تفسير السمرقندي بحر العلوم ط الفكر 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
سورة فاتحة الكتاب مدنية وهي سبع آيات
سورة الفاتحة الآيات 1 - 7
روي عن مجاهد أنه قال سورة فاتحة الكتاب مدنية وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال هي مكية ويقال نصفها نزل بمكة ونصفها نزل بالمدينة
قال الفقيه رحمه الله حدثنا الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي قال حدثنا أبو حامد المروزي قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا عمر بن يونس قال حدثنا جهضم بن عبد الله بن العلاء عن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في كتاب الله لسورة ما أنزل الله على نبي مثلها فسأله أبي بن كعب عنها فقال ( إني لأرجو أن لا تخرج من الباب حتى تعلمها ) فجعلت أتبطأ ثم سأله أبي عنها فقال كيف تقرأ في صلاتك قال بأم الكتاب فقال والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته ) وقال بعضهم السبع المثاني هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والخمس التي بعدها وقال أكثر أهل العلم هي سورة الفاتحة وإنما سميت السبع المثاني لأنها سبع آيات وإنما سميت المثاني لأنها تثنى بقراءتها في كل صلاة وقيل إنما سماها مثاني لذكر القصص فيها مرتين
قال الفقيه رحمه الله حدثنا أبي قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن حامد الخزعوني
(1/39)
1
 
40
قال حدثنا علي بن إسحاق قال حدثنا محمد بن مروان عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس في قوله عز وجل " الحمد لله " قال الشكر لله ومعنى قول ابن عباس الشكر لله يعني الشكر لله على نعمائه كلها وقد قيل " الحمد لله " يعني الوحدانية لله وقد قيل الألوهية لله وروي عن قتادة أنه قال معناه الحمد لله الذي لم يجعلنا من المغضوب عليهم ولا الضالين ثم معنى قوله " الحمد لله " قال بعضهم قل فيه مضمر يعني قل الحمد لله وقال بعضهم حمد الرب نفسه ليعلم عباده فيحمدونه
وقال أهل اللغة الحمد هو الثناء الجميل وحمد الله تعالى هو الثناء عليه بصفاته الحسنى وربما أنعم على عباده ويكون في الحمد معنى الشكر وفيه معنى المدح وهو أعم من الشكر لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد وقال بعضهم الشكر أعم لأنه باللسان وبالجوارح وبالقلب والحمد يكون باللسان خاصة كما قال " اعملوا آل داود شكرا "
وروي عن ابن عباس أنه قال ( الحمد لله كلمة كل شاكر ) وذلك أن آدم عليه السلام قال حين عطس الحمد لله فقال الله تعالى يرحمك الله فسبقت رحمته غضبه وقال الله تعالى لنوح " فقل الحمد لله الذي نجنا من القوم الظلمين " المؤمنون 28وقال إبراهيم عليه السلام " الحمد لله الذي وهب لى على الكبر إسمعيل وإسحق " إبراهيم 39 وقال في قصة داود وسليمان " وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " النمل 15 وقال لمحمد
(1/40)
1
 
41
عليه السلام " وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا " الإسراء 111 وقال أهل الجنة " الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن " فاطر 34 فهي كلمة كل شاكر
وقوله تعالى " رب العالمين " قال ابن عباس رضي الله عنهما سيد العالمين وهو رب كل ذي روح دب على وجه الأرض ويقال معنى قوله " رب العالمين " خالق الخلق ورازقهم ومربيهم ومحولهم من حال إلى حال من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة
والرب في اللغة هو السيد قال الله تعالى " ارجع إلى ربك " يوسف 50 يعني إلى سيدك والرب هو المالك يقال رب الدار ورب الدابة والرب هو المربي من قولك ربى يربي تربية وقوله " العالمي " كل ذي روح ويقال كل من كان له عقل يخاطب مثل بني آدم والملائكة والجن ولا يقع على البهائم ولا على غيرها وروي عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم وإن دنياكم منها عالم واحد ) ويقال كل صنف عالم على حدة
قوله " الرحمن الرحيم " قال فى رواية الكلبي هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر وقال بعض أهل اللغة هذا اللفظ شنيع فلو قال هما اسمان لطيفان لكان أحسن ولكن معناه عندنا والله أعلم أنه أراد بالرقة الرحمة يقال رق فلان فلانا إذا رحمه يقال رق يرق إذا رحمه وقوله أحدهما أرق من الآخر قال بعضهم الرحمن أرق لأنه أبلغ في الرحمة لأنه يقع على المؤمنين والكافرين وقال بعضهم الرحيم أرق لأنه في الدنيا وفي الآخرة وقال بعضهم كل واحد منهما أرق من الآخر من وجه فلهذا المعنى لم يبين وقال أحدهما أرق من الآخر يعني كل واحد منهما أرق من الآخر
قوله تعالى " مالك يوم الدين " قرأ نافع وابن كثير وحمزة وأبو عمرو بن العلاء وابن عامر " ملك " بغير الألف وقرأ عاصم والكسائي بالألف " مالك " فأما من قرأ " مالك " قال لأن المالك أبلغ فى الوصف لأنه يقال مالك الدار ومالك الدابة ولا يقال ملك إلا لملك من الملوك وأما الذي قرأ ملك قال إن ملك أبلغ في الوصف لأنك إذا قلت فلان ملك ( قال إن ملك أبلغ في الوصف لأنك إذا قلت فلان ملك ) هذه البلدة يكون ذلك كناية عن الولاية دون الملك وإذا قلت فلان مالك هذه البلدة كان ذلك عبارة عن ملك الحقيقة
وروى مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر
(1/41)
1
 
42
وعثمان وعلي يفتتحون الصلاة ب " الحمد لله رب العالمين " وكلهم يقرؤون " مالك يوم الدين " بالألف
قال الفقيه رحمه الله سمعت أبي يحكي عن أبي عبد الله محمد بن شجاع البلخي يقول كنت أقرأ بحرف الكسائي " مالك يوم الدين " بالألف فقال لي بعض أهل اللغة الملك أبلغ في الوصف فأخذت بقراءة حمزة " ملك يوم الدين " فرأيت في المنام كأنه أتاني آت فقال لي لم حذفت الألف من " مالك " أما بلغك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( اقرؤوا القرآن فخما مفخما ) فلم أترك القراءة ب ملك حتى أتاني بعد ذلك آت فقال لي لم حذفت الألف من " مالك " أما بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات ) فلم نقصت من حسناتك عشرا في كل قراءة فلما أصبحت أتيت قطربا وكان إماما في اللغة فقلت له ما الفرق بين ملك ومالك فقال بينهما فرق كثير فأما ملك فهو ملك الملوك وأما مالك فهو مالك الملوك فرجعت إلى قراءة الكسائي
ثم معنى قوله " مالك " يعني قاضي وحاكم " يوم الدين " يعني يوم الحساب كما قال الله تعالى " ذلك الدين القيم " التوبة 36 وغيرها وقيل أيضا معنى يوم الدين يعني يوم القضاء كما قال الله تعالى " ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك " يوسف 76 يعني في قضائه وقيل " يوم الدين " يعني يوم الجزاء كما يقال كما تدين تدان يعني كما تجازي تجازى به فإن قيل ما معنى تخصيص يوم الدين وهو مالك يوم الدين وغيره قيل له إن في الدنيا كانوا منازعين له في الملك مثل فرعون ونمرود وغيرهما وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه وكلهم خضعوا له كما قال الله تعالى " لمن الملك اليوم " غافر 16 فأجاب جميع الخلق " لله الواحد القهار " الرعد 16 وغيرها فكذلك هاهنا قال " مالك يوم الدين " يعني
(1/42)
1
 
43
في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره
قوله تعالى ( إياك نعبد ) هو تعليم علم المؤمنين كيف يقولون إذا قاموا بين يديه في الصلاة فأمرهم بأن يذكروا عبوديتهم وضعفهم حتى يوفقهم ويعينهم فقال " إياك نعبد " أي نوحد ونطيع وقال بعضهم " إياك نعبد " يعني إياك نطيع طاعة نخضع فيها لك
قوله " وإياك تسعين " يقول بك نستوثق على عبادتك وقضاء الحقوق ففي هذا دليل على أن الكلام قد يكون بعضه على وجه المغايبة وبعضه على وجه المخاطبة لأنه افتتح السورة بلفظ المغايبة وهو قوله " الحمد لله " ثم ذكر بلفظ المخاطبة فقال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وهذا كما قال في آية أخرى " هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك " يونس 22 فذكر بلفظ المخاطبة ثم قال " وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها " يونس 22 على المغايبة ومثل هذا في القرآن كثير
قوله تعالى " اهدنا الصراط المستقيم " رويت القراءتان عن ابن كثير أنه قرأ " السراط " بالسين وروي عن حمزة أنه قرأ بالزاي وقرأ الباقون بالصاد وكل ذلك جائز لأن مخرج السين والصاد واحد وكذلك الزاي مخرجها منهما قريب والقراءة المعروفة بالصاد " أهدنا الصراط المستقيم " قال ابن عباس رضي الله عنهما " أهدنا الصراط المستقيم " يعني أرشدنا الطريق المستقيم وهو الإسلام فإن قيل أليس هذا الطريق المستقيم وهو الإسلام فما معنى السؤال قيل له الصراط المستقيم هو الذي ينتهي بصاحبه إلى المقصود فإنما يسأل العبد ربه أن يرشده الثبات على الطريق الذي ينتهي به إلى المقصود ويعصمه من السبل المتفرقة
وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال ( خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مستقيما وخط بجنبه خطوطا ثم قال إن هذا الصراط المستقيم وهذه السبل المتفرقة وعلى رأس كل طريق شيطان يدعو إليه ويقول هلم إلى الطريق ) وفي هذا نزلت هذه الآية " وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " الأنعام 153 فلهذا قال " اهدنا الصراط المستقيم " واعصمنا من السبل المتفرقة قال الكلبي أمتنا على دين الإسلام
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال " هدنا الصراط المستقيم " يعني ثبتنا عليه ومعنى قول علي ثبتنا عليه يعني أحفظ قلوبنا على ذلك ولا تقلبها بمعصيتك وهذا موافق لقوله تعالى " ويهديك صراطا مستقيما " الفتح 2 فكذلك ههنا
وقوله تعالى " صراط الذين أنعمت عليهم " يعني طريق الذين مننت عليهم فحفظت قلوبهم على الإسلام حتى ماتوا عليه وهم أنبياؤه وأصفياؤه وأولياؤه فامنن علينا كما مننت عليهم
(1/43)
1
 
44
قال الفقيه أخبرنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا عمرو بن إسماعيل بن مجالد قال حدثنا هشام بن القاسم قال حدثنا حمزة بن المغيرة عن عاصم عن أبي العالية في قوله تعالى " أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم " قال هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال عاصم فذكرت ذلك للحسن البصري فقال صدق والله أبو العالية ونصح
قوله تعالى " غير المغضوب عليهم " أي غير طريق اليهود يقول لا تخذلنا بمعصيتنا كما خذلت اليهود ولم تحفظ قلوبهم حتى تركوا الإسلام " ولا الضالين " يعني ولا النصارى يعني لم تحفظ قلوبهم وخذلتهم بمعصيتهم حتى تنصروا وقد اجمع المفسرون أن " غير المغضوب عليهم " أراد به اليهود ( والضالين ) أراد به النصارى فإن قيل أليس النصارى من المغضوب عليهم واليهود أيضا من الضالين فكيف صرف المغضوب عليهم إلى اليهود وصرف الضالين إلى النصارى قيل له إنما عرف ذلك بالخبر واستدلالا بالآية فأما الخبر فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله وهو بوادي القرى من المغضوب عليهم قال اليهود قال ومن الضالين فقال النصارى وأما الآية فلأن الله تعالى قال في قصة اليهود " فباءو بغضب على غضب " البقرة 90 وقال تعالى في قصة النصارى " ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل " المائدة 77
وقوله " آمين " ليس من السورة ولكن روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله ويأمر به ومعناه ما قال ابن عباس يعني كذلك يكون وروي عن مجاهد أنه قال هو اسم من أسماء الله تعالى ويكون معناه يا الله استجب دعاءنا وقال بعضهم هي لغة بالسريانية وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما حسدتكم النصارى في شيء كحسدهم في آمين يعني أنهم يعرفون
45
ما فيها من الفضيلة وروي عن كعب الأحبار قال " آمين " خاتم رب العالمين يختم به دعاء عباده المؤمنين وقال مقاتل هو قوة للدعاء واستنزال للرحمة وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى " آمين " قال يا رب أفعل ويقال فيه لغتان " أمين " بغير مد و " آمين " بالمد ومعناهما واحد وقد جاء في أشعارهم كلا الوجهين قال القائل
( تباعد عني فطحل إذ دعوته % آمين فزاد الله ما بيننا بعدا )
وقال الآخر
( يا رب لا تسلبني حبها أبدا % ويرحم الله عبدا قال آمينا ) و صلى الله عليه وسلم
(1/44)
1
46
سورة البقرة مدنية وهي مائتان وسبع وثمانون آية
سورة البقرة الآيات 1 - 2
قال الفقيه رحمة الله عليه حدثنا أبي رحمه الله قال حدثني محمد بن حامد قال حدثنا علي بن إسحاق قال حدثنا محمد بن مروان عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى " الم " قال أنا الله أعلم ومعنى قول ابن عباس أنا الله أعلم يعني الألف أنا واللام الله والميم أعلم لأن القرآن نزل بلغة العرب والعرب قد كانت تذكر حرفا وتريد به تمام الكلمة ألا ترى إلى قول القائل
( قلنا لها قفي فقالت قاف % لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف )
يعني بالقاف قد وقفت
وقال الكلبي هذا قسم أقسم الله تعالى بالقرآن أن هذا الكتاب الذي أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم هو الكتاب الذي نزل من عند الله تعالى لا ريب فيه وقال بعض أهل اللغة إن هذا الذي قال الكلبي لا يصح لأن جواب القسم معقود على حروف مثل إن وقد ولقد وما واللام وهنا لم نجد حرفا من هذه الحروف فلا يجوز أن يكون يمينا ولكن الجواب أن يقال موضع القسم قوله " لا ريب فيه " فلو أن إنسانا حلف فقال والله هذا الكتاب لا ريب فيه لكان الكلام سديدا وتكون " لا " جوابا للقسم فثبت أن قول الكلبي صحيح سديد فإن قيل إيش الحكمة في القسم من الله تعالى وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين مصدق ومكذب فالمصدق يصدق بغير قسم والمكذب لا يصدق مع القسم قيل له القرآن نزل بلغة العرب والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه فالله تعالى أراد أن يؤكد عليهم بالحجة فأقسم أن القرآن من عنده
(1/45)
1
 
47
وقد قيل " الم " الألف الله واللام جبريل والميم محمد صلى الله عليه وسلم ويكون معناه الله الذي أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن لا ريب فيه
وقال بعضهم كل حرف هو افتتاح اسم من أسماء الله تعالى فالألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف الميم مفتاح اسمه مجيد ويكون معناه الله اللطيف المجيد أنزل الكتاب
وروي عن محمد بن علي الترمذي الحكيم أنه قال إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي ثم بين ذلك في جميع السور ليفقه الناس وروي عن الشعبي أنه قال إن لله تعالى سرا خفيا جعله في كتبه وإن سره في القرآن هو الحروف المقطعة وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر وعن علي رضي الله عنه أنه قال ( هو اسم من أسماء الله تعالى فرقت حروفه في السور ) يعني أن هاهنا قد ذكر " الم " وذكر " الر " في موضع آخر " حم " في موضع آخر " نون " في موضع آخر فإذا جمع يكون " الرحمن " كذلك سائر الحروف إذا جمع يصير اسما من أسماء الله
وذكر عن قطرب أنه قال المشركون كانوا لا يسمعون القرآن كما قال الله تعالى " والغوا فيه لعلكم تغلبون " فصلت 26 فأراد أن يسمعهم شيئا لم يكونوا سمعوه ليحملهم ذلك على الاستماع حتى يلزمهم الحجة وقال بعضهم إن المشركين كانوا يقولون لا نفقه هذا القرآن لأنهم قالوا " قلوبنا في أكنة " فصلت 5 فأراد الله أن يبين لهم أن القرآن مركب على الحروف التي ركبت عليها ألسنتكم فما لكم لا تفقهون وإنما أراد بذكر بعض الحروف تمام الحروف كما أن الرجل يقول علمت ولدي ألف باء تاء ثاء وإنما يريد جميع الحروف ولم يرد به الحروف الأربعة خاصة
وقال بعضهم هو شعار السور وكان اليهود أعداء الله فسروه على حروف الجمل لأنه ذكر أن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن الأخطب ومالك بن الضيف وشعبة بن عمرو دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا بلغنا أنك قرأت " الم ذلك الكتاب " فإن كنت صادقا فيكون بقاء أمتك إحدى وسبعين سنة لأن
(1/46)
1
48
الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا له وهل غير هذا قال نعم " المص " فقالوا هذا أكثر لأن " ص " تسعون فقالوا هل غير هذا قال نعم " الر " فقالوا هذا أكثر لأن الراء مائتان ثم ذكر " المر " فقالوا خلطت علينا يا محمد لا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير وإنما أدركوا من القرآن مقدار عقولهم وكل إنسان يدرك العلم بمقدار عقله وكل ما ذكر في القرآن من الحروف المقطعة فتفسيره نحو ما ذكرنا ها هنا والله أعلم بالصواب
قوله تعالى " ذلك الكتاب " يعني هذا الكتاب " لا ريب فيه " أي لا شك فيه أنه مني لم يختلقه محمد من تلقاء نفسه وقد يوضع " ذلك " بمعنى هذا كما قال القائل
( أقول له والرمح يأطر متنه % تأمل خفافا أنني أنا ذلكا )
يعني هذا وقال بعضهم معناه ذلك الكتاب الذين كنت وعدتك يوم الميثاق أن أوحيه إليك وقال بعضهم معناه ذلك الكتاب الذي وعدت في التوراة والإنجيل أن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
وروي عن زيد بن أسلم أنه قال أراد بالكتاب اللوح المحفوظ يعني الكتاب الذي ثبت في اللوح المحفوظ
وقوله " لا ريب فيه " يعني أنه لا شك فيه أنه من الله تعالى ولم يختلقه محمد صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه فإن قيل كيف يجوز أن يقال " لا شك فيه " وقد شك فيه كثير من الناس وهم الكفار والمنافقون قيل معناه " لا شك فيه " عند المؤمنين وعند العقلاء وقيل " لا شك فيه " أي لا ينبغي أن يشك فيه لأن القرآن معجز فلا ينبغي أن يشك فيه أنه من الله تعالى
وقوله عز وجل " هدى للمتقين " يعني بيانا من الضلالة للمتقين الذين يتقون الشرك والكبائر والفواحش فهذا القرآن بيان لهم من الضلالة وبيان لهم من الشبهات وبيان الحلال من الحرام فإن قيل فيه بيان لجميع الناس فكيف أضاف إلى المتقين خاصة قيل له لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان ويعملون به فإذا كانوا هم الذين ينتفعون به صار في الحاصل البيان لهم روي عن أبي روق أنه قال " هدى للمتقين " أي كرامة لهم يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم
سورة البقرة آية 3
(1/47)
1
49
قوله تعالى " الذين يؤمنون بالغيب " يعني يصدقون بالغيب والغيب هو ما غاب عن العين وهو محضر في القلب وإنما أراد به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن تابعهم إلى يوم القيامة أنهم يصدقون بغيب القرآن أنه من الله تعالى فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويقال يؤمنون بالغيب يعني بالله تعالى
قال حدثنا القاضي الخليل بن أحمد قال حدثنا الديبلي قال حدثنا أبو عبيد الله قال حدثنا سفيان الثوري قال حدثنا أصحابنا عن الحرث بن قيس أنه قال لعبد الله بن مسعود نحتسب لكم يا أصحاب محمد ما سبقتمونا إليه من رؤية محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته فقال عبد الله بن مسعود ونحن نحتسب لكم إيمانكم به ولم تروه وأن أفضل الإيمان إيمان بالغيب ثم قرأ عبد الله " الذين يؤمنون بالغيب " وقد قيل " يؤمنون بالغيب " يعني يصدقون بالبعث بعد الموت
قوله " ويقيمون الصلاة " يعني يحافظون على الصلوات الخمس بمواقيتها وركوعها وسجودها والتضرع بعدها وقد قيل معناه يقيمون الصلاة أي يديمون الصلاة بمعنى المداومة وقد قيل إن العبد إذا صلى صلاة تقبل منه خلق الله تعالى منها ملكا يقوم ويصلي لله تعالى إلى يوم القيامة وثوابه لصاحب الصلاة فهذا معنى قوله " ويقيمون الصلاة "
وقوله تعالى " ومما رزقناهم ينفقون " أي يتصدقون قال الكلبي وهو زكاة المال وروى أسباط عن السدي عن أصحابه قال هي نفقة الرجل على أهله وهذا قبل نزول آية الزكاة ويقال يعني يتصدقون صدقة التطوع ويقال هي عليهما جميعا الفريضة والتطوع
سورة البقرة الآيات 4 - 5
قوله تعالى " والذين يؤمنون بما أنزل إليك " يعني بالقرآن قوله " وما أنزل من قبلك " يعني التوراة والإنجيل وسائر الكتب ويقال لما نزلت هذه الآية " الذين يؤمنون بالغيب " قالت اليهود والنصارى نحن آمنا بالغيب فلما قال " ويقيمون الصلاة " قالوا نقيم الصلاة فلما قال " ومما رزقناهم ينفقون " قالوا ننفق ونتصدق فلما قال " والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " نفروا من ذلك
(1/48)
1
50
وقوله " وبالآخرة هم يوقنون " يعني يقرون بيوم القيامة والجنة والنار والبعث والحساب والميزان واليقين على ثلاثة أوجه يقين عيان ويقين خبر ويقين دلالة فأما يقين العيان إذا رأى شيئا زال الشك عنه في ذلك الشيء وأما يقين الدلالة فهو أن يرى دخانا يرتفع من موضع يعلم باليقين أن هناك نارا وإن لم يرها وأما يقين الخبر فإن الرجل يعلم باليقين أن في الدنيا مدينة يقال لها بغداد وإن لم يكن يعاينها فها هنا يقين خبر ويقين دلالة أن الآخرة حق ولكن تصير معاينة عند الرؤية
قوله تعالى " أولئك على هدى من ربهم " يعني أهل هذه الصفة الذين سبق ذكرهم على بيان من الله تعالى يعني أكرمهم الله تعالى في الدنيا حيث هداهم وبين لهم طريقهم
وقوله تعالى " وأولئك هم المفلحون " في الآخرة يعني هم الناجون يعني أن الله تعالى أكرمهم في الدنيا بالبيان وفي الآخرة بالنجاة وقد قيل الفلاح هو البقاء في النعمة وقد قيل الفلاح إذا بلغ الإنسان نهاية ما يأمل ويقال معناه قد وجدوا ما طلبوا ونجوا من شر ما هربوا منه وكل ما في القرآن " المفلحون " فتفسيره هكذا
سورة البقرة آية 6
قوله تعالى " إن الذين كفروا " " إن " هاهنا للتأكيد وهو حرف من حروف القسم والكفر في اللغة هو الستر يقال ليلة كافرة إذا كانت شديدة الظلمة وإنما سمي الكافر كافرا لأنه يستر نعمة الله تعالى
وقوله عز وجل " سواء عليهم أأنذرتهم " قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي بهمزتين " أأنذرتهم " وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر في رواية هشام بهمزة واحدة مع المد " آنذرتهم " وتفسير القراءتين لا يختلف قال مقاتل نزلت هذه الآية في مشركي قريش منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل وغيرهم وقال الكلبي نزلت في رؤساء اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب قال الكلبي وليس هو بأخي حيي وقال بعضهم هو أخو حيي دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم حيث سألوه عن " الم " و " المص " خرجوا من عنده فنزل قوله " إن الذين كفروا " يعني جحدوا القرآن
" سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " يعني خوفتهم أو لم تخوفهم " لا يؤمنون " أي لا
(1/49)
1
51
يصدقون فإن قيل إذا علم أنهم لا يؤمنون فما معنى دعوتهم إلى الإسلام قيل له لان في الدعوة زيادة الحجة عليهم كما أن الله تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإسلام وعلم أنه لا يؤمن وجواب آخر أن الآية خاصة وليست بعامة وإنما أراد به بعض الكفار الذين ثبتوا على كفرهم كما روي عن صفية بنت حيي بن أخطب قالت رجع أبي وعمي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما لصاحبه ما ترى في هذا الرجل فقال إنه نبي فقال ما رأيك في اتباعه فقال رأيي أن لا أتبعه وأن أظهر له العداوة إلى الموت فأنزلت هذه الآية في شأن مثل هؤلاء الذين قد ظهر لهم الحق وكانوا لا يؤمنون فقال " أأنذرتهم أم لم تنذرهم " وأصل الإنذار هو الإعلام يعني خوفتهم بالنار وأعلمتهم بالعذاب أو لم تعلمهم فهو سواء ولا يصدقونك
سورة البقرة آية 7
قوله تعالى " ختم الله على قلوبهم " قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني طبع الله ومعنى الختم على القلوب ليس أنه يذهب بعقولهم ولكنهم لا يتفكرون فيعتبرون بعلامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيؤمنون " وعلى سمعهم " يعني لا يسمعون الحق " وعلى أبصارهم غشاوة " يعني غطاء فلا يبصرون الهدى واتفقت الأئمة السبعة على رفع الهاء " غشاوة " وقرأ بعضهم بنصب الهاء " غشاوة " وهي قراءة شاذة فأما من قرأ برفع الهاء فهو على معنى الابتداء يعني ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ثم ابتدأ فقال " وعلى أبصارهم غشاوة " وأما من قرأ بالنصب فيكون الجعل فيه مضمرا يعني جعل على أبصارهم غشاوة فقد ذكر في شأن المؤمنين ثوابهم في الدنيا الهدى وفي الآخرة الفلاح وذكر في شأن الكفار عقوبتهم في الدنيا الختم وفي الآخرة كما قال تعالى " ولهم عذاب عظيم " يعني عذابا وجيعا يخلص وجعه إلى قلوبهم
قال الفقيه رحمه الله وفي الآية إشكال في موضعين أحدهما في اللفظ والآخر في المعنى فأما في اللفظ قال " ختم الله على قلوبهم " ذكر جماعة القلوب ثم قال " وعلى سمعهم " ذكر بلفظ الوحدان ثم قال " وعلى أبصارهم " ذكر بلفظ الجمع فجوابه أن السمع مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع فلهذا ذكر بلفظ الوحدان والله أعلم وقد قيل " وعلى سمعهم " يعني موضع سمعهم لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضعه وقد قيل إن الإضافة إلى الجماعة تغني عن لفظ الجماعة لأنه قال " وعلى سمعهم " فقد أضاف إلى الجماعة والشيء إذا أضيف إلى الجماعة مرة يذكر بلفظ الجماعة ومرة يذكر بلفظ الوحدان فلو ذكر القلوب والأبصار بلفظ الوحدان لكان سديدا في اللغة فذكر البعض بلفظ الوحدان وذكر البعض بلفظ الجماعة وهذه علامة الفصاحة لأن كتاب الله تعالى أفصح الكلام
(1/50)
1
52
وأما الإشكال الذي في المعنى أن يقال إذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة والجواب عن هذا أن يقال إن ختم الله مجازاة لكفرهم كما قال فى آية أخرى " بل طبع الله عليها بكفرهم " النساء155 لأن الله تعالى قد يسر عليهم السبيل فلو جاهدوا لوفقهم كما قال في آية أخرى " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " العنكبوت 69 فلما لم يجاهدوا واختاروا الكفر عاقبهم الله تعالى في الدنيا بالختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم وفي الآخرة بالعذاب العظيم
وروي عن مجاهد أنه قال من أول سورة البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين وروي عن مقاتل أنه قال آيتان من أول السورة في نعت المؤمنين المهاجرين وآيتان في نعت مؤمني أهل الكتاب وآيتان في نعت الكفار وثلاث عشرة آية في نعت المؤمنين غير المهاجرين وآيتان في نعت المنافقين من قوله " ومن الناس " إلى قوله " إن الله على كل شيء قدير "
سورة البقرة آية 8
قوله تعالى " ومن الناس من يقول آمنا بالله " قوله " من " للتبعيض فإنه أراد به بعض الناس ولم يرد به جميع الناس فكأنه قال بعض الناس يقولون آمنا بالله وقد قيل معناه ومن الناس ناس يقولون آمنا بالله يعني صدقنا بالله وصدقنا " وباليوم الآخر وبالبعث بعد الموت " وما هم بمؤمنين " يعني ليسوا بمصدقين بل هم منافقون منهم عبد الله بن أبي بن سلول ومعتب بن قشير وجد بن قيس ومن تابعهم من المنافقين وفي هذه الآية دليل على أن القول بغير تصديق القلب لا يكون إيمانا لأن المنافقين كانوا يقولون بألسنتهم ولم يكن لهم تصديق القلب فنفى الله الإيمان عنهم فقال " وما هم بمؤمنين "
سورة البقرة آية 9 " قوله تعالى " يخادعون الله " وأصل الخداع في اللغة الستر يقال للبيت الذي يخزن فيه المال مخدع والعرب تقول انخدعت الضب في جحرها فكان المنافقون يظهرون الإيمان ويسترون نفاقهم وكفرهم فقال " يخادعون الله والذين آمنوا " يعني يكذبون ويخالفون الله والذين آمنوا ويقال يظنون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا لأنه قد بين في سياق الآية حيث قال " وما يخدعون إلا أنفسهم " وروى عن الأخفش أنه قال اجترؤوا على الله حتى
(1/51)
1
53
ظنوا أنهم يخادعون الله وقال بكر بن جريج يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وأنفسهم ويقال يظهرون غير ما في أنفسهم وهذا موافق لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( علامة المنافق ثلاث إذا وعد أخلف وإذا أوتمن خان وإذا حدث كذب )
وقوله " وما يخدعون إلا أنفسهم " قرأ أهل الكوفة حمزة وعاصم والكسائي " وما يخدعون " بغير ألف وقرأ الباقون " وما يخادعون " بالألف وتفسير القراءتين واحد يعني وبال الخداع يرجع إليهم يضر بأنفسهم
وقوله " وما يشعرون " قال الكلبي يعني وما يعلمون أن الله يطلع نبيه على كذبهم وقال بعضهم معناه وما يشعرون أن وبال الخداع يرجع إليهم
سورة البقرة آية 10
قوله تعالى " في قلوبهم مرض " يعني شكا ونفاقا وظلمة وضعفا لأن المريض يكون فيه فترة ووهن والشاك أيضا في أمره فترة وضعف وعبر بالمرض عن الشك لأن المنافقين فيهم ضعف ووهن ألا ترى إلى قوله تعالى " يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو " المنافقون4 ويقال إن المريض يعرض للهلاك فسمي النفاق مرضا لأن النفاق يهلك صاحبه
ثم قال تعالى " فزادهم الله مرضا " وهذا اللفظ يحتمل معنين يحتمل الخبر عن الماضي ويحتمل الدعاء فإن كان المراد به الخبر فمعناه في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا إلى مرضهم كما قال آية أخرى " فزادتهم رجسا إلى رجسهم " التوبة 125 لأن كل سورة نزلت يشكون فيها فكان ذلك زيادة المرض لهم وللمؤمنين زيادة اليقين وإن كان المراد به الدعاء فمعناه فزادهم الله مرضا على مرضهم على وجه الذم والطرد لهم كما قال في آية أخرى " قتلهم الله " التوبة 30 فإن قيل كيف يجوز أن يحمل على وجه الدعاء وإنما يحتاج إلى الدعاء عند العجز قيل له هذا تعليم من الله تعالى أنه يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم لأنهم شر خلق الله تعالى ولأنه وعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار
ثم قال " ولهم عذاب أليم " يعني مؤلما أي عذاب وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم
قوله " بما كانوا يكذبون " يعني مجازاة لتكذيبهم
(1/52)
1
54
قرأ حمزة وابن عامر " فزادهم الله " بكسر الزاي وهي لغة لبعض العرب وقرأ أبو عمرو وعاصم بالفتح وهي اللغة الظاهرة وقرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي " يكذبون " بتخفيف الذال وقرأ الباقون بتشديد الذال فمن قرأ بالتخفيف معناه بما كانوا يكذبون بقولهم إنهم مؤمنون وجحدوا في السر لأنهم كفروا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم في السر ومن قرأ بالتشديد فمعناه بما كانوا يكذبون يعني ينسبون محمدا إلى الكذب ويجحدون نبوته
سورة البقرة آية 11
قوله " وإذا قيل " قرأ الكسائي برفع القاف " قيل لهم " وكذلك كل ما ذكر في القرآن قيل وغيض وسيء وحيل وسيق وقرأ حمزة وعاصم وغيرهما بكسر القاف وأصله في اللغة قول مع الواو فحذفت الواو للتخفيف فجعل الكسائي الرفع مكان الواو وقرأ غيره بالكسر للتخفيف
والآية نزلت في شأن المنافقين " وإذا قيل لهم " يعني المنافقين " لا تفسدوا في الأرض " يعني لا تعملوا فيها بالمعاصي وهو الفساد لأن الأرض كانت قبل أن يبعث النبي فيها الفساد وكان يعمل فيها بالمعاصي فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع الفساد وصلحت الأرض فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها كما قال في آية أخرى " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " الأعراف 56و85
" قالوا إنما نحن مصلحون " يعني نعمل بالطاعة ولا نعمل بالفساد وقد قيل معناه " لا تفسدوا في الأرض " يعني لا تداهنوا بين الناس ولا تعملوا بالمداهنة " قالوا إنما نحن مصلحون " يعني لا نعادي الكفار ولا المؤمنين حتى لو كانت الغلبة للمؤمنين أو للكفار لا يصيبنا من دائرتهم شيء
سورة البقرة آية 12
قال الله تعالى " ألا إنهم هم المفسدون " في الأرض وليسوا بمصلحين لأن عداوتهم مع الفريقين لأن كل فريق منهم يعلم أنهم ليسوا معهم وقد قيل معناه لا تفسدوا في الأرض بتفريق الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم يعني لا تصرفوا الناس عن دينه " قالوا إنما نحن مصلحون " بتفريقنا عن محمد صلى الله عليه وسلم " ألا إنهم هم المفسدون " ألا كلمة تنبيه فنبه المؤمنين وأعلمهم نفاقهم فكأنه قال ألا أيها المؤمنون اعلموا أنهم هم المفسدون العاصون ويكون تكرار كلمة " هم " على وجه التأكيد والعرب إذا كررت الكلام تريد به التأكيد ثم قال تعالى " ولكن لا يشعرون " أنهم مفسدون
سورة البقرة آية 13
(1/53)
1
55
قوله تعالى " وإذا قيل لهم آمنوا كما ءامن الناس " قال في ورواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما إن هذه الآية نزلت في شأن اليهود " وإذا قيل لهم " يعني اليهود " آمنوا كما آمن الناس " يعني عبد الله بن سلام وأصحابه " قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء " يعني الجهال الخرقى قال الله تعالى " ألا إنهم هم السفهاء " يعني الجهال الخرقى بتركهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم " ولكن لا يعلمون " أنهم السفهاء
وقال مقاتل نزلت هذه الآية في شأن المنافقين وهكذا قال مجاهد ومعناه " وإذا قيل لهم " يعني للمنافقين " آمنوا " يعني صدقوا بقلوبكم كما صدق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " قالوا : أنؤمن " يعني أنصدق كما صدق الجهال قال الله تعالى " ألا إنهم هم السفهاء " يعني الجهال بتركهم التصديق في السر ولكن لا يعلمون أنهم جهال
سورة البقرة آية 14
قوله تعالى " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا " هذه الآية نزلت في ذكر المنافقين منهم عبد الله بن أبي بن سلول وجد بن قيس ومعتب بن قشير وغيرهم وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم مروا بقوم من المنافقين فقال عبد الله بن أبي لأصحابه انظروا كيف أرد هؤلاء الجهال عنكم فتعلموا مني كيف أكلمهم فأخذ بيد أبي بكر وقال مرحبا بسيد بني تميم وثاني اثنين وصاحبه في الغار وصفيه من أمته الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد عمر قال مرحبا بسيد بني عدي القوي في أمر الله تعالى الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد علي فقال مرحبا بسيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الباذل نفسه ودمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابق إلى الهجرة فقال له علي ( اتق الله يا عبد الله ولا تنافق فإن المنافقين شر خليقة الله تعالى ) قال فلم تقول لي هكذا وإيماني كإيمانكم وتصديقي كتصديقكم ثم افترقوا فقال عبد الله لأصحابه كيف رأيتم ردي بهؤلاء عنكم فقالوا له لا نزال بخير ما عشت لنا فنزلت الآية " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا " يعني إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم
وقوله تعالى " وإذا خلوا إلى شياطينهم " قال الكلبي يعني إلى كهنتهم وهم خمسة رهط من اليهود ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان منهم كعب بن الأشرف بالمدينة وأبو بردة الأسلمي في بني سليم وأبو السواد بالشام وعبد الدار من جهينة وعوف بن مالك من بني
(1/54)
1
56
أسد ويقال " وإذا خلوا إلى شياطينهم " يعني إلى رؤسائهم في الضلالة وقال أبو عبيدة كل عات متمرد فهو شيطان ثم قال تعالى " قالوا إنا معكم " على دينكم " إنما نحن مستهزئون " بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم
سورة البقرة آية 15
قال الله تعالى " الله يستهزئ بهم " يعني يجازيهم جزاء الاستهزاء وفي رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ( أن الاستهزاء أن يفتح لهم وهم في جهنم باب من الجنة فيقبلون ويسبحون في النار والمؤمنون على الأرائك ينظرون إليهم فإذا انتهوا إلى الباب سد عليهم وفتح لهم باب آخر في مكان آخر والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون ) كما قال في آية أخرى " فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون " المطففين 34 الآية وقال مقاتل الاستهزاء ما ذكره الله تعالى في سورة الحديد " يوم يقول المنافقون والمنفقات للذين ءامنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا " الحديد13 فهذا استهزاء بهم
ثم قال تعالى " و يمدهم في طغيانهم يعمهون " يعني يتركهم في ضلالتهم يتحيرون ويترددون عقوبة لهم لاستهزائهم
سورة البقرة آية 16
وقوله تعالى " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " يعني اختاروا الكفر على الإيمان وفي الآية دليل أن الشراء قد يكون بالمعنى دون اللفظ وهو المبادلة لأن الله تعالى سمى استبدالهم الضلالة بالهدى شراء ولم يكن هنالك لفظ شراء
وقوله " فما ربحت تجارتهم " فقد أضاف الربح إلى التجارة على وجه المجاز والعرب تقول ربحت تجارة فلان وخسرت تجارة فلان وإنما يريدون به أنه ربح في تجارته وخسر في تجارته والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب على ما يتعارفون فيما بينهم قال " فما ربحت تجارتهم " يعني فما ربحوا في تجارتهم
وقوله تعالى " وما كانوا مهتدين " قال بعضهم معناه وما هم بمهتدين في الحال كقوله تعالى " كيف نكلم من كان فى المهد صبيا " مريم 29 يعني من هو في المهد في الحال وقال بعضهم معناه " وما كانوا مهتدين " من قبل لأنهم لو كانوا مهتدين من قبل لوفقهم الله تعالى في الحال ولكن لما لم يكونوا مهتدين من قبل خذلهم الله تعالى مجازاة لأفعالهم الخبيثة
(1/55)
1
57
سورة البقرة آية 17
قوله تعالى " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " روى معاوية بن طلح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين هم حوالي المدينة فقال " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت " يعني كمثل من كان في المفازة في الليلة المظلمة وهو يخاف السباع فأوقد نارا فأمن بالنار من السباع " فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم " طفئت ناره وبقي في ظلمة كذلك اليهود الذين كانوا حوالي المدينة كانوا يقرون بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج وكانوا إذا حاربوا أعداءهم من المشركين يستنصرون باسمه ويقولون بحق نبيك محمد أن تنصرنا فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة حسدوه وكذبوه وكفروا به فطفئت نارهم وبقوا في ظلمات الكفر
وقال مقاتل نزلت في المنافقين يقول مثل المنافق مع النبي صلى الله عليه وسلم كمثل رجل في مفازة فأوقد نارا ليأمن بها على نفسه وعياله وماله فكذلك المنافق يتكلم بلا إله إلا الله مراءاة للناس فيأمن بها على نفسه وعياله وماله ويناكح مع المسلمين فكان له نورا بمنزلة المستوقد النار يمشي في ضوئها ما دامت ناره تتقد فلما أضاءت النار أبصر ما حوله بنورها وذهب نورها فبقي في ظلمة
قوله تعالى " ذهب الله بنورهم " أي يذهب الله بنور الإيمان الذي يتكلم به " وتركهم في ظلمات لا يبصرون " الهدى فكذلك المنافق إذا بلغ آخر عمره بقي في ظلمة كفره وهكذا فسر قتادة والقتبي وغيرهما
سورة البقرة آية 18
ثم قال عز وجل " صم بكم عمي فهم لا يرجعون " وقي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صما بكما عميا وإنما جعلها نصبا لوقوع الفعل عليها يعني وتركهم صما بكما عميا وقرأ غيره " صم بكم عمي " وتفسير الآية أنهم يتصاممون حيث لم يسمعوا الحق ولم يتكلموا بالحق ولم يبصروا العبرة والهدى فكأنهم صم بكم عمي ولأن الله تعالى خلق السمع والبصر واللسان لينتفعوا بهذه الأشياء فإذا لم ينتفعوا بالسمع والبصر صار كأن
(1/56)
1
 
58
السمع والبصر لم يكن لهم كما أن الله تعالى سمى الكفرة موتى حيث قال تعالى " أو من كان ميتا فأحييناه " الأنعام 122 يعني كافرا فهديناه وإنما سماهم موتى والله أعلم لأنه لا منفعة لهم في حياتهم فكأن تلك الحياة لم تكن لهم فكذلك السمع والبصر واللسان إذا لم ينتفعوا بها فكأنها لم تكن لهم وكأنهم " صم بكم عمي فهم لا يرجعون " يعني لا يرجعون إلى الهدى
وقال القتبي معنى قوله " وتركهم في ظلمات " قال الظلمة الأولى كانت ظلمة الكفر واستيقادهم النار قول لا إله إلا الله وإذا خلوا إلى شياطينهم فنافقوا وقالوا " إنا معكم إنما نحن مستهزءون " البقرة 14 فسلبهم نور الإيمان وبقوا في ظلمة الكفر " وتركهم في ظلمات لا يبصرون "
سورة البقرة آية 19
قوله تعالى " أو كصيب من السماء فيه ظلمات " يعني كمطر نزل من السماء فضرب لهم الله تعالى مثلا آخر لأن العرب كانوا يوضحون الكلام بذكر الأمثال فالله تعالى ضرب لهم الأمثال ليوضح عليهم الحجة فضرب لهم مثلا بالمستوقد النار ثم ضرب لهم مثلا آخر بالمطر فإن قيل كلمة " أو " إنما تستعمل للشك فما معنى " أو " ها هنا فقيل له " أو " قد تكون للتخيير فكأنه قال إن شئتم فاضربوا لهم مثلا بالمستوقد النار وإن شئتم فاضربوا لهم المثل بالمطر فأنتم مصيبون في ضرب المثل في الوجهين جميعا وهذا كما قال في آية أخرى " أو كظلمات في بحر لجي " النور 40 فكذلك ها هنا " أو " للتخيير لا للشك وقد قيل " أو " بمعنى الواو يعني وكصيب من السماء معناه مثلهم كرجل في مفازة في ليلة مظلمة فنزل مطر من السماء وفي المطر ظلمات " ورعد وبرق " والمطر هو القرآن لأن في المطر حياة الخلق وإصلاح الأرض فكذلك القرآن فيه هدى للناس وبيان من الضلالة وإصلاح الأرض فلهذا المعنى شبه القرآن بالمطر والظلمات هي الشدائد والمحن التي تصيب المسلمين والشبهات التي في القرآن والرعد هو الوعيد الذي ذكر للكفار والمنافقين في القرآن والبرق ما ظهر من علامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودلائله
وقوله تعالى " ويجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق " يعني يتصاممون عن استماع الحق ( حذر الموت ) يعني لحذر الموت والكلام إنما ينصب لنزع الخافض مثل قوله " واختار موسى قومه " الأعراف 155 أي من قومه فكذلك هاهنا " حذر الموت " يعني لحذر الموت ومعناه مخافة أن ينزل في القرآن شيء يظهر حالهم كما قال في آية أخرى
(1/57)
1
 
59
" نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا " التوبة 127 قال بعضهم في الآية مضمر ومعناها يجعلون أصابعهم في آذانهم من الرعد ويغمضون أعينهم من الصواعق وقال أهل اللغة الصاعقة صوت ينزل من السماء فيه نار فمن قال بهذا القول لا يحتاج إلى الإضمار في الآية يجعلون أصابعهم في آذانهم من خوف الصاعقة
ثم قال " والله محيط بالكافرين " يعني عالم بأعمالهم والإحاطة هي إدراك الشيء بكماله والله أعلم
سورة البقرة آية 20
قوله تعالى " يكاد البرق يخطف أبصارهم " يعني ضوء البرق يذهب ويختلس بنوره أبصارهم من شدة ضوء البرق فكذلك نور الإيمان من المنافق يكاد يغشى على الناس كفره في سره حتى لا يعلموا كفره وقد قيل معناه يكاد أن يظهر عليهم نور الإسلام فيثبتون على ذلك
ثم قال " كلما أضاء لهم مشوا فيه " يعني كلما لمع البرق في الليلة المظلمة مضوا فيه " وإذا أظلم عليهم " يعني إذا ذهب ضوء البرق " قاموا " متحيرين فكذلك المنافق إذا تكلم بلا إله إلا الله يمضي مع المؤمنين ويمنع بها من السيف فإذا مات بقي متحيرا نادما ويقال معناه " كلما أضاء لهم مشوا فيه " البقرة 20 يعني كلما ظهر لهم دليل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وظهرت لهم علاماته مالوا إليه " وإذا أظلم عليهم " يعني أصابت المسلمين محنة كما أصابتهم يوم أحد وكما أصابتهم يوم بئر معونة " قاموا " أي ثبتوا على كفرهم
وروي أسباط عن السدي أنه قال كان رجلان من المنافقين هربا من المدينة إلى المشركين فأصابهما المطر الذي ذكر الله فيه ظلمات ورعد وبرق كلما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما فإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لمع يلمع لم يبصرا فقاما مكانهما فجعلا يقولان يا ليتنا لو أصبحنا فنأتي محمدا صلى الله عليه وسلم فنضع أيدينا في يده فأصبحا فأتياه فأسلما وحسن إسلامهما فضرب الله تعالى بشأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين كانوا بالمدينة
ثم قال تعالى " ولو شاء الله لذهب بسمعهم " قال بعضهم " بسمعهم " الظاهر الذي في الرأس " وأبصارهم " التي في العين كما ذهب بسمع قلوبهم وأبصار قلوبهم عقوبة لهم وقد قيل معناه ولو شاء لجعلهم صما وعميا في الحقيقة كما جعلهم صما وعميا في الحكم فقد قيل " ولو شاء الله " لجعلهم صما وعميا في الآخرة كما جعلهم في الدنيا وروي في إحدى
(1/58)
1
 
60
الروايتين عن ابن عباس أنه قال هذا من المكتوم الذي لا يفسر ثم قال تعالى " إن الله على كل شيء قدير " من العقوبة وغيرها
سورة البقرة آية 21
قوله تعالى " يأيها الناس اعبدوا ربكم " يعني أطيعوا ربكم ويقال وحدوا ربكم وهذه الآية عامة وقد تكون كلمة " يا أيها الناس " خاصة لأهل مكة وقد تكون عامة لجميع الخلق فهاهنا " يا أيها الناس " لجميع الخلق يقول للكفار وحدوا ربكم ويقول للعصاة أطيعوا ربكم ويقول للمنافقين أخلصوا دينكم معرفة ربكم ويقول للمطيعين اثبتوا على طاعة ربكم واللفظ يحتمل هذه الوجوه كلها وهو من جوامع الكلم واعلم أن النداء في القرآن على ستة مراتب نداء مدح ونداء ذم ونداء تنبيه ونداء إضافة ونداء نسبة ونداء تسمية فأما نداء المدح فمثل قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا " " يا أيها النبي " " يا أيها الرسل " ونداء الذم مثل قوله تعالى " يا أيها الذين كفروا " " يا أيها الذين هادوا " ونداء التنبيه مثل قوله تعالى " يا أيها الإنسان " " يا أيها الناس " ونداء الإضافة مثل قوله تعالى " يا عبادي " ونداء النسبة مثل قوله تعالى " يا بني آدم " " يا بني إسرائيل " ونداء التسمية مثل قوله تعالى " يا عبادي " ونداء النسبة مثل قوله تعالى " يا بني آدم " " يا بني إسرائيل " ونداء التسمية مثل قوله تعالى " يا داود " " يا إبراهيم " والنداء السابع نداء التعنيف مثل قوله تعالى " يا أهل الكتاب " فهاهنا ذكر نداء التنبيه فقال " يا أيها الناس " أخبر بالنداء أنه يريد أن يأمر أمرا أو ينهى عن شيء ثم بين الأمر فقال " اعبدوا ربكم " يعني وحدوا وأطيعوا ربكم " الذي خلقكم " معناه أطيعوا ربكم الذي هو خالقكم فخلقكم ولم تكونوا شيئا " والذين من قبلكم " يعني وخلق الذين من قبلكم " لعلكم تتقون " المعصية وتنجون من العقوبة
سورة البقرة آية 22
قوله تعالى " الذي جعل لكم الأرض فراشا " معناه اعبدوا ربكم الذي خلقكم و " جعل لكم الأرض فراشا " يعني مهادا وقرارا وقال أهل اللغة الأرض بساط العالم وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال ( إنما سميت الأرض أرضا لأنها تأرض ما في بطنها ) يعني تأكل ما فيها وقال بعضهم لأنها تتأرض بالحوافر والأقدام " والسماء " في اللغة ما علاك وأظلك يعني اذكروا الله بهذه النعم واعبدوه واعرفوا شكر هذه النعم حيث جعل لكم الأرض فراشا والسماء " بناء " يعني سقفا قال ابن عباس رضي الله عنه في رواية الكلبي ( كل سماء مطبقة على الأخرى مثل القبة وسماء الدنيا ملتزقة أطرافها على الأرض ) ويقال " والسماء بناء " يعني مرتفعا
(1/59)
1
 
61
ثم قال " وأنزل من السماء ماء " يعني المطر " فأخرج به " يعني أنبت بالمطر " من الثمرات رزقا لكم " يعني من ألوان الثمار " رزقا " يعني طعاما لكم
وقوله تعالى " فلا تجعلوا لله أندادا " يعني لا تقولوا له شركاء " وأنتم تعلمون " وأنه خالق هذه الأشياء وغيره لا يستطيع أن يخلق شيئا من هذه الأشياء ويقال كل شيء في هذه الدنيا فيه دلالة على كونه الخالق من أربعة أوجه فوجود هذه الأشياء وكونها يدل على كون الصانع واستقامتها يدل على توحيده وهو استقامة الليل والنهار والشتاء والصيف وخروج الثمرات وحدوث كل شيء في وقته لأن المدبر لو كان اثنين لم تكن على الاستقامة كما قال في آية أخرى " لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا " الأنبياء 22 وتجانسها يدل على أن الخالق واحد عالم حيث خلق الأشياء أجناسا مختلفة وتمام الأشياء يدل على أن خالقها قديم قادر
سورة البقرة آية 23
قوله تعالى " وإن كنتم في ريب مما نزلنا " قال بعضهم هذا الخطاب لليهود يعني " وإن كنتم في ريب " يعني في شك " مما نزلنا " يعني من القرآن " على عبدنا " محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليس من الله تعالى " فأتوا بسورة من مثله " يعني من مثل هذا القرآن من التوراة يعني فأتوا بسورة من التوراة وقابلوها بالقرآن فتجدوها موافقة لما في التوراة فتعلموا به أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يختلقه من تلقاء نفسه وأنه من الله تعالى " وادعوا شهداءكم من دون الله " يعني استعينوا بأحباركم ورهبانكم " إن كنتم صادقين " فيما تشكون فيه
وقال بعضهم نزلت في شأن المشركين فقال " وإن كنتم في ريب " أي في شك " مما نزلنا " من القرآن " على عبدنا " محمد صلى الله عليه وسلم وتقولون إنه اختلقه من تلقاء نفسه " فأتوا بسورة " أي فاختلقوا بسورة من مثل هذا القرآن لأنكم شعراء وفصحاء " وادعوا شهداءكم " يعني استعينوا بآلهتكم ويقال استعينوا بخطبائكم وشعرائكم " إن كنتم صادقين " أن محمدا يقوله من تلقاء نفسه
وقال قتادة معناه " فأتوا بسورة " فيها حق وصدق ولا باطل فيها وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول الهاء إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال فأتوا بسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن قرأ الكتب فأتوا بسورة من رجل لم يقرأ الكتب كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويقال هذه الآيات أصل لجميع ما تكلم به المتكلمون في التوحيد والعلم والشريعة لأن في أول الآية إثبات الصانع ثم في الآية الأخرى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فالله تعالى أمرهم أولا بأن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا عنها ثم أمرهم بسورة من مثله فعجزوا عنها فنزلت هذه الآية " قل لئن اجتمعت
(1/60)
1
 
62
الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان ) الإسراء 88 الآية
سورة البقرة الآية 24
ثم قال عز وجل " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " " لم " تستعمل للماضي " ولن " تستعمل للمستقبل فكأنه قال فإن لم تفعلوا أي لم تأتوا في الماضي ولن تفعلوا أي لن تأتوا في المستقبل وتجحدون بغير حجة " فاتقوا النار "
قال قتادة معناه " فإن لم تفعلوا " ولن تقدروا أن تفعلوا ولن تطيقوا " فاتقوا النار " يقول احذروا النار " التي وقودها الناس والحجارة " يعني حطبها الناس إذا صاروا إليها والحجارة قبل أن يصيروا إليها ويقال معناه إن مع كل إنسان من أهل النار حجرا معلقا في عنقه حتى إذا طفئت النار رسبه به الحجر إلى الأسفل ويقال " وقودها الناس والحجارة " أي حجارة الكبريت وإنما جعل حطبها من حجارة الكبريت لأن لها خمسة أشياء ليست لغيرها أحدها أنها أسرع وقودا والثاني أنها أبطأ خمودا والثالث أنها أنتن رائحة والرابع أنها أشد حرا والخامس أنا ألصق بالبدن ثم قال " أعدت للكافرين " يعني وهيئت وخلقت وقدرت لهم
سورة البقرة آية 25
ثم قال " وبشر الذين آمنوا " فقد ذكر في أول الآية إثبات الصانع وذكر حجته ثم ذكر إثبات الكتاب والنبوة ثم ذكر الوعيد للكافرين لمن لا يؤمن بالله ثم ذكر ثواب للمؤمنين وهكذا في جميع القرآن في كل موضع ذكر عقوبة الكفار ثم ذكر على أثره ثواب المؤمنين لتسكن قلوبهم إلى ذلك وتزول عنهم الوحشة لكي يثبتوا على إيمانهم ويرغبوا في ثوابه فقال " وبشر الذين آمنوا " يعني فرح قلوب الذين آمنوا يعني صدقوا بوحدانية الله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جبريل عليه السلام " وعملوا الصالحات " يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم " أن لهم " يعني بأن لهم " جنات " وهي البساتين " تجري من تحتها الأنهار " أي من تحت شجرها ومساكنها وغرفها الأنهار " وكلما رزقوا منها " يعني أطعموا منها أي من الجنة " من ثمرة رزقا " يعني طعاما
" قالوا هذا الذي رزقنا " يعني أطعمنا من الجنة " من قبل " قال بعضهم معناه إذا أتي بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها ثم إذا أتي بها في آخر النهار " قالوا هذا الذي رزقنا من
(1/61)
1
 
63
قبل ) يعني الذي أطعمنا في أول النهار لأن لونه يشبه لون ذلك فإذا أكلوا منه وجدوا لها طعما غير طعم الأول وقال بعضهم معناه " كلما رزقوا من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " يعني في الدنيا لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا فإذا أكلوا وجدوا طعمها غير ذلك
ثم قال " وأتوا به متشابها " قال بعضهم معناه " متشابها " يعني في المنظر مختلفا في الطعم وقيل " متشابها " يعني يشبه بعضها بعضا في الجودة ولا يكون فيها رديء
قال الفقيه رحمه الله حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء يعني أسماء الثمار
ثم قال تعالى " ولهم فيها أزواج مطهرة " يعني مهذبة في الخلق ويقال مطهرة في الخلق والخلق فأما الخلق فإنهن لا يحضن ولا يبلن ولا يتمخطن ولا يأتين الخلاء وأما الخلق فهن لا يحسدن ولا يغرن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن
ثم قال تعالى " وهم فيها خالدون " يعني دائمين لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا
سورة البقرة آية 26
قوله تعالى " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " وذلك أنه لما نزل قول الله تعالى " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا " الحج 73 وقال في آية أخرى " مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت " العنكبوت 41 قالت اليهود والمشركون إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت فنزلت هذه الآية " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " يعني لا يمتنع من ضرب المثل وبيان الحق بذكر البعوضة وبما فوقها ويقال لا يمنعه الحياء أن يضرب المثل ويروي ويصف للحق شبها " ما بعوضة " يعني ببعوضة " فما فوقها " يعني بالذباب وبالعنكبوت وقال بعضهم " فما فوقها " يعني فما دونها فى الصغر وهذا من أسماء الأضداد يذكر الفوق ويراد به دونه كما يذكر الوراء ويراد الأمام به مثل قوله " ويذرون وراءهم يوما ثقيلا " الإنسان 27 يعني أمامهم فكذلك يذكر الفوق ويراد به ما دونه يعني يضرب المثل بالبعوضة وبما دون البعوضة بعد أن يكون فيه إظهار الحق وإرشاد إني وكيف الهوى وكيف يمتنع من ضرب المثل بالبعوضة ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا بعوضة لا يقدرون عليه ويقال إنما ذكر المثل
(1/62)
1
 
64
بالبعوضة لأن خلقة البعوضة أعجب خلقة لأن خلقتها تشبه خلقة الفيل قيل إن البعوضة ما دامت جائعة عاشت فإذا شبعت ماتت فكذلك إذا الادمي استغنى فإنه يطغى فضرب الله المثل للآدمي
ثم قال تعالى " فأما الدين آمنوا " يعني صدقوا وأقروا بتوحيد الله تعالى " فيعلمون أنه الحق من ربهم " يعني المثل بالذباب والعنكبوت فيؤمنون به " وأما الذين كفروا " يعني اليهود والمشركين " فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا " بذكر البعوضة والذباب
قال الله تعالى " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " يعني إنما ضرب المثل ليضل به كثيرا من الناس يعني يخذلهم ولا يوفقهم للهدى " ويهدي به كثيرا " يعني يوفق به على معرفة ذلك المثل كثيرا من الناس وهم المؤمنون وقال بعضهم معناه " يضل به كثيرا " يعني يسميه ضالا كما يقال فسقت فلانا يعني سميته فاسقا لأن الله تعالى لا يضل أحدا وهذا طريق المعتزلة وهو خلاف جميع أقاويل المفسرين وهو غير محتمل في اللغة أيضا يقال ضلله إذا سماه ضالا ولا يقال أضله إذا سماه ضالا ولكن معناه ما ذكره المفسرون أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم
قوله تعالى " وما يضل به إلا الفاسقين " يعني وما يهلك وأصل الضلالة الهلاك يقال ضل الماء في اللبن إذا صار مستهلكا وما يهلك وما يخذل به يعني بالمثل إلا الفاسقين يعني العاصين وأصل الفسق في اللغة هو الخروج من الطاعة والعرب تقول فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ويقال للفأرة فويسقة لأنها تخرج من الحجر وقال الله تعالى " ففسق عن أمر ربه " الكهف 50 يعني خرج عن طاعة ربه
سورة البقرة آية 27
ثم نعت الفاسقين فقال عز وجل " الذين ينقضون عهد الله " يعني يتركون أمر الله ووصيته " من بعد ميثاقه " يعني من بعد تغليظه وتوكيده وذلك أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام في التوراة بأن يأمر قومه فيقروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه إذ خرج وكان موسى عليه السلام عاهدهم على ذلك فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم نقضوا العهد وكذبوه ولم يصدقوه ويقال إنما أراد به العهد الذي أخذه من بني آدم من ظهورهم حيث قال " ألست بربكم قالوا بلى " الأعراف 172 يقال إنه أراد به العهد فنقضوا ذلك العهد والميثاق وهم يقرون فإن قال قائل فكيف يجوز هذا واليهود كانوا مقرين بالله تعالى فكيف يكون نقض العهد وهم مقرون قيل له إذا لم يصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد أشركوا بالله لأنهم لم يصدقوا بأن القرآن من عند الله ومن
(1/63)
1
 
65
زعم أن القرآن قول البشر فقد أشرك الله تعالى وصار ناقضا للعهد ويقال الميثاق الذي يعرف كل واحد ربه إذا تفكر في نفسه فكان ذلك بمنزلة أخذ الميثاق عليه وجميع ما في القرآن من ذكر الميثاق فهو على هذه الأوجه الثلاثة
وقوله تعالى " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " روى الضحاك وعطاء عن ابن عباس أنه قال ( إنهم أمروا أن يؤمنوا بجميع الأنبياء فآمنوا ببعضهم ولم يؤمنوا ببعضهم ) فهذا معنى قوله " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " ويقال أمروا بصلة القرابات فقطعوا الأرحام فيما بينهم ويقال كان بين اليهود والعرب قرابة من وجه لأن العرب كانت من أولاد إسماعيل واليهود من أولاد إسحاق فإذا لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد قطعوا ذلك الرحم الذي كان بينهم
وقوله تعالى " ويفسدون في الأرض " لأنهم يكفرون ويأمرون غيرهم بالكفر فذلك فسادهم في الأرض " أولئك هم الخاسرون " أي المغبونون بالعقوبة وقال الكلبي ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله منزل وأهل وخدم في الجنة فإن أطاع الله تعالى أتى أهله وخدمه ومنزله في الجنة وإن عصى الله تعالى ورثه الله تعالى المؤمنين فقد غبن عن أهله وخدمه كما قال في آية أخرى " قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة " الزمر 15 وقال بعضهم هذا التفسير لا يصح لأنه لا يجوز أن يقال للكافر منزل في الجنة وخدم ولكن يقال له هذا على وجه المثل أن الكافر لو آمن كان له منزل وخدم في الجنة إلا أن الكلبي لم يقل ذلك من ذات نفسه وإنما رواه عن أبي صالح عن ابن عباس
سورة البقرة آية 28
قوله تعالى " كيف تكفرون بالله وكنتم " قال ابن عباس هو على وجه التعجب وقال الفراء هو على وجه التوبيخ والتعجب لا على وجه الاستفهام فكأنه قال ويحكم كيف تكفرون وتجحدون بوحدانية الله تعالى فإن قيل كيف يجوز التعجب من الله تعالى والتعجب وإنما يكون ممن سمع شيئا لم يكن سمعه أو رأى شيئا لم يكن رآه فيتعجب لذلك والله تعالى قد علم الأشياء قبل كونها قيل له التعجب من الله تعالى يكون على وجه التعجيب والتعجب هو أن يدعو إلى التعجب فكأنه يقول ألا تتعجبون أنهم يكفرون بالله تعالى وهذا كما قال في آية أخرى " وإن تعجب فعجب قولهم " الرعد 5
(1/64)
1
 
66
ثم قال " وكنتم أمواتا فأحياكم " يعني كنتم نطفا في أصلاب آبائكم فأحياكم في أرحام أمهاتكم " ثم يميتكم " عند انقطاع آجالكم " ثم يحييكم " للبعث يوم القيامة " ثم إليه ترجعون " في الآخرة فتثابون بأعمالكم قال الكلبي فلما ذكر البعث عرف اليهود فسكتوا وأنكر ذلك المشركون قالوا ومن يستطيع أن يحيينا بعد الموت فنزل قوله تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " البقرة 29 فإن قيل كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لليهود وهم لم يكفروا بالله تعالى فالجواب ما سبق ذكره أنهم لما أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أنكروا وحدانية الله تعالى لأنهم أخبروا أن القرآن قول البشر
سورة البقرة آية 29
قوله تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " يعني قدر خلقها لأن الأشياء كلها لم تخلق في ذلك الوقت لأن الدواب والثمار وغيرها التي في الأرض تخلق وقتا فوقتا ولكن معناه قدر خلق الأشياء التي في الأرض
وقوله " ثم استوى إلى السماء " هذه الآية من المشكلات والناس في هذه الآية وما شالكها على ثلاثة أوجه قال بعضهم نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها وهذا كما روي عن مالك بن أنس أن رجلا سأله عن قوله " الرحمن على العرش استوى " طه 5فقال ( مالك الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا ضالا فأخرجوه ) فنظروا فإذا هو جهم بن صفوان وقال بعضهم نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة وهذا قول المشبهة وقال بعضهم نقرأها ونتأولها وللتأويل في هذه الآية وجهان أحدهما " ثم استوى إلى السماء " يعني صعد أمره إلى السماء وهو قوله " كن فكان " والثاني " ثم استوى إلى السماء " يعني أقبل إلى خلق السماء فإن قيل قد قال في آية أخرى " أم السماء بناها رفع سمكها فسواها " إلى قوله " والأرض بعد ذلك دحاها " النازعات 27 - 28 - 30 فذكر في تلك الآية أن الأرض خلقت بعد السماء وذكر في هذه الآية أن السماء خلقت بعد الأرض الجواب عن هذا أن يقال خلق الأرض قبل السماء وهي ربوة حمراء في موضع الكعبة فلما خلق السماء بسط الأرض بعد خلق السماء فذلك قوله " والأرض بعد ذلك دحاها يعني بسطها
ثم قال تعالى " فسواهن " يعني خلقهن " سبع سماوات " فهن أعظم من خلقكم " وهو بكل شيء عليم " يعني بكل خلق عليم معناه أن الذي خلق لكم الأرض جميعا وخلق السماوات قادر على أن يحييكم بعد الممات قرأ نافع والكسائي وأبو عمرو " وهو " بجزم
(1/65)
1
 
67
الهاء وقرأ الباقون بضم الهاء " وهو " في جميع القرآن وهم لغتان ومعناهما واحد
سورة البقرة آية 30
قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة " روي عن أبي عبيدة أنه قال معناه وقال ربك و " إذا " زيادة وروي عن الفراء أنه قال معناه واذكر إذ قال ربك وقال مقاتل معناه وقد قال ربك للملائكة والملائكة جميع الملك وهذا اللفظ على غير القياس لأنه يقال ملائكة بالهمزة ويقال للواحد ملك بغير همز وإنما قيل ذلك لأنه في الأصل كان مالك بالهمز فأسقط الهمزة للتخفيف وأصله من لأك يألك والألوكة الرسالة كما قال القائل
( وغلام أرسلته أمه % بألوك فبذلنا ما سأل )
وإنما سميت الملائكة ملائكة لأنهم رسل الله تعالى وإنما أراد ها هنا بعض الملائكة وهم الملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن الله تعالى لما خلق الأرض خلق الجان من مارج من نار أي من لهب من نار لا دخان لها فكثر نسله وهم الجن بنو الجان فعملوا في الأرض بالمعاصي وسفكوا الدماء فبعث الله تعالى ملائكة سماء الدنيا وأمر عليهم إبليس وكان اسمه عزازيل حتى هزموا الجن وأخرجوهم من الأرض إلى جزائر البحور فسكنوا الأرض فصار الأمر عليهم في العبادة أخف لأن كل صنف من الملائكة يكون أرفع في السماوات فيكون خوفهم أشد وملائكة سماء الدنيا يكون أمرهم أيسر من الذين فوقهم فلما سكنوا الأرض صار الأمر عليهم أخف مما كانوا وسكنوا الأرض واطمأنوا إليها وكل من اطمأن إلى الدنيا أمر بالتحول عنها فأخبرهم الله تعالى أنه يريد أن يخلق خليفة في الأرض سواكم فشق ذلك عليهم وكرهوا ذلك فذلك قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " يعني أريد أن أخلق في الأرض خليفة سواكم فشق ذلك عليهم وكرهوا ذلك " فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها " يعني أتخلق فيها " من يفسد فيها " كما أفسدت الجن " ويسفك الدماء " كما سفكت الجن " ونحن نسبح بحمدك " يعني نصلي لك بأمرك ويقال معناه نحن نسبحك ونحمدك " ونقدس لك " قال بعضهم نقدس أنفسنا لك يعني نظهر أنفسنا بالعبادة عن المعصية وقال بعضهم " ونقدس لك أي ننسبك إلى الطهارة
قال الله تعالى " قال إني أعلم ما لا تعلمون " قال مجاهد علم من إبليس المعصية
(1/66)
1
 
68
وعلم من أدم الخدمة والطاعة ولم تعلم الملائكة بذلك وقال ابن عباس قد علم أنه سيكون من بني آدم من يسبح بحمده ويقدس له ويطيع أمره ويقال قد علم الله تعالى أنه سيكون في ولده من الأنبياء والصالحين والأبرار وذكر في الخبر أنه لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم بعث جبريل ليجمع التراب من وجه الأرض فلما نزل جبريل وأراد أن يجمع التراب قالت له الأرض بحق الله عليك لا تفعل فإني أخشى أن يخلق من ذلك خلقا يعصي الله تعالى فأستحي من ربي فصعد جبريل وقال لو أمرني ربي بالرجوع إليها لفعلت فلما صعد بعث الله تعالى ميكائيل فتضرعت إليه الأرض بمثل ذلك فرجع ميكائيل فبعث الله تعالى عزرائيل فتضرعت إليه الأرض فقال عزرائيل أمر الله أولى من قولك فجمع التراب من وجه الأرض الطيبة والسبخة والأحمر والأصفر وغير ذلك ثم صعد إلى السماء فقال الله تعالى أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك فقال رأيت أمرك أوجب من قولها فقال الله تعالى أن تصلح لقبض أرواح ولده فصار ذلك التراب طينا وكان طينا أربعين سنة ثم صار صلصالا كما قال في آية آخرى " خلق الإنسان من صلصال كالفخار " الرحمن 14 فكان إبليس إذا مر عليه مع الملائكة قال أرأيتم هذا الذي لم تروا شيئا من الخلائق يشبهه إن فضل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون فقالوا نطيع أمر ربنا فأسر إبليس في نفسه وقال لئن فضل علي لا أطيعه ولئن فضلت عليه لأهلكنه فلما سواه ونفخ فيه من روحه وعلمه أسماء الأشياء التي في الأرض يعني ألهمه
سورة البقرة آية 31
فذلك قوله تعالى " وعلم آدم الأسماء كلها " يعني ألهمه أسماء الدواب وغيرها " ثم عرضهم على الملائكة " هكذا مكتوب في مصحف الإمام عثمان رضي الله عنه وأما مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب ففي أحدهما " ثم عرضها " وفي الآخر ( ثم عرضهن على الملائكة ) فأما من قرأها " ثم عرضهن " يعني به جماعة الدواب ومن قرأ " ثم عرضها " يعني به جميع الأسماء وأما من قرأ " ثم عرضهم " يعني به جماعة الأشخاص إذ الأشخاص تصلح أن تكون عبارة عن المذكر والمؤنث وإن اجتمع لفظ المذكر والمؤنث غلب المذكر على المؤنث
ثم قوله تعالى " فقال أنبؤوني بأسماء هؤلاء " يعني أخبروني عن أسماء هذه الأشياء التي في الأرض " إن كنتم صادقين " في قولكم " أتجعل فيها من يفسد فيها " وقال مقاتل معناه كيف تقولون فيما لم أخلق بعد أنهم يفسدون وأنتم لا تعرفون ما ترونه وتنظرون إليه
(1/67)
1
 
69
ويقال في هذه الآية دليل على أن أولى الأشياء بعد علم التوحيد ينبغي أن يتعلم علم اللغة لأنه أراهم فضل آدم بعلم اللغة وقال بعضهم إنما علمه الأسماء وما فيها من الحكمة ليظهر فضله بعلم الأسماء وما فيها من الحكمة
سورة البقرة آية 32
قوله " قالوا سبحانك لا علم لنا " نزهوه وتابوا إليه عن مقالتهم ومعناه سبحانك تبنا إليك من مقالتنا يعني ما ألهمتنا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( سبحان الله تنزيه الله عن كل ما لا يليق به ) وقال بعض أهل اللغة اشتقاقه من السباحة لأن الذي يسبح يباعد ما بين طرفيه فيكون فيه معنى التبعيد وقال بعضهم هذه لفظة جمعت بين كلمتي تعجب لأن العرب إذا تعجبت من شيء قالت حان والعجم إذا تعجبت من شيء قالت سب فجمع بينهما فصار سبحان
وقوله تعالى " إنك أنت العليم الحكيم " يعني أنت عالم بما يكون في السموات والأرض " الحكيم " في أمرك إذا حكمت أن تجعل في الأرض خليفة غيرنا ويقال معنى " العليم الحكيم " على وجه الحكمة التي تدرك الأشياء بحقائقها وكان حكمه موافقا للعلم
سورة البقرة آية 33
قوله تعالى " قال يا آدم انبئهم " يعني أخبرهم " بأسمائهم " يعني أسماء الدواب وغيرهما وما فيها من الحكمة وما يحل أكله وما لا يحل أكله " فلما أنبأهم " يعني أخبرهم " بأسمائهم " قال الله تعالى لهم " ألم أقل لكم أني أعلم غيب السموات والأرض " يعني سر أهل السماوات وسر أهل الأرض وما يكون فيهما " وأعلم ما تبدون " أين تظهرون من الطاعة لآدم يعني الملائكة " وما كنتم تكتمون " يعني ما أسر إبليس في نفسه حين قال لئن فضل علي لا أطيعه ولئن فضلت عليه أهلكته وقيل إنهم كانوا يقولون حين أراد أن يخلق آدم إنه لا يخلق أحدا أفضل منهم فهذا الذي كانوا يكتمون وهذا القول ذكر عن قتادة ويقال أنه لما خلق آدم أشكل عليهم أن آدم أعلم أم هم فسألهم عن الأسماء فلم يعرفوها وسأل آدم عن الأسماء فأخبرهم بها فظهر لهم أن آدم أعلم منهم ثم أشكل عليهم أنه أفضل أم هم فلما أمرهم بالسجود له فظهر لهم فضله
سورة البقرة آية 34
(1/68)
1
 
70
وهو قوله تعالى " وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " وأصل السجود في اللغة هو الميلان والخضوع والعرب تقول سجدت النخلة إذا مالت وسجدت الناقة إذا طأطأت رأسها ومالت وإنما كانت سجدة التحية لا سجدة العبادة وكانت السجدة تحية لآدم وطاعة لله تعالى " فسجدوا " كلهم " إلا إبليس " يقال إبليس أسم أعجمي ولذلك لا ينصرف وهو قول أبي عبيدة وقال غيره هو أفعيل من أبلس يبلس إذا يئس وكذا قال ابن عباس في رواية أبي صالح أنه أيئسه من رحمته وكان اسمه عزازيل ويقال عزائيل وإنما لم ينصرف لأنه لا سمي له فاستثقل وقال ابن عباس إنما سمي آدم لأنه خلقه من أديم الأرض وروي عن قطرب أنه قال هذا الخبر لا يصح لأن العربية لا توافقه ويقال هو مأخوذ من الأدمة وهو الذي يكون في لونه سمرة " إلا إبليس أبى وأستكبر " يعني امتنع عن السجود تكبرا معناه أن كبره منعه من السجود
وقوله تعالى " وكان من الكافرين " قال بعضهم وصار من الكافرين كما قال في آية أخرى " فكان من المغرقين " هود 43 يعني صار من المغرقين ويقال " كان من الكافرين " في علم الله معناه كان في علم الله تعالى أنه يكفر وقال بعضهم بظاهر الآية وقال كان كافرا في الأصل وهو قول أهل الجبر وقالوا كل كافر أسلم فقد ظهر أنه كان مسلما في الأصل وكل مسلم كفر ظهر أنه كان كافرا في الأصل لأنه كان كافرا يوم الميثاق ألا ترى أن الله تعالى قال في قصة بلقيس " إنها كانت من قوم كافرين " النمل 43 ولم يقل إنها كانت كافرة وقال في قصة إبليس " وكان من الكافرين " وقال أهل السنة والجماعة الكافر إذا أسلم كان كافرا إلى وقت إسلامه وإنما صار مسلما بإسلامه إلا انه غفر له ما قد سلف والمسلم إذا كفر كان مسلما إلى ذلك الوقت إلا أنه حبط عمله
سورة البقرة آية 35
قوله تعالى " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " قال ابن عباس رضي الله عنه أنه قال أمر الله تعالى ملائكته أن يحملوا آدم على سرير من ذهب إلى السماء فأدخلوه الجنة ثم خلق منه زوجه حواء يعني من ضلعه الأيسر وكان آدم بين النائم واليقظان وقال ابن عباس رضي الله عنه سميت حواء لأنها خلقت من الحي ويقال إنما سميت حواء لأنه كان في
(1/69)
1
 
71
شفتيها حوة يعني حمرة فقال عز وجل " يا آدم اسكن أنت وزوجك " يعني حواء يقال للمرأة زوجة وزوج والزوج أفصح
وقوله تعالى " وكلا منها " يعني من الجنة " رغدا " يعني موسعا عليكما بلا فوت ولا هنداز بالزاي المعجمة هكذا قال في رواية الكلبي يعني بغير تقدير وقال بعض أهل اللغة الرغد هو السعة في الرزق من غير تقدير
وقوله تعالى " ولا تقربا هذه الشجرة " يعني ولا تأكلا من هذه الشجرة وروى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنه قال هي شجرة الكرم وروى الشعبي عن جعد بن هبيرة مثله وروي عن علي رضي الله عنه مثله وقال قتادة وذكر لنا أنها شجرة التين ويقال إنما كان النهي عن الأكل من الشجرة للمحنة لأن الدنيا دار محنة وقد خلق من الأرض ليسكن فيها فامتحن بذلك كما امتحن أولاده في الدنيا بالحلال والحرام فذلك قوله " ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " يعني فتصيرا من الضارين بأنفسكما
سورة البقرة آية 36
وقوله تعالى " فأزلهما الشيطان عنها " قرأ حمزة " فأزالهما " بالألف وقرأ غيره " فأزلهما " بغير ألف وأصله في اللغة من أزل يزل معناه فأغراهما الشيطان واستزلهما وأما من قرأ " فأزالهما " بالألف فأصله من أزال يزيل إذا أزال الشيء عن موضعه
وقوله تعالى " فأخرجهما مما كانا فيه " يعني مما كانا فيه من النعمة وروي عن سعيد بن جبير أنه قال مكث آدم في الجنة كما بين الظهر والعصر يعني من أيام الآخرة لأن كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا
وروي عن ابن عباس أنه قال ( لما رأى إبليس آدم في النعمة حسده واحتال لإخراجه منها فعرض نفسه على كل دابة من دواب الجنة أن يدخل في صورتها فأبت عليه حتى أتى الحية وكانت هي أحسن دابة في الجنة خلقا وكانت لها أربع قوائم فلم يزل يستدرجها حتى أطاعته فدخل ما بين لحييها وأقام في رأسها ثم أتى باب الجنة وناداهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين يعني أن هذه الشجرة شجرة الخلد فمن أكل منها يبقى في الجنة أبدا فأكلا منها )
ويقال إن حواء قالت لآدم تعال حتى نأكل من هذه الشجرة فقال آدم قد نهانا ربنا عن أكل هذه الشجرة فأخذت بيده حتى جاءت به إلى الشجرة وكان آدم يحب حواء فكره أن يخالفها لحبه إياها وكان آدم يقول لها لا تفعلي فإني أخاف العقوبة وكانت حواء تقول إن
(1/70)
1
 
72
رحمة الله واسعة فأخذت من ثمرها فأكلت ثم قالت لآدم هل أصابني شيء بأكلها وإنما لم يصبها شيء بأكلها لأنها كانت تابعة وآدم متبوعا فما دام المتبوع على الصلاح يتجاوز عن التابع فإذا فسد المتبوع فسد التابع ثم أخذت ثمرة أخرى فدفعت إلى آدم فلما أكل آدم لم تصل إلى جوفه حتى أخذتهما الرعدة وسقط عنهما من الحلي والحلل وغيرهما وعريا عن الثياب حتى بدت عورتهما فاستحييا وهربا قال الله تعالى أمني تهرب يا آدم قال لا ولكن حياء من ذنبي فأخذا من أوراق التين وألصقا على عوراتهما ثم أمرهما الله تعالى بإن يهبطا منها إلى الأرض فوقع آدم بأرض الهند وحواء بجدة والحية بأصبهان وإبليس في جزائر البحر وروي عن ابن عباس أنه قال إنما سمي الإنسان إنسانا لأن الله تعالى عهد إليه فنسي ) يعني ترك
وقوله تعالى " وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو " يعني آدم وحواء والحية وإبليس فبقي بين إبليس وبين آدم عداوة إلى يوم القيامة وكذلك بين الحية وبين أولاد آدم عداوة ظاهرة
ثم قال " ولكم في الأرض مستقر " يعني موضع القرار وقوله " ومتاع إلى حين " يعني الحياة والعيش إلى حين يعني الموت
سورة البقرة آية 37
قوله تعالى " فتلقى آدم من ربه كلمات " قرأ ابن كثير " فتلقى آدم " فنصب آدم ورفع الكلمات وقرأ غيره برفع " آدم " وكسر الكلمات فأما من قرأ " فتلقى آدم " بالرفع فمعناه أخذ وقبل من ربه ويقال تلقى وتلقف بمعنى واحد في اللغة وأما من قرأ بنصب " فتلقى آدم " يعني استقبلته الكلمات من ربه يقال تلقيت فلانا بمعنى استقبلته ومعنى ذلك كله أن الله تعالى ألهمه بكلمات فاعتذر بتلك الكلمات وتضرع إليه فتاب الله عليه
وقال مجاهد تلك الكلمات هي قوله تعالى " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا " الأعراف23 الآية وقال بعضهم قال بحق محمد أن تقبل توبتي قال الله تعالى له من أين عرفت محمدا قال رأيت في كل موضع من الجنة مكتوبا لا إله إلا الله محمدا رسول الله فعلمت أنه أكرم خلقك عليك فتاب الله عليه وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال تلك الكلمات هي قوله سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت رب عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم الثاني فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين الثالث فارحمني إنك أنت خير الراحمين
وقوله تعالى " فتاب عليه " يعني فقبل توبته يقال تاب العبد إلى ربه وتاب الله على عبده فهذا اللفظ مشترك إلا أنه إذا ذكر من العبد يقال تاب إلى الله وإذا ذكر من الله تعالى يقال على فيقال تاب العبد إلى ربه إذا رجع عن ذنبه وتاب الله على عبده إذا قبل
(1/71)
1
 
73
توبته قوله " إنه هو التواب الرحيم " يعني المتجاوز عن الذنوب الرحيم بعباده
سورة البقرة آية 38
قوله تعالى " قلنا أهبطوا منها جميعا " يعني آدم وحواء والحية وإبليس وفي الآية دليل على أن المعصية تزيل النعمة عن صاحبها لأن آدم قد أخرج من الجنة بمعصيته وهذا كما قال القائل
( إذا كنت في نعمة فارعها % فإن المعاصي تزيل النعم
( وداوم عليها بشكر الإله % فإن الإله شديد النقم )
وقال تعالى " إن الله لا يغير ما بقوم " الرعد 11الآية
وقوله تعالى " فإما يأتينكم مني هدى " وأصله فإن ما إلا ان النون أدغمت في الميم وإن لتأكيد الكلام وما للصلة ومعناه فإن يأتينكم مني هدى يعني البيان وهو الكتاب والرسل خاطب به آدم وعنى به ذريته " فمن تبع هداي " يعني من اتبع كتابي وأطاع رسلي " فلا خوف عليهم " فيما يستقبلهم من العذاب " ولا هم يحزنون " على ما خلفوا من أمر الدنيا
سورة البقرة آية 39
ثم قال عز وجل " والذين كفروا وكذبوا باياتنا " يعني جحدوا برسلي وكذبوا بآياتي " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " يعني دائمين
سورة البقرة الآيات 40 - 43
قوله تعالى " يا بني إسرائيل " يعني أولاد يعقوب وإنما سمي إسرائيل لأن الأسر بلغتهم عبد وأيل هو الله فكأنه قال يا بني عبد الله وقيل إنما سمي إسرائيل لأنه أسره ملك يقال له إيل وذلك أنه كان في سفر مع أولاده وكان يسير خلف القافلة وكان له قوة فدخل في نفسه شيء من نفسه شيء من العجب فابتلاه الله تعالى أن جاءه ملك على هيئة اللص وأراد أن يضرب على القافلة فأراد يعقوب أن يضربه على الأرض فلم يقدر على ذلك وكانا في تلك
(1/72)
1
 
74
المنازعة إلى طلوع الفجر ثم إن الملك أخذ بعرق يعقوب أي بعرق من عروقه فمده فسقط في ذلك الموضع ثلاثة أيام ويقال لأنه أسره جني يقال له إيل وروي عن السدي أنه قال وقعت بينه وبين أخيه عيصوا عداوة فحلف عيصوا أن يقتله وكان يعقوب يختفي بالنهار ويخرج بالليل فسمي إسرائيل لسيره بالليل وأصله من إسراء الليل والله أعلم ويقال إنما سمي يعقوب لأنه ولد مع عيصوا في بطن واحد فخرج يعقوب على عقب عيصوا فسمي يعقوب فقال الله تعالى " يا بني إسرائيل " وإنما أراد بهم اليهود الذين كانوا حوالي المدينة من بني قريظة والنضير وغيرهم وكانوا من أولاد يعقوب
وقال تعالى " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " يعني احفظوا منتي التي مننت عليكم معناه في التيه من المن والسلوى يعني اذكروا تلك النعم التي أنعمت عليكم واشكروا لله تعالى
وقوله تعالى " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم " قال ابن عباس في رواية أبي صالح قد كان الله تعالى عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا فمن اتبعه وصدق به غفرت له ذنوبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين أجرا باتباعه ما جاء به موسى وأجرا باتباعه ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم وعرفوه كذبوه فذكرهم الله تعالى في هذه الآية فقال " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم " قال الحسن البصري " أوفوا بعهدي " يعني أدوا ما افترضت عليكم " أوف بعهدكم " مما وعدت لكم وقال الضحاك أوفوا بطاعتي أوف لكم بالجنة وقال الصادق أوفوا بعهدي في دار محنتي على بساط خدمتي في حفظ حرمتي أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط قربتي بسني رؤيتي وقال قتادة العهد ما ذكر الله تعالى في سورة المائدة " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل " إلى قوله " وءامنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا " المائدة 12 أوف بعهدكم وهو قوله " لأكفرن عنكم سيئاتكم " المائدة 12 الآية ويقال " أوفوا بعهدي " الذي قبلتم يوم الميثاق " أوف بعهدكم " يعني الذي قلت لكم يعني به الجنة
قوله تعالى " وإياي فارهبون " يعني فاخشون وأصله فارهبوني بالياء لكن حذفت الياء وأقيم الكسر مقامها
قوله تعالى " وآمنوا بما أنزلت مصدقا " يعني صدقوا بهذا القرآن الذي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا " لما معكم " يعني موافقا لما معكم في التوحيد وفي بعض الشرائع يعني التوراة والإنجيل
" ولا تكونوا أول كافر به " يعني أول من يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقال " به " يعني بالقرآن وإنما أراد بني قريظة والنضير فإن قيل ما معنى قوله تعالى " ولا تكونوا أول كافر به " وقد كفر به قبلهم مشركوا العرب قيل له معناه " ولا تكونوا أول كافر به "
(1/73)
1
في وقت هذا
(1/74)
1
 
75
الخطاب ويقال إن أحبار اليهود كان لهم أتباع فلو أسلموا أسلم أتباعهم كلهم ولو كفروا كفر أتباعهم كلهم فهذا معنى قوله " ولا تكونوا أول كافر به " يعني من قومكم
" ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " يعني بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم عرضا يسيرا لأنهم كانوا عرفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكانت لهم مأكلة ووظائف من سفلة قومهم وكانت لهم رئاسة فكانوا يخافون أن تذهب وظائفهم ورئاستهم فقال " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " يعني عرض الدنيا وإنما سماه " قليلا " لأن الدنيا كلها قليل
ثم خوفهم فقال تعالى " وإياي فاتقون " في صفة محمد صلى الله عليه وسلم فمن جحد به أدخلته النار
قوله تعالى " ولا تلبسوا الحق بالباطل " يقال في اللغة لبس يلبس لبسا إذا لبس الثياب ومعناه لا تخلطوا الحق بالباطل فتكتمون صفته وذلك أنهم كانوا يخبرون عن بعض صفته ويكتمون البعض ليصدقوا بذلك فيلبسون عليهم بذلك وقال قتادة " ولا تلبسوا " اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين الله الحق الذي لا يقبل غيره هو الإسلام ويقال معناه ولا تؤمنوا ببعض أمره وتكفروا ببعضه وتكتموا الحق
ثم قال تعالى " وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " أنكم تكتمون الحق
وقوله تعالى " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " يعني أقيموا الصلوات الخمس بركوعها وسجودها ومواقيتها " وآتوا الزكاة " المفروضة " واركعوا مع الراكعين " أي صلوا مع المصلين يعني مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الجماعات ويقال صلوا مع المصلين إلى الكعبة وقال قتادة وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وهما فريضتان واجبتان ليس لأحد فيهما رخصة فأدوهما إلى الله تعالى
سورة البقرة آية 44
قوله تعالى ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين كانوا حوالي المدينة وهم بنو قريظة والنضير وكانوا ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يدعون الأوس والخزرج إلى الإيمان به فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم آمن به الأوس والخزرج وكفر به اليهود وجحدوا فنزلت هذه الآية " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " وقال ابن عباس في رواية أبي صالح كانت اليهود إذا جاءهم حليف منهم الذي قد أسلم وسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر فتقول له إنه نبي صادق فاتبعه وتكتم ذلك عن السفلة مخافة أن تذهب منافعه فنزلت هذه الآية " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " وقال قتادة في هذه الآية دليل أن من أمر بخير فليكن أشد الناس تسارعا إليه ومن نهى عن شر فليكن أشد الناس انتهاء عنه ويقال نزلت في شأن القصاص
قال الفقيه رحمه الله حدثنا القا