تفسير الثعلبي الكشف والبيان عن تفسير القرآن 009

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
وقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ليس بترخيص وتخيير، إنما هو وعيد وتهديد، كقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ. قال ابن عباس: من شاء الله له الايمان آمن، ومن شاء له الكفر كفر، وهو قوله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
إِنَّا أَعْتَدْنا: أعددنا وهيّأنا، من العتاد، وهو العدّة لِلظَّالِمِينَ: للكافرين ناراً، وفيه دليل على أن النار مخلوقة لأنها لو لم تكن مخلوقة موجودة معدّة لكان المخبر كذّابا، وتعالى الله عن ذلك.
وقوله: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها،
روى [أبو] سعيد الخدري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «سرادق النار أربعة جدر كثف، كل واحد مسيرة أربعين سنة» «1» [71] .
وقال ابن عباس: هو حائط من نار.
الكلبي: هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفّار كالحظيرة. وقال القتيبي: السّرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. قال رؤبة:
يا حكم بن المنذر بن الجارود ... سرادق المجد عليك ممدود «2»
وقال سلامة بن جندل:
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه ... صدور الفيول بعد بيت مسردق «3»
وهو هاهنا دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله في سورة المرسلات:
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ «4» .
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من شدة العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ،
روى أبو مسلم عن أبي سعيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: بِماءٍ كَالْمُهْلِ قال: «كعكر الزّيت، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه» «5»
[72] . وقال ابن عباس: ماء غليظ مثل دردي الزيت. وقال الأعمش: هو عصارة الزيت.
ومجاهد: القيح والدم. قال الضحّاك: المهل ماء أسود، وإن جهنم سوداء، ماؤها أسود، وشجرها أسود، وأهلها سود. وقال أبو عبيدة: كل ما أذيب من جواهر الأرض.
وروى روح بن عبادة، عن سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن ابن مسعود أهديت له سقاية من ذهب وفضّة، فأمر بأخدود فخدّ في الأرض، ثمّ قذف فيه من جزل الحطب، ثمّ قذف فيه تلك السقاية، فلما أزبدت وانماعت، قال لغلامه: ادع من بحضرتك من أهل الكوفة. فدعا رهطا، فلما دخلوا عليه قال: أترون هذا؟ قالوا: نعم. قال: ما رأينا في الدنيا شبها بالمهل أدنى
__________
(1) جامع البيان للطبري: 15/ 298.
(2) الصحاح: 4/ 1496.
(3) لسان العرب: 10/ 158، وكتاب العين: 5/ 251 وفيه: نحور، بدل: صدور.
(4) سورة المرسلات: 30. [.....]
(5) مسند أحمد: 3/ 71.
(6/167)
1
من هذا الذهب والفضّة حين أزبد وانماع. وقال سعيد بن جبير: المهل الذي قد انتهى حرّه.
وقال أبو عبيدة: سمعت المنتجع بن نبهان وذكر رجلا، فقال: هو أبغض إلىّ من الطليا والمهل، فقلت له: ما المهل؟ قال: الملّة التي تحدّد من جوانب الرغيف من النار، أحمر شديد الحمرة كأنّها الرمانة، وهي جمرة والطليا: الناقة المطليّة بالقطران. يَشْوِي الْوُجُوهَ، قال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزّقوم فيأكلون منها فاختلست «1» جلودهم ووجوههم، فلو ان مارّا مرّ يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها، ثمّ يصبّ عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بِماءٍ كَالْمُهْلِ، وهو الذي قد انتهى حرّه، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حرّه لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود. بِئْسَ الشَّرابُ هذا، وَساءَتْ النار مُرْتَفَقاً، قال ابن عباس: منزلا. مجاهد: مجتمعا. عطاء: مقرّا. وقيل: مهادا. وقال القتيبي: مجلسا. وأصل:
المرتفق المتّكأ، يقال منه: ارتفقت، إذا اتّكأت على المرتفق. قال الشاعر:
قالت له وارتفقت ألا فتى ... يسوق بالقوم غزالات الضحى «2»
ويقال: ارتفق الرجل، إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم. قال أبو ذويب الهذلي:
نام الخلي وبتّ الليل مرتفقا ... كأن عيني فيها الصاب مذبوح «3»
أي مقطوع من معتضده، والصاب: شجر إذا استؤصل خرج منه كهيئة اللبن، وربما ترتفع منه تربة أي فطرة، فيقع في العين فكأنها شهاب نار، وربما أضعف البصر. ويجوز أن يكون قوله: مُرْتَفَقاً من الرفق والمنفعة.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. ليس قوله: إِنَّا لا نُضِيعُ خبرا لقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بل هو كلام معترض، وخبر (إن) الأولى «4» قوله:
أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ. ومثله في الكلام كثير، قال الشاعر:
إنّ الخليفة إنّ الله سربله ... سربال ملك به ترجى الخواتيم «5»
ومنهم من قال: فيه إضمار فإن معناه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنا لا نضيع أجره بل نجازيه.
ثمّ ذكر الجزاء فقال: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، ووهي الإقامة
__________
(1) كذا في المخطوط.
(2) جامع البيان للطبري: 15/ 300.
(3) جامع البيان للطبري: 15/ 301، ولسان العرب: 4/ 397 وفيه: مشتجرا، بدل: مرتفقا.
(4) أي الواقعة في صدر الآية.
(5) لسان العرب: 12/ 164.
(6/168)
1
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ: يلبسون فِيها مِنْ أَساوِرَ، وهو جمع الأسوار، قال سعيد بن جبير: يحلّى كل واحد منهم ثلاثة من الأساور، واحدا من فضّة، وواحدا من ذهب، ووحدا من لؤلؤ ويواقيت. مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ، وهو ما رقّ من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ، وهو ما غلظ منه. وقيل: هو فارسيّ معرّب مُتَّكِئِينَ فِيها: في الجنان عَلَى الْأَرائِكِ، وهي السّرر في الحجال، واحدتها: أريكة نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ يعني: الجنان مُرْتَفَقاً.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ- الآية- رَجُلَيْنِ منصوب مفعول، على معنى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا كمثل رجلين. نزلت في أخوين من أهل مكّة من بني مخزوم، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل كان زوج أمّ سلمة قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والآخر كافر، وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل. وقيل نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي مشركي مكّة. وهذا مثل لعيينة ابن حصين وأصحابه، وفي سلمان وأصحابه شبّههما برجلين من بني إسرائيل أخوين: أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس، وقال مقاتل: تمليخا، والآخر كافر، واسمه فطروس، قال وهب قطفر. وهما اللّذان وصفهما الله في سورة (الصافات) ، وكانت قصتهما [ما أخبرنا أبو عمرو الفراتي: حدثنا محمد بن عمران: حدثنا الحسن بن سفيان: حدثنا حيّان بن موسى: حدثنا عبد الله بن البارك عن] «1» . معمر عن عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكين، وكان لهما ثمانية آلاف دينار، وقيل: إنهما ورثاه عن أبيهما، وكانا أخوين فاقتسماها، فعمد أحدهما فاشترى أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن كان فلان قد اشترى أرضا بألف دينار، فإني أشتري منك أرضا في الجنة بألف دينار، فتصدّق بألف دينار.
__________
(1) من نسخة أصفهان، وفي النسخة المعتمدة بدله: ما روى.
(6/169)
1
ثمّ إن صاحبه بنى دارا بألف دينار، فقال هذا: إن فلان بنى دارا بألف دينار، وإني اشتريت منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدّق بألف دينار. ثمّ تزوج بامرأة وأنفق عليها ألف دينار فقال: إنّ فلان تزوّج امرأة بألف دينار، وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدّق بألف دينار. ثمّ اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، فقال: إن فلان اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني اشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار فتصدّق بألف دينار.
ثمّ أصابته حاجة شديدة فقال: لو أتيت صاحبي هذا لعلّه ينالني منه معروف. فجلس له على طريقه حتى مرّ به في حشمه، فقام إليه، فنظر إليه الآخر فعرفه فقال: فلان؟ قال: نعم. قال ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك، فأتيتك لتصيبني بخير. فقال: فما فعل مالك فقد اقتسمنا مالا واحدا فأخذت شطره وأنا شطره؟ فقصّ عليه قصته، فقال: وإنك لمن المصدّقين بهذا، أي بأنك تبعث وتجازى؟ اذهب فو الله لا أعطيك شيئا.
فطرده، فقضي لهما أن توفيا، فنزل فيهما: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ إلى قوله: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «1» ، ونزلت وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ: بستانين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما: أحطناهما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً، يعني:
جعلنا حول الأعناب النخل ووسط الأعناب الزرع.
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ: أعطت، يعني: آتت كل واحدة من الجنتين، فلذلك لم يقل: آتتا أُكُلَها: ثمرها تامّا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً، أي لم ينقص، وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً، يعني:
شققنا وأخرجنا وسطهما نهرا.
وَكانَ لَهُ، يعني: لفطروس ثَمَرٌ، يعني: المال الكثير المثمر من كل صنف، جمع ثمار. ومن قرأ: (ثمر) فهو جمع ثمرة. مجاهد: ذهب وفضة. ابن عباس: أنواع المال. قتادة:
من كلّ المال. وقال ابن زيد: الثمر الأصل. فَقالَ لِصاحِبِهِ المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ: يجاوبه أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً، يعني عشيرة ورهطا. قال قتادة: خدما وحشما. وقال مقاتل:
ولدا، تصديقه قوله تعالى إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً ...
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ، يعني: فطروس، أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به ويريه إيّاها ويعجبه منها، وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بكفره، فلمّا رأى ما فيها من الأنهار والأشجار والأزهار والثمار قالَ: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ: القيامة قائِمَةً: آتية كائنة. ثمّ تمنّى على الله أمنية أخرى مع شكّه وشركه فقال: وَلَئِنْ رُدِدْتُ: صرفت إِلى رَبِّي، فرجعت إليه في المعاد لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها، أي من الجنة التي دخلها. وقرأ أهل الحجاز والشام (منهما)
__________
(1) سورة الصافات: 55.
(6/170)
1
على لفظ التثنية، يعني الجنتين، وكذلك هو في مصاحفهم. مُنْقَلَباً، أي منزلا ومرجعا.
يقول: لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلّا ولي عنده أفضل في الآخرة.
قالَ لَهُ صاحِبُهُ المسلم وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ يعني خلق أباك وأصلك مِنْ تُرابٍ ثُمَّ خلقك مِنْ نُطْفَةٍ يعني ماء الرجل والمرأة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، أي عدلك بشرا سويّا ذكرا. لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، يقول: أما أنا فلا أكفر بربي، ولكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير مجازه: لكن الله هو ربّي. وقال الآخرون: أصله (لكن أنا) فحذفت الهمزة طلبا للخفة لكثرة استعماله، وأدغمت إحدى النونين في الأخرى، وحذفت ألف (أنا) في الوصل. وقرأ ابن عامر ويعقوب: (لكنا) ، بإتيان الألف بالوصل، كقول الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميدا قد تذريت السناما «1»
ولا خلاف في إثباتها في الوقف. وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ، (ما) في موضع رفع، يعني: هي ما شاء الله، ويجوز أن تكون في موضع النصب بوقوع شاءَ عليه. وقيل: جوابه مضمر مجازه: ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون.
[أخبرنا أبو عمرو الفراتي: القاسم بن كليب: العباس بن محمد الدوزي: حجاج: أبو بكر الهذلي عن يمامة بن عبد الله بن أنس] «2» عن أنس بن مالك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ لم يضرّه» [73] «3» .
ثمّ قال: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً، أنا عماد ولذلك نصب. فَعَسى:
فلعلّ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ في الآخرة خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها: يبعث على جنتك حُسْباناً مِنَ السَّماءِ، قال قتادة والضّحاك: عذابا. وقال ابن عباس: نارا. وقال ابن زيد: قضاء من الله عزّ وجلّ يقضيه. قال الأخفش والقتيبي: مرام من السماء واحدتها حسبانة، فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً، قال قتادة: يعني صعيدا أملس لا نبات عليه. وقال مجاهد: رملا هايلا وترابا. قال ابن عباس: هو مثل الحزن. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أي غائرا منقطعا ذاهبا في الأرض لا تناله الأيدي ولا الرشا والدلاء. والغور مصدر وضع موضع الاسم، كما يقال: صوم وزور وعدل، ونساء نوح يستوي فيه الواحد والاثنان والمذكر والمؤنث. قال عمرو بن كلثوم:
تظل جياده نوحا عليه ... مقلّدة أعنتها صفونا «4»
وقال آخر:
__________
(1) جامع البيان للطبري: 15/ 308، ولسان العرب: 13/ 37 وفيه: جميعا، بدل: حميدا.
(2) زيادة عن نسخة أصفهان.
(3) مجمع الزوائد: 5/ 109.
(4) جامع البيان للطبري: 15/ 310.
(6/171)
1
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
هريقي من دموعهما سجاما ... ضباع وجاوبي نوحا قياما «1»
فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً بعد ما ذهب ونصب.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي أحاط الهلاك بثمر جنّتيه، وهي جميع صنوف الثمار. وقال مجاهد:
هي ذهب وفضة وذلك أن الله أرسل عليها نارا فأهلكها وغار ماؤها، فَأَصْبَحَ صاحبها الكافر يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ: يصفق يده على الأخرى، وتقليب كفيه ظهرا لبطن تأسفا وتلهّفا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها يعني: عليها كقوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «2» أي عليها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ساقطة على سقوفها، خالية من غرسها وبنائها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً «3» .
قال الله عزّ وجلّ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ أي جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ: يمنعونه من عذاب الله، وَما كانَ مُنْتَصِراً: ممتنعا منتقما.
هُنالِكَ يعني: في القيامة الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ، قرأ الأعمش وحمزة والكسائي (الْوِلايَةُ) - بكسر الواو- يعني: السلطان والأمر. وقرأ الباقون بفتح الواو، من الموالاة كقوله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا «4» ، وقوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا «5» .
قال القتيبي: يريد: يتولون الله يومئذ، ويؤمنون به ويتبرّؤون مما كانوا يعبدون. وقوله:
الْحَقِّ رفعه أبو عمرو والكسائي على نعت الولاية، وتصديقه قراءة أبيّ: (هنالك الولاية الحق لله) . وقرأ الآخرون بالكسر على صفة الله كقوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ «6» ، وتصديقه قراءة عبد الله: (هنالك الولاية لله وهو الحق) فجعله من نعت الله. هُوَ خَيْرٌ ثَواباً لأوليائه وأهل طاعته وَخَيْرٌ عُقْباً لهم في الآخرة إذا صاروا إليه. والعقب: العاقبة، يقال:
هذا عاقبة أمره كذا، وعقباه وعقبه أي آخرة قوله.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 50]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)
__________
(1) تفسير القرطبي: 10/ 409.
(2) سورة طه: 71. [.....]
(3) في المخطوط علامة سقط بعدها، لكن لم تظهر في مصوّرة المخطوط.
(4) سورة البقرة: 257.
(5) سورة محمد: 11.
(6) سورة الأنعام: 62.
(6/172)
1
وَاضْرِبْ يا محمد لَهُمْ: لهؤلاء المتكبرين المترفين الذين سألوا طرد الفقراء المؤمنين مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، يعني: المطر. قالت الحكماء: شبّه الله تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع وحال، كذلك الدنيا لا تبقى لأحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة وكذلك الدنيا، ولأن الماء يفنى كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتلّ، فكذلك الدنيا لا يسلم من آفاتها وفتنتها أحد، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا مبقيا وإذا جاوز الحد المقدّر كان ضارّا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع، وفضولها يضرّ. فَاخْتَلَطَ بِهِ: بالماء نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ عن قريب هَشِيماً، قال ابن عباس: يابسا. قال الضحّاك: كسيرا. قال الأخفش: متفتّتا، وأصله الكسر. تَذْرُوهُ الرِّياحُ، قال ابن عباس: تديره. قال ابن كيسان: تجيء به وتذهب. قال الأخفش: ترفعه.
وقال أبو عبيدة: تفرّقه. القتيبي: تنسفه. وقرأ طلحة بن مصرف: الآية فقال: ذرته الريح تذروه ذروا، وتذريه ذريا وأذرته إذراء إذا أطارت به، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً، قادرا.
الْمالُ وَالْبَنُونَ التي يفخر بها عيينة وأصحابه من الأشراف والأغنياء زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وليست من زاد القبر ولا من عدد الآخرة، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ التي يعملها سلمان وأصحابه من الموالي والفقراء خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي خير ما يأمله الإنسان.
واختلفوا في الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ ما هي قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحّاك: هي قول العبد: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر) . يدل عليه ما
روى مسلم بن إبراهيم عن أبي هلال عن قتادة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذ غصنا فحركه حتى سقط ورقه، وقال: «إن المسلم إذا قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، تحاتّت عنه الذنوب «1» .
خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فهنّ من كنوز الجنّة وصفايا الكلام، وهنّ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» [74] «2» .
وقال عثمان (رضي الله عنه) وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح: هي (سبحان الله
__________
(1) في المصدر: تحاتت خطاياه كما تحات هذا.
(2) تفسير القرطبي: 10/ 415.
(6/173)
1
والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، ولا حول، ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم) . يدل عليه [ما]
روى القاسم بن عبد الله العمري، ومحمد بن عجلان عن عبد الجليل بن حميد عن خالد ابن عمران أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم خرج على قومه، فقال: «خذوا جنّتكم» . قالوا: يا رسول الله، من عدوّ حضر؟ قال: «بل من النار» . قالوا: وما جنتنا من النار؟ قال: «الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات مجنّبات ومعقّبات، وهنّ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» [75] «1» .
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات» .
فقيل: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: «الملّة» . قال: وما هي؟ قال: «التكبير، والتهليل، والتسبيح، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله» [76] «2» .
وقال عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي فقال: قل له: القني عند زاوية القبر فإن لي إليك حاجة. قال: فالتقيا، فسلّم أحدهما على الآخر، ثمّ قال سالم: ما تعدّ الباقيات؟ فقال: لا إله إلّا الله، والحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. فقال له سالم: متى جعلت: ولا حول ولا قوّة إلّا بالله؟
قال: ما زلت أجعله فيها. قال فراجعه مرتين وثلاثا فلم ينزع، فقال سالم: أجّل. فأتيت أبا أيّوب الأنصاري فحدّث أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم (عليه السلام) فقال: يا جبرئيل، من هذا معك؟ فقال: محمد. فرحّب بي وسهّل، ثمّ قال: مر أمّتك فليكثروا من غراس الجنّة، فإن تربتها طيبة، وإن أرضها واسعة. فقلت وما غراس الجنّة؟
قال: لا حول ولا قوة إلّا بالله» [77] «3» .
وقال سعيد بن جبير وعمرو بن شرحبيل ومسروق وإبراهيم: هي الصلوات الخمسة، وهي الحسنات يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «4» .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هي الأعمال الصالحة: لا إله إلّا الله، وأستغفر الله وصلى الله على محمد، والصلاة والصوم والحج والصدقة والعتق والجهاد والصّلة وجميع الحسنات التي تبقى لأهلها في الجنّة ما دامت السماوات والأرض.
وروى عطية عن ابن عباس قال: هي الكلام الطيب. وقال عوف: سألت الحسن عن الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ، قال: النيّات والهمّات لأن بها تقبل الأعمال وترفع. قال قتادة: هي كل ما أريد به وجه الله. والله أعلم.
__________
(1) المعجم الأوسط: 3/ 289.
(2) مسند أحمد: 3/ 75.
(3) مسند أحمد: 5/ 418.
(4) سورة هود: 114.
(6/174)
1
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ: نزيلها عن أماكنها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (تسيّر) - بالتاء وفتح الياء- (الجبالُ) رفعا على المجهول، وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً ظاهرة كرأي العين ليس عليها شجر ولا جبل ولا ثمر ولا شيء يسترها. وقال عطاء: ترى باطن الأرض ظاهرا قد برز الذين كانوا في بطنها فصاروا على ظهرها، وَحَشَرْناهُمْ: جمعناهم إلى الموقف للحساب، فَلَمْ نُغادِرْ:
نترك ونخلف مِنْهُمْ أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا يعني: صفّا صفّا لأنهم صفّ واحد.
وقيل قياما، يقال لهم- يعني للكفار، لفظه عام ومعناه خاص-: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
يعني: أحياء. وقيل: عراة. وقيل: عزّلا. وقيل: فرادى. لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
يعني: القيامة.
قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ يعني كتب أعمال الخلق، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ:
خائفين مِمَّا فِيهِ من الأعمال السيئة، وَيَقُولُونَ إذا رأوها: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً من ذنوبنا؟ قال ابن عباس: الصغيرة: التبسّم، والكبيرة: القهقهة. وقال سعيد بن جبير: الصغيرة اللمم والتخميش والقبل والمسيس، والكبيرة: الزنا، والمواقعة، إِلَّا أَحْصاها، قال ابن عباس: عملها. وقال السّدي: كتبها وأثبتها. وقال مقاتل بن حيان:
حفظها. وقيل: عدّها. وقال إبراهيم ابن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية قال: ضجّوا والله من الصغار قبل الكبار.
وضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لصغائر الذنوب مثلا فقال:
«كمثل قوم انطلقوا يسيرون حتى نزلوا بفلاة من الأرض فانطلق كل رجل منهم يحتطب، فجعل الرجل منهم يأتي بالعود ويجيء الآخر بعودين «1» حتى جمعوا سوادا وأجّجوا. وإن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه حتى يهلكه» «2» [78] .
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً مكتوبا مثبتا في كتابهم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً يعني: لا ينقص ثواب أحد عمل خيرا. قال الضحّاك: لا يأخذ أحدا بجرم لم يعمله ولا يورّث ذنب أحد على غيره.
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ يقول جلّ ذكره مذكّرا لهؤلاء المتكبرين ما أورث الكبر إبليس، ويعلّمهم أنه من العداوة والحسد لهم على مثل الذي كان لأبيهم: واذكر يا محمد إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ اختلفوا فيه فقال ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا مِنْ نارِ السَّمُومِ، وخلق الملائكة من نور غير هذا الحي. وكان اسمه بالسريانية عزازيل وبالعربية الحرث، وكان من خزان الجنّة، وكان رئيس ملائكة الدنيا، وكان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة
__________
(1) في المصدر: بالعود.
(2) جامع البيان للطبري: 15/ 321.
(6/175)
1
حلما وأكثرهم علما، وكان يسوس ما بين السماء والأرض فرأى بذلك لنفسه شرفا وعظمة فذلك الذي دعاه إلى الكبر، فعصى فمسخه الله شيطانا رجيما ملعونا. فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه، وكانت خطيئة آدم معصية، وخطيئة إبليس كبرا.
وقال ابن عباس في رواية أخرى: كان من الجن [و] إنما سمي بالجنان، لأنه كان خازنا عليها فنسب إليها، كما يقال للرجل: مكي وكوفي ومدني وبصري. [أخبرنا عبد الله بن حامد:
أخبرنا محمد ابن يعقوب السّري عن يحيى بن عثمان بن زفر قال] «1» : روى يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير. في قوله عزّ وجلّ: كانَ مِنَ الْجِنِّ- قال: كان من الجنانيين الذين يعملون في الجنّة. وقال الحسن: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجنّ كما أن آدم أصل الأنس. وقال شهر ابن حوشب: كان إبليس من الجنّ الذين ظفر بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة، فذهب به إلى السماء. وقال قتادة: جنّ عن طاعة «2» الله تعالى، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ يعني: خرج عن طاعة ربه. تقول العرب: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، ولذلك قيل لها: الفويسقة. وقيل: هي من الفسوق، وهي الاتّساع، تقول العرب: فسق فلان في النفقة إذا اتسع فيها، وما أصاب مالا إلّا فسقه، أي أهلكه وبذّره. والفاسق سمّي فاسقا لأنه اتّسع في محارم الله عزّ وجلّ، وهوّنها على نفسه.
أَفَتَتَّخِذُونَهُ، يعني يا بني آدم وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ: أعداء. وقال الحسن:
الإنس من آخرهم من ذريّة آدم، والجن من آخرهم من ذريّة إبليس. قال مجاهد: فمن ذريّة إبليس لافيس وولهان وهو صاحب الطهارة والصلاة، والهفّان ومرّة وبه يكنّى إبليس وزيلنون وهو صاحب الأسواق يضع رايته بكل سوق من السّماء والأرض، والدثر وهو صاحب المصائب يأمر بضرب الوجه وشقّ الجيوب والدعاء بالويل والحرب، والأعور وهو صاحب أبواب الزّنا، ومبسوط وهو صاحب الأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه النّاس فلا يجدون [لها] «3» أصلا، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله عزّ وجلّ، بصّره من المقابح ما لم يرفع أو لم يحسن موضعه، فإذا أكل ولم يذكر اسم الله عليه أكل معه.
وقال الأعمش: ربما دخلت البيت، ولم أذكر اسم الله ولم أسلّم فرأيت مطهره فقلت:
ارفعوا، وخاصمتهم، ثمّ أذكر فأقول: داسم، داسم.
وروى مخلد عن الشعبي قال: إني لقاعد يوما إذ أقبل حمال ومعه دن حتى وضعه، ثمّ جاءني فقال: أنت الشعبي؟ قلت: نعم. فقال: أخبرني هل لإبليس زوجة؟ قلت: إن ذلك لعرس
__________
(1) زيادة عن نسخة أصفهان.
(2) في نسخة أصفهات: امر. [.....]
(3) في المخطوط: له.
(6/176)
1
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
ما شهدته. قال: ثمّ ذكرت قول الله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي، فعلمت أنه لا يكون ذرية إلّا من زوجة، قلت: نعم. فأخذ دنّه وانطلق، قال: فرأيت أنه مختاري. قال ابن زيد: إبليس أبو الجن كما إنّ آدم (عليه السلام) أبو الإنس. قال الله تعالى لإبليس: إني لا أخلق لآدم ذرية إلّا ذرأت لك مثلها، [كلما] «1» ولد لآدم. قال قتادة: إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وما ولد لآدم ذريّة إلّا ولد له مثله، فليس من ولد آدم أحد إلّا له شيطان قد قرن به. بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، أي بئس البدل لإبليس وذريّته من الله. قال قتادة: بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم: طاعة إبليس وذريّته.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 51 الى 59]
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55)
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)
ما أَشْهَدْتُهُمْ: ما أحضرتهم، يعني إبليس وذريته. وقيل: يعني الكافرين أجمع. قال الكلبي: يعني ملائكة السماوات. وقرأ أبو جعفر: (ما أشهدناهم) بالنون والألف على التعظيم، خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فأستعين بهم على خلقها، وأشاورهم وأوامرهم فيها، وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً: أنصارا وأعوانا.
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا قرأ حمزة بالنون. الباقون بالياء لقوله: شُرَكائِيَ ولم يقل:
شركاءنا. شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم شركائي، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ يعني بين الأوثان وعبدتها. وقيل: بين أهل الهدى والضلالة مَوْبِقاً، قال عبد الله بن عمر:
هو واد عميق في جهنم يفرق به يوم القيامة بين أهل لا إله إلّا الله، وبين من سواهم. وقال ابن عباس: هو واد في النار. وقال مجاهد: واد من حميم. وقال عكرمة: هو نهر في النار يسيل
__________
(1) في المخطوط: فلما.
(6/177)
1
نارا، على حافتيه حيّات مثل البغال الدهم، فإذا بادرت إليهم لتأخذوهم استغاثوا بالاقتحام في النّار منها. وقال الحسن: عداوة. وقال الضحّاك وعطاء: مهلكا. وقال أبو عبيد: موعدا، وأصله الهلاك، يقال: أوبقه يوبقه إيباقا، أي أهلكه، ووبق يبق وبقا، أي هلكة، ويقال: وبق يوبق ويبق ويأبق، وهو وابق ووبق، والمصدر: وبق، ووبوق.
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ: المشركون النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها: داخلوها. وقال مجاهد:
مقتحموها وقيل: نازلوها وواقعون فيها. وقرأ الأعمش: (ملاقوها) ، يعني مجتمعين فيها، والهاء الجمع «1» وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً.
وروى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنه مواقعها «2» من مسيرة أربعين سنة» «3» [79] .
وَلَقَدْ صَرَّفْنا: بيّنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ليتذكروا ويتّعظوا وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا: خصومة في الباطل، يعني أبيّ بن خلف الجمحي، وقيل: إنه عام ليس بخاص، واحتجّوا بما
روى الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه قال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرقه هو وفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألا تصلّون؟ فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله تعالى، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قلت ذلك له ولم يرجع شيئا، فسمعته وهو يضرب فخذه ويقول: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» ! «4» .
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا يعني من أن يؤمنوا، إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى: القرآن والإسلام ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وَيَسْتَغْفِرُوا: ومن أن يستغفروا ربهم إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ يعني سنتنا في إهلاكهم أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا، قال ابن عباس: عيانا. قال الكلبي: هو السّيف يوم بدر.
قال مجاهد: فجأة. ومن قرأ قُبُلًا، بضمتين، أراد به: أصناف العذاب.
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا:
يبطلوا ويزيلوا بِهِ الْحَقَّ، قال السّدي: ليفسدوا، وأصل الدّحض: الزلق، يقال: دحضت رجله أي زلقته. وقال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته ... وحدت كما حاد البعير عن الدحض «5»
__________
(1) كذا في المخطوط.
(2) في المصدر: أنها مواقعته.
(3) جامع البيان للطبري: 15/ 330.
(4) مسند أحمد بن حنبل: 1/ 112.
(5) تاج العروس: 5/ 28.
(6/178)
1
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا، فيه إضمار يعني: وَما أُنْذِرُوا وهو القرآن هُزُواً:
استهزاء.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها: لم يؤمن بها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ، أي عملت يداه من الذنوب إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، يعني القرآن وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً: ثقلا وصمما وَإِنْ تَدْعُهُمْ يا محمد إِلَى الْهُدى يعني إلى الدين فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً: لن يرشدوا ولن يقبلوه.
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا من الذنوب لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ في الدنيا بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وهو يوم الحساب لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا: معدلا ومنجى، قال الأعشى:
وقد أخالس ربّ البيت غفلته ... وقد يحاذر منّي ثمّ ما يئل «1»
أي لا ينجو.
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا: كفروا، وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً: أجلا.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 82]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
__________
(1) جامع البيان للطبري: 15/ 334.
(6/179)
1
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ- الآية- قال ابن عباس: لما ظهر موسى (عليه السلام) وقومه على مصر أنزل قومه مصر، فلمّا استقرت بهم الدار أنزل الله عزّ وجلّ: أن ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فخطب قومه وذكر بما آتاهم الله عزّ وجلّ من الخير والنّعمة إذ نجّاهم من آل فرعون وأهلك عدوّهم واستخلفهم في الأرض، فقال: «وكلّم الله نبيكم تكليما، واصطفاني لنفسه، وألقى عليّ محبّة منه، وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ، ونبيّكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرؤون التوراة» . فلم يترك نعمة أنعمها الله عزّ وجلّ عليهم إلّا ذكرها وعرّفها إيّاهم، فقال له رجل من بني إسرائيل:
قد عرفنا الذي تقول، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال: «لا» . فعتب الله عزّ وجلّ عليه حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبرئيل، فقال: «يا موسى وما يدريك أين أضع علمي؟ بل إن لي عبدا بمجمع البحرين أعلم منك» . فسأل موسى ربّه أن يريه إيّاه، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن: «ايت البحر فإنك تجد على شط البحر حوتا، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثمّ الزم شط البحر إذا نسيت الحوت وهلك منك فثمّ تجد العبد الصالح» «1» [80] .
وقال ابن عباس في رواية أخرى: سأل موسى ربّه فقال: «ربّ أي عبادك أحبّ إليك؟» .
قال: «الذي يذكرني فلا ينساني» . قال: «فأي عبادك أقضى؟» . قال: «الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى» . قال: «ربّي فأي عبادك أعلم؟» . قال: «الذي يبغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى أو ترده عن ردّى» . قال: «إن كان في عبادك أحد هو أعلم منّي فادللني عليه» . فقال له: «نعم» في عبادي من هو أعلم منك» . قال: «من هو؟» . قال:
«الخضر» . قال: «وأين أطلبه؟» . قال: «على الساحل عند الصخرة» . وجعل الحوت له آية، وقال: «إذا حيّ هذا الحوت، وعاش، فإن صاحبك هناك» «2» [81] .
وكانا قد تزودا سمكا مالحا فذلك قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ قالَ مُوسى بن عمران لِفَتاهُ:
صاحبه يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف. وقيل: فتاه أخو يوشع، كان معه في سفره. وقيل:
فتاه عبده ومملوكه: لا أَبْرَحُ: لا أزال أسير حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، قال قتادة: بحر فارس والروم مما يلي المشرق. وقال محمد بن كعب: طنجة «3» . وقال أبيّ بن كعب: أفريقية،
__________
(1) جامع البيان للطبري: 15/ 349.
(2) جامع البيان للطبري: 15/ 343 بتفاوت يسير.
(3) المصدر السابق: 337.
(6/180)
1
أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً وجمعه أحقاب: دهرا أو زمانا. وقال عبد الله بن عمر: والحقب ثمانون سنة. وقال مجاهد: سبعون سنة. وقيل: البحران هما موسى والخضر، كانا بحرين في العلم.
فحملا خبزا وسمكة مالحة وسارا حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ليلا، وعندها عين تسمى ماء الحياة، لا يصيب ذلك الماء شيئا إلّا حيّ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وعاشت ودخلت البحر، فذلك قوله عزّ وجلّ: فَلَمَّا بَلَغا، يعني: موسى وفتاه مَجْمَعَ بَيْنِهِما يعني: بين البحرين نَسِيا حُوتَهُما: تركا حوتهما، وإنما كان الحوت مع يوشع، وهو الذي نسيه فصرف النسيان إليهما، والمراد به: أحدهما كما قال:
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «1» وإنما يخرج من المالح دون العذب. وإنما جاز ذلك لأنهما كانا جميعا تزوّدا لسفرهما، فجاز إضافته إليهما، كما يقال: خرج القوم إلى موضع كذا، وحملوا معهم من الزاد كذا، وإنما حمله أحدهم، لكنه لمّا كان ذلك من أمرهم ورأيهم أضيف إليهم. فَاتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً، أي مسلكا ومذهبا يسرب ويذهب فيه.
واختلفوا في كيفية ذلك
فروى أبيّ بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «انجاب الماء عن مسلك الحوت فصارت كوّة لم تلتئم، فدخل موسى الكوّة على أثر الحوت فإذا هو بالخضر (عليه السلام) » [82] .
وقال ابن عباس: رأى أثر جناحه في الطين حين وقع في الماء، وجعل الحوت لا يمس شيئا إلّا يبس حتى صار صخرة.
وروى ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«لمّا انتهيا إلى الصخرة وضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً، أمسك الله عزّ وجلّ عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ موسى (عليه السلام) نسي فتاه أن يخبره بالحوت وانطلقا بقية يومهما وليلتهما. حتى إذا كان من الغد فَلَمَّا جاوَزا قالَ موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا» «2» [83] .
وقال قتادة: رد الله عزّ وجلّ إلى الحوت روحه فسرب من البحر حتى أفضى إلى البحر، ثمّ سلك فجعل لا يسلك منه طريقا إلّا صار ماء جامدا طريقا يبسا. وقال الكلبي: توضّأ يوشع بن نون من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش، ثمّ وثب في ذلك الماء، فجعل يضرب بذنبه الماء، ولا يضرب بذنبه شيئا من الماء وهو ذاهب إلّا يبس. فَلَمَّا جاوَزا، يعني ذلك الموضع قالَ موسى لِفَتاهُ آتِنا: أعطنا غَداءَنا: طعامنا وزادنا، وذلك أن يوشع بن نون حين رأى ذلك من الحوت قام ليدرك موسى ليخبره بأمر الحوت، فنسي أن يخبره فمكثا يومهما ذلك حتى صلّيا الظهر من الغد، ولم ينصب موسى في سفره ذلك إلّا يومئذ حين
__________
(1) سورة الرحمن: 22.
(2) مسند الحميدي: 1/ 182، وزاد المسير: 5/ 114.
(6/181)
1
جاوز الموضع الّذي أمر به، فقال لفتاه حين ملّ وتعب: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً، أي شدة وتعبا، وذلك أنه ألقي على موسى الجوع بعد ما جاوز الصخرة، ليتذكر الحوت، ويرجع إلى موضع مطلبه، فقال له فتاه وتذكر: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا: رجعنا إِلَى الصَّخْرَةِ، قال مقاتل: هي الصخرة التي دون نهر الزيت فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ؟ أي تركته وفقدته.
وقيل: فيه إضمار معناه: نسيت أن أذكر أمر الحوت، ثمّ قال: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، يعني: أنسانيه ألّا أذكره. وقيل: فيه تقديم وتأخير مجازه: وما أنسانيه أن أذكره إلّا الشيطان، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً، يجوز أن يكون هذا من قول يوشع، يقول: اتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. وقيل: إن يوشع يقول: إن الحوت طفر إلى البحر فاتّخذ فيه مسلكا، فعجبت من ذلك عجبا. ويجوز أن يكون هذا من قول موسى، قال له يوشع: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ، فأجابه موسى: عَجَباً كأنه قال: أعجب عجبا.
وقال ابن زيد: أي شيء أعجب من حوت، كان دهرا من الدهور يؤكل منه ثمّ صار حيّا حتى حشر في البحر. قال: وكان شق حوت. وقال ابن عباس: اتَّخَذَ موسى سبيل الحوت فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قال وهب: ظهر في الماء من أثر جري الحوت شق وأخدود شبه نهر من حيث دخلت إلى حيث انتهت. فرجع موسى حتى انتهى إلى مجمع البحرين، فإذا هو بالخضر (عليه السلام) ، فذلك قوله: قالَ موسى لفتاه: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي نطلب، يعني الخضر فَارْتَدَّا: فرجعا عَلى آثارِهِما قَصَصاً: يقصان الأثر: يتبعانه.
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا يعني الخضر «1» واسمه بليا بن ملكان بن يقطن، والخضر لقب له، سمّي بذلك، لما
[أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان: أخبرنا أبو الأزهر عن عبد الرزاق عن] «2» معمر عن همام بن منبّه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما سمي الخضر خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت «3» تحته خضراء» «4» [84] .
[قال عبد الرزاق: فروة بيضاء يعني: حشيشة يابسة، [و] فروة: قطعة من الأرض فيها نبات] «5» . وقال مجاهد: إنما سمي الخضر لأنه إذا صلّى اخضرّ ما حوله. وروى عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سلمان قال: رأى موسى الخضر (عليه السلام) على طنفسة خضراء على وجه الماء، فسلّم عليه.
وقال ابن عباس عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) في المخطوط علامة سقط بعدها، لكن لم يظهر في مصوّرة المخطوط. [.....]
(2) من نسخة ثانية، وفي النسخة المعتمدة بدله: روى.
(3) في المصدر: فإذا هي تهتز.
(4) كنز العمال: 12/ 72 ح 34048.
(5) زيادة عن نسخة أصفهان.
(6/182)
1
قال: «انتهى موسى إلى الخضر (عليه السلام) وهو نائم عليه ثوب مسجىّ، فسلّم عليه فاستوى جالسا قال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. قال موسى: وما أدراك بي؟ ومن أخبرك أني نبيّ بني إسرائيل؟ قال الذي أدراك بي ودلّك عليّ» «1» [85] .
وقال سعيد بن جبير: وصل إليه وهو يصلي، فلما سلّم عليه قال: وأنّى بأرضنا السلام؟! ثمّ جلسا يتحدّثان فجاءت خطّافة وحملت بمنقارها من الماء، قال الخضر: يا موسى خطر ببالك أنّك أعلم أهل الأرض، ما علمك وما علم الأولين والآخرين في جنب الله إلّا أقلّ من الماء الذي حملته الخطافة، فذلك قوله تعالى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً. قالَ لَهُ: للعالم مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً:
صوابا؟ قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً لأني أعمل بباطن علم علّمنيه ربّي عزّ وجلّ، وَكَيْفَ تَصْبِرُ يا موسى عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً، يعني على ما لم تعلم؟ وقال ابن عباس:
وذلك أنه كان رجلا يعمل على الغيب.
قالَ موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً. قال: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ مما تنكر حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً: حتى ابتدئ لك بذكره، وأبيّن لك شأنه. فَانْطَلَقا يسيران يطلبان سفينة يركبانها حَتَّى إِذا أصابها رَكِبا فِي السَّفِينَةِ، فقال أهل السفينة: هؤلاء لصوص، فأمروهما بالخروج منها، فقال صاحب السفينة: ما هم بلصوص ولكنّي أرى وجوه الأنبياء.
وقال أبي بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول فلما دخلوا إلى البحر أخذ الخضر فأسا فخرق لوحا من السفينة حتّى دخلها الماء فحشاها موسى ثوبه وقال له: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها» «2» [86]
. وقرأ أهل الكوفة (لِيَغْرِقَ) بالياء المفتوحة (أَهْلُها) برفع اللام على أن الفعل لهم، وهي قراءة ابن مسعود، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي منكرا. قال القتيبي: عجبا. والإمر في كلام العرب الداهية، قال الراجز:
قد لقي الأقران منّي نكرا ... داهية دهياء إدّا إمرا «3»
وأصله: كل شيء شديد كثير، يقال: أمر القوم، إذا كثروا واشتدّ أمرهم.
قالَ العالم أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قالَ موسى: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ
[أخبرنا أبو عبد الله بن حامد الورّاق عن حامد بن محمد قال: قال أبو سعد بن موسى المروروذي ببغداد، وأخبرنا محمد بن أبي ناجية الاسكندراني عن سفيان بن عيينة عن عمر بن
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 15 بتفاوت يسير.
(2) صحيح البخاري: 1/ 39 بتفاوت.
(3) الصحاح: 2/ 581.
(6/183)
1
دينار عن] «1» عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كانت الأولى من أمر النسيان، والثانية القدر، ولو صبر موسى لقص الله علينا أكثر مما قص» [87] «2» .
وقال أبي بن كعب: أما إنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام. وقال ابن عباس: معناه بما تركت من عهدك، وَلا تُرْهِقْنِي: تعجلني «3» : وقيل: لا تغشني «4» مِنْ أَمْرِي عُسْراً، يقول: لا تضيّق عليّ أمري وصحبتي معك.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً، قال سعيد بن جبير: وجد الخضر غلمانا يلعبون، وأخذ غلاما ظريفا وضيء الوجه، فأضجعه ثمّ ذبحه بالسكين. وقال ابن عباس: كان لم يبلغ الحلم.
وقال الضحّاك: كان غلاما يعمل بالفساد، وتأذّى منه أبواه: وكان اسمه خش بوذ. وقال شعيب الحيّاني: اسمه حيشور «5» ، وقال وهب بن منبّه كان اسم أبيه ملاس، واسم أمه رحمي. وقال الكلبي كان فتى يقطع الطريق، ويأخذ المتاع ويلجأ إلى أبويه ويحلفان دونه، فأخذه الخضر فصرعه ثمّ نزع من جسده رأسه. وقال قوم: رفسه برجله فقتله. وقال آخرون: ضرب رأسه بالجدار فقتله.
[أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن يحيى بن قيس عن أبي إسحاق عن] «6» سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا «7» فلمّا قتله قال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً؟» [88]
. أي طاهرة. وقيل: مسلمة. قال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان مثل القاسية والقسيّة. قال أبو عمرو: الزاكية: التي لم تذنب قط، والزكية: التي أذنبت ثمّ تابت. بِغَيْرِ نَفْسٍ أي من غير أن قتلت نفسا أوجب عليها القود، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً:
منكرا؟ وقال قتادة وابن كيسان: النكر: أشد وأعظم من الإمر.
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أي هذه المرّة فَلا تُصاحِبْنِي: فارقني قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً في فراقي.
[أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان عن عبد الرحمن بن بشير عن حجاج بن محمد: أخبرنا حمزة الزّيات عن أبي إسحاق عن] «8» سعيد بن جبير عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) زيادة عن نسخة أصفهان.
(2) تاريخ مدينة دمشق: 61/ 155 ط. دار الفكر.
(3) زاد المسير: 5/ 120 ونسبه للفراء.
(4) جامع البيان للطبري: 15/ 354.
(5) ذكره في عرائس المجالس: 172، بلفظ: حسنود.
(6) زيادة عن نسخة أصفهان.
(7) مسند أحمد: 5/ 121. [.....]
(8) زيادة عن نسخة أصفهان.
(6/184)
1
إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: «رحمة الله علينا وعلى أخي موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب [العجاب] «1» ، ولكنه قال: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» «2» [89] .
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ قال ابن عباس: يعني أنطاكية. وقال ابن سيرين: أيلة «3» ، وهي أبعد أرض الله من السّماء اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما، أي ينزّلوهما منزلة الأضياف وذلك أنهما استطعماهم فلم يطعموهما، واستضافاهم فلم يضيفوهما.
[أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سلمان عن يحيى بن قيس عن أبي إسحاق عن] «4» سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما قال: «كانوا أهل قرية لئاما» [90] «5» .
وقال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف، ولا تعرف لابن السبيل حقّه.
فَوَجَدا فِيها، أي في القرية جِداراً، قال وهب: كان جدارا طوله في السماء مائة ذراع، يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ هذا من مجاز الكلام، لأن الجدار لا إرادة له، وإنما معناه: قرب ودنا من ذلك، كقول الله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ «6» . قال ذو الرمّة:
قد كاد أو [قد] هم بالبيود «7»
وقال بعضهم: إنما رجع إلى صاحبه، لأن هذه الحالة إذا كانت من ربّه فهو إرادته، كقول الله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ «8» وإنما يسكت صاحبه. وقال: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «9» وإنما يعزم أهله. قال الحارثي:
يريد الرمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل «10»
وقال عقيل:
__________
(1) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: الأعاجب.
(2) السنن الكبرى: 6/ 392، وفيه: العاجب، بدل: العجاب.
(3) من عرائس المجالس، وفي المخطوط: الأيلة.
(4) زيادة عن نسخة أصفهان.
(5) كنز العمال: 2/ 461 ح 4500.
(6) سورة مريم: 90.
(7) جامع البيان للطبري: 15/ 290.
(8) سورة الأعراف: 154.
(9) سورة محمد: 21.
(10) جامع البيان للطبري: 15/ 358، ولسان العرب: 3/ 189 وفيه ويعدل بدل ويرغب.
(6/185)
1
إنّ دهرا يلف شمل سليمى ... لزمان يهمّ بالإحسان «1»
أَنْ يَنْقَضَّ، أي يسقط وينهدم، ومنه انقضاض الكواكب، وهو سقوطها وزوالها عن أماكنها. وقرأ يحيى بن عمر: (يريد أن ينقاض) أي ينقلع وينصدع، يقال: انقاضّت السنّ:
انصدعت من أصلها. وقال بعض الكوفيين: الانقياض: الشق طولا، يقال: انقاض الحائط والسن وطيّ البئر، إذا انشقت طولا. فَأَقامَهُ: سوّاه. قال ابن عباس: هدمه ثمّ قعد يبنيه.
وقال سعيد بن جبير: مسح الجدار ودفعه بيده، فاستقام. قال موسى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ، وقرأ أبو عمرو: (لتخذت) وهما لغتان مثل قولك: (اتّبع) و (تبع) ، و (اتّقى) و (تقى) ، قال الشاعر:
وقد تخدت رحلي إلى جنب غرزها ... نسيفا كأفحوص القطاة المطرّق «2»
وأنشد الزجاج في قوله: (لتخذت) قوله أبي شمام الصبابي:
تخذوا الحديد من الحديد معاولا ... سكانها الأرواح والأجساد
عَلَيْهِ، أي على إصلاحه وإقامته أَجْراً، أي جعلا وأجرة. وقيل: قرىّ وضيافة.
ف قالَ الخضر (عليه السلام) : هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ قرأ لاحق بن حميد: (فِراقٌ) بالتنوين، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ قال كعب: كانت لعشرة إخوة: خمسة منهم زمنى، وخمسة منهم يعملون في البحر. وفي قوله:
لِمَساكِينَ دليل على أن المسكين وإن كان ملك شيئا فلا يزول عنه اسم المسكنة إذا كانت به حاجة إلى ما هو زيادة على ملكه، ويجوز له أخذ الزكاة. [وأخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن علي الحمشادي، عن أحمد بن الحسين بن علي الرازي قال: أبو الحسن أحمد بن زكريا المقدسي عن إبراهيم بن عبد الله الصنعاني عن إبراهيم] «3» بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال: قلت لابن عباس: قوله: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، كانوا مساكين والسفينة تساوي ألف دينار؟ قال: إن المسافر مسكين ولو كان معه ألف دينار. فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ أي أمامهم وقدّامهم كقوله تعالى: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ «4» ومِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ «5» أي أمامهم. قال الشاعر:
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا «6»
__________
(1) الصحاح: 2/ 661، وجامع البيان للطبري: 15/ 358.
(2) الصحاح: 4/ 1431.
(3) زيادة عن نسخة أصفهان، وفي النسخة المعتمدة بدله: وروى. [.....]
(4) سورة إبراهيم: 16.
(5) سورة المؤمنون: 100.
(6) لسان العرب: 15/ 390.
(6/186)
1
وقيل: وَراءَهُمْ: خلفهم، وكان رجوعهم في طريقهم عليه، ولم يكونوا يعلمون بخبره فأعلم الله الخضر (عليه السلام) بخبره. مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً، أي كل سفينة صالحة، فاكتفى بدلالة الكلام عليه، يدل عليه ما روى سفيان عن عمر بن دينار عن ابن عباس أنه يقرأ (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا) . فخرقها وعيّبها، لئلّا يتعرض لها ذلك الملك، واسمه جلندى وكان كافرا. قال محمد بن إسحاق: وكان اسمه منواه بن جلندى الأردني. وقال شعيب الجبائي اسمه هدد بن بدد.
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا، أي فعلمنا. وفي مصحف أبيّ: (فخاف ربك) أي علم، ونظائره كثيرة. وقال قطرب: معناه فكرهنا، كما تقول: فرّقت بين الرّجلين خشية أن يقتتلا، وليست فيك خشية ولكن كراهة أن يقتتلا. أَنْ يُرْهِقَهُما، أي يهلكهما. وقيل:
يغشاهما. وقال الكلبي: يكلّفهما طُغْياناً وَكُفْراً، قال سعيد بن جبير: خشينا أن يحملهما حبّه على أن يدخلهما معه في دينه.
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً: صلاحا وإسلاما وَأَقْرَبَ رُحْماً هو من الرحم والقرابة. وقيل: هو من الرحمة، يقال: رحم ورحم للرحمة، مثل هلك وهلك، وعمر وعمر، قال العجّاج:
ولم تعوّج رحم من تعوّجا «1»
قال ابن عباس: وَأَقْرَبَ رُحْماً يعني: وأوصل للرحم وأبرّ بوالديه. قال قتادة: أقرب خيرا، وقال ابن جريج: يعني أرحم به منهما بالمقتول. وقال الفراء: وأقرب أن يرحما له. قال الكلبي: أبدلهما الله جارية، فتزوّجها نبيّ من الأنبياء، فولدت له نبيا فهدى الله عزّ وجلّ على يديه أمّة من الأمم.
[وأخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن أحمد قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن الحرث القاضي عن عبد الوهّاب بن فليح عن ميمون بن عبد الله القدّاح عن] «2» جعفر بن محمد عن أبيه في هذه الآية قال: «أبدلهما جارية فولدت سبعين نبيا» «3» [91] .
وقال ابن جريج: أبدلهما بغلام مسلم وكان المقتول كافرا وكذلك هو في حرف ابي: (فأما الغلام فكان كافرا، وكان أبواه مؤمنين) . وقال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.
__________
(1) لسان العرب: 12/ 232.
(2) ليس في النسخة المعتمدة.
(3) تفسير مجمع البيان: 6/ 376.
(6/187)
1
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ واسمهما أصرم وصريم وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما اختلفوا في ذلك الكنز ما هو، فقال بعضهم: صحف فيها علم مدفونة تحته، وهو قول سعيد ابن جبير. وقال ابن عباس: ما كان الكنز إلّا علما،
وقال الحسن وجعفر بن محمد: «كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يوقن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلّا الله، محمد رسول الله» «1» .
وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا القول مرفوعا في بعض الروايات أنه كان مكتوبا في ذلك اللوح تحت ما ذكر هذه الآيات: «يا أيّها المهتم هما لا تهمّه، إنك إن تدركك الحمّى تحمّ [....] «2» علوت شاهقا من العلم كيف توقيك وقد جفّ القلم؟!» [92] .
وقال عكرمة كان ذلك الكنز مالا.
[أخبرنا أبو بكر الحمشادي: حدثنا أبو الحسن أحمد ابن محمد بن قيدوس الطرائقي عن عثمان بن سعيد عن صفوان بن صالح الثقفي «3» عن الوليد بن مسلم عن يزيد بن يوسف الصنعاني عن يزيد بن أبي يزيد عن] «4» مكحول عن [أبي] «5» الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما، قال: «كان ذهبا وفضّة» «6» [93] .
وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً، واسمه كاشح، وكان من الأتقياء. ذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان سيّاحا.
[وأخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن الحميدي عن] «7» سفيان عن محمد ابن سوقة عن محمد بن المنكدر قال: إنّ الله عزّ وجلّ ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده، وعشيرته التي هو فيها، والدويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله وستره.
وعن سعيد بن المسيّب أنه كان إذا رأى ابنه قال: أي بني لأَزيدن صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك. ويتلو هذه الآية. [وأخبرنا عبد الله بن حامد عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي عن أحمد بن الليث بن الخليل عن عمر بن محمد قال: حدّثني محمد بن الهيثم
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 38.
(2) بياض في مصوّرة المخطوط.
(3) في نسخة أصفهان: الدمشقي. هامش المخطوط.
(4) ليس في النسخة المعتمدة.
(5) من عرائس المجالس: 174، وفي المخطوط: أم.
(6) زاد المسير: 5/ 126.
(7) زيادة عن نسخة أصفهان.
(6/188)
1
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
ابن عبد الله الضبيعي عن] «1» العباس بن محمد بن عبد الرحمن: حدّثني أبي عن يحيى بن إسماعيل بن مسلمة ابن كهيل قال: كانت لي أخت أسن منّي فاختلطت وذهب عقلها، وتوحّشت، وكانت في غرفة في أقصى سطوحها، فمكثت بذلك بضع عشرة سنة، وكانت مع ذهاب عقلها تحرص على الصلاة والطهور. فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ باب بيتي يدق في نصف الليل، فقلت: من هذا؟ قالت: بحّة. قلت: أختي قالت: أختك. فقلت: لبيك. وقمت ففتحت الباب، فدخلت ولا عهد لها بالبيت منذ أكثر من عشر سنين، فقلت لها: يا أخته خيرا؟ قالت:
خير، أتيت الليلة في منامي، فقيل: السلام عليك يا بحّة، فقلت: وعليك السلام، فقيل: إنّ الله قد حفظ أباك إسماعيل بن سلمة بن كهيل بسلمة جدك، وحفظك بأبيك إسماعيل، فإن شئت دعوت الله لك فأذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنّة، فإن أبا بكر وعمر قد تشفعا لك إلى الله عزّ وجلّ بحب أبيك وجدك إيّاهما. فقلت: إن كان لا بدّ من اختيار أحدهما، فالصبر على ما أنا فيه والجنّة، فإن الله عزّ وجلّ لواسع لخلقه لا يتعاظمه شيء، إن يشأ يجمعهما لي فعل. قالت: فقيل لي: قد جمعهما الله عزّ وجلّ لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر، قومي فانزلي. قال: فأذهب الله ما بها.
فَأَرادَ رَبُّكَ يا موسى أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، أي يدركا شدّتهما وقوّتهما. وقيل: ثماني عشرة سنة، وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما المكنوز تحت الجدار، وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي برأيي ومن تلقاء نفسي، بل فعلت عن أمر الله عزّ وجلّ. ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً و (اسطاع) و (استطاع) بمعنى واحد.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 98]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
__________
(1) زيادة من نسخة أصفهان. [.....]
(6/189)
1
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً، اختلفوا في نبوّته فقال بعضهم:
كان نبيا. وقال الآخرون: كان ملكا عادلا صالحا. [أخبرنا أبو منصور الحمشادي: أبو عبد الله محمد بن يوسف عن] «1» وكيع عن العلاء بن عبد الكريم قال: سمعت مجاهدا يقول: ملك الأرض أربعة: مؤمنان، وكافران. فأما المؤمنان فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران فنمرود وبخت نصّر.
واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين، فقال بعضهم: سمي بذلك، لأنه ملك الروم وفارس. وقيل: لأنه كان في رأسه شبه القرنين. وقيل: لأنه رأى في منامه كأنه أخذ بقرني الشمس فكان تأويل رؤياه أنه طاف الشرق والغرب. وقيل: لأنه دعا قومه إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيمن ثمّ دعاهم إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيسر. وقيل: لأنه كان له ذؤابتان حسناوان، والذؤابة تسمى قرنا. وقيل: لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه.
وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس، وهو حي. وقيل: لأنه إذا كان حارب قاتل بيده وركابه جميعا. وقيل: لأنه أعطي علم الظاهر الباطن. وقيل: لأنه دخل النور والظلمة.
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أوطأنا له في الأرض فملكها وهديناه طرقها، وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه الخلق. وقيل: من كل شيء يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء سَبَباً علما يتسبّب به إليه. وقال الحسن: بلاغا إلى حيث أراد. وقيل: قربنا إليه أقطار الأرض، كما سخرنا الريح لسليمان (عليه السلام) .
فَأَتْبَعَ: سلك وسار. وقرأ أهل الكوفة: (فَأَتْبَعَ) ... ، (ثُمَّ أَتْبَعَ) بقطع الألف وجزم الثاني:
لحق سَبَباً، قال ابن عباس: منزلا، وقال مجاهد: طريقا بين المشرق والمغرب، نظير قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ يعني الطرق.
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ
قرأ العبادلة: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير، والحسن، وأبو جعفر، وابن عامر وأيوب، وأهل الكوفة: (حامية) بالألف، أي حارة.
ويدل عليه ما
[أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله بن سليمان عن عثمان بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن سفيان بن الحسين عن الحكم ابن عيينة عن] «2» إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذرّ قال: كنت ردف النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أبا ذر أين تغرب هذه؟» . قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها تغرب في عين حامية» «3» [94] .
__________
(1) في النسخة المعتمدة بدلها: روى.
(2) زيادة عن نسخة أصفهان، وفي النسخة المعتمدة بدلها: ما روى.
(3) سنن أبي داود: 2/ 249.
(6/190)
1
وقال عبد الله بن عمرو: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الشمس حين غابت فقال: «في نار الله الحامية، في نار الله الحامية فلولا ما يزعمها من أمر الله عزّ وجلّ لأحرقت ما على الأرض» «1»
[95] .
وقرأ الباقون: حَمِئَةٍ مهموزة بغير ألف، يعني: ذات حمأة، وهي الطينة السوداء. يدل عليه ما
روى سعد بن أوس عن مصرع بن يحيى عن ابن عباس قال: أقرأنيها أبيّ بن كعب كما أقرأه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ
«2» وقال كعب: أجدها في التوراة: (في عين سوداء) ، فوافق ابن عباس. أبو أسامة عن عمرو بن ميمون قال: سمعت أبا حاضر أو ابن حاضر- رجل من الأزد- يقول: سمعت ابن عباس يقول: إنّي لجالس عند معاوية إذ قرأ هذه الآية:
(وجدها تغرب في عين حامية) فقلت: ما نقرؤها إلّا حَمِئَةٍ. فقال معاوية لعبد الله بن عمر:
وكيف تقرؤها؟ قال: كما قرأتها يا أمير المؤمنين. قال ابن عباس: فقلت: في بيتي نزل القرآن.
فأرسل معاوية إلى كعب، فجاءه فقال: أين تجد الشمس تغرب في التوراة يا كعب؟ قال: أما العربية فأنتم أعلم بها، وأما الشمس فإنّي أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين. قال: فقلت لابن عباس: لو كنت عندكما لانشدت كلاما تزداد به نصرة في قولك: حَمِئَةٍ. قال ابن عباس: فإذن ما هو؟ فقلت: قول تبع:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ... ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى معاد الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد «3»
قال: فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم. قال: فما الثأط؟ قلت:
الحمأة. قال: وما الحرمد؟ قلت: الأسود. قال: فدعا رجلا أو غلاما، فقال: اكتب ما يقول هذا. وقال أبو العالية: بلغني أن الشمس في عين، تقذفها العين إلى المشرق.
وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، يعني ناسا قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ: إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً، أي تعفو وتصفح. وقيل: تأسرهم فتعلّمهم وتبصّرهم الرّشاد.
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ، أي كفر فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ: نقتله ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً: منكرا. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، قرأ أهل
__________
(1) جامع البيان للطبري: 16/ 17.
(2) سنن أبي داود: 2/ 246.
(3) تفسير القرطبي: 11/ 49، وفيه: مغيب، بدل: معاد.
(6/191)
1
الكو