تفسير الثعلبي الكشف والبيان عن تفسير القرآن 005

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
صفة لمؤنث أو مذكر، والعرب تقول لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب فإذا حذفوا الإسم وأفردوا الصفة أدخلوا الهاء، قالوا: رأينا كحيلة وخضيبة ودهينة، وأكيلة السبع فأدخلوا الهاء مثل الذبيحة والسكينة وَما أَكَلَ السَّبُعُ غير [المعلم] .
وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع، وقرأ ابن أبي زائدة: وأكيلة السبع، وقرأ الحسن وطلحة ابن سليمان: وما أكل السبْعُ بسكون الباء [وهي لغة لأهل نجد] «1» .
قال حسّان بن ثابت في عتبة بن أبي لهب:
من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع «2»
قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا أكل السبع مليا أو أكل منه أكلوا ما بقي إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ يعني إلّا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء، والتذكية تمام فري الأوداج، وانهار الدم، ومنه الذكاة في السنّ وهو أن يأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة ومثله المثل السائد: جري المذكيات غلاب «3» .
قال الشاعر «4» :
يفضله إذا اجتهدوا عليه ... تمام السن منه والذكاء «5»
ومنه الذكاء في الفهم إذا كان تام العقل سريع القبول.
ويقول في الذكاة إذا أتممت إشعالها، فمعنى ذكيتم أدركتم ذبحه على التمام.
وقال ابن عباس وعتبة بن عمير: إذا طرفت بعينها أو ظربت بذنبها أو ركضت برجلها أو تحركت فقد حلت لك.
وعن زيد بن ثابت: أن ذئبا نيب في شاة فذبحوها بمروة فرخص النبي صلى الله عليه وسلّم في أكله «6» .
أبو قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» «7» [10] .
__________
(1) زيادة عن تفسير القرطبي: 6/ 50
. (2) تفسير القرطبي: 17/ 83
. (3) الغاب: المغالبة أي إنّ المذكّي يغالب مجاريه فيغلبه لقوّته
. (4) والقائل هو: زهير
. (5) لسان العرب: 14/ 288
. (6) مسند أحمد: 5/ 184
. (7) سنن ابن ماجة: 2/ 1058 [.....]
.
(4/13)
1
قال عاصم عن عكرمة: إن رجلا أضجع شاته وجعل يحدّ شفرته ليذبحها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «تريد أن تميتها موتات قبل أن تذبحها!» «1» [11] .
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قال بعضهم: فهو جمع واحدها نصاب، وقيل: هو واحدة جمعها أنصاب مثل عنق وأعناق.
وقرأ الحسن بن صالح وطلحة بن مصرف: النَّصْبِ بجزم الصّاد.
وروى الحسن بن علي الجعفي عن أبي عمرو: النَّصْبِ بفتح النون وسكون الصّاد.
وقرأ الجحدري: بفتح النون والصّاد [جعله] اسما موحدا كالجبل والجمل والجمع أنصاب كالأجمال والأجبال وكلها لغات وهو الشيء المنصوب، ومنه قوله تعالى كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ «2» واختلفوا في معنى النصب هاهنا.
فقال مجاهد وقتادة وابن جريح: كان حول البيت ثلاثمائة وستين حجرا وكان أهل الجاهلية يذكّون عليها يشرّحون اللّحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون لها، وكانوا مع هذا يبدلونها إذا شاؤوا لحجارة [من قبالهم] «3» منها، قالوا: وليست هي بأصنام إنما الصنم ما يصوّر وينقش.
وقال الآخرون: هي الأصنام المنصوبة.
قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تستكنّه ... لعاقبة واللَّه ربك فاعبدا «4»
ثم اختلفوا في معناها. فقال بعضهم: تقديره على اسم النصب. ابن زيد وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ هما واحدة.
قطرب: معناه: ما ذبح للنصب أي لأجلها على معنى اللام وهما يتعاقبان في الكلام. قال الله تعالى فَسَلامٌ لَكَ «5» أي عليك، وقال وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «6» أي فعليها، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا معطوف على ما قبله، وأن في محل الرفع أي وحرم عليكم الاستقسام بِالْأَزْلامِ، والاستقسام طلب القسم والحكم من الأزلام وهي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها زلم مثل عمر، وزلم وهي القداح.
__________
(1) المستدرك للحاكم: 4/ 231
. (2) سورة المعارج: 43
. (3) هكذا في الأصل
. (4) الصحاح: 1/ 225، وتاج العروس: 1/ 486
. (5) سورة الواقعة: 91
. (6) سورة الإسراء: 7
.
(4/14)
1
قال الشاعر:
فلئن جذيمة قتّلت سرواتها ... فنساؤها يضربن بالأزلام «1»
وكان استقسامهم بالأزلام على ما ذكره المفسّرون أن أهل الجاهلية إذا كان سفرا أو غزوا أو تجارة أو تزويجا أو غير ذلك ضرب القداح وكانت قداحا مكتوب على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها: أمرني ربي، إن خرج الآمر مضى لأمره، وإن خرج الناهي أمسك.
وقال سعيد بن جبير: الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها.
أبو هشام عن زياد بن عبد الله عن محمد بن إسحاق قال: كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة وكانت عند هبل أقداح سبعة كل قدح منها فيه كتاب، قدح فيه: العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة فإن خرج العقل حمله، وقدح فيه: نعم، للأمر، إذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح فإن خرج ذلك القدح فعلوا ذلك الأمر.
وقدح فيه: لا إذا أرادوا أمر يضربون فإن خرج قدح «لا» لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه:
منكم وقدح فيه: ملصق وقدح فيه: من غيركم، وقدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القداح فحيثما خرج عملوا به.
وكانوا إذا أرادوا أن يختتنوا غلاما أو أن ينكحوا امرأة أو يدفنوا ميّتا أو شكّوا في نسب خصمهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وبجزور فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب فيضرب، فإن خرج عليه: منكم، كان وسيطا منهم وإن خرج عليه: من غيركم، كان حليفا، وإن خرج عليه: ملصق، كان على منزلته منهم لا نسب له ولا حليف، وإن كان في شيء مما سوى هذا مما يعملون به كنعم عملوا به، فإن خرج:
لا، أخّروا عامهم ذلك حتى يأتوه مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح.
فقال الله عز وجل ذلِكُمْ فِسْقٌ «2» .
قال مجاهد: هي كعاب فارس والرّوم التي يتقامرون بها «3» .
قال سفيان بن وكيع: الشطرنج.
رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من تكهّن أو استقسم أو تطيّر
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 58
. (2) بطوله في تفسير الطبري: 6/ 104 وتصويب العبارة منه
. (3) تفسير الطبري: 6/ 102
.
(4/15)
1
طيرة تردّه عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة» «1» [12] .
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يعني عن أن يرجعوا إلى دينهم كفّارا، وفيه لغتان قال: الشعبي وائس يايس إياسا وإياسة.
قال النضر بن شميل: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
نزلت الآية في يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر للهجرة والنبي صلى الله عليه وسلّم واقف بعرفات على ناقته العضباء وكادت عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت «2» .
وقال طارق بن شهاب: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقال:
آية [نقرؤها] لو علينا نزلت في ذلك اليوم لاتخذناه عيدا، قال: أية آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ، قال عمر: قد علمت في أي يوم نزلت وفي أي مكان!، إنها نزلت يوم عرفة في يوم جمعة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقوفا بعرفات وكلاهما بحمد الله لنا عيد، ولا يزال ذلك اليوم عيدا للمسلمين ما بقي منهم أحد وقد صار من ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ولا يجمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية بكى عمر (رضي الله عنه) فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك يا عمر» قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلّا نقص، فقال: «صدقت» [13] «3» .
وكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعاش بعدها أحد وثمانون يوما أو نحوها.
واختلف المفسّرون في معنى الآية فقال ابن عباس والسدّي: الْيَوْمَ وهو يوم نزول هذه الآية أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أي الفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض. فهذا معنى قول ابن عباس والسدي.
وقال سعيد بن جبير وقتادة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فلم يحج معكم مشرك، وقيل: هو أن الله تعالى أعطى هذه الأمة من أنواع العلم والحكمة جميع ما أعطى سائر الرسل والأمم فزادهم.
وقيل: إن شرائع الأنبياء زالت ونقضت وشريعة هذه الأمة باقية لا تنمح ولا تتغيّر إلى يوم القيامة [ ... ] «4» هو بايعك ثم فرّقوه، يكن هذا لغيرهم، وقيل: لم يكن إلّا هذه الأمة،
__________
(1) تاريخ دمشق: 18/ 98 ط دار الفكر
. (2) تفسير القرطبي: 6/ 61
. (3) تفسير الطبري: 6/ 107. 106
. (4) كلام غير مقروء
.
(4/16)
1
وقيل: هو أن الله تعالى جمع بهذه الآية جميع [ ... ] »
الولاية وأسبابها.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم بن حسيب قال: سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرّازي قال: سمعت العباس بن حمزة قال: سمعت ذا النون يقول يعلمنا من سياسة فيقول أربعة أشياء: الكتاب والرسول، والخلعة والولاية.
قال: كتاب جعله أشرف الكتب وأكثرها يسرا وأخفّها أمرا وأغزرها علما وأوفرها حكما، ورسول الله جعله أعظم الرسل وأفضلهم، والخلعة جعله عطاء ولم يجعلها عارية، والولاية جعلها دائمة إلى نفخ الصور.
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي حققت وعدي في قولي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين.
وقال الشعبي: نزلت هذا الآية بعرفات حيث هدم منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت [غيرهم] .
السّدي: أظهرتكم على العرب.
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ اجتهد فِي مَخْمَصَةٍ مجاعة يقال: هو خميص البطن إذا كان طاويا خاويا، ورجل خمصان وامرأة خمصانة إذا كانا ضامرين مضيمين والخمص والخمص الجوع.
قال الشاعر:
يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة ... يبت قلبه من قلّة الهمّ مبهما «2»
غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ.
قال أبو عبيدة: غير متحرف مائل، قطرب: مائل، المبرّد: [زائغ] وقرأ النخعي: متجنف وهما بمعنى واحد يقال: تجنّف وتجانف مثل تعهد وتعاهد.
قتادة: غير متعرض بمعصية في مقصده وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة: ما أكل فوق الشبع فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه إضمار، تقديره: فأكله، ويكتفى بدلالة الكلام عليه، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي غفور له غفور كما يقول عبد اللَّه: ضربت، فيريد ضربته.
قال الشاعر:
__________
(1) كلمة غير مقروءة [.....]
. (2) زاد المسير: 2/ 240
.
(4/17)
1
ثلاث كلّهنّ قتلت عمدا ... فأخرى الله رابعة تعود «1»
وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلّم المخمصة [بما
رواه] [الأوزاعي] عن حسان بن عطية عن أبي واقد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنا بأرض يصيبنا بها مخمصة فمتى تحل لنا الميتة؟
قال صلى الله عليه وسلّم: «إذا لم تصطبحوا «2» ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها» «3» [14] .
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ الآية.
قال أبو رافع: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم رداءه فخرج فقال: قد أذنا لك يا رسول الله، قال: أجل يا رسول الله ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو.
عن عبد الله بن يحيى عن أبيه عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب» «4» [15] .
رجعنا إلى حديث أبي رافع قال: فأمرني أن لا أدع كلبا بالمدينة إلّا قتلته وقلت حتى خفت العوالي [فأتيت] إلى امرأة في ناحية المدينة عندها كلب يحرس عنها فرحمته فتركته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبرته بأمري، فأمرني بقتله فرجعت إلى الكلب فقتلته.
وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول رافعا صوته: «اقتلوا الكلاب» [16] «5» .
قال: وكنا نلقى المرأة [تقدم من] المدينة بكلبها فنقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بقتلها وحرم ثمنها.
وروى علي بن رباح اللخمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يحل ثمن الكلاب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي» «6» [17] .
ونهى عن اقتنائها وإمساكها وأمر بغسل الإناء من ولوغها سبع مرات أولاهنّ بالتراب
نرجع إلى الحديث الأول.
قال: فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقتل الكلاب جاء ناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحلّ لنا من هذه الآمة التي نقتلها، فسكت رسول الله فأنزل الله هذه الآية وأذن رسول الله في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها، وأمر بقتل الكلب العقور وما يضر ويؤذي ورفع القتل عمّا سواها ممّا لا ضرر فيه.
__________
(1) شرح الرضي على الكافية: 1/ 239
. (2) في المعجم الكبير (3/ 251) وتفسير ابن كثير: 2/ 16،: تصطحبوا
. (3) مسند أحمد: 5/ 218
. (4) السنن الكبرى: 3/ 148
. (5) المعجم الأوسط: 6/ 252
. (6) سنن أبي داود: 2/ 141، ح/ 3448، وسنن النسائي: 1/ 177
.
(4/18)
1
وروى الحسن عن عبد الله بن معقل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لولا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم وأيما قوم اتخذوا كلبا ليس بكلب حرث أو صيد أو ماشية نقصوا من أجورهم كل يوم قيراطا» «1» [18] .
عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من اقتنى كلبا ليس كلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينتقص من أجره قيراطان كل يوم» «2» [19] .
والحكمة في ذلك ما
روى أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الرزاق السريعي قال: قيل لعبد الله بن المبارك: ما تقول في قول المصطفى صلى الله عليه وسلّم: «من اقتنى كلبا لا كلب صيد ولا ماشية نقص من عمله كل يوم كذا وكذا من الأجر» «3» [20] .
فقال حدّثني [الأصمعي] قال: قال أبو جعفر المنصور لعمرو بن عبيد: ما بلغك في الكلب؟ قال: بلغني أن من أخذ كلبا لغير زرع ولا حراسة نقص من أجره كل يوم قيراط. فقال له: ولم ذلك؟ قال: هكذا جاء الحديث، قال: خذها بحقّها إنّما ذلك لأنّه ينبح على الضيف ويروع السائل «4» .
وكانت أسخياء العرب تبغض الكلاب لهذا المعنى وتذم من ربطه وهمّ بقتله.
قال الثعلبي: أنشدني أبو الحسن الفارسي قال: أنشدني أبو الحسن الحراني البصري أنّ بعض شعراء البصرة نزل بعمّار فسمع لكلابه نبحا فأنشأ يقول:
نزلنا بعمار فأشلى كلابه ... علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل
فقلت لأصحابي أسر إليهم ... إذا اليوم أم يوم القيامة أطول «5» .
قال عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: نزلت في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل [الطائيين] وهو زيد الخيل الذي سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيد الخير وذلك إنهما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قالا: يا رسول الله إنّا قوم نصيد الكلاب والبزاة فإن كلاب آل درع وآل حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما يدرك ذكاته ومنه ما يقتل فلا يدرك ذكاته وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت يَسْئَلُونَكَ يا محمد ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يعني الذبائح التي أحلّها الله وَما عَلَّمْتُمْ يعني وصيد ما علمتم مِنَ الْجَوارِحِ.
__________
(1) مسند أحمد: 4/ 85
. (2) صحيح مسلم: 5/ 38
. (3) مسند أحمد: 2/ 60
. (4) تنوير الحوالك: 697 ح 1742،
. (5) عمار: اسم شخص، والبيت في تفسير القرطبي: 6/ 74
.
(4/19)
1
واختلفوا في هذه الجوارح التي يحل صيدها بالتعليم غير المدرك ذكاته وما أدركت فما ذكاته فهو لك، وإلّا فلا يطعم، وهذا غير معمول به.
وقال سائر العلماء: هي الكواسب من السباع والبهائم والطير مثل النمر والفهد والكلب والعقاب، والصقر، والبازي، والباشق، والشاهين ونحوها مما يقبل التعليم، فسميت جوارح لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد أي كسبها. يقال: فلان جارحة أهلها أي كاسبهم ولا جارحة لفلان إذ لم تكن لها كسب مُكَلِّبِينَ منصوب على الحساب في المعنى وصيد ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ إلى هذه الحال أي في حال صيدكم [أصحاب] كلاب، والتكليب إغراء الصيد وإشلاؤه «1» على الصيد.
قال الشاعر:
باكره عند الصباح مكلّب ... أزلّ كسرحان القصيمة أغبر «2»
قرأ أبن مسعود وأبو زرين والحسن: مُكْلِبِينَ بتخفيف اللام على هذا المعنى، وهي قراءة الحسن والقتيبي أيضا، ويجوز أن يكون من قولهم: أكلب الرجل، إذا كثرت كلابه، مثل:
وأمشى إذا كثرت ماشيته، وذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم والمراد به جميع الجوارح.
تُعَلِّمُونَهُنَّ آداب الصيد مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أي من العلم الذي علمكم الله، وقال السّدي: من بمعنى الكاف، أي كما علّمكم الله، وهو أن لا [يجثمن] «3» ولا يعضنّ ولا يقتلن ولا يأكلن فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ عند إرسال البهم والجوارح.
 
حكم الآية
والمعلم من الجوارح الذي يحلّ صيده هو أن يكون إذا أرسله صاحبه وأشلاه استشلى وإذا أخذ أمسك ولم يأكل. فإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفرّ منه، فإذا فعل ذلك مرّات. فهو معلّم فمتى كان بهذا الوصف. فاصطاد جاز أكله فإذا أمسك الصيد ولم يأكل منه جاز أكله، وكان حلالا، فإن أكل منه، فللشافعي فيه قولان: أحدهما: لا يحلّ ولا يؤكل وهو الأشهر والأظهر من مذهبه لأنّ الله عز وجل قال: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وهو لم يمسك علينا وإنما أمسك على نفسه، وهذا قول الحسن وطاوس والشعبي وعطاء والسدّي.
وقال ابن عباس: إذا أرسلت الكلب فأكل من صيد فهي ميتة لا يحل أكله لأنه سبع أمسكه على نفسه، ولم يمسك عليك ولم يتعلم ما علّمته، فاضربه ولا تأكل من صيده.
__________
(1) أشليت الكلب على الصيد دعوته فأرسلته، وقيل: أغريته
. (2) لسان العرب: 12/ 486 [.....]
. (3) هكذا في الأصل
.
(4/20)
1
يدل عليه ما
روى الشعبي عن عدي بن حاتم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الصيد فقال: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه فإن أدركته لم يقتل، فاذبح واذكر اسم الله عليه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك، فإن وجدته قد أكل منه فلا تطعم منه شيئا، فإنما أمسك على نفسه، فإن خالط كلبك كلاب فقتلن ولم يأكلن فلا تأكل منه فإنك لا تدري أيّها قتل) «1» . (وإذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن أدركته فكل، إلّا أن تجده وقع في ماء فمات فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك) فإن وجدته بعد ليلة أو ليلتين ولم تر فيه سهمك فإن شئت أن تأكل منه فكل» «2» [21] .
والقول الثاني: أنه يحلّ وإن أكل وهو قول سلمان الفارسي، وسعد بن أبي وقّاص، وابن عمر، وأبي هريرة،
قال حميد بن عبد الله وسعد ابن أبي وقّاص: لنا كلاب ضواري يأكلن ويبقين، قال: كل وإن لم يبق إلّا نصفه أو ثلثيه فكل ميتة.
وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلّم
ولا فرق في حمله على ما ذكرنا من الطيور والسباع المعلمة.
وروى أبو قلابة عن ثعلبة «3» الخشني: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قال: يا رسول الله إن أرضنا أرض صيد فأرسل سهمي وأذكر اسم الله وأرسل كلبي المعلم وأذكر اسم الله وأرسل كلبي الذي ليس معلم فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما حبس عليك سهمك، وذكرت اسم الله [فكل] ، وما حبس عليك كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل وما حبس عليك كلبك الذي ليس معلم فأدركت ذكاته فكل وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل» «4» [22] .
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يعني الذبائح وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ يعني ذبائح اليهود والنصارى، ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلّم حلال لكم، فمن دخل في دينهم بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلّم فلا تحل ذبيحته، فأما إذا سمّى أحدهم غير الله عند الذبح مثل قول النصارى: باسم المسيح، اختلفوا فيه.
فقال ربيعة: سمعت ابن عمر يقول: لا تأكلوا ذبائح النصارى، فإنهم يقولون: باسم المسيح، فإنهم لا يستطيعون أن تهدوهم وقد ظلموا أنفسهم، دليله قوله وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ.
والقول الثاني: إنّه يجوّز ذبيحتهم، الكتابي، وإن سمّي غير الله فإن هذا مستثنى من قوله
__________
(1) سنن النسائي: 7/ 179
. (2) السنن الكبرى: 9/ 242 والمعجم الكبير: 17/ 74 بتفاوت يسير
. (3) في المصدر: عن أبي ثعلبة
. (4) المعجم الكبير: 22/ 231
.
(4/21)
1
تعالى وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وهي إنما نزلت في ذبائح المشركين وما كانوا يذبحونها لأصنامهم، وعلى هذا أكثر العلماء.
قال الشعبي وعطاء: في النصراني يذبح فيقول: باسم المسيح قالا: يحلّ. فإنّ الله عز وجل قد أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون.
وسأل الزهري ومكحول عن ذبائح عبدة أهل الكتاب، [والمربيات] لكنائسهم وما ذبح لها فقالا: هي حلال، وقرأ هذه الآية.
وقال الحسن والحرث العكلي: ما كنت أسأله عن ذبحه فإنه أحل الله لنا طعامه، فإذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر غير اسم الله وأنت تسمع فلا تأكله، فإذا غاب عنك فكل، فقد أحل الله لك [ما في] القرآن، فذبح اليهود والنصارى ونحرهم مكروه.
قال علي (رضي الله عنه) : «لا يذبح ضحاياكم اليهود ولا النصارى ولا يذبح نسكك إلّا مسلم» «1» [23] .
قوله عز وجل وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها، فقال قوم: عنى بالإحصان في هذه الآية الحرية وأجازوا نكاح كل حرّة، مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يتزوجهن المسلم بحال، وهذا قول مجاهد وأكثر الفقهاء، والدليل عليه قوله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الآية، فشرط في نكاح الإماء الإيمان.
وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بالمحصنات في هذه الآية، العفائف من الفريقين إماءكنّ أو حرائر، فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب بهذه الآية، وحرّموا البغايا من المؤمنات والكتابيات، وهذا قول أبي ميسرة والسّدي.
وقال الشعبي: إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة، وتحصن فرجها.
وقال الحسن: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فاستيقن فإنه لا يمسكها، ثم اختلفوا في الآية أهي عامة أم خاصة. فقال بعضهم: هي عامة في جميع الكتابيات حربيّة كانت أو ذميّة، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن.
وقال بعضهم: هي الذميّات، فإما الحربيات فإنّ نساءهم حرام على المسلمين، وهو قول ابن عباس.
السدّي عن الحكم عن مقسم عنه قال: من نساء أهل الكتاب من تحلّ لنا ومنهم من لا
__________
(1) السنن الكبرى: 5/ 239 قريب منه
.
(4/22)
1
تحل لنا، ثم قرأ: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.... إلى قوله. صاغِرُونَ. فمن أعطى الجزية حلّ لنا نساؤه ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه.
قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم فأعجبه، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات، ويفسر هذه الآية بقوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ يقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى.
وروى المبارك عن سليمان بن المغيرة قال: سأل رجل الحسن: أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ماله ولأهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات: فإن كان لا بدّ فاعلا فليعمد إليها حصانا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة، قال: هي التي إذا ألمح الرجل إليها بعينه أتبعته وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.
قال قتادة: ذكر لنا ان رجالا قالوا لما نزل قوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ: كيف نتزوّج نساء لسن على ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقال مقاتل ابن حيّان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إحصان المسلمين إيّاهنّ بالذي يخرجهنّ من الكفر يعني عنهن في دينهن [ ... ] «1» وجعلهن ممن كفر بالإيمان، فقد حبط عمله وهو بعد للناس عامّة، وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني من أهل النّار.
وقال ابن عباس: ومن يكفر بالله قال الحسن بن الفضل: إن صحت هذه الرواية كان فمعناه برب الإيمان وقيل: بالمؤمنين به.
قال الكلبي: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم.
قال الثعلبي رحمه الله: وسمعت أبا القاسم الجهني قال: سمعت أبا الهيثم السنجري يقول: الباء صلة كقوله تعالى: يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «2» تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «3» والمعنى وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي يجحده فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.
وقرأ الحسن بفتح الباء، قرأ ابن السميع: فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.
__________
(1) كلمة غير مقروءة
. (2) سورة الإنسان: 6
. (3) سورة المؤمنون: 20
.
(4/23)
1
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية، أمر الله تعالى بالوضوء عند القيام إلى الصلاة. واختلف العلماء في حكم الآية، فقال قوم: هذا من العام الذي أريد به الخاص.
والمجمل الذي وكل بيانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعنى الآية: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ وأنتم على غير طهر، يدلّ عليه ما روي عن عكرمة إنه سأل عن هذه الآية قال: أو كلّ ساعة أتوضأ؟ فقال: إن ابن عباس قال: لا وضوء إلّا من حدث.
وقال الفضل بن المبشر: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات الخمس بوضوء واحد.
فإن بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل مائه الخفين. فقيل: أي شيء تصنعه برأيك؟ فقال: بل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصنعه وأنا أصنع كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصنع.
وروى محارب بن دثار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد.
وقال المسوّر بن مخرمة لابن عباس: هل لك في عبيد بن عمير إذا سمع النداء خرج من المسجد. فقال ابن عباس: هكذا يصنع الشيطان، فدعاه فقال: ما يحملك على ما تصنع إذا سمعت النداء خرجت وتوضأت، قال إن الله عز وجل يقول: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... الآية. قال: ليس هذا إذا توضأت فإنك على طهر حتّى تحدث، ثم قال: هكذا يصنع الشيطان إذا سمع النداء ولّى وله ضراط.
وروى الأعمش عن عمارة قال: كان للأسود قعب قد ري رجل وكان يتوضأ به ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها.
وقال زيد بن أسلم والسّدي: معنى الآية إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ من النوم، وقال بعضهم:
أراد بذلك كل قيام العبد إلى صلاته أن يجدّد لها طهرا على طريق الندب والاستحباب، قال عكرمة: كان علي يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ.
(4/24)
1
عن أبي عفيف «1» الهذلي إنه رأى ابن عمر يتوضأ للظهر ثم العصر ثم المغرب، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أسنّة هذا الوضوء؟ قال: إنه كان كافيا وضوئي للصلاة كلها ما لم أحدث ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات» «2» ففي ذلك رغبت يا ابن أخي.
وقال بعضهم: بل كان هذا أمرا من الله عز وجل لنبيه وللمؤمنين حتما وامتحانا أن يتوضأ لكل صلاة، ثم نسخ للتخفيف.
وقال محمد بن يحيى بن جبل الأنصاري قلت: لعبيد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر عمّن هو؟ قال: حدّثتنيه أسماء بنت زيد الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيلي حدثها أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلّا من حدث، وكان عبد الله يرى أن به قوّة عليه فكان يتوضأ.
وروى سليمان بن بريد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكّة صلى الصلوات الخمس كلها بوضوء واحد، فقال عمر (رضي الله عنه) : إنك تفعل شيئا لم تكن تفعله! قال: «عمدا فعلته يا عمر» «3» [24] .
وقال بعضهم: هذا إعلام من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلّم أن لا وضوء عليه إلّا إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال.
وذلك إنه إذا كان أحدث امتنع من الأعمال كلها حتّى يتوضأ فأذن الله عز وجل بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث غير الصلاة.
وروى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى يأتي منزله فيتوضأ لوضوء الصلاة حتّى نزلت آية الرخصة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ.
وحدّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى طرف الذقن طولا، وما بين الأذنين عرضا، فأما ما استرسل من اللحية عن الذقن فللشافعي هنا قولان:
أحدهما: أنه لا يجب على المتوضئ غسله، وهو مذهب أبي حنيفة واختيار المزني،
__________
(1) في المصدر: غطيف
. (2) سنن أبي داود: 1/ 23
. (3) السنن الكبرى: 1/ 118، وسنن النسائي: 1/ 85
.
(4/25)
1
واحتجّوا بأن الشعر النازل من الرأس لا يحكم بحكم الرأس. وكذلك من الوجه.
والثاني: أنه يجب غسله، ودليل هذا القول من ظاهر هذه الآية، لأن الوجه ما يواجه به، فكلّ ما تقع به المواجهة من هذا العضو يلزمه غسله بحكم الظاهر.
ومن الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلّم حيث نهى عن تغطية اللحية في الصلاة إنها من الوجه، ومن اللغة قول العرب بدل وجه فلان وخرج وجهه إذا نبتت لحيته.
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ غسل اليدين من المرفقين واجب بالإجماع واختلفوا في المرفقين.
فقال الشعبي ومالك والفراء ومحمد بن الحسن ومحمد بن جرير: لا يجب غسل المرفقين في الوضوء، وإِلى - هاهنا- بمعنى الحدّ والغاية، ثم استدلوا بقوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ «1» والليل غير داخل في الصوم، وقال سائر الفقهاء: يجب غسلهما و (إِلى) بمعنى مع واحتجوا بقوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «2» وقوله فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «3» وقوله مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «4» .
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اختلف الفقهاء في القدر الواجب من مسح الرأس.
فقال مالك والمزني: مسح جميع الرأس في الوضوء واجب.
وجعلوا الباء بمعنى التعميم، كقوله عز وجل فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ «5» وقوله وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» .
وقال أبو حنيفة: مسح ربع الرأس واجب. أبو يوسف: نصف الرأس، الشافعي: يجوز الاقتصار على أقل من ربع الرأس، فإذا مسح مقدار ما يسمى مسحا أجزأه، واحتج بقوله وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، وله في هذه الآية دليلان، أحدهما: مسح بعض رأسه وإن قلّ فقد حصل من طرفي [اللسان] ماسحا رأسه. فصار مؤديا فرض الأمر.
والثاني: إنه قال في العضوين اللذين أمر بتعميمها بالطهارة فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ فأطلق الأمر في غسلهما وقال في الرأس وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فأدخل الباء للتبعيض لأنّ الفعل
__________
(1) سورة البقرة: 187
. (2) سورة النساء: 2 [.....]
. (3) سورة التوبة: 125
. (4) سورة آل عمران: 52
. (5) سورة المائدة: 6
. (6) سورة الحج: 29
.
(4/26)
1
إذا تعدى إلى المفعول من غير حرف الباء كان دخول الباء للتبعيض، كقول القائل: مسحت يدي بالمنديل وإن كان مسح ببعضه.
قال عنترة:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم «1»
ويدل عليه من السنة ما
روى عمرو بن وهب النقعي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلّم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفّيه، فاقتصر في المسح على الناصية دون سائر الرأس.
وَأَرْجُلَكُمْ اختلف القرّاء فيه،
فقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام ومجاهد، وإبراهيم التميمي وأبو وائل، والأعمش، والضحّاك وعبد الله بن عامر، وعامر ونافع، والكسائي وحفص وسلام ويعقوب: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب وهي قراءة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) .
وروى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السّلمي، قال: قرأ عليّ الحسن والحسين فقرءا: وَأَرْجُلِكُمْ بالخفض، فسمع عليّ ذلك وكان يقضي بين الناس، فقال: وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب، وقال: هذا من المقدم والمؤخر من الكلام.
وقراءة عبد الله وأصحابه. قال الأعمش: كان أصحاب عبد الله يقرؤن: وَأَرْجُلَكُمْ نصبا فيغسلون.
وقراءة ابن عباس، روى عكرمة عنه أنه قرأها: وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب وقال: عاد الأمر إلى الغسل وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالكسر، وهي قراءة أنس والحسن وعلقمة والشعبي، واختيار أبي حاتم، فمن نصب فمعناه واغسلوا أرجلكم، ومن خفض فله وجوه ثلاث: أحدها أن المسح يعني الغسل والباء بمعنى التعميم، يقول تمسّحت للصلاة أي توضأت، وذلك أن المتوضئ لا يرضى أن يصيب وجهه وذراعيه وقدميه حتّى يمسحها فيغسلها فلذلك سمي الغسل بها، وهذا قول أبي زيد الأنصاري وأبي حاتم السجستاني.
وقال أبو عبيدة والأخفش وغيرهما: إن الأرجل معطوفة على الرءوس على الإتباع بالجواز لفظا لا معنى. كقول العرب (جحر ضب خرب) قال تعالى رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها «2» .
قال الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا «3» .
__________
(1) لسان العرب: 2/ 95
. (2) سورة النساء: 75
. (3) تفسير الطبري: 1/ 92
.
(4/27)
1
والرمح لا يتقلد إنّما يحمل.
وقال لبيد:
وأطفلت بالجلهتين ... ظباؤها ونعامها «1»
والنعام لا تطفل وإنما تفرخ.
وقال بعضهم: أراد به المسح على الأرجل لقرب الجوار. كقوله: غمر الردا أي واسع الصدر. ويقال: قبّل رأس الأمير ويده ورجله، وإن كان في العمامة رأسها وفي الكم يده وفي الخف رجله.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا ركع وضع يده على ركبتيه.
وليس المراد إنه لم يكن بينهما حائل. قال الله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ «2» قال كثير من المفسرين: أراد به قلبك فطهر.
قال همام بن الحرث: بال جرير بن عبد الله فتوضأ ومسح على خفيه فقيل له في ذلك، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفعله.
قال الأعمش: كان إبراهيم يعجبه هذا الحديث، وهو أن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.
وأجرى قوم من العلماء الآية على ظاهرها، وأجازوا المسح على القدمين، وهو قول ابن عباس قال: الوضوء مسحتان وغسلتان.
وقول أنس: روى ابن عليّة عن حميد عن موسى بن أنس إنه قال لأنس ونحن عنده: إن الحجاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤسكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وكعبهما وعراقيبهما.
فقال: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله تعالى وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.
وروى حماد عن عاصم الأحول عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسّنة بالغسل.
وقول الحسن والشعبي، قال الشعبي: نزل جبرئيل بالمسح، ثم قال: ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا.
وقول عكرمة قال يونس: حدّثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه إنما كان يمسح عليهما حتى خرج منها.
__________
(1) تاج العروس: 9/ 384
. (2) سورة المدّثّر: 4
.
(4/28)
1
وقول قتادة قال: افترض الله غسلين ومسحين، ومذهب داود بن علي الأصفهاني ومحمد ابن جرير الطبري وأبي يعلى وذهب بعضهم إلى إن المتوضئ يتخير بين غسلهما ومسحهما، والدليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء قول الله عز وجل: إِلَى الْكَعْبَيْنِ فتحديده بالكعبين دليل على الغسل كاليدين لما حدّهما إلى المرفقين كان فرضهما الغسل دون المسح.
ويدل عليه من السّنة ما
روي عن عثمان وعلي وأبي هريرة وعبد الله بن زيد إنهم حكوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فغسلوا أرجلهم.
وروى خلاد بن السائب عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل أرجله» «1» [25] .
وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر أنه قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نغسل أرجلنا إذا توضأنا.
وقال ابن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم على وجوب غسل الرجلين.
أبو يحيى عن عبد الله بن عمرو قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلّم على قوم عراقيبهم تلوح فقال: «أسبغوا الوضوء ويل للعراقيب من النار» «2» [26] .
وقال حميد الطويل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أعمى يتوضأ فقال: «اغسل باطن قدميك» «3» فجعل يغسل حتّى سمّي أبا غسيل» [27] .
روى أبو قلابة أن عمر (رضي الله عنه) رأى رجلا يتوضأ فترك باطن قدميه فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: لإن تقطعا أحبّ إليّ من أن أمسح على القدمين بغير خفين إلى الكعبين.
وهما النابتان من جانبي الرجل ومجمع مفصل الساق والقدم. وسمّتهما العرب المنجمين، وعليهما الغسل كالمرفقين، هذا مذهب الفقهاء وخالفهم محمد بن الحسن في الكعب فقال: هو الناتئ من ظهر القدم الذي يجري عليه الشراك. قال: وسمي ذلك لارتفاعه ومنه الكعبة.
ودليلنا قوله تعالى وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فجمع الأرجل وثنّى الكعبين فلو كان لكل رجل كعب واحد لجمعهما في الذكر كالمرافق لما كان في كل يد مرفق واحد، بجمع المرافق
__________
(1) أحكام القرآن: 2/ 423
. (2) مسند أبي داود الطيالسي: 302 وجامع البيان: 6/ 182
. (3) المصنّف: 1/ 32
.
(4/29)
1
فلما جمع الأرجل وثنّى الكعبين ثبت أن لكل رجل كعبين ويدل عليه
قوله صلى الله عليه وسلّم للمحرم: «فليلبس النعلين فإن لم يجد النعلين فليلبس [خفّين] وليقطعهما أسفل من الكعبين» «1» [28] .
فدلّ على أن الكعبين ما قلنا، إذ لو كان الكعب هو الناتئ من ظهر القدم لكان إذا قطع الخف من أسفله لم يكن استعماله ولا المشي فيه، والنبي صلى الله عليه وسلّم لا يأمر بإضاعة المال وإتلافه.
ويدل عليه ما
روي أيضا عنه صلى الله عليه وسلّم إنه مرّ في سوق مكّة يقول: «قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا» «2» [29] .
وأبو لهب يرميه من ورائه بالحجارة حتّى أدمى كعبيه «3» .
فلو كان ما ذهب إليه محمد بن الحسن، ما قيل: حتى أدمي، إذ رميت من ورائه.
ويدل عليه ما
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أقيموا صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم» «4»
، حتّى كان الرجل منّا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه، فيدل عليه
قوله صلى الله عليه وسلّم:
«ويل للأعقاب والعراقيب من النار»
«5» [30] أصل الأعقاب والعراقيب إنما يحصل لمن غسل المنجمين.
وروى أبو إدريس عن أبي ذر عن عليّ كرم الله وجهه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ملإ من المهاجرين إذ أقبل إليه عشرة من أحبار اليهود فقالوا: يا محمد إنا أتيناك لنسألك عن أشياء لا يعلمها إلّا من كان نبيّا مرسلا وملكا مقرّبا. فقال صلى الله عليه وسلّم: «سلوني تفقها ولا تسألوني تعنّتا» فقالوا:
يا محمد أخبرنا لم أمر الله بغسل هذه الأربعة المواضع وهي أنظف المساجد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم:
«إنّ آدم لمّا نظر إلى الشجرة قصد إليها بوجهه ثم مشى إليها وهي أوّل قدم مشت إلى المعصية ثمّ تناول بيده وشمّها فأكل منها فسقطت عنه الحلي والحلل فوضع يده الخاطئة على رأسه فأمر الله عز وجل بغسل الوجه لما أنه نظر إلى الشجرة وقصدها وأمر بغسل الساعدين وغسل يده وأمر بمسح رأسه، إبتلته الشجرة ووضع يده على رأسه وأمر بغسل القدمين لما مشى إلى الخطيئة فلمّا فعل آدم ذلك كفّر الله عنه الخطيئة فافترضهنّ الله على أمتي ليكفّر ذنوبهم من الوضوء إلى الوضوء» [31] .
قالوا: صدقت، فأسلموا.
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 3
. (2) مسند أحمد: 5/ 371 [.....]
. (3) المصنّف لابن أبي شيبة: 8/ 442 بتفاوت
. (4) كنز العمال: 7/ 630 وفيه: وجوهكم يوم القيامة، بدل: قلوبكم
. (5) مسند أبي داود الطيالسي: 302 بتفاوت
.
(4/30)
1
فاختلف الفقهاء في حكم الروايات المذكورة في الآية. فجعلوها بمعنى الترتيب والتعقيب وأوجبوا الترتيب في الوضوء وهو أن يأتي بأفعال الوضوء تباعا واحدا بعد واحد. فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه، وهو اختيار الشافعي، فاحتج بقوله إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «1» .
قال جابر بن عبد الله: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحج- وذكر الحديث إلى أن قال-:
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا وقال: «ابدأوا بما بدأ الله به»
فدلّ هذا على شيئين: أحدهما:
أن الواو يوجب الترتيب، والثاني أن البداية باللفظ توجب البداية بالفعل إلّا أن يقوم الدليل «2» .
واحتج أيضا بقوله ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا «3» فالركوع قبل السجود، واحتج أيضا بقوله صلى الله عليه وسلّم:
«لا يقبل الله صلاة امرئ حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ثم يغسل يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه» «4» [32] . و (ثم) في كلام العرب للتعقيب.
عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه إنه قال لعبد الله بن زيد الأنصاري قال: أتستطيع أن تري كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتوضأ؟ فقال عبد الله: نعم، فدعا بوضوء وأفرغ على يديه فغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ومسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثمّ ذهب بهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه.
وقال مالك: إن ترك الترتيب في الوضوء عامدا، أعاد وضوءه فإن تركه ناسيا لم يعد، وهو اختيار المزني.
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وصاحباه: الترتيب في الوضوء سنّة فإن تركه ساهيا أو عامدا فلا إعادة عليه، وجعلوا الواو بمعنى الجمع، واحتجوا بقوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ
«5» ولا خلاف أن تقديم بعض أهل السهمين على بعض في الإعطاء بتمايز.
وبقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «6» . ويحرم تقديم أحدهما على الآخر.
 
وأما فضل الوضوء
فروى يحيى بن أبي كثير عن زيد عن ابن سلام عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«الطهور شطر الإيمان» «7» [33] .
__________
(1) سورة البقرة: 158
. (2) مسند أحمد: 3/ 394
. (3) سورة الحج: 77
. (4) أحكام القرآن: 2/ 423
. (5) سورة التوبة: 60
. (6) سورة الأحزاب: 56
. (7) مسند أحمد: 5/ 344
.
(4/31)
1
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عثمان النهدي قال: كنت مع سلمان فأخذ غصنا من شجرة يابسة فحتّه ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «من توضأ فأحسن الوضوء [ثمّ صلى الصلوات الخمس] تحاتّت عنه خطاياه كما تحات هذه الورق» «1» [34] .
وروى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم كيف تعرف من لم تر من أمتك يوم القيامة؟ قال: «هم غر محجلون من آثار الوضوء» «2» [35] .
وروى أبو أمامة عن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله ما الوضوء حدّثني عنه؟
قال: «ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق وينثر إلّا جرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء ثم إذا غسل وجهه كما أمر الله إلّا جرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم إذا غسل يديه من المرفقين إلّا جرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلّا جرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلّا جرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإذا هو قام فصلّى وحمد الله وأثنى عليه ومجّده وفرّغ قلبه لله إلّا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه» «3» [36] .
وعن أنس بن مالك قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا ابن ثمان سنين وكان أول ما علّمني أن قال: «يا أنس يا بني أحسن وضوءك لصلاتك يحبك الله ويزاد في عمرك» «4» [37] .
وروى سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن حمزة الأنصاري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونحن في مسجد المدينة فقال: «لقد رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاء وضوؤه فاستنقذه من ذلك» [38] .
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا فاغتسلوا.
روى أبو ذر عن علي (عليه السلام) فقال: أقبل عشرة من أحبار اليهود، فقالوا: يا محمد لماذا أمر الله بالغسل من الجنابة ولم يأمر من البول والغائط وهما أقذر من النطفة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنّ آدم لما أكل من الشجرة تحوّل في عروقه وشعره، وإذا جامع الإنسان نزل من أصل كل شعرة فافترضه الله عز وجل عليّ وعلى أمتي تكفيرا وتطهيرا وشكرا لما أنعم عليهم من اللذة التي يصيبونها منه» .
قالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا بثواب ذلك من اغتسل من الحلال، فقال صلى الله عليه وسلّم: «إنّ
__________
(1) مجمع الزوائد: 1/ 297
. (2) مسند أحمد: 5/ 199
. (3) صحيح مسلم: 2/ 210
. (4) مجمع الزوائد: 1/ 271، ومسند أبي يعلى: 6/ 307 بتفاوت [.....]
.
(4/32)
1
المؤمن إذا أراد أن يغتسل من الحلال بنى الله له قصرا في الجنّة وهو سرّ بين المؤمن وبين ربه، والمنافق لا يغتسل من الجنابة فما من عبد ولا أمة من أمتي قاما للغسل من الجنابة تيقنا أني ربهما، أشهدكم أني غفرت لهما كتبت لهما بكل شعرة على رأسه وجسده ألف [سنة] ومحى عنه مثل ذلك ورفع له مثل ذلك» . قالوا: صدقت، نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله.
وعن أبي محمد الثقفي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال لي النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا بني الغسل من الجنابة فبالغ فيه فإنّ تحت كلّ شعرة جنابة» . قلت: يا رسول الله كيف أبالغ؟ قال:
«نقّوا أصول الشعر وأنق بشرتك تخرج من مغتسلك وقد غفر لك كل ذنب» «1» [39] .
وقال عبد الرحمن بن حمزة: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة. فقال: «إني رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلقا حلقا كلما دنا إلى حلقه طردوه فجاءه اغتساله من الجنابة [فأخذ بيده] فأقعده إلى جنبي» «2» [40] .
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ إلى قوله بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي من الصعيد وما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم مِنْ حَرَجٍ من ضيق وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ من الأحداث والجنابات والذنوب والخطيئات وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فيما أباح الله لكم من التيمم عند عدم الماء وسائر نعمه التي لا تحصى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله عليها.
وروى محمد بن كعب القرضي عن عبد الله بن داره مولى عثمان بن عفّان (رضي الله عنه) عن عمران مولى عثمان قال: مرّت على عثمان فخارة من ماء فدعا به فتوضأ فأسبغ وضوءه ثم قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلّا مرّة أو مرّتين أو ثلاثا ما حدّثتكم به «3» .
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «ما توضّأ عبد فأسبغ وضوءه ثم قام إلى الصلاة إلّا غفر [الله] له ما بينه وبين الصلاة الأخرى» «4» [41] .
قال محمد بن كعب: فكنت إذا سمعت الحديث من رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم التمسته في القرآن فالتمست هذا في القرآن فوجدته إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ «5» فعلمت أن الله لم يتم عليه النعمة حتّى غفر له ذنوبه.
__________
(1) كنز العمال: 9/ 549. ح 27361
. (2) تفسير ابن كثير: 2/ 555
. (3) مسند ابن المبارك: 21
. (4) مسند ابن المبارك: 21
. (5) سورة الفتح: 2
.
(4/33)
1
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
ثم قرأت الآية التي في المائدة إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ حتّى بلغ قوله يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فعرفت أنّ الله لم يتم عليهم النعمة حتى غفر لهم.
قتادة عن شهر بن حوشب عن الصّدي بن عجلان وهو أبو إمامة عن النبي صلى الله عليه وسلّم إنه قال:
«الطهور يكفر ما قبله [ثمّ] تصير الصلاة نافلة» «1» [42] .
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني النعم كلها وَمِيثاقَهُ عهده الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ عاهدتم به أيها المؤمنون إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وذلك حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا. هذا قول أكثر المفسرين.
وقال مجاهد: من الميثاق الذي أخذ الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم (عليه السلام) وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ عليم ما في القلوب من خير وشر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أمرهم بالصدق والعدل في أقوالهم وأفعالهم وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ولا يحملنكم بغض قوم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم، ثم قال: اعْدِلُوا بين أوليائكم وأعدائكم هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى يعني إلى التقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ عالم بِما تَعْمَلُونَ مجازيكم به وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ تقديرها: وقال لهم مغفرة، لأنّ الوعد قول، فلذلك جمع الكلام وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالدفع عنكم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو ببطن نخل في الغزوة السابعة فإذا بنو ثعلبة، وبنو
__________
(1) المعجم الكبير: 8/ 125 وفيه: الوضوء، بدل: الطهور
.
(4/34)
1
محارب أرادوا أن يمسكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة، قالوا: إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم فإذا سجدوا فيها أوقعنا بهم، فأطلع الله نبيّه على ذلك، وهي صلاة الخوف.
وقال الحسن: كان النبي صلى الله عليه وسلّم محاصرا بطن نخلة. فقال رجل من المشركين: هل لكم في أن أقتل محمدا، قالوا: فكيف تقتله؟ قال أمسك به، قالوا: وددنا إنّك فعلت ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم وهو متقلد سيفه، فقال: يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرّة إلى السيف ومرّة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: الله، فتهدّده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وأغلظوا له فشام السيف ومضى. فأنزل الله هذه الآية.
الزهري عن ابن سلام عن جابر بن عبد الله: أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاة يستظلون تحتها فعلّق النبي صلى الله عليه وسلّم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسلّه ثمّ أقبل على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: من يمنعك منّي؟ قال: الله، قال الأعرابي مرّتين أو ثلاثا: من يمنعك منّي؟ والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول: الله، فشام الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه فأخبرهم بخبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه.
وقال مجاهد وعبد الله بن كثير وعكرمة والكلبي، وابن يسار عن رجاله: بعث النبي صلى الله عليه وسلّم المنذر ابن عمرو الأنصاري الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة وهي من مياه بني عامر، فاغتسلوا فقتل المنذر بن عمرو الأنصاري الساعدي وأصحابه إلّا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم أحدهم: عمرو بن أميّة الصيمري، فلم يرعهم إلّا والطير تحوم في السماء تسقط من بين خراطيمها علق الدّم، فقال أحد النفر: قتل أصحابنا، ثم تولى يشتد حتّى لقي رجلا فاختلفا ضربتين فلما خالطت الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال: الله أكبر الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ورجع صاحباه، فلقيا رجلين من بني سليم وبين النبي صلى الله عليه وسلّم وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يطلبون الدية فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتّى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النظير فاستعانهم في عقلهما، فقال: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة.
اجلس حتّى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه فخلا بعضهم ببعض، وقالوا: إنّكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيرتحل عنّا. فقال عمرو بن جحش بن كعب: أنا، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله أيديهم وجاء جبرئيل (عليه السلام) وأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وسلّم ثمّ دعا عليا فقال: لا تبرح من مكّة، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنّي فقل توجه إلى المدينة، ففعل ذلك علي (عليه السلام) حتّى قاموا إليه ثم لقوه فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
(4/35)
1
قال الثعلبي: وهذا القول أولى بالصواب لأنّ الله تعالى عقّب هذه الآية بذم اليهود، وذكر قبح أفعالهم وأعمالهم فقال عز من قائل وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ الآية، وذلك أنّ الله تعالى وعد موسى أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون، ووعده أن يهلكهم ويجعل أرض الشام مساكن بني إسرائيل، فلما تركت بني إسرائيل الدّار بمصر أمرهم الله تعالى المسير إلى أريحا أرض الشام وهي الأرض المقدسة.
وقال: يا موسى إني قد كتبتها لكم دارا قرارا فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصركم عليهم، وخذ من قومك اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً من كلّ سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا، به فاختار موسى (عليه السلام) النقباء وهذه أسماؤهم: من سبط روبيل:
شامل بن ران، ومن سبط شمعون: شاقاط بن [حوري] ، ومن سبط يهودا: كالب بن يوقنا، ومن سبط آبين: مقايل بن يوسف، ومن سبط يوسف، وهو سبط إفراهيم ويوشع بن نون، ومن سبط بنيامين: قنطم بن أرقون ومن سبط ريالون: مدي بن عدي، ومن سبط يوسف وهو ميشا بن يوسف: جدي بن قامن، ومن سبط آهر: بيانون بن ملكيا ومن سبط تفتال: نفتا لي محر بن وقسي، ومن سبط دان: حملائل بن حمل، ومن سبط أشار: سابور بن ملكيا «1» .
فسار موسى ببني إسرائيل حتّى إذا قربوا من أرض كنعان وهي أريحا. بعث هؤلاء النقباء إليها يتجسّسون له الأخبار ويعلمونه فلقيهم رجل من الجبارين يقال له عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع.
قال ابن عمر: كان عوج يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من أقرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله.
ويروى له أنه رأى نوحا يوم الطوفان فقال: احملني معك في سفينتك، فقال له: أخرج يا عدو الله فإنّي لم أؤمر بك وطبق الماء ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج، وعاش عوج ثلاثة ألاف سنة ثم أهلكه الله على يد موسى، وكان لموسى (عليه السلام) عسكر فرسخا في فرسخ، فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم جاء فنحت الجبل فأخذ منه بصخرة على قدر العسكر ثم حملها ليطبقها عليهم فبعث الله تعالى إليه الهدهد ومعه المص يعني منقاره حتّى نقر الصخرة فانثقبت فوقعت في عنق عوج فطوقته وأقبل موسى (عليه السلام) وطوله عشرة أذرع وطول عصاه عشرة أذرع وتراقي السماء عشرة أذرع فما أصاب إلّا كعبه وهو مصروع بالأرض فقتله.
قالوا: فأقبلت جماعة كثيرة ومعهم الخناجر فجهدوا حتّى جزّوا رأسه فلما قتل وقع في نيل
__________
(1) في الأسماء تفاوت كبير عمّا هو موجود في تفسير الطبري: 6/ 205، وكذا فيهما تفاوت عمّا هو موجود في تفسير القرطبي: 6/ 113، وكذلك عمّا في تاريخ دمشق: 8/ 41
.
(4/36)
1
مصر فجسرهم سنة وكانت أمّه عنق ويقال عناق إحدى بنات آدم، ويقال: إنّها كانت أوّل من بغت على وجه الأرض وكان كل إصبع من أصابعها ثلاثة أذرع وذراعين، وفي كل إصبع ظفران حديدان مثل المنجلين. وكان موضع مجلسها جريبا من الأرض. فلمّا بغت بعث الله عز وجل عليها أسدا كالفيلة وذئبا كالإبل ونسورا كالحمر وسلّطهم عليها فقتلوها وأكلوها.
قالوا: فلما لقيهم عوج وعلى رأسه حزمة حطب أخذ الإثني عشر فجعلهم في حجزته.
وحجزة الإزار معقد السراويل التي فيها التكّة. فانطلق بهم إلى امرأته وقال: أنظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها.
وقال: ألا أطحنهم برجلي، فقالت امرأته: لا بل خلّ عنهم حتّى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك فجعلوا يتعرّفون أحوالهم، وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلّا خمسة أنفس منهم في خشبة ويدخل في شطر الرّمانة إذا نزع حبّها خمسة أنفس أو أربعة، فلمّا خرجوا قال بعضهم لبعض: يا قوم إنّكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ارتدّوا عن نبي الله ولكن اكتموا وأخبروا موسى (عليه السلام) وهارون فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك. ثم انصرفوا إلى موسى وحاول بحبّة من عنبهم وفرّ رجل منهم، ثم إنّهم نكثوا العهد، وكل واحد منهم نهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى، إلّا رجلان منهم يوشع وكالب»
، فذلك قوله تعالى وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً.
وقال الله لبني إسرائيل إِنِّي مَعَكُمْ ناصركم على عدوّكم.
ثم ابتدأ الكلام فقال عزّ من قائل: لَئِنْ أَقَمْتُمُ يا معشر بني إسرائيل الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي ونصرتموهم ووقرتموهم.
وأشعر أبو عبيدة:
وكم من ماجد منهم «2» كريم ... ومن ليث يعزّر في الندي «3»
ويروى: وكم من سيّد يحصى نداه ومن ليث.
وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ولم يقل أقراضا، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ «4» لَأُكَفِّرَنَّ لأستبرأنّ ولأمحونّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي أخطأ قصد
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 204 بتفاوت، وتاريخ الطبري: 1/ 302
. (2) في المصدر: لهم
. (3) تفسير القرطبي: 6/ 114، والندي: مجلس القوم ما داموا مجتمعين فيه
. (4) سورة آل عمران: 37
.
(4/37)
1
السبيل وهو لكل شيء وسطه، ومنه قيل للظهر: سواء فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي فبنقضهم وما فيه ما المصدر، وكلّ ما ورد عليك من هذا الباب فهو سبيله.
قال قتادة: نقضوه من وجوه: كذّبوا الرسل الذين جاءوا بعد موسى فقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه.
قال سلمان: إنما هلكت هذه الأمّة بنكثها عهودها.
لَعَنَّاهُمْ قال ابن عباس: عذّبناهم بالجزية. الحسن ومقاتل: بالمسخ عطاء أبعدناهم من رحمتنا وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً.
قرأ يحيى بن رئاب وحمزة والكسائي قسيّة بتشديد الياء من غير ألف. وهي قراءة النخعي، وقرأ الأخفش: قسية بتخفيف الياء على وزن فعلية نحو عمية وشجية من قسى يقسي لا من قسى يقسو، وقرأ الباقون: قاسِيَةً على وزن فاعلة، وهو اختيار أبو عبيدة، وهما لغتان مثل العلية والعالية والزكية والزاكية.
قال ابن عباس: قاسية يائسة، وقيل: غليظة لا تلين، وقيل: متكبرة لا تقبل الوعظ، وقيل: ردية فاسدة، من الدراهم القسية وهي الودية المغشوشة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ قرأه العامّة بغير ألف، وقرأ السلمي والنخعي: الكلام بالألف وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبيان نعمته وَلا تَزالُ يا محمد تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ.
واختلفوا في الخائنة:
قال المبرّد: هي مصدر، كالكاذبة، واللّاغية، وقيل: هي اسم كالعاقبة والمعاقبة، وقيل:
هي بمعنى المبالغة، والهاء هنا للمبالغة مثل: راوية وعلامة ونسابة.
قال الشاعر:
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغلّ الإصبع «1»
ويجوز أن يكون جمع الخائن كقولك فرقة كافرة وطائفة خارجة.
قال ابن عباس: خائنة أي معصية، وقيل: كذب وفجور، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهمهم بقتله وسمّه ونحوها من عمالتهم وخيانتهم التي أخبرت إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يخونوا أو لم ينقضوا العهد، [من] أهل الكتاب فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وهذا منسوخ بآية السيف.
__________
(1) لسان العرب: 8/ 193
.
(4/38)
1
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ في التوحيد والنبوة فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بالعهد بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ألا وهو الخصومات والجدال في الدين.
قال معاوية بن قرة: الخصومات في الدين تحبط الأعمال «1» واختلفوا في المعنى بالهاء والميم في قوله بَيْنَهُمُ.
فقال مجاهد وقتادة والسدّي وابن زيد: يعني بين اليهود والنصارى.
وقال ابن زيد: كما تغري بين البهائم. وقال الربيع: هم النصارى وحدها، وذلك راجع إلى فرق النصارى النسطورية واليعقوبية والملكية، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ في الآخرة ويجازيهم به وهذا وعيد من الله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ التوراة والإنجيل مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلّم وآية الرجم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ويترك أخذكم بكثير ممّا تخفون قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ يعني محمد صلى الله عليه وسلّم وَكِتابٌ مُبِينٌ بيّن، وقيل: مبيّن وهو القرآن يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مجاهد وعبيد بن عمير ومسلم بن جندب: يُهْدِي بِهِ اللَّهُ بضم الهاء على الأصل لأن أصل الهاء الضمة، وقرأ الآخرون بكسر الهاء اتباعا. مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ رضاه ومعنى رضاه بالشيء قبوله ومدحه له فأثابه عليه وهو خلاف السخط والغضب وسُبُلَ السَّلامِ لطرف السلم وهو الله تعالى وسبيله دينه الذي شرع لعباده وبعث به رسله وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلام الكفر إلى نور الإيمان بِإِذْنِهِ بتوفيقه وهدايته وإرادته ومشيئته وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي من يطيق أن يدفع من أمر الله شيئا فيرده إذا قضاء، وهو من قول القائل: ملكت على فلان أمره إذا ضلّ لا يقدر أن ينفّذ أمرا.
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 217
.
(4/39)
1
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
الآية إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ولم يقل: وما بينهنّ لأنّ المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
قال السدّي: قالت اليهود: إنّ الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدا من ولدك أدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهركم وتأكل خطاياهم ثم ينادي أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل فأخرجهم فذلك قولهم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، وأمّا النصارى، فإن فرقة منهم قالت: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.
فأخرجهم الخبر عن الجماعة «1» قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ كان لأمر ما زعمتم أنكم أحباؤه وأولياؤه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم مقرّون إنّه معذبكم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ كسائر بني آدم، ثم قال بالإحسان والإيتاء يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ فضلا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ عدلا.
وقال السدّي: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فعذّبه وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد يُبَيِّنُ لَكُمْ أعلام الهدى وشرائع الدين عَلى فَتْرَةٍ انقطاع مِنَ الرُّسُلِ واختلفوا في قدر مدّة تلك الفترة.
وروى عبيد بن سلمان عن الضحاك قال: الفترة فيما بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) ستمائة سنة.
معمّر عن قتادة قال: كان بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) خمسمائة وستون سنة.
قال معمّر وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، الضحّاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
حمّاد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
__________
(1) في تفسير الطبري (6/ 225) : والعرب قد تخرج الخبر إذا افتخرت فخرج الخبر عن الجماعة [.....]
.
(4/40)
1
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
«أربعة [كلّهم] يدلي على الله يوم القيامة بحجة وعذر، رجل مات في الفترة ورجل أدرك [الفترة الأخيرة] «1» ، ورجل أصم أبكم ورجل معتوه، فيبعث الله عز وجل إليهم ملكا رسولا فيقول أطيعوه فيأتهم الرسول فيؤجج لهم نارا فيقول: اقتحموها فمن اقتحمها كانت عليهم بردا وسلاما ومن قال لا حقت عليه كلمة العذاب» [43] «2» .
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً اختلفوا في معنى الملوك.
فروى أبو الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا» «3» [44] .
وقال ابن عباس ومجاهد والحسن والحكم: من كان له بيت وخادم وامرأة فهو ملك.
وقال أبو عبد الرحمن: قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد اللَّه: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: إنّ لي خادما ومالا. قال: فأنت من الملوك.
وروى أبو عبلة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، يا ابن جعشم يكفيك منها ما يسدّ جوعك ويواري عورتك فإن كان بيت يواريك فذاك، وإن كان دابة تركبها فبخ، فلق الخبز وماء البحر وما فوق ذلك حساب عليك» «4» [45] .
__________
(1) هكذا في الأصل، وفي المصدر: الإسلام هرما
. (2) كتاب السنّة لعمرو بن أبي عاصم: 176
. (3) فتح القدير: 2/ 29
. (4) تاريخ دمشق: 70/ 147
.
(4/41)
1
وقال الضحّاك: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك.
وقال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم وأول من سخّر لهم الخدم من بني آدم.
قال السدّي: يعني وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد أن كنتم في أيدي القبط بمنزلة أهل الجزية فينا فأخرجكم الله من الذّل وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يعني عالمي من غيركم.
وقال مجاهد: يعني المن والسلوى والحجر والغمام يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ اختلفوا في الأرض المقدسة ما هي.
فقال مجاهد: هي الطور وما حوله. وقال الضحّاك: هي إيليا وبيت المقدس الحرام محرم مقداره، السماوات والأرض بيت المقدس مقدّس مقداره من السماوات والأرض.
عكرمة والسدّي وابن زيد: هي أريحا.
الكلبي: دمشق وفلسطين وبعض الأردن.
قتادة: هي الشام كلها.
قال زيد بن ثابت: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلّم يؤلف القرآن من الرقاع إذ قال: «طوبى للشام» قيل: يا رسول الله ولم ذلك؟ قال: «إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم» [46] «1» .
نصير بن علقمة الحمصي عن جبير بن نقير عن عبد الله بن حواله قال: كنّا عند النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «والله لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح الله أرض فارس والرّوم وأرض حمير وحتى تكونوا أجنادا ثلاثة، جندا بالشام، وجندا بالعراق وجندا باليمن» .
فقال ابن حوالة: يا رسول الله أن أدركني ذلك، قال: «اختار لك الشام فإنها صفوة الله من بلادكم وإليها [يجتبي] صفوته من عباده، يا أهل الإسلام فعليكم بالشام فإن صفوة الله من الأرض الشام فمن أبى فليلحق بيمينه وليستق من غدره إن الله قد تكفّل لي بالشام وأهله» «2» [47] .
روى الأعمش عن عبد الله بن صبّار عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: قسّم الخير عشرة أعشار فجعل منه تسعة بالشام وواحد بالعراق. وقسم الشّر عشرة أعشار فجعل منه تسعة بالعراق وواحد بالشام. ودخل الشام عشرة ألف عين رأت النبي صلى الله عليه وسلّم ونزل خمس وسبعمائة من
__________
(1) المعجم الكبير: 5/ 158
. (2) تاريخ دمشق: 1/ 74، معجم البلدان: 3/ 314
.
(4/42)
1
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم «1» فيهم سبعون [صحابيا] الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني كتبه في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن.
وقال ابن إسحاق: ذهب الله لكم. السّدي: أمركم به يدعو لها، وقتادة: أمروا بها كما أمروا بالصلاة وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أعقابكم بخلاف الله فَتَنْقَلِبُوا.
قال الكلبي: صعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام جبل لبنان فقيل له: أنظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريّتك من بعدك، قالوا: يعني بني إسرائيل، يا موسى اكتموا أمرهم لا تخبروا به أحدا من أهل العسكر فيفشيانه فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابن عمّه إلّا رجلين وفيا. فقال لهم موسى: وهما يوشع بن نون بن أفراثيتم بن يوسف فتى موسى وكالب بن يوفنا ختن موسى على أخته مريم ابنت عمران وهما من إيليا فعلمت جماعة بني إسرائيل ذلك، ورفعوا أصواتهم بالبكاء، وقالوا: يا ويلتنا متنا في أرض مصر، وليتنا نموت في هذه البرية ولا يدخلنا الله لدينهم فيكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم، وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسا وننصرف إلى مصر وذلك قوله عز وجل إخبارا عنهم: قالُوا: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها.
وقال قتادة: كانت لهم أجسام وخلق عجيب ليست لغيرهم وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ فلما قالوا ذلك وهمّوا بالانصراف إلى مصر خرّ موسى وهارون (عليهم السلام) ساجدين وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبر الله عز وجل عنهما في قوله قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي يخافون الله.
قرأ سعيد بن جبير يُخافُونَ بضم الياء وقال: كانا من الجبّارين فأسلما واتّبعا موسى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالتوفيق والعصمة ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ يعني قرية الجبّارين فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لأنّ الله منجز وعده ولا ينساهم فكانت أجسامهم عظيمة قوية، وقلوبهم ضعيفة فلا يخشونهم وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوهما قالُوا: يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأصحابه يوم الحديبية حين صدّ عن البيت: إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت. فقال المقداد بن الأسود: أما والله لا نقول لك ما قال قوم موسى اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، ولكنّا نقاتل عن يمينك وشمالك ومن بين يديك ومن خلفك فلو خضت البحر لخضناه معك، ولو تسنّمت جبلا لعلوناه معك فسر بنا على بركة الله، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بايعوه على ذلك وأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك وسرّه.
__________
(1) إلى هنا في تاريخ دمشق: 1/ 327
.
(4/43)
1
قال ابن مسعود: لأن أكون صاحب هذا المسجد أحبّ إليّ مما عدل بي.
فلمّا فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من معصيتهم بينهم ومخالفتهم أمر ربهم وهممتم بيوشع وكالب، غضب موسى ودعا عليهم قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ أي فافصل واقض.
وقرأ عبيد بن عمير: فَافْرِقْ بخفض الرّاء بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ العاصين. وكانت عجلة عجلها موسى وظهر الغمام على باب قبة الزمر موضع مناجاته وأوحى الله تعالى إلى موسى: إلى متى يعصيني هذا الشعب وإلى متى لا يصدّقون بالآيات لأهلكنّهم جميعا ولأجعلنّ لك شعبا أشد وأكثر منهم، فقال موسى (عليه السلام) : إلهي لو إنّك قتلت هذا الشعب كلّهم كرجل واحد لقالت الأمم الذين سمعوا: إنّما قتل هذا الشعب لأنه لم يستطع أن يدخلهم الأرض المقدسة فقتلهم في البرية، وإنّك طويل صبرك كثير نعمك وإنّك تغفر الذنوب وتحفظ الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء، فاغفر لهم توبتهم، فقال الله لموسى: قد غفرت لهم بكلمتك ولكن بعد ما سمّيتهم فاسقين ودعوت عليهم لأحرّمن عليهم دخول الأرض المقدسّة غير عبديّ يوشع وكالب ولآتيّهنّهم في هذه البرية أربعين سنة فكان كل يوم من الأيام الذي يحتسبوا فيها سنة وليلقين حتفهم في هذه القفار وأما بنوهم الذين لم يعلموا الخير والشر فإنهم يدخلون الأرض المقدسة فذلك قوله تعالى قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يتحيرون في الأرض فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيروا في كل يوم جادّين حتّى إذا أمسوا وباتوا فإذا هم في الموضع الذي ارتحلوا عليه، وكانوا ستمائة ألف مقاتل ومئات من النقباء العشرة الذين أفشوا الخبر بغتة فكل من دخل التيه ممن جاوز عشرين سنة مات في التيه غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحا أحد ممن قالوا إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً فلمّا هلكوا وانقضت أربعون سنة ونشأت النواشي من ذرياتهم ساروا إلى حرب الجبارين «1» .
واختلف العلماء في من تولي ذلك الحرب وعلى يد من كان الفتح، فقال القوم: إنّما فتح أريحا موسى (عليه السلام) وكان يوشع على مقدمته فسار موسى إليهم بمن بقي من بني إسرائيل فدخل بهم يوشع وقاتل الجبابرة التي كانوا بها ثم دخلها موسى (عليه السلام) بني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم فيه ثم قبضه الله إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق، وهذا أصح الأقاويل، لإجماع العلماء أن عوج بن عناق قتله موسى، والله أعلم.
وقال الآخرون: إنّما قاتل الجبّارين يوشع ولم يسر إليهم إلّا بعد موت موسى، وهلاك جميع من أبى المسير إليها فقالوا: مات موسى وهارون في التيه.
__________
(1) تفسير الطبري: 6/ 249
.
(4/44)
1
قصة وفاة هارون (عليه السلام)
قال السدّي: أوحى الله عز وجل إلى موسى: أني متوفي هارون، فأت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو الجبل، فإذا هما بشجر لم ير شجر مثلها وإذا بيت