تفسير الثعالبي الجواهر الحسان في تفسير القرآن 011

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
معناه: اخْتُبِرُوا وَزُلْزِلُوا: مَعْنَاه: حُرِّكُوا بعنف. ثم ذكر تعالى قول المنافقين والمَرْضَى القلوبِ على جِهَةِ الذَّمِّ لَهُمْ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً فَرُوِيَ عَنْ يزِيدَ بْنِ رُومَانَ أن مُعَتِّبَ بن قُشَيْرٍ قال: يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ أن نَفْتَتِحَ كنوز كِسْرَى وقيصر ومكة ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط ما يعدنا إلا غروراً، وقال غيره من المنافقين نحو هذا.
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 13 الى 21]
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)
وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي: من المنافقين لاَ مُقامَ لَكُمْ أي: لا موضعَ قيام ومُمَانَعة، فارْجِعوا إلى منازِلكم وبيوتِكم، وكان هذا على جِهَة التخذيل عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم، والفريق المستأذن هو أوسُ بن قيظي استأذنَ في ذلك على اتِّفَاقِ من أصحابهِ المنافقين فقالَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أيْ: مُنْكَشِفَة للعدو فأكذَبَهم الله- تعالى- ولو دخلت المدينة مِنْ أَقْطارِها أي: من نواحيها، واشتد الخوف الحقيقي، ثم سُئِلوا الفتنة والحرب لمحمد صلى الله عليه وسلّم وأصحابه لبادروا إليها وآتوها محبين فيها ولم يَتَلَبَّثُوا في بُيوتهم لحفظها إلاَّ يسيراً، قيل: قَدْرَ ما يأخذون سلاحَهم.
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قد كانوا عاهدوا الله إثْر أُحُدٍ لاَ يُولُّونَ الأدْبَارَ وفي قوله تعالى: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا تَوَعُّدٌ وباقي الآية بَيِّن. ثم وبَّخَهُمْ بقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وهم الذين يُعَوِّقُونَ الناسَ عن نُصْرة الرسولِ ويمنعونهم بالأقوال والأفعال من ذلك ويَسْعَوْنَ على الدين، وأما القائلون لإخوانهم هَلُمَّ إلينا فقال ابن زيد وغيره: أراد
(4/339)
1
من كان من المنافقين يقول لإخوانه في النَّسَب وقَرَابته هلُم، أَي: إلى المنَازِل والأكل والشرب، واترك القتال «1» . وروي: أنّ جماعة منهم فَعَلَتْ ذلك وأصلُ هَلُمَّ:
ها المم. وهذا مِثْلُ تعليل «رَدَّ» من «ارْدُدْ» والبأسُ: القتالُ وإِلَّا قَلِيلًا معناه إلا إتيانا قليلا، وأَشِحَّةً جمع شَحِيحٍ والصَّوَابِ تَعْمِيمُ الشُّحِّ أنْ يكون بِكُلّ ما فيه للمؤمنين منفعة.
وقوله: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ قيل: معناه: فإذا قوي الخوفُ رأيت هؤلاء المنافقين 72 ب ينظرونَ إليك/ نَظَرَ الهَلِعِ المُخْتَلِطِ الذي يُغْشَى عَليه، فإذا ذهب ذلك الخوفُ العظيمُ وَتَنَفَّسَ المختَنِقُ: سَلَقُوكُمْ أي: خاطبوكم مخاطبة بليغة، يقال: خطيب سَلاَّقٌ ومِسْلاَقٌ ومِسْلَقٌ ولِسَان أيضاً كذلك إذا كان فصيحاً مقتدراً ووصف الألسِنة بالحدّة لقَطْعِها المعاني ونفوذِها في الأقوال، قالت فرقةٌ: وهذا السَّلْقُ هو في مخادعةِ المؤمنِين بما يُرْضيهِم من القول على جهة المصانعة والمخاتلة.
وقوله: أَشِحَّةً حال من الضمير في سَلَقُوكُمْ.
وقوله: عَلَى الْخَيْرِ يدل على عموم الشح في قوله أولاً: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ وقيل: المراد بالخير: المال، أي: أشحة على مال الغنائِم، والله أعلم. ثم أخبرَ تعالى عنهم أنهم لم يؤمنوا، وجمهورُ المفسرينَ على أن هذه الإشارةَ إلى منافقينَ لم يكن لهم قط إيمان، ويكونُ قولهُ: فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي: أنها لم تُقْبَل قط، والإشارة بذلك في قوله وَكانَ ذلِكَ إلى حبط أعمال هؤلاء المنافقين، والضميرُ في قوله: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ للمنافقين، والمعنى: أنهم من الفزع والجزع بحيثُ رَحَلَ الأحزابُ وهزمهَم الله تعالى، وهؤلاء يظنون أنها من الخُدَعِ وأنَّهم لم يَذْهَبوا، وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ، أي: يرجعوا إليهم كرةً ثانية يَوَدُّوا من الخوف والجبن لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ أي:
خارجون إلى البادية. فِي الْأَعْرابِ وهم أهل العمود ليسلموا من القتال. يَسْئَلُونَ أي من وَرَدَ عليهم. ثم سَلَّى سبحانه عَنْهُم وحَقَّر شَأْنَهُم بِأَنْ أخْبَرَ أنهمْ لَو حَضَرُوا لَمَا أَغْنَوا وَلَمَا قَاتَلُوا إلا قِتَالاً قَلِيلاً لا نفعَ لَه. ثُم قال تعالى- على جهة الموعظة-: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ حين صَبَرَ وجَادَ بنفسه، وأُسْوَةٌ معناه قُدْوَة، وَرَجَاءُ الله تَابع للمَعْرِفة به، ورجاء اليومِ الآخر ثمرة العمل الصالح، وذكرُ الله كثيراً من خَير الأعمال فَنَبَّه عليه.
__________
(1) أخرجه الطبريّ (10/ 274) رقم (28398) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 375) .
(4/340)
1
ت: وعن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنا مَعَ عَبْدِي إذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» «1» . رواه ابن ماجه، واللفظ له وابن حِبَّانَ في «صحيحه» ورواه الحاكم في «المستدرك» من حديث أبي الدرداء.
وروى جابرُ بن عبد الله قال: خرج علينا النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: «يا أيّها النَّاسُ، إن لِلَّهِ سَرَايا مِنَ المَلاَئِكَةِ تَحُلُّ وَتَقِفُ على مَجَالِسِ الذِّكْرِ فِي الأَرْضِ، فارتعوا فِي رِيَاضِ الجَنَّةِ، قَالُوا:
وأَيْن رِيَاضُ الجَنَّةِ يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قَالَ: مَجَالِسُ الذِّكْرِ فاغدوا وَرُوحُوا فِي ذِكْرِ اللهِ وذَكِّرُوهُ أنْفُسَكُمْ مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللهِ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللهِ عِنْدَهُ فَإنَّ اللهَ يُنْزِلُ العَبْدَ مِنْهُ، حَيثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ» «2» رواه الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيحُ الإِسناد.
وعن معاذِ بْنِ جبل قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلّم أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللهِ تعالى؟ قَالَ:
«أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ» «3» رواه ابن حبان في «صحيحه» ، انتهى من «السِّلاَحِ» . ولَولاَ خشيةُ الإطالةِ، لأتَيْتُ في هذا الباب بأحاديثَ كَثِيرَةٍ، وروى ابنُ المُبَاركَ في «رقائقه» قال: أخبرنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجِيحٍ عن مجاهدٍ قَالَ: لاَ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً والذَّاكرَاتِ حَتَّى يَذْكُرَ اللهَ قَائِماً وَقَاعِداً وَمُضْطَجِعاً، انتَهى.
وفي «مصحف ابن مسعود «4» » «يَحْسَبُونَ الأحزاب/ قَدْ ذَهَبُواْ فَإِذَا وَجَدُوهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا ودّوا 73 أأنّهم بادون في الأعراب» .
__________
(1) أخرجه أحمد (2/ 540) ، وابن ماجه (2/ 1246) ، كتاب الأدب: باب فضل الذكر، حديث (3792) ، والحاكم (1/ 496) ، وابن حبان (3/ 97) رقم (815) من طريق أم الدرداء عن أبي هريرة.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وصححه ابن حبان.
(2) أخرجه الحاكم (1/ 494) ، وأبو يعلى (3/ 390- 391) رقم (1865) من طريق عمر بن عبد الله مولى غفرة عن أيوب بن خالد بن صفوان عن جابر به.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي فقال: عمر ضعيف.
وقال الهيثمي في «المجمع» (10/ 80) : رواه أبو يعلى، والبزار، والطبراني في «الأوسط» ، وفيه عمر بن عبد الله مولى غفرة، وقد وثقه غير واحد، وضعفه جماعة، وبقية رجالهم رجال الصحيح.
(3) أخرجه ابن حبان (3/ 99- 100) رقم (818) ، وابن السني رقم (2) ، والطبراني في «الكبير» (20/ 107) رقم (212) ، والبزار (3059 كشف) من حديث معاذ بن جبل. وذكره الهيثمي في «المجمع» (10/ 77) ، وقال: رواه الطبراني بأسانيد، وفي هذه الطريق خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك ضعفه جماعة، ووثقه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله ثقات، ورواه البزار من غير طريقه، وإسناده حسن. [.....]
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 377) .
(4/341)
1
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 22 الى 25]
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)
وقوله تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ ... الآية. قالت فرقة: لما أمر- رسول الله صلى الله عليه وسلّم- بحفر الخندقِ أعلمهم بأنهم سَيُحْصَرَون، وأمرهم بالاستعدادِ لذلك، وأعْلمهم بأنهم سَيُنْصَرُوْنَ بعد ذلك، فلما رأوا الأحزاب: قالُوا: هذا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الآية، وقالت فرقة: أرادوا بوعد الله ما نَزَل في سورة البقرة من قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ إلى قوله قَرِيبٌ [البقرة:
214] .
قال ع «1» : وَيُحْتَمَلُ أنهم أرادوا جميعَ ذلك. ثم أثنى سُبحانه على رجالٍ عَاهدوا الله على الاسْتِقَامَةِ فَوَفَّوْا، وَقَضَوْا نَحْبُهُمْ، أي: نَذْرَهُمْ، وَعَهَدَهُمْ، «والنَّحْبُ» فِي كَلاَمِ العَرَبِ: النَّذْرُ والشَّيءُ الذي يلتزمُهُ الإنسان، وقَد يُسَمَّى المَوْتُ نَحْباً، وبهِ فسَّر ابن عبَّاس «2» وغيرُه هذه الآيةَ، ويقال للذي جاهد في أمرٍ حتى ماتَ: قضى فيه نحبه، ويقالُ لمن مات: قضى فلان نحبه فممن سَمَّى المفسرون أنّه أُشِيرَ إليه بهذه الآية أنس بن النضر عَمُّ أنسِ بن مالكٍ، وذلك أنه غَابَ عن بَدْرِ فساءَه ذلك، وقال لئن شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم مَشْهَداً ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصْنَعُ. فلما كان أحَدٌ أبلَى بلاءً حَسَناً حَتَّى قُتِلَ وَوُجِدَ فيه نَيِّفٌ على ثمانينَ جُرْحاً، فكانوا يَروْنَ أن هذه الآيةَ في أنس بن النضر ونظرائه.
وقالت فرقة: الموصوفون بقَضَاء النَّحْبِ هم جماعة من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وَفَّوْا بِعُهُودِ الإسْلاَمِ عَلَى التَّمَامِ، فالشُّهَداءُ منهم، والعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالجنّةِ منْهم، إلى مَن حَصَل في هذه المرتبةِ مِمَّنْ لَم يُنَصَّ عليه، ويُصَحَّحُ هذه المقالةَ أيضاً مَا رُوِيَ أن رَسولَ الله صلى الله عليه وسلّم كان عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنِ الَّذِي قضى نَحْبَهُ؟ فَسَكَتَ عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلّم سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ على بَابِ المَسْجِدِ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: هَأَنَذَا، يا رسُولَ الله، قال:
__________
(1) ينظر: «المحرر» (4/ 377) .
(2) أخرجه الطبريّ (10/ 280) رقم (28426) .
(4/342)
1
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
هَذَا مِمَّنْ قضى نَحْبهُ» «1» .
قال ع «2» : فهذا أدل دليل على أَن النَّحْبَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِه المَوْتُ.
وقال معاوية بن أبي سفيان: إني سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يَقُولُ: طَلْحَةُ مِمَّنْ قضى نَحْبَهُ «3» ، وَرَوَتْ عَائِشَة نَحوَه «4» .
وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يريدُ ومنهم من ينتظر الحصولَ في أعلى مَراتِب الإيمان والصلاحِ، وهم بسبيل ذلك ومَا بدّلوا ولا غيّرُوا، واللامُ في: لِيَجْزِيَ يحتمل أن تكونَ لامَ الصيرورة أو «لامَ كي» ، وتعذيبُ المنافقينَ ثمرةُ إدامتِهم الإقامةَ على النفاقِ إلى مَوْتِهم، والتوبَة موازيةُ لتلك الإدامة، وثمرة التوبة تركهُمْ دونَ عذاب، فهما درجتان: إدامَةُ على نفاقٍ أو تَوْبَةُ منه، وعَنْهُمَا ثمرتان: تعذيبٌ أو رحمة. ثم عدَّدَ سبحانه- نعمه على المؤمنين في هَزْمِ الأحزَاب فقال: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ ... الآية.
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27]
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
وقوله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ يريد: بني قُرَيْظَةَ، وذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا غَدَرُوا وَظَاهَرُوا الأحْزَابَ، أرادَ اللهُ النِّقْمَة مِنْهُمْ، فَلَمَّا ذَهَبَ الأَحْزَابُ جاء جبريل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وَقْتَ الظُّهْرِ فَقَالَ: يَا مْحَمَّدُ، إنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ بِالخُرُوجِ إلى بَنِي قُرَيْظَةَ، فنادى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم فِي النَّاسِ، وَقَالَ لَهُمْ: / «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العصر إلّا في بني قريظة «5» ، 73 ب فخرج النّاس إليهم، وحصرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلّم خَمْساً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَزَلُوا على حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَحَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ بِأَنْ تُقْتَلَ المُقَاتَلَةُ، وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَالْعِيَالُ وَالأَمْوَالُ، وَأَنْ تَكُونَ الأَرْضَ وَالثِمَارُ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَ الأَنْصَارِ، فَقَالَتْ لَهُ الأَنْصَارُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالٌ كَمَا لَكُمْ أَمْوَالٌ، فَقَالَ له النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «لقد حكمت فيهم بحكم
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) ينظر: «المحرر» (4/ 378) .
(3) ينظر: الحديث السابق.
(4) ينظر: الحديث السابق.
(5) أخرجه البخاري (7/ 471) كتاب المغازي: باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلّم حديث (4119) ، ومسلم (3/ 1391) كتاب الجهاد: باب المبادرة بالغزو، حديث (69/ 1770) من حديث ابن عمر.
(4/343)
1
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
الملك من فوق سبعة أرقعة» فأمر صلى الله عليه وسلّم بِرِجَالِهِمْ فَضُرِبَتْ أَعْنَاقِهُمْ، وَفِيهِمْ «1» حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ النَّضِيرِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَدْخَلَهُمْ فِي الْغَدْرِ، وظاهَرُوهُمْ: معناه: عاوَنُوهم، و «الصياصي» : الحُصُون، واحدُها صيصيةٍ وهي كل ما يَتَمَنَّعُ به، ومنه يقال لقرون البقر:
الصياصي، والفريقُ المقتولُ: الرجالُ، والفريقُ المأسور: العيالُ والذُّرِّيَّة.
وقوله سبحانه: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها يريد بها: البلاد التي فتحت على المسلمين بعدُ كالعراقِ والشامِ واليمنِ وغيرها، فوعَدَ الله تعالى بها عند فتح حصون بني قريظة، وأخبر أنه قد قضى بذلك. قاله عكرمة «2» .
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ...
الآية، ذَكَرَ جُلُّ المفسرين أن أزواج النّبي صلى الله عليه وسلّم سَأَلْنَه شَيْئاً من عَرَضِ الدنيا، وآذَيْنَه بزيادة النَفَقَة والغَيْرَة، فَهَجَرَهُنَّ وآلى أَلاَّ يقربَهن شَهْراً، فنزلت هذه الآية، فبدأَ بعائشة، وقال:
«يا عَائشَةُ، إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً وَلاَ عَلَيْكِ أَلاَّ تَعْجَلِي حتى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، ثُمَّ تَلاَ عَلَيْهَا الآيةَ، فَقَالَتْ لَهُ: وَفِي أَيِّ هَذَا أُسْتَأْمِرُ «3» أَبَوَيَّ؟ فَإنِّي أُرِيدُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخرة، قَالَتْ «4» : وَقَدْ علِمَ أَن أَبَوَيَّ لاَ يَأْمُرَانِي بفراقه، ثمّ تتابع أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلّم على مثل قول
__________
(1) أخرجه البخاري (7/ 475) كتاب المغازي: باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلّم من غزوة الخندق، حديث (4122) ، ومسلم (3/ 1389) كتاب الجهاد: باب جواز قتال من نقض العهد، حديث (65/ 1769) .
(2) ذكره البغوي (3/ 525) بنحوه، وابن عطية (4/ 380) ، والسيوطي (5/ 369) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي حاتم عن عكرمة.
(3) كذا في ج، وفي المطبوعة «أستمر» .
(4) في ج: ثم قالت.
(4/344)
1
عَائِشَةَ، فاخترن اللهَ وَرَسُولَهُ- رَضِيَ «1» الله عنهن.
قالتْ فِرْقَةٌ قَوْله: بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يَعُمُّ جَمِيعَ المَعَاصِي ولزمهنَّ رضي الله عنهنَّ بحَسْبِ مَكَانَتُهُنَّ، أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمَ غيرَهن، فَضُوعِفَ لهنَّ الأجْرُ والعذابُ.
وقوله: ضِعْفَيْنِ معناه: يكونُ العذابُ عذابَين، أي: يضاف إلى عذابِ سائِر النَّاس عذابٌ آخر مثله، ويَقْنُتْ: معناه: يُطِيعُ ويَخْضَعُ بالعبُوديَّة قاله الشعبي «2» وقتادة «3» .
والرزقُ الكريمُ: الجنة. ثم خاطَبَهُنَّ اللهُ سبحانه بأنّهنّ لَسْنَ كأحدٍ مِن نساءِ عَصْرِهنَّ فَمَا بَعْدُ، بَلْ هُنَّ أَفْضَلُ بشرطِ التَّقْوَى، وإنما خصصنا النساء لأَن فيمن تقدم آسية ومريم فتأملْهُ وقد أشار إلى هذا قتادة. ثم نَهَاهُنَّ سبحانه عما كانت الحالُ عليه في نساء العرَب من مكالَمَةِ الرجال برَخيمِ القولِ وفَلا تَخْضَعْنَ معناه: لا تُلِنَّ.
قال ابن زيد: خضع القول ما يدخل في القلوب الغزل «4» والمرضُ في هذه الآية قال قتادة: هو النفاق «5» .
وقال عكرمة: الفِسْق «6» والغزل، والقولُ المعروفُ هو الصوابُ الذي لا تنكره الشريعةُ ولا النفوسُ. وقرأ الجمهور: «وقِرْن» - بكسر القَافِ-، وقرأ نافعُ وعاصِمُ:
«وقَرْن» - بالفتح «7» -، فأما الأولى فيصح أن تكونَ من الوَقار، ويصحُّ أن تَكُونَ من القَرَارِ، وأما قراءة الفتح فعلى لغة العرب قَرِرْتُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- أَقِرَ- بفتح القاف في المكان/، وهي لغة ذكرها أبو عبيد في «الغريب» المصنف وذكرها الزجاج «8» وغيره، 74 أفأمر الله تعالى في هذه الآية نسَاءَ النَّبِي صلى الله عليه وسلّم بملازمة بيوتهن، ونهاهنّ عن التبرج
__________
(1) أخرجه مسلم (2/ 1104) 18- كتاب الطلاق: 4- باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية، حديث (29/ 1478) من حديث جابر.
(2) ذكره ابن عطية (4/ 382) . [.....]
(3) أخرجه الطبريّ (10/ 292) رقم (28471) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 382) .
(4) أخرجه الطبريّ (10/ 293) رقم (28474) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 383) .
(5) أخرجه الطبريّ (10/ 293) رقم (28475) ، وذكره ابن عطية (4/ 383) .
(6) ذكره ابن عطية (4/ 383) .
(7) ينظر: «السبعة» (522) ، و «الحجة» (5/ 475) ، و «إعراب القراءات» (2/ 199) ، و «معاني القراءات» (2/ 282) ، و «شرح الطيبة» (5/ 147) ، و «العنوان» (155) ، و «حجة القراءات» (577) ، و «شرح شعلة» (549) ، و «إتحاف» (2/ 375) .
(8) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (4/ 225) .
(4/345)
1
والتبرّج إظهار الزينة والتصنّع بها، ومنه البروج لظهُورها وانكشافِها للعيون، واخْتَلَفَ الناسُ في الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى فقالَ الشعبي: ما بين عيسى ومحمد- عليهما السلام- «1» ، وقيل: غيرُ هذا.
قال ع «2» : والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فَأَمِرْنَ بالنَّقْلَةِ عن سِيرَتِهنَّ فِيها، وهي ما كانَ قَبْل الشَّرْعِ مِن سِيرةِ الكَفَرَةِ، وجَعْلِها أولى بالإضافة إلى حالةِ الإسْلام، وليس المعنى. أن ثمّ جاهلية آخرة، والرِّجْسَ اسم يقعُ على الإثم وعلى العذابِ وعلى النَجَاسَات والنقائِص، فأذْهَبَ الله جميعَ ذلك عن أهْل البَيْتِ، قالت أم سلمةَ: نزلت هذه الآية في بيتي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليّا وفاطِمَةَ وحَسَنَا وحُسَيْنا فَدَخَلَ مَعَهم تَحْت كساءِ خيبري، وقال: «هؤلاءِ أهل بيتي، وقرأ الآية، وقَال اللَّهمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: أَنْتِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلّم وَأَنْتِ إلى خَيْرَ» «3» . والجمهورُ على هذا، وقال ابن عباس «4» وغيره: أهل البيتِ:
أزواجه خاصة، والجمهور على ما تقدم.
قال ع «5» : والذي يظهر لي: أن أهل البيت أزواجه وبنتُه وبنوها وزوجُها أعنى عليّاً، ولفظ الآية: يقتضي أن الزوجات من أهل البيت لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن.
قال صلى الله عليه وسلّم: وأَهْلَ الْبَيْتِ: منصوبٌ على النداءِ أو على المدْحِ أو على الاخْتِصَاصِ وَهُوَ قَلِيلٌ في المخاطب، وأكْثَرُ ما يكونُ في المتكلِّم، كقوله [الرجز] :
__________
(1) ذكره ابن عطية (4/ 383) .
(2) ينظر: «المحرر» (4/ 384) .
(3) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (10/ 298) رقم (28499) ، والترمذيّ (5/ 351) كتاب التفسير: باب «ومن سورة الأحزاب» ، حديث (3205) من طريق عطاء بن أبي رباح عن عمر بن أبي سلمة عن أم سلمة به.
وقال الترمذيّ: هذا حديث غريب من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 376- 377) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وابن المنذر.
(4) أخرجه الطبريّ (10/ 298) رقم (28503) عن عكرمة. وذكره البغوي (52813) ، وابن عطية (38414) ، وابن كثير في تفسيره (3/ 483) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 376) . وعزاه لابن أبي حاتم، وابن عساكر من طريق عكرمة رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(5) ينظر: «المحرر» (4/ 384) .
(4/346)
1
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
نَحْنُ بَنَاتِ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ «1»
انتهى.
ت واسْتَصْوَبَ ابنُ هشامٍ نصبَه على النداء، قاله في «المغني» . وقوله تعالى:
وَاذْكُرْنَ يُعْطِي أنْ أهْل البيتِ نساؤه، وعلى قول الجمهور: هي ابتداء مخاطبةِ، والحكمةُ السّنّةُ، فقولُه: وَاذْكُرْنَ يحتمل مَقْصِدَيْنِ: كِلاهما مَوْعِظَة أحدُهمَا: أن يريدَ تَذَكَّرْنَه، واقْدِرْنَه قَدْرَه، وفَكِّرْنَ فِي أنّ مَنْ هذِهِ حَالُه يَنْبَغِي أن تَحْسُنَ أَفْعَالُه، والثاني: أن يُرِيْدَ:
اذْكُرْنَ بمعنى: احْفَظْنَ واقْرَأْنَ وَأَلْزِمْنَهُ أَلسنتَكنَّ.
ت: ويحتمل أن يُرَادَ ب اذْكُرْنَ إفشاؤه ونشرُه للناس، والله أعلم. وهذا هو الذي فهمُه ابنُ العربيِّ «2» من الآية، فإنَّه قال: أمر الله أزواجَ رسولهِ أن يُخْبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن وبما يَرَيْنَ من أفعال النّبي صلى الله عليه وسلّم وأقواله، حتى يبلغَ ذلك إلى الناسِ، فيعملوا بما فيه ويَقْتَدُوا به، انتهى. وهوَ حسن وهو ظاهر الآية وقد تقدم له نحو هذا في قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً [النساء: 128] الآية ذكره «3» في «أحكام القرآن» .
 
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
وقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ... الآية: رُوِي في سَبَبهَا أَنَّ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولُ اللهِ، يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى الرِّجَالَ فِي كِتَابِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ يَذْكُرُنَا، فَنَزَلَتْ الآيةُ فِي ذَلِكَ، وألفاظ الآية في غاية البيان.
__________
(1) «الرجز» لهند بنت عتبة في «أدب الكاتب» ص (90) و «الأغاني» (12/ 343) ، (15/ 147) ولها أو لهند بنت بياضة بن رياح بن طارق الإيادي في «شرح شواهد المغني» (2/ 809) و «لسان العرب» (10/ 217) (طرق) ولهند بنت بياضة بن رياح بن طارق الإياديّ في «معجم ما استعجم» ص (70) ، ولهند بنت الفند الزماني (سهل بن شيبان) في «الأغاني» 23/ 254، ولهند دون تحديد في «لسان العرب» (10/ 361) (نمرق) ، وللقرشية في «جمهرة اللغة» ص (756) ، وبلا نسبة في «الأغاني» (12/ 342) و «مغني اللبيب» (2/ 387) و «همع الهوامع» (1/ 171) .
واستشهد فيه بقولها: «نحن بنات طارق نمشي» حيث اعترضت جملة الاختصاص بين المبتدأ والخبر، وهذا جائز.
(2) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1538) .
(3) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 504) . [.....]
(4/347)
1
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
وقوله سبحانه: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ ... الآية. وفي الحديث:
74 ب الصحيح عنه صلى الله عليه وسلّم قَالَ: «سَبَقَ المُفْرِّدُون! قَالُوا: وَمَا المُفَرِّدُونَ، / يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ:
الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً والذَّاكِرَاتُ» «1» رواه مسلم واللفظ له، والترمذيُّ، وعنده: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَمَا المُفَرِّدُونَ؟ قَالَ: «المُسْتَهْتِرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ، فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافاً» «2» .
قال عياض: «والمُفَرِّدون» ضَبَطْنَاهُ على مُتْقِني شيوخِنا- بفتح الفَاء وكَسرِ الراء-.
وقال ابن الأعرابي: فَرَّدَ الرجلُ إذا تَفَقَّهَ وَاعْتَزَلَ النَّاسَ، وخلا لمُرَاعاة الأمر والنهي، وقال الأزهريُّ: هم المُتَخَلُّونَ مِنَ النَّاسِ بذكْرِ الله تعالى، وقوله: المستَهْتِرُونَ «3» في ذكْر اللَّهِ هو- بفتح التاءَيْنِ المثناتين- يعني: الذين أُولِعُوا بذكْرِ الله، يقال: استهتر فُلانٌ بكَذَا، أي: أَولِعَ به، انتهى من «سلاح المؤمن» .
 
[سورة الأحزاب (33) : آية 36]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)
وقوله سبحانه: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ... الآية: قوله: وَما كانَ لفظه النفي، ومعناه الحظرُ والمنعُ والخيرةُ مصدرُ بمعنى التَّخَيُّر.
قال ابن زيد: نزلت هذه الآية بسبب أن أم كُلثُوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهبت نفسها للنبي، فزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك هي وأخوها، فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد «4» ، وقيل غير هذا، والعصيانُ هنا يعم الكفر فما دون، وفي
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) عبارة المجد في «قاموسه» «وهم المهتزون بذكر الله تعالى، قال الشيخ نصر الهوريني في تعليقه قوله:
المهتزون هكذا بالزاي في النسخ المطبوعة ولعلها رواية وفي نسخة الشارح المهترون بالراء وكتب عليها كما جاء في رواية نصها قال: «والذين اهتروا فِي ذِكْرِ اللهِ يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ، فيأتون يوم القيامة خفافا» اه. قلت اهتر الرجل: فقد عقله من الكبر أو المرض أو الحزن فهو مهتر بفتح التاء، واهتر فلان مجهولا: أولع بالقول في الشيء فهو مهتر، «واهتروا في ذكر الله» : أي خرفوا وهم يذكرون الله اه.
(4) أخرجه الطبريّ (10/ 301) رقم (28517) ، وذكره ابن عطية (4/ 386) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 489) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 381) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه.
(4/348)
1
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
حديث الترمذيّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «مِنْ سَعَادَةِ ابن آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَاهُ اللهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سخطه بما قضاه الله له» «1» انتهى.
 
[سورة الأحزاب (33) : آية 37]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)
وقوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ... الآية: ذهَب جماعة من المتأوِّلينَ إلى أن الآيةَ لا كَبيرَ عَتْبٍ فيها على النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فَرُوِي عن علي بن الحسين: أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلّم كان قد أُوحِيَ إليه أنَّ زيداً يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلّم خُلُقَ زينبَ، وأنَّها لا تطيعه، وأعلمَه بأنه يريد طلاقها، قال له النّبي صلى الله عليه وسلّم على جهة الأدب والوصيةِ: «اتَّقِ اللهَ- أي: فِي قَوْلِكَ- وأمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» - وَهُوَ يَعْلَمُ أنّه سيفارقها- وهذا هو الذي أخفى صلى الله عليه وسلّم فِي نفسهِ ولم يردْ أن يأمره بالطلاق لما علم من أنّه سيتزوجها، وخشي صلى الله عليه وسلّم أن يلحقه قولٌ من النَّاس، في أن يتزوجَ زينب بعدَ زيد، وهو مولاه وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا القدر من أن خَشِي الناس في شيء قد أباحه الله تعالى له.
قال عياض: وتأويل علي بن الحسين أحسن التأويلات وأصحها، وهو قول ابن عطاء، وصححه واستحسنه، انتهى.
وقوله: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ يعني بالإسلام وغير ذلك وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ يعني بالعِتْقِ، وهو زيد بن حارثة، وزينب هي بنت جحش، بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أعلم- تعالى- نبيه أنه زَوَّجَها منه لما قَضَى زيدُ وطرَه منها لتكون سنةً للمسلمين في أزواج أدعيائهم، وليبيّن أنها ليست كحرمة البنوة، والوطرُ: الحاجَةُ والبُغْيَةُ.
وقوله تعالى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا: فيه حذفُ مضافٍ تقديرُه: وكانَ حكمُ أمرِ الله، أو مُضَمّنْ أمْرِ الله، وإلاّ فالأمر قديمٌ لا يوصف بأنه مفعول، ويحتمل أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل/ وعبارة الواحديِّ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي: كائنا 75 ألا محالةَ، وكان قَد قضى فِي زينبَ أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلّم. انتهى.
__________
(1) تقدم تخرجه.
(4/349)
1
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 الى 39]
مَّا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)
وقوله تعالى: مَّا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ... الآية: هذه مخاطبةٌ من اللهِ تعالى لجميعِ الأمة أَعلمهم أَنه لا حرجَ على نبيه في نَيْل ما فَرَضَ اللهُ له وأباحَهُ من تزويجهِ لزينبَ بَعْد زيد، ثم أعلم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء، من أن ينالوا ما أحله الله لهم، وعبارة الواحدي: مَّا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي: أحل الله له من النساء. سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، يقول: هذه سنة قَد مضت لغيركِ يعني كثرةُ أزواج داودَ وسليمان- عليهما السلام- وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً قضاءٍ مقضياً. وقوله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ من نَعْتِ قوله: فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، انتهى.
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 40 الى 44]
مَّا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
وقوله تعالى: مَّا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ إلى قوله كَرِيماً أذهَب الله بهذه الآية مَا وَقَعَ في نفوسِ المنافقين وغيرِهم لأنهم استعظموا أن يَتَزَوَّجَ زَوْجَة ابْنِه، فنفى القرآن تلك النبوّة، وقوله: أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ يعني المعاصرين له وباقي الآية بيِّن. ثم أمر سبحانه عباده بأن يذكروه ذكراً كثيراً، وجعل تعالى ذلك دون حَدٍّ ولا تقدير لسهولته على العبد، ولعظم الأجر فيه. قال ابن عباس: لم يُعْذَرْ أَحدٌ فِي تركِ ذكر اللهِ عز وجل إلاَّ مَنْ غُلِبَ عَلى عَقْلِهِ «1» ، وقال: الذكرُ الكثيرُ أن لا تنساه أبداً.
ورَوَى أبو سعيد عن النّبي صلى الله عليه وسلّم «أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ حتى يَقُولُوا: مَجْنُونٌ» «2» . ت:
__________
(1) أخرجه الطبريّ (10/ 306) رقم (28531) ، وذكره البغوي (3/ 534) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 495) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 386) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أخرجه أحمد (3/ 68) ، وعبد بن حميد في «المنتخب» (ص 289) رقم (925) ، وأبو يعلى (2/ 521) رقم (1376) ، وابن حبان (805) ، والحاكم (1/ 499) كلهم من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 79) وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، وفيه دراج وقد ضعفه جماعة، وبقية رجال أحد إسنادي أحمد ثقات.
(4/350)
1
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
وهذا الحديثُ خرَّجه ابن حِبَّان في «صحيحه» .
وقوله: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أراد في كل الأوقات فحدّد الزمن بطرفي نهارِه ولَيْلِه، والأصيل من العَصْر إلى الليلِ، وعن ابن أبي أوفى قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللهِ» «1» رواه الحاكم في «المستدرك» ، انتهى من «السلاح» .
وقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ... الآية: صلاةُ الله على العبدِ هي رحمتُه له، وصلاة الملائكة هي دعاؤهم للمؤمنين. ثم أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيساً لَهُم.
وقوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قيل: يوم القيامة تجيء الملائكةُ المؤمنين بالسلامِ، ومعناه: السلامةُ من كل مكروهٍ، وقال قتادة: يوم دُخولِهم الجنَّةِ يحي بعضُهم بعضاً بالسلامِ «2» ، والأجرُ الكريمُ: جنة الخلدِ في جوار الله تبارك وتعالى.
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 49]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً ... الآية، هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم.
وقوله: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ أي: بأمره وَسِراجاً مُنِيراً استعارةُ للنور الذي تَضَمَّنهُ شرعُه.
وقوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً.
__________
(1) أخرجه الحاكم (1/ 51) ، والبيهقي (1/ 379) ، كتاب الصلاة: باب مراعاة أداء المواقيت، من حديث ابن أبي أوفى مرفوعا.
وقال الحاكم: إسناده صحيح. ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه الطبريّ (10/ 306) رقم (28534) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 389) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 496) . والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 390) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه.
(4/351)
1
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
قال ع: قال لنا أبي- رحمه الله-: هذه الآيةُ من أرجى آية عندي في كتاب الله- عز وجل-.
قال أبو بكر بن الخطيب: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، ثم ذكر سنده إلى ابن عباس قال:
75 ب قال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: أنزلت عليّ آية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ/ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً قال:
شاهداً: على أمتك، ومبشراً: بالجنة، ونذيراً: من النار، وداعياً: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، بإذنه: بأمره، وسراجاً منيراً: بالقرآن. انتهى من «تاريخ «1» بغداد» له، من ترجمة «محمد بن نصر» .
وقوله تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ يحتمل أن يريدَ أن يأمره تعالى بترك أن يؤذِيهم هو ويعاقبهم، فالمصدر على هذا مضافٌ إلى المفعول، ويُحْتَمَلُ أن يريدَ: أعْرِض عَن أقوالهم وما يؤذونك به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل وهذا تأويل مجاهد «2» ، وباقي الآية بيّن.
 
[سورة الأحزاب (33) : آية 50]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ... الآية، ذهب ابن زيد والضحاكُ في تفسير هذه الآية إلى: أن الله تعالى أحل لنبيه أن يتزوجَ كل امرأة يؤتيها مَهْرَها، وأباح له كلَّ النساء بهذا الوجه، وإنما خَصَّصَ هؤلاءِ بالذكر تشريفا لهن فالآيةُ على هذا التأويلِ فيها إباحةٌ مُطلقةُ في جميع النساء، حاشى ذوات المحارم المذكور حُكْمُهُنَّ «3» في غير هذه الآية. ثم قال بعد هذا تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي: من هذه الأصناف كلها، ثم تجرى الضمائرُ بعد ذلك على العُموم إلى قوله تعالى:
__________
(1) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (3/ 319) .
(2) أخرجه الطبريّ (10/ 307) رقم (28538) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 390) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 391) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه.
(3) أخرجه الطبريّ (10/ 309) عن ابن زيد برقم (28544) ، وعن الضحاك برقم (28545) ، وذكره ابن عطية (4/ 391) .
(4/352)
1
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ [الأحزاب: 52] فيجيءُ هذا الضميرُ مقطوعاً من الأول عائداً على أزواجه التسع فقط على الخلاف في ذلك، وتأوّل غير ابن زَيْدٍ في قوله: أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ مَنْ فِي عِصْمَتِهِ ممن تَزَوَّجَها بِمَهْرٍ وأنّ ملك اليمين بعد حلال له وأن اللهَ أباحَ له مع المذكُوراتِ بَنَاتِ عَمِّهِ وعماتِه، وخاله، وخالاته، ممن هاجرَ معَه، والواهباتِ خَاصَّةً، فيجيءُ الأمرُ على هذا التأويل أضيق على النبي صلى الله عليه وسلّم، ويؤيدُ هذَا التأويلَ ما قَالَه ابنُ عباس: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلّم يَتَزَوَّجُ في أَيِّ النِّسَاءِ شَاءَ، وَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ على نِسَائِهِ، فلما نَزلَتْ هذه الآيةُ، وحُرِّم عَلَيْهِ بِهَا النِّسَاءُ إلاَّ مَنْ سُمِّيَ سُرَّ نِسَاؤه بذلك «1» .
وقوله سبحانه: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ... الآية، قال السُّهَيْلِيُّ: ذكرَ البخاريُّ عَن عائشَة- رضي الله عنها- أنَّها قَالَتْ: كَانَتْ خَوْلَةُ بنتُ حَكِيمٍ مِن اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدَلَّ على أنهن كُنْ غَيْرَ واحدة «2» ، انتهى: وقوله: خالِصَةً لَكَ أي: هبة النساء أنفسهن خاصةٌ بك دونَ أمَّتِكَ.
قال ع «3» : ويظهرُ من لفظِ أُبَيِّ بن كَعْبِ أن معنى قوله: «خالصة لك» يُرَادُ بهِ جميعُ هذهِ الإبَاحَة لأن المؤمنين لم يُبَحْ لهم الزيادةُ على أربعٍ «4» . وقوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ يريدُ هو كونَ النكاح بالولي والشاهدين، والمهر، والاقتصارَ على أربع قاله قتادة ومجاهد.
وقوله: لِكَيْلا أي: بيّنا هذا البيان. لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ويظن بك أنك قد أثمت عند ربّك.
 
[سورة الأحزاب (33) : آية 51]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)
وقوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ ... الآية، ترجي معناه: تُؤَخِّرُ وتُؤْوِي
__________
(1) ذكره ابن عطية (4/ 391) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 393) ، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) ذكره البخاري تعليقا (9/ 68) كتاب النكاح: باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد، حديث (5113) . [.....]
(3) ينظر: «المحرر» (4/ 392) .
(4) أخرجه الطبريّ (10/ 311) رقم (28552) .
وذكره ابن عطية (4/ 392) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 500) .
(4/353)
1
معناه: تَضُمُّ وتُقَرب، ومعنى هذه الآية: أن الله تعالى فَسَحَ لنبيِّه فيما يفعله في جِهَة النساء، والضميرُ في مِنْهُنَّ عائدٌ على مَن تَقَدَّمَ ذكرُه من الأصْنَافِ حَسْبَ الخِلافِ المذكورِ في ذلك، وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني منها: أن المعنى في القَسْمِ، أي: تُقرِّبُ مَنْ شِئْتَ فِي القسمةِ لَها مِن نَفْسِكَ وَتُؤَخِّرُ عَنْكَ مِن شِئْتَ وتُكْثِر لمن شئت وتقلّ لمن شئت، 7 ألا حرجَ عليكَ في ذلك، فإذا عَلِمْنَ هنَّ أنّ هذا هو حكم الله/ لك رَضِينَ وقَرَّت أعينُهن وهذا تأويل مجاهد وقتادةَ والضحاك «1» .
قال ع «2» : لأن سبب هذه الآية تغاير وقع بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلّم تَأَذَّى بِهِ.
وقَالَ ابن عباس «3» : المعنَى في طَلاق مَنْ شَاء وإمْسَاك مَن شاء.
وقال الحسنُ بن أبي الحسن «4» : المعنى في تَزَوُّج من شَاء وترك مَنْ شَاء.
قال ع «5» : وعلى كلِّ مَعْنًى فالآيةُ معناها: التَوْسِعَة على النبي صلى الله عليه وسلّم والإباحة له وذهب هبة الله في «الناسخ والمنسوخ» له إلى أن قولَه تُرْجِي مَنْ تَشاءُ ... الآية، ناسخُ لقوله: لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب: 52] الآيةَ.
وقوله تعالى: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ يحتمل معاني: أحدها أن تَكونَ «من» للتبعيض، أي: من أردت وطلبَتْه نفسُك ممن كنتَ قَدْ عزلتَه وأخَّرتَه فلا جناح عليك في رده إلى نفسِكَ وإيوائه إليك، ووجه ثانٍ وهو أن يكونَ مُقَوِّياً ومُؤكِداً لقوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ و «تؤوي مَن تَشَاء» فيقول بعدُ ومَن ابتغيتَ ومَنْ عَزَلْتَ فذلكَ سواءٌ لا جناحَ عليك فِي ردِّه إلى نفسِكَ وإيوائه إليك.
وقوله: وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ أي مِنْ نفْسِك، ومالِك، واتفقتِ الرواياتُ على أنه-
__________
(1) أخرجه الطبريّ (10/ 313) عن قتادة برقم (28566) ، وعن الضحاك برقم (28568) ، وذكره ابن عطية (4/ 393) ، وابن كثير في تفسيره (3/ 501) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 397) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(2) ينظر: «المحرر» (4/ 393) .
(3) أخرجه الطبريّ (10/ 313) ، رقم (28570) ، وذكره البغوي (3/ 538) ، وابن عطية (4/ 393) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 397) ، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس.
(4) أخرجه الطبريّ (10/ 314) رقم (28571) بنحوه. وذكره البغوي (3/ 538) ، وابن عطية (4/ 393) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 397) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن رضي الله عنه بنحوه.
(5) ينظر: «المحرر» (4/ 393) .
(4/354)
1
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
عليه السلام- معَ مَا جَعَلَ الله له من ذلكَ كان يُسَوِّي بينهن في القَسْمِ تَطْيِيباً لنفُوسِهنَّ وأخْذاً بالفَضْلِ، وما خصه الله من الخَلق العظيم- صلى الله عليه وعلى آله- غير أن سودة وهبت يومها لعائشة تقمّنا لمسرّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 52 الى 55]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
وقوله تعالى: لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قيل كما قدمنا: إنها حظَرَتْ عليه النساءَ إلا التسْعَ وما عُطِفَ عَليهِنَّ على ما تقدم لابن عباس وغيره، قال ابن عباس وقتادة:
جَازَاهُنَّ الله بذلك لما اخترنَ الله وَرسوله «1» ، ومن قال: بأن الإباحَةَ كانتْ له مُطْلَقَةً قَال هنا: لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ معناه: لا يحل لك اليهودياتُ ولا النصرانياتُ، ولا ينبغي أن يكنَّ أمهاتِ المؤمنين ورُوِيَ هذَا عَن مجاهدَ «2» وكذلك قَدَّرَ: ولا أن تبدل اليهودياتِ والنصرانياتِ بالمسلماتِ وهو قول أبي رزين وابن جبير «3» وفيه بُعْدٌ.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ هذهِ الآيةُ تُضمنتُ قِصَّتَيْنِ: إحداهما: الأدبُ في أمر الطعام والجلوس، والثانية: أمر الحجاب.
__________
(1) أخرجه الطبريّ (10/ 316) رقم (28581) عن ابن عباس، وعن قتادة برقم (28582) ، وذكره البغوي (3/ 538) ، وابن عطية (4/ 394) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 501) . والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 399) ، وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس.
(2) أخرجه الطبريّ (10/ 318) (28589) ، وذكره البغوي (3/ 538) ، وابن عطية (4/ 394) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 399) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(3) ذكره ابن عطية (4/ 394) .
(4/355)
1
قال الجمهور: سببها أن النّبي صلى الله عليه وسلّم لما تزوَّج زَيْنبَ بِنْتَ جَحْشٍ، أَوْ لَمْ عَلَيْها ودَعَا النَّاسَ، فَلَمَّا طَعِمُوا، قَعَدَ نَفَرٌ فِي طَائِفَةٍ مِنَ البَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ، فَثَقُلَ عَلَى النّبيّ صلى الله عليه وسلّم مَكَانُهُمْ، فَخَرَجَ لِيَخْرُجُوا بِخُرُوجِهِ، وَمَرَّ على حِجْرِ نِسَائِهِ، ثُمَّ عَادَ فَوَجَدَهُمْ فِي مَكَانِهِمْ، وَزَيْنَبُ في البيت معهم، فلمّا دخل وراءهم انْصَرَفَ، فَخَرَجُوا عِنْدَ ذَلِكَ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَأُعْلِمَ أَوْ «1» أَعْلَمْتُهُ بانصرافهم، فَجَاءَ، فَلَمَّا وَصَلَ الحُجْرَةَ، أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَدَخَلَ، وَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ بِسَبَبِ ذَلِكَ «2» .
قال إسماعيل بن أبي حكيم: هذا أدب أَدَّبَ الله به الثُّقَلاء، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وجماعةٌ:
سبب الحجاب: كلام عمر للنبي صلى الله عليه وسلّم مرارا في أن يحجب نساءه «3» ، وناظِرِينَ معناه:
منتظرين، وإِناهُ: مصدر «أنى» الشيءَ يَأْنِي أنيْ، إذا فَرَغَ وحَانَ، ولفظُ البخاري: يُقَال:
إناه: إدراكُه أنى يأنى إناءة، انتهى.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ معناه: لا يقع منه تركُ الحق، ولما كان ذلك يقعُ من البشر لِعلةِ الاسْتِحياءِ نَفَى عنه تعالى العلةَ الموجِبةَ لذلكَ في البشر، وعن ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ثَلاَثٌ لاَ يحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُنَّ لاَ يؤمّ رجل قوما 76 ب فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ فَإنْ فَعَلَ، فَقَدْ خَانهُمْ، وَلاَ يَنْظُرُ فِي قَعْرِ بَيْتٍ/ قَبْلَ أنْ يَسْتَأْذِنَ فَإنْ فَعَلَ، فَقَدْ خَانَ، وَلاَ يُصَلِّي وَهُوَ حَاقِنٌ حتى يَتَخَفَّفُ» «4» . رواه أبو داود
__________
(1) في ج: و.
(2) أخرجه البخاري (8/ 387) كتاب التفسير: باب لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، حديث (4791، 4792، 4793، 4794) ، وفي (9/ 134) كتاب النكاح: باب الهدية للعروس، حديث (5163) ، وفي (9/ 137- 138) كتاب النكاح: باب الوليمة حق، حديث (5166) ، وفي (11/ 24) كتاب الاستئذان: باب آية الحجاب، حديث (6238، 6239) ، ومسلم (2/ 1050- 1052) كتاب النكاح: باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب، حديث (93، 94/ 1428) ، والنسائي في «التفسير» (440) ، والطبريّ في «تفسيره» (10/ 323- 324) رقم (28605- 28608) ، والبيهقي (7/ 87) كتاب النكاح: باب سبب نزول آية الحجاب، كلهم من حديث أنس.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 401) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(3) أخرجه الطبريّ (10/ 326) (28619) ، وذكره البغوي (3/ 540) ، وابن عطية (4/ 395) ، وابن كثير في «تفسيره» (50513) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 403) ، وعزاه لابن جرير عن عائشة رضي الله عنها بنحوه.
(4) أخرجه أبو داود (1/ 70) كتاب الطهارة: باب أيصلي الرجل وهو حاقن، حديث (90) ، والترمذيّ (2/ 189) كتاب الصلاة: باب ما جاء في كراهية أن يخص الإمام نفسه بالدعاء، حديث (357) ، وابن ماجه (1/ 202) كتاب الطهارة: باب ما جاء في النهي للحاقن أن يصلي، حديث (619) ، وأحمد (5/ 280) -[.....]
(4/356)
1
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
واللفظ له، وابن ماجه، والترمذي، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ، ورواه أبو داود أيضاً من حديث أبي هريرة «1» ، انتهى من «السلاح» .
وقوله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً ... الآية، هي آية الحجَابِ، والمتَاعُ عام في جميع ما يمكن أن يُطْلَب من المَواعِينِ وَسائر المرَافِق، وباقي الآية بيِّن. وقد تقدَّم في سورة النور طرف من بيانه فأغنى عن إعادته.
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 59]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... الآية، تضمّنت شرف النّبي صلى الله عليه وسلّم وعظيمَ منزلتِه عندَ اللهِ تَعالى.
قالتْ فِرقَة: تقدير الآيةِ: أن الله يُصَلِّي وملائكتُه يصلُّون، فالضَّميرُ في قوله يُصَلُّونَ: للملائِكةِ فَقط. وقالت فرقة: بل الضميرُ في يُصَلُّونَ لِلَّهِ والملائكة وهذا قول من الله تعالى، شَرَّفَ به ملائكتَه فَلاَ يُرِدُ عليه الاعتراضُ الذي جَاءَ في قَوْلِ الخَطِيبِ: مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ، فقد رشد، ومن يعصهما، فقد ضلّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم:
«بِئْسَ الخَطِيبُ أَنْتَ» «2» . وهذا القَدْرُ كَافٍ هُنَا، وصلاة الله تعالى: رحمةٌ منه وبركةٌ، وصلاة الملاَئكةِ: دعاء، وصلاةُ المؤمنين: دعاء، وتعظيم، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم في كل حينٍ من الواجباتِ وجوبَ السُّنَنِ المؤكَّدَةِ التي لا يسعُ تَرْكُها وَلاَ يُغْفِلُها إلاَّ مَن لاَ خيرَ فيه، وفي حديث ابن عباس: أنه لما نزلت هذه الآية قال قوم من الصحابة: «هَذَا السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ عرفْنَاهُ، فكَيْفَ نُصَلِّي عليك؟» الحديث «3» .
__________
- من حديث ثوبان. وله شاهد من حديث أبي هريرة:
أخرجه أبو داود (1/ 70- 71) كتاب الطهارة: باب أيصلي الرجل وهو حاقن، حديث (71) .
(1) ينظر: الحديث السابق.
(2) أخرجه مسلم (2/ 594) كتاب الجمعة: باب تخفيف الصلاة والخطبة حديث (48/ 870) ، وأبو داود (1/ 355- 356) كتاب الصلاة: باب الرجل يخطب على قوس حديث (1099) ، والنسائي (6/ 90) وأحمد (4/ 256، 379) ، والحاكم (1/ 289) .
(3) تقدم تخريجه.
(4/357)
1
ت: ولفظ البخاري: عن كعب بن عُجْرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمَّا السَّلاَمُ عَلَيْكَ، فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلاَةُ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ على إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» «1» . انتهى وفيه طرقٌ يَزِيدُ فيها بعضُ الرواةِ على بعض، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الجمُعَةِ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاَةِ فيه فَإنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ» «2» الحديثُ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، واللفظ لأبي داود، ورواه الحاكم في «المستدرك» من حديث أبي مسعود الأنصاري، وقال: صحيحُ الإِسناد، وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلاَّ رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حتى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ» «3» وعنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا عَلَيَّ، فَإنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُم» «4» . رواهما أبو داود، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن
__________
(1) أخرجه البخاري (8/ 392) كتاب التفسير: باب إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... حديث (4797) ، ومسلم كتاب الصلاة: باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم بعد التشهد حديث (66/ 405) ، وأبو داود (1/ 257) كتاب الصلاة: باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم بعد التشهد حديث (976) والترمذيّ (2/ 352) ، كتاب الصلاة: باب ما جاء في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم حديث (483) والنسائي (3/ 47- 48) كتاب السهو: باب (51) حديث (1288) ، وابن ماجه (1/ 292- 293) كتاب إقامة الصلاة: باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم حديث (904) ، وأبو عوانة (2/ 212- 213) والدارمي (1/ 309) كتاب الصلاة: باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم، وأحمد (4/ 241، 243، 244) ، وأبو داود الطيالسي (1/ 103- منحة) رقم (103) وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص- 144) رقم (368) والحميدي (2/ 310- 311) رقم (711، 712) ، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (206) ، والطبريّ في «تفسيره» (22/ 31) ، وإسماعيل القاضي في «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم» رقم (56، 57، 58) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (3/ 72- 73) وابن حبان (3/ 317) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (93) والطبراني في «الصغير» (1/ 85- 86) وفي «الكبير» (19/ 116) رقم (241، 242) وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 356) والبيهقي في «سننه» (2/ 147- 148) ، كتاب الصلاة: باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم في التشهد، وفي «شعب الإيمان» (2/ 207) رقم (1548) والبغوي في «شرح السنة» (2/ 281- بتحقيقنا) والحافظ ابن حجر في «نتائج الأفكار» (2/ 184- 185) كلهم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة به وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح.
(2) أخرجه أبو داود (1/ 635) كتاب الصلاة: باب فضل الجمعة حديث (1047) والنسائي (3/ 91- 92) كتاب الجمعة: باب إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم يوم الجمعة، وابن ماجه (1/ 524) كتاب الجنائز: باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلّم حديث (1636) ، وأحمد (4/ 8) ، والدارمي (1/ 369) كتاب الصلاة: باب في فضل الجمعة.
(3) أخرجه أحمد (2/ 527) ، وأبو داود (1/ 622) كتاب المناسك: باب زيارة القبور، حديث (2041) ، والبيهقي (5/ 245) من حديث أبي هريرة.
(4) تقدم تخريجه قريبا، وهو حديث أوس بن أوس: «إن أفضل أيامكم يوم الجمعة» .
(4/358)
1
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً» «1» . رواه الترمذي، وابن حِبَّانَ في «صحيحه» ، ولفظهما سواء، وقال الترمذي: حسن غريب. انتهى من «السلاح» .
وقولُه سبحانه: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ الجلبابُ: ثوبٌ أَكْبَرُ مِنْ الخِمَار، ورُوِي عَن ابن عباس وابن مسعود: أَنَّهُ الخمارُ، واخْتُلِفَ في صورة إدنائه: فقالَ ابنُ عباسٍ «2» / وغيره: ذلك أن تَلْوِيَه المرأةُ حَتَّى لا يظهرَ منهَا إلاَّ عينٌ واحِدَةٌ تبصر بها، وقال 77 أابن عباس أيضا وقتادة: ذلك أن تلويه على الجبينِ وتشدُّهُ، ثم تَعْطِفَهُ على الأنفِ، وإن ظهرتُ عَيْنَاها لكنَّه يستر الصدر ومعظمَ الوجهِ «3» .
وقوله: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ: أي حتى لا يختلطّن بالإمَاءِ، فَإذَا عُرِفْنَ لم يقابَلْن بأذَى من المعارضة مراقبةً لرتبةِ الحرائر، وليس المعنى أن تُعْرَفَ المرأةُ حتى يعلمَ من هي وكان عمر إذا رأى أمَةً قد تقنعت قَنَّعَها بالدِّرَّةِ محافظةً على زِيِّ الحرائر.
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 71]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
وقوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ... الآية. اللام في قوله: لَئِنْ هي المُؤْذِنَةُ بمجيء القَسَمِ، واللام في لَنُغْرِيَنَّكَ: هي لامُ القسمِ.
__________
(1) أخرجه الترمذيّ (2/ 354) كتاب الصلاة: باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم، حديث (484) ، وابن حبان (3/ 192) ، رقم (911) ، من حديث ابن مسعود.
وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب. وصححه ابن حبان.
(2) أخرجه الطبريّ (10/ 332) عن ابن عباس برقم (28647) ، وذكره البغوي (3/ 544) ، وابن عطية (4/ 399) ، وابن كثير في «تفسيره» (8/ 5) عن ابن عباس رضي الله عنه، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 415) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس.
(3) ذكره ابن عطية (4/ 399) .
(4/359)
1
قلت: ورَوَى الترمذيُّ عن ابن عُمَرَ قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم المِنْبَرَ، فنادى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بلِسَانِهِ، وَلَمْ يَفُضْ الإيْمَانُ إلى قَلْبِهِ، لاَ تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ، وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ يَتَبِعَ اللهُ عَوْرَتَه وَمَنْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْه، وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ ... » الحديث «1» . انتهى. ورواه أبو دَاودَ في «سننه» من طريق أبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلّم «2» وتوعَّد الله سبحانه هذه الأصنافَ في هذه الآية.
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ المرض، هنا: هو الغَزَل وحب الزنا قاله عكرمة «3» . وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ: هم قوم كانوا يتحدثون بغزو العربِ المدينةَ ونحوِ هذا مما يُرْجِفُونَ بهِ نُفُوسَ المؤمنينَ، فيحتمل أنْ تكونَ هذه الفِرَقُ دَاخِلَةً في جملة المنافقين، ويحتمل أن تكون متباينة ولَنُغْرِيَنَّكَ معناه: نحضك عليهم بعد تعيينهم لك.
وفي «البخاري» : وقال ابن عباس «4» : لَنُغْرِيَنَّكَ: لنسلطنك. انتهى.
وقوله تعالى: ثُمَّ لاَ يُجاوِرُونَكَ أي: بعد الإغراء لأنك تَنْفِيهم بالإخافَة والقَتْلِ.
وقوله: إِلَّا قَلِيلًا يحتمل: أن يريد إلا جِوَاراً قليلاً، أو وقتاً قليلاً، أو عدداً قليلاً، كأنه قال: إلا أقلاء، وثُقِفُوا: معناه: حصروا وقدر عليهم وأُخِذُوا: معناه: أُسِرُوا والأخِيذُ الأسِيرُ. والَّذِينَ خَلَوْا هم منافقو الأمم، وباقي الآية متّضح المعنى.
والسَّبِيلَا: مفعولٌ ثَانٍ لأَنَّ أَضلَّ متعدٍ بالهَمْزَةِ، وهي سبيل الإيمان والهدى،
__________
(1) أخرجه الترمذيّ (4/ 378) كتاب البر والصلة: باب ما جاء في تعظيم المؤمن، حديث (2032) من حديث ابن عمر.
وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب.
وأخرجه أبو داود (2/ 686) كتاب الأدب: باب في الغيبة، حديث (4880) من حديث أبي برزة الأسلمي.
(2) تقدم تخريجه، وينظر الحديث السابق.
(3) أخرجه الطبريّ (10/ 333) (28654) بنحوه، وذكره ابن عطية (4/ 399) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 519) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 417) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار عن عكرمة بنحوه. [.....]
(4) أخرجه الطبريّ (10/ 334) (28661) ، وذكره ابن عطية (4/ 400) ، وابن كثير في «تفسيره» (3/ 519) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (5/ 418) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4/360)
1
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
وكَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى: هم قومُ مِن بَنِي إسرائيل. قال ابن عباس وأبو هريرة وجماعة:
الإشارةُ إلى ما تضمّنه حديث النبي صلى الله عليه وسلّم «من أَنَّ بَنِي إسرائيل كَانُوا يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، وَكَانَ موسى عليه السلام رَجُلاً سِتِّيراً حَيِّياً، لاَ يَكَادُ يرى مِنْ جَسَدِهِ شَيْءٌ فَقَالُوا: وَاللهِ، مَا يَمْنَعُ موسى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إلاَّ أَنَّهُ آدَرُ أَوْ بِهِ بَرَصٌ، فَذَهَبَ يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ على حَجَرٍ، فَفَرَّ الحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَلَجَّ موسى فِي إثْرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، فَمَرَّ بِهِمْ فَنَظَرُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: وَاللهِ، مَا بموسى مِنْ بَأْسٍ» . الحديثُ «1» خرَّجه البُخَاريُّ وغيره، وقيل في إذَايتهم غيرُ هذا. فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا والوجيهُ: المكرَّمُ الوجهِ، والقولُ السَّدِيدُ: يَعُمُّ جَميعَ الخيراتِ. وقال عكرمة: أراد «لا إله إلا الله» »
وباقي الآية بيّن.
 
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِ