تفسير الثعالبي الجواهر الحسان في تفسير القرآن 010

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
واسْتَكانُوا معناه: تواضعوا وانخفضوا.
 
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 77 الى 83]
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81)
قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ ... الآية تَوُعُّدُ بعذاب غير مُعَيَّنٍ، وهذا هو الصواب، وهذه المَجَاعَةُ إنَّما كانت بعد وقعة بدر، والمُبْلِسُ الذي قد نزل به شَرٌّ وَيئِسَ من زواله ونَسُخِهِ بخير، ثم ابتدأ تعالى بتعديد نِعَمٍ في نفس تعديدها استدلالٌ بها على عِظَمِ قدرته سبحانه، فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ...
الآية، أنشأ بمعنى: اخترع، والأفئدة: القلوبُ، وذرأ: بَثَّ وخلق.
وقوله: بَلْ إضرابٌ، والجَحْدُ قبله مُقَدَّر/ كأنه قال: ليس لهم نظر في هذه 33 أالآيات أو نحو هذا، والْأَوَّلُونَ: يشير به إلى الأُمَمِ الكافرة: كعاد وثمود.
وقوله تعالى: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ ... الآية، قولهم:
وَآباؤُنا إنْ حُكِيَ المقالة عن العرب فمرادُهُم مَنْ سَلَفَ من العالم، جعلوهم آباءَ من حيث النوعُ واحدٌ، وكونهم سلفاً، وفيه تَجُوزٌ، وإنْ حُكِيَ ذلك عن الأَوَّلِينَ فالأَمر مستقيم فيهم.
 
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 91]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
وقوله سبحانه: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أَمَر اللَّه تعالى نَبِيَّهُ عليه السلام بتوقيفهم على هذه الأشياء التي لا
(4/159)
1
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
يمكنهم إلاَّ الإقرارُ بها، ويلزم من الإقرار [بها] «1» توحيدُ اللَّه وإذعانهم لشرعه ورسالة رسله، وقرأ الجميع «2» في الأَوَّل: «للَّه» بلا خلاف، واخْتُلِفَ في الثاني والثالث، فقرأ أبو عمرو وحدَه: «اللَّه» جواباً على اللفظ، وقرأ باقي السبعة: «للَّه» جواباً على المعنى، كأنه قال في السؤال: لمن ملك السموات السبع؟
وقوله سبحانه: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ استعارة وتشبيه لما وقع منهم من التخليط وَوَضْعِ الأفعالِ والأَقوالِ غيرِ مواضعها ما يقع من المسحور عَبَّرَ عنهم بذلك.
وقالتَ فرقة: تُسْحَرُونَ معناه: تمنعون، وحكى بعضهم ذلك لُغَةً، والإجارة:
المنع، والمعنى: أَنَّ اللَّه تعالى إذا أراد منع أحد فلا يقدر عليه، وإذا أراد أخذَه فلا مانِعَ له.
وقوله سبحانه: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي: فيما ذكروه من الصاحبة، والولد، والشريك، تعالى اللَّه عن قولهم عُلُوّاً كبيراً، وفي قوله سبحانه: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [الآية] «3» .
دليلُ [التمانع] «4» وهذا هو الفسادُ الذي تَضَمَّنَهُ قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا. [الأنبياء: الآية 22] . والجزءُ المُخْتَرَعُ مُحَالٌ أَنْ تَتَعَلَّقَ به قدرتان فصاعداً، وقد تقدم الكلامُ على هذا الدليل فَأَغنى عن إعادته.
وقوله: إِذاً جوابٌ لمحذوف تقديره: لو كان معه [إله] «5» إذاً لذهب.
 
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 92 الى 98]
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
__________
(1) سقط في ج.
(2) ينظر اتفاق الجميع على هذا الحرف، واختلافهم في الثاني والثالث، يعني في قوله تعالى «لله» من الآيتين (87) ، (89) - في: «السبعة» (447) ، و «الحجة» (5/ 300) ، و «إعراب القراءات» (2/ 93) ، و «معاني القراءات» (2/ 194) ، و «شرح الطيبة» (5/ 78) ، و «العنوان» (137) ، و «حجة القراءات» (490) ، و «شرح شعلة» (509) ، و «إتحاف» (2/ 287) . [.....]
(3) سقط في ج.
(4) سقط في ج.
(5) سقط في ج.
(4/160)
1
وقوله: عالِمِ الْغَيْبِ المعنى: هو عالم الغيب، وقرأ أبو عمرو «1» وغيره: «عَالِمِ» بالجر اتباعاً للمكتوبة.
وقوله سبحانه: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أمَرَ اللَّه تعالى نَبِيَّه- عليه السلام- أنْ يدعوَ لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة إن كان قضي أن يرى ذلك، و «إن» شرطية و «ما» زائدة و «تريني» جزم بالشرط لزمته النونُ الثقيلة وهي لا تُفَارِقُ، «أَمَّا» عند المُبَرِّدِ، ويجوزُ عند سيبويه أنْ تفارقَ، ولكن استعمالَ القرآن لزومها، فمن هنالك ألزمه المبرد، وهذا الدعاء فيه استصحاب الخشية والتحذير من الأمر المعذب من أجله، ثم نظيره لسائر الأُمَّةِ دُعَاءٌ في حسن الخاتمة، وقوله ثانياً: «رب» اعتراض بين الشرط وجوابه.
وقوله سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ أمْرٌ بالصفح ومكارِمِ الأخلاق، وما كان منها لهذا فهو مُحْكَمٌ باقٍ في الأُمَّةِ أبداً، وما كان بمعنى الموادعة فمنسوخ بآية القتال.
وقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ يقتضي أَنَّها آية مُوَادَعَةٍ.
وقال مجاهد «2» : الدفع بالتي هي أحسن: هو السلامُ، تُسَلِّمُ عليه إذا لَقِيتَه.
وقال الحسن «3» : واللَّه لا يُصِيبُهَا/ أَحَدٌ حَتَّى يكظم غيظه، ويصفح عمّا يكره، وفي 33 ب الآية عدة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أي: اشتغل أنت بهذا وكل أمرهم إلينا، ثم أمره سبحانه بالتَّعَوُّذِ من همزات الشياطين، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسانُ فيها نفسه وكأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكُفَّارِ فتقع المجادلة، ولذلك اتَّصَلَتْ بهذه الآية، وقال ابن زيد:
هَمْزُ الشيطان: الجنونُ «4» ، وفي «مُصَنَّفِ أَبي داودَ» : أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ: هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، ونَفْثِهِ» «5» . قال أبو داودَ: همزه: الموتة، ونفخه:
__________
(1) وقرأ بها ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم.
ينظر: «السبعة» (447) ، و «الحجة» (5/ 301) ، و «إعراب القراءات» (2/ 94) ، و «معاني القراءات» (2/ 195) ، و «شرح الطيبة» (5/ 79) ، و «شرح شعلة» (509) و «حجة القراءات» (491) ، و «إتحاف» (2/ 287) .
(2) أخرجه الطبريّ (9/ 241) رقم (25645) ، وذكره ابن عطية (4/ 155) .
(3) أخرجه الطبريّ (9/ 241) رقم (25647) ، وذكره ابن عطية (4/ 155) .
(4) أخرجه الطبريّ (9/ 242) برقم (25648) ، وذكره ابن عطية (4/ 155) ، والسيوطي (5/ 28) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد.
(5) أخرجه أبو داود (1/ 262- 263) كتاب الصلاة: باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، حديث (764) ، وابن ماجه (1/ 265) كتاب الصلاة: باب الاستعاذة في الصلاة، حديث (807) ، وأحمد (4/ 85) من حديث جبير بن مطعم.
(4/161)
1
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
الكبر، ونفثه: السحر.
قال ع «1» : والنّزعات وسورات الغضبِ من الشيطان، وهي المُتَعَوَّذُ منها في الآية، وأصل الهمز: الدَّفْعُ والوَكزُ بيدٍ أو غيرها.
قلت: قال صاحب «سلاح المؤمن» : وهَمَزَاتُ الشياطين: خَطَرَاتُها التي تَخْطِرَهَا بقلب الإنسان، انتهى.
وقال الواحديّ: همزات الشياطين: نزغاتها ووساوسها، انتهى.
 
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 104]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104)
وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ حَتَّى في هذا الموضع حَرْفُ ابتداءٍ، والضمير في قوله: أَحَدَهُمُ للكفار، وقوله: ارْجِعُونِ أي: إلى الحياة الدنيا، والنون في: ارْجِعُونِ: نون العظمة وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة: «إذَا عَايَنَ المُؤْمِنُ المَوْتَ، قَالَتْ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ: نُرْجِعُك؟
فيقول: إلى دَارِ الهُمُومِ وَالأَحْزَانِ؟ بل قُدُماً إلى اللهِ، وأَمَّا الكَافِرُ، فَيَقُولُ: ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً» «2» .
وقوله: كَلَّا: رَدٌّ وزجر.
وقوله: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها تحتمل ثلاثة معانٍ:
أحدها: الإخبارْ المُؤكّدُ بأنَّ هذا الشيء يقع، ويقولُ هذه الكلمة.
الثاني: أنْ يكون المعنى: إنها كلمة لا تغنى أكثر من أَنَّه يقولها، ولا نفعَ له فيها ولا غَوْثَ- الثالث: أنْ يكون إشارةً إلى أنّه لو رُدَّ لعاد، والضمير في: وَرائِهِمْ للكفار، والبرزخ في كلام العرب: الحاجز بين المسافتين، ثَم يُسْتَعَارُ لما عدا ذلك، وهو هنا:
للمُدَّةِ التي بين موت الإنسان وبين بعثه هذا إجماع من المفسرين.
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 155) .
(2) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (9/ 242) رقم (25652) عن ابن جريج قال: زعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة، فذكره.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 29) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(4/162)
1
وقوله عز وجل: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ... الآية: قال ابن مسعود «1» وغيرُه: هذا عند النفخة الثانية وقيامِ الناس من القُبُورِ فهم حينئذٍ لهول المطلع واشتغال كل امرئ بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائلُ، وزال انتفاعُ الأنساب فلذلك نفاها سبحانه، والمعنى: فلا أنسابَ نافعةٌ، ورُوِيَ عن قتادَة أَنَّهُ: ليس أَحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم مِمَّن يَعْرِفُ، لأَنَّهُ يخاف أَنْ يكونَ له عنده مَظْلِمَةٌ «2» ، وفي ذلك اليوم يَفِرُّ المرء من أخيه وأُمِّهِ وأبيه وصاحبتِهِ وبَنِيْهِ، ويفرحُ كلُّ أحد يومئذٍ أنْ يكون له حَقُّ على ابنه وأبيه، وقد وَرَدَ بهذا حديثٌ، وكأنّ ارتفاع التساؤل لهذه الوجوه، ثم تأتي في القيامة مواطنُ يكون فيها السؤال والتعارف.
قال ع «3» : وهذا التأويل حَسَنٌ، وهو مرويُّ المعنى عن ابن عباس «4» ، وذكر البزَّارُ من حديث أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالْمِيزَانِ، فَيُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ، فَيُوقَفُ بَيْنَ كَفَّتَيِ الْمِيزَانِ، فَإنْ ثَقُلَ مِيزانُهُ، نَادَى/ المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمَعُ الخَلاَئِقَ: سَعِدَ فُلاَنٌ 34 أسعادة لاَ يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَداً، وَإنْ خَفَّ مِيزَانُهُ، نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلاَئِقَ: شَقِيَ فُلاَنٌ شَقَاوَةً لاَ يَسْعَدُ بَعْدَهَا أبداً «5» » ، انتهى من «العاقبة» . وروى أبو داودَ في «سننه» عن عائشة رضي الله عنها أَنَّها ذَكَرَتِ النَّارَ فبكت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ:
ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذكُرُونَ أَهْلِيَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَمَّا في ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ، فَلاَ يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَداً، عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَم: أَيِخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الكِتَابِ حَتَّى يَقُولَ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: 19] ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يُعْطَى كِتَابَهُ: أفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شَمَالِهِ، أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ، إذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَي جَهَنَّمَ» «6» ، انتهى. ولفح النار: إصابتها بالوهج والإحراق، والكلوح انكشافُ الشفتين عن الأسنان، وقد شبه ابن
__________
(1) أخرجه الطبريّ (9/ 244) برقم (25669) نحوه، وذكره البغوي (3/ 317) ، وابن عطية (3/ 156) ، والسيوطي (5/ 30) ، وعزاه لابن المبارك في «الزهد» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم في «الحلية» ، وابن عساكر عن ابن مسعود بنحوه.
(2) أخرجه الطبريّ (9/ 245) برقم (25671) ، وذكره ابن عطية (4/ 156) ، والسيوطي (5/ 30) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 156) .
(4) أخرجه الطبريّ (9/ 244) برقم (25667) نحوه، وذكره البغوي (3/ 317) ، وابن عطية (4/ 156) . [.....]
(5) أخرجه البزار (3445- كشف) من حديث أنس بن مالك، وذكره الهيثمي (10/ 353) وقال: رواه البزار، وفيه صالح المري، وهو مجمع على ضعفه.
(6) أخرجه أبو داود (2/ 654) كتاب السنة: باب في ذكر الميزان، حديث (4755) .
(4/163)
1
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
مسعود ما في الآية بما يعتري رؤوس الكِبَاشِ إذا شيطت بالنار فإنَّها تكلح، ومنه كلوح الكلب والأسد «1» .
قلت: وفي «الترمذيِّ» عن أبي سعيد الخدريّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال: تَشْوِيهِ النَّارُ، فَتَقْلُصُ شَفَتُهُ العُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ ... » «2» الحديث قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، انتهى.
وهذا هو المُعَوَّلُ عليه في فهم الآية، وأَمَّا قول البخاريِّ: كالِحُونَ «3» معناه:
عابسون- فغيرُ ظاهر، ولَعَلَّهُ لم يقف على الحديث.
 
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 الى 108]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108)
وقوله سبحانه: أَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي: يقال لهم، والآياتُ هنا القرآن، وقرأ حمزة:
«شَقَاوَتُنَا» ثم وقع جواب رغبتهِم بحسب ما حتمه الله من عذابهم بقوله: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ويقال: إنَّ هذه الكلمة إذا سمعُوها يئسوا من كل خير، فتنطبق عليهم جَهَنَّمُ، ويقع اليأسُ- عافانا الله من عذابه بمنّه وكرمه-! وقوله: اخْسَؤُا زجر، وهو مستعمل في زجر الكلاب.
 
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 109 الى 118]
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113)
قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
__________
(1) أخرجه الطبريّ (9/ 246) برقم (25675) ، وذكره ابن عطية (4/ 157) ، والسيوطي (5/ 31) وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وهناد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه عن ابن مسعود.
(2) أخرجه الترمذي (4/ 708) كتاب صفة جهنم: باب ما جاء في صفة طعام أهل النار، حديث (2587) ، وفي (5/ 328) كتاب التفسير: باب ومن سورة المؤمنين، حديث (3176) ، وأحمد (3/ 8) ، والحاكم (2/ 395) ، وأبو يعلى (2/ 516) رقم (1367) كلهم من طريق ابن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.
وصححه الحاكم.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 31) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في «صفة النار» ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم في «الحلية» .
(3) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 299) كتاب التفسير: باب سورة المؤمنين.
(4/164)
1
وقوله عز وجل: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا ... الآية الهاء في إِنَّهُ: مُبْهَمَةٌ: وهي ضمير الأمر والشأن، والفريقُ المُشَارُ إليه: كُلُّ مُسْتَضْعَفٍ من المؤمنين يَتَّفِقُ أنْ تكون حالُه مع كُفَّارٍ مِثلَ هذه الحال، ونزلت الآية في كُفَّارِ قريشِ مع صُهَيْبٍ، وعَمَّار، وبلال، ونظرائهم، ثم هي عامة فيمَنْ جرى مجراهم قديماً وبقيةَ الدهر، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «سُخْرِيّاً» بضم السين «1» ، والباقون بكسرها فقيل هما بمعنى واحد ذكر ذلك الطبريُّ «2» .
وقال ذلك أبو زيد الأنصاريُّ: إنهما بمعنى الهُزْءِ «3» ، وقال أبو عبيدَة وغيره: إنَّ ضم السين من السخرة والاستخدام، وكسرها من السخر وهو الاستهزاء»
، ومعنى الاستهزاء هنا أليق أَلاَ ترى إلى قوله: وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ.
وقوله سبحانه: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ... الآية قوله: فِي الْأَرْضِ قال الطبريُّ «5» معناه: في الدنيا أحياءَ، وعن هذا وقع السؤال، ونَسُوا لفرط هول العذاب حَتَّى قالوا: يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، والغرضُ توقيفهم على أَنَّ أعمارهم قصيرة أَدَّاهُمُ الكُفْرُ فيها إلى عذاب طويل، عافانا الله من ذلك بِمَنِّهِ وكرمه!.
وقال الجمهور: معناه: كم لَبِثْتُمْ في جوف التراب أمواتاً؟ قال ع «6» : وهذا هو
__________
(1) وحجتهم: إجماع الجميع على الرفع في سورة الزخرف، فرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه.
ينظر: «السبعة» (448) ، و «الحجة» (5/ 302) ، و «إعراب القراءات» (2/ 95) ، و «شرح الطيبة» (5/ 80) ، و «العنوان» (137) ، و «حجة القراءات» (491) ، و «شرح شعلة» (510) ، و «إتحاف» (2/ 288) .
(2) ينظر: الطبريّ (9/ 250) .
(3) ذكره ابن عطية (4/ 158) .
(4) ذكره ابن عطية (4/ 158) .
(5) ينظر: «الطبريّ» (9/ 253) .
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 158) .
(4/165)
1
34 ب الأصوب من حيث أنكروا البعث/. وكان قولهم: إنهم لا يقومون من التراب، وقوله آخراً: وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لاَ تُرْجَعُونَ يقتضي ما قلناه.
قلت: الآيات محتملة للمعنيين، والله أعلم بما أراد سبحانه قال البخاريُّ «1» : قال ابن عباس: فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي: الملائكة «2» ، انتهى.
ص: قرأ الجمهور: «العَادِّينَ» «3» - بتشديد الدال- اسم فاعل من «عدّ» ، وقرأ الحسن والكسائيّ في رواية: «العَادِينَ» «4» بتخفيف الدال، أي: الظَّلَمَةَ، و «إنْ» من قوله:
إِنْ لَبِثْتُمْ نافيةٌ، أي: ما لبثتم إلّا قليلا، اهـ. وعَبَثاً: معناه: باطلاً، لغير غَايَةٍ مُرَادَةٍ، وخَرَّجَ أبو نعيم الحافظ عن حنش الصنعانيِّ عن ابن مسعود «أنه قرأ في أذن مبتلى:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ... إلى آخر السورة، فأفاق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما قرأتَ في أذنه؟ قال: قرأت: أَفَحَسِبْتُمْ ... إلى آخر السورة، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لَوْ أَنَّ رَجُلاً مُوقِناً قَرَأَهَا عَلَى جَبَلٍ لَزَال» ، انتهى «5» ، وخَرَّجَهُ ابن السُّنِّيُّ أيضاً، ذكره النووي.
وقوله سبحانه: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ: المعنى: فتعالى الله عن مقالتهم في دعوى الشريك والصاحبة والولد، ثم تَوَعَّدُ سبحانه عَبَدَةَ الأوثان بقوله: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وفي حرف عبد الله: «عند ربك» ، وفي حرف «6» أُبَيِّ: «عند الله» ثم أَمر تعالى نَبِيَّهُ صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء والذكر له فقال: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
__________
(1) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 299) كتاب التفسير: باب سورة المؤمنين.
(2) أخرجه الطبريّ (9/ 252) برقم (25695) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (4/ 159) عن مجاهد، والسيوطي (5/ 34) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(3) ينظر: «البحر المحيط» (6/ 390) . [.....]
(4) ينظر: «البحر المحيط» (6/ 390) ، و «الدر المصون» (5/ 205) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 289) .
(5) أخرجه أبو يعلى (8/ 458) رقم (5045) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (631) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 7) .
كلهم من طريق الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش الصنعاني عن ابن مسعود به.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/ 115) ، وقال: رواه أبو يعلى، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف، وحديثه حسن اهـ. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 34) ، وزاد نسبته إلى الحكيم الترمذي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(6) في قراءة عبد الله، وقراءة أبي: ينظر «المحرر الوجيز» (4/ 159) .
ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 159) .
(4/166)
1
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
تفسير سورة النّور
وهي مدنيّة
 
[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
قوله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها ... الآية معنى «فرضنا» : أوجبنا وأثبتنا، وقال الثَّعْلَبِيُّ والواحِدِيُّ: فَرَضْناها أي: أوجبنا ما فيها من الأحكامِ، انتهى، وقال البخاريُّ «1» : قال ابن عباس «2» : سُورَةٌ أَنْزَلْناها: بَيَّنَّاها، انتهى. وما تقدم أَبْيَنُ.
ص: فَرَضْناها الجمهور: بتخفيف الراء أي: فرضنا أحكامها، وأبو عمرو وابن كثير: بتشدِيْدِ الراء: إما للمبَالَغَةِ في الإيجاب، وإما لأَنَّ فيها فرائضَ شَتَّى، انتهى.
والآيات البَيِّنَاتُ: أمثالُها ومواعِظُهَا وأحكامُها.
وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ... الآية، هذه الآية ناسخة لآية الحَبْسِ باتِّفاق، وحكم المُحْصَنِينَ منسوخٌ بآية الرجم والسُّنَّةِ المتواترة على ما تقدّم في سورة النساء، وقرأ الجمهور «3» : «رَأْفَةٌ» بهمزة ساكنة من رَأَفَ إذا رَقَّ وَرَحِمَ، والرأفة المَنْهِيُّ عنها هي [في] «4» إسقاط الحَدِّ، أي: أقيموه ولا بدّ، وهذا تأويل ابن عمر «5» وغيره.
__________
(1) ينظر: البخاري (8/ 301) كتاب التفسير: باب سورة النور.
(2) أخرجه الطبريّ (9/ 256) برقم (25706) ، وذكره السيوطي (5/ 36) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حارثة عن ابن عباس.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 161) ، و «البحر المحيط» (6/ 394) ، و «الدر المصون» (5/ 208) .
(4) سقط في ج.
(5) أخرجه الطبريّ (9/ 256) برقم (25709، 25710) ، وذكره البغوي (3/ 321) ، وذكره ابن عطية (4/ 161) ، وابن كثير (3/ 261، 262) ، والسيوطي (5/ 37) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(4/167)
1
وقال قتادة وغيره: هي في تخفيف الضَّرْبِ عنِ الزُّنَاةِ «1» ، ومِنْ رأيهم أَنْ يُخَفَّفَ ضربُ الخمر، والفِرْيَةِ دون ضرب الزنا.
وقوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي: إغلاظاً على الزناة، وتوبيخاً لهم، ولا خلافَ أَنَّ الطائفة كُلَّمَا كَثُرَتْ فهو أليق بامتثال الأمر، واختلف في أَقَلِّ ما يجزِىءُ فقال الزُّهْرِيُّ: الطائفة: ثلاثةٌ فصاعداً «2» ، وقال عطاء: لا بُدَّ من اثنين «3» ، وهذا هو مشهورُ قول مالك فرآها موضع شهادة.
وقوله تعالى: الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً مَقْصِدُ الآية تشنيع الزنا وتشنيع 35 أأمره، وأَنَّهُ مُحَرَّمٌ على المؤمنين/ ويريد بقوله: لاَ يَنْكِحُ أي: لا يَطَأُ، فالنكاح هنا بمعنى: الجماع كقوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] . وقد بيّنه صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح أَنَّه بمعنى الوطء، حيث قال: «لا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ... » «4» الحديث، وتحتمل الآية وجوها هذا أحسنها.
__________
(1) أخرجه الطبريّ (9/ 258) برقم (25722، 25724) ، وذكره البغوي (3/ 321) ، وابن عطية (4/ 161) ، والسيوطي (5/ 37) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن، وابراهيم، وعامر، ولابن أبي شيبة، وعبد بن حميد عن شعبة.
(2) أخرجه الطبريّ (9/ 259) برقم (25736) ، وذكره البغوي (3/ 321) ، وابن كثير (3/ 262) ، والسيوطي (5/ 38) وعزاه لابن جرير عن الزهري.
(3) أخرجه الطبريّ (9/ 259) برقم (25734) ، وذكره البغوي (3/ 321) ، وابن كثير (3/ 262) .
(4) أخرجه مالك (2/ 531) كتاب النكاح: باب نكاح المحلل وما أشبهه، حديث (17) من طريق المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته ...
ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 248) باب نكاح المطلقة ثلاثا، وابن حبان (1323- موارد) ، والبيهقي (7/ 375) كتاب الرجعة: باب نكاح المطلقة ثلاثا.
قال السيوطي في «تنوير الحوالك» (2/ 6) قال ابن عبد البر: كذا لأكثر الرواة مرسل، ووصله ابن وهب عن مالك، فقال: عن أبيه، وابن وهب من أجل من روى عن مالك هذا الشأن، وأثبتهم فيه. وتابعه أيضا ابن القاسم وعلي بن زياد وإبراهيم بن طهمان وعبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، كلهم عن مالك، وقالوا فيه: عن أبيه، وهو صاحب القصة ا. هـ.
ومن طريق ابن وهب أخرجه ابن الجارود (682) ، والبيهقي (7/ 375) كتاب «الرجعة» : باب نكاح المطلقة ثلاثا.
وأخرجه البزار (2/ 194- كشف) رقم (1504) من طريق عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ثنا مالك بن أنس عن المسور بن رفاعة، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير عن أبيه.
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 343) : رواه البزار والطبراني، ورجالهما ثقات، وقد رواه مالك في «الموطأ» مرسلا، وهو هنا متصل ا. هـ.
(4/168)
1
__________
- وقد ورد هذا الحديث موصولا من حديث عائشة:
أخرجه أحمد (6/ 226) ، والبخاري (5/ 249) كتاب «الشهادات» : باب شهادة المختبئ، حديث (2639) ، ومسلم (2/ 1055- 1056) كتاب النكاح: باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (111/ 1433) ، والترمذي (2/ 293) كتاب النكاح: باب ما جاء فيمن يطلق امرأته ثلاثا حديث (1118) ، والنسائي (6/ 148) كتاب الطلاق: باب إحلال المطلقة ثلاثا، وابن ماجه (1/ 621- 622) كتاب النكاح: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا، حديث (1932) والدارمي (2/ 161) كتاب الطلاق: باب ما يحل المرأة لزوجها الذي طلقها، والشافعي (2/ 34- 35) كتاب الطلاق، حديث (110) ، والحميدي (1/ 111) رقم (226) ، وعبد الرزاق (6/ 346- 347) رقم (11131) ، والطيالسي (1/ 314- 315) رقم (1612، 1613) ، وسعيد بن منصور (2/ 73- 74) ، رقم (1985) ، وأبو يعلى (397) ، رقم (4423) ، وابن حبان (4199- الإحسان) ، والبيهقي (7/ 373- 374) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 169- بتحقيقنا) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت:
جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وللحديث طرق أخرى عن عائشة:
فأخرجه البخاري (9/ 284) كتاب الطلاق: باب من قال لامرأته: أنت عليّ حرام، حديث (5265) ، ومسلم (2/ 1057) كتاب النكاح: باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (114/ 1433) ، وأحمد (6/ 229) ، والدارمي (2/ 162) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به.
وأخرجه مسلم (2/ 1057) كتاب النكاح: باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (115/ 1433) ، وأحمد (6/ 193) ، وأبو يعلى (8/ 373- 374) رقم (4964) من طريق القاسم بن محمد عن عائشة.
وأخرجه أبو داود (1/ 705) كتاب الطلاق: باب في المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (2309) ، وأحمد (6/ 42) من طريق الأسود عن عائشة.
وأخرجه البخاري (10/ 293) من طريق عبد الوهاب عن أيوب عن عكرمة [ «أنّ رفاعة طلّق امرأته، فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظيّ، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر، فشكت إليها، وأرتها خضرة بجلدها فلما جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- والنساء ينصر بعضهن بعضا- قالت عائشة: ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات لجلدها أشدّ خضرة من ثوبها. قال وسمع أنها قد أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله ما لي إليه من ذنب، إلا أنّ ما معه ليس بأغنى عني من هذه- وأخذت هدبة من ثوبها- فقال: كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشز تريد رفاعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فإن كان ذلك لم تحلّي له أو تصلحي له حتى يذوق من عسيلتك. قال وأبصر معه ابنين له فقال: بنوك هؤلاء؟ قال: نعم. قال: هذا الذي تزعمين ما تزعمين؟ فو الله لهم أشبه به من الغراب بالغراب» ] .
(4/169)
1
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ... الآية نزلت بسبب القاذفين، وذكر تعالى في الآية: قَذْفَ النساءِ من حيث هو أَهَمُّ وأبشعُ، وقذفُ الرجال داخلٌ في حكم الآية بالمعنى والإجماع على ذلك، والْمُحْصَناتِ هنا: العفائف، وشَدَّدَ تعالى على القاذف بأربعة شهداء رحمةً بعباده، وستراً لهم، وحكم شهادة الأربعة أنْ تكونَ على معاينة مبالغة كالمِرْوَدِ في المَكْحَلَةِ في موطنٍ واحد، فإنِ اضطرب منهم واحد
__________
- وفي الباب عن ابن عمر، وعبيد الله بن عباس، وأنس بن مالك، والفضل بن عباس.
حديث ابن عمر:
أخرجه أحمد (2/ 85) ، والنسائي (6/ 148- 149) كتاب النكاح: باب إحلال المطلقة ثلاثا، وابن ماجه (1/ 622) كتاب النكاح: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا: فتتزوج فيطلقها (1933) من طريق محمد بن جعفر: حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد: سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله بن عمر عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر به.
وأخرجه أحمد (2/ 62) ، والنسائي (6/ 149) ، والبيهقي (7/ 375) من طريق سفيان عن علقمة بن مرثد عن رزين بن سليمان عن ابن عمر.
قال النسائي: هذا أولى بالصواب.
وأخرجه أبو يعلى (8/ 374) رقم (4066) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر.
قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 343) : رواه الطبراني وأبو يعلى، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.
حديث عبيد الله بن عباس:
أخرجه أحمد (1/ 214) ، والنسائي (6/ 148) كتاب الطلاق: باب إحلال المطلقة ثلاثا، عنه أن «الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم تشتكي زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء زوجها، فقال:
يا رسول الله هي كاذبة، وهو يصل إليها، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس ذلك حتى تذوفي عسيلته» .
وأخرجه أبو يعلى (12/ 85- 86) رقم (6718) عن عبيد الله بن عباس والفضل بن عباس به.
وقال الهيثمي في «المجمع» (4/ 343) ، رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح.
حديث أنس بن مالك:
أخرجه أحمد (3/ 284) ، والبزار (2/ 195- كشف) برقم (1505) ، وأبو يعلى (7/ 207) رقم (4199) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت زوجا، فمات عنها قبل أن يدخل بها هل يتزوجها الأول؟ قال: «لا حتى يذوق عسيلتها» .
قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 343) : رواه أحمد، والبزار، وأبو يعلى، والطبراني في «الأوسط» ، ورجاله رجال الصحيح خلا محمد بن دينار الطاحي، وقد وثقه أبو حاتم، وأبو زرعة، وابن حبان، وفيه كلام لا يضر.
حديث الفضل بن عباس: انظر حديث عبيد الله بن العباس. [.....]
(4/170)
1
جُلِدَ الثلاثة، والجلد: الضرب، ثم أمر تعالى: ألّا تقبل للقذفة المحدودين شهادة أبدا «1» ،
__________
(1) القاذف هو من يرمي محصنا أو محصنة بالزنى ولم يأت بأربعة شهداء يشهدون على صدق قوله، ولا خلاف بين العلماء في شهادة القاذف إذا شهد قبل إقامة الحدّ وبعد التوبة، أو بعد إقامة الحدّ وقبل التوبة فإنه في الصورة الأولى، تقبل شهادته إجماعا، وفي الثانية لا تقبل إجماعا إنّما الخلاف في شهادته بعد الحد وبعد التوبة.
فذهب الإمام الشافعيّ، ومالك، وأحمد، والبتيّ وإسحاق، وأبو عبيدة وابن المنذر إلى قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، وروي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه وشريح والحسن والنّخعيّ وسعيد بن جبير والثوريّ إلى ردّ شهادة المحدود في القذف وإن تاب. وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ومنشأ هذا الاختلاف هو: اختلافهم في فهم الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. اختلفوا في الاستثناء: هل هو راجع إلى الكل أو إلى الأخيرة فقط؟ وهذه مسألة أصولية، وسنذكر فيما يلي خلاصة القول فيها: إنّ الاستثناء إذا وقع بعد جمل متعاطفة بالواو، ونحوها أمكن رده للجميع، وإلى الأخيرة خاصة بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما هو ظاهر فيه، فالشافعية يقولون ظاهر في الكل، ولا يرجع للأخيرة فقط إلّا بقرينة. والحنفية يقولون: ظاهر في الأخيرة، ولا يرجع للكل إلا بدليل.
وأبو الحسين كالشافعية إلّا أنه فصل في القرينة فقال: إن قامت قرينة على الإضراب عن الأول فهو للأخير. وظهور الإضراب يكون باختلاف الجملتين نوعا: بأن تكون إحداهما خبرا والأخرى إنشاءا نحو العلماء مكرمون ولا تكرم الجهال إلّا خالدا.
أو تكون إحداهما أمرا والأخرى نهيا نحو: أكرم العلماء ولا تكرم الجهال إلّا من دخل الدار فالاستثناء من الأخير.
أو باختلافهما حكما: بأن يكون مضمون إحداهما غير مضمون الأخرى نحو: الرجال قائمون، والعلماء جالسون إلّا محمدا. أو باختلافهما اسما بأن يكون الاسم في الأولى غير صالح لتعلق الاستثناء به نحو:
أكرم الرجال وأعطف على النساء إلّا هندا. ففي هذا كلّه يرجع الاستثناء إلى الأخير، ظهور الإضراب.
لكن محل هذا ما لم يكن الاسم في الجملة الثانية ضمير الاسم في الأولى أو اتفقا في الغرض وإلّا كان الاستثناء راجعا للكل مطلقا وإن اختلفا نوعا أو حكما.
وأما الاختلاف في الاسم فلا يمكن معه رجوع الاستثناء للكل، لعدم صلاحيته للتعلق بالكل. مثال الأول: أكرم بني تميم وهم مكرمون إلّا بكرا، فهما مختلفان نوعا لكن الاسم في الثانية ضمير الأول فيرجع للكل. ومثال الثاني قوله تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فقد اتحدا في الغرض وهو الإهانة والانتقام وإن اختلفا نوعا فيرجع للكل.
وقال القاضي والغزاليّ: «بالوقف» . وقال المرتضى: مشترك بين الكل والأخير، ويرجع مذهب الوقف والاشتراك إلى قول الحنفية، لأنّ مذهب الوقف معناه أنّ الاستثناء لا يعلم أهو موضوع للإخراج من الكل أو من الأخير؟ ومذهب المرتضى أنّه مشترك بين الإخراج من الكل ومن الأخير. فيلزم الرجوع للأخير عليهما لأنه إن كان موضوعا للأخير فظاهر، وإن كان للكل ففي ضمنه الأخير.
قال الشافعي: توبة القاذف إكذابه نفسه. وفسره الإصطخري (من أصحاب الشافعي) : بأن يقول: كذبت
(4/171)
1
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
وهذا يقتضي مُدَّةَ أعمارهم، ثم حكم بفسقهم، ثم استثنى تعالى مَنْ تاب وأصلح من بعد القذف، فالاستثناء غيرُ عامل في جلده بإجماع، وعامل في فسقه بإجماع، واخْتُلِفَ في عمله في رَدِّ الشهادة، والجمهور أَنَّه عامل في رَدِّ الشهادة، فإذا تاب القاذف قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، ثم اختلفوا في صورة توبته، فقيل بأن يُكَذِّبَ نَفْسَه، وإلاَّ لم تُقْبَلُ، وقالت فرقةٌ منها مالك:
توبته أن يَصْلُحَ وتَحْسُنَ حالُه «1» . وإنْ لم يرجع عن قوله بتكذيب واختلف فقهاءُ المالكيَّةِ متى تسقط شهادة القاذفِ فقال ابن الماجشون: بنفس قَذَفِهِ، وقال ابن القاسم وغيره: لا تَسْقُطُ حتى يُجْلَدَ، فإن مَنَعَ من جلده مانع عفو أو غيره لم تُرَدَّ شهادَتُه، قال اللَّخْمِيَّ:
شهادته في مدة الأجل للإثبات موقوفة، وتابُوا معناه: رجعوا، وقد رَجَّحَ الطبريُّ «2» وغيرُهُ قولَ مالك، واخْتُلِفَ أَيضاً على القول بجواز شهادته، فقال مالك: تجوزُ في كل شيء بإطلاق، وكذلك كُلُّ مَنْ حُدَّ في شيء.
وقال سحنون: مَنْ حُدَّ في شيء فلا تجوز شهادته في مثل ما حُدَّ فيه، واتفقوا فيما أحفظ على ولد الزنا أَنَّ شهادته لا تجوز في الزنا.
 
[سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ...
الآية: لما رَمَى هلالُ بن أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ زوجته بِشَرِيكِ بنِ سحماء- عزم النبي صلّى الله عليه وسلّم على ضَرْبِهِ حَدَّ القَذْفِ فَنَزَلَتْ هذه الآية حسبما هو مشروح في الصحاح، فجمعهما صلّى الله عليه وسلّم في المسجد،
__________
- فيما قلت، فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحاق المروزي (من أصحاب الشافعي) لا يقول كذبت، لأنه ربما يكون صادقا، فيكون قوله: «كذبت» كذبا، والكذب معصية. والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على ما فعلت، ورجعت عنه، ولا أعود إليه.
وظاهر كلام أحمد والخرقي أن توبة القاذف (كما قال الشافعي) إكذاب نفسه، فيقول: كذبت فيما قلت.
وقال بعض العلماء: توبة القاذف كتوبة غيره، أمر بينه وبين ربه، ومرجعها إلى الندم على ما قال، والعزم على ألا يعود. والسر في أن الشافعية ومن وافقهم أدخلوا في معنى التوبة التلفظ باللسان مع أن التوبة من عمل القلب أن يترتب عليها حكم شرعي، وهو قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، فلا بد أن يعلم الحاكم توبته حتى تقبل شهادته.
(1) في ج: وتحسن حالته.
(2) ينظر: «الطبريّ» (9/ 265) .
(4/172)
1
وَتَلاَعَنَا، وجاء أَيضاً عُوَيْمِرُ العَجْلاَنِيُّ فرمى امرأته ولا عن «1» ، والمشهورُ: أَنَّ نازلةَ هلالٍ قبلُ، وأَنَّها سَبَبُ الآية، والأزواج في هذه الآية: يَعُمُّ المسلماتِ والكافرات والإماءِ فكُلُّهن يُلاعِنُهُنَّ الزوجُ للانتفاء من الحمل، وتختصُّ الحُرَّةُ بدفع حَدِّ القذف عن نفسها، وقرأ السبعة غيرَ نافعِ «2» : أَنَّ لَعْنَتَ، وأَنَّ غَضَبَ بتشديد «أَنَّ» فيهما ونَصْبِ اللعنة والغضب، والعذاب المُدْرَأَ في قول الجمهور: هو الحَدُّ، وجُعِلَتْ اللعنة للرجل الكاذب لأَنَّهُ مفترٍ مُبَاهِتٌ، فَأُبْعِدَ باللعنة، وجُعِلَ الغَضَبُ، الذي هو أَشَدُّ على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت- بالقول، والله أعلم، وأجمع مالك وأصحابه على وجوب اللعان بادِّعاء الرؤية زناً لا وطء من/ الزوج بعده، وذلك مشهور المذهب. 35 ب وقال مالك: إنَّ اللعان يجب بنفي حمل يُدَّعَى قبله استبراءٌ والمُسْتَحَبُّ من ألفاظ اللعان أنْ يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه، فيقول الزوج: أشهد بالله لرأيتُ هذه المرأة تزني،
__________
(1) تقدم.
حديث ابن عباس في الملاعنة.
أخرجه أبو داود (2/ 688) كتاب الطلاق: باب في اللعان، حديث (2256) ، وأحمد (1/ 238- 239) ، والطيالسي (1/ 319- منحة) رقم (1620) ، والطبريّ في «تفسيره» (18/ 65- 66) ، والبيهقي (7/ 394) كتاب «اللعان» : باب الزوج يقذف امرأته، كلهم من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، وفيه: فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء، فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما جاء به، واشتد عليه، فنزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 43) ، وعزاه إلى أحمد، وعبد الرزاق، والطيالسي، وعبد بن حميد، وأبي داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس.
أما حديث عويمر: فرواه سهل بن سعد.
وأخرجه مالك (2/ 566- 567) كتاب الطلاق: باب ما جاء في اللعان، حديث (34) ، والبخاري (9/ 361) كتاب الطلاق: باب من جوز الطلاق الثلاث، حديث (5259) ، ومسلم (2/ 1129- 1130) كتاب «اللعان» ، حديث (1/ 1492) ، وأبو داود (2/ 679- 682) كتاب الطلاق: باب في اللعان، حديث (2245) ، والنسائي (6/ 170- 171) كتاب الطلاق: باب بدء اللعان، وابن ماجه (1/ 667) كتاب الطلاق: باب اللعان، حديث (2066) ، وأحمد (5/ 336- 337) ، والدارمي (2/ 150) كتاب النكاح: باب في اللعان، وابن الجارود في «المنتقى» برقم (756) ، وابن حبان (4271- الإحسان) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 102) ، والبيهقي (7/ 398- 399) كتاب «اللعان» : باب سنة اللعان، والبغوي في «شرح السنة» (5/ 181- بتحقيقنا) من طريق الزهري عن سهل بن سعد به.
(2) ينظر: «السبعة» (453) ، و «الحجة» (5/ 314) ، و «إعراب القراءات» (2/ 101) ، و «معاني القراءات» (2/ 202) ، و «شرح الطيبة» (5/ 84) ، و «العنوان» (138) ، و «حجة القراءات» (494) ، و «شرح شعلة» (512) ، و «إتحاف» (2/ 292) ، و «المحتسب» (2/ 102) .
(4/173)
1
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
وإنِّي في ذلك لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة: وأنّ لعنة الله علي إنْ كنتُ من الكاذبين، وأَمَّا في لعان نفي الحمل فيقول: ما هذا الولدُ مِنِّي، وتقول المرأة: أشهدُ بالله ما زنيتُ، وأَنَّهُ في ذلك لمن الكاذبين، ثم تقول: غَضِبَ الله عَلَيَّ إنْ كان من الصادقين، فإنْ مَنَعَ جَهْلُهُمَا من ترتيب هذه الألفاظ، وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك، ومشهور المذهب: أَنَّ نفسَ تمام اللعان بينهما فُرْقَةٌ، ولا يحتاج معها إلى تفريق حاكم، وتحريم اللعان أَبَدِيٌّ باتفاق فيما أحفظ من مذهب مالك، وجواب لَوْلا محذوف تقديره: لكشف الزناةَ بأيسر من هذا، أو لأخذهم بعقابه ونحو هذا.
 
[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 13]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ... الآية: نزلت في شأن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ففي «البخاريِّ» في غزوة بَنِي المُصْطَلِقِ عن عائشة رضي الله عنها قالت: وأَنْزَلَ اللهُ العَشْرَ الآياتِ في براءتي: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ... الآيات:
والإفك: الزُّورُ والكذب، وحديث الإفك في «البخاريّ» و «مسلم» وغيرهما مُسْتَوْعَبٌ، والعُصْبَةُ: الجماعة من العشرة إلى الأربعين.
وقوله سبحانه: لاَ تَحْسَبُوهُ خطاب لِكُلِّ مَنْ ساءه ذلك من المؤمنين.
وقوله تعالى: بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ معناه: أَنَّه تَبْرِئَةٌ في الدنيا، وترفيعٌ من الله تعالى في أنْ نَزَّلَ وَحْيَهُ بالبراءة من ذلك، وأجرٌ جزيلٌ في الآخرة، وموعظةٌ للمؤمنين في غابر الدهر، واكْتَسَبَ: مستعملة في المآثم، والإشارة بقوله تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ هي إلى: عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلولَ وغيره من المنافقين، وكِبْرَهُ: مصدر كَبُرَ الشيء وعَظُمَ ولكنِ استعملتِ العربُ ضَمَّ الكاف في السِّنِّ.
وقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ... الآية:
الخطاب للمؤمنين حاشا مَنْ تولى كِبْرَهُ، وفي هذا عتابٌ للمؤمنين، أي: كان الإنكارُ واجباً عليهم، ويقيس فُضَلاَءُ المؤمنين الأمر على أنفسهم، فإذا كان ذلك يَبْعُدُ فيهم فَأُمُّ المؤمنين أبعد، لفضلها، ووقع هذا النّظر السديد من أبي أَيُّوبَ وامرأته وذلك أَنَّهُ دَخَلَ عليها فقالت له: «يا أبا أيوبَ، أَسَمِعْتَ ما قيل؟ فقال: نعم، وذلك الكذبُ أكنتِ أنت يا أمّ أيّوب
(4/174)
1
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
تفعلين ذلك؟ قالت: لا، والله، قال: فعائشة- والله- أفضلُ منك، قالتْ أُمُّ أيوب:
نعم» «1» فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله فيه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم، والضمير في قوله: لَوْلا جاؤُ للذين تولوا كبره.
 
[سورة النور (24) : الآيات 14 الى 18]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
وقوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ هذا عتاب من الله تعالى، بليغ في تعاطيهم هذا الحديثَ وإنْ لم يكن المُخْبِرُ والمُخْبَرُ مُصَدِّقِينَ، ولكنَّ نفس التعاطي والتلقي من لسانَ إلى لسان والإفاضة في الحديث- هو الذي وقع العتابُ فيه، وقرأ ابن يعمر «2» وعائشة (رضي الله عنها) وهي أعلم الناس بهذا الأمر: «إذْ تَلِقُونَهُ» /- بفتح التاء، وكسر اللام، وضم القاف-، ومعنى 36 أهذه القراءة من قول العرب: وَلَقَ الرجُل وَلْقاً إذا كَذِبَ، وحكى «3» الطبريُّ: أن هذه اللفظة مأخوذةٌ من: الوَلْقِ الذي هو إسراعك بالشيء بعد الشيء يقال: ولق في سيره إذا أسرع، والضمير في: تَحْسَبُونَهُ للحديث والخوضِ فيه والإذاعةِ له.
وقوله تعالى: سُبْحانَكَ أي: تنزيهاً للَّه أَنْ يقع هذا من زوج نَبِيِّه صلّى الله عليه وسلّم وحقيقة البُهْتَانِ: أَنْ يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة: أَنْ يقال في الإنسان ما فيه، ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة.
 
[سورة النور (24) : الآيات 19 الى 21]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
__________
(1) أخرجه الطبريّ (9/ 284) برقم (25859) ، وذكره ابن عطية (4/ 170) ، وابن كثير (3/ 273) ، والسيوطي (5/ 60) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر.
(2) وقرأ بها ابن عباس، وعثمان الثقفي.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص 102، و «المحتسب» (2/ 104) ، و «الكشاف» (3/ 219) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 171) ، و «البحر المحيط» (6/ 402) ، و «الدر المصون» (5/ 213) .
(3) ينظر: «الطبريّ» (9/ 285) .
(4/175)
1
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية: قال مجاهد وغيره: الإشارة بهذه الآية إلى المنافقين، وعذابهم الأليم في الدنيا: الحدودُ، وفي الآخرة: النار «1» ، وقالت فرقة: الآية عامَّةٌ في كلّ قاذف، و [هذا] «2» هو الأظهر.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ معناه: يعلم البريءَ من المُذْنِبِ، ويعلم سائر الأمور، وجواب لَوْلا أيضاً محذوف تقديره: لَفَضَحَكُم بذنوبكم، أو لعذّبكم ونحوه.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ... الآية: خطوات جمع خُطْوَة، وهي ما بين القدمين في المشي، فكأنَّ المعنى: لا تمشوا في سُبُلِهِ وطُرُقِهِ.
قلت: وفي قوله سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً: ما يردع العاقلَ عن الاشتغال بغيره، ويُوجِبُ له الاهتمامَ بإصلاح نفسه قبل هجوم مَنِيَّتِهِ وحُلُولِ رَمْسِهِ، وحَدَّثَ أَبو عمر في «التمهيد» بسنده عن إسماعيل بن كثير قال:
سمعت مجاهداً يقول: «إنَّ الملائكة مع ابن آدم، فإذا ذكر أخاه المسلم بخير، قالت الملائكة: ولك مِثْلُهُ، وإذا ذكره بشرٍّ، قالتِ الملائكةُ: ابنَ آدمَ المستور عورته، أَرْبِعْ على نفسك، واحْمَدِ الله الذي يستر عورتك» انتهى، ورُوِّينَا في «سنن أبي داودَ» عن سهل بن مُعَاذِ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ حَمَى مُؤْمِناً مِنْ مُنَافِقٍ- أَرَاهُ قالَ:
بَعَثَ اللهُ مَلَكاً يَحْمِي لَحْمَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ رَمَى مُسْلِماً بشيء يريد به شينه، حبسه الله- عز وجل- عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» «3» ، وروينا أيضاً عن أَبي داودَ بسنده عن جابرِ بن عبد الله وأبي طلحةَ بن سهل الأنصارِيَّين أنَّهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما من امرئ يخذل أمرا مُسْلِماً في مَوْضِعٌ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ- إلاَّ خَذَلَهُ اللهُ في موطن يحبّ فيه نصرته، وما من امرئ يَنْصُرُ مُسْلِماً في مَوْضِع يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ- إلاَّ نَصَرَهُ الله في موضع يحبّ فيه
__________
(1) أخرجه الطبريّ (9/ 287) برقم (35870) نحوه، وذكره ابن عطية (4/ 171) ، والسيوطي (5/ 61) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني عن مجاهد بلفظ: «تظهر» .
(2) سقط في ج.
(3) أخرجه أبو داود (2/ 687) كتاب الأدب: باب من رد على مسلم غيبة، حديث (4883) ، وابن المبارك في «الزهد» (239) .
(4/176)
1
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
نُصْرَتَهُ» ، انتهى «1» ، ثم ذكر تعالى أَنَّه يزكى مَنْ شاء مِمَّنْ سبقت له السعادة، وكان عمله الصالح أمارة على سبق السعادة له.
 
[سورة النور (24) : آية 22]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
وقوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ ... الآية: المشهورُ من الروايات أَنَّ هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر رضي الله عنه ومِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وكان من قرابة أبي بكر، وكان أبو بكر ينفق عليه، لمسكَنَتِهِ، فلما وقع أمر الإفك بلغ أبا بكر أَنَّه: وقع مِسْطَحٌ مع مَنْ وقع فحلف أبو بكر: لا ينفق عليه، ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح معتذرا/ 36 ب وقال: إنَّما كُنْتُ أسمع ولا أقول، فنزلتِ الآية، والفضل: الزيادة في الدِّينِ، والسعة هنا:
هي المال، ثم قال تعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ... الآية، أي: كما تحبون عفوَ الله لكم عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم، فيروى أنَّ أبا بكر قال: بلى، إنِّي أُحِبُّ أَنْ يغفر الله لي، ورَجَّعَ إلى مِسْطَحٍ ما كان يُجْرِي عليه من النفقة والإحسان «2» .
قال ابن العربيِّ في «أحكامه» : وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أَنَّ الحنث إذا رآه الإنسان خيراً هو أولى من البر، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «فَرَأَى غَيْرُهَا خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» انتهى «3» . وقال بعض الناس: هذه أرجى آيةٌ في كتاب الله عز وجل من
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/ 687) كتاب الأدب: باب من رد على مسلم غيبة، حديث (4884) ، وأحمد (3/ 441) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 495- 496- بتحقيقنا) .
(2) أخرجه الطبريّ (9/ 289) برقم (25875) ، وذكره البغوي (3/ 334) ، وابن عطية (4/ 172، 173) ، وابن كثير (3/ 276) ، والسيوطي (5/ 63) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان. [.....]
(3) أخرجه مسلم (3/ 1271- 1272) كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا، فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، حديث (11/ 1650) ، والبيهقي (10/ 32) كتاب الأيمان، باب من حلف على يمين فرأى خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ وَلْيُكَفِّرْ عن يمينه.
وأخرجه مسلم (3/ 1272) كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، حديث (13/ 1650) . ومن حديث عدي بن حاتم أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» ، وأبو داود الطيالسي (1/ 247) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ، وَلْيُكَفِّرْ عن يمينه، حديث (1218) ، وأحمد (4/ 256- 257- 258) ، والدارمي (2/ 186) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، ومسلم (3/ 1272- 1273) ، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، حديث (16، 18/ 1651) ، والنسائي (7/ 10- 11) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب الكفارة بعد الحنث، وابن ماجه (1/ 681) كتاب «الكفارات» ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، -
(4/177)
1
حيث لطفه سبحانه بالقَذَفَةِ العُصَاةِ بهذا اللفظ.
قال ع «1» : وإنَّما تعطى الآية تفضلاً من الله تعالى في الدنيا، وإنَّما الرجاءُ في الآخرة، أما أنَّ الرجاءَ في هذه الآية بقياسٍ، أي: إذا أُمِرَ أُولِي الفضل والسعة بالعفو، فطرد هذا التفضل بسعة رحمته سبحانه لا رَبَّ غيره، وإنَّما آيات الرجاء: قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] . وقوله تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ
__________
- حديث (2108) ، والحاكم (4/ 300- 301) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب لا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم، والبيهقي (10/ 32) كتاب «الأيمان» : باب من حلف على يمين فرأى خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ وَلْيُكَفِّرْ عن يمينه، بلفظ «فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» .
ومن حديث عبد الرحمن بن سمرة بلفظ «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك» .
ومنهم من قال: «فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير» .
والحديث أخرجه أحمد (5/ 62- 63) ، والدارمي (2/ 186) كتاب «الأيمان والنذر» ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، والبخاري (11/ 516- 517) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب قول الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ... حديث (6622) ، ومسلم (3/ 1273- 1274) كتاب «الأيمان» ، باب ندب من حلف يمينا، فرأى غيرها خيرا منها، حديث (9/ 1652) ، وأبو داود الطيالسي (1/ 247) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه، حديث (1219) ، والنسائي (7/ 12) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب الكفارة بعد الحنث، وأبو داود (3/ 584) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب الرجل يكفر قبل أن يحنث، حديث (3277) ، وابن الجارود في «المنتقى» ص (310) : باب ما جاء في الأيمان، حديث (929) ، والبيهقي (10/ 31) كتاب «الأيمان» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.
والخطيب في «تاريخ بغداد» (2/ 400) من طرق عن الحسن عن عبد الرحمن به.
ومن حديث عبد الرحمن بن أذينة عن أبيه أخرجه الطيالسي (1/ 247) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه، حديث (1220) .
ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه أحمد (2/ 204) بلفظ «فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» ، ورواه الطيالسي (1/ 247) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها، حديث (1221) ، وأحمد (2/ 212) ، وأبو داود (3/ 582) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب اليمين في قطيعة الرحم، حديث (3274) ، وابن ماجه (1/ 682) كتاب «الكفارات» ، باب من قال: كفارتها تركها، حديث (2111) بلفظ «فليدعها وليأت الذي هو خير، فإن تركها كفارتها» .
وقال أبو داود: الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلّم «وليكفر عن يمينه» إلا فيما لا يعبأ به.
ومن حديث مالك الجشمي رواه النسائي (7/ 11) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب الكفارة بعد الحنث، وابن ماجه (1/ 681) كتاب «الكفارات» ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، حديث (2109) .
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 173) .
(4/178)
1
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
[الشورى: 19] . وسمعت أبي رحمه الله يقول: أرجى آيةٌ في كتاب الله عندي قوله تعالى:
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 47] . وقال بعضهم: أرجى آية قولَهُ تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] .
 
[سورة النور (24) : الآيات 23 الى 25]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ... الآيةَ: قال ابن جبير: هذه الآية خاصَّةٌ في رُمَاةِ عائشة «1» ، وقال ابن عباس «2» وغيره: بل ولجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم لمكانهن من الدِّينِ ولم يقرن بآخر الآية توبة.
قال ع «3» : وقاذف غَيْرهِنَّ له اسم الفسق، وذكرت له التوبةُ، ولعن الدنيا:
الإِبعاد، وضربُ الحَدِّ، والعامل في قوله: يَوْمَ فعل مُضمَرٌ تقديره: يُعَذَّبُونَ يومَ أو نحو هذا، والدين في هذه الآية: الجزاء، وفي مصحف ابن مسعود «4» وأُبَيٍّ: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ الحَقُّ دِينَهُمْ بتقديم الصفة على الموصوف.
وقوله: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ يُقِوِّي قولَ مَنْ ذهب: أَنَّ الآية في المنافقين عَبْدِ الله بن أبيّ وغيره.
 
[سورة النور (24) : الآيات 26 الى 28]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
__________
(1) أخرجه الطبريّ (9/ 290) برقم (25881) ، وذكره البغوي (3/ 334) ، وابن عطية (4/ 174) ، وابن كثير (3/ 276) ، والسيوطي (5/ 64) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني عن خصيف.
(2) أخرجه الطبريّ (9/ 291) برقم (25885) ، وذكره البغوي (3/ 334) ، وابن عطية (4/ 174) ، وابن كثير (3/ 276) ، والسيوطي (5/ 64) ، وعزاه لسعيد بن منصور، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 174) .
(4) ونسبها ابن خالويه إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم. ولكنه ضبطها برفع كلمة «الحق» .
ينظر: «المختصر» ص (103) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 174) .
(4/179)
1
وقوله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ ... الآية: قال ابن عباس «1» وغيره: الموصوف بالخُبْثِ والطيب: الأقوال والأفعال، وقال ابن زيد «2» : الموصوفُ بالخُبْث والطيب، النساءُ والرجال، ومعنى هذا التفريقَ بَيْنَ حكم ابن أبيّ وأشباهه وبين حكم النبي صلى الله عليه وسلّم وفضلاء أصحابه وأمّته.
وقوله تعالى: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ إشارة إلى الطيبين المذكورين، وقيل:
الإشارة ب أُولئِكَ إلى عائشة- رضي الله عنها- ومَنْ في معناها.
وقوله تعالى: لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا سبب هذه الآية فيما روى الطبريُّ «3» : أَنَّ امرأة من الأنصار قالت: يا رسولَ الله، إنِّي أَكونُ في منزلي على الحال الَّتي لاَ أُحِبُّ أَنْ يراني أحدٌ عليها، لاَ وَالَدٌ ولا وَلَد، وإنَّهُ لا يزالُ يدخلُ عليَّ رجلٌ مِنْ أهلي، وأنا على تلك الحال فنزلت هذه «4» الآية، ثم هي عامَّةٌ في الأُمَّةِ غَابِرَ الدهر، وبيت الإنسان: هو الذي لا أحد معه فيه، أوِ البيتَ الذي فيه زوجته أو أَمَتُهُ، وما عدا هذا 37 أفهو غير بيته، وتَسْتَأْنِسُوا معناه: تستعملوا/ مَنْ في البيت، وتستبصروا، تقول:
آنستُ: إذا علمَتُ عن حِسٍّ وإذا أبصرتُ ومنه قوله تعالى: آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء: 6] .
و «استأنس» وزنه: استفعل، فكأنَّ المعنى في تَسْتَأْنِسُوا: تطلبوا أنْ تعلموا ما يؤنسكم ويؤنس أهل البيت منكم، وإذا طلب الإنسان أن يعلم أمر البيت الذي يريد دخوله، فذلك يكون بالاستئذان على من فيه، أو بأنْ يتنحنح ويشعر بنفسه بأي وجه أمكنه، ويتأنّى قَدْرَ ما يتحفظ منه، ويدخل إثر ذلك.
وذهب الطبريُّ «5» في: تَسْتَأْنِسُوا إلى أَنَّه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت بأنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه، وتؤنسوا نفوسكم بأن تعلموا أنْ قد شعر بكم.
__________
(1) أخرجه الطبريّ (9/ 293) برقم (25891) ، وذكره ابن عطية (4/ 174) ، وابن كثير (3/ 287) ، والسيوطي (5/ 66) ، وعزاه لابن جرير، ولابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس.
(2) أخرجه الطبريّ (9/ 295) برقم (25905) ، وذكره البغوي (3/ 335) ، وابن عطية (4/ 174) ، وابن كثير (3/ 278) .
(3) ينظر: «الطبريّ» (9/ 297) .
(4) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (9/ 297) رقم (25921) عن عدي بن ثابت.
(5) ينظر: «الطبريّ» (9/ 298) .
(4/180)
1
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
قال ع «1» : وتصريف الفعل يأْبَى أَنْ يكون من أنس، وقرأ أُبَيُّ وابن عباس «2» :
«حتى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا» وصورة الاستئذان أَنْ يقول الإنسان: السلام عليكم، أأدخل؟ فإن أُذِنَ له دَخَل، وإنْ أُمِرَ بالرجوع انصرف، وإنْ سُكِتَ عنه استأذن ثلاثاً ثم ينصرف، جاءت في هذا كله آثار، والضمير في قوله: تَجِدُوا فِيها: للبيوت التي هي بيوتُ الغير، وأسند الطبريُّ «3» عن قتادة أنه قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبتُ عمري كُلَّه هذه الآيةَ فما أدركتها أن أستأذنَ على بعض إخواني فيقول لي: ارجع، فأرجع وأنا مُغْتَبِطٌ «4» لقوله تعالى: هُوَ أَزْكى لَكُمْ.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَوَعُّدٌ لأهل التجسّس.
 
[سورة النور (24) : الآيات 29 الى 31]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ... الآية: أباح سبحانه في هذه الآية رفعَ الاستئْذان في كُلِّ بيت لا يسكنه أحد لأَنَّ العِلَّةَ في الاستئذان خوفُ الكشفة على المُحَرِّمَاتِ، فإذا زالت العِلَّةُ زال الحكم، وباقي الآية بَيِّنٌ ظاهر التوعد، وعن مالك رحمه الله: أَنه بلغه أَنَّهُ كان يُسْتَحَبُّ إذا دخل البيتَ غيرَ المسكون، أن يقول
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (4/ 175) .
(2) ينظر: «المحتسب» (2/ 107) ، و «مختصر شواذ ابن خالويه» ص 103، ولكنه حكاها هكذا: «حتى يسلموا على أهلها ويستأذنوا» ، ونسبها إلى ابن مسعود وابن عباس. وأما قراءة أبي عنده- فهي: حتى يسلموا ويستأذنوا» .
وينظر: «الكشاف» (3/ 227) ، و «المحرر الوجيز» (4/ 175) . [.....]
(3) تقدم تخريجه.
(4) أخرجه الطبريّ (9/ 299) برقم (25933) ، وذكره ابن عطية (4/ 176) ، وابن كثير (3/ 281) ، والسيوطي (5/ 72) ، وعزاه لأبي يعلى، وابن مردويه عن أنس.
(4/181)
1
الذي يدخله: السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللهِ الصَّالِحِينَ، انتهى، أخرجه «1» في «المُوَطَّإِ» .
وقوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أظهر ما في مِنْ أَنْ تكون للتبعيض، لأَنَّ أول نظرة لا يملكها الإنسانُ وإنَّما يَغُضُّ فيما بعد ذلك، فقد وقع التبعيض بخلاف الفروج إذ حفظُها عامٌّ لها، والبصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذيرُ منه، وحفظُ الفرج هو عن الزنا وعن كشفه حيث لا يحل.
قلت: النواظر «2» صوارمُ مشهورة فاغمدها في غِمْدِ الغَضِّ والحياء مِنْ نظر المولى وإلاَّ جرحك بها عَدُوُّ الهوى، لا ترسلْ بريد النظر فيجلبَ لقلبك رَدِيءَ الفكر، غُضُّ البصرِ يُورِثُ القلب نوراً، وإطلاقُه يَقْدَحُ في القلب ناراً. انتهى من «الكَلِمِ الفارقيَّة فِي الحِكَمِ الحقيقيَّة» .
قال ابن العربيِّ»
في «أحكامه» : قوله تعالى: ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ يريد: أطهر وأنمى، يعني: إذا غَضَّ بصره كان أطهرَ له من الذنوب وأَنمى لعمله في الطاعة.
قال ابن العربي «4» : ومِنْ غَضَّ البصر: كَفُّ التطلع إلى المُبَاحَاتِ من زينة الدنيا وجمالِها كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ 37 ب زَهْرَةَ الْحَياةِ/ ال