تفسير السمرقندي بحر العلوم ط الفكر 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
286
ثم أخبر عز وجل أن النصرة كلها من الله فقال " إن ينصركم الله " يقول إن يمنعكم الله " فلا غالب لكم " من العدو يعني يوم بدر " وإن يخذلكم " يعني يوم أحد " فمن ذا الذي ينصركم من بعده " يعني من يمنعكم من عدوكم " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " يعني فليتق الواثقون في النصرة ويقال على المؤمنين أن يتوكلوا على الله لأنهم عرفوا أنه لا ناصر لهم غيره قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر " متم " بضم الميم في جميع القرآن وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان ومعناها واحد
سورة آل عمران الآيات 161 - 163
قوله تعالى " وما كان لنبي أن يغل " قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم " يغل " بنصب الياء قرأ وقرأ الباقون " يغل " بضم الياء ونصب الغين فمن قرأ بالنصب معناه وما كان لنبي أن يخون في الغنيمة ومن قرأ بالضم فمعناه لا ينبغي لنبي أن ينسب إلى الغلول وذلك أنه لما كان يوم أحد أخذوا في النهب والغارة وتركوا القتال وخافوا أن تفوتهم الغنيمة وظنوا أن من أخذ شيئا يكون له وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقسم لهم فنزلت هذه الآية " وما كان لنبي أن يغل " يقول ما جاز لنبي أن يخون في الغنيمة وما جاز لأصحابه أن ينسبوه إلى الخيانة
ثم قال " ومن يغلل " يعني يخن في الغنيمة " يأت بم غل يوم القيامة " يعني يحمله على ظهره وهذا كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأعرفن أحدكم يوم القيامة يأتي على عنقه شاة لها ثغاء فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا يريد أن من غل شاة أو بقرة أتى بها يوم القيامة يحملها ويقال من غل شيئا في الدنيا يمثل له يوم القيامة في النار ثم يقال له أنزل إليه فخذه فيهبط إليه فإذا انتهى إليه حمله فكلما انتهى به إلى الباب سقط منه إلى أسفل جهنم فيرجع فيأخذه فلا يزال هكذا ما شاء الله ويقال " يأت بما غل " يعني تشهد عليه يوم القيامة تلك الخيانة والغلول ويقال هذا على سبيل التمثيل " يأت بما غل " يعني يأتي بوباله فيكون وباله على عنقه كما قال في آية أخرى " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم " الأنعام31
(1/286)
1
287
قوله تعالى " ثم توفى كل نفس " يعني توفى وتجازى كل نفس ما عملت من خير أو شر " وهم لا يظلمون " يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا
ثم قال " أفمن اتبع رضوان الله " قال الكلبي يعني أفمن أخذ الحلال من الغنيمة " كمن باء بسخط من الله " يعني كمن استوجب سخطا من الله بأخذ الغلول من الغنائم ثم بين مستقر من غل من الغنيمة ومن أخذ من الحلال فقال لمن غل " ومأواه جهنم وبئس المصير " الذي صاروا إليه يعني النار وقال لمن أخذ من الحلال " هم درجات عند الله " يعني لهم درجات عند الله في الجنة ويقال هم ذوو درجات عند الله " والله بصير بما يعملون " يعني بمن غل وبمن لم يغل وقال القتبي هم طبقات عند الله في الفضل فبعضهم أرفع من بعض وقال أبو عبيدة والكسائي لهم درجات عند الله ويقال لمن لم يغل درجات في الجنة ولمن غل دركات في النار
سورة آل عمران الآية 164
قوله تعالى " لقد من الله على المؤمنين " يعني أنعم الله على المؤمنين " إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم " يعني من أصلهم ونسبهم من العرب يعرفون نسبه ويقال " من أنفسهم " يعني من جنسهم من بني آدم ولم يجعله من الملائكة وإنما خاطب بذلك المؤمنين خاصة لأن المؤمنين هم الذين صدقوه فكأنه منهم وقرئ في الشاذ " من أنفسكم " بنصب الفاء يعني من أشرفهم وقد كانت له فضيلة في ثلاثة أشياء أحدها أنه كان من نسب شريف لأنهم اتفقوا أن العرب أفضل ثم من العرب قريش ثم من قريش بنو هاشم فجعله من بني هاشم والثاني أنه كان أمينا فيهم قبل الوحي والثالث أنه كان أميا لكي لا يرتاب فيه الافتعال
ثم قال " يتلو عليهم آياته " يعني يعرض عليهم القرآن " ويزكيهم " يعني يأخذ منهم الزكاة ليطهر أموالهم ويقال يعني يطهرهم من الذنوب والشرك ويقال " ويزكيهم " يعني يأمرهم بكلمة الإخلاص وهي قول لا إله إلا الله
ثم قال " ويعلمهم الكتاب " يعني القرآن " والحكمة " يعني الفقه وبيان الحلال والحرام " وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " يعني وقد كانوا من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم لفي خطأ بين
سورة آل عمران الآية 165
(1/287)
1
288
ثم رجع إلى قصة أحد وذكر التعزية للمؤمنين بما أصابهم من الجراحات فقال " أو لما أصابتكم مصيبة " يوم أحد " قد أصبتم مثليها " يوم بدر لأن المسلمين يوم بدر قتلوا سبعين نفسا من صناديد قريش وأسروا سبعين وقتل من المسلمين يوم أحد سبعين ولم يؤسر منهم أحد فذلك قوله " قد أصبتم مثليها " وقوله " اولما " فالألف للاستفهام والواو للعطف وما صلة فكأنه يقول ولئن متم أو قتلتم أو أصابتكم مصيبة يوم أحد قد أصبتم مثليها يوم بدر " قلتم آنى هذا " يعني قلتم فمن أين لنا هذا وكيف أصابنا هذا ونحن مسلمون " قل هو من عند أنفسكم " يعني من عند قومكم بمعصية الرماة بتركهم ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الضحاك " قل هو من عند أنفسكم " يعني بذنوبكم التي سلفت منكم فبل القتال يعني أن في ذلك تطهيرا لما سلف من ذنوبكم وهذا كقوله تعالى " وما اصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " الشورى30 " إن الله على كل شيء قدير " من النصرة والهزيمة
سورة آل عمران الآيات 166 - 168
قوله تعالى " وما أصابكم يوم التقى الجمعان " جمع المسلمين وجمع المشركين " فبإذن الله " أي فبإرادة الله أصابكم " وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا " يعني أصابتكم المصيبة لكي يظهر المؤمن من المنافق
ثم بين أمر المنافقين وصنيعهم وقلة حسبتهم في أمر الجهاد فقال " وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا " يعني إن لم تقاتلوا لوجه الله فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وحريمكم قال الكلبي ويقال " ادفعوا " يعني كثروا وقال القتبي " ادفعوا " أي كثروا لأنكم إذا كثرتم دفعتم القوم بكثرتكم " قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم " يعني لجئنا معكم قال الضحاك وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج يوم أحد أبصر كتيبة خثناء وفيها كبكبة من الناس فقال من هؤلاء فقيل يا نبي الله هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي فقال إنا لا نستعين بالكفار فرجع عبد الله مع حلفائه من اليهود فقال له عمر أقم مع المؤمنين فقال " لو نعلم قتالا لاتبعناكم "
قال الله تعالى " هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان " يعني ميلهم إلى الكفر أقرب من ميلهم إلى الإيمان ويقال عونهم للكفار أكثر من عونهم للمؤمنين " يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم " ذكر الأفواه على معنى التأكيد لأن الرجل قد يقول بالمجاز بالإشارة وهذا كما
(1/288)
1
289
قال " يكتبون الكتب بأيديهم " البقرة 79 و " يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " الفتح 11
قال الله تعالى " والله أعلم بما يكتمون " من النفاق والكفر
ونزل فيهم أيضا " الذين قالوا لإخوانهم " من المنافقين " وقعدوا " عن الجهاد " لو أطاعونا " في القعود عن الجهاد " ما قتلوا " أي في الغزو " قل " لهم يا محمد " فادرؤوا عن أنفسكم " في حال حضر " الموت إن كنتم صادقين " في مقالتكم قال الفقيه سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول لما نزلت هذه الآية " فادرؤوا عن أنفسكم الموت " مات يؤمئذ سبعون نفسا من المنافقين
سورة آل عمران 169 - 171
ثم نزل في شأن الشهداء " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله " يعني في طاعة الله " أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " من التحف وذلك أن المسلمين كانوا يقولون مات فلان ومات فلان فنزلت هذه الآية " بل أحياء عند ربهم يرزقون " وهذا قول الكلبي ويقال ولا تظنن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا كسائر الأموات " بل أحياء " يعني هم كالأحياء عند ربهم لأنه يكتب لهم أجورهم إلى يوم القيامة فكأنهم أحياء في الآخرة ويقال لا يظن بهم كما يظن الكفار بهم أنهم لا يبعثون بل يبعثهم الله ويقال ارواحهم في المنزلة والكرامة بمنزلة الأحياء وروى عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فلما وجدوا طيب منقلبهم ومطعمهم ومشربهم ورأوا ما أعد الله لهم من الكرامة وما هم فيه من النعيم قالوا يا ليت إخواننا علموا ما أعد الله لنا من الكرامة وما نحن فيه من النعيم فلم ينكلوا عند اللقاء ولم يجبنوا عند القتال فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " " فرحين " يعني معجبين " بما آتاهم الله من فضله " أي من رزقه في الجنة " ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " من إخوانهم من بعدهم أن يأتوهم
ثم رجع إلى الشهداء فقال تعالى " ألا خوف عليهم " فيما يستقبلهم " ولا هم يحزنون " على ما خلفوا من الدنيا قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة " ولا تحسبن " بنصب السين في جميع القرآن وقرأ الباقون بالكسر وقرأ ابن عامر " قتلوا " بتشديد التاء على معنى التكثير أنهم يقتلون واحدا فواحدا وقرأ الباقون بالتخفيف
(1/289)
1
290
قوله تعالى " ويستبشرون بنعمة من الله " يقول بجنة من الله ويقال بمغفرة من الله " وفضل " يعني الكرامات في الجنة وروي عن مجاهد أنه قال السيوف مفاتيح الجنة وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الشهيد يشفع في سبعين من أهله
قال الفقيه أروي هذا الحديث بمعناه لا بلفظه إن الله تعالى أكرم الشهداء بخمس كرامات لم يكرم بها أحد من الأنبياء ولا أنا إحداها أن جميع الأنبياء قبض أرواحهم ملك الموت وهو الذي سيقبض روحي وأما الشهداء فالله تعالى هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء ولا يسلط على أرواحهم ملك الموت والثانية أن جميع الأنبياء قد غسلوا بعد الموت وأنا أغسل بعد الموت وأما الشهداء فلا يغسلون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا والثالثه أن جميع الأنبياء قد كفنوا وأنا أكفن أيضا والشهداء لا يكفنون بل يدفنون في ثيابهم والرابعة أن الأنبياء لما ماتوا فقد سموا أمواتا وإذا مت أنا يقال قد مات والشهداء لا يسمون موتى والخامسة أن الأنبياء تعطى لهم الشفاعة يوم القيامة وشفاعتي أيضا يوم القيامة وأما الشهداء فيشفع لهم كل يوم من يستشفعون
ثم قال تعالى " وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " قرأ الكسائي " وإن الله " بكسر الألف والباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب فمعناه يستبشرون بنعمة من الله ويستبشرون بأن الله لا يضيع ثواب المؤمنين الموحدين ومن قرأ بالكسر على معنى الابتداء إن الله لا يبطل ثواب عمل الموحدين وهذا الخبر للترغيب في الشهداء وأما الشهداء والأولياء فيشفع لهم لا يبلغون درجة الأنبياء ومن قال إنهم يبلغون درجة الإباحة ومن أنكر كرامات الأولياء فهو معتزلي
سورة آل عمران 172 - 175
قوله تعالى " الذين استجابوا لله والرسول " قال في رواية الكلبي وذلك أن أبا سفيان حين رجع من أحد نادى فقال يا محمد إن الموعد بيننا وبينك بدر الصغرى فقال صلى الله عليه وسلم لغمر قل له ذلك بيننا وبينك إن شاء الله ثم ندم أبو سفيان فقال لنعيم بن مسعود وكان يخرج إلى المدينة للتجارة إذا أتيت المدينة فخوفهم لكيلا يخرجوا فلما قدم نعيم المدينة قال إن أبا سفيان قد جمع خلقا كثيرا فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إليهم وتثاقلوا
(1/290)
1
291
فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم قال والذي نفسي بيده لأخرجن إليهم وإن لم يخرج معي منكم أحد قال فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للميعاد ومعه نحوا من سبعين رجلا حتى انتهوا إلى ذلك الموضع وكان هنالك سوق فلم يخرج أحد من أهل مكة فتسوقوا من السوق حاجتهم وانصرفوا فنزل قوله تعالى " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح " يعني بعدما أصابتهم الجراحات يوم أحد " للذين أحسنوا منهم " أي الذين أوفوا الميعاد " واتقوا " السخط في معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم " أجر عظيم " أي ثواب كثير
قوله تعالى " الذين قال لهم الناس " يعني نعيم بن مسعود وإنما أراد به جنس الناس وكان رجلا واحدا " إن الناس قد جمعوا لكم " يعني أبا سفيان وأصحابه " فاخشوهم " يعني ولا تخرجوا إليهم " فزادهم إيمانا " يعني تصديقا ويقينا وجرأة على القتال " وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " يعني ثقتنا بالله وأيقنوا أن الله لا يخذل محمدا صلى الله عليه وسلم " ونعم الوكيل " أي ونعم الثقة لنا " فانقلبوا " أي انصرفوا " بنعمة من الله " يعني بأجر من الله " وفضل " يعني ما تسوقوا به من السوق واشتروا الأشياء بسعر رخيص " لمن يمسسهم سوء " يعني قتال " وابتعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " يعني ذو من عظيم وقال في رواية الضحاك كان ذلك يوم أحد لما انهزمت قريش ونزلت في مواضع وكثرت الجراحات في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إليهم فأجابه سبعون رجلا فنزلت هذه الآية
قوله تعالى " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " يعني نعيم بن مسعود لأن كل عات متمرد شيطان يخوف أولياءه يعني بأوليائه الكفار ويقال يخوف أشكاله وقال الزجاج " إنما ذلكم الشيطان " يعني ذلك التخويف عمل الشيطان يخوفكم بأوليائه وقال القتبي " يخوف أولياءه " يعني بأوليائه كما قال " لينذر بأسا شديدا " الكهف 2 أي لينذركم ببأس شديد
ثم قال تعالى " فلا تخافوهم " في الخروج " وخافون " في القعود " إن كنتم مؤمنين " أي مصدقين قال الزجاج معناه إن كنتم مصدقين فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم
سورة آل عمران 176
قوله تعالى " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " قال الكلبي يعني به المنافقين ورؤساء اليهود كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب فنزل " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " ويقال إن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الناس ينظرون إليهم ويقولون إنهم أهل الكتاب فلو كان قوله حقا لاتبعوه فنزلت هذه الآية ويقال نزلت في مشركي قريش لأنهم كانوا أقرباءه والناس يقولون لو كان قوله
حقا لاتبعه أقرباؤه فشق ذلك عليه فنزلت " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " يعني يبادرون في
(1/291)
1
292
الكفر ولا يصدقونك " إنهم لن يضروا الله شيئا " يعني لن ينقصوا من ملك الله وسلطانه شيئا بكفرهم وهذا كما روى أبو ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الله لو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملك الله شيئا ولو كان أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص من ملك الله جناح بعوضة
ثم قال تعالى " يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة " يعني نصيبا في الجنة " ولهم عذاب عظيم " في الآخرة وقرأ نافع " ولا يحزنك " بضم الياء وكسر الزاي وكذلك ما كان نحو هذا في جميع القرآن إلا في قوله " لا يحزنهم الفزع الأكبر " الأنبياء 103 وقرأ الباقون بنصب الياء وضم الزاي وهما لغتان وتفسيرهما واحد
سورة آل عمران 177
ثم قال تعالى " إن الذين اشتروا " يعني اختاروا " الكفر " على الإيمان " لن يضروا الله شيئا " يقول لن ينقصوا من ملك الله شيئا وإنما أضروا بأنفسهم حيث استوجبوا لأنفسهم العذاب " ولهم عذاب إليم " في الآخرة
سورة آل عمران 178
قوله تعالى " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم " يعني لا يظنن الكفار أن الذي نملي لهم ونمهلهم خير لهم ويقال ما نعطيهم من المال والولد لا يظنن أن ذلك خير لهم في الآخرة يعني إنما نعطيهم المال والولد لأجل ذلك استدراجا بل هو شر لهم في الآخرة " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين " أي يهانون فيه ويقال " إنما نملي لهم " أي ونؤخر العذاب عنهم ليزدادوا إثما أي جرأة على المعاصي وإنما كان ذلك مجازاة لكفرهم وخبث نياتهم ويقال إنما نملي لهم ما أصابوا من الظفر يوم أحد لم يكن ذلك خيرا لأنفسهم وإنما كان ذلك ليزدادوا عقوبة وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له لأنه إن كان برا فقد قال الله تعالى " وما عند الله خير للأبرار " آل عمران 198 وإن كان فاجرا فقد قال الله تعالى " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " قرأ حمزة بن عامر " ولا تحسبن " بالتاء وقرأ الباقون بالياء كذلك الذي بعد هذا
سورة آل عمران 179
(1/292)
1
293
قوله تعالى " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " قال الكلبي وذلك ان قريشا من أهل مكة من المشركين قالوا يا رسول الله إنك تزعم أن الرجل منا في النار وإذا ترك ديننا واتبع دينك قلت هو من أهل الجنة فأخبرنا عن هذا من أين هو وأخبرنا من يأتيك منا ومن لا يأتيك منا فأنزل الله تعالى " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " من الكفر والنفاق " حتى يميز الخبيث من الطيب " يقول حتى يخلص الكافر من المؤمنين " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " يعني ليبين لكم المؤمن من الكافر قبل أن يؤمن قال الفراء لم يكن الله ليعلم أو يطلع على غيبه " ولكن الله يجتبي " يقول يصطفي " ومن رسله من يشاء " للنبوة والرسالة من خلقه فيوحي إليه بإذنه قال في رواية الضحاك إن المنافقين أعلنوا الإسلام وأسروا الكفر وصلوا وجاهدوا مع المؤمنين فأحب الله أن يميز بين الفريقين وأن يدل رسوله على سرائر المنافقين فقال تعالى " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " يعني المنافق من المؤمن " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " ولكن الله يطلع أنبياءه ورسله يعني أن المؤمنين لا يعلمون سر المنافقين ولكن الله يبين ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ويقال " ما كان الله ليذر " يعني ليترك من علم أنه من أهل الإيمان على ما أنتم عليه من الكفر حتى يوفقه للإيمان " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " ولكن الله يطلع أنبياءه ورسله بالوحي حتى يكون ذلك علامة لنبوتهم
ثم قال تعالى " فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا " بالله ورسله " وتتقوا " الشرك والمعصية " فلكم أجر عظيم " يعني ثواب في الجنة ويقال إن الكفار لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم من يؤمن منهم فنزل " فآمنوا بالله ورسوله " يعني لا تشتغلوا بما لا يعنيكم واشتغلوا بما يعنيكم وهو الإيمان بالله ورسله فإنكم إن فعلتم ذلك فلكم أجر عظيم قرأ حمزة والكسائي " حتى يميز " بضم الياء ونصب الميم وكسر الياء مع التشديد وقرأ الباقون بنصب الياء وكسر الميم بغير تشديد وتفسيرهما واحد إلا أنك إذا قرأت بالتشديد قد يكون عبارة عن الكثرة وبالمبالغة
سورة آل عمران 180 - 181
قوله تعالى " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله " يعني بما أعطاهم الله من المال يبخلون ويمنعون الزكاة والصدقة وصلة الأرحام فلا تظنوا ان ذلك " هو خير لهم
(1/293)
1
294
بل هو شر لهم ) يعني البخل شر لهم ويقال الفضل شر لهم " سيطوقون " يقول سيوثقون " ما بخلوا به " من الزكاة كهيئة الطوق وروي عن ابن عباس أنه قال يأتي كنز أحدهم شجاعا أقرع له زبيبتان طوقا في عنقه تلدغ خديه ويقول أنا الزكاة التي بخلت بي في الدنيا وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا فذلك قوله تعالى " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " ويقال هو طوق من نار في عنقه ويقال هو على وجه المثل يعني وبال ذلك في عنقهم كما قال في آية أخرى " وكل إنسن ألزمنه طيره فى عنقه " الأسراء13
ثم قال " ولله ميراث السموات والأرض " يعني إذا هلك الخلق كلهم أهل السموات من الملائكة وأهل الأرض من الإنس والجن وسائر الخلق ويبقى رب العالمين ثم يقول " لمن الملك اليوم " غافر16 فلا يجيبه أحد فيرد على نفسه فيقول " لله الوحد القهار " يوسف39 وغيرها فذلك قوله " ولله ميراث السموات " يعني يهلك أهل السموات والأرض ولم يبق لأحد ملك وإنما سمي ميراثا على وجه المجاز لأن القرآن بلغة العرب وكانوا يعرفون أن من رجع الملك إليه يكون ميراثا على وجه المجاز وأما في الحقيقة فليس بميراث لأن الوراث في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن يملكه من قبل والله عز وجل مالكهما وكانت السموات وما فيها والأرض وما فيها له وإنما كانت الأموال عارية عند أربابها فإذا ماتوا رجعت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل ومعنى الآية أن الله تعالى أمر عباده أن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا المال ميراثا لله تعالى ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا
ثم قال تعالى " والله بما تعملون خبير " يعني عالم بمن يؤدي الزكاة وبمن يمنعها فيجازي كل نفس بما عملت قرأ ابن كثير وأبو عمرو " يعملون " بالياء والباقون بالتاء على وجه المخاطبة
قوله تعالى " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " وقال في رواية الضحاك لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " ( البقرة 245 ) ( والحديد 11 ) قالت الفجرة من كفرة اليهود أفقير ربنا فيستقرضنا قالوا ذلك على وجه الاستهزاء فنزلت هذه الآية ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى اليهود ليأمرهم بالإسلام وأن يعطوا الصدقة ويؤمنوا فلما انتهى إليهم أبو بكر قال فنحاص بن عازورا أيسأل الله منا الصدقة فهو فقير ونحن أغنياء فنزلت هذه الآية " سنكتب ما قالوا " يعني نحفظ قولهم ونجازيهم ويقال " سنكتب ما قالوا " يعني يكتب عليهم الكرام الكاتبون ويؤاخذون به في الآخرة " وقتلهم " يعني نكتب قتلهم " الأنبياء بغير حق " بلا جرم " ونقول ذوقوا عذاب الحريق "
(1/294)
1
295
يعني تقول لهم خزنة جهنم في الآخرة ذلك قرأ حمزة " سيكتب " بضم الياء ونصب التاء " وقتلهم الأنبياء " بضم اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله يعني يكتب قتلهم الأنبياء ويقول بالياء والباقون " سنكتب " بالنون مع فتحها وضم التاء " وقتلهم " بنصب اللام ونقول بالنون وقوله " ذوقوا عذاب الحريق " روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو أن شرارة وقعت بالمشرق لغلت منها جماجم قوم بالمغرب ولو أن حلقة من سلاسل أهل النار وضعت على رأس جبل لأحرقت إلى سبع أرضين فهذا معنى قوله " عذاب الحريق "
سورة آل عمران الآية182
ثم قال تعالى " ذلك بما قدمت " يعني يقال لهم ذلك العذاب بما قدمت " أيديكم " من الكفر والتكذيب يعني بما قدمتم وذكر الأيدي على معنى الكناية
ثم قال تعالى " وأن الله ليس بظلام للعبيد " يعني لا يعذب أحدا بغير ذنب
سورة آل عمران الآية 183
قوله تعالى " الذين قالوا " يعني كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وغيرهما من رؤساء اليهود قالوا " إن الله عهد إلينا " يعني أمرنا في التوراة " أن لا نؤمن " يعني أن لا نصدق " لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار " تجيء نار من السماء فتأكل القربان فإن جئتنا بها صدقناك
قال الله تعالى " قل " يا محمد " قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم " يعني بالآيات والعلامات " وبالذي قلتم " يعني قد جاءكم الرسول بالذي قلتم من أمر القربان " فلم قتلتموهم " يعني زكريا ويحيى وغيرهما " إن كنتم صادقين " فيما تقولون
سورة آل عمران 184
قوله تعالى " فإن كذبوك " بما تقول لهم " فقد كذب رسل من قبلك " فالله تعالى يعزي نبيه ليصبر على تكذيبهم " جاؤوا بالبينات " بالآيات والعلامات " والزبر " قال الكلبي يعني بأحاديث الأنبياء من قبلهم بالنبوة على ما يكون " والكتاب المنير " يعني الحلال والحرام وقال الزجاج " الزبر " جماعة الزبور وهو الكتاب يقال زبرت أي كتبت ويقال زبرت أي قرأت " والكتاب المنير " يعني المضيء بالحلال والحرام قرأ ابن عامر " بالزبر " بالباء وقرأ الباقون " والزبر " بغير الباء
سورة آل عمران
(1/295)
1
296
الآية 185
ثم قال تعالى " كل نفس ذائقة الموت " قال الكلبي لما نزل قوله تعالى " كل من عليها فان " الرحمن 26 قالت الملائكة هلك أهل الأرض فلما نزل " كل نفس ذائقة الموت " أيقنت الملائكة أنها تهلك معهم
ثم قال " وإنما توفون أجوركم " يعني توفون ثواب أعمالكم " يوم القيامة فمن زحزح عن النار " يعني بعد ونحي عنها " وأدخل الجنة فقد فاز " يعني نجا وسعد في الجنة
حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا المسيب عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن عن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه
قوله تعالى " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " قال ابن عباس " متاع الغرور " مثل الكوز والقارورة والسكرجة ونحو ذلك لأن ذلك لا يدوم وكذلك الدنيا تزول وتفنى ولا تبقى ويقال هو مثل الزجاج الذي يسرع الكسر إليه ولا يصلحه الجبر ويقال كزاد المسافر يسرع إليه الفناء فكذلك الدنيا
سورة آل عمران الآية 186
قوله تعالى " لتبلون في أموالكم وأنفسكم " يقول لتختبرن في أموالكم بالنقصان والذهاب ويقال بوجوب الحقوق فيها وفي " أنفسكم " بالأمراض والأوجاع والقتل " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " حين قالوا " إن الله فقير ونحن أغنياء " آل عمران 181 " ومن الذين أشركوا " يعني مشركي العرب " أذى كثيرا " باللسان والفعل ويقال نزلت الآية في شأن أبي بكر رضي الله عنه فكانوا يهددونه ويشتمونه ويقولون ما يفعله محمد صلى الله عليه وسلم إنما يفعله بمشاورته فأمره الله تعالى بأن يصبر على أذاهم ثم قال " وإن تصبروا " على أذاهم " وتتقوا " المكافأة ويقال وتتقوا معاصيه " فإن ذلك من عزم الأمور " يعني من حقائق الأمور ويقال إن ذلك الصبر من خير الأمور
(1/296)
1
297
سورة آل عمران الآية 187
قوله تعالى " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " يعني أخذ عليهم الميثاق حين أخرج ذرية آدم من ظهورهم ويقال أخذ عليهم الميثاق بالوحي في كتب الأنبياء " لتبيننه للناس " يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته " ولا تكتمونه " عنهم قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " ليبيننه للناس ولا يكتمونه " كلاهما بالياء وقرأ الباقون بالتاء فمن قرأ بالياء فمعناه أخذ عليهم الميثاق لكي يبينوه ولا يكتموه وأما من قرأ بالتاء فمعناه أخذ عليهم الميثاق وقال لهم لتبيننه للناس ولا تكتمونه
ثم أخبر عن سوء معاملتهم ونقضهم الميثاق فقال " فنبذوه وراء ظهورهم " يعني طرحوه خلف ظهورهم يعني تركوا الميثاق ولم يعملوا به " اشتروا به " بكتمان نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته " ثمنا قليلا " يعني عرضا يسيرا من متاع الدنيا " فبئس ما يشترون " يعني بئس ما يختارون لأنفسهم الدنيا على الآخرة
سورة آل عمران 188
ثم قال تعالى " لا تحسبن " يقول لا تظنن يا محمد " الذين يفرحون بما أوتوا " يقول يعجبون بما أوتوا يعني بما غيروا من نعته وصفته وهذا قول الكلبي وقال الضحاك إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبيا في آخر الزمان يختم به النبوة فلما بعثه الله سألهم الملوك أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم فقالت اليهود طعما في أموال الملوك هو غير هذا فأعطاهم الملوك مالا فقال الله تعالى " لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا " يعني بما أعطاهم الملوك
ثم قال تعالى " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " لأنهم كانوا يقولون نحن على دين إبراهيم عليه السلام ولم يكونوا على دينه ويقال كانوا يقولون نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب ويريدون أن يحمدوا بذلك يقول الله تعالى " فلا تحسبنهم " يقول فلا تظنهم " بمفازة من العذاب " معناه لا تظنن أنهم ينجون من العذاب بذلك " ولهم عذاب أليم " يعني عذاب دائم لا يخرجون منه أبدا
سورة آل عمران 189
ثم قال تعالى " ولله ملك السموات والأرض " يعني خزائن السموات المطر وخزائن
(1/297)
1
298
الأرض النبات ويقال جميع من في السموات والأرض عبيده وفي ملكه " والله على كل شيء قدير " من النبات وغيره ويقال هذا معطوف على أول الكلام أنهم لا ينجون من عذابه يأخذهم متى شاء لأنه على كل شيء قدير
سورة آل عمران 190 - 191
قوله تعالى " إن في خلق السموات والأرض " وذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية لصحة دعواه لأنه كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده فنزل " إن في خلق السموات والأرض " أي خلقين عظيمين ويقال فيما خلق في السموات من الشمس والقمر والنجوم وما خلق في الأرض من الجبال والبحار والأشجار " واختلاف الليل والنهار " يعني ذهاب الليل ومجيء النهار ويقال اختلاف لونيهما " لآيات " لعبرات " لأولي الألباب " لذوي العقول
قوله تعالى " الذين يذكرون الله قياما وقعودا " يعني يصلون لله قياما إن استطاعوا على القيام وقعودا إن لم يستطيعوا القيام " وعلى جنوبهم " إن لم يستطيعوا القعود لزمانه بهم ويقال معناه الذين يذكرون الله في الأحوال كلها في حال القيام والقعود والاضطجاع كما قال في آية أخرى " اذكروا الله ذكرا كثيرا " الأحزاب 41
ثم قال تعالى " ويتفكرون في خلق السموات والأرض " يعني يعتبرون في خلقهما قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة قال حدثنا ابن زرارة الحلبي عن أبي حباب عن عطاء بن أبي رباح قال دخلت مع ابن عمر وعبيد بن عمير على عائشة فسلمنا عليها فقالت من هؤلاء فقلت عبد الله بن عمر وعبيد الله بن عمير فقالت مرحبا بك يا عبيد بن عمير ما لك لا تزورنا فقال عبيد زر غبا تزدد حبا فقال ابن عمر دعونا من هذا حدثينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت بكاء شديدا ثم قالت كل أمره عجب أتاني في ليلتي فدخل في فراشي حتى ألصق جلده بجلدي فقال يا عائشة أتأذنين لي أن أعبد لربي فقلت والله إني أحب قربك وإني لأحب هواك فقام إلى قربة ماء فتوضأ منها ثم قام فبكى وهو قائم حتى روت الدموع حجره ثم اتكأ على شقه الأيمن ووضع يده اليمنى تحت خده الأيمن فبكى حتى روت الدموع الأرض ثم أتاه بلال بعدما أذن للفجر فلما رآه يبكي قال أتبكي يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا وما لي لا أبكي وقد أنزلت علي الليلة " وأن
(1/298)
1
299
في خلق السموات والأرض ) إلى قوله " فقنا عذاب النار " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق وقال صلى الله عليه وسلم تفكر ساعة خير من عبادة سنة
ثم قال تعالى " ربنا ما خلقت هذا باطلا " يعني يتفكرون ويقولون " ربنا ما خلقت هذا باطلا " عبثا بغير شيء ولكن خلقتهما لأمر هو كائن " سبحانك فقنا عذاب النار " يعني ادفع عنا عذاب النار وقال الزجاج معنى " سبحانك " أي تنزيها لك من أن تكون خلقتهما باطلا " فقنا عذاب النار " أي صدقنا رسلك وسلمنا أن لك جنة ونارا " فقنا عذاب النار "
سورة آل عمران 192 - 195
قوله تعالى " ربنا إنك من تدخل النار " يعني ويقولون " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " يعني أهنته وفضحته " وما للظالمين من أنصار " يعني ما للمشركين من مانع يمنعهم من العذاب إذ أنزل بهم ويقولون أيضا " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التصديق " أن آمنوا بربكم " يعني صدقوا بتوحيد ربكم " فآمنا " يعني صدقنا وقال محمد بن كعب القرظي ليس كل الناس لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن المنادي هو كتاب الله يدعو إلى الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن آمنوا بربكم فآمنا " ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا " وقال الكلبي الذنوب الكبائر دون الصغاير والسيئات الشرك وقال الضحاك " ذنوبنا " يعني ما عملوا في حال الجاهلية " وكفر عنا سيئاتنا " يعني ما عملوا في حال الإسلام ويقال الذنوب والسيئات بمعنى واحد ويقال الذنوب هي الكبائر والسيئات ما دون الكبائر التي تكفر من الصلاة إلى الصلاة
(1/299)
1
300
ثم قال تعالى " وتوفنا مع الأبرار " يعني مع المطيعين والصالحين ويقال اجعل أرواحنا مع أرواح المطيعين والصالحين ويقولون أيضا " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " يعني أعطنا ما وعدتنا من الخير والجنة على لسان رسلك ويقال هو ما ذكر من استغفار الأنبياء والملائكة للمؤمنين وهو قول تعالى " والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض " الشورى 5 وما ذكر من دعاء نوح وإبراهيم عليهما السلام للمؤمنين
ثم قال تعالى " ولا تخزنا يوم القيامة " يعني لا تعذبنا ويقال لا تخذلنا يوم القيامة " إنك لا تخلف الميعاد " يعني ما وعدت من الخير والثواب للمؤمنين
قوله تعالى " فاستجاب لهم ربهم " فأخبر الله عن فعلهم وذكر ما أجابهم به وأنجز لهم موعده وبين لهم ثوابه وهو قوله " فاستجاب لهم ربهم " روي عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال من دعا الله تعالى بهذه الدعوات فإنه يستجاب له لأنه قال لهم " إني لا أضيع عمل عامل منكم " يعني لا أبطل ثواب عمل عامل في طاعتي " من ذكر أو أنثى " يعني رجلا أو امرأة
قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الديبلي قال حدثنا أبو عبيد الله قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة يقال له سلمة بن الأكوع عن أم سلمة أنها قالت يا رسول الله إني أسمع الله ذكر الهجرة فذكر فيها الرجال ولم يذكر فيها النساء فأنزل الله تعالى " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " ويقال إن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله خلق الرجال والنساء وقد آمن به النساء كما آمن به الرجال فما بالهن لم يذكرن كما يذكر الرجال فنزل قوله تعالى " إن المسلمين والمسلمات " الآية ونزل " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى "
ثم قال تعالى " بعضكم من بعض " قال الكلبي يعني بعضكم أولياء بعض في الدين وقال الضحاك يعني يشبه بعضكم بعضا في الطاعة ويقال بعضكم على أثر بعض ويقال بعضكم على دين بعض
ثم قال تعالى " فالذين هاجروا " من مكة إلى المدينة " وأخرجوا من ديارهم " يعني أن أهل مكة أخرجوا مؤمنيهم من مكة " وأوذوا في سبيلي " يعني عذبوا في طاعتي " وقاتلوا " مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين " وقتلوا " يعني قتلهم المشركون قرأ حمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا على معنى التقديم والتأخير كقوله تعالى " إنى متوفيك ورافعك " آل عمران 55 وقرأ الباقون وقاتلوا وقتلوا إلا ابن كثير وابن عامر قرآ وقتلوا بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة فذكر الله فعلهم ثم ذكر ثوابهم فقال ( لأكفرن عنهم سيئاتهم ) يعني لأمحون عنهم ذنوبهم " ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار " يعني من تحت
أشجارها وقصورها الأنهار " ثوابا من عند الله " يعني الجنات جزاء لأعمالهم من عند الله تعالى وقال الزجاج إنما صار نصبا
(1/300)
1
301
لأنه مصدر مؤكد معناه لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ولأثيبنهم ثوابا وروي عن الفراء أنه قال إنما صار نصبا على التفسير
ثم قال تعالى " والله عنده حسن الثواب " يعني حسن الجزاء وهو الجنة ويقال حسن المرجع في الآخرة خير من الدنيا
سورة آل عمران 196 - 197
قوله تعالى " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد " يقول لا يحزنك يا محمد ذهابهم ومجيئهم في تجاراتهم ومكاسبهم في الأرض ويقال هذا الخطاب للمؤمنين ومعناه لا يغرنكم تجارات الكفار وتصرفهم في أموالهم لأن ذلك " متاع قليل " لأن الكفار كانوا في رخاء وعيش وكانت لهم رحلة الشتاء والصيف وكان المؤمنون في ضيق وشدة فأخبر الله تعالى بمرجع الكفار في الآخرة وبمرجع المؤمنين فقال " لا يغرنك " ما هم فيه من العيش والسعة فإنما هو " متاع قليل " يعني بعد وقت قريب
ثم قال تعالى " ثم مأواهم جهنم " يعني مصيرهم إلى جهنم " وبئس المهاد " يعني بئس موضع القرار في النار وبئس المصير إليها فما ينفعهم تجاراتهم وأموالهم
سورة آل عمران 198
ثم ذكر مرجع المؤمنين ومصيرهم فقال " لكن الذين اتقوا " اتقوا الشرك والفواحش ووحدوا " ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " أبدا لا يموتون فيها ولا يخرجون منها أبدا " نزلا من عند الله " يقول ثوابا من عند الله للمؤمنين الموحدين خاصة " وما عند الله " أي الجنة " خير " من الدنيا " للأبرار " يعني للمؤمنين المطيعين
سورة آل عمران 199
ثم قال تعالى " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله " يعني مؤمني أهل الكتاب معناه من أهل الكتاب من آمن بالله فصدق " وما أنزل إليكم " من القرآن وصدق بما " وما أنزل إليهم " من التوراة والإنجيل يعني على أنبيائهم فذكر حالهم وبين ثوابهم لكي يرغب غيرهم من أهل الكتاب ليؤمنوا إذا علموا بثوابهم
ثم نعتهم فقال " خاشعين لله " يعني متواضعين لله والخشوع أصله التذلل وكذلك الخضوع وقد فرق بعض أهل اللغة بين الخشوع والخضوع فقال الخضوع في البدن خاصة
(1/301)
1
302
والخشوع يكون في البدن والبصر والصوت والقلب قال الله تعالى " وخشعت الأصوات للرحمن " طه 108 وقال " خاشعة أبصارهم " القلم 43 المعارج 44
ثم قال تعالى " ولا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا " يعني عرضا يسيرا كفعل اليهود " أولئك لهم أجرهم " يعني ثوابهم " عند ربهم " الجنة " إن الله سريع الحساب " يعني شديد العقوبة ويقال سريع الحفظ والتعريف
سورة آل عمران 200
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اصبروا " على البلاء والجهاد وأداء الفرائض وعن المعاصي " وصابروا " مع نبيكم صلى الله عليه وسلم على عدوكم حتى يدعوا دينهم إلى دينكم يعني يتركوا الشرك ويدخلوا في الإيمان " ورابطوا " مع عدوكم ما أقاموا وهذا قول الكلبي وقال عكرمة " اصبروا " على البلاء وعلى طاعة الله " وصابروا " أهل الضلالة " ورابطوا " الخيول وقال الزجاج " اصبروا " على دينكم " وصابروا " على عدوكم " ورابطوا " أي أقيموا على جهادكم بالحرب وقيل " اصبروا " بأبدانكم " وصابروا " بقلوبكم " و رابطوا " بأرواحكم " واتقوا الله " في جميع ما أمركم ونهاكم وقال القتبي أصل المرابطة أن يربطوا خيولهم في الثغر
ثم قال تعالى " لعلكم تفلحون " يقول تفوزون وتأمنون النار وتنجون منها ويقال أصل الفلاح البقاء في النعمة ويقال الفلاح أن يبلغ الإنسان نهاية ما يأمله والله سبحانه وتعالى أعلم وصلي الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله صحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين
(1/302)
1
303
سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء 1
قوله تعالى " يا أيها الناس " قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى " يا أيها الناس " يعني الناس عامة وقد يكون " يا أيها الناس " خاصا لأهل مكة وفي هذا الموضع عام لجميع الناس " اتقوا ربكم " يعني اخشوا ربكم ويقال أطيعوا ربكم ويقال احذروا المعاصي لكي تنجوا من عقوبة ربكم ويقال وحدوا ربكم ولا تشركوا به شيئا
ثم دل على وحدانيته ونفسه بصنعه فقال " الذي خلقكم من نفس واحدة " يعني آدم " وخلق منها زوجها " يعني من نفس آدم زوجها حواء وذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم فكان آدم بين النائم واليقظان فخلق من ضلع من أضلاعه اليسرى حواء فلما استيقظ قيل له من هذه يا آدم قال إمرأة لأنها خلقت من المرء فقيل ما اسمها قال حواء لأنها خلقت من حي وقد قيل إنما سميت حواء لأنه كان على شفتيها حوة وقيل لأن لونها كان يضرب إلى السمرة فسميت حواء من قولك أحوى كقوله تعالى " فجعله غثاء أحوى " الأعلى 5
ثم قال تعالى " وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " يعني خلق منهما أي من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء كثيرة قال مقاتل يعني خلق منهما ألف ذرية من الناس يعني من صلبه
ثم قال " واتقوا الله " يعني أطيعوا الله " الذين تساءلون به " قرأ حمزة والكسائي وعاصم وأبو عمرو في رواية هارون " تسألون " بغير تشديد وقرأ الباقون بالتشديد فمن قرأ بالتشديد لأن أصله تتساءلون فأدغم إحدى التاءين في السين وأقيم التشديد مقامه ومن قرأ بالتخفيف فالأصل أيضا تتساءلون فحذف إحدى التاءين لاجتماع الحرفين من جنس واحد للتخفيف
ثم قال تعالى " والأرحام " قرأ حمزة بكسر الميم والباقون بنصب الميم ومعناه واتقوا الله الذي تسألون به الحاجات يعني الذي يسأل الناس بعضهم بعضا فيقول الرجل للرجل أسألك بالله وأنشدك بالله " والأرحام " يقول واتقوه في ذوي الأرحام فصلوها ولا
(1/303)
1
304
تقطعوها وأما من قرأ بالكسر معناه أسألك بالله وبالرحم أن تعطيني شيئا وقال الزجاج من قرأ بالخفض فخطأ في العربية وفي أمر الدين أما الخطأ في العربية لأن الاسم يعطف على الاسم المفصح به ولا يعطف على المكنى به إلا في اضطرار الشعر كقول القائل
( قد كنت من قبل تهجونا وتفضحنا % فما لنا بك والأيام من عجب )
وأما في غير الشعر فلا يستعمل وأما الخطأ الذي في الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تحلفوا بآبائكم فمن حلف فليحلف بالله أو ليذر فالسؤال بالأرحام أمر عظيم لأنه تحليف بها ولكن روي عن إبراهيم النخعي أنه كان يقرأ أيضا بالخفض أيضا
ثم قال " إن الله كان عليكم رقيبا " يعني حفيظا لأعمالكم يسألكم عنها فيما أمركم به وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من عمل حسنة أسرع ثوابا من صلة الرحم وما من عمل سيئة أسرع عقوبة من البغي واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لما خلق الرحم قال له صل من وصلك واقطع من قطعك ويقال الرحم مشتق من الرحمة فمن قطعها فليس له من رحمة الله تعالى نصيب وقال صلى الله عليه وسلم الرحم معلق بالعرش فمن قطعها قطعني ومن وصلها وصلني
سورة النساء 2
قوله تعالى " وآتوا اليتامى أموالهم " يقول للأولياء أعطوا اليتامى أموالهم التي عندكم إذا بلغوا النكاح يعني الحلم " ولا تتبدلوا الخبيث " يعني الحرام " بالطيب " يعني بالحلال من أموالكم يقول لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموال اليتامى ويقال لا تخلطوا الخبيث بالطيب ويقال لا تخلطوا من مالكم الرديء وتأخذوا الجيد من مال اليتيم يعني أن يرسل شاة عجفاء في غنمه ويأخذ مكانها شاة سمينة وفي الحبوب كذلك ويقال لا تجعلوا أموالهم وقاية لأموالكم
ثم قال تعالى " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " يعني مع أموالكم " إنه كان حوبا كبيرا " يعني إثما عظيما قرأ الحسن " حوبا " بنصب الحاء قال مقاتل هو بلغة الحبش
(1/304)
1
305
قال القتبي الحوب والحوب واحد وهو الإثم وقال مقاتل نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخيه فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه العم فنزلت الآية فقرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرجل أطعنا الله ورسوله ونعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد أصاب الأجر وبقي الوزر فقالوا كيف بقي الوزر وقد أنفقه في سبيل الله فقال " أصاب الغلام الأجر وبقي الوزر على والده
سورة النساء 3
قوله تعالى " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " يعني ألا تعدلوا في أموال اليتامى يقال في اللغة أقسط الرجل إذا عدل وقسط إذا جار وقال صلى الله عليه وسلم المقسطون في الدنيا على منابر من نور يوم القيامة يعني العادلون قال الله تعالى " وأما القسطون فكانوا لجهنم حطبا " الجن 15 يعني الجائرون
ثم قال تعالى " فانكحوا ما طاب لكم " وذلك أنهم كانوا يسألون عن أمر اليتامى ويخافون إلا يعدلوا وكانوا يتزوجون من النساء ما شاؤوا فنزلت هذه الآية " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم " " من النساء مثنى ثلاث ورباع فإن خفتم إلا تعدلوا " يعني فكما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء إذا اجتمعن عندكم ألا تعدلوا بينهن وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان الناس يتزوجون اليتامى ولا يعدلون بينهن ولم يكن لهن أحد يخاصم عنهن فنهاهم الله عن ذلك فقال " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " الآية ويقال إنهم كانوا يتزوجون امرأة لها أولاد أيتام وكانوا لا يحسنون النظر إليهم فنزل " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم " يعني بغير ولد " مثنى وثلاث ورباع "
ثم قال تعالى " فإن خفتم ألا تعدلوا " في القسم بين النساء والنفقة " فواحدة " يقول تزوجوا امرأة واحدة وإن خفتم ألا تعدلوا في الواحدة " أو ما ملكت أيمانكم " يعني الإماء ويقال إن خفتم ألا تعدلوا في القسم بين النساء فواحدة أي واشتروا الإماء لأن الواحدة لا تحتاج إلى القسمة والإماء لا يحتاج فيهن إلى القسمة وقال بعض الروافض بظاهر هذا الآية
(1/305)
1
306
أنه يحوز نكاح تسع نسوة لأنه قال " مثنى وثلاث ورباع " فيكون ذلك تسعا ولكن أجمع المفسرون أن المراد به التفصيل لا الاجتماع لان الواو للبدل الجمع ومعناه مثنى أو ثلاث أو رباع وبذلك جاءت الآثار وهو حديث غيلان بن سلمة أنه اسلم ومعه عشر نسوة فخيره النبي صلى الله عليه وسلم فاختار أربعا وفارق البواقي وروي الكلبي ومقاتل أن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر فلما نزلت هذه الآية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق أربعا ويمسك أربعا وروى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير أن في ذلك كان الحارث بن قيس الأسدي وهذا هو المعروف عند الفقهاء
ثم قال تعالى " ذلك أدنى ألا تعولوا " يعني واحدة أحرى ألا تميلوا ولا تجوروا ولا تظلموا
سورة النساء 4 - 5
قوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " يعني أعطوا النساء مهورهن فريضة ويقال ديانة كما يقال فلان ينتحل مذهب كذا أي يدين بكذا ويقال نحلة أي صدقة وهبة لأن المهر نحلة من الله تعالى للنساء حيث لم يوجب عليهن وأوجب لهن وقال في رواية الكلبي إن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيرا وإن كانت غريبة حملوها على بعير إلى زوجها ولا يعطونها من مهرها غير ذلك البعير شيئا فنزل قوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن " يعني به الأولياء يعني أعطوهن مهورهن نحلة يقول عطية لهن وقال في رواية مقاتل كان الرجل يتزوج بغير مهر ويقول أرثك وترثيني فنزلت الآية " وآتوا النساء " يعني الأزواج " صدقاتهن نحلة " يعني مهور النساء " نحلة " يعني فريضة " فإن طبن لكم " يا معشر الأزواج أي إن أحللن لكم ووهبن لكم وقال في رواية الكلبي يعني إذا وهبت المرأة المهر للولي فذلك قوله " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " أي طيبا لا إثم منه " مريئا " أي لا أذى فيه " مريئا " لا داء فيه ويقال " هنيئا مريئا " يعني حلالا طيبا وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إذا كان أحدكم مريضا فليسأل من امرأته درهمين من مهرها حتى تهب له بطيبة نفسها
(1/306)
1
307
فيشتري بذلك عسلا فيشربه مع ماء المطر وقد اجتمع الهنيء والمريء والشفاء والماء المبارك يعني أن الله تعالى سمى المهر هنيئا مريئا إذا وهبت وسمى العسل شفاء وسمى ماء المطر مباركا فإذا اجتمعت هذه الأشياء يرجى له الشفاء
قوله تعالى " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " يعني النساء والأولاد الصغار يعني لا يجعل الرجل ماله في يدي امرأته وأولاده ثم يدع نفسه محتاجا إليهم فلا يدفعون إليه عند حاجته ويقال لا تدفعوا أموالكم مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا فذلك قوله تعالى " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " يعني الجهال بالأحكام ويقال لا تدفعوا إلى الكفار ولهذا كره علماؤنا أن يوكل المسلم ذميا بالبيع والشراء أو يدفع إليه مضاربه
ثم قال تعالى " التي جعل الله لكم قياما " يعني الأموال التي جعل الله قواما لمعاشكم ثم قال " وارزقوهم فيها " يعني الأولاد الصغار أطعموهم " وأكسوهم " من أموالكم وكونوا أنتم القوام على أموالكم " وقولوا لهم قولا معروفا " يعني إذا طلبوا منكم النفقة ولم يكن عندكم في ذلك الوقت شيء فعدوا لهم عدة حسنة يقول سأفعل ذلك
سورة النساء الآية 6
ثم قال " وابتلوا اليتامى " يقول اختبروا اليتامى وجربوا عقولهم " حتى إذا بلغوا النكاح " يعني الحلم ويقال مبلغ الرجال " فإن آنستم منهم رشدا " يقول إذا رأيتم منهم رشدا وصلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم " فادفعوا إليهم أموالهم " التي معكم " ولا تأكلوها إسرافا " في غير حق " وبدارا " يعني مبادرة في آكلة " أن يكبروا " يعني مخافة أن يكبروا فيأخذوا أموالهم منكم
ثم قال " ومن كان غنيا فليستعفف " يعني ليحفظ نفسه عن مال اليتيم " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " وقد اختلف الناس في تأويل هذه الآية وقالوا فيها ثلاثة أقوال قال بعضهم يجوز للمعسر أن يأكل على قدر قيامه عليه وقال بعضهم لا يجوز أن يأكل إلا على وجه القرض فيرد عليه إذا كبر وقال بعضهم لا يجوز في الأحوال كلها
فأما من قال إنه يجوز أكله على قدر قيامه عليه فإنه احتج بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم " فمن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا سأله فقال يا ابن عباس إن عندي مواشي أيتام فهل علي جناح إن أصبت من رسل مواشيهم قال ابن
(1/307)
1
308
عباس إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حياضها ولا تفرط لها يوم وردها فلا جناح عليك إن أصبت من رسلها وقال مجاهد كانوا يقول من أدركت من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم أن للوصي أن يأكل بالمعروف مع اليتيم فإنه يحلب غنمه ويقوم على ماله ويحفظه
وأما من قال إنه يجوز أكله على وجه القرض احتج بما روي عن محمد بن سرين أنه قال سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " قال هو قرض ثم يرد عليه إذا كبر فقال ألا ترى أنه قال في سياق الآية " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " وقال أبو العالية ما أكل فهو دين عليه وقال الشعبي مثله
وأما من قال إنه لا يجوز أكله لأن الله تعالى قال " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا " النساء 10 وتلك الآية محكمة وهذه من المتشابهة لأنه يحتمل التأويل أنهم يأكلون على وجه القرض أو على وجه الإباحة فيرد حكم المتشابه إلى المحكم وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بتلك الآية قال الفقيه رحمه الله إذا كان الوصي فقيرا فأكل من مال اليتيم مقدار قيامه عليه أرجو أن لا بأس به لأن كثيرا من العلماء أجازوا ذلك والاحتراز عنه أفضل
قرأ نافع وابن عامر " التي جعل الله لكم قيما " بكسر القاف ونصب الياء بغير ألف والباقون بالألف ومعناهما قريب وقال أهل اللغة قياما وقواما وقيما بمعنى واحد
وقال تعالى " فإذا دفعتم إليهم أموالهم " يعني إذا أدرك اليتامى ودفعتم إليهم أموالهم " فأشهدوا عليهم " ذلك وإنما الإشهاد على معنى الاستحباب لنفي التهمة عن نفسه ولو لم يشهد على ذلك لجاز كقوله تعالى " واشهدوا إذا تبايعتم " ثم قال " وكفى بالله حسيبا " يعني شهيدا في أمر الآخرة وأما في أمر الدنيا فينبغي أن يشهد العدول على ذلك ليدفع القالة عن نفسه لأن الله تعالى لا يشهد له في الدنيا
سورة النساء 7 - 9
قوله تعالى " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء وإنما يورثون الرجال من كان يقاتل ويحوز الغنيمة حتى مات أوس بن ثابت الأنصاري وترك ثلاث بنات وترك امرأة يقال لها أم كجة فقام ابن عمه وأخذ ماله فجاءت المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت له القصة ويقال مات رفاعة وترك ابنة وابنته فأخذ الابن ميراثه
(1/308)
1
309
كله فجاءت المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فنزل قوله " للرجال نصيب " يقول حظ " مما ترك الوالدان والأقربون " " وللنساء نصيب " يعني حظ " مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه " يعني قل المال " أو كثر نصيبا مفروضا " يعني حظا معلوما لكل واحد منهم من الميراث فبين في هذه الآية أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا ولكن لم يبين مقدار نصيب كل واحد منهم ثم بين في الآية التي بعدها فقال " وإذا حضر القسمة أولو القربى " قال مقاتل فيها تقديم وتأخير معناه إذا حضر أولو القربى قسمة الميراث " فارزقوهم منه " يعني أعطوهم من الميراث قال مقاتل وهذا كان قبل قسمة الميراث
وقال تعالى " وقولوا لهم قولا معروفا " يعني إذا كانت الورثة كبارا يعطون من الميراث لذوي القربى وإن كانت الورثة صغارا فقولوا لهم " قولا معروفا " يعني عدوا لهم عدة حسنة تقول لهم الأولياء إذا أدرك الصغار أمرناهم حتى يعطوكم شيئا ويعرفوا حقكم وقال القتبي " إذا حضر القسمة " فيه قولان أحدهما أن تكون قسمة الوصية إذا حضرها أقرباؤكم فاجعلوا لهم حظا من الثلث ووجه آخر أن تكون قسمة الميراث فارضخوا لهم منها
قوله تعالى " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم " يقول وليخش على أولاد الميت الضياع كما أنكم لو تركتم أولادا " ذرية ضعافا خافوا عليهم " يقول عجزة صغارا يعني الذي يحضره الموت لا يقال له قدم لنفسك وأوص بكذا وكذا حتى يوصي بعامة ماله فليخش على ذرية الميت كما يخشى على ذرية نفسه وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول له أوص بمالك فإن الله تعالى رازق أولادك ولكن يقول له قدم لنفسك واترك لولدك فذلك قوله تعالى " فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا " يعني يقولوا للميت قولا عدلا ويقال وليقولوا قولا سديدا وهو أن يلقنه لا إله إلا الله ولا يأمره بذلك ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمعه منه ويتلقن وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ولم يقل مروهم بذلك لأنه لو أمر بذلك فلعله يغضب ويجحد
سورة النساء 10
قوله تعالى " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " يعني بغير حق " إنما يأكلون في بطونهم نارا " يعني حراما لأن الحرام يوجب النار فسماه الله باسمها ويقال إنه يلقم من النار إذا صار إلى جهنم فذلك قوله تعالى " إنما يأكلون في بطونهم نارا " وروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض قصة المعراج أنه قال رأيت أقواما بطونهم كالجبال فيها
(1/309)
1
310
الحيات والعقارب فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا " وسيصلون سعيرا " يعني سيدخلونها في الآخرة
قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وسيصلون بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بنصب الياء وهذا كقوله " سيدخلون جهنم " وسيدخلون وقال القتبي في قوله " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم " معناه وليخش الذين يكفلون اليتامى وليفعل بهم ما يحب أن يفعله بولده من بعده
سورة النساء الآية 11
قوله تعالى " يوصيكم الله في أولادكم " يعني يبين الله لكم ميراث أولادكم كما بين قسمة المواريث يعني إذا مات الرجل أو المرأة وترك أولادا ذكورا وإناثا ف " للذكر مثل حظ الأنثيين " يعني لكل ابن سهمان ولكل بنت سهم وروى ابن أبي نجيح عن عطاء قال كان ابن عباس يقول كان الميراث للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للوالدين لكل واحد منهما السدس وللمرأة الثمن أو الربع وللزوج النصف أو الربع
ثم قال تعالى " فإن كن نساء فوق اثنتين " يعني إذا ترك الميت بناتا ولم يترك أبناء فللبنات إن كن اثنتين فصاعدا " فلهن ثلثا ما ترك " من الميراث ولم يذكر في الآية حكم البنتين ولكن أجمع المسلمون ما خلا رواية عن عبد الله بن عباس أنه قال للاثنتين النصف كما كان يكون للإبنة الواحدة وللثلاث بنات الثلثان وأما سائر الصحابة فقد قالوا إن للاثنتين الثلثين وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى جابر بن عبد الله قال جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتان ابنتا سعد قد قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال فقال النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي الله في ذلك فأنزل الله آية الميراث فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمهما وقال أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن والباقي لك
(1/310)
1
311
ثم قال تعالى " وإن كانت واحدة فلها النصف " يعني إن ترك الميت بنتا واحدة فلها النصف من الميراث والباقي للعصبة بالخبر قرأ نافع " وإن كانت واحدة " بالرفع على اسم كانت وقرأ الباقون بالنصب على معنى الخبر ويكون الاسم فيه مضمرا
ثم قال تعالى " ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك " الميت من المال " إن كان له ولد " يعني إن كان له ولد ذكر أو أنثى أو ولد الابن " فإن لم يكن له " للميت " ولد " ولا ولد ابن " وورثه أبواه " يعني إن لم يكن للميت وارث سوى الأبوين " فلأمه الثلث " يعني للأم ثلث المال والباقي للأب قرأ حمزة والكسائي " فلإمه " بكسر الألف لكسر ما قبله وقرأ الباقون " فلأمه " بضم الألف
ثم قال تعالى " وإن كان له إخوة فلأمه السدس " يعني إذا كان للميت إخوة وقد اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اسم الإخوة يقع على الاثنين فصاعدا إلا في قول ابن عباس ثلاثة فصاعدا واتفقوا أن الذكور والإناث فيه سواء فيكون للأم السدس والباقي للأب
ثم قال تعالى " من بعد وصية " يعني قسمة الميراث من بعد وصية " يوصي بها " الميت " أو دين " يعني بعد قضاء الدين وإنفاذ الوصية وروى الحارث عن علي رضي الله عنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية وأنتم تقرؤون " من بعد وصية يوصي بها أو دين " يعني في الآية تقديم وتأخير وروي عن ابن عباس هكذا قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم " يوصى بها " على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون " يوصي بها " يعني الميت إن كان يوصي بها أو عليه دين
ثم قال تعالى " آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا " يعني في الآخرة إذا كان أحدهما أرفع درجة من الآخر يسأل الله تعالى حتى يرفع إليه الآخر لتقر عينه به فقال " لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا " يعني أيهم أرفع درجة فيلحق به صاحبه ويقال معناه أن الله علمكم قسمة المواريث وأنكم لا تدرون " إيهم أقرب لكم نفعا " يعني حيا حتى تعطوه حصته ويقال " لا تدرون أيهم أقرب " موتا فيرث منه الآخر
ثم قال تعالى " فريضة من الله " يعني بيان قسمة المواريث من الله تعالى ويقال القسمة فريضة من الله تعالى لا يجوز تغييرها عما أمر الله بذلك
ثم قال تعالى " إن الله كان عليما " بقسمة المواريث " حكيما " حكم قسمتها وبينها لأهلها وقال الزجاج معناه كان الله " عليما " بالأشياء قبل خلقها " حكيما " فيما يقدر ويدبر منها وقال بعضهم لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال فالخبر منه بالماضي كالخبر
(1/311)
1
312
بالاستقبال وقال سيبويه كأن القوم شاهدوا علما وحكما فقيل لهم إن الله تعالى كان كذلك أي لم يزل على ما شاهدتم
سورة النساء12 - 14
ثم قال تعالى " ولكن نصف ما ترك أزواجكم " يعني إذا ماتت المرأة وتركت زوجا فللزوج النصف " إن لم يكن لهن ولد " ذكر أو أنثى أو ولد ابن " فإن كان لهن ولد " أو ولد ابن " فلكم الربع " أي للزوج الربع " مما تركن " يعني مما تركت المرأة " من بعد وصية يوصين بها أو دين "
ثم قال تعالى " ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية يوصون بها أو دين " يعني إذا مات الزوج وترك امرأة فللمرأة الربع " إن لم يكن لكم ولد " ولا ولد ابن " فإن كان لكم ولد " فإن كان للميت أي الزوج ولد أو ولد ابن " فلهن الثمن " سواء كان له امرأة واحدة أو أربع نسوة فلهن الربع بغير الولد والثمن مع الولد لأنه قال " ولهن الربع " فجعل حصتهن الربع أو الثمن ثم قال " من بعد وصية توصون بها أو دين "
ثم قال تعالى " وإن كان رجل يورث كلالة " والكلالة ما خلا الوالد والولد ويقال هو اسم الميت الذي ليس له ولد ولا والد قال أبو عبيدة هو مصدر من تكلله النسب أي أحاط به والأب والابن طرفا الرجل فسمي لذهاب طرفيه كلالة وقرأ بعضهم " يورث " بكسر الراء قال أبو عبيدة من قرأ " يورث " بكسر الراء جعل الكلالة الورثة ومن قرأ بنصب الراء جعل الكلالة الميت
وروى الشعبي عن أبي بكر وعمر أنهما قالا الكلالة من لا ولد ولا والد وروي عنهما
(1/312)
1
313
أيضا أنهما قالا الكلالة ما سوى الولد والوالد وقال " أو امرأة " يعني إن كانت الكلالة هي امرأة
ثم قال تعالى " وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس " من الميراث " فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث " يعني الإخوة من الأم وقد أجمع المسلمون أن المراد هاهنا الإخوة من الأم لأنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلث ففهموا أن المراد ههنا الإخوة من الأم " من بعد وصية يوصي بها أو دين " قد ذكرناه
ثم قال تعالى " غير مضار وصية من الله " يعني غير مضار للورثة فيوصي بأكثر من الثلث " وصية من الله " يعني تلك القسمة فريضة من الله " والله عليم حليم " يعني " عليم " بأمر الميراث " حليم " على أهل الجهل منكم قال عليه صلى الله عليه وسلم من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه في الجنة وقرأ بعض المتقدمين " والله عليم حكيم " يعني حكم بقسمة الميراث والوصية وقضاء الدين
ثم قال تعالى " تلك حدود الله " يعني هذه فرائض الله فيما أمركم به من قسمة المواريث ويقال تلك أحكام الله ويقال " تلك " بمعنى هذه يعني هذه أحكام الله قد بينها لكم لتعرفوها وتعملوا بها
قوله " ومن يطع الله ورسوله " في قسمة المواريث فيقر بها ويعمل بها كما أمره الله " يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم " يعني ذلك الثواب هو النجاة الوافرة
قال تعالى " ومن يعص الله ورسوله " في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها كما أمر الله " ويتعد حدوده " يعني يخالف أمره " يدخله نارا خالدا فيها " لأنه إذا جحد صار كافرا " وله عذاب مهين " يهان فيه قرأ نافع وابن عامر " ندخله جنات " " ندخله نارا " كلاهما بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه وقرأ الباقون كلاهما بالياء لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى
سورة النساء 15 - 16
قوله تعالى " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم " يعني الزنى وهي المرأة الثيب إذا زنت " فاستشهدوا عليهن " يعني اطلبوا عليهن " أربعة " من الشهود " منكم " يعني من أحرار
(1/313)
1
314
المسلمين عدولا " فإن شهدوا " عليهن بالزنى " فأمسكوهن في البيوت " يعني احبسوهن في السجن " حتى يتوفاهن الموت " يعني يمتن في السجن " أو يجعل الله لهن سبيلا " يعني محيصا ومخرجا من الحبس ثم نسخ فصار حدهن الرجم لما روي عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة
ثم ذكر في الآية حد البكرين فقال " واللذان " لم يحصنا " يأتيانها " الفاحشة " منكم " يعني الأحرار المسلمين " فآذوهما " باللسان يعني بالتعيير بما فعلا ليندما على ما فعلا " فإن تابا " من بعد الزنى " وأصلحا " العمل " فأعرضوا عنهما " يعني فلا تسمعوهما الأذى بعد التوبة " إن الله كان توابا " يعني متجاوزا " رحيما " بهما ثم نسخ الحبس والأذى بالرجم والجلد وإنما كان التعيير في ذلك الزمان لأن التعيير حل محل الجلد وأما اليوم فلا ينفعهم التعيير وروي ابن أبي نجيح عن مجاهد قال " واللاتي يأتين الفاحشة " " واللذان يأتيانها منكم " كان ذلك في أول الأمر ثم فنسختها الآية التي في سورة النور قرأ ابن كثير " واللذان " بتشديد النون لأن الأصل واللذيان فحذف الياء وأقيم التشديد مقامه وقرأ الباقون بالتخفيف
سورة النساء 17 - 18
قوله تعالى " إنما التوبة على الله " يعني قبول التوبة على الله ويقال توفيقه على الله ويقال إنما التجاوز من الله " للذين يعملون السوء بجهالة " قال ابن عباس كل مؤمن يذنب فهو جاهل في فعله ويقال إنما الجهالة إنهم يختارون اللذة الفانية على اللذة الباقية وذلك الجهل لا يسقط عنهم العذاب إلا أن يتوبوا
ثم قال تعالى " ثم يتوبون من قريب " قال ابن عباس كل من تاب قبل موته فهو قريب " فأولئك يتوب الله عليهم " يعني يقبل توبتهم " وكان الله عليما حكيما " يعني " عليما " بأهل التوبة " حكيما " حكم بالتوبة وقال مقاتل نزلت الآية في رجل من قريش سكر وذكر فيه شعرا وذكر اللات والعزى وأنكر البعث فلما أصبح أخبر بذلك فندم على ذلك ثم استرجع فنزلت الآية " ثم يتوبون من قريب " يعني قبل الموت
(1/314)
1
315
قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو حفص عن صالح المري عن الحسن قال من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله فيه ابتلاه الله به وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر وقال الحسن إن إبليس لما أهبط من الجنة قال بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده قال الله تعالى فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم يغرغر بنفسه قال أبو العالية الرياحي نزلت أول الآية في المؤمنين والوسطى في المنافقين والأخرى في الكافرين فأما توبة المؤمنين فذكرها قد مضى وأما ذكر توبة المنافقين فقوله تعالى " وليست التوبة للذين يعملون السيئات " الآية يعني ليس قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم " حتى إذا حضر أحدهم الموت " يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت " قال إني تبت الآن " فليس لهذا توبة ثم ذكر توبة الكفار فقال " ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما " يعني وجيعا دائما
سورة النساء 19
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " قال ابن عباس كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة وله ولد من غيرها أو وارث غير الابن فألقى ثوبه عليها وورث نكاحها بالصداق الأول ويقول أنا ولي زوجك فورثتك فإن كانت جميلة أمسكها وإن لم تكن جميلة طول عليها لتفتدي منه فنزلت هذه الآية وقال في رواية الضحاك كان الرجل عنده عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها فنزلت هذه الآية وأمر الزوج بأن يطلقها إن كره صحبتها فلا يمسكها كرها فذلك قوله تعالى " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " قرأ عاصم وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ونافع " كرها " بنصب الكاف وقرأ حمزة والكسائي " كرها " بالضم قال القتبي الكره بالنصب بمعنى الإكراه والكره المشقة ويقال ليفعل ذلك طوعا أو كرها يعني طائعا أو مكرها
ثم قال تعالى " ولا تعضلوهن " يعني لا تمنعوهن من الأزواج " لتذهبوا ببعض ما
(1/315)
1
316
آتيتموهن ) من المهر " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " وهي المعصية في النشوز على زوجها فيحل له ما أخذ منها ويقال إلا أن تزني فيحل له أن يفتدي منه يعني إذا كانت بطيبة نفسها قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر " بفاحشة مبينة " بنصب الياء وقرأ الباقون بكسر الياء فمن قرأ بالكسر يكون الفعل للفاحشة يعني فاحشة ظاهرة تبين منها نفسها ومن قرأ بالنصب يكون بمعنى المفعول قال مقاتل نزلت هذه الآية في محصن بن قيس وامرأته هند بنت المغيرة وفي جماعة وقال الكلبي نزلت في حصين بن أبي قيس وامرأته كبشة بنت معن
ثم قال تعالى " وعاشروهن بالمعروف " يقول صاحبوهن بالجميل " فإن كرهتموهن " يعني كرهتم صحبتهن " فعسى " يقول فلعل " أن تكرهوا شيئا " من صحبتكم إياهن " ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " يعني في صحبتهن يرزق لكم ولدا صالحا وهذا كقوله عز وجل " وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم " ويقال " ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " يعني لعله إن أمسكها فيعطفه الله عليها من بعد ذلك وأما أن يخلي سبيلها فيزوجها الله زوجا غيره فيرزقها الله منه الولد
سورة النساء 20 - 21
قوله تعالى " وإن أردتم استبدال زوج " يعني تغيير زوج " مكان زوج " يعني إذا أراد أن يطلق امرأته ولم يكن منها نشوز وأراد أن يتزوج غيرها " وآتيتم إحداهن قنطار " من المهر من ذهب قال مجاهد القنطار سبعون ألف دينار وقال عطاء سبعة آلاف دينار وقال الحسن ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم وقال قتادة يقال القنطار مائة رطل من ذهب أو ثمانون ألفا من ورق وروي عن عبد الوهاب بن عطاء عن الكلبي قال كل ما لم أسنده لكم فهو كله عن أبي صالح عن ابن عباس قال القنطار ألف مثقال مما كان من ذهب أو فضة
ثم قال تعالى " فلا تأخذوا منه شيئا " يقول فلا تستحلوا أن تأخذوا مما أعطيتم شيئا إذا لم يكن النشوز من قبلها ثم قال " أتأخذونه بهتانا " يقول أتستحلون أخذه ظلما " وإثما مبينا " يعني ذنبا ظاهرا
ثم قال تعالى " وكيف تأخذونه " يقول كيف تستحلون أخذه يعني أخذ مهورهن " وقد أفضى بعضكم إلى بعض " يقول قد اجتمعا في لحاف واحد قال الفراء الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وجامعها أو لم يجامعها إذا كان معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها فقد وجب المهر وروى عوف الأعرابي عن زرارة بن أبي أوفى قال قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب المهر والعدة وقال مقاتل
(1/316)
1
317
الأفضاء الجماع وبهذا القول قال بعض الناس وأما علماؤنا رحمهم الله قالوا إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة دخل بها أو لم يدخل بها
ثم قال " وأخذن منكم ميثاقا غليظا " يقول أوجبن عليكم عهدا وثيقا بالنكاح وهو قوله " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن " البقرة 229 فصار ذلك على الرجال ميثاقا غليظا من النساء ثم بين ما يحل للرجال من النساء وما لا يحل فقال
سورة النساء الآيات 22 - 23
فقال تعالى " ولا تنكحوا ما نكح آباؤهم من النساء " يعني لا تتزوجوا من قد تزوج آباؤكم من النساء ويقال اسم النكاح يقع على الجماع والتزوج فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح حرمت على ابنه ثم قال " إلا ما قد سلف " يقول لا تفعلوا سوى قد فعلتم في الجاهلية وكان الناس يتزوج الرجل منهم امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " حتى نزلت الآية " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " الآية فصار حراما في الأحوال كلها ويقال " إلا ما قد سلف " يعني ولا ما قد سلف كقوله تعالى " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا " النساء 92 يعني ولا خطأ وقد قيل إن في الآية تقديما وتأخيرا ومعناه ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا " إلا ما قد سلف وقد قيل إن في الآية إضمارا يقول " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون " إلا ما قد سلف " ثم قال " إنه كان فاحشة " أي معصية " ومقتا " أي بعضا " وساء سبيلا " أي بئس المسلك
ثم قال تعالى " حرمت عليكم أمهاتكم " يعني نكاح أمهاتكم فذكر الأمهات والمراد منه الأمهات والجدات
ثم قال تعالى " وبناتكم " ذكر البنات والمراد به البنات والحفيدات أي بنات الأولاد
ثم قال تعالى " وأخواتكم " يعني من النسب إلى قوله " وأخواتكم من الرضاعة " " وعماتكم " يعني أخوات أبيكم " وخالاتكم " يعني أخوات أمكم " وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة "
(1/317)
1
318
ثم قال تعالى " وأمهات نسائكم " يعني نكاح أمهات نسائكم حرام عليكم سواء دخل بالابنة أو لم يدخل بها هكذا روي عن ابن عباس وعن جماعة من الصحابة أنهم قالوا ذلك
ثم قال " وربائبكم اللاتي في حجوركم " يعني حرام عليكم نكاح بنات نسائكم " اللاتي في حجوركم " يعني التي يربيها في حجره إذا دخل بأمها " فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " يعني إن لم يكن دخل بأمها فهي حلال له أن يتزوجها وقد اتفقوا على أن كونها في الحجر ليس بشرط غير قول روي عن بعض المتقدمين وإنما ذكر الحجر لتعارفهم فيما بينهم وتسميتهم بذلك الاسم
ثم قال تعالى " وحلائل أبنائكم " يعني حرام عليكم نساء أبنائكم " الذين من أصلابكم " يقال إنما اشترط كون الأبناء الأصلاب لزوال الاشتباه لأن القوم كانوا يتبنون في ذلك الوقت ويجعلون الابن المتبنى بمنزلة ابن الصلب في الميراث والحرمة وتبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فتزوج زيد بن حارثة امرأة ثم طلقها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره المشركون بذلك وقالوا تزوج امرأة ابنه فنزل قوله تعالى " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " الأحزاب 40 وذكر في هذه الآية فقال " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " لكي لا يظن أحد أن امرأة الابن المتبنى تحرم عليه
ثم قال تعالى " وأن تجمعوا بين الأختين " يعني حرام عليكم أن تجمعوا بين الأختين في النكاح في حالة واحدة ثم قال " إلا ما قد سلف " يقول إلا ما قد مضى في الجاهلية وروى هشام بن عبيد الله عن محمد بن الحسن أنه قال كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكر في هذه الآية إلا اثنتين أحدهما نكاح امرأة الأب والثانية الجمع بين الأختين ألا ترى أنه قال " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " ويقال " إلا ما قد سلف " يعني دع ما قد مضى " إن الله كان غفورا " لما كان في الجاهلية " رحيما " بما كان في الإسلام لمن تاب من ذلك
سورة النساء 24
ثم قال تعالى " والمحصنات من النساء " قال في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك يعني ذوات الأزواج حرام عليكم " إلا ما ملكت أيمانكم " من السبايا فإذا ملك الرجل امرأة لها زوج في دار الحرب واستبرأ رحمها بحيضة فهي حلال له وهذا موافق لما روي عن أبي سعيد الخدري أن المسلمين أصابوا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج من المشركين فتأثم المسلمون منهن وقالوا لهن أزواج فأنزل الله تعالى " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم "
(1/318)
1
319
يقول ما أفاء الله عليكم من ذلك وإن كان لهن أزواج من المشركين فلا بأس بأن يأتيها الرجل إذا استبرأ رحمها وقال في رواية مقاتل " والمحصنات من النساء " يعني كل امرأة ليست تحتكم فهي حرام عليكم ثم استثنى من المحصنات فقال " إلا ما ملكت أيمانكم " يعني إلا ما قد تزوجتم من النساء مثنى وثلاث ورباع
ثم قال تعالى " كتاب الله عليكم " يقول هذا ما حرم عليكم في الكتاب ويقال " كتاب الله عليكم " معناه هذا الذي يقرأ عليكم هو كتاب الله تعالى فاتبعوه ولا تخالفوه وقال الزجاج " كتاب الله عليكم " منصوب على التأكيد محمول على المعنى لأن معناه " حرمت عليكم أمهاتكم " كتب الله عليكم هذا كتابا ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر كأنه قال الزموا كتاب الله ويكون " عليكم " تفيسرا له
ثم قال تعالى " وأحل لكم ما رواء ذلكم " يقول رخص لكم ما سوى ذلكم فالله تعالى قد ذكر ما حرم في هذه الآية من قوله " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " أربع عشرة من المحرمات سبع بالنسب وسبع بالسبب ثم بين المحللات فقال " وأحل لكم ما وراء ذلكم " يعني ما سوى هذه الأربع عشرة التي ذكر في هذه الآية فلو كان الأمر على ظاهر هذه الآية لكان يجوز ما سوى ذلك إلا أنه قد جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وقال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا تنكح الأمة على الحرة فوجب اتباعه لأن الله تعالى قال " وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهكم عنه فانتهوا " الحشر 7 قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " وأحل لكم " بضم الألف وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالضم لأنه عطف على قوله " حرمت عليكم " ومن قرأ بالنصب لأنه نسق على قوله " كتاب الله عليكم "
ثم قال تعالى " أن تبتغوا بأموالكم " يعني أن تتزوجوا بأموالكم ويقال تشتروا بأموالكم الجواري ثم قال " محصنين غير مسافحين " يقول كونوا متعففين من الزنى غير زانين
ثم قال " فما استمتعتم به منهن " قال مقاتل يعني به المتعة أي فما استمتعتم منهن إلى أجل مسمى " فآتوهن أجورهن " يعني أعطوهن ما شرطتم لهن من المال وإنما كانت إباحة المتعة في بعض المغازي ثم نهي عن ذلك وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ " فما استمتعتم
(1/319)
1
320
به منهن ) إلى أجل مسمى وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها هذه الأمة ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال إنما رخص في المتعة في بعض المغازي ثم نسختها آية الطلاق والميراث والعدة
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال " فما استمتعتم به منهن " قال النكاح يعني إن تمتعتم " فآتوهن أجورهن " يعني مهورهن وقال في رواية الكلبي " فما استمتعتم به منهن " بعد النكاح فآتوهن أجورهن يعني مهورهن " فريضة " لهن عليكم وقال الضحاك " فما استمتعتم به منهن " يعني فما تزوجتم بهن فأعطوهن مهورهن
ثم قال تعالى " ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " قال بعضهم يعني المتعة قبل أن تنسخ أجاز لهما أن يتراضيا على زيادة الأجل والمال وقال بعضهم يعني المهر لا جناح على الزوجين أن يتراضيا بعد النكاح على زيادة المهر " إن الله كان عليما " فيما رخص لكم من نكاح الأجانب " حكيما " فيما حرم عليكم من ذوات المحارم
سورة النساء 25
ثم قال تعالى " ومن لم يستطع منكم طولا " أي غنى يقول من لم يجد منكم سعة في المال " إن ينكح المحصنات المؤمنات " يعني الحرائر فليتزوج " فمن ما ملكت أيمانكم " من الإماء ويقال " من لم يستطع منكم طولا " يعني من لم تكن له مقدرة على الحرة فليتزوج الأمة يعني إذا لم يكن له امرأة حرة وقد قال بعض الناس إذا كان للرجل من المال مقدار ما يمكنه أن يتزوج بالحرة لا يجوز له أن يتزوج الأمة وفي قول علمائنا يجوز إذا لم يكن عنده امرأة حرة لأنه لو صرف إلى ذلك الوجه لا يضر لأن كل مال يمكن أن يتزوج به الأمة يمكن أن يتزوج به الحرة ولكن معناه كون الحرة عنده أفضل
ثم قال تعالى " من فتياتكم المؤمنات " يعني يتزوج الأمة المسلمة وقال بعض الناس لا يجوز أن يتزوج أمة يهودية أو نصرانية لأن الله تعالى قال " من فتياتكم المؤمنات " وفي
(1/320)
1
321
قول علمائنا يجوز نكاح الأمة اليهودية والنصرانية وذكر المؤمنات ليس بشرط أنه لا يجوز غيرها وهذا بمنزلة قوله " فإن خفتم ألا تعدلوا فوحدة " النساء 3 فإن خاف ألا يعدل فيتزوج أكثر من واحدة جاز ولكن الأفضل أن لا يتزوج فكذلك هاهنا الأفضل أن لا يتزوج الأمة إلا المؤمنة ولو تزوج غير المؤمنة جاز
ثم قال تعالى " والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض " في الحقيقة وأنتم تعرفون الظاهر وليس عليكم أن تبحثوا عن الباطن وقال مقاتل في الآية تقديم وتأخير ومعناه فما ملكت أيمانكم " بعضكم من بعض " يعني يتزوج هذا وليدة هذا وهذا وليدة هذا ثم قال " والله أعلم بإيمانكم " يعني بعضكم من بعض في النسب يعني كلكم ولد آدم ولا فخر فيما بينكم ويقال دينكم واحد يعني بعضكم على دين بعض
ثم قال تعالى " فانكحوهن بإذن أهلهن " يعني الولائد بإذن أربابهن " وآتوهن أجورهن بالمعروف " يقول أعطوهن مهورهن " بالمعروف " يقول مهرا غير مهر البغي بعدما أطلق ذلك
ثم قال " محصنات " يقول عفائف " غير مسافحات " يقول غير زواني ويقال غير معلنات بالزنى " ولا متخذات أخدان " يعني أخلاء في السر لأن أهل الجاهلية كان فيهن زواني في العلانية ولهن رايات منصوبة وبعضهن اتخذن أخذانا يعني أخلاء في السر ولا يفعلن بالعلانية فنهى الله عن نكاح الفريقين جميعا فقال تزوجوا محصنات غير معلنات بالزنى ولا في السر قرأ الكسائي " محصنات " بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله " والمحصنات من النساء " وقرأ الباقون في جميع القرآن بالنصب
وقوله عز وجل " فإذا أحصن " يعني أسلمن ويقال إذا أعففن قرأ عاصم وحمزة والكسائي " فإذا أحصن " بالنصب وقرأ الباقون " فإذا أحصن " بضم الألف وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ بالنصب ومعناه إذا أسلمن وقرأ ابن عباس بالضم يعني أحصن بالأزواج " فإن أتين بفاحشة " يعني الزنى " فعليهن " يعني وجب عليهن " نصف ما على المحصنات من العذاب " يعني إذا زنت الأمة فحدها نصف حد الحرة خمسون جلدة والفائدة في نقصان حدهن والله أعلم أنهن أضعف من الحرائر فجعل عقوبتهن أقل ويقال لأنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر إلى مرادهن ويقال لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضعف لها العذاب ضعفين " سورة الأحزاب 30 فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد فكذلك الأمة لما كانت نعمتها أقل كانت عقوبتها أدنى وذكر في الآية حد الإماء خاصة ولم يذكر حد العبيد ولكن حد العبيد والإماء سواء خمسون جلدة في الزنى وفي حد القذف وشرب الخمر أربعون جلدة لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق
وذلك في العبد موجود
(1/321)
1
322
ألا ترى أنه روي وروي عن عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا حد العبد نصف حد الحر
ثم قال تعالى " ذلك " أي هذا الذي ذكر في الآية وهو رخصة نكاح الأمة " لمن خشي العنت منكم " يعني الإثم في دينه ويقال الزنى والفجور قال القتبي أصله الضر والإفساد
ثم قال تعالى " وأن تصبروا " يعني عن نكاح الإماء " خير لكم من تزوجهن لأنه لو تزوج الأمة يصير ولده عبدا وروي عن عمر أنه قال أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه يعني يصير ولده رقيقا فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق ولده وقال مجاهد " وأن تصبروا " على نكاح الأمة " خير لكم " من أن تقعوا في الفجور " والله غفور " لما أصبتم منهن قبل تحليله " رحيم " حين رخص في نكاح الأمة ويقال " رحيم " إذا لم يعجل العقوبة
سورة النساء 26 - 28
قوله تعالى " يريد الله ليبين لك