليكم
قوله تعالى " ولا تقعدوا بكل صراط توعدون " يعني لا ترصدوا بكل طريق توعدون أهل الإيمان بالقتل " وتصدون عن سبيل الله " يقول تمنعون الناس عن دين الله هو دين الإسلام " من آمن به " يعني شعيبا " وتبغونها عوجا " يقول تريدون بملة الإسلام زيغا وغيرا
وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " بكل صراط توعدون " قال بكل سبيل حق تصدون الناس تخوفون الناس وتخوفون أهل الإيمان بشعيب
ثم قال " واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " يعني كنتم قليلا في العدد فكثر عددكم ويقال كنتم فقراء فأغناكم وكثر أموالكم " وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين " يعني كيف صار آخر أمر المكذبين بالرسل يعني الذين قبلهم قوم نوح وقوم عاد وقوم هود وقوم صالح
ثم قال تعالى " وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به " يعني إن كان جماعة منكم صدقوا بي " وطائفة لم يؤمنوا " يعني أي لم يصدقوا بي " فاصبروا حتى يحكم الله بيننا " يعني حتى تنظروا أن عاقبة المؤمنين تكون أفضل أم عاقبة الكافرين فذلك قوله " حتى يحكم الله بيننا " يعني حتى يقضي الله بين المؤمنين وبين الكافرين " وهو خير الحاكمين " يعني أعدل العادلين
سورة الأعراف 88 - 93
قوله تعالى " قال الملأ الذين استكبروا من قومه " يعني الأشراف والرؤساء الذين تعظموا عن الإيمان " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " يعني لتدخلن في ديننا الذين نحن عليه ويقال هذا الخطاب لقومه الذين آمنوا لترجعن إلى ديننا كما كنتم " قال " لهم شعيب " أو لو كنا كارهين " يعني أتجبروننا على ذلك قالوا نعم قال لهم
(1/547)
1
 
548
شعيب " قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم " يقول قد اختلقنا على الله كذبا إن دخلنا في دينكم " بعد إذ نجانا الله منها " ويقال معناه كنا كاذبين مثلكم لو دخلنا في دينكم بعد إذ نجانا الله منها ويقول أكرمنا الله تعالى بالإسلام ولم يجعلنا من أهل الكفر وأنقذنا من ملتكم ويقال " بعد إذ " أكرمنا الله بالإسلام ولم يجعلنا من أهل الكفر " وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا " يعني ما ينبغي لنا وما يجوز لنا أن ندخل في ملتكم إلا أن يشاء الله يعني لا يشاء الله الكفر مثل قولك لا أكلمك حتى يبيض القار وحتى يشيب الغراب وهذا طريق المعتزلة
ثم قال " وسع ربنا كل شيء علما " يعني علم ما يكون منا من الخلق " على الله توكلنا " يعني فوضنا أمرنا إلى الله لقولهم " لنخرجنك يا شعيب " " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق " يقول اقض بيننا وبين قومنا بالعدل وروى قتادة عن ابن عباس قال ما كنت أدري ما معنى قوله " ربنا افتح بيننا " حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لعلي بن أبي طالب تعالى أفاتحك يعني أحاكمك وقيل أخاصمك وقال القتبي الفتح أن تفتح شيئا مغلقا كقوله " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها " الزمر 73 وسمي القضاء فتحا لأن القضاء فصل الأمور وفتح لما أشكل منها " وأنت خير الفاتحين " يعني خير الفاصلين
قوله تعالى " وقال الملأ الذين كفروا من قومه لأن اتبعتم شعيبا " يعني لئن أطعتم شعيبا في دينه " إنكم إذا لخاسرون " يعني جاهلين فلما وعظهم شعيب ولم يتعظوا أخبرهم أن العذاب نازل بهم فلم يصدقوه فخرج شعيب ومن آمن معه من بين أظهرهم فأصابهم يعني أهل القرية حر شديد فخرجوا من القرية ودخلوا غيضة كانت عند قريتهم وهي الأيكة كما قال في آية أخرى " كذب أصحاب لئيكة المرسلين " الشعراء 176 فأرسل الله تعالى نارا فأحرقت الأشجار ومن فيها من الناس ويقال أصابتهم الزلزلة فأتتهم نار فأحرقتهم فذلك قوله " فأخذتهم الرجفة " يعني الزلزلة والحر الشديد فهلكوا واحترقوا " فأصبحوا في دارهم جاثمين " يعني صاروا ميتين
قوله تعالى " الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها " يقال معناه من كان رآهم بعد إهلاكنا إياهم ظن أنه لم يكون هناك أحد يعني لم يعيشوا فيها قط وقال قتادة " كأن لم يغنوا " يعني كأن لم يتنعموا " فيها " ويقال كأن لم يعمروا ثم قال " الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين " يعني المغبونين في العقوبة يعني إنهم كانوا يقولون لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فصار الذين كذبوا هم الخاسرون لا الذين آمنوا به
(1/548)
1
 
549
قوله تعالى " فتولى عنهم " يعني أعرض عنهم يعني حين خرج من بين أظهرهم " وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي " في نزول العذاب " ونصحت لكم " وقد ذكرناه " فكيف آسى على قوم كافرين " يعني أحزن بعد النصيحة على قوم إن عذبوا
سورة الأعراف 94 - 99
قوله تعالى " وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها " ففي الآية مضمر ومعناه وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها " بالبأساء والضراء " يعني عاقبنا أهلها بالخوف والبلاء والقحط والفقر ويقال البأساء ما يصيبهم من الشدة في أموالهم والضراء ما يصيبهم في أنفسهم " لعلهم يضرعون " فأدغمت التاء في الضاد وأقيم التشديد مقامه ومعناه لكي يدعوا ربهم ويؤمنوا بالرسل ويعرفوا ضعف معبودهم
قوله تعالى " ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة " يعني حولنا مكان الشدة الرخاء ومكان الجدوبة الخصب " حتى عفوا " كثروا واستغنوا وكثرة أموالهم ولم يشكروا الله تعالى ويقال " حتى عفوا " أي حتى سروا به " وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء " يعني مثل ما أصاب آباءنا مرة يكون الرخاء ومرة يكون الشدة " فأخذتهم بغتة " يعني فجأة " وهم لا يشعرون " يعني أتاهم العذاب من حيث لم يعلموا به ويقال إن الشدة للعام تكون تنبيها وزجرا والنعمة تكون استدراجا وأما النعمة للخاص فهي تنبيه لأنه بعد ذلك عقوبة كما روي أن الله تعالى قال لموسى إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنى مقبلا إليك فقل ذنب عجلت عقوبته
قوله تعالى " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا " يعني وحدوا الله تعالى واتقوا الشرك " لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " يعني أنزلنا عليهم من السماء المطر والرزق والنبات من الأرض " ولكن كذبوا " الرسل " فأخذناهم " يعني عاقبناهم " بما كانوا يكسبون " من الشرك ففي الآية دليل أن الكفاية والسعة في الرزق من السعادة إذا كان المرء شاكرا وتكون
(1/549)
1
 
550
عقوبة له إذا لم يكن شاكرا لأنه قال في آية أخرى " لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة " الزخرف 33 يعني الغنى يكون وبالا لمن لم يشكر الله وعقوبة له
ثم قال تعالى " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا " يعني أن ينزل عليهم عذابنا ليلا " وهم نائمون أو أمن أهل القرى " فتحت الواو لأنها واو العطف أدخلت عليها ألف الاستفهام وكذلك " أفأمن " لأنها فاء العطف أدخل عليها ألف الاستفهام قرأ نافع وابن كثير " أو أمن " بجزم الواو لأن أصله أو وأمن وأو حرف من حروف الشك فأدغم في حرف النسق " أن يأتيهم بأسنا ضحى " يعني يأتيهم عذابنا نهارا " وهم يلعبون " يعني لاهون عنه
ثم قال تعالى " أفأمنوا مكر الله " يعني عذاب الله " فلا يأمن مكر الله " يعني عذاب الله " إلا القوم الخاسرون " يعني المغبونين بالعقوبة
سورة الأعراف 100 - 102
قوله تعالى " أو لم يهد للذين يرثون الأرض " يعني أو لم يبين قال القتبي أصل الهدى الإرشاد كقوله " عسى ربي أن يهديني " يعني يرشدني ثم يصير الإرشاد على معان منها إرشاد تبيان مثل قوله " أو لم يهد للذين " يعني أو لم يبين لهم ومنها إرشاد بمعنى بالدعاء كقوله " ولكل قوم هاد " الرعد 7 يعني نبيا يدعوهم وقوله " وجعلنهم أئمة يهدون بأمرنا " الأنبياء 73 يعني يدعون الخلق وقرأ بعضهم " أو لم نهد بالنون " يعني أو لم نبين لهم الطريق ومن قرأ بالياء معناه أو لم يبين الله " أو لم نهد بالنون " يعني أو لم نبين لهم الطريق ومن قرأ بالياء معناه أو لم يبين الله " للذين يرثون الأرض من بعد أهلها " يعني ينزلون الأرض من بعد هلاك أهلها ويقال أولم نبين لأهل مكة هلاك الأمم الخالية كيف أهلكناهم ولم يقدر مبعودهم على نصرتهم " أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم " يعني أهلكناهم بذنوبهم كما أهلكنا من كان قبلهم عند التكذيب
ثم قال " ونطبع على قلوبهم " يعني نختم على قلوبهم بأعمالهم الخبيثة عقوبة لهم " فهم لا يسمعون " الحق ولا يقبلون الموعظة
قال عز وجل " تلك القرى نقص عليك من أنبائها " يعني تلك القرى التي أهلكنا أهلها نخبرك في القرآن من حديثها " ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات " يعني بالعلامات الواضحة والبراهين القاطعة التي لو اعتبروا بها لاهتدوا " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " يعني أهل مكة لم يصدقوا بما كذب به الأمم الخالية وقال مجاهد فما كانوا ليؤمنوا
(1/550)
1
 
551
بعد العذاب بما كذبوا من قبل وهذا مثل قوله تعالى " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " الأنعام 28 وقال السدي " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا " يوم الميثاق يعني فما كانوا ليؤمنوا في دار الدنيا بما كذبوا من قبل يوم الميثاق وأقروا به وهو قوله " ألست بربكم قالوا بلى " الأعراف172 ثم قال في الدنيا وما وجدناهم على ذلك الإقرار ويقال " فما كانوا ليؤمنوا " عند مجيء الرسل " بما كذبوا من قبل " مجيء الرسل معناه أن مجيء الرسل لم ينفعهم " كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " يعني هكذا يختم الله تعالى " على قلوب الكافرين " مجازاة لكفرهم
قوله تعالى " وما وجدنا لأكثرهم من عهد " " من " زيادة للصلة يعني ما وجدنا لأكثرهم من وفاء فيما أمروا به يعني الذين كذبوا وعذبوا من الأمم الخالية ويقال " ما وجدنا لأكثرهم من عهد " لأنهم أقروا يوم الميثاق ثم نقضوا العهد حيث كفروا ويقال " ما وجدنا لأكثرهم من عهد " أي من قبول العهد الذي عاهدوا على لسان الرسل
ثم قال " وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين " يعني وقد وجدنا أكثرهم لناقضين العهد تاركين لما أمروا به
سورة الأعراف 103 - 108
قوله تعالى " ثم بعثنا من بعدهم موسى " يعني أرسلنا من بعد الرسل الذين ذكرهم في هذه السورة ويقال ثم بعثنا من بعد هلاكهم موسى وهو موسى بن عمران " بآياتنا " يعني اليد البيضاء والعصا " إلى فرعون " وهو ملك مصر واسمه وليد بن مصعب وروي عن وهب بن منبه أنه قال كان فرعون في وقت يوسف فعاش إلى وقت موسى فبعث الله تعالى إليه موسى ليأخذ عليه العهد والحجة وأنكر عليه ذلك عامة المفسرين وقالوا هو كان غيره وكان جبارا ظهر بمصر واستولى عليها فأرسل الله تعالى إليه موسى فذلك قوله تعالى " ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه " يعني جنوده وأتباعه " فظلموا بها " يعني جحدوا بالآيات " فانظر كيف عاقبة المفسدين " يعني كيف صار آخر أمر المشركين وقال ابن عباس أول الآيات العصا فضرب بها موسى باب فرعون ففزع منها فرعون فشاب رأسه فاستحيا فخضب رأسه بالسواد فأول من خضب رأسه بالسواد فرعون قال ابن عباس كان طول العصا عشرة أذرع على طول موسى وكانت من آس الجنة يضرب بها الأرض فيخرج
(1/551)
1
 
552
النبات فلما دخل عليه مع هارون " وقال " له " موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين " إليك قال له فرعون كذبت قال له موسى " حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق " قرأ نافع " حقيق " علي بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف على فمن قرأ بالتخفيف فمعناه واجب علي أن لا أقول يعني واجب بأن أترك القول على الله إلا الحق ومن قرأ بالتشديد معناه واجب علي ترك القول على الله إلا الحق فلما كذبوه قال إني لا أقول بغير برهان " قد جئتكم ببينة من ربكم " يعني جئتكم بعلامة لنبوتي " فأرسل معي بني إسرائيل " ولا تستعبدهم لأن فرعون كان قد استعبد بني إسرائيل واتخذهم سخرة ف " قال " له فرعون " إن كنت جئت بآية " يعني بعلامة لنبوتك " فأت بها إن كنت من الصادقين " بأنك رسول الله " فألقى عصاه " يعني ألقى موسى عصاه من يده " فإذا هي ثعبان مبين " وهي أعظم الحيات ويقال الثعبان الحية الذكر الصفراء والشقراء ويقال صارت حية من أعظم الحيات رأسها مع شرف قصر فرعون ففتحت فاها نحو فرعون وكان فرعون على سريره فوثب فرعون من سريره وهرب منها وهرب الناس وصاحوا إلى موسى ونادى فرعون يا موسى خذها عني فأخذها فإذا هي عصا بيده كما كانت وجعل الناس يضحكون مما صنع موسى ومعنى قوله " ثعبان مبين " يعني أنها حية تسعى لا لبس فيها فقال له فرعون هل معك غير هذا قال نعم " ونزع يده " يعني أخرج يده أخرجها من جيبه كما قال في آية أخرى " وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء " النمل12 يعني من غير برص " فإذا هي بيضاء للناظرين " يعني لها شعاع غلب على نور الشمس ومعنى قوله " للناظرين " يعني يتعجب ويتحير منها الناظرون ويقال إن البياض من غير برص لأن الناس يكرهون النظر إلى الأبرص فأخبر أن ذلك بياض ينظرون إليه ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فصارت كما كانت
سورة الأعراف 109 - 116
" قال الملأ من قوم فرعون " يعني الأشراف والرؤساء قال مقاتل يعني إن فرعون قال بهذه المقالة فصدقه قومه في سورة الشعراء " قال للملأ حوله إن هذا لسحر عليم " الشعراء34 يعني حاذق بالسحر
ثم قال قومه " إن هذا لساحر عليم " يعني تصديقا لقوله " يريد أن يخرجكم من
(1/552)
1
 
553
أرضكم ) بسحره يعني من أرض مصر فقال لهم فرعون " فماذا تأمرون " يعني ماذا تشيرون في أمره ويقال إن بعضهم قال لبعض فماذا تأمرون يعني ماذا ترون فيه " قالوا أرجه وأخاه " يعني احسبهما ولا تقتلهما وأصله في اللغة التأخير يعني أخر أمرهما حتى تجتمع السحرة فيغلبوهما فإنك إن قتلتهما قبل أن يظهر حالهما يظن الناس بأنهما صادقان فإذا تبين كذبهما عند الناس فاقتلهما حينئذ فذلك قوله " أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين " يعني الشرط يحشرون الناس إليك " يأتوك بكل ساحر عليم " أي حاذق بالسحر قرأ ابن كثير " أرجئهو " بالهمزة والواو بعد الهاء وقرأ الكسائي " أرجهي " بغير همز والياء بعد الهاء وكذلك نافع في رواية ورش وهكذا قرأ حمزة إلا أنه يكسر الهاء ولا يتبع الياء وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبو بكر وابن عامر في إحدى الروايتين " أرجئه " بالهمزة والضمة بغير مد وقرأ عاصم بالهمز وهذه لغات كلها مروية عن العرب وقرأ حمزة والكسائي " بكل سحار عليم " على وجه المبالغة في السحر وقرأ الباقون " بكل ساحر " وهكذا في يونس واتفقوا في الشعراء
قوله تعالى " وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا " يعني قالوا لفرعون أتعطينا جعلا ومالا " إن كنا نحن الغالبين " لموسى " قال " لهم فرعون " نعم " لكم الجعل " وإنكم لمن المقربين " يعني لكم المنزلة سوى العطية يعني أنكم تكونوا أول من يدخل علي بالسلام قرأ أبو عمرو " آين لنا لأجرا " بمد الألف وقرأ ابن كثير ونافع وحفص " إن لنا " بهمزة واحدة بغير ياء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي " إن لنا " بهمزتين فلما اجتمعت السحرة ووعدوا للخروج يوما وأعلم الناس بخروجهم ليجتمعوا عند سحرتهم كما قال في آية أخرى " قال موعدكم يوم الزينة " طه 59 يعني يوم عيد كان لهم ويقال يوم النيروز فلما اجتمعوا قالت السحرة أي سحرة فرعون لموسى " قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين " يعني إما أن تطرح عصاك على الأرض وإما أن نكون نحن الملقين قبلك " قال " لهم موسى " ألقوا فلما ألقوا " يعني السحرة ألقوا الحبال والعصي " سحروا أعين الناس " يعين أخذوا أعينهم بالسحر " واسترهبوهم " يعني طلبوا رهبتهم حتى رهبهم الناس قال الكلبي كانت السحرة سبعين فألقوا سبعين عصا وسبعين حبلا وقال بعضهم كانوا اثنين وسبعين حبلا وروى الأسباط عن السدي قال قال ابن عباس كانوا بضعا وثلاثين ألفا وقال محمد بن إسحاق كانوا ألف رجل وخمسمائة رجل ومع كل واحد منهم عصا وقد كانوا خاطوا الحبال وجعلوها مموهة بالرصاص وحشوها بالزئبق حتى إذا ألقوها تحركت كأنها حيات لأن الزئبق لا يستقر في مكان واحد فلما طلعت عليها الشمس صارت شبيها بالحيات فنظر
(1/553)
1
موسى فإذا الوادي قد امتلأ بالحيات فدخل فيه الخوف ونظر الناس إلى ذلك فخافوا من كثرة الحيات فذلك قوله " واسترهبوهم " يعني أفزعوهم وأخافوهم " وجاؤوا بسحر عظيم "
554
يعني بقول عظيم ويقال بسحر تام ويقال " وجاؤوا بسحر عظيم " يعني بقول عظيم حتى قالوا " بعزة فرعون إنا لنحن الغلبون " الشعراء 44 ويقال وجاؤوا بكذب عظيم
سورة الأعراف 117 - 127
قال الله تعالى " وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك " يعني اطرح عصاك إلى الأرض فألقى عصاه من يده فصارت حية أعظم من جميع حياتهم " فإذا هي تلقف ما يأفكون " يعني تلتقم وتأكل جميع ما جاؤوا به من الكذب والسحر قرأ عاصم في رواية حفص " تلقف " بجزم اللام وتشديد القاف وقرأ الباقون بنصب اللام وتشديد القاف ومعناهما واحد
وقصدت الحية إلى فرعون فنادى موسى فأخذها فإذا هي عصا على حالها فنظر السحرة فإذا حبالهم وعصيهم قد ذهبت " فوقع الحق " يعني استبان الحق فظهر أنه ليس بسحر " وبطل ما كانوا يعملون " من السحر يعني ذهب وهلك واضمحل " فغلبوا هنالك " وغلب موسى السحرة عند ذلك " وانقلبوا صاغرين " يعني رجعوا ذليلين قالوا لو كان هذا سحر فأين صارت حبالنا وعصينا ولو كانت سحرا لبقيت حبالنا وعصينا وهذا من الله تعالى وليس بسحر فآمنوا بموسى
قوله تعالى " وألقي السحرة ساجدين " يعني خروا لله تعالى ساجدين قال الأخفش من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا ويقال وفقهم الله تعالى للسجدة " قالوا آمنا برب العالمين " فقال لهم فرعون إياي تعنون فأراد أن يلبس على قومه فقالوا " رب موسى وهارون " فندم فرعون على ما سألهم لأن بعض الناس كانوا يظنون عند مقالتهم برب العالمين أنهم أرادوا به فرعون فلما سألهم فرعون وقالوا " برب موسى وهارون " ظهر عند جميع الناس أنهم لم يريدوا به فرعون وإنما أرادوا به الإيمان بموسى وبرب العالمين
" قال فرعون آمنتم به " يعني صدقتم بموسى " قبل أن آذن لكم " يعني قبل أن آمركم بالإيمان بموسى قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير " آمنتم " بالمد وقرأ الباقون بغير مد بهمزتين ومعناهما واحد ويكون استفهاما إلا عاصم في رواية حفص قرأ آمنتم بهمزة واحدة
(1/554)
1
 
555
بغير مد على وجه الخبر " إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة " يعني صنع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في المدينة " لتخرجوا منها أهلها " يعني إنكم أردتم أن تخرجوا الناس من مصر بسحركم
ثم قال لهم " فسوف تعلمون " يعني تعلمون ماذا أفعل بكم " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى " ثم لأصلبنكم أجمعين " على شاطئ نهر مصر " قالوا إنا إلى ربنا منقلبون " يعني لا نبالي من فعلك وعقوبتك فإن مرجعنا إلى الله تعالى يوم القيامة
قوله تعالى " وما تنقم منا " يعني وما تعيب علينا وما تنكر منا " إلا أن آمنا " بالله يعني إلا إيماننا بالله ويقال وما نقتمتك علينا ولم يكن منا ذنب " إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا " يعني لما ظهر عندنا أنه حق
ثم سألوا الله تعالى الصبر على ما يصيبهم لكي لا يرجعوا عن دينهم فقالوا " ربنا أفرغ علينا " يعني أنزل علينا " صبرا " عند القطع والصلب ومعناه ارزقنا الصبر وثبت قلوبنا حتى لا نرجع كفار " وتوفنا مسلمين " على دين موسى وروي عن عبيد الله بن عمير أنه قال كانت السحرة أول النهار كفارا سحرة وآخر النهار شهداء بررة وقال بعض الحكماء إن سحرة فرعون كانوا كفروا خمسين سنة فغفر لهم بإقرار واحد وبسجدة واحدة فالذي أقر وسجد خمسين سنة فكيف لا يرجو رحمته ومغفرته
قوله تعالى " وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض " يعني أن السحرة قد آمنوا به فلو تركهما يؤمن بهما جميع أهل مصر فيفسدوا في الأرض يعني موسى وقومه ويغيروا عليك دينك في أرض مصر " ويذرك وآلهتك " وذلك أن فرعون جعل لقومه أصناما يعبدونها وكان يقول لهم هؤلاء أربابكم الصغار وأنا ربكم الأعلى فذلك قوله " ويذرك وآلهتك " يعني يدعك ويدع أصنامك التي أمرت بعبادتها وروي عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه كان يقرأ " ويذرك وآلهتك " يعني عبادتك وتعبدك قال ابن عباس كان فرعون يعبد ولا يعبد ويقال معنى قوله " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض " يعني يغلبوا عليكم ويقتلوا أبناءكم ويستحيوا نساءكم كما فعلتم بهم كما قال في آية أخرى " إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد " غافر 26 فقال فرعون " سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم " لأنهم قد كانوا تركوا قتل الأبناء فأمرهم بأن يرجعوا إلى فعل ذلك قرأ ابن كثير ونافع " سنقتل " بجزم القاف والتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة في القتل
ثم قال " وإنا فوقهم قاهرون " يعني مسلطون فشكت بنو إسرائيل إلى موسى
(1/555)
1
 
556
 
سورة الأعراف 128 - 131
ثم قال " قال موسى لقومه استعينوا بالله " يعني سلوا الله التوفيق " واصبروا " يعني اصبروا على أذاهم حتى يأتيكم المخرج " إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده " يعني أرض مصر ينزلها من يشاء من عباده ويقال الجنة قرأ عاصم في رواية حفص " يورثها " بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف وهما لغتان ورثت وأورثت بمعنى واحد
ثم قال " والعاقبة للمتقين " أي للمتقين الذين يعملون في طاعة الله تعالى على نور من الله مخافة عقاب الله ورجاء ثواب الله تعالى يعني آخر الأمر لهم وروي في الخبر أن مسيلمة الكذاب كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابا من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض بيني وبينكم نصفان إلا أن العرب قوم يظلمون الناس فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين
قوله تعالى " قالوا أودينا من قبل أن تأتينا " يعني أن قوم موسى قالوا لموسى إنهم قد عذبونا قبل أن تأتينا بالرسالة " ومن بعد ما جئتنا " لأن قوم فرعون كانوا يكلفون بني إسرائيل من العمل ما لا يطيقون وكان آل فرعون لا يعرفون شيئا من الأعمال وكانت بنو إسرائيل حذاقا في الأشياء والأعمال فكانوا يأمرونهم في العمل ولا يعطونهم الأجر " فقال " لهم موسى " عسى ربكم أن يهلك عدوكم " يعني فرعون وقومه " ويستخلفكم في الأرض " يعني يجعلكم سكانها من بعد هلاكهم يعني أرض مصر من بعد هلاك فرعون وقومه " فينظر كيف تعملون " يعني يبتليكم بالنعمة كما ابتلاكم بالشدة فيظهر عملكم في حال اليسر والشدة لأنه قد وعد لهم بقوله تبارك تعالى " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم إئمة ونجعلهم الورثين " القصص 5 ويقال " فينظر كيف تعملون " من بعده يعني من بعد انطلاق موسى إلى الجبل فعبدوا العجل
قوله تعالى " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين " يعني بالجوع والقحط " ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون " يعني يتعظون ويؤمنون فلم يؤمنوا ولم يتعظوا
قال الله تعالى " فإذا جاءتهم الحسنة " يعني الخير والخصب والرخاء " قالوا لنا هذه "
(1/556)
1
 
557
يعني نحن أهل لهذه الحسنة وأحق بها " وإن تصبهم سيئة " يعني القحط والبلاء والشدة " يطيروا بموسى ومن معه " وأصله يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء كقوله " يذكرون " وأصله يتذكرون يعني يتشاءمون بموسى ومن معه على دينه
قال الله تعالى " ألا إنما طائرهم عند الله " يعني إن الذي أصابهم من عند الله وبفعلهم ويقال إنما الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا ما ينالهم في الدنيا " ولكن أكثرهم لا يعلمون " أنه من الله تعالى ولا يعلمون ما عليهم في الآخرة
سورة الأعراف 132 - 137
قوله تعالى " وقالوا مهما تأتنا به من آية " يقول متى ما تأتنا ويقال كلما تأتنا وروي عن الخليل أنه قال " مهما تأتنا " هي متى الشرطية أدخلت معها ما الزائدة كقوله متى ما تأتني آتك وما زائدة فكأنه قال ما تأتنا به فأبدلوا الهاء من الألف وهكذا قال الزجاج
وقوله " به من آية " يعني من آية " لتسحرنا بها " يعني لتأخذ أعيننا بها " فما نحن لك بمؤمنين " يعني بمصدقين بأنك مبعوث ورسول من الله فغضب موسى عند ذلك فدعا عليهم قال الله تعالى " فأرسلنا عليهم الطوفان " وهو المطر الدائم من السبت إلى السبت حتى خربت بنيانهم وانقطعت السبل وكادت أن تصير مصرا بحرا واحدا فخافوا الغرق فاستغاثوا بموسى فأرسلوا إليه وقالوا اكشف عنا العذاب نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى ربه فكشف عنهم المطر وأرسل الله عليهم الريح فجففت الأرض فخرج من النبات شيء لم يروا مثله بمصر قط قالوا هذا الذي جزعنا منه خير لنا ولكن لم نشعر به فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنقضوا العهد وعصوا ربهم فمكثوا شهرا فدعا عليهم موسى فأرسل الله تعالى كما قال تعالى " والجراد " مثل الليل فكانوا لا يرون الأرض ولا السماء من كثرتها فأكل كل شيء أنبتته الأرض فاستغاثوا بموسى وقالوا يا أيها الساحر يعني يا أيها العالم سل لنا ربك ليكشف عنا العذاب ونؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل
(1/557)
1
 
558
فدعا موسى ربه فأرسل الله تعالى ريحا فاحتملت الجراد وألقته في البحر فلم يبق في أرض مصر جرادة واحدة فقال لهم فرعون انظروا هل بقي شيء فنظروا فإذا هو قد بقي لهم بقية من كلئهم وزرعهم ما يكفيهم عامهم ذلك قالوا قد بقي لنا ما في بلغتنا هذه السنة فقالوا يا موسى لا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فمكثوا شهرا ثم دعا عليهم فأرسل الله تعالى عليهم " القمل " قال قتادة القمل أولاد الجراد التي لا تطير وهكذا قال السدي وذكر عن أبي عبيدة أنه قال القمل عند العرب الحمنان وهو ضرب من القردان فلم يبق من أرض مصر عود أخضر إلا أكلته وأتاهم منه مثل السيل على وجه الأرض فأكل كل شيء في أرض مصر من نبات أو ثمر فصاحوا إلى موسى ادع لنا ربك هذه المرة يكشف عنا العذاب ونحن نطيعك ونعطيك عهدا موثقا لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني إسرائيل فدعا موسى ربه فأرسل الله تعالى ريحا حارة فأحرقته فلم يبق منه شيء وحملته الريح فألقته في البحر فقال لهم موسى أرسلوا معي بني إسرائيل فقالوا له قد ذهبت الأنزال كلها فأي شيء تفعل بعد هذا فعلى أي شيء نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل اذهب فما استطعت أن تضر بنا فضرنا فإنا لو نؤمن بك ولن نرسل معك بني إسرائيل فمكثوا شهر فدعا الله تعالى عليهم موسى فأرسل الله تعالى " الضفادع " فخرجوا من البحر مثل الليل الدامس فغشوا أهل مصر ودخلوا البيوت ووقع على ثيابهم وفرشهم وسررهم وكان الرجل منهم يستيقظ في الليل وقد امتلأ فراشه من الضفادع فكان الرجل يكلم صاحبه يجعل فمه في أذنه ليسمع كلامه من كثرة نقيق الضفادع فضاق الأمر عليهم فصاحوا إلى موسى فقالوا يا موسى لئن رفعت عنها هذه الضفادع لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني إسرائيل فدعا موسى ربه فأذهب الله تعالى عنهم الضفادع فقال لهم موسى أرسلوا معي بني إسرائيل فقالوا نعم اخرج بهم ولا تخرج معهم مواشيهم وأموالهم فقال لهم موسى إن الله أمرني أن أخرج بهم ولا أخلف من أموالهم ومواشيهم شيئا فقالوا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فمكثوا شهرا فدعا عليهم فأرسل الله تعالى عليهم " الدم " فجرت أنهارهم دما فلم يكونوا يقدرون على الماء العذب ولا غيره وبنو إسرائيل في الماء العذب وكلما دخل رجل من آل فرعون يستقي من أنهار بني إسرائيل ماء صار الماء دما والماء من بين يديه ومن خلفه فركب فرعون وأشراف أصحابه فأتوا أنهار بني إسرائيل فإذا هي عذبة صافية فجعل يدخل فرعون الرجل منهم فإذا دخل واغترف صار الماء في يده دما فمكثوا كذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم فمات كثير منهم في ذلك فاستغاثوا بموسى فقال فرعون اقسم بإلهك يا موسى لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني
(1/558)
1
إسرائيل فدعا موسى ربه فأذهب الله تعالى عنهم الدم وعذب ماؤهم وصفا فعادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى " فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات " يعني متتابعات قال
(1/559)
1
 
559
الحسن وسعيد بن جبير وغيرهما كانوا يعافون بين كل آيتين شهرا فإذا جاءت الآية قامت عليهم سبعا من السبت إلى السبت وروي عن مجاهد أنه قال " الطوفان " المطر الكثير وقوله " آيات مفصلات " صار نصبا للحال
وقوله تعالى " فاستكبروا " يعني تعظموا عن الإيمان " وكانوا قوما مجرمين " يعني أقاموا على كفرهم
قوله تعالى " ولما وقع عليهم الرجز " يعني وجب عليهم العذاب وحل بهم " قالوا يا موسى ادع لنا ربك " يعني سل لنا ربك " بما عهد عندك " يعني بما أمرك ربك أن تدعو الله ويقال بالعهد الذي سل ربك " لئن كشفت عنا الرجز " يعني رفعت عنا العذاب " لنؤمنن لك " يعني لنصدقنك " ولنرسلن معك بني إسرائيل "
قال الله تعالى " فلما كشفنا عنهم الرجز " يعني العذاب " إلى أجل هم بالغوه " يعني إلى وقت الغرق ويقال إلى وقت بقية آجالهم " إذا هم ينكثون " يعني ينقضون العهد الذي عاهدوا عليه مع موسى
قال الله تعالى " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم " يعني في البحر بلسان العبرانية وذلك أن الله تعالى أمر موسى بأن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر ليلا فاستعار نسوة من بني إسرائيل من نساء آل فرعون حليهن وثيابهن وقلن إن لنا خروجا فخرج موسى ببني إسرائيل في أول الليل وهم ستمائة ألف من رجل وامرأة وصبي فذكر ذلك لفرعون فتهيأ للخروج إليهم فلما كان وقت الصبح ركب فرعون ومعه ألف ألف ومائتا ألف رجل فأدركهم حين طلعت الشمس وانتهى موسى إلى البحر فضرب البحر فانفلق له اثنا عشرة طريقا وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطا فعبر كل سبط في طريق وأقبل فرعون ومن معه حتى انتهوا إلى حيث عبر موسى فدخلوا في ذلك الطريق في طلبهم فلما دخل آخرهم وهم أولهم أن يخرج أمر الله تعالى البحر أن ينطبق عليهم فغرقهم فذلك قوله " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا " يعني الآيات التسع وهي اليد والعصا والسنون ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم " آيات مفصلات " " وكانوا عنها غافلين " يعني معرضين فلم يتفكروا ولم يعتبروا بها حتى رجع موسى ببني إسرائيل فسكنوا أرض مصر فذلك قوله تعالى " وأورثنا القوم " يعني بني إسرائيل " الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض " يعني الأرض المقدسة " ومغاربها " يعني الأردن وفلسطين ويقال " مشارق الأرض " يعني الشام " ومغاربها " " التي باركنا فيها " يعني بالبركة الماء والثمار الكثيرة
وقال تعالى " وتمت كلمة ربك الحسنى " يقول وجبت نصرة ربك بالإحسان " على بني إسرائيل " قال مجاهد هو ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض وقال
(1/560)
1
 
560
مقاتل يعني بالكلمة التي ذكرها في سورة القصص " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة الورثين " القصص 5 وقال الكلبي " وتمت كلمة ربك " يعني نعمة ربك " الحسنى " يعني أنهم يجزون الحسنى الجنة " بما صبروا " ولم يدخلوا في دين فرعون ويقال " وتمت كلمة ربك " يعني ما وعدهم الله من إهلاك عدوهم واستخلافهم
ثم قال " ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه " يعني أهلكنا ما كان يصنع فرعون وقومه وأبطلنا كيده ومكره " وما كانوا يعرشون " يعني أهلكنا ما كانوا يبنون من البيوت والكروم وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر " يعرشون " بضم الراء وقرأ الباقون بالكسر ومعناهما واحد
سورة الأعراف 138 - 141
قوله تعالى " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم " يقول مروا على قوم " يعكفون على أصنام لهم " يعني يعبدون الأصنام ويقومون على عبادتها وكل من يلازم شيئا ويواظب عليه يقال عكفه ولهذا سمي الملازم للمسجد معتكفا " قالوا يا موسى اجعل لنا إلها " قال الجهال من بني إسرائيل لموسى " اجعل لنا إلها " نعبده " كما لهم آلهة " يعبدونها " قال " لهم موسى " إنكم قوم تجهلون " يعني تكلمتم بغير علم وعقل وجهلتم الأمر
قوله تعالى " إن هؤلاء متبر ما هم فيه " يعني مهلكا مفسدا ما هم فيه من عبادة الأصنام " وباطل " يعني ضلال " ما كانوا يعملون " والتبار الهلاك كقوله تعالى " ولا تزد الظالمين إلا تبارا " نوح 28 أي هلاكا
ثم " قال " تعالى لهم قل " أغير الله أبغيكم إلها " يعني أسوى الله آمركم أن تعبدوا وتتخذوا إلها " وهو فضلكم على العالمين " يعني على عالمي زمانكم يعني أنه قد أحسن إليكم فلا تعرفون إحسانه وتطلبون عبادة غيره وهم الذين كانوا أجابوا السامري حيث دعاهم إلى عبادة العجل بعد انطلاق موسى إلى الجبل
ثم ذكرهم النعم فقال عز وجل " وإذ أنجيناكم " يعني اذكروا حيث أنجاكم الله " من آل
(1/561)
1
 
561
فرعون ) وقرأ ابن عامر " وإذ أنجاكم " يعني اذكروا حيث أنجاكم الله " من آل فرعون " وقرأ الباقون " وإذ انجيناكم " معناه مثل ذلك " يسومونكم سوء العذاب " يعني يعذبونكم بأشد العذاب " يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم " يعني يستخدمون نساءكم " وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " يعني في الإنجاء نعمة من ربكم عظيم ويقال في قتل الأبناء واستخدام النساء بلية من ربكم عظيمة قرأ نافع " يقتلون أبناءكم " بنصب الياء مع التخفيف وقرأ الباقون بضم الياء وكسر التاء مع التشديد على التكثير وقرأ حمزة والكسائي " يعكفون " بكسر الكاف وقرأ الباقون بالضم
سورة الأعراف 142 - 144
قوله تعالى " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة " قرأ أبو عمرو " ووعدنا " بغير ألف والباقون بالألف ومعناهما واحد " وأتمممناها بعشر " يعني ثلاثين من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة ويقال ثلاثين من ذي الحجة وعشرا من المحرم والمناجاة في يوم عاشوراء وكانت المواعدة ثلاثين يوما وأمر بأن يصوم ثلاثين يوما فلما صام ثلاثين يوما أنكر خلوف فمه فاستاك بعود خرنوب ويقال بورقة موز فقالت له الملائكة كنا نجد من فيك ريح المسك فأفسدته بالسواك فأمر بأن يصوم عشرا أخر فصارت الجملة أربعين يوما كما قال في آية أخرى " وإذا وعدنا موسى أربعين ليلة " البقرة51 يعني صارت الجملة أربعين ولكن مرة ثلاثين يوما ومرة عشرة " فتم ميقات ربه أربعين ليلة " يعني ميعاد ربه
" وقال موسى لأخيه هارون " يعني قال له قبل انطلاقه إلى الجبل " اخلفني في قومي " يعني كن خليفتي على قومي " وأصلح " يعني مرهم بالصلاح ويقال وأصلح بينهم ويقال ارفق لهم " ولا تتبع سبيل المفسدين " يعني لا تتبع طريق العاصين ولا ترضى به واتبع سبيل المطيعين وقال بعض الحكماء من هاهنا ترك قومه عبادة الله وعبدوا العجل لأنه سلمهم إلى هارون ولم يسلمهم إلى ربهم ولهذا لم يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم بعده وسلم أمر أمته إلى الله تعالى فاختار لأمته أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر الصديق فأصلح بينهم
(1/562)
1
 
562
قوله تعالى " ولما جاء موسى لميقاتنا " يعني لميعادنا لتمام أربعين يوما ويقال " لميقاتنا " يعني للوقت الذي وقتنا له " وكلمة ربه " فسمع موسى كلام الله تعالى بغير وحي فاشتاق إلى رؤيته " قال رب أرني أنظر إليك " " انظر " صار جزما لأنه جواب الأمر " قال " له ربه " لن تراني " يعني إنك تراني في الدنيا " ولكن انظر إلى الجبل " يعني انظر إلى أعظم جبل بمدين " فإن استقر مكانه فسوف تراني " يعني سوف تقدر أن تراني إن استقر الجبل مكانه معناه كما أن الجبل لا يستقر لرؤيتي فإنك لن تطيق رؤيتي " فلما تجلى ربه للجبل " قال الضحاك ألقى عليه من نوره فاضطرب الجبل من هيبته يعني من رهبة الله تعالى وقال القتبي " تجلى " أي ظهر وأظهر من أمره ما شاء يقال جلوت المرآة والسيف إذا أبرزته من الصدأ وكشفت عنه وجلوت العروس إذا أبرزتها " فما تجلى ربه للجبل " يعني جبل زبير " جعله دكا " قرأ حمزة والكسائي " دكاء " بالمد والهمز يعني جعله أرضا دكاء وقرأ الباقون " دكا " بالتنوين يعني دكه دكا قال بعضهم صار الجبل قطعا فصار على ثمان قطع فوقع ثلاث بمكة وثلاث بالمدينة واثنان بالشام ويقال صار ستة فرق ويقال صار أربع فرق ويقال صار كله رملا عالجا وروي عكرمة عن ابن عباس أنه قال " جعله دكا " أي ترابا وقال القتبي " جعله دكا " أي ألصقه بالأرض ويقال ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام وروي عن وهب بن منبه قال لما سأل موسى النظر إلى ربه أمر الله الضباب والصواعق والظلمات والرعد والبرق فهبطن حتى أحطن بالجبل وأمر الله تعالى ملائكة السموات فهبطوا وارتعدت فرائض موسى وتغير لونه فقال له جبريل اصبر لما سألت ربك فإنما رأيت قليلا من كثير فلما غشي الجبل النور خمد كل شيء وانقطعت أصوات الملائكة وانهار الجبل من خشية الله تعالى حتى صار دكا
قوله تعالى " وخر موسى صعقا " قال مقاتل يعني ميتا كقوله عز وجل " فصعق من في السموات " سورة الزمر 68 يعني مات ويقال " وخر موسى صعقا " يعني مغشيا عليه " فلما أفاق " من غشيانه قال مقاتل رد الله حياته إليه " قال سبحانك " يعني تنزيها لك " تبت إليك " من قولي " وأنا أول المؤمنين " روى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال قد كان قبله من المؤمنين ولكن يقول أنا أول من آمن به بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة وقال مقاتل " وأنا أول المؤمنين " بأنك لا ترى في الدنيا ويقال معناه تبت إليك بأن لا أسألك بعد هذا سؤالا محالا فاعترف أنه طلب شيئا في غير حينه وأوانه ووقته وقال الزجاج قد قال موسى " أرني أنظر إليك " يعني أرني أمرا عظيما لا يرى مثله في الدنيا مما لا تحتمل عليه نفسي " فلما تجلى ربه للجبل " أي أمر به قال وهذا
(1/563)
1
خطأ ولكن لما سمع كلامه قال يا رب إني سمعت كلامك وأحب أن أراك
قوله تعالى " قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي " يعني على بني
563
إسرائيل يعني إني اصطفيتك بنبوتي قرأ ابن كثير ونافع " برسالتي " وقرأ الباقون " برسالاتي " بلفظ الجماعة ومعناهما واحد يعني اختصصتك بالنبوة " وبكلامي " يعني بتكلمي معك من غير وحي " فخذ ما آتيتك " يعني اعمل بما أعطيتك " وكن من الشاكرين " لما أعطيتك وقال القتبي قوله " وأنا أول المؤمنين " أراد به في زمانه كقوله " وأني فضلتكم على العالمين " البقرة 47
سورة الأعراف 145 - 147
قوله تعالى " وكتبنا له في الألواح " روي سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أعطى الله تعالى موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد فيها تبيان لكل شيء وموعظة قال التوراة مكتوبة ويقال طول الألواح عشرة أذرع فيها " من كل شيء موعظة " من الجهل " وتفصيلا " يعني بيانا " لكل شيء " من الحلال والحرام
قال الفقيه حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن القاري قال حدثنا أبو بكر بن أبي العوام قال حدثنا أبي قال حدثنا يحيى بن سابق عن خثيمة بن خليفة عن ربيعة عن أبي جعفر عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كان فيما أعطى الله موسى في الألواح عشرة أبواب يا موسى لا تشرك بي شيئا فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار واشكر لي ولوالديك أقك المتالف وأنسى لك في عمرك وأحييك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها ولا تقتل النفس التي حرمتها إلا بالحق فتضيق عليك الأرض برحبها والسماء بأقطارها وتبوء بسخطي في ناري ولا تحلف باسمي كاذبا فإني لا أطهر ولا أزكي من لم ينزهني ولم يعظم أسمائي ولا تحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فإن الحاسد عدو لنعمتي راد لقضائي ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي ولا تشهد بما لم يقع بسمعك ويحفظ قلبك فإني أوفق أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة ثم أسألهم عنها سؤالا حثيثا ولا تزن ولا تسرق فأحجب عنك وجهي وأغلق عنك أبواب السماء وأحبب للناس ما تحب لنفسك ولا تذك لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما
(1/564)
1
 
564
ذكر عليه اسمي وكان خالصا لوجهي وتفرغ لي يوم السبت وجميع أهل بيتك فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى جعل يوم السبت لموسى عيدا واختار لنا يوم الجمعة فجعلها لنا عيدا
قوله تعالى " فخذها بقوة " يعني اعمل بما أمرك الله بجد ومواظبة عليها " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " يعملوا بما فيها من الحلال والحرام ويقال مرهم بالخير وانههم عن الشر يعني اعملوا بالخير وامتنعوا عن الشر ويقال اعملوا بأحسن الوجوه وهو أنه لو يكافئ ظالمه منه جاز ولو تجاوز عنه كان أحسن وقال الكلبي كان موسى أشد عبادة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به يعني أمر بأن يعمل بالمواظبة وأمر قومه بأن يأخذوا بأحسن العمل
ثم قال " سأريكم دار الفاسقين " قال مقاتل يعني سنة أهل مصر أي هلاكهم حين قذفهم البحر فأراهم سنة الفاسقين في التقديم ويقال جهنم هي دار الكافرين ويقال إذا سافروا يريهم منازل عاد وثمود وقال مجاهد مصيرهم في الآخرة إلى النار
قوله تعالى " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون " يعني أصرف قلوب الذين يتكبرون عن الإيمان حتى لا يؤمنوا فأخذتهم بكفرهم ولا أوفقهم بتكذيبهم الأنبياء مجازاة لهم ويقال أمنع قلوبهم من التفكر في أمر الدين وفي خلق السموات والأرض الذين يتكبرون " في الأرض بغير الحق " يعني يظنون أنهم أفضل الخلق وليسوا كذلك ولهذا قال " بغير الحق " وقيل " يتكبرون " يعني يتعظمون عن الإيمان لكي لا يتفكروا في السماء ولا يعقلون فيها ولا يذكرونها ويقال سأصرف عن النعماء التي أعطيتها المؤمنين يوم القيامة أصرفهم عن تلك النعمة " وإن يروا كل آية " يمنعوا منها كي " لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد " يعني طريق الحق الإسلام " لا يتخذوه سبيلا " يعني لا يتخذوه دينا " وإن يروا سبيل الغي يعني طريق الضلالة والكفر " يتخذوه سبيلا " يعني دينا ويتبعونه " ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا " قال مقاتل يعني بآياتنا التسع وقال الكلبي يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " وكانوا عنها غافلين " يعني تاركين لها قرأ حمزة والكسائي " سبيل الرشد " بنصب الراء والشين وقرأ الباقون " الرشد " بضم الراء وإسكان الشين وهما لغتان ومعناهما واحد
ثم قال عز وجل " والذين كذبوا بآياتنا " أي بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن " ولقاء الآخرة " يعني كذبوا بالبعث بعد الموت " حبطت أعمالهم " يعني بطلت حسناتهم " هل يجزون " يعني هل يثابون " إلا ما كانوا يعملون " يعني في الدنيا
سورة الأعراف
(1/565)
1
 
565
148 - 149
قوله تعالى " واتخذ قوم موسى من بعده " يعني من بعد انطلاقه إلى الجبل " من حليهم عجلا جسدا له خوار " وذلك أن موسى عليه السلام لما وعد لقومه ثلاثين يوما فتأخر عن ذلك قال السامري لقوم موسى إنكم أخذتم الحلي من آل فرعون فعاقبكم الله تعالى بتلك الخيانة ومنع الله تعالى عنا موسى فاجمعوا الحلي الذي أخذتم من آل فرعون حتى نحرقها فلعل الله تعالى يرد علينا موسى فجمعوا الحلي وكان السامري صائغا فجعل الحلي في النار واتخذ منه عجلا وقد كان رأي جبريل على فرس الحياة فكلما وضع الفرس حافره ظهر النبات في موضع حافره فأخذ كفا من أثر حافره من التراب وألقى ذلك التراب في العجل فصار عجلا جسدا فذلك قوله " من حليهم عجلا جسدا " قال الزجاج الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما معنى الجسد يعني الجثة فقط وروي عن ابن عباس صار عجلا له لحم ودم وله خوار يعني صوت ولم يسمع منه إلا صوت واحد وقال بعضهم جعله مشتبكا يدخل فيه الريح فيسمع منه صوت مثل صوت العجل فقال لقومه هذا إلهكم وإله موسى فاغتر به الجهال من بني إسرائيل وعبدوه
قال الله تعالى " ألم يروا أنه لا يكلمهم " يعني لا يقدر على أن يكلمهم " ولا يهديهم سبيلا " يعني لا يرشدهم طريقا " اتخذوه وكانوا ظالمين " يعني كافرين بعبادتهم إياه وقرأ حمزة والكسائي " من حليهم " بكسر الحاء وقرأ الباقون " من حليهم " بضم الحاء فمن قرأ بالكسر فهو اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة ومن قرأ بالضم فهو جمع الحلي ويقال كلاهما جمع الحلي وأصله الضم إلا أن من كسره فلاتباع الكسرة بالكسرة
قوله " ولما سقط في أيديهم " يعني ندموا على ما صنعوا يقال سقط في يده إذا ندم وأصله أن الإنسان إذا ندم جعل يده على رأسه
" ورأوا أنهم قد ضلوا " يعني علموا أنهم ضلوا عن الهدى " قالوا لئن لم يرحمنا ربنا " قرأ حمزة والكسائي " لئن لم ترحمنا " بالتاء على معنى المخاطبة " ربنا " بالنصب يعني يا ربنا وقرأ الباقون " لئن لم يرحمنا ربنا " بالياء معنى الخبر " ربنا " بالضم " ويغفر لنا " بعد التوبة " لنكونن من الخاسرين " يعني من المغبونين
سورة الأعراف
(1/566)
1
 
566
150 - 151
قوله تعالى " ولما رجع موسى إلى قومه " يعني من الجبل " غضبان أسفا " يعني حزينا والأسف في اللغة شدة الغضب ومنه قوله تعالى " فلما ءاسفونا انتقمنا منهم " الزخرف 55 ويقال أشد الحزن كقوله " يأسفي على يوسف " يوسف 84 " قال بئسما خلفتموني من بعدي " يعني بعبادة العجل يعني بئس ما فعلتم في غيبتي " أعجلتم أمر ربكم " يعني استعجلتم ميعاد ربكم ويقال أعصيتم أمر ربكم ويقال معناه " أعجلتم " بالفعل الذي استوجبتم به عقوبكم ربكم " وألقى الألواح " من يده قال الكلبي انكسرت الألواح وصعد عامة الكلام الذي كان فيها من كلام الله تعالى إلى السماء وقال بعضهم هذا الكلام في ظاهرة غير سديد لأن الكلام صفة والصفة لا تفارق الموصوف فلا يجوز أن يقال الكلام يصعد ويذهب ولكن تأويله أن الألواح لما انكسرت ذهب أثر المكتوب منها وهذا إذا كان من غير الأحكام وأما الأحكام أيضا فلا يجوز أن تذهب عنه وإنما أراد بذلك حجة عليهم وروي في الخبر أن الله تعالى أخبر موسى أن قومه عبدوا العجل قال موسى يا رب من اتخذ لهم العجل قال السامري قال من جعل فيه الروح قال أنا قال فأنت فتنت قومي قال له ربه تركتهم لمرادهم وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس الخبر كالمعاينة لما أخبر الله موسى بأن قومه قد عبدوا العجل لم يلق الألواح فلما عاين ألقى الألواح
ثم قال تعالى " وأخذ برأس أخيه " يعني أخذ بشعر رأسه ولحيته " يجره إليه قال ابن أم " يعني قال له هارون يا ابن أمي لا تأخذ بلحيتي قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص يا " ابن أم " بنصب الميم وقرأ الباقون بالكسر وهكذا في سورة طه فمن قرأ بالنصب جعله كاسم واحد كأنه يقول يا ابن أماه كما يقال يا ويلتاه ويا حسرتاه ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الإضافة إلى نفسه وكان موسى أخاه لأبيه وأمه ولكن ذكر الأم ليرققه عليه
قال " إن القوم استضعفوني " يعني قهروني واستذلوني " وكادوا يقتلونني " يعني هموا بقتلي " فلا تشمت بي الأعداء " يعني لا تفرح علي أعدائي يعني الشياطين ويقال أصحاب العجل " ولا تجعلني مع القوم الظالمين " يعني لا تظنن أني رضيت بما فعلوا قال موسى " رب اغفر لي " بما فعلت بأخي هارون ويقال لإلقاء الألواح " و " اغفر " لأخي " ما كان منه من التقصير في تركهم على عبادة العجل " وأدخلنا في رحمتك " يعني جنتك " وأنت أرحم الراحمين " يعني أنت أرحم بنا منا بأنفسنا وقال الحسن يعني أنت أرحم بنا من الأبوين
(1/567)
1
 
567
 
سورة الأعراف 152 - 154
قوله تعالى " إن الذين اتخذوا العجل " يعني الذين اتخذوا العجل إلها " سينالهم غضب من ربهم " يعني يصيبهم عذاب من ربهم " وذلة في الحياة الدنيا " وهو ما أمروا بقتل أنفسهم ويقال هذا قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم يعني يصيب أولادهم ذلة في الحياة الدنيا وهي الجزية " وكذلك نجزي المفترين " يعني هكذا نعاقب المكذبين
ثم قال تعالى " والذين عملوا السيئات " يعني الشرك بالله " ثم تابوا " يعني رجعوا عن الشرك بالله وعن السيئة " وآمنوا " يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى " إن ربك من بعدها " يعني من بعد التوبة " لغفور رحيم " يقال من بعد السيئات يعني " لغفور " لذنوبهم " رحيم " بهم بعد التوبة
ثم رجع إلى قصة موسى وهو قوله تعالى " ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح " يعني لما سكن عن موسى الغضب " أخذ الألواح وفي نسختها " يعني في بقيتها فنسخت له الألواح يعني وأعيدت له في اللوحين مكان التي انكسرت " هدى ورحمة " يعني فيما بقي منها بيانا من الضلالة ورحمة من العذاب " للذين هم لربهم يرهبون " يعني يخافون الله ويعلمون له بالغيب ويقال " وفي نسختها " يعني في كتابها هدى من الضلالة ورحمة من العذاب للذين يخشون ربهم
سورة الأعراف 155
قوله تعالى " واختار موسى قومه " أي من قومه " سبعين رجلا لميقاتنا " يعني للميقات الذي وقتنا له " فلما أخذتهم الرجفة " يعني الزلزلة تزلزل الجبل بهم فماتوا " قال " موسى " رب لو شئت أهلكتهم من قبل " يعني من قبل أن يصحبوني " وإياي " بقتل القبطي " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " قال الكلبي ظن موسى أنه إنما أهلكهم باتخاذ بني إسرائيل العجل آلها وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال انطلق موسى وهارون ومعهما شبر وشبير وهما ابنا هارون حتى انتهوا إلى جبل فيه سرير فنام عليه هارون فقبض فرجع موسى إلى
(1/568)
1
 
568
قومه فقالوا له أنت قتلته حسدا على خلقه ولينه فقال كيف أقتله ومعي ابناه فاختاروا من شئتم فاختاروا سبعين فانتهوا إليه فقالوا له من قتلك يا هارون قال ما قتلني أحد ولكن توفاني الله تعالى فأخذتهم الرجفة فماتوا كلهم فقال موسى " رب لو شئت أهلكتهم من قبل " وإياي وروي عن ابن عباس أنه قال لما انطلق موسى إلى الجبل أمر بأن يختار سبعين رجلا من قومه فاختار من كل سبط ستة رجال فبغلوا اثنين وسبعين فقال موسى إني أمرت بسبعين فليرجع اثنان ولهما أجر من حضر فرجع يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا فذهب موسى مع السبعين إلى الجبل فلما رجع إليهم موسى من المناجاة قالوا له إنك قد لقيت ربك فأرنا الله جهرة حتى نراه كما رأيته فجاءتهم نار فأحرقتهم فماتوا فقال موسى حين أماتهم الله ( رب لو شئت أهلكتهم من قبل ) هذا اليوم " وإياي " معهم " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " يعني أتوقعني في ملامة بني إسرائيل وتعييرهم بفعل هؤلاء السفهاء ثم أحياهم الله تعالى
وروى أسباط عن السدي قال إن موسى انطلق بسبعين من بني إسرائيل يعتذرون إلى ربهم عن عبادة العجل وذكر نحو حديث عبد الله بن عباس ثم قال " إن هي إلا فتنتك " يعني بليتك وعذابك ويقال عبادة العجل بليتك حيث جعلت الروح فيه " تضل بها " يعني بالفتنة " من تشاء وتهدي من تشاء " من الفتنة " أنت ولينا " يعني حافظنا وناصرنا " فاغفر لنا " ذنوبنا " وارحمنا " يعني ولا تعذبنا " وأنت خير الغافرين " يعني المتجاوزين عن الذنوب
سورة الأعراف 156
قوله تعالى " واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة " يعني اقض لنا وأعطنا في الدنيا العلم والعبادة والنصرة والرزق الحلال الحسن " وفي الآخرة حسنة " يعني أعطنا في الآخرة حسنة وهي الجنة ( إنا هدنا إليك ) يعني تبنا إليك وأقبلنا إليك هكذا قال عكرمة ومجاهد وعطاء وقتادة وأصله في اللغة الرجوع من الشيء إلى الشيء " قال عذابي أصيب به من أشاء " من عبادي يعني هذا عذابي أخص به من أشاء من العباد من كان أهلا لذلك " ورحمتي وسعت كل شيء " إن رحمتهم ويقال إن الزلزلة والرجفة كانتا عذابي وأنا أنزلتهما وأنا أصيب بالعذاب من أشاء وما سألت من الغفران فمن رحمتي " ورحمتي وسعت كل شيء " من كان أهلا لها ويقال لكل شيء حظ من رحمتي
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن قتادة والحسن قالا " ورحمتي وسعت كل شيء " يعني وسعت في الدنيا البر والفاجر هي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة ويقال لما نزلت هذه الآية " ورحمتي وسعت كل شيء " تطاول إبليس وقال انا من تلك الأشياء فأكذبه
(1/569)
1
 
569
الله تعالى وآيسه فأنزل " فسأكتبها للذين يتقون " يعني فسأقضيها وسأوجهها للذين يتقون الشرك " ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون " وقالت اليهود والنصارى نحن آمنا بالآيات وهي التوراة والإنجيل ونعطي الزكاة فهذه الرحمة لنا فأكذبهم الله تعالى فنزل " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي " الآية ويقال " ورحمتي وسعت كل شيء " يعني طمع كل قوم برحمتي وأنا أوجبتها للمؤمنين وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون الشرك " ويؤتون الزكاة " " والذين هم بآياتنا يؤمنون " يعني يصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن
سورة الأعراف 157
قوله تعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم الذي لا يكتب ولا يقرأ الكتب قال الزجاج " الأمي " الذي هو على خلقه أمه لم يتعلم الكتابة وهو على جبلته ويقال إنما سمى محمد أميا لأنه كان من أم القرى وهي مكة
ثم قال " الذين يجدونه مكتوبا عندهم " يعني يجدون نعته وصفته " مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف " يعني شرائع الإسلام وبالتوحيد " وينهاهم عن المنكر " عن الشرك وما لا يعرف في الشريعة ولا السنة " ويحل لهم الطيبات " يعني يرخص لهم الحلالات من اللحوم والشحوم وأشبهاهما " ويحرم عليهم الخبائث " يعني ويبين لهم الحرام الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر " ويضع عنهم إصرهم " يعني ثقلهم من العهود قرأ ابن عامر " آصارهم " على معنى الجماعة وأصل الإصر الثقل فسمي العهد إصرا لأن حفظ العهد يكون ثقيلا ويقال يعني الأمور التي كانت عليهم في الشرائع ويقال هو ما عهد عليهم من تحريم الطيبات
ثم قال " والأغلال التي كانت عليهم " وهي كناية عن أمور شديدة لأن في الشريعة الأولى كان الواحد منهم إذا أصابه البول في ثوبه وجب قطعه وكان عليهم ألا يعملوا في السبت وغير ذلك من الأعمال الشديدة فوضع عنهم ذلك
ثم قال " فالذين آمنوا به " يعني صدقوه وأقروا بنبوته " وعزروه " يعني عظموه وشرفوه ويقال أعانوه " ونصروه " بالسيف " واتبعوا النور " يعني القرآن " الذي أنزل معه أولئك " يعني أهل هذه الصفة " هم المفلحون " الناجون في الآخرة وهم في الرحمة التي قال الله تعالى " ورحمتي وسعت كل شيء " الأعراف 156
(1/570)
1
 
570
 
سورة الأع