تفسير الثعلبي الكشف والبيان عن تفسير القرآن 006

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ يعني أهلكهم [بشركاء منهم] وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي طولا وشدّة وقوّة.
قال مقاتل: طول كل رجل اثنا عشر ذراعا، ابن عباس: تمثّل ذراعا وقال الكلبي: كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستّين ذراعا. أبو حمزة الثمالي سبعون ذراعا. ابن عباس: ثمانون، وهب: كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة وكان عين الرجل يفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ نعم الله واحدها [إل وإلي وإلو وإلى كالآناء واحدها إنى وإني وإنو وأني] «1» لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا وندع ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام فَأْتِنا بِما تَعِدُنا يعني العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ قَدْ وَقَعَ وجب ونزل عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ أي عذاب [والسين مبدأ من الزاي] «2» وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها وضعتموها على الأصنام [ ... ] «3» يعبد نارا أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ قبلكم ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ حجّة وبيان وبرهان فانتظروا نزول العذاب.
إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْناهُ يعني هودا عند نزول العذاب.
وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ وكانت قصّة عاد وهلاكهم على ما ذكره محمد بن إسحاق والسدي وغيرهما من الرواة والمفسّرين: إن عادا كانوا ينزلون اليمن وكان مساكنهم منها بالشجرة والأحقاف، وهي رمال يقال لها رمل عالج (ودمما وبيرين) «4» ما بين عمان إلى حضرموت، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض فكلّها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عزّ وجلّ وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله صنم يقال له: صنا، وصنم يقال له: صمود، وصنم يقال لها: الهبار.
فبعث الله عزّ وجلّ إليهم هودا نبيّا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وأمرهم أن يوحدوا الله ولا يشركوا معه إلها غيره، وأن يكفّوا عن ظلم الناس [ولم] يأمرهم فيما تذكر بغير ذلك.
فأبوا عليه وكذّبوه وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، وبنو المصانع وبطشوا بطشة الجبارين كما ذكر الله تعالى فلما فعلوا ذلك أمسك الله المطر عنهم ثلاث سنين حتّى جهدهم ذلك.
__________
(1) زيادة من تفسير القرطبي: 7/ 237
. (2) كذا في المخطوط ومراده أن الرجز بالزاي والرجس بالسين هما بمعنى واحد قلبت السين زايا، وهذا قول أبو عمرو بن العلاء، راجع زاد المسير: 3/ 151
. (3) كلمة غير مقروءة
. (4) بيرين: من قرى حمص، ودمما: قرية دون الأنبار على الفرات
.
(4/246)
1
وكانت الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو حرب دعوا إلى الله الفرج وطلبتهم إلى الله عند البيت الحرام بمكّة مسلمهم ومشركهم فتجتمع بمكّة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم وكلّهم معظّم لمكّة عارف بحرمتها ومكانها من الله عزّ وجلّ. وأهل مكّة يومئذ العماليق وإنّما سمّوا العماليق لأن أباهم عمليق بن لاود بن سام بن نوح وكان سيّد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له: معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت [الخبيري] رجل من عاد الأكبر فلمّا قحط المطر عن عاد [وجمدوا] قال: جهزوا وفدا إلى [أن يستسقوا] لكم فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عقير.
وكان مسلما يكتم إسلامه وجهلمة بن الخيبري، قال معاوية بن بكرة: ثمّ بعثوا لقمان ابن عاد بن صد بن عاد الأكبر، فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه رهط من قومه حتّى بلغ [عدّة فعدّهم] سبعين رجلا فلمّا قدموا مكّة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكّة خارجا من الحرم. فأنزلهم وأكرمهم وكانوا إخوانه وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر، وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوّثون من البلاء الذي أصابهم أشفق ذلك عليه وقال: هلك إخواني وأصهاري وهؤلاء يقيمون عندي وهم ضيفي والله ما أدري كيف أصنع بهم إنّي لأستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنون أنّه ضيق منّي ببقائهم عندي، وقد هلك من ورائهم من قومهم [جدبا] وعطشا، فشكى ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا: اصنع شعرا نغني به لا يدرون من قاله لعلّ ذلك [يحرّكهم] .
فقال معاوية بن بكر:
لعل الله يسقينا غماما ... ألا يا قيل ويحك قم فهينم
قد أمسوا لا يبينون كلاما ... فيسقي أرض عاد ان عادا
به الشيخ الكبير ولا الغلاما ... من العطش الشديد فليس نرجو
فقد أمست نساؤهم عيامى ... وقد كانت نسائهم بخير
ولا يخشى لعادي سهاما ... وإن الوحش يأتيهم جهارا
نهاركم وليلكم التماما ... وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم
قوم ولا لقوا التحيّة والسلاما «1» ... فقبح وفدكم من وفد
فلما قال الشعر غنتهم به الجرادتان فلما سمع القوم قال بعضهم لبعض: إنّما بعثكم قومكم يتغوّثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أطلتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا
__________
(1) جامع البيان للطبري: 8/ 283
.
(4/247)
1
لقومكم، وقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله ما تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيّكم وأنبتم إليه سقيتم، فأظهر إسلامة عند ذلك فقال جلهمة بن [الخيبري] خال معاوية حين سمع قوله وعرف أنّه اتبع دين هود (عليه السلام) :
ذوي كرم وأمك من ثمود ... أبا سعد فإنّك من قبيل
ولسنا فاعلين لما تريد. ... فإنا لا نطيعك ما بقينا
ورمل والصداء مع الصمود. ... أتأمرنا لنترك دين رفد
ذوي رأي ونتبع دين هود ... ونترك دين آباء كرام
ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر وكان شيخا كبيرا: [احبسا] عنّا مرثدا بن سعد فلا يدخل معنا مكّة فإنّه اتبع دين هود وترك ديننا.
ثمّ خرجوا إلى مكّة يستسقون بها لعاد فلمّا ولّوا إلى مكّة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتّى أدركهم بها فقال: لا أدعو الله عزّ وجلّ بشيء مما خرجوا له، فلما انتهى إليهم قام يدعو الله وهم قد اجتمعوا يدعون الله ويقول: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعونك، وكان قيل بن عنز على رأس وفد عاد، وقال وفد عاد: اللهمّ أعطه ما سألك واجعل سؤالنا مع سؤاله، وكان [قد تخلف] عن وفد عاد حين دعا لقمان بن عاد وكان سيّد عاد حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: اللهمّ إنّي جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل الله عزّ وجلّ طول العمر. فعمّر عمر سبعة أنسر. وقال: قيل بن عنز: [يا إلهنا] إن كان هود صادقا فاسقنا فإنّا قد هلكنا.
وقال: اللهمّ إنّي لم [أجئ] لمريض فأداويه ولا لأسير فأناديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه فأنشأ الله عزّ وجلّ له [سحائب] ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثمّ نادى مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب ما شئت، فقال قيل: اخترت السحابة السوداء فإنّها أكبر السحب، فناداه مناد قد اخترت رمادا رمددا، لا تبقى من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا، إلا جعلتهم همدا، إلا بني اللوذية المهدا.
وبنو اللوذية هم بنو لقيم بن هزال بن هزيلة بن بكر فكانوا سكان بمكّة مع أخوالهم ولم يكونوا مع عاد بأرضهم وعاد الآخر كان من نسل الذي بقوا من عاد.
ونادى الله عزّ وجلّ السحابة السوداء التي اختارها قيل: [فيها من النقمة] من عاد حتّى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا بها وقالوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا يقول الله تعالى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها «1» .
__________
(1) سورة الأحقاف: 24. 25
.
(4/248)
1
وكان أول من أبصر ما فيها وعرف إنّها ريح امرأة من عاد يقال لها: مهدر، فلمّا أتت عليهم صاحت وصعقت. فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت ريحها فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها سَخَّرَها الله عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً «1» أي دائمة فلم يدع من عاد أحدا إلّا هلك.
فاعتزل هود (عليه السلام) ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبها ومن ريح إلّا ما تلين عليه الجلود وتلتذ الأنفس. وإنها لترتفع بعاد والظعن إلى ما بين السماء والأرض وتدفعهم بالحجارة.
وخرج وفد عاد من مكّة حتّى مرّوا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذا أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر. فقالوا له: فأين فارقت هود وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر وكأنّهم شكوا فيما حدّثهم به فقالت هذيلة بنت بكر:
صدق ورب مكّة.
وذكروا أنّ مراد بن سعد ولقمان بن عاد، وقيل: بن عنز حين دعوا بمكّة قيل لهم قد أعطيتهم مناكم فاختاروا لأنفسكم إلّا أنّه لا سبيل إلى الخلود ولا بد من الموت فقال مهد: اللهم أعطني [برّا وصدقا] فأعطي ذلك. وقال لقمان: أعطني يا رب عمرا، فقيل له: اختر لنفسك بقاء سبع بعرات «2» سمر من أظب عفر في جبل وعر لا يمسها القطر، أو بقاء سبعة أنسر إذا مضى نسر خلف بعده نسر واختار سبعة أنسر فعمر لقمان عمر سبعة أنسر يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضة ويأخذ الذكر منها لقوته حتّى إذا مات أخذ غيره، ولم يزل يفعل ذلك حتّى على السابع، وكان كل نسر يعيش مائتي سنة وكان آخرها لبد، فلما مات لبد مات لقمان معه.
وأما قيل: فإنّه اختار أن يصيبه ما أصاب قومه فقيل له: أنّه الهلاك فقال: لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم فأصابه الذي أصاب عادا من العذاب فهلك «3» .
عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أوحى الله إلى الريح العقيم أن تخرج على قوم عاد فتنتقم له منهم، فخرجت بغير كيل على قدر منخر ثور حتّى رجفت الأرض ما بين المشرق والمغرب فقال [الخزان] يا رب لن نطيقها، ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين مشارق الأرض ومغاربها فأوحى الله إليها أن ارجعي فاخرجي على قدر خرق الخاتم [فرجعت] فخرجت على قدر خرق الخاتم وهي الخلقة «4» .
__________
(1) سورة الحاقة: 7
. (2) بهامش تفسير القرطبي (19/ 25) : «في نسخة: بقرات» وهو مخالف لما في صحاح الجوهري: 2/ 534
. (3) بطوله في تفسير الطبري: 8/ 282 ح 11493
. (4) الدر المنثور: 3/ 96 [.....]
.
(4/249)
1
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
عن عاصم بن عمرو والبجلي عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبيت قوم من هذه الأمّة على طعام وشراب ولهو فيصبحون قردة وخنازير وليصيبنّهم خسف وقذف فيقولون:
لقد خسف الليلة [ببنيّ] فلان وخسف الليلة بدار فلان وليرسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عادا بشربهم الخمور وأكلهم الربا واتخاذهم القينات ولبسهم الحرير وقطعهم الأرحام» [188] «1» .
وفي الخبر: أنّه أرسل عليهم من الريح قدر ما تجري في خاتم
، قال السدي: بعث الله إلى عاد الريح العقيم فلمّا دنت منهم نظروا إلى [الإبل] والرجال تطير بهم الريح من السماء والأرض فلمّا رأوها [بادروا] إلى البيوت فلمّا دخلوا البيوت دخلت عليهم وأهلكتهم فيها ثمّ أخرجتهم من البيوت، فلمّا أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سودا فلقطتهم إلى البحر وألقتهم فيه ولم تخرج ريح قط إلّا مكيال إلّا يومئذ فإنّها عتت على الخزنة فقلبتهم فلم يعلموا كم مكيالها.
وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة: سمعت عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثبا أحمر يخالطه مدرة حمراء وسدر كثير بناحية كذا وكذا من حضرموت، قال: نعم يا أمير المؤمنين، والله إنّك لتنعته نعت رجل قد رآه، وقال: ولكنّي قد حدّثت عنه، فقال الحضرمي: [وما شأنه] يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبر هود- صلوات الله عليه- «2» .
عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط أنّه قال: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيّا وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل في تلك البقعة.
وفي رواية أخرى: وكان النبيّ من الأنبياء إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون معه إلى مكّة بمن معه فيعبدون الله فيها حتّى يموتوا.
__________
(1) تاريخ دمشق: 25/ 284
. (2) المستدرك: 2/ 564
.
(4/250)
1
وَإِلى ثَمُودَ قرأ يحيى بن وثاب: إلى ثمودٍ بالصرف والتنوين. والباقون بغير الصرف وإنّما يعني: وإلى بني ثمود، وهو ثمود بن [عاد] بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو [جديس] وأراد هاهنا القبيلة.
قال أبو عمرو بن العلا: سمّيت ثمود لقلّة مائها والثمد الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى أَخاهُمْ صالِحاً وهو صالح بن [عبيد] بن أسف ابن ماسخ بن عبيد بن خادر بن ثمود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ حجّة ودلالة من ربّكم على صدقي هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ أضافها إليه على التفضيل والتخصيص كما يقال: بيت الله «1» .
وقيل: أضيفت إلى الله لأنّها كانت بالتكوين من غير اجتماع ذكر وأنثى ولم يكن في صلب ولا رحم ولم يكن للخلق فيها سعي آيَةً نصب على الحال أي انظروا إلى هذه الناقة فَذَرُوها تَأْكُلْ العشب فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ ولا تصيبوها [بعقر] فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ أسكنكم وأنزلكم فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ قرأ الحسن (وَتَنْحَتُونَ) بفتح الحاء وهي لغة الْجِبالَ بُيُوتاً وكانوا ينقبون في الجبال البيوت فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعني الأشراف والقادة الذين تعظّموا عن الإيمان بصالح عليه السلام لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يعني الأتباع لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ جاحدون فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نحروها وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا يعني العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي من الصادقين فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ يعني الصيحة والزلزلة وأصلها الحركة مع الصوت. قال الله:
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ.
قال الشاعر:
وظلّت جمال القوم بالقوم ترجف «2» ... ولمّا رأيت الحج قد آن وقته
وقال الأخطل:
__________
(1) راجع تاريخ الطبري: 1/ 158
. (2) انظر: تفسير القرطبي: 7/ 242، وفيه: وظلت مطايا القوم
.
(4/251)
1
كبر كالنسر أرجف الإنسان مهدود فيه «1» ... أما تريني [حناتي] الشيب من
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي في أرضهم وبلدتهم ولذلك وحد الدار. وقيل: أراد به الديار فوحد كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «2» ومعنى جاثِمِينَ جامدين [مبتلين] صرعى هلكوا، وأصل الجاثم البارك على الركبة.
قال جرير:
مطايا القدر كالحدأ الجثوم «3» ... عرفت المنتأى وعرفت منها
فَتَوَلَّى أعرض صالح عَنْهُمْ وَقالَ: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ وكانت قصّة صالح وثمود وعقرهم الناقة سبب هلاكهم على ما ذكره ابن إسحاق والسدي ووهب وكعب وغيرهم من أهل الكتب قالوا: إن عادا لمّا هلكت وانتهى أمرها عمّرت أعمارهم واستخلفوا في الأرض فربوا فيها وعمّروا، حتّى جعل أحدهم يبني المسكن من [المدر] فينهدم والرجل منهم حي. فلما رأوا ذلك اتخذوا الجبال بيوتا فنحتوها وجابوها وخرقوها وكانوا في سعة من معائشهم فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله، فبعث الله إليهم صالحا وكانوا فيها عربا كان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم موضعا.
فبعثه الله تعالى إليهم شابّا فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ حتّى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلّا قليل مستضعفون فلمّا ألحّ عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لقوله، قال: أي آية تريدون؟ قالوا: نريد أن تخرج معنا إلى عيدنا هذا وكان اسم عيد يخرجون إليه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو وإن أستجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا.
فقال لهم صالح: نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به. ثمّ قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيّد ثمود: يا صالح اخرج لنا من هذه الصخرة. لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها: الكاثبة. ناقة مخترجة جوفاء وبراء. فالمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل، فإن فعلت صدّقناك وآمنّا بك، فأخذ صالح عليهم مواثيقهم إن فعلت لتصدقنني ولتؤمنن به، قالوا: نعم.
فصلّى صالح ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثمّ تحرّكت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشرا وجوفاء وبراء كما سألوا لا يعلم ما بين جنبيها إلّا الله عزّ وجلّ عظما
__________
(1) تفسير الطبري: 8/ 302
. (2) سورة العصر: 2
. (3) تفسير الطبري: 8/ 303
.
(4/252)
1
وهم ينظرون ثمّ [نتجت] ثقبا مثلها في العظم. فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدّقوه فنهاهم ذوءاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمعر وكانوا من أشراف ثمود. وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد فأراد أن يسلم فنهاه أولئك الرهط فأطاعهم فقال رجل من آل ثمود:
إلى دين النبيّ دعوا شهابا ... وكانت عصبة من آل عمرو
فهمّ بأن يجيب ولو [أجابا] ... عزيز ثمود كلّهم جميعا
وما عدلوا بصاحبهم ذوءابا ... لأصبح صالح فينا عزيزا
تولّوا بعد رشدهم ذئابا «1» ... ولكن الغواة من آل حجر
فلما خرجت الناقة قال صالح (عليه السلام) : هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ «2» ، فمكثت الناقة ومعها سقيها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء سبتا فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر من الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفعها حتّى تشرب كلّ ما فيها لا تدع قطرة ماء فيها ثم ترفع رأسها [فتفسح] يعني تفجج لهم فيحتلبون ما شاؤوا من لبن فيشربون ويدخرون حتّى يملؤوا أوانيهم كلهم ثمّ تصدر من [غير] الفج الذي وردت لا تقدر على أن تصدر من حيث وردت لضيقه عنها فلا يرجع منه ثمّ ترفع رأسها.
قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعا، حتّى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاؤوا من الماء ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة ودعة [وكانت] الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها أغنامهم وأبقارهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في حرّه وجدبه.
والمواشي تنفر منها إذا رأتها [تشتو] في بطن الوادي إذا كان الشتاء، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب. فأضرّ ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار وكانت مراتعها في ما يزعمون [الجناب] وحسمى، كل ذلك ترعى مع واد الحجر.
فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربّهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها.
وكانت امرأة من ثمود يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلز تكنّى أم غنم وهي من بني عبيد ابن المهل، وكانت امرأة ذوءاب بن عمر، وكانت عجوزا مسنّة وكانت ذات بنات حسان، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم، وامرأة أخرى يقال لها: صدوف بنت المحيا بن زهير ابن المحيا سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول، وكان الوادي يقال له: وادي المحيا
__________
(1) تفسير الطبري: 8/ 294
. (2) سورة الشعراء: 155
.
(4/253)
1
الأكبر جد المحيا الأصغر أبي صدوف، وكانت صدوف من أحسن الناس وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح (عليه السلام) وأعظمهم به كفرا، وكانتا تحبان أن يعقرا الناقة مع كفرهما به لما أضرت به من مواشيهما وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له: صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف من بني هليل فأسلم وحسن إسلامه، وكانت صدوف قد فوّضت إليه مالها فأنفقه على من أسلم له من أصحاب صالح حتّى رق المال فاطلعت على ذلك [من] إسلام صدوف وحاسبته على ذلك. فأظهر لها دينه فدعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وأخذت بنيها وبناتها منه فغيبتهم في عبيد بطنها الذي [هي] منه وكان صنتم زوجها من بني هليل، وكان ابن خالها فقال لها: ردي عليّ ولدي، فقالت: حتّى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني [جندع] بن عبيد، فقال لها صنيم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد. وذلك أن بني مرداس كانوا مسلمين.
فقالت: لا أنافرك إلّا إلى من دعوتك إليه. فقالت بنو مرداس: والله لتعطينه ولده كارهة أو طائعة فلما رأت ذلك أعطته إياهم.
ثم إنّ صدوف وعنيزة تحيّلا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل بهم فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له [الحبّاب] لعقر الناقة وعرضت نفسها إن هو فعل ذلك [فأبى] عليها فدعت ابن عم لها يقال له: مصدع بن مهرج بن المحيا وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة، وكانت من أحسن الناس وجها وأكثرهم مالا فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة بنت غنم قدار ابن سالف بن جندع رجلا من أهل قرح
وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعه»
[189] «1» واسم أمّه قدير. وكان رجال أحمرا أزرقا قصيرا يزعمون أنّه كان لزنية من رجل يقال له: صبيان ولم يكن لسالف الذي يدعى السر، ولكنه قد ولد على فراش سالف فقالت: أعطيك أيّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة، وكان قدار عزيزا منيعا في قومه فانطلق قدار بن سالف هو ومصدع بن مهرج فاستنفرا غواة من ثمود فاتبعهما سبعة نفر، وكانوا تسعة رهط أحدهم هويل بن مسطح خال عزيز من أهل حجر [ودعيت] بن غنم بن ذاغر ذؤاب بن مهرج بن مصدع وخمسة لم يذكر لنا أسماءهم فاجمعوا على عقر الناقة.
وقال السدي وغيره: أوحى الله تعالى إلى صالح (عليه السلام) أن قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم ذلك.
فقالوا: ما كنّا لنفعل ذلك. فقال صالح: إنّه يولد في قومكم غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه، فقالوا: لا يولد لنا ابن في هذا الشهر إلّا قتلناه.
__________
(1) تفسير الطبري: 30/ 269
.
(4/254)
1
قال: فولد لهم تسعة في ذلك الشهر. فدعوا أبناءهم ثمّ ولد العاشر فأبى أن يذبح أبنه وكان لم يولد له قبل ذلك ابن وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا، وكان إذا مرّ بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، فغضب التسعة على صالح، لأنّه كان سبب قتلهم أبنائهم فتقاسموا بالله لنبيتنّه وأهله قالوا: نخرج فنري الناس أنا قد خرجنا إلى [سفرنا] فنأتي الغار فنكون فيه حتّى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثمّ رجعنا إلى الغار فكنّا فيه ثمّ رجعنا فقلنا مهلك أهله وإنّا لصادقون يصدّقوننا يعلمون إنّا قد خرجنا إلى سفرنا، وكان صالح صلى الله عليه وسلم لا ينام معهم في القرية. وكان في مسجد يقال له مسجد صالح فيه يبيت الليل. فإذا أصبح أتاهم فوعظهم ويذكرهم، وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فلمّا دخلوا الغار وأرادوا أن يخرجوا من [الجبل] سقط عليهم الغار فقتلهم فانطلق رجل ممّن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رطخ فرجعوا وجعلوا يصيحون في القرية أي عباد الله أما رضي صالح [بأن] أمرهم بقتل أولادهم حتّى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة.
وقال ابن إسحاق: إنّما كان تقاسم التسعة على قتل صالح صلى الله عليه وسلم بعد عقرهم الناقة وإنذار صالح إياهم بالعذاب. ذلك أن التسعة الذين عقروا الناقة قالوا: هلمّ فلنقتل صالحا وإن كان صادقا عجّلنا قتله، وإن كان كاذبا قد ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدفعتهم الملائكة بالحجارة فلمّا أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم مشتدخين قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت قتلتهم، ثمّ همّوا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح. وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدا وقد وعدكم أنّ العذاب نازل بكم في ثلاث فإن كان صادقا لم تزيدوا ربّكم إلّا غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك.
قال السدي وغيره: فكان شر مولود- يعني قدار- وكان يشبّ في اليوم شباب غيره في الجمعة. ويشبّ في الشهر شباب غيره في السنة فلمّا كبر جلس مع أناس يصيبون من الشراب فأرادوا ما يمزجون به شرابهم وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة. فاشتد ذلك عليهم وقالوا في شأن الناقة وشدّتها عليهم ونحن ما نصنع باللبن لو كنّا نأخذ من هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة نسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا، فقال ابن العاشر هل لكم في أن أعقرها لكم؟
قالوا: نعم.
وقال كعب: كان سبب عقرهم الناقة أنّ امرأة يقال لها ملكا كانت قد ملكت ثمود فلمّا أقبل الناس على صالح وصارت الرئاسة إليه حسدته فقالت لامرأة يقال لها قطام وكانت معشوقة قدّار بن سالف ولامرأة أخرى يقال لها قبال كانت معشوقة مصدح بن وعد ويقال ابن مهرج، وكان قدار ومصدع يجتمعان كل ليلة معهما ويشربون الخمر فقالت لهما ملكا: إن أتاكم الليلة قدار ومصدع فلا تطيعاهما وقولا لهما: إن الملكة حزينة لأجل الناقة ولأجل صالح فنحن لا
(4/255)
1
نطيعكما حتّى تعقرا الناقة فإن عقرتماها أطعناكما، فلمّا أتياهما قالتا لهما هذه المقالة فقالا:
يكون من وراء عقرهما.
وقال ابن إسحاق وغيره: فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما السبعة فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل حفرة على طريقها، وكمن لها مصدع في طريق آخر فمرّت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم وعنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس فاستقرّت لقدار ثمّ دمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرجت ورغت رغاة واحدة فحدر سقبها ثمّ طعن في لبّتها فنحرها.
وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلمّا رأى سقبها «1» ذلك انطلق حتّى أتى جبلا منيعا يقال له صور، وقيل: اسمه قارة، وأتى صالح فقال له: أدرك الناقة قد عقرت فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبي الله إنّما عقرها فلان وفلان ولا ذنب لنا. فقال صالح (عليه السلام) : أنظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب. فخرجوا يطلبونه فلمّا رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى الله عزّ وجلّ إلى الجبل فتطاول في السماء حتّى لا تناله الطير. وجاء صالح (عليه السلام) فلمّا رآه الفصيل بكى حتّى سالت دموعه ثمّ استقبل صالحا فرغا رغوة ثم رغا أخرى ثم رغا أخرى.
فقال صالح (عليه السلام) : لكل رغاة أجل يومكم تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ.
وقال ابن إسحاق: أتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع ابن مهرج وأخوه داب بن مهرج فرمى مصدع بسهم فانتظم قلبه ثمّ جر برجله وأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمّه. فقال لهم صالح: انتهكتم حرمة الله تعالى فأبشروا بعذاب الله ونقمته، فقالوا له وهم يهزئون به: ومتى ذلك يا صالح وما آية ذلك؟ وكان يسمّون الأيام فيهم الأحد الأوّل والإثنين أميون والثلاثاء دبار والأربعاء جبار والخميس مؤنس والجمعة غروبة والسبت شيار. وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح (عليه السلام) حين قالوا ذلك: تصبحون غداء يوم مؤنس ووجوهكم مصفرّة، ثمّ تصبحون يوم غروبة ووجوهكم محمرّة ثمّ تصبحون يوم شيّار ووجوهكم مسودّة، ثمّ يصبحكم العذاب يوم الأوّل، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرّة كأنّما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وإناثهم، فأيقنوا العذاب وعرفوا أن صالحا قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه، وخرج صالح هاربا حتّى لجأ إلى بطن من ثمود، يقال له: بنو غنم، فنزل على سيّدهم رجل منهم يقال له: نفيل ويكنّى أبا هدب وهو مشرك فغيّبه فلم يقدروا عليه، وقعدوا على أصحاب صالح يعذّبونهم ليدلّوهم عليه.
__________
(1) وهو ولدها
.
(4/256)
1
فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم: يا نبي الله إنّهم ليعذبونا لندلهم عليك أفندلهم؟ قال: نعم، فدلّهم عليه ميدع فأتوا أبا هدب وكلّموه في ذلك، فقال: نعم عندي صالح وليس لكم إليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله عزّ وجلّ فيهم من عذابه فجعل بعضهم يخبّر بعضا بما يرون في وجوههم فلما أصبحوا صاحوا بأجمعهم: ألا قد مضى يوم من الأجل، فلمّا أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمّرة كأنّما خضّبت بالدماء فصاحوا وضجّوا وبكوا وعرفوا آية العذاب، فلمّا أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب. فلما كان اليوم الثالث إذا وجوههم مسودّة كأنّما طليت بالنار فصاحوا جميعا ألا قد حضركم العذاب.
فلمّا كان ليلة الأحد خرج صالح (عليه السلام) من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام فنزلوا رملة فلسطين فلمّا أصبح القوم تكفّنوا وتحنّطوا وكان حنوطهم الصبر والمقر وكانت أكفانهم [الأنطاع] ثمّ ألقوا أنفسهم بالأرض فجعلوا يقلّبون به أبصارهم فينظرون إلى السماء مرّة وإلى الأرض مرّة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب.
فلمّا اشتد الضحى يوم الأحد أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ صاعقة وصوت كل [شيء] له صوت في الأرض فتقطّعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلّا هلك كما قال الله تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ إلّا جارية منهم مقعدة يقال لها: ذريعة بنت سلق وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح (عليه السلام) فأطلق الله عزّ وجلّ لها رجلها بعد ما عاينت العذاب أجمع، فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط حتّى أنت قزح «1» وهي وادي القرى فأخبرتهم بما [عاينت] من العذاب وما أصاب ثمود ثمّ استسقت من الماء فسقيت فلمّا شربت ماتت.
وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: لمّا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: «لا يدخلن أحدكم القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلّا أن تكونوا باكين خائفين فإن لم تكونوا فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم» .
ثمّ قال: «أمّا بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية فبعث الله عزّ وجلّ لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فتشرب ماءهم يوما فيردها وراءهم مرتقى الفصيل حين ارتقى في الغار فعتوا عن أمر ربّهم وعقروها فأهلك الله من [تحت] أديم السماء منهم إلّا رجلا واحدا كان في حرم الله» .
قيل: من هو؟ قال: «أبو رغال» [190] .
__________
(1) قزح: وادي بالمزدلفة
.
(4/257)
1
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
فلمّا خرج أصابه ما أصاب قومه [فدفن هاهنا] ودفن معه غصن من ذهب وأراهم قبر أبي رغال فول القوم فابتدروه بأسيافهم وبحثوا عليه فاستخرجوا ذلك الغصن، ثمّ قبع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وأسرع السير حتّى جاز الوادي «1» .
قال أهل العلم: توفي صالح (عليه السلام) بمكّة وهو ابن ثمان وخمسين [سنة فلبث] في قومه عشرين سنة.
عن الضحاك بن مزاحم قال: قال رسول الله (عليه السلام) : «يا عليّ أتدري من أشقى الأوّلين؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: «عاقر الناقة» .
قال: «أتدري من أشقى الآخرين؟» قال: الله ورسوله أعلم.
قال: «قاتلك» [191] «2» .
وَلُوطاً يعني وأرسلنا لوطا وقيل معناه: واذكر لوطا. وهو لوط بن [هاران] بن تارخ أخي إبراهيم (عليه السلام) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وهم أهل سدوم، وذلك أنّ لوطا شخص من أرض بابل مع عمّه إبراهيم (عليه السلام) مؤمنا به مهاجرا معه إلى الشام فنزل إبراهيم (عليه السلام) فلسطين وأنزل ابن أخيه لوطا الأردن فأرسل الله إلى أهل سدوم فقال لهم: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ يعني إتيان الذكران ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ قال عمرو بن دينار: ما كان يزني ذكر على ذكر في الدنيا حتّى كان قوم لوط إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ [في أدبارهم] شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ يعني أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ مشركون [تبدّلون] الحلال إلى الحرام.
__________
(1) بطوله في تفسير الطبري: 12/ 85 وتاريخ الطبري: 1/ 159 مع تفاوت
. (2) الطبقات الكبرى: 3/ 35، وتاريخ بغداد: 1/ 146، وشواهد التنزيل: 2/ 444 ح 1108 [.....]
.
(4/258)
1
قال محمد بن إسحاق: كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم فعرض لهم إبليس في صورة شيخ قال: إن [عضلتم] بهم كلهم أنجوتكم منهم فأبوا، فلما ألحّ الناس عليهم فعبدوهم فأصابوا غلمانا صباحا فأخبثوا واستحكم فيهم ذلك.
وقال الحسن: كانوا لا ينكحون [إلّا الرجال] وقال الكلبي: أوّل من عمل عمل قوم لوط إبليس الخبيث لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان فتمثّل لهم إبليس في صورة شاب ثمّ دعا [في] دبره فنكح في دبره ثمّ عتوا بذلك العمل فأكثر فيهم ذلك فعجّت الأرض إلى ربّها فسمعت السماء فعجّت إلى ربّها فسمع العرش فعجّ إلى ربّه فأمر الله السماء أن تحصبهم وأمر الأرض أن تخسف بهم وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إذا قال لهم ذلك إِلَّا أَنْ قالُوا قال بعضهم لبعض أَخْرِجُوهُمْ لوطا وأهل دينه مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يتنزّهون ويتحرّجون عن إتيان أدبار الرجال وأدبار النساء فَأَنْجَيْناهُ يعني لوطا وَأَهْلَهُ المؤمنين به، وقيل: وأهله بنتاه: نعوذا وديثا.
إِلَّا امْرَأَتَهُ فاعلة فإنّها كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ يعني الباقين في العذاب وقيل: معناه:
كانت من الباقين والمعمّرين قبل الهلاك الذين قد أتى عليهم عمرت دهرا طويلا فهرمت فيمن هرم من الناس. فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين أتاهم العذاب. وإنّما قال: (الْغابِرِينَ) ولم يقل: الغابرات لأنه أراد أنّها ممّن بقي مع الرجال فلمّا ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قيل:
الْغابِرِينَ. وقيل: له غبر يغبر غبورا، وغبر إذا بقي. قال الشاعر:
وأبي الذي فتح البلاد بسيفه ... فأذلّها لبني أبان الغابر «1»
يعني الباقي.
وقال أبو ذؤيب:
وغبرت بعدهم بعيش ناصب ... وإدخال أنّي لاحق مستتبع «2»
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني حجارة من سجّيل فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وسنذكر القصّة بتمامها في موضعها إن شاء الله.
وروى أبو اليمان بن الحكم بن نافع الحمّصي عن صفوان بن عمر قال: كتب عبد الملك ابن مروان إلى ابن حبيب قاضي حمص سأله كم [عقوبة] اللوطي فكتب أن عليه أن يرمى بالحجارة كما رجم قوم لوط فإن الله تعالى قال: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً وقال: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «3» فقبل عبد الملك ذلك منه وأستحسنه.
__________
(1) جامع البيان للطبري: 8/ 306
. (2) لسان العرب: 1/ 758
. (3) سورة الحجر: 74
.
(4/259)
1
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
وروى عكرمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» .
وقال محمد بن المنكدر: كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر أنّه وجد رجلا في بعض قوافل العرب ينكح كما تنكح المرأة فشاور أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأشهدهم في ذلك عليه، فاجتمع عليهم على أن يحرقوه فأحرقوه.
وَإِلى مَدْيَنَ يعني وأرسلنا إلى بني مدين بن إبراهيم خليل الله وهم أصحاب الأيكة.
وقال قتادة: أرسل مرّتين إلى مدين وإلى أصحاب الأيكة أَخاهُمْ شُعَيْباً قال قتادة: هو شعيب بن [نويب] وقال عطاء: هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم، وقال ابن إسحاق: هو شعيب بن ميكيل بن إسحاق بن مدين بن إبراهيم واسمه بالسريانية يثروب وأمّه ميكيل بنت لوط وكان شعيب أعمى.
ويقال: إنّه خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكان قومه أهل كفر يكفرون بالله وبخس المكيال والميزان ف قالَ لهم يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يعني يجيء] شعيب فَأَوْفُوا فأتمّوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ولا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوها [إياهم] وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها كانت الأرض قبل أن يبعث إليها شعيبا رسولا يعمل فيها بالمعاصي ويستحلّ فيها المحارم ويسفك فيها الدماء بغير
(4/260)
1
حقّها فذلك فسادها، فلمّا بعث إليها شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض وكلّ نبيّ بعث إلى قومه فهو يدعوهم لإصلاحهم الذي ذكرت لكم وأمرتكم به.
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدّقين بما أقول وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ [يعني] في هذا الطريق كقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «1» .
تُوعِدُونَ تهددون وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دين الله مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً زيغا وذلك أنّهم كانوا يجلسون على الطرق فيخبرون من قصد شعيبا ليؤمن به إنّ شعيبا كذّاب.
فلا يفتننّك عن [ذلك] وكانوا يتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوّفونهم.
قال السدي وأبو روق: كانوا [جبّارين] . قال عبد الرحمن بن زيد: كانوا يقطعون الطريق.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب إلّا شقّته ولا شيء إلّا خرقته فقلت ما هذا يا جبرائيل؟
قال: هذا مثل أقوام من أمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثمّ تلا: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ «2» [192] .
وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [فكثّر بينكم] وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يعني آخر قوم لوط وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ إلى قوله تعالى قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
يعني الرؤساء الذين تعالوا عن الإيمان به لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا لترجعن إلى ديننا الذي نحن عليه وتدعون دينكم.
قال شعيب: قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ لذلك يعني ولو كنّا كارهين لذلك تجبروننا عليه فأدخلت ألف الاستفهام على ولو قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها نرجع إليها بعد إذ أنقذنا الله منها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا تقول إلّا أن يكون سبق لنا في علم الله ومشيئته أن نعود فيها فيمضي حينئذ قضاء الله فينا [وينفذ] حكمه وعلمه علينا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أحاط علمه بكل شيء فلا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فيما تتوعدوننا به.
واختلف العلماء في معنى قوله أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا وقوله وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها فقال بعضهم: معناه أو لتدخلن فيها ولن تدخل [إلّا] إن يشاء الله ربّنا فيضلنا بعد إذ هدانا.
وسمعت أبا القاسم الحسين بن محمد الحبيبي يقول: سمعت عليّ بن مهدي الطبري بها يقول: إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ أي صرنا، لا أن نعود، يكون ابتداء ورجوعا.
__________
(1) سورة الفجر: 14
. (2) الدر المنثور: 3/ 103
.
(4/261)
1
قال أميّة بن أبي الصلت:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا «1»
أي صار الآن اللبن، كأن لم تكن قط بولا.
وسمعت [الحسين بن الحبيبي] قال: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: معناه: إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها في سابق علمه وعند اللوح والقلم.
وقال بعضهم: كان شعيب ومن آمن معه في بدء أمرهم مستخفين ثمّ أظهروا أمرهم وإنما قال لهم قومهم أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا حسبوا أنّهم على ملّتهم [قيل: من هو معه] «2» على أصحاب شعيب دون شعيب لأنّهم كانوا كفّارا ثمّ آمنوا بالخطاب لهم وجواب شعيب عنهم لا عن نفسه، لأن شعيبا لم يكن كافرا قط وإنّما ناوله الخطاب في أصناف من فارق دينهم إليه.
ورأيت في بعض التفاسير أن الملّة هاهنا الشريعة وكان عليه قبل نبوّته فلمّا [نبّئ] فارقهم.
ثمّ دعا شعيب على قومه إذ لمس ما فيهم فقال رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ أي اقض.
وقال [المؤرخ] : افصل.
وقال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ حتّى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعالى أفاتحك. أي أقاضيك ...
وقال الفراء: أهل عمان يسمّون القاضي الفاتح والفتّاح. وذكر غيره أنّه لغة مهاد. فأنشد لبعضهم:
ألا أبلغ بني عصم رسولا ... بأنّي عن فتاحتكم غنيّ «3»
أي حكمكم. وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ يعني الحاكمين وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً وتركتم دينكم إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ قال ابن عباس: مغبونون. قال عطاء:
جاهلون. قال الضحاك: فجرة. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الكلبي: الزلزلة.
قال ابن عباس: وغيره من المفسّرين: فتح الله عليهم بابا من أبواب جهنم فأرسل عليهم ريحا وحرّا شديدا، فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر فبعث الله عزّ وجلّ سحابة فيها ريح طيّبة فوجدوا برد الريح بطيبها وظل السحابة فتنادوا
__________
(1) كتاب العين: 1/ 182
. (2) كذا في المخطوط
. (3) جامع البيان للطبري: 1/ 525
.
(4/262)
1
عليكم بها فخرجوا إلى البريّة فلمّا اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المعلّى وصاروا رمادا وهو عذاب يوم الظلّة، وذلك قوله: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ميّتين قال أبو العالية: ديارهم منازلهم، وقال محمد بن مروان: كل شيء في القرآن (دارِهِمْ)
فهو [مرغمهم] وكلّ شيء (دِيارِهِمْ) فهو عساكرهم.
قال ابن إسحاق: بلغني أن رجلا من أهل مدين يقال له عمر بن [جلهاء] لمّا رأى الظلّة فيها الغضب. قال: يا قوم إن شعيبا مرسل فذروا عنكم سميرا أو عمران بن شداد إني أرى غيمة يا قوم طلعت دعوا بصوت على صمانة الوادي، فإنّكم إن تروا فيها ضحاة غد إلّا الرقيم يمشي بين أنجاد وسميرا وعمران: كاهناهم راعيين، والرقيم كلبا لهما «1» .
قال أبو عبد الله البجلي: أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت: أسماء ملوك وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب. فقالت أخت كلمون تبكيه:
كلمون هدّ ركني هلكه وسط المحلة سيّد القوم أتاه الحتف نارا وسط ظلة.
جعلت نار عليهم دارهم كالمضمحلة.
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي لم يعيشوا ولم ينزلوا ولم يقيموا ولم ينعموا، وأصله من قولهم غنيّة بالمكان إذا أقمت به والمغاني المنازل وأحدها مغنى قال لبيد:
وغنيت ستا قبل مجرى داهس ... لو كان للنفس اللجوج خلود
وقال حاتم:
غنينا زمانا للتصعلك والغنى ... فكلا سقانا بكأسيهما الدهر «2»
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ لا المؤمنون كما زعموا فَتَوَلَّى أعرض عَنْهُمْ شعيب [بن شامخ] من أظهرهم حين أتاهم العذاب وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى [أحزن] عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ حين يعذّبون، يقال: آسيتم آسي أسى. قال الشاعر:
آسيت على زيد ولم أدر ما فعل «3»
والأسى الحزن [والأسى] الصبر.
__________
(1) راجع تفسير الطبري: 9/ 7 بتفاوت
. (2) لسان العرب: 10/ 456
. (3) تفسير القرطبي: 14/ 118
.
(4/263)
1
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ فيه إضمار واختصار يعني فكذّبوه إِلَّا أَخَذْنا عاقبنا أَهْلَها حين لم يؤمنوا بِالْبَأْساءِ يعني بالبؤس الشدّة وضيق العيش وَالضَّرَّاءِ تعني أضر وهو الحال. وقيل: المرض والزمناء قال: السدي البأساء يعني الفقر والجوع لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ لكي يتضرعوا [فينيبوا] ويتوبوا ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ وهي البأساء والجواب والجوع الْحَسَنَةَ يعني النعمة والسعة والرخاء والخصب حَتَّى عَفَوْا أي كثروا وأثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، قال ابن عباس: (عَفَوْا) يعني [جهدوا] ، وقال ابن زيد: يعني كثروا كما يكثر النبات والريش.
قال قتادة: (حَتَّى عَفَوْا) : سروا بذلك، وقال مقاتل بن حيان: (عَفَوْا) حتى كثروا وتركوا ولم يستكثروا وأصله من الكثرة.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى» «1» .
وقال الشاعر:
يقول من بعد أولاك أولات ... أتوا زمانا ليس عندهم بعيد
وقال آخر:
ولكنا نعض السيف منها ... بأسوق عافيات الشحم كوم «2»
وَقالُوا من جهلهم وغفلتهم قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فنحن مثلنا فقال الله تعالى فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً [فجأة عبرة «3» لمن بعدهم] . وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب
__________
(1) مسند أبي يعلي: 10/ 105 ح 5738
. (2) تفسير الطبري: 2/ 498
. (3) في تفسير القرطبي (7/ 252) : ليكون أكثر حسرة [.....]
.
(4/264)
1
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا يعني وحدوا الله وأطاعوه لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ يعني المطر وَالْأَرْضِ يعني النبات، وأصل البركة المواظبة على الشيء تقول: برك فلان على فلان إذا [أجابه، وبركات الأرض أي] تابعنا عليهم بالمطر والنبات والخصب ورفعنا الحرث والقحط وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ فجعلنا لهم العقوبات بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والمعصية والأعمال الخبيثة.
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى الذين كفروا وكذّبوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ آمنون.
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى نهارا وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهون.
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ومعني (مكر) استدراج القوم بما أراهم في دنياهم.
قال قتادة: مكر الله استدراجه بطول الصحة وتظاهر النعم، وقال عطيّة: يعني أخذه وعذابه، وحكى [الشبلي] أنه سئل عن مكر الله فأجاب بقول
محبتك لا ببعضي بل بكلي ... وإن لم يبقّ حبك لي حراكا
ومقبح من موالد ليفعل ... سنتي ويفعله فيحسن
فقال السائل: اسأله عن آية من كتاب الله ويجيبني من الشعر فعلم الشبلي أنه لم يفطن لما قال، فقال: يا هذا [ ... ] «1» إياهم على ما هم فيه.
أَوَلَمْ يَهْدِ قرأ أبو عبد الرحمن وقتادة ويعقوب في رواية زيد (نهد) بالنون على التعظيم والباقون بالياء على [التفريد] لِلَّذِينَ يَرِثُونَ يستخلفون في الْأَرْضَ بعد هلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها فساروا بسيرتهم [ ... ] «2» ربّهم أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ أهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ بما أهلكنا من قبلهم وَنَطْبَعُ نختم عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الهدى ولا يقبلون الموعظة تِلْكَ الْقُرى هذه القرى التي ذكرت لك وأهلكناهم وهي قرى نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها نخبرك أخبارها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [بالآيات والعلامات والدلالات] فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ اختلف في تأويله.
قال أبي بن كعب: معناه فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق في علم الله أنّهم يكذّبون به يوم أقرّوا له بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم.
وقال ابن عباس والسدي: يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذ ميثاقهم حتّى أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرها وأقروا باللسان وأظهروا التكذيب.
__________
(1) كلمة غير مقروءة
. (2) كلمة غير مقروءة
.
(4/265)
1
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
وقال مجاهد: معناه فَما كانُوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ورددناهم إلى الدنيا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا به من قبل هلاكهم كقوله وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1» وقال يمان بن رئاب: هذا معنى أنّ كلّ نبي أخذ قومه بالعذاب ما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الكفار بل كذّبوا كما كذب نظير قوله كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ «2» .
وقيل: معناه: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني بالمعجزات والعجائب التي سألوهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بعد ما رأوا الآيات والعجائب بِما كَذَّبُوا به من قبل رؤيتهم تلك العجائب نظيره قوله قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ «3» وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ «4» .
كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ الذين كتب عليهم أن لا يؤمنون من قومك وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ يعني وفاء بالعهد، والعهد الوصية وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ أي ما وجدنا أكثرهم إلّا فاسقين ناقضين العهد.
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب مُوسى بِآياتِنا بحجّتنا وأدلّتنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا فجحدوا وكفروا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وكيف فعلنا بهم وَقالَ مُوسى لمّا دخل على فرعون واسمه قابوس في قول أهل الكتاب.
__________
(1) سورة الأنعام: 28
. (2) سورة الذاريات: 52. 53
. (3) سورة المائدة: 102
. (4) سورة الإسراء: 59
.
(4/266)
1
قال وهب: كان اسمه الوليد بن مصعب بن الربان وكان من القبط وعمّر أكثر من أربعمائة عام وقال موسى: يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إليك فقال فرعون كذبت فقال موسى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يعني أنا [خليق] بأن لا أقول على الله إلّا الحق، فعلى بمعنى الباء، كما يقال: رميت بالقوس على القوس وجاءني على حال حسنة وبحالة حسنة يدل عليه، [قول الفراء] والأعمش: حقيق بأن لا أقول. وقال أبو عبيدة: معناه حريص على أن لا أقول على الله إلّا الحق، وقرأ شيبة ونافع: حقيّق على تشديد الياء يعني حق واجب عليّ ترك القول على الله عزّ وجلّ إلّا الحق.
قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني العصا وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت عليّ بن مهدي الطبري يقول: إنّه تعريض يقول: لحقيق مصرف الخطاب وحَقِيقٌ [فعيل] من الحق يكون بمعنى القائل فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي اطلق عنهم وخلهم يرجعون إلى الأرض المقدسة.
قال وهب: وكان سبب استعباد فرعون بني إسرائيل أنّ فرعون حاجّ [موسى] وكان [أشد من] فرعون يوسف [ ... ] «1» في يوسف [وانقرضت] الأسباط عليهم فرعون فاستعبدهم فأنقذهم الله بموسى.
قال: وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخل موسى رسولا أربعمائة عام قالَ فرعون مجيبا لموسى إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ من يده فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ.
قال ابن عباس والسدي: كانت [عظيمة ذكرا] من الحيات، إذا فتحت فاها صار شدقها ثمانين وقد ملأت ما بين سماطي فرعون واضعة لحييها ذراعا واضع لحية الأسفل في الأرض الأعلى على سور القصر، حتى رأى بعض من كان خارج مدينة مصر رأسها.
ثمّ توجهت نحو فرعون لتبتلعه فوثب فرعون من سريره وهرب منها فأحدث ولم يكن حدث قبل ذلك وهرب الناس وصاحوا وحملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا، ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى خذها وأنا مؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت.
ثمّ قال له فرعون: هل معك آية أخرى، قال: نعم، فأدخل يده في جيبه ثمّ نزعها فأخرجها بيضاء مثل الثلج لها شعاع غلب على نور الشمس، وكان موسى أدم ثمّ أدخلها جيبه فصارت يدا كما كانت.
__________
(1) كلمة غير مقروءة
.
(4/267)
1
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يعنون أنّه يأخذ بأعين الناس بخداعه إيّاهم حتّى تخيّل إليهم العصا حيّة والأدم أبيض [يري الشيء] بخلاف ما هو به، كما قيل سحر المطر الأرض إذا جاءها فقطع نباتها من أصلها وقلب الأرض على البطن فهو يسحرها سحرا والأرض مسحورة فشبه سحر الساحر به لتخيله إلى من سحره أنّه يري الشيء بخلاف ما هو به، ومنه قول بني الرمة في صفة السراب
وساحرة العيون من الموامي ... ترقص في نواشزها الأروم «1»
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ [من القبط] مِنْ أَرْضِكُمْ مصر فَماذا تَأْمُرُونَ هذا من قول فرعون للملأ ولم يذكر فرعون فيه كقوله الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ «2» هذا من كلام يوسف ولم يذكر قالُوا أَرْجِهْ أحبسه وَأَخاهُ هارون ولا تقتلهما ولا يؤمن بهما، وقال عطاء: احبسه وهذا أعجب إليّ لأنّه قد علم أنه لا يقدر على حبسه بعد ما رأى الآيات من العصا واليد.
وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يعني الشرطة وكانت له مدائن فيها السحرة عدة للأشياء إذا [حزّ به أمر] أرسل.
يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ قرأها أهل الكوفة على التكثير وقرأ العامّة بِكُلِّ ساحِرٍ. والفرق بين الساحر والسحّار أن الساحر الذي لا يعلم والسحار الذي يعلم ولا يعلم. وقال المؤرخ:
الساحر من سحره في وقت دون وقت، والسحار من قديم السحر.
قال: فإن غلبهم موسى صدقناه على ذلك وعلمت أنه ساحر.
قال ابن عباس وابن إسحاق والسدي: قال فرعون لمّا رأى من سلطان الله في العصا ما رأى: إنا لا نغالب موسى إلّا بمن هو مثله فأخذ غلمان بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال لها الفرقاء يعلّمونهم السحر كما يعلّم الصبيان الكتابة في المكتب فعلّموهم سحرا كثيرا وواعد فرعون موسى موعدا، فبعث فرعون إلى السحرة فجاء بهم ومعهم معلمهم فقال له ماذا صنعت؟
قال: قد علمتهم سحر لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلّا أن يكون أمر من السماء فإنّه لا طاقة لهم به، ثم بعث فرعون الشرطي في [مملكته] فلم يترك في سلطانه ساحرا إلّا أتى به واختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون.
فقال مقاتل: كان السحرة اثنين وسبعين ساحرا اثنان فيهم من القبط وهما رئيسا القوم وسبعون من بني إسرائيل.
__________
(1) تفسير الطبري: 9/ 22
. (2) سورة يوسف: 51. 52
.
(4/268)
1
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
وقال الكلبي: كانوا سبعين ساحرا غير رئيسهم وكان الذين يعلّمونهم السحر رجلين مجوسيين من أهل نينوى، وقال كعب: كانوا اثني عشر ألفا. قال السدي: كانوا بضعة وثلاثين.
عكرمة: سبعين ألفا، ابن المنكدر: ثمانين ألفا فاختار منهم سبعة آلاف ليس منهم إلا ساحر ماهر ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختيار منهم سبعين من كبرائهم وعلمائهم، وقاله ابن جريج، فلمّا أجتمع السحرة قالُوا لفرعون إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي جعلا وثوابا.
إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ فرعون نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ في المنزلة عندي.
قال الكلبي: أوّل من يدخل عليّ وآخر من يخرج قالُوا يعني السحرة.
يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ بعصيّنا [وحبالنا] .
قالَ موسى أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي أرعبوهم وأفزعوهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وذلك أنّهم ألقوا حبالا وعظاما وخشبا طوالا فإذا هي حيّات كالجبال قد ملأت الوادي [يأكل] بعضهم بعضا.
(4/269)
1
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ تبتلع، ومن قرأ تَلْقَفُ ساكنة اللام خفيفة القاف فهو من لقف يلقف، ودليله قراءة سعيد بن جبير: تلقم من لقم يلقم.
ما يَأْفِكُونَ يكذّبون، وقيل: يقلبون ويزوّرون على الناس فأكلت سحرهم كله فقالت السحرة: لو كان هذا سحرا لبقت حبالنا وعصينا. فذلك قوله: فَوَقَعَ الْحَقُّ أي ظهر.
قال النضير بن شميل: فَوَقَعَ الْحَقُّ أي فزعهم وصدّعهم [كوقع الميقعة] وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر فَغُلِبُوا هُنالِكَ وبطل ما كانوا يعملون وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ ذليلين ومقهورين.
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لله حيث عرفوا أنّ ذلك أمر سماوي وليس سحرا، وقيل:
ألهمهم الله ذلك، وقال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ فقال فرعون: إياي تعنون فقالوا رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.
قال عطاء: فكان رئيس السحرة بأقصى مدائن مصر وكانا أخوين فلمّا جاءهما رسول فرعون قالا لأمّهما [دلّينا] على قبر أبينا فدلتهما عليه فأتياه فصاحا باسمه فأجابهما فقالا: إن الملك وجه إلينا رسولا أن نقدم عليه، لأنّه أتاه رجلا ليس معهما رجال ولا سلاح ولهما [عزّ ومنعة] وقد ضاق الملك ذرعا من عزّهما، ومعهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لهما [شيء] تبلغ الحديد والحجر والخشب. فأجابهما أبوهما: انظرا إذا هما ناما فإنّ قدرتما أن تسلا العصا فسلّاها فإنّ الساحر لا يعمل سحره إذا نام، وإن عملت العصا وهما نائمان فذلك أمر ربّ العالمين، ولا طاقة لكما به ولا الملك ولا جميع أهل الدنيا، فأتاهما في خفية وهما نائمان ليأخذا العصا فقصدتهما العصا قاله مقاتل.
قال موسى للساحر الأكبر: تؤمن بي إن غلبتك فقال لآتين بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأومنن بك وفرعون ينظر قالَ لهم فرعون حين آمنوا آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ صنيع وخديعة مَكَرْتُمُوهُ صنعتموه أنتم وموسى فِي الْمَدِينَةِ في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع.
لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها بسحركم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ما أفعل بكم.
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وهو أن يقطع من شق طرفا قال سعيد بن جبير: أوّل من قطع من خلاف فرعون ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ على شاطئ نهر مصر قالُوا يعني السحرة لفرعون إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ راجعون في الآخرة وَما تَنْقِمُ مِنَّا قرأ العامّة بكسر القاف.
وقرأ الحسن وابن [المحيصن] بفتح القاف وهما لغتان نقم ينقم ونقم ينقم.
قال الشاعر:
(4/270)
1
وما نقموا من بني أميّة إلا ... أنّهم يحلمون إن غضبوا «1»
وقال الضحاك وغيره: يعني وما يطعن علينا. قال عطاء: ما لنا عندك من ذنب وما ارتكبنا منك مكروها تعذّبنا عليه إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ثمّ [فزعوا] إلى الله عز وجل فقالوا رَبَّنا أَفْرِغْ اصبب عَلَيْنا صَبْراً أصبب علينا الصبر عند القطع والصلب حتّى لا نرجع كفارا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ واقبضنا إليك على دين موسى، فكانوا أول النهار كفارا سحرة وآخره شهداء بررة.
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ أتدع مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا كي يفسدوا عليك ملكك عبيدك فِي الْأَرْضِ في أرض مصر وَيَذَرَكَ يعني وليذرك.
وروى سليمان التيمي عن أنس بن مالك أنّه قرأ وَنَذَرُكَ بالرفع والنون، [أخبروا] عن أنفسهم أنهم يتركون عبادته إن ترك موسى حيا فيصرفهم عنّا.
وقرأ الحسن (وَيَذَرُكَ) بالرفع على تقدير المبتدأ، أي وهو يذرك، آلِهَتَكَ فلا نعبدك ولا نعبدها. قال ابن عباس: كان لفرعون بقرة يعبدها وكانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، ولذلك أخرج السامري لهم عجلا.
وروى عمرو عن الحسين قال: كان لفرعون حنانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد عليها كأنّه صنم كان عابده يحن إليه.
وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: كان فرعون يصنع لقومه أصناما صغارا ويأمرهم بعبادتها ويقول لهم: أنا رب هذه الأصنام، وذلك قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «2» .
قال أبو عبيد: وبلغني عن الحسن أنه قيل له: هل كان فرعون يعبد شيئا؟ قال: نعم كان يعبد تيسا.
وقرأ ابن مسعود وابن عباس وبكر بن عبد الله [الشعبي] والضحاك وابن أبي إسحاق:
إلهتك بكسر الألف أي [إلهك] فلا يعبدك كما تعبد. قالوا: لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد.
وقيل أراد بالآلهة الشمس وكانوا يعبدونها.
قال [عيينة] بن [شهاب] :
تروحنا من الأعيان عصرا ... فأمحلنا الآلهة أن تؤوبا «3»
__________
(1) لسان العرب: 12/ 591
. (2) سورة النازعات: 24
. (3) تاج العروس: 9/ 375، وبلاغات النساء: 208 وفيه: اللعاب قصرا
.
(4/271)
1
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
بمعنى الشمس قالَ يعني فرعون سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ بالتشديد على التكثير. وقرأ أهل الحجاز.
بالتخفيف وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ غالبون.
قال ابن عباس: كان فرعون يقتل بني إسرائيل في العام الذي قيل له إنّه يولد مولد يذهب بملكك فلم يزل يقتلهم حتّى أتاهم موسى (عليه السلام) بالرسالة فلما كان من أمر موسى ما كان أمر بإعادة عليهم القتل فشكت بنو إسرائيل إلى موسى (عليه السلام) فعند ذلك قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يعني أرض مصر يُورِثُها يعطيها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وقرأ الحسن يُوَرِّثُها بالتشديد والاختيار التخفيف لقوله تعالى وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ... وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يعني النصر والظفر، وقيل: السعادة والشهادة، وقيل: الجنّة.
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: لما آمنت السحرة اتّبع موسى ست مائة ألف من بني إسرائيل قالُوا يعني قوم موسى أُوذِينا بقتل الأبناء واستخدام النساء والتسخير. مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا بالرسالة وإعادة القتل والتعذيب وأخذ الأموال والأتعاب في العمل.
قال وهب: كانوا أصنافا في أعمال فرعون فأما ذوو القوة منهم فيسلخون السوابي من الجبال وقد [ ... ] «1» أعناقهم وعواتقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطع ذلك وقتله.
وطائفة أخرى قد [قرحوا] من ثقل الحجارة وسير [الليل] له، وطائفة يلبنون اللبن ويطنبون الأجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفاء بينهم عليهم الخراج ضريبة يودون كانت ضربت عليه الشمس، قيل: وإن يردى ضريبته غلت يده إلى عنقه شهرا، وأما النساء فيقرن اختان وينسجنه فقال موسى (عليه السلام) لهم عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ ويسكنكم مصر من بعدهم بالتسخير والاستعباد وهم بنو إسرائيل
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا يعني مصر والشام الَّتِي بارَكْنا فِيها بالماء والأشجار والثمار وإنما ذكر بلفظ [ ... ] «2» .
__________
(1) كلمة غير مقروءة
. (2) سقط قريب الورقة [.....]
.
(4/272)
1
[ ... ] فأورثهم ذلك بمهلك أهلها من العمالقة والفراعنة. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى يعني تمت كلمة الله وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين في الأرض. وذلك قوله عز وعلى وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ إلى قوله ما كانُوا يَحْذَرُونَ.
وقيل: معناه [رحبت] نعمة ربّك الحسنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ يعني أنهم مجزون الحسنى يوم القيامة بِما صَبَرُوا على دينهم وَدَمَّرْنا أهلكنا [فدمرنا] ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ
في أرض مصر من المغارات وَما كانُوا يَعْرِشُونَ.
قال الحسن: وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من الثمار والأعشاب.
وقال مجاهد: يعني يبنون البيوت، والقصور ومساكن وكان [غنيّهم] غير معروش.
وقرأ ابن عامر وابن عباس: بضم الراء وهما لغتان فصيحتان عرش يعرش.
وقرأ إبراهيم بن أبي علية: يعرِّشون بالتشديد على الكسرة وَجاوَزْنا قطعنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ بعد الآيات التي رأوها والعير التي عاينوها.
قال الكلبي: عبر بهم موسى يوم عاشوا بعد هلاك فرعون وقومه وصام يومئذ شكرا لله عزّ وجلّ فَأَتَوْا فمرّوا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ يصلّون، قرأ حمزة والكسائي يَعْكِفُونَ بكسر الكاف والباقون بالضم وهما لغتان عَلى أَصْنامٍ أوثان لَهُمْ أوثان لهم كانوا يعبدونها من دون الله عزّ وجلّ.
قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر وذلك أوّل [شأن] العجل «1» .
قال قتادة: كانوا أولئك القوم من لخم وكانوا هؤلاء بالرمة، وقيل: كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم فقالت بنو إسرائيل له عند ما رأوا ذلك قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً تمثالا نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ موسى إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ عظمة الله ونعمته وحرمته.
وروى معمر عن الزهري عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بشجرة خضراء عظيمة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفّار ذات أنواط. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى (عليه السلام) اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ والذي نفسي بيده [لتركبنّ سنن] من كان قبلكم» [193] «2» .
وروي عنه (عليه السلام) أنه قال: «لا تقوم الساعة حتّى تأخذ أمّتي أخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع كما قالت فارس والروم» [194] «3» .
__________
(1) راجع تفسير الطبري: 9/ 61
. (2) مسند أحمد: 5/ 218. وجامع البيان للطبري: 9/ 61
. (3) صحيح البخاري: 8/ 151
.
(4/273)
1
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مهلك ومفسد ومخسر ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مضمحل زائل ما كانُوا يَعْمَلُونَ قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ أطلب وأبغي لكم فحذف حرف الصفة لقوله (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) ... إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ على أهل زمانكم وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ قرأ أهل المدينة أَنْجَيْناكُمْ، وقرأ أهل الشام وإذا أنجاكم وكذلك في مصاحفهم بغير نون.
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ.
قرأ نافع: (يَقْتُلُونَ) خفيفة من القتل على القليل، وقرأ الباقون التشديد على الكثير من القتل وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً ذا القعدة وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذي الحجّة فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وقال عند انطلاقه لأخيه هارون اخْلُفْنِي كن خليفتي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ولا تسلك طريق العاصين ولا تكن مرنا للظالمين، وذلك أن موسى وعد بني إسرائيل وهم بمصر إذا أهلك الله عدوّهم واستنقذهم من أيديهم أتاهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون، فلما فعل الله ذلك بهم سأل موسى ربه الكتاب فأمره الله عز وجل صوم ثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة فلما تمت ثلاثون ليلة أنكر خلوق «1» فمه فتسوك بعود [ضرنوب] فقالت له الملائكة: كنّا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك «2» .
__________
(1) الخلوق: الرائحة
. (2) تفسير القرطبي: 7/ 274
.
(4/274)
1
وقال أبو العالية: إنّه أكل من لحاء الشجرة فأمره الله عزّ وجلّ بصوم عشرة أيام من ذي الحجّة. وقال: أما علمت أن خلوق فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فكان فتنتهم في العشر التي زادها الله عز وجل وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي الوقت سأله أن يكلمه فيه والميقات مفعال من الوقت كالميعاد والبلاد انقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها.
قال المفسّرون: إنّ موسى (عليه السلام) تطهّر وطهّر ثيابه لميعاد ربه فلما أتى بطور سيناء وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ وناجاه وأدناه حتّى سمع حروف القلم فاستجلى كلامه واشتاق [إلى رؤيته] وطمع فيها قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال ابن عباس: أعطني أنظر إليك قالَ الله تعالى لَنْ تَرانِي وليس بشرا [لا] يطيق النظر إليّ في الدنيا، من نظر إليّ مات، فقال له: سمعت كلامك واشتقت إلى النظر إليك [فلئن] أنظر إليك وأموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك فقال الله تعالى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فهو أعظم جبل بمدين يقال له: زبير فلمّا سمعت الجبال ذلك تعاظمت رجاء أن يتجلّى منها الله لها وجعل زبير يتواضع من تبيان فلمّا رأى الله تعالى تواضعه رفعه من بينهما وخصّه بالتجلّي.
قال السدي: لمّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى خاض الخبيث إبليس في الأرض حتّى خرج بين قدمي موسى فوسوس إليه وقال: إن مكلمك الشيطان فعند ذلك سأل الرؤية فقال الله تعالى: لَنْ تَرانِي [ ... ] «1» تعلّقت [ ... ] «2» الرؤية بهذه الآية، ولا دليل لهم فيها لأنّ (لَنْ) هاهنا لا توجب التأبيد وإنما هي للتوقيت لقوله تعالى حكاية عن اليهود لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ «3» يعني الموت ثمّ حكى عنهم أنهم يقولون لمالك يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ «4» . ويا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ «5» يعني الموت، وقال سبحانه لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ يعني الجنّة حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وقد يدخل الجنّة من لا ينفق ممّا [علمت] فمعنى الآية لن تراني في الدنيا وإنما تراني في العقبى.
قال عبد العزيز بن يحيى: قوله لَنْ تَرانِي جواب قول موسى (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ولا تقع على الآخرة، لأن موسى لم يقل أرني أنظر إل