تفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم 006

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

    
 
  
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
 
 
 
 
  
 
الكتاب: تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
المؤلف: أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى: 982هـ)
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
 
89 سورة الفجر (1 5)
سورة الفجر مكية وآيها ثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
(9/153)
 
 
وَالْفَجْرِ (1)
والفجر
أقسمَ سبحانَهُ بالفجرِ كما أقسمَ بالصبحِ حيثُ قال والصبح إِذَا تَنَفَّسَ وقيلَ المرادُ به صلاتُه
(9/153)
 
 
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
وَلَيالٍ عَشْرٍ
هن عشرُ ذِي الحجةِ ولذلكَ فُسِّرَ الفجرُ بفجرِ عرفةَ أو النحرِ أو العشرُ الأواخرُ من رمضانَ وتنكيرُها للتفخيمِ وقُرِىءَ وَليالٍ عشرٍ بالإضافةِ على أنَّ المرادَ بالعشرِ الأيامُ
(9/153)
 
 
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
والشفع والوتر
أي الأشياءِ كلِّها شفعِها ووترِها أو شفعِ هذه الليالِي ووترِها وقد رُويَ أن النبيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ فسرهُمَا بيومِ النحرِ ويومِ عرفةٍ ولقد كثُرتْ فيهما الأقوالُ والله تعالَى أعلمُ بحقيقةِ الحالِ وقُرِىءَ بكسرِ الواوِ وهما لغتانِ كالحَبْرِ والحِبْرِ وقيلَ الوَترُ بالفتحِ في العددِ وبالكسرِ في الذَحل وقُرِىءَ والوَتِرِ بفتحِ الواوِ وكسر التاء
(9/153)
 
 
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
والليل إِذَا يَسْرِ
أيْ يَمْضِي كقوله تعالى {والليل إذ أدبر} {والليل إِذَا عَسْعَسَ} والتقييدُ لما فيهِ من وضوحِ الدِلالة على كمالِ القدرةِ ووفورِ النعمةِ أو يُسرِيَ فيهِ من قولِهم صَلَّى المقامُ أي صُلِّيَ فيهِ وحَذْفُ الياءِ اكتفاءً بالكسرِ وقُرِىءَ بإثباتِها على الإطلاقِ وبحذفِها في الوقفِ خاصَّة وقُرِىءَ يسرٍ بالتنوينِ كما قُرِىءَ والفجرٍ والوترٍ وهو التنوينُ الذي يقعُ بدلاً من حرفِ الإطلاقِ
(9/153)
 
 
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ
الخ تحقيقٌ وتقريرٌ لفخامةِ شأنِ المُقْسَمِ بهَا وكونِها أموراً جليلةً حقيقةً بالإعظامِ والإجلالِ عندَ أربابِ العقولِ وتنبيهٌ على أنَّ الإقسامَ بها أمرٌ معتدٌّ به خليقٌ بأنّ يُؤكدَ بهِ الأخبارُ على طريقةِ قولِه تعالى وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ وذلكَ إشارةٌ إمَّا إلى الأمورِ المقسمِ
(9/153)
 
 
89 سورة الفجر (6 7)
بهَا والتذكيرُ بتأويلِ ما ذُكِرَ كما مَرَّ تحقيقُه أو إلى الإقسامِ بهَا وأيَّا ما كان فما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الشرفِ والفضلِ أيْ هِلْ فيما ذُكِرَ من الأشياءِ قسمٌ أيْ مقسمٌ بهِ
لّذِى حِجْرٍ
يراهُ حقيقاً بأنْ يقسمَ بهِ إجلالاً وتعظيماً والمرادُ تحقيقُ أنَّ الكلَّ كذلكَ وإنما أوثرتْ هذه الطريقةُ هَضْماً للخلقِ وإيذاناً بظهورِ الأمرِ أو هَلْ في إقسامِي بتلكَ الأشياءِ إقسامٌ لذي حجرٍ مقبولٌ عندَهُ يعتدُّ بهِ ويفعلُ مثلَهُ ويؤكدُ بهِ المقسمَ عليهِ والحِجْرُ العقلُ لأنه يحجُرُ صاحبَهُ أي يمنعُهُ من التهافتِ فيمَا لا ينبغِي كما سُميَ عقلاً ونُهيةً لأنَّه يعقلُ ويَنْهَى وحصاةً أيضاً من الإحصاءِ وهو الضبطُ قال الفراءُ يقالُ إنَّه لذُو حجرٍ إذَا كانَ قاهِراً لنفسِه ضابطاً لهَا والمقسمُ عليهِ محذوفٌ وهُو ليُعذَّبَنَّ كما ينبىء عنه قوله تعالَى
(9/154)
 
 
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
الخ فإنَّه استشهادٌ بعلمِه عليهِ الصَّلاة والسَّلام بمَا يدلُّ عليهِ من تعذيبِ عَادٍ وأضرابِهم المشاركينَ لقومِه عليه الصلاةُ والسلامُ في الطغيانِ والفسادِ على طريقة قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ} الآيةَ وقولُه تعالَى {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ} كأنَّه قيلَ ألم تعلم علما يقينيا كيفَ عذبَ ربُّكَ عاداً ونظائرَهُم فيعذبُ هؤلاءِ أيضاً لاشتراكِهم فيما يوجبُه من الكفرِ والمعاصِي والمرادُ بعادٍ أولادُ عادٍ بنِ عوصَ بن إرم بن سام بنِ نوحٍ عليه السلام قومُ هودٍ عليه السلامُ سُمُّوا باسمِ أبيهِم كما سُمِّيَ بنُو هاشمٍ هاشماً وقد قيلَ لأوائلِهم عادٌ الأُولى ولأواخرِهم عادٌ الآخرةُ قال عمادُ الدينِ بنُ كثيرٍ كلُّ ما وردَ في القرآنِ خبرُ عادٍ الأُولى إلا مَا في سورةِ الأحقافِ وقولُه تعالى
(9/154)
 
 
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)
إِرَمَ
عطفُ بيانٍ لعادٍ للإيذانِ بأنَّهم عادٌ الأُولى بتقديرِ مضافٍ أيْ سبطُ إرمٍ أو أهلُ إرمٍ على ما قبل من أنَّ إرمَ اسمُ بلدتِهم أو أرضِهم التي كانُوا فيهَا ويؤيدُه القراءةُ بالإضافةِ وأياً ما كانَ فامتناعُ صرفِها للتعريفِ والتأنيثِ وقُرِىءَ إِرْمَ بإسكانِ الراءِ تخفيفاً كما قُرِىءَ بِوَرْقِكُم
ذَاتِ العماد
صفةٌ لإرمَ أيْ ذاتُ القدودِ الطوالِ على تشبيهِ قاماتِهم بالأعمدةِ ومنه قولُهم رجلٌ عمدٌ وعمدان إذا كان طويلاً أو ذاتُ الخيامِ والأعمدةِ حيثُ كانُوا بدويينَ أهلَ عُمُدٍ أو ذاتُ البناءِ الرفيعِ أو ذاتُ الأساطينِ على أنَّ إرمَ اسمُ بلدتهم وقرىء إرم ذات العمادِ بإضافةِ إرمٍ إلى ذاتِ العمادِ والإرم العلمُ أي بعادٍ أهلِ إعلامِ ذاتِ العمادِ على أنها اسم بلدتهم وقرىء إرم ذاتَ العمادِ أي جعلَها الله تعالَى رَميماً بدلٌ من فعلَ ربُّك وقيل هي جملةٌ دعائيةٌ اعترضتْ بين الموصوفِ والصفةِ ورُويَ أنه كانَ لعادٍ ابنانِ شديدٌ وشدادٌ فملَكا وقَهَرا ثم ماتَ شديدٌ وخلصَ الأمرُ لشدادٍ فملَك الدنيا ودانتْ له ملوكُها فسمعَ بذكرِ الجنةِ فقال أبنِي مثلَها فبنَى إرمَ في بعضِ صَحارِي عدنٍ في ثلثمائة سنةٍ وهيَ مدينةٌ عظيمةٌ قصورُها من الذهبِ والفضةِ وأساطينُها من الزبرجدِ والياقوتِ وفيها أصنافُ الأشجارِ والأنهارِ المطردةِ ولمَّا تمَّ بناؤُها سار اليها أهل مملكتِه فلما كانَ منها على مسيرة يومٍ وليلةٍ بعثَ الله تعالى عليهم صيحةً من السَّماءِ فهلكُوا وعن عبدِ اللَّهِ بنِ قلابة
(9/154)
 
 
89 سورة الفجر (8 13)
أنه خرجَ في طلبِ إبلٍ له فوقعَ عليهَا فحملَ ما قدرَ عليهِ ممَّا ثمةَ وبلغَ خبرُه معاويةَ فاستحضرَهُ فقصَّ عليهِ فبعثَ إلى كعبٍ فسألَه فقالَ هيَ إرمُ ذاتُ العماد وسيد خلها رجلٌ من المسلمينَ في زمانِك أحمرُ أشقرُ قصيرٌ على حاجبِه خالٌ وعلى عقبِه خالٌ يخرجُ في طلبِ إبلٍ لَهُ ثم التفتَ إلى ابن قلابةٍ فقال هذا والله ذلكَ الرجلُ
(9/155)
 
 
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى البلاد
صفةٌ أُخرى لإرمَ أيْ لم يُخلقْ مثلُهم في عِظَم الأجرامِ والقوةِ حيثُ كانَ طولُ الرجلِ منهم أربعمائةِ ذراعٍ وكانَ يأتِي الصخرةَ العظيمةَ فيحملُها ويُلقيها على الحي فيهلكُهم أو لم يُخلقْ مثلُ مدينةِ شدادٍ في جميعِ بلادِ الدُّنيا وقُرِىءَ لَم يخلُقْ على إسنادِه إلى الله تعالَى
(9/155)
 
 
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
وَثَمُودُ عطفٌ على عادٍ وهي قبيلةٌ مشهورةٌ سُمِّيتْ باسمِ جدِّهم ثمودَ أَخِي جَديسٍ وهما ابنَا عامرِ بن إرم بن سام بنِ نوحٍ عليه السلام وكانُوا عرباً من العاربةِ يسكنونَ الحجرَ بين الحجازِ وتبوكَ وكانُوا يعبدونَ الأصنامَ كعادٍ
الذين جَابُواْ الصخر بالواد
أي قطعُوا صخرَ الجبالِ فاتخذُوا فيها بُيوتاً نحتوهَا من الصخرِ كقولِه تعالى {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً} قيلَ هُم أول من نحتَ الجبالَ والصخورَ والرخامَ وقد بَنَوا ألفاً وسبعمائةِ مدينةٍ كلها من الحجارةِ
(9/155)
 
 
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد
وصفَ بذلكَ لكثرة جنودِه وخيامِهم التي يضربُونَها في منازلِهم أو لتعذيبه بالأوتادِ
(9/155)
 
 
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)
الذين طَغَوْاْ فِى البلاد
إما مجرورٌ على أنه صفةٌ للمذكورينَ أو منصوبٌ أو مرفوعٌ على الذمِّ أي طَغَى كلُّ طائفةٍ منهُم في بلادِهم وكذا الكلامُ في قوله تعالى
(9/155)
 
 
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد
أي بالكفرِ وسائرِ المعاصِي
(9/155)
 
 
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ
أي أنزلَ إنزالاً شديداً على كلِّ طائفةٍ من أولئكَ الطوائفِ عقيبَ ما فعلتْهُ من الطغيانِ والفسادِ
سَوْطَ عَذَابٍ
أيُّ عذابٌ شَدِيدٍ لا يُدركُ غايتُهُ وهو عبارةٌ عمَّا حلَّ بكُلَ منهُم من فنونِ العذابِ التي شُرِحتْ في سائرِ السورِ الكريمةِ وتسميتُه سوطاً للإشارةِ إلى أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى ما أَعدَّ لَهُم في الآخرةِ بمنزلةِ السوطِ عندَ السيفِ والتعبيرُ عن إنزالِه بالصبِّ للإيذانِ بكثرتِه واستمرارِه وتتابعِه فإنه عبارةٌ عن إراقةِ شيءٍ مائعٍ أو جارٍ مجراهُ في السيلانِ كالرملِ والحبوبِ وإفراغِه بشدةٍ وكثرةٍ واستمرارٍ ونسبته إلى السوطِ مع أنه ليسَ من ذلكَ القبيل باعتبر تشبيهِه في نزولِه المتتابعِ المتداركِ على المضروبِ بقطراتِ الشيءِ المصبوبِ وقيلَ السوطُ
(9/155)
 
 
89 سورة الفجر (14 17)
خلطُ الشيءِ بعضَه ببعضٍ فالمَعْنى ما خُلِطَ لهم من أنواعِ العذابِ وقد فسر بالنصيب وبالشدةِ أيضاً لأن السوطَ يطلقُ على كلَ منهُما لغةً فلا حاجةَ حينئذٍ في تشبيهِه بالمصبوبِ إلى اعتبارِ تكررِ تعلقِه بالمعذبِ كما في المَعْنى الأولِ فإن كلَّ واحدٍ من هذه المعاني مما يقبلُ الاستمرارَ في نفسه وقولُه تعالَى
(9/156)
 
 
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد
تعليلٌ لما قبلَهُ وإيذانٌ بأن كفارَ قومِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سيصيبُهم مثلُ ما أصابَ المذكورينَ من العذابِ كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلامُ وقيلَ هو جوابُ القسمِ وما بينهما اعتراضٌ والمرصادُ المكانُ الذي يَترقبُ فيه الرصدُ مِفْعَالٌ منْ رصدَهُ كالميقاتِ من وقتَهُ وهذا تمثيلٌ لإرصادِه تعالى بالعُصاةِ وأنَّهم لا يفوتونَهُ وقولُه تعالى
(9/156)
 
 
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
فَأَمَّا الإنسان
الخ متصلٌ بما قبلَهُ كأنَّه قيلَ إنه تعالَى بصددِ مراقبةِ أحوالِ عبادِه ومجازاتِهم بأعمالِهم خيراً وشراً فأما الإنسانُ فلاَ يهمُّهُ ذلكَ وإنما مطمحُ أنظارِه ومرصدُ أفكارِه الدُّنيا ولذائذِها
إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ
أي عاملَهُ معاملةَ من يبتليهِ بالغِنَى واليسارِ والفاءُ في قولِه تعالى
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
تفسيريةٌ فإنَّ الإكرامَ والتنعيمَ من الابتلاءِ
فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ
أي فضلنِي بما أعطانِي من المال والجاهِ حسَبما كنتُ أستحقهُ ولا يخطُر بباله أنه فضلٌ تفضلَ به عليهِ ليبلوَهُ أيشكرُ أم يكفرُ وهوُ خبرٌ للمبتدأ الذي هُوَ الإنسانُ والفاءُ لما في أمَّا منْ مَعْنى الشرطِ والظرفُ المتوسطُ على نيةِ التأخيرِ كأنَّه قيلَ فأمَّا الإنسانُ فيقولُ ربِي أكرمنِ وقتَ ابتلائِه بالإنعامِ وإنما تقديمُه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ الإكرامَ والتنعيمَ بطريق الابتلاءِ ليتضحَ اختلالُ قولِه المحكيِّ
(9/156)
 
 
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه
أيْ وأما هُو إذا ما ابتلاهُ ربُّه
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم البالغةِ
فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ
ولا يخطر ببالِه أنَّ ذلكَ ليبلوهُ أيصبرُ أم يجزعُ مع أنه ليسَ من الإهانةِ في شيءٍ بل التقتيرُ قد يُؤدِّي إلى كرامةِ الدارينِ والتوسعةُ قد تُفْضِي إلى خسرانِهما وقُرِىءَ فقدَّرَ بالتشديدِ وقرىء أكرمني وأهانني بإثبات الياء وأكرمنْ وأهاننْ بسكون النون في الوقف
(9/156)
 
 
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
كلا
ردع للإنسان عن مقالتِه المحكيةِ وتكذيبٌ له فيهَا في كلتَا الحالتينِ قال ابن عباس رضي الله عنهُمَا المَعْنى لم أبتله بالغنى (سقط 156) عليَّ ولم أبتلِه بالفقرِ لهوانِه عليَّ بلْ ذلكَ لمحضِ القضاءِ والقدرِ وحملُ الردعِ والتكذيبِ إلى قولِه الأخيرِ بعيدٌ وقولُه تعالَى
بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم
انتقالٌ من بيانِ سوءِ أقوالِه إلى بيانِ سوءِ أفعالِه والالتفاتُ إلى الخطابِ للإيذانِ باقتضاءِ ملاحظةِ جنايته السابقةِ لمشافهتِه بالتوبيخِ تشديداً للتقريعِ وتأكيداً للتشنيعِ والجمعُ باعتبار
(9/156)
 
 
89 سورة الفجر (18 23)
مَعْنى الإنسانِ إذِ المرادُ هو الجنسُ أي بَلْ لكم أحوالٌ أشدُّ شَراً مما ذُكِرَ وأدلُّ عَلى تهالُكِكم على المالِ حيثُ يُكْرمكم الله تعالَى بكثرةِ المالِ فلاَ تُؤدونَ ما يلزمكُم فيهِ من إكرامِ اليتيمِ بالمبرةِ به وقُرِىءَ لا يكرمونَ
(9/157)
 
 
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
وَلاَ تَحَاضُّونَ
بحذفِ إحْدَى التاءينِ من تَتَحاضُّون أيْ لاَ يحضُّ بعضُكم بعضاً
على طَعَامِ المسكين
أي على إطعامِه وقُرِىءَ تحاضونَ من المحاضةِ وقُرِىءَ يَحُضُّونَ بالياءِ والتاءِ
(9/157)
 
 
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)
وَتَأْكُلُونَ التراث
أي الميراثَ وأصله وارث
أَكْلاً لَّمّاً
أيْ ذَا لمٍ أي جمعٍ بينَ الحلالِ والحرامِ فإنهم كانُوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون انصباءهم او يأكلون ما جمعَهُ المورثُ من حلالٍ وحرامٍ عالمينَ بذلكَ
(9/157)
 
 
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً
كثيراً معَ حِرص وشرَه وقرىء يحبون بالياءِ
(9/157)
 
 
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
كَلاَّ
ردعٌ لهم عن ذلكَ وقولُه تعالَى
إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً
الخ استئناف جىء به بطريق الوعيدِ تعليلاً للردعِ أيْ إذَا دكتِ الأرضُ دكاً متتابعاً حتى انكسرَ وذهبَ كلُّ ما عَلى وجهِها من جبالٍ وأبنيةٍ وقصورٍ حينَ زُلزلتْ وصَارتْ هباءً مُنبثاً وقيلَ الدكُّ حطُّ المرتفعِ بالبسطِ والتسويةِ فالمَعْنى إذا سُويتْ تسويةً بعدَ تسويةٍ ولم يبقَ على وجهها شيءٌ حَتَّى صارتُ كالصخرةِ الملساءِ وأياً مَا كانَ فهو عبارةٌ عما عرضَ لها عند النفخةِ الثانيةِ
(9/157)
 
 
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
وَجَاء رَبُّكَ
أي ظهرتْ آياتُ قُدرتِه وآثارُ قهرهِ مثلَ ذلكَ بما يظهرُ عندَ حضورِ السلطانِ من أحكامِ هيبتِه وسياستِه وقيلَ جاءَ أمرُهُ تعالَى وقضاؤُه على حذفِ المضافِ للتهويلِ
والملك صَفّاً صَفّاً
أي مُصطفينَ أو ذَوِي صفوفٍ فإنه ينزلُ يومئذٍ ملائكةُ كلِّ سماءٍ فيصطفونَ صفاً بعدَ صفٍ بحسب منازلِهم ومراتبِهم مُحدقينَ بالجِنِّ والإنسِ
(9/157)
 
 
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ
كقولِه تعالَى وَبُرّزَتِ الجحيم قال ابنُ مسعودٍ ومقاتلٌ تُقادُ جهنمُ بسبعينَ ألفَ زمامٍ كل زمام سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يَجرونَها حتى تُنصبَ عن يسارِ العرشِ لها تغيظٌ وزفيرٌ وقد رَواهُ مسلمٌ في صحيحِه عن ابنِ مسعودٍ مَرْفُوعاً
يَوْمَئِذٍ
بدلٌ مِنْ إذَا دكتْ والعاملُ فيهمَا قولُه تعالى
يَتَذَكَّرُ الإنسان
أي يتذكرُ ما فرَّطَ فيهِ بتفاصيلِه بمشاهدةِ آثارِه وأحكامِه أو بمعاينةِ عينِه على أنَّ الأعمالَ تتجسمُ في النشأةِ الآخرةِ فيبرز كلٌّ من الحسناتِ والسيئاتِ بما يناسبُها من الصورِ الحسنة
(9/157)
 
 
89 سورة الفجر (24 27)
والقبيحةِ أَوْ يتعظُ وقولُه تعالى
وأنى لَهُ الذكرى
اعتراضٌ جِىءَ بهِ لتحقيقِ أنه ليسَ يتذكرُ حقيقةً لعرائِه عن الجَدوى بعدمِ وقوعِه فى أوانه وأنَّى خبرٌ مقدمٌ والذكْرَى مبتدأٌ وله متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ أيْ ومنْ أينَ يكونُ له الذكْرَى وقد فاتَ أوانُها وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أيْ وأنَّى له منفعةُ الذكْرَى والاستدلالُ به عَلى عدم وجوبِ قبولِ التوبةِ في دارِ التكليفِ مما لا وجهَ لَهُ على أن تذكّره ليسَ من التوبةِ في شيءٍ فإنَّه عالمٌ بأنَّها إنما تكونُ في الدُّنيا كما يُعربُ عنْهُ قوله تعالى
(9/158)
 
 
يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)
يقول يا ليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى
وهو بدلٌ اشتمالٍ من يتذكرُ أو استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ منْهُ كأنَّه قيلَ ماذَا يقولُ عندَ تذكرِه فقيلَ يقولُ يا ليتني عملتْ لأجل حياتِي هذِه أو وقتَ حياتِي في الدُّنيا أعمالاً صالحةً أنتفعُ بَها اليومَ وليس في هذا التمنِي شائبةُ دَلالةٌ على استقلالِ العبدِ بفعله وإنما الذي يدلُّ عليهِ ذلكَ اعتقادُ كونِه متمكناً من تقديمِ الأعمالِ الصالحةِ وأما أنَّ ذلكَ بمحضٍ قدرتِه أو بخلقِ الله تعالَى عندَ صرفِ قدرتِه الكاسبةِ إليهِ فكَلاَّ وأما ما قيل من أن المحجورَ قد يتمنَّى إن كانَ ممكناً منْهُ فربما يوهُم أنَّ منْ صرفَ قدرتَهُ إلى أحدِ طَرفي الفعلِ يعتقدُ أنه محجورٌ من الطرفِ الآخرِ وليس كذلكَ بل كلُّ أحدٍ جازمٌ بأنَّه لو صرف قدرتَهُ إلى أي طرفٍ كانَ من أفعالِه الاختياريةِ لحصلَ وعلى هذا يدورُ فلكُ التكليفِ وإلزامُ الحجةِ
(9/158)
 
 
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)
فيومئذ
أي يومَ إذ يكونُ ما ذكر من الأحوالِ والأقوالِ
لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
(9/158)
 
 
وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
الهاءُ لله تعالَى أيْ لا يتولَّى عذابَ الله تعالَى ووثاقَهُ أحدٌ سواهُ إذِ الأمرُ كلُّه لهُ أو الانسان أي لا يعذب أحد من الزبانيةِ مثلَ ما يعذبونَهُ وقُرِىءَ الفعلانِ على البناءِ للمفعولِ والضميرُ للإنسان أيضاً وقيل المراد به أُبيّ بن خلف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يُوثقُ بالسلاسلِ والأغلالِ مثلَ وثاقِه لتناهيهِ في الكفرِ والعنادِ وقيلَ لا يحملُ عذابَ الإنسانِ احد كقولِه تعالى {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} وقولُه تعالى
(9/158)
 
 
يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
يا أيتها النفس المطمئنة
حكايةٌ لأحوالِ مَنِ اطمأنَّ بذكرِ الله عزَّ وجلَّ وطاعتِه إثرَ حكايةِ أحوالِ مَنِ اطمأنَّ بالدُّنيَا وصفتْ بالاطمئنانِ لأنَّها تترقَى في معارجِ الأسبابِ والمسبباتِ إلى المبدأِ المؤثرِ بالذاتِ فتستقرُ دونَ معرفتِه وتَستْغني بهِ في وجودِها وسائرِ شؤونِها عن غيرِه بالكليةِ وقيلَ هي النفسُ المطمئنةُ إلى الحقِّ الواصلةُ إلى ثَلَجِ اليقينِ بحيثُ لا يُخالجها شكٌّ مَا وقيلَ هي الآمنةُ التي لا يستفزُهَا خوفٌ ولا حزنٌ ويؤيدُه أنَّه قُرِىءَ يا أيتها النفسُ الآمنةُ المطمئنة أي يقول
(9/158)
 
 
89 سورة الفجر (28 30)
الله تعالَى ذلكَ بالذاتِ كما كلَّم مُوسى عليه السلامُ أو على لسان المَلَكِ عندَ تمامِ حسابِ الناسِ وهو الأظهرُ وقيلَ عندَ البعثِ وقيلَ عند الموتِ
(9/159)
 
 
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
ارجعى إلى رَبّكِ
أي إلى موعدِه أو إلى أمرِه
رَّاضِيَةٍ
بما أوتيتِ من النعيم المقيمِ
مَّرْضِيَّةً
عند الله عز وجل
(9/159)
 
 
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
فادخلى فِى عِبَادِى
في زمرةِ عبادِي الصالحينَ المختصينَ بي
(9/159)
 
 
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
وادخلى جَنَّتِى
معهُم أو انتظمِي في سلكِ المقربينَ واستضييء بأنوارهم فإنَّ الجواهرَ القدسيةَ كالمَرَايا المتقابلة وقيل المرادُ بالنفسِ الروحُ والمَعنْى فادخُلى اجساد عبادي التي فارقت عنْهَا وادخُلِي دارَ ثوابِي وهَذا يؤيدُ كونَ الخطابِ عندَ البعثِ وقُرِىءَ فادخلي في عَبْدِي وقُرِىءَ في جسدِ عَبْدي وقيلَ نزلتْ في حزة بنِ عبد المطلبِ وقيل في حُبيبِ بنِ عديَ رضيَ الله عنهُمَا والظاهرُ العموم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة الفجرِ في الليالِي العشرِ غُفرَ لَهُ ومنْ قرأهَا في سائرِ الأيامِ كانتْ له نوراً يومَ القيامةِ
(9/159)
 
 
90 سورة البلد (1 3)
سورة البلد مكية وآيها عشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
(9/160)
 
 
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)
لا أقسم بهذا البلد
أقسمَ سبحانَهُ بالبلدِ الحرامِ وبَما عُطف عليهِ عَلى أنَّ الإنسانَ خُلقَ ممنوَّاً بمقاساةِ الشدائدِ ومعاناةِ المشاقِّ واعترضَ بينَ القسمِ وجوابِه بقولِه تعالَى
(9/160)
 
 
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد
إمَّا لتشريفهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بجعلِ حلولِه بهِ مناطاً لإعظامِه بالإقسامِ بهِ او للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى تحققِ مضمونِ الجوابِ بذكرِ بعضِ موادِّ المكابدةِ على نهجِ براعةِ الاستهلالِ وبيانِ أنه عليه الصلاةُ والسلام معَ جلالةِ قدرةِ وعظمِ حُرمتِه قد استحلُّوه في هَذا البلدِ الحرامِ وتعرضُوا لَهُ بما لاَ خيرَ فيهِ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ عن شُرَحْبيلَ يحرمونَ أن يقتلُوا بَها صيداً ويعضدُوا بَها شجرةً ويستحلُّونَ إخراجَكَ وقتلكَ أو لتسليتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بالوعدِ بفتحِه عَلى مَعْنى وأنتَ حلٌّ بهِ في المستقبلِ كما في قوله تعالى {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} تصنعُ فيهِ ما تريدُ من القتلِ والأسرِ وقد كانَ كذلكَ حيثُ أحلَّ له عليه الصلاة والسلام مكةَ وفتحَها عليهِ وما فتحتْ عَلى أحدٍ قَبْله ولاَ أحلتْ لهُ فأحلَّ عليه الصَّلاة والسَّلام فيها ما شاءَ وحرَّم ما شاءَ قتلَ ابْنَ خطلٍ وهو متعلِّقٌ بأستارِ الكعبةِ ومقيسَ بْنَ ضبابةَ وغيرَهُما وحرَّمَ دارَ أبي سفيانَ ثمَّ قالَ إنَّ الله حرَّمَ مكةَ يَوْمَ خَلَقَ السمواتِ والأرضَ فهَى حرامٌ إلى أنْ تقومَ الساعةُ لم تحلَّ لأحدٍ قَبْلي ولنْ تحلَّ لأحدٍ بعدي ولم تحلَّ لي إِلاَّ سَاعَةً من نَّهَارٍ فَلا يُعضدُ شجرُهَا ولا يُختلى خَلاها ولا ينفرُ صيدُهَا ولا تحلُّ لُقطتُها إلا لمنشدٍ فقالَ العباسُ يا رسولَ الله إلا الإِذْخِرَ فإنَّه لقيونِنا وقبورِنا وبيوتِنا فقال عليه الصلاة والسلام إلاَّ الإذخرَ
(9/160)
 
 
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)
وَوَالِدٍ
عطفٌ على هَذا البلدِ والمرادُ بهِ إبراهيمُ وبقولِه تعالَى
وَمَا وَلَدَ
إسماعيلُ والنبيُّ صلواتُ الله عليهمْ أجمعينَ حسبَما ينبىءُ عنْهُ المعطوفُ عليهِ فإنُه حرمُ إبراهيمَ ومنشأُ إسماعيلَ ومسقطُ رأسِ رسولِ الله عليهمُ الصلاةُ والسلامُ والتعبيرُ عنهمَا بَما دُونَ مَنْ للتفخيمِ والتعظيمِ كتنكيرِ والدٍ وإيرادُهم بعنوانِ الولادِ ترشيحٌ لمضمون الجواب ايماء إلى أنَّه متحققٌ في حالتي الوالدية والولدية
(9/160)
 
 
90 سورة البلد (4 11)
وقيلَ آدمُ عليهِ السلامُ ونسلُه وهُو أنسبُ لمضمونِ الجوابِ من حيثُ شمولُه للكُلِّ إلا أنَّ التفخيمَ المستفادَ من كلمةِ مَا لا بُدَّ فيهِ من اعتبارِ التغليبِ وقيلَ وكُلُّ والدٍ وولدهُ
(9/161)
 
 
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ
أي تعبٌ ومشقةٌ فإنَّه لا يزالُ يُقاسِي فنونَ الشدائدِ منْ وقتِ نفخ الروح الى نَزْعِها وما وراءَهُ يقالُ كبد الرجل كبدا إذَا وجعتْ كبدُه وأصلُه كبدَهُ إذَا أصابَ كبدَهُ ثم اتْسعَ فيهِ حَتَّى استمع في كُلِّ نصبٍ ومشقةٍ ومنهُ اشتقتْ المكابدةُ كما قيلَ كبتَهُ بمعنى أهلَكُه وهو تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم مما كانَ يكابدُه من كفارِ قريشٍ والضميرُ في قولِه تعالَى
(9/161)
 
 
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
أَيَحْسَبُ
لبعضِهم الذي كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يكابدُ منهم ما يكابد كالوليدِ بنِ المغيرةِ وأضرابِه وقيلَ هُوَ أبُو الأشدِّ بن كلدة الجمحي وكان شديدَ القوةِ مغتراً بقوتِه وكان يبسطُ له الأديمُ العكاظيُّ فيقومُ عليهِ ويقولُ منْ أزالَني عنْهُ فلَهُ كذا فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ولا تزلُّ قدماهُ أيْ أيظنُّ هَذا القويُّ الماردُ المتضعفُ للمؤمنينَ
أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
إنْ مخففةٌ منْ أنَّ واسمها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ أيْ أيحسبُ أنَّه لنْ يقدرَ عَلى الانتقامِ منهُ أحدٌ
(9/161)
 
 
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً
يريدُ كثرةَ ما أنفقَهُ فيَما كانَ أهلُ الجاهليةِ يسمونَها مكارمَ ويدعونَها معاليَ ومفاخرَ
(9/161)
 
 
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ
حينَ كانَ ينفقُ وأنه تعالَى لا يسألُه عنْهُ ولا يجازيِه عليهِ
(9/161)
 
 
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)
أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ
يبصرُ بهمَا
(9/161)
 
 
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)
وَلِسَاناً
يترجمُ بهِ عنْ ضمائره
وشفتين
يستربهما فاهُ ويستعينُ بهَما على النطقِ والأكلِ والشربِ وغيرِها
(9/161)
 
 
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
وهديناه النجدين
أيْ طَريقي الخيرِ والشرِّ أو الثديينِ وأصلُ النجدِ المكانُ المرتفعُ
(9/161)
 
 
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
فَلاَ اقتحم العقبة
أيْ فَلمْ يشكرْ تلكَ النعمَ الجليلةَ بالأعمالِ الصالحةِ وعبرَ عنها
(9/161)
 
 
90 سورة البلد (12 20)
بالعقبةِ التي هيَ الطريقُ في الجبل لصعوبة سلوكِها وقوله تعالى
(9/162)
 
 
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة
أيْ أيُّ شيءٍ أعلمكَ ما اقتحامُ العقبةِ لزيادةِ تقريرِها وكونِها عندَ الله تعالَى بمكانةٍ رفيعةٍ
(9/162)
 
 
فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
فَكُّ رَقَبَةٍ
أيْ هُو إعتاقُ رقبةٍ
(9/162)
 
 
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ
أيْ مجاعةٌ
(9/162)
 
 
يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)
يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ
أيْ قَرابةٌ
(9/162)
 
 
أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ
أي افتقارٌ وحيثُ كانَ المرادُ باقتحامِ العقبةِ هذهِ الأمورَ حسُنَ دخولُ لاَ عَلى الماضِي فإنَّها لا تكادُ تقعُ إلا مكررةً إذِ المَعْنى فلا فكَّ رقبةً ولا أطعَم يتيماً أو مسكيناً والمسغبةُ والمقربةُ والمتربةُ مفعلاتٌ من سغِبَ إذا جاعَ وقرُبَ منْ النسبِ وترِبَ إذا افتقرَ وقُرِىءَ فكَّ رقبةٍ أوْ أطعمَ على الإبدالِ من اقتحمَ
(9/162)
 
 
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمنوا
عطفٌ عَلى المنفيِّ بَلا وثم للدلالة على تراخي رتبةِ الإيمانِ ورفعةِ محلِّه لاشتراط جميعِ الأعمالِ الصالحةِ بهِ
وَتَوَاصَوْاْ بالصبر
عطفٌ على آمنُوا أيْ أوصَى بعضُهم بعضاً بالصبر على طاعة الله
وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة
بالرحمةِ عَلى عبادهِ أو بموجباتِ رحمتِه من الخيراتِ
(9/162)
 
 
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
أولئك
إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز صلتِه وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذانِ ببُعد درجتِهم في الشرفِ والفضلِ أيْ أولئكَ الموصوفونَ بالنعوتِ الجليلةِ المذكورةِ
أصحاب الميمنة
أي اليمينُ أو اليمنُ
(9/162)
 
 
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
والذين كفروا بآياتنا
بما نصبنَاهُ دليلاً على الحقِّ من كتابٍ وحجة أو بالقرآنِ
هُمْ أصحاب المشأمة
أي الشمالِ أو الشؤمِ
(9/162)
 
 
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ
مطبقةٌ من آصدتُ البابَ إذا
(9/162)
 
 
91 سورة الشمس (1 6)
أطبقتهُ وأغلقتَهُ وقُرىءَ مُوصدةٌ بغيرِ همزةٍ منْ أوصدتُهُ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة البلدِ أعطاهُ الله تعالَى الأمانَ من غضبِه يومَ القيامة
سورة الشمس مكية وآيها خمس عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
(9/163)
 
 
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
والشمس وضحاها
أي ضوئِها إذَا أشرقتْ وقام سلطانُها وقيل الضَّحوةُ ارتفاعُ النهارِ والضُّحى فوقَ ذلكَ والضحاءُ بالفتحِ والمدِّ إذا امتدَّ النهارُ وكادَ ينتصفُ
(9/163)
 
 
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)
والقمر إِذَا تلاها
بأنْ طلعَ بعد غروبِها وقيل إذا تلا طلوعُه طلوعَها وقيلَ إذا تلاهَا في الاستدارةِ وكمال النُّورِ
(9/163)
 
 
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)
والنهار إِذَا جلاها
أي جَلَّى الشمسَ فإنها تتجلَّى عند انبساطِ النهارِ فكأنه جلاَّها مع أنَّها التي تبسطُه أو جلَّى الظلمةَ أو الدُّنيا أو الأرضَ وإن لم يجْرِ لها ذكر للعلم بها
(9/163)
 
 
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
والليل إِذَا يغشاها
أي الشمسَ فيغطي ضوؤها أو الآفاقَ أو الأرضَ وحيثُ كانت الواواتُ العاطفةُ نوائبَ للواو الأُولى القسميةِ القائمةِ مقامَ الفعلِ والباءُ سادَّةً مسدَّهما معاً في قولكَ أقسمُ بالله حققْن أن يعمَلن عملَ الفعلِ والجارّ جميعاً كما تقول ضرب زيد عَمراً وبكرٌ وخالدا
(9/163)
 
 
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)
والسماء وَمَا بناها
أيْ ومَنْ بنَاها وإيثارُ مَا على مَنْ لإرادةِ الوصفيةِ تفخيماً كأنَّه قيلَ والقادرِ العظيمِ الشأنِ الذي بناهَا وجعلَها مصدريةً مخلٌّ بالنظمِ الكريمِ وكذا الكلامُ في قولِه تعالَى
(9/163)
 
 
وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)
والأرض وَمَا طحاها
أي بسطَها من كلِّ جانبٍ كدحاها
(9/163)
 
 
91 سورة الشمس (7 13)
(9/164)
 
 
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
أي أنشأَها وأبدعَها مستعدةً لكمالاتِها والتنكيرُ للتفخيمِ على أنَّ المرادَ نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ أو للتكثيرِ وهو الأنسبُ للجوابِ
(9/164)
 
 
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
أي افهمها اياهما وعرفها حالهما من الحُسْنِ والقُبحِ وما يؤدي إليه كلٌّ منهُمَا ومكَّنها من اختيارِ أيِّهما شاءتْ وتقديمُ الفجورِ لمراعاةِ الفواصلِ
(9/164)
 
 
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها
أيْ فازَ بكلِّ مطلوبٍ ونجَا من كلِّ مكروهٍ مَنْ أنماهَا وأعلاها بالتقوى وهو جوابُ القسمِ وحذفُ اللامِ لطولِ الكلامِ وتكريرُ قَدْ في قولِه تعالَى
(9/164)
 
 
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
وَقَدْ خَابَ مَن دساها
لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه والإيذانِ بتعلقِ القسمِ بهِ أيضاً أصالةً أيْ خسرَ مَنْ نقصَها وأخفَاها بالفجورِ وأصلُ دَسَّى دَسَّسَ كتقضَّى وتَقْضَّضَ وقيلَ هو كلامٌ تابعٌ لقولِه تعالى {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} بطريقِ الاستطرادِ وإنما الجوابُ ما حذفَ تعويلاً على دلالة قولِه تعالى
(9/164)
 
 
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا
عليه كأنه قيل ليدمد من الله تعالَى على كفارِ مكةَ لتكذيبِهم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كما دمدمَ على ثمودَ لتكذيبِهم صالحاً عليهِ السلامُ وهو على الأولِ استئنافٌ واردٌ لتقريرِ مضمونِ قولِه تعالى {وَقَدْ خَابَ من دساها} والطَّغوى بالفتحِ الطُّغيانُ والباءُ للسببيةِ أيْ فعلتِ التكذيبَ بسببِ طُغيانِها كما تقولُ ظلمنِي بجراءتِه على الله تعالى أو صلةٌ للتكذيبِ أيْ كذَّبتْ بمَا او عدت بهِ منَ العذابِ ذي الطَّغوى كقولِه تعالَى {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} وقُرِىءَ بطُغواهَا بضم الطاء وهو أيضاً مصدرٌ كالرُّجعى
(9/164)
 
 
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)
إِذِ انبعث أشقاها
منصوبٌ بكذبتْ أو بالطَّغوى أيْ حينَ قامَ أَشْقى ثمودٍ وهو قدار بن سلف أو هُو ومَنْ تصدَّى معه لعقرِ الناقةِ من الأشقياء فان أفعل التفصيل إذا أضيفَ يصلُح للواحدِ والمتعددِ والمذكرِ والمؤنثِ وفضلُ شقاوتِهم على مَنْ عداهُم لمباشرتِهم العقَر معَ اشتراكِ الكل في الرضابه
(9/164)
 
 
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
فَقَالَ لَهُمُ
أي لثمودَ
رَسُولِ الله
أي صالحٌ عليه السلامُ عبرَ عنه بعنوانِ الرسالةِ إيذاناً بوجوبِ طاعتِه وبياناً لغايةِ عُتوهم وتمادِيهم في الطغيانِ وهو السرُّ في إضافةِ الناقةِ إلى الله تعالَى في قولِه تعالى
نَاقَةُ الله
(9/164)
 
 
91 سورة الشمس (14 15)
أي ذرُوا ناقةَ الله
وسقياها
ولا تذودُوها عنها في نوبتها
(9/165)
 
 
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
فَكَذَّبُوهُ
أي في وعيدِه بقولِه تعالَى {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد جوز أن يكون ضميرُ لهُم للأشقينِ ولا يلائمهُ ذكرُ سقياهَا
فَعَقَرُوهَا
أي الأشقى والجمعُ على تقديرِ وحدتِه لرِّضا الكلِّ بفعلِه وقال قَتَادةُ بلغنا أنَّه لم يعقرْها حتى تابعَه صغيرُهم وكبيرُهم وذكرُهم وأنثاهُم وقال الفرَّاءُ عقرَها اثنانِ والعربُ تقولُ هذانِ أفضلُ الناسِ
فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
فأطبقَ عليهم العذابَ وهو من تكريرِ قولِهم ناقة مدمدمة إذا ألبسَها الشحمُ
بِذَنبِهِمْ
بسببِ ذنبِهم المحكيِّ والتصريحُ بذلكَ مع دِلالة الفاءِ عليهِ للإنذارِ بعاقبةِ الذنبِ ليعتبرَ به كلُّ مذنبٍ
فَسَوَّاهَا
أي الدمدمةَ بينهُم لم يفلتْ منهُم أحدٌ من صغيرٍ وكبيرٍ أو فسوَّى ثمودَ بالأرضِ أو سوَّاها في الهلاكِ
(9/165)
 
 
وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
وَلاَ يَخَافُ عقباها
أي عاقبتَها وتبعتَها كما يخافُ سائرُ المعاقبينَ من الملوكِ فيبقِي بعضَ الإبقاءِ وذلك أنَّه تعالَى لا يفعلُ فعلاً إلاَّ بحقَ وكلُّ من فعلَ بحق فانه لا يخافُ عاقبةَ فعلِه وإنْ كانَ من شأنِه الخوفُ والواوُ للحالِ أو للاستئنافِ وقُرِىءَ فَلاَ يخافُ وقرىء لم يخفْ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ الشمسِ فكأنما تصدقَ بكلِّ شيءٍ طلعتْ عليهِ الشمسُ والقمرُ
(9/165)
 
 
92 سورة الليل (1 8)
سورة الليل مكية وآيها احدى وعشرون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم
(9/166)
 
 
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)
والليل إِذَا يغشى
أي حينَ يغشَى الشمسَ كقولِه تعالَى {والليل إِذَا يغشاها} أو النهارَ أو كلَّ ما يواريِه بظلامِه
(9/166)
 
 
وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)
والنهار إِذَا تجلى
ظهرَ بزوالِ ظلمةِ الليل أو تبينَ وتكشفَ بطلوعِ الشمسِ
(9/166)
 
 
وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى
أي والقادرِ العظيمِ القدرةِ الذي خلقَ صنفيَّ الذكرِ والأنثى من كل ماله توالدٌ وقيلَ هُما آدمُ وحواءُ وقُرىءَ والذكرِ والأُنثْى وقُرَىءَ وَالذي خلقَ الذكرَ والأُنْثى وقيلَ مَا مصدريةٌ
(9/166)
 
 
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى
جوابُ القسمِ وشَتَّى جمع شتيتٍ أي أنَّ مساعيَكُم لأشتاتٍ مختلفةٍ وقولُه تعالى
(9/166)
 
 
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى
 
وَصَدَّقَ بالحسنى
الخ تفصيلٌ لتلك المساعِي المشتتةِ وتبيينٌ لأحكامِها أي فأمَّا من أعطَى حقوقَ مالِه واتقى محارمَ الله تعالى التي نهىَ عنها وصدَّق بالخصلةِ الحُسْنى وهي الإيمانُ أو بالكلمةِ الحُسْنى وهي كلمةُ التوحيدِ أو بالملةِ الحُسْنى وهي ملةُ الإسلامُ أو بالمثوبةِ الحُسْنى وهي الجنةُ
(9/166)
 
 
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)
فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى
فسنهيئُه للخصلةِ التي تؤدِي إلى يُسرٍ وراحةٍ كدخولِ الجنةِ ومباديِه من يسرَ الفرسَ للركوبِ إذا أسرجَها وألجمَها
(9/166)
 
 
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)
وَأَمَّا مَن بَخِلَ
أي بمالِه فلم يبذلْه في سبيل الخير
(9/166)
 
 
92 سورة الليل (9 16)
واستغنى
أي زهدَ فيما عنده تعالَى كأنَّه مستغنٍ عنْهُ فلم يتَّقِهِ أو استغنى بشهواتِ الدُّنيا عن نعيمِ الآخرةِ
(9/167)
 
 
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)
وَكَذَّبَ بالحسنى
أي ما ذكرَ من المعانِي المتلازمِة
(9/167)
 
 
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى
أي للخصلةِ المؤديةِ إلى العسرِ والشدةِ كدخولِ النارِ ومقدماتِه لاختيارِه لَها ولعلَّ تصديرَ القسمينِ بالإعطاءِ والبخلِ مع أنَّ كلاً منهما أدْنى رتبةً مما بعدهُما في استتباعِ التيسير لليسرى والتيسير للعسرى للإيذانِ بأنَّ كلاً منهما أصل فيما ذكر لاتتمة لما بعدهُما من التصديقِ والتَّقوى والتكذيبِ والاستغناءِ وتفسيرُ الأولِ بإعطاءِ الطاعةِ والثاني بالبخل بما امر به مع كونِه خلافَ الظاهرِ يأباهُ قولُه تعالَى
(9/167)
 
 
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
وَمَا يُغْنِى عَنْهُ
أيْ ولا يُغنِي أو أيُّ شيءٍ يُغني عنْهُ
مَالَهُ
الذي يبخلُ به
إِذَا تردى
أي هلكَ تفعَّلَ من الرَّدَى الذي هو الهلاكُ أو تردَّى في الحفرةِ إذا قُبرَ أو تردَّى في قعرِ جهنمَ
(9/167)
 
 
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)
إِنَّ عَلَيْنَا للهدى
استئنافٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ أيْ إنَّ علينا بموجبِ قضائِنا المبنيِّ على الحِكَم البالغةِ حيث خلقنَا الخلقَ للعبادةِ أن نبينَ لهم طريقَ الهُدى وما يؤدِّي إليهِ من طريقِ الضلالِ وما يؤدِّي إليه وقد فعلنَا ذلكَ بما لا مزيدَ عليهِ حيثُ بيَّنا حالَ من سلكَ كلا الطريقينِ ترغيبا وترهيبا ومن ههنا تبينَ أنَّ الهدايةَ هي الدِلالة على ما يوصِل إلى البغيةِ لا الدلالةُ الموصلةُ إليها قطعاً
(9/167)
 
 
وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)
وَإِنَّ لَنَا لَلأَخِرَةَ والأولى
أي التصرف الكلي فيهما كيفما نشاءُ فنفعلُ فيهما ما نشاءُ من الأفعالِ التي من جملتها ما وعدنَا من التيسيرِ لليُسرى والتيسيرِ للعُسرى وقيلَ إن لنا كلَّ ما في الدُّنيا والآخرةِ فلا يضرنا تركُكُم الاهتداءَ بهدانَا
(9/167)
 
 
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى
بحذفِ إحْدى التاءينِ من تتلظَّى أي تتلهبُ وقِرِىءَ على الأصلِ
(9/167)
 
 
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)
لا يصلاها
صليا لازما
إِلاَّ الأشقى
إلا الكافرُ فإنَّ الفاسقَ لا يصلاهَا صلياً لازماً وقد صرَّحَ به قولُه تعالى
(9/167)
 
 
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
الذى كَذَّبَ وتولى
أي كذَّبَ بالحقِّ وأعرضَ عن الطاعة
(9/167)
 
 
92 سورة الليل (17 21)
(9/168)
 
 
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)
وَسَيُجَنَّبُهَا
أي سَيُبعدُ عنْها
إلا تقى
المبالغُ في اتقاءِ الكفرِ والمعاصِي فلا يحومُ حولَها فضلاً عن دخولِها أو صليِها الأبديِّ وأما من دُونَهُ ممن يتقي الكفرَ دُونَ المعاصِي فلا يُبعد عنْها هذا التبعيدَ وذلكَ لا يستلزمُ صليها بالمَعْنى المذكورِ فلا يقدحُ في الحصرِ السابقِ
(9/168)
 
 
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
الذى يُؤْتِى مَالَهُ
يُعْطيه ويصرفُهُ في وجوهِ البرِّ والحسناتِ وقولُه تعالى
يتزكى
إما بدلٌ من يُؤتِي داخلٌ في حكمِ الصلةِ لا محلَّ لهُ أو في حيزِ النصبِ على أنه حالٌ من ضميرِ يُؤتِي أي يطلبُ أن يكونَ عند الله تعالى زاكيا ناميا لا يريدون بهِ رياءً ولا سمعةً
(9/168)
 
 
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)
وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى
استئنافٌ مقررٌ لكونِ إيتائِه للتزكِّي خالصاً لوجهِ الله تعالى أي ليسَ لأحدٍ عنده نعمةٌ من شأنِها أنْ تُجزى وتكافأَ فيقصدَ بإيتاءِ ما يُؤتى مجازاتِها وقولُه تعالى
(9/168)
 
 
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى
استثناءٌ منقطعٌ من نعمةٍ وقُرِىءَ بالرفعِ على البدلِ من محلِّ نعمةٍ فإنَّه الرفعُ إما على الفاعليةِ أو على الابتداءِ ومِنْ مزيدةٌ ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً لهُ لأنَّ المَعْنى لا يُؤتِي مالَه إلا ابتغاء وجه ربه لا لمكافأةِ نعمةٍ والآياتُ نزلتْ في حقِّ أبِي بكرٍ الصدِّيقِ رضيَ الله عنه حينَ اشترَى بلالاً في جماعةٍ كان يؤذيهم المشركونَ فأعتقُهم ولذلكَ قالُوا المراد بالأشقى او جهلٍ أو أميةُ بنُ خلفٍ وقد رَوَى عطاءٌ والضحاكُ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنه عذَّبَ المشركونَ بلالاً وبلالٌ يقولُ أَحَدٌ أَحَدٌ فمرَّ به النبي عليه الصلاةَ والسلامُ فقالَ أَحَدٌ يعني الله تعالَى ينجيكَ ثم قال لأبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ إنَّ بلالاً يعذبُ في الله فعرفَ مرادَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ فانصرفَ إلى منزلِه فأخذ رطلاً من ذهبٍ ومَضَى به إلى أميةَ بنِ خلفٍ فقالَ له أتبيعُنِي بلالاً قالَ نعَم فاشتراهُ فأعتقَهُ فقالَ المشركونَ ما أعتقَهُ أبُو بكرٍ إلا ليدٍ كانتْ له عندَهُ فنزلتْ وقولُه تعالَى
(9/168)
 
 
وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
وَلَسَوْفَ يرضى
جوابُ قَسَمٍ مضمرٍ أيْ وبالله لسوفَ يَرْضَى وهو وعدٌ كريمٌ بنيلِ جميعَ ما يبتغيهِ على أكملِ الوجوهِ وأجملِها إذْ بهِ يتحققُ الرِّضَا وقُرِىءَ يُرْضَى مبنياً للمفعولِ من الإرضاءِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الليل أعطاه الله تعالى حَتَّى يَرْضَى وعافاهُ من العُسرِ ويسر له اليسر
(9/168)
 
 
93 - سورة الضحى (1 4)
سورة الضحى مكية وآيها احدى عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
(9/169)
 
 
وَالضُّحَى (1)
والضحى
هُوَ وقتُ ارتفاعِ الشمسِ وصدرُ النهارِ قالُوا تخصيصُهُ بالإقسامِ بهِ لأنَّها الساعةُ التي كلَّم فيهَا مُوسَى عليهِ السلامُ وألقَى فيهَا السحرةُ سُجدّاً لقولِه تعالَى {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} وقيلَ أريدَ بهِ النهارُ كمَا في قولِه تعالَى {أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} في مقابلةِ بياتاً
(9/169)
 
 
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
والليل
أيْ جِنْسِ الليلِ
إِذَا سجى
أيْ سكنَ أهلُه أو ركدَ ظلامُه من سَجَا البحرُ سَجْواً إذَا سكنَتْ أمواجُهُ وَنُقِلَ عن قتادةَ ومقاتلٍ وجعفرٍ الصَّادقِ أنَّ المرادَ بالضُّحَى هُوَ الضُّحى الذي كلَّمَ الله تعالَى فيهِ مُوسَى عليهِ السلامُ وبالليلِ ليلةُ المعراجِ وقولُه تعالَى
(9/169)
 
 
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ
جوابُ القسمِ أيْ ما قطعكَ قطعَ المودعِ وقُرِىءَ بالتخفيفِ أيْ ما ترككَ
وَمَا قلى
أيْ ومَا أبغضكَ وحَذفُ المفعولِ إما للاستغناءِ عنْهُ بذكرِهِ من قبلُ أو للقصدِ إلى نفي صدورِ الفعلِ عنْهُ تعالَى بالكليةِ مع أنَّ فيهِ مراعاةً للفواصلِ رُوي أنَّ الوحيَ تأخرَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أياماً لتركِه الاستثناءَ كما مَرَّ في سُورةِ الكهفِ أو لزجرِهِ سائلاً ملحاً فقالَ المشركونَ إنَّ محمداً ودعَهُ ربُّهُ وقلاَهُ فنزلتْ رَدًّا عليهم وتَبْشيراً لهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بالكرامةِ الحاصلةِ والمترقبةِ كما يُشعِرُ به إيرادُ اسمِ الربِّ المنبىءِ عنِ التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلامُ وحيثُ تضمنَ ما سبقَ من نفي التوديعِ والقِلَى أنَّه تعالى يواصلُه بالوَحْي والكرامةِ في الدُّنيا بشرهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بأنَّ مَا سيؤتيه في الآخرةِ أجلُّ وأعظمُ من ذلكَ فقيلَ
(9/169)
 
 
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى
لما أنَّها باقيةٌ صافيةٌ عنِ الشوائبِ على الإطلاقِ وهذه فانيةٌ مشوبةٌ بالمضارِّ وما أُوتي عليهِ الصَّلاة والسَّلام من شرفِ النبوةِ وإنْ كانَ مما لا يعادلُه شرفٌ ولاَ يدانيه فضل
(9/169)
 
 
93 سورة الضحى (5 7)
لكنَّهُ لا يخلُو في الدُّنيا من بعضِ العوارضِ الفادحةِ في تمشيةِ الأحكامِ معَ أنَّه عندَمَا أعدَّ له عليه الصلاة والسلام في الآخرةِ من السبقِ والتقدمِ على كافةِ الأنبياءِ والرسلِ يومَ الجمعِ يَوْمَ يقوم الناس لرب العالمين وكونُ أمتِه شهداءَ على سائرِ الأممِ ورفعُ درجاتِ المؤمنينَ وإعلاءُ مراتبِهم بشفاعتِه وغيرُ ذلكَ من الكراماتِ السَّنيةِ التي لا تحيطُ بهَا العبارةُ بمنزلةِ بعضِ المبادىء بالنسبةِ إلى المَطَالبِ وقيلَ المرادُ بالآخرةِ عاقبةُ أمرِه عليه الصلاة والسلام أي لنهايةُ أمركَ خيرٌ من بدايتِه لا تزالُ تتزايدُ قوةً وتتصاعدُ رفعةً وقولُه تعالَى
(9/170)
 
 
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى
عِدَةٌ كريمةٌ شاملةٌ لمَا أعطاهُ الله تعالَى في الدُّنيا من كمالِ النفسِ وعلومِ الأولينَ والآخرينَ وظهورِ الأمرِ وإعلاءِ الدينِ بالفتوحِ الواقعةِ في عصرِه عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ وفي أيامِ خلفائِه الراشدينَ وغيرِهم من الملوكِ الإسلاميةِ وفشُوِّ الدعوةِ والإسلامِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها ولما ادخرَ لهُ من الكراماتِ التي لا يعلمُها إلا الله تعالَى وقدْ أنبأ ابنَ عباسٍ رضيَ الله عنهُما عن شَمَّةٍ منهَا حيثُ قالَ له عليه الصلاة والسلام في الجنة الف قصرمن لؤلؤٍ أبيضَ ترابُه المسكُ واللامُ للابتداءِ دخلتِ الخبرَ لتأكيدِ مضمونِ الجُملةِ والمبتدأُ محذوفٌ تقديرُهُ ولأنتَ سوفَ يُعطيكَ الخ لا للقسمِ لأنَّها لا تدخلُ على المضارعِ إلاَّ معَ النونِ المؤكدةِ وجمعُها معَ سوفَ للدلالةِ على أنَّ الإعطاءَ كائنٌ لا محالةَ وإنْ تراخَى لحكمةٍ وقيلَ هيَ للقسمِ وقاعدةُ التلازمِ بينَها وبينَ نونِ التأكيدِ قد استثنى النجاة منهَا صورتينِ إحداهُمَا أنْ يفصلَ بينَها وبينَ الفعلِ بحرفِ التنفيسِ كهذه الآية وكقولِه والله لسأعطيكَ والثانيةُ أن يُفصلَ بينهما بمعمولِ الفعلِ كقولِه تعالَى {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} وقال أبُو عليَ الفارسيُّ ليستْ هذه اللامُ هيَ التي في قولِكَ إنَّ زيداً لقائمٌ بلْ هيَ التي في قولِكَ لأقومَنَّ ونابتْ سوفَ عن إحدَى نونِي التأكيدِ فكأنَّه قيلَ وليعطينكَ وكذلكَ اللامُ في قولِه تعالَى وَلَلأَخِرَةُ الخ وقولُه تعالَى
(9/170)
 
 
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فاوى
تعديدٌ لمَا أفاضَ عليه عليه الصلاة والسلام من أول أمرِه إلى ذلكَ الوقتِ من فنونِ النعماءِ العظامِ ليستشهدَ بالحاضر الموجودِ على المترقبِ الموعودِ فيطمئنَّ قلبُه وينشرحَ صدرُهُ والهمزةُ لإنكارِ النفي وتقريرِ المنفي على أبلغ وَجْهٍ كأنَّه قيلَ قد وجدكَ الخ والوجودُ بمعنى العلمِ ويتيماً مفعولُه الثَّانِي وقيلَ بمعنى المصادقةِ ويتيماً حال من مفعولِه رُويَ أنَّ أباهُ ماتَ وهُوَ جنينٌ قد أتتْ عليهِ ستةُ أشهرٍ وماتتْ أمُّهُ وهوَ ابنُ ثمانِ سنينَ فكفلَهُ عَمُّه أبُو طالبٍ وعطّفه الله عليه فأحسنَ تربيتَهُ وذلكَ إيواؤُهُ وقُرِىءَ فَأَوَى وهُوَ إمَّا من أواهُ بمعنى آواهُ أو من أوَى لَهُ إذَا رَحِمَهُ وقولُه تعالَى
(9/170)
 
 
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
وَوَجَدَكَ ضَالاًّ
عطفٌ على ما يقتضيهِ الإنكارُ السابقُ كمَا أُشير إليهِ أو على المضارعِ المنفيِّ بلمْ داخلٌ في حُكمِه كأنَّهُ قيلَ أمَا وجدكَ يتيماً فآوى ووجدكَ غافلاً عنِ الشرائعِ التي لا تهتدِي
(9/170)
 
 
سورة الضحى آية 8 11
إليهَا العقولُ كمَا في قوله تعالى {كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب} وقيلَ ضلَّ في صباهُ في بعضِ شعابِ مكةَ فردَّه أبُو جهلٍ إلى عبدِ المطلبِ وقيلَ ضَلَّ مرةً أُخرَى وطلبُوه فلم يجدُوه فطافَ عبدُ المطلبِ بالكعبةِ سبعاً وتضرعَ إلى الله تعالَى فسمعُوا منادياً ينادِي من السماءِ يا معشرالناس لا تضجُّوا فإنَّ لمحمدٍ ربًّا لا يخذلُهُ ولا يضيعُهُ وإنَّ محمداً بوادِي تهامةَ عندَ شجرِ السَّمُرِ فسارَ عبدُ المطلبِ وورقةُ بنُ نوفلٍ فإذَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم قائمٌ تحتَ شجرةٍ يلعبُ بالأغصانِ والأوراقِ وقيلَ أضلتهُ مرضعتُه حليمةُ عندَ بابِ مكةَ حينَ فطمتْهُ وجاءتْ بهِ لتردُه على عبدِ المطلبِ وقيلَ ضَلَّ في طريقِ الشامِ حينَ خرجَ بهِ أبُو طالبٍ
يُروى أنَّ إبليسَ أخذَ بزمامِ ناقتِه في ليلةٍ ظلماء فعدلَ بهِ عن الطريقِ فجاءَ جبريلُ عليهِ السلامُ فنفخ إبليس نفخةً وقع منهَا إلى أرضِ الهندِ ورَدَّهُ إلى القافلةِ {فهدى} فهداكَ إلى مناهجِ الشرائعِ المنطويةِ في تضاعيفِ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتابِ المبينِ وعلمكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أو أزالَ ضلالكَ عن جدكَ أو عمكَ
(9/171)
 
 
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
{وَوَجَدَكَ عَائِلاً} أيْ فقيراً وقُرِىءَ عَيُلاً وقُرِىءَ عديماً {فأغنى} فأغناكَ بمالِ خديجةَ أو بمالٍ حصلَ لكَ من ربحِ التجارةِ أو بمال أفاءَ عليكَ من الغنائمِ قال عليه الصلاة والسلام جُعِلَ رِزْقِي تحتَ ظلِّ رُمْحِي وقيلَ قنعكَ وأَغْنى قلبكَ
(9/171)
 
 
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
{فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} فلا تغلبْهُ على مالِه وقالَ مجاهدٌ لا تَحْتقرْ وقُرىءَ فلاَ تَكْهَرْ أيْ فلا تعبسْ في وجهِه
(9/171)
 
 
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
{وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ} فلا تزجُرْ وَلاَ تُغلظْ لهُ القولَ بلْ رُدَّهُ ردًّا جميلاً قالَ أبراهيمُ بن أدهم نعم القول السؤّالُ يحملونَ زادنَا إلى الآخرةِ وقالَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ السائلُ يريدُ الآخرةَ يجيءُ إلى بابِ أحدِكُم فيقولُ أتبعثونَ إلى أهليكُم بشيءٍ وقيل المراد بالسائل ههنا الذي يسألُ عنِ الدينِ
(9/171)
 
 
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ} بشكرِهَا وإشاعتِها وإظهارِ آثارِها وأحكامِها أريدَ بهَا ما أفاضَهُ الله تعالَى عليهِ الصلاةُ والسلامُ من فنونِ النِّعمِ التي من جُملتِها النعمُ المعدودةُ الموجودةُ منهَا والموعودةُ والمَعْنى أنكَ كنتَ يتيماً وضالاًّ وعائلاً فآواكَ الله تعالَى وهداكَ وأغناكَ فمهمَا يكُنْ من شيءٍ فلا تنسَ حقوقَ نعمةِ الله تعالَى عليكَ في هذه الثلاثِ واقتدِ بالله تعالَى وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إليكَ فتعطفَ على اليتيمِ فآوِه وترحمْ على السائلِ وتفقدهُ بمعروفكَ ولا تزجرهُ عن بابكَ وحدثْ بنعمةِ الله كُلِّها وحيثُ كانَ معظمُها نعمةَ النبوةِ فقدِ اندرجَ تحتَ الأمرِ هدايته عليه الصلاة والسلام للضلالِ وتعليمُه للشرائعِ والأحكامِ حسبمَا هداهُ الله عزَّ وجلَّ وعلمَهُ من الكتابِ والحكمة
عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة الضحى جعلَهُ الله تعالَى فيمنْ يرضَى لمحمدٍ أنْ يشفعَ لهُ وعشرُ حسناتٍ يكتبُهَا الله لَهُ بعددِ كُلِّ يتيم وسائل
(9/171)
 
 
سورة الشرح مكية وهي ثمان آيات
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم
(9/172)
 
 
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} لما كانَ الصدرُ محلاًّ لأحوالِ النفسِ ومخزناً لسرائرِها من العلومِ والإدراكاتِ والملكاتِ والإراداتِ وغيرِها عبرَ بشرحِه عن توسيعِ دائرةِ تصرفاتِها بتأييدِها بالقوةِ القدسيةِ وتحليتِها بالكمالاتِ الأُنسيةِ أيْ ألمْ نفسحْهُ حَتَّى حَوَى عَالَمِيْ الغيبِ والشَّهادةِ وجمعَ بينَ مَلكَتِيْ الاستفادةِ والإفادةِ فمَا صدَّكَ الملابسةُ بالعلائقِ الجسمانيةِ عنِ اقتباسِ أنوارِ الملكاتِ الروحانيةِ وَمَا عاقكَ التعلقُ بمصالحِ الخلقِ عن الاستغراقِ في شؤونِ الحقِّ وقيلَ أريدَ بهِ ما رُويَ أنَّ جبريلَ أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في صباهُ أو يومَ الميثاقِ فاستخرجَ قلبَهُ فغسلَهُ ثمَّ ملأهُ إيماناً وعلماً ولعلَّه تمثيلٌ لما ذُكِرَ أو أُنْمُوذَجٌ جُسمانيٌّ ممَّا سيظهرُ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ من الكمالِ الرُّوحانيِّ والتعبيرُ عن ثبوتِ الشَّرحِ بالاستفهامِ الإنكاريِّ عنِ انتفائِه للإيذانِ بأنَّ ثبوتَهُ منَ الظهورِ بحيثُ لا يقدرُ أحدٌ على أنْ يجيبَ عنْهُ بغيرِ بَلَى وزيادةُ الجارِّ والمجرورِ معَ توسيطِه بينَ الفعلِ ومفعولِه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ الشَّرحَ من منافِعِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ومصالحِه مسارعةً إلى إدخالِ المسرةِ في قلبِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتشويقاً لهُ إلى ما يعقبُهُ ليتمكَّنَ عندَهُ وقتَ ورودِه فضلَ تمكِّنٍ وقوله تعالى
(9/172)
 
 
وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
{وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} عطفٌ على ما أشيرَ إليهِ من مدلولِ الجملةِ السابقةِ كأنه قدْ شرحنَا صدرَكَ ووضعنَا الخ وعنكَ متعلقٌ بوضعنَا وتقديمُهُ على المفعولِ الصريحِ مع أن حقه التأخرُ عنْهُ لما مرَّ آنِفاً منَ القصدِ إلى تعجيلِ المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ ولِما أنَّ في وصفِه نوعَ طُولٍ فتأخيرُ الجارِّ والمجرور عنْهُ لما مرَّ آنِفاً منَ القصدِ إلى تعجيلِ أيْ حططنَا عنكَ عِبأكَ الثقيلَ
(9/172)
 
 
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)
{الذى أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أيْ حملَهُ على النقيضِ وَهُوَ صوت الانتقاض والانفكاكَ كمَا يُسْمَعُ منَ الرَّحلِ المُتداعِي إلى الانتقاضِ من ثقلِ الحملِ مُثّل بهِ حالُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ممَّا كانَ يثقلُ عليه ويغمه من فرطاته قبلَ النبوةِ أو من عدمِ إحاطتِه بتفاصيلِ الأحكامِ والشرائعِ أو من تهالُكِهِ على إسلام المعاندين
(9/172)
 
 
94 سورة الشرح آية (4 8) من قومِه وتلهفِهِ ووضعِهِ عند مغفرتَهُ وتعليمِ الشرائعِ وتمهيدِ عُذرِهِ بعدَ أنْ بلَّغَ وبالغَ وقُرِىءَ وَحططنَا وَحللنَا مكانَ وضعنَا وقُرِىءَ وحللنَا عنكَ وِقْرَك
(9/173)
 
 
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} بعنوان النبوةِ وأحكامِها أيَّ رفعٍ حيثُ قرنَ اسمُهُ باسمِ الله تعالَى في كلمةِ الشهادةِ والأذانِ والإقامةِ وجُعلَ طاعتُه طاعتَه تعالَى وصلَّى عليهِ هُو وملائكتُه وأمرَ المؤمنينَ بالصَّلاةِ عليهِ وسُمِّيَ رسولَ الله ونبيَّ الله والكلامُ في العطفِ وزيادةِ لكَ كالذي سلفَ وقولُه تعالَى
(9/173)
 
 
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)
{فإن مع العسر يسرا} تقرير لما قبله ووعده كريمٌ بتيسيرِ كُلِّ عسيرٍ له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنينَ كأنَّه قيلَ خوَّلناكَ ما خوَّلناكَ من جلائلِ النعمِ فكُنْ على ثقةٍ بفضلِ الله تعالَى ولطفِه فإن مع العسر يسرا كثيرا وفي كلمته معَ إشعارٌ بغايةِ سرعةِ مجيءِ اليسرِ كأنَّه مقارنٌ للعسرِ
(9/173)
 
 
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
{إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} تكريرٌ للتأكيدِ أو عدةٌ مستأنفةٌ بأنَّ العسرَ مشفوعٌ بيسرٍ آخرَ كثوابِ الآخرةِ كقولك إن للصائم فرحتان للصائم فرحةً أيَّ فرحة عندَ الإفطارِ وفرحةً عندَ لقاءِ الربِّ وعليهِ قولُه صلى الله عليه وسلم لَنْ يغلبَ عسرٌ يسرينِ فإنَّ المُعرَّفَ إذَا أعيدَ يكونُ الثاني عينَ الأولِ سواءً كانَ معهوداً أو جنساً وأما المنكرُ فيحتملُ أنْ يرادَ بالثانِي فردٌ مغايرٌ لمَا أريدَ بالأولِ
(9/173)
 
 
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
{فَإِذَا فَرَغْتَ} أيْ منَ التبليغِ وقيلَ من الغزوِ {فانصب} فاجتهدْ في العبادةِ واتعبْ شكراً لما أوليناكَ من النعمِ السالفةِ ووعدناكَ من الآلاءِ الآنفةِ وقيلَ فإذَا فرغتَ من صلاتِك فاجتهدْ في الدُّعاءِ وقيلَ إذَا فرغتَ من دنياكَ فانصبْ في صلاتِكَ
(9/173)
 
 
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
{وإلى رَبّكَ} وَحْدَهُ {فارغب} بالسؤالِ ولاَ تسألْ غيرَهُ فإنَّه القادرُ على إسعافِكَ لا غيرُهُ وقُرِىءَ فرَغِّبْ أي فرَغِّبِ النَّاسَ إلى طلبِ ما عندَهُ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ ألمْ نشرحْ فكأنَّما جاءَنِي وأنَا مغتمٌّ ففرجَ عَنِّي
(9/173)
 
 
سورة التين مكية وقيل مدنية وآيها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم
(9/174)
 
 
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)
{والتين والزيتون} هما هذا التين وهذا الزيتون خصهماالله سبحانَهُ من بينِ الثمارِ بالإقسامِ بهما لاختصاصِهما بخواصَّ جليلةٍ فإنَّ التينَ فاكهةٌ طيبةٌ لا فُضلَ لهُ غذاء لطيفٌ سريعُ الهضمِ ودواءٌ كثيرُ النفعِ يلينُ الطبعَ ويحللُ البلغمَ ويطهرُ الكليتينِ ويزيلُ ما في المثانةِ من الرملِ ويسمن البدنَ ويفتحُ سددَ الكبدِ والطِّحالِ ورَوَى أبو ذرَ رضيَ الله عنْهُ أنَّه أهدَى للنبي صلى الله عليه وسلم سلٌّ من تينٍ فأكلَ منْهُ وقالَ لأصحابِه كُلوا فلَو قلتُ إن فاكهةً نزلتْ من الجنةِ لقلتُ هذا لأنَّ فاكهةَ الجنَّةِ بلا عجمَ فكلُوهَا فإنَّها تقطعُ البواسيرَ وتنفعُ منَ النِقرسِ وعَنْ عليِّ بنِ مُوسى الرِّضَا التينُ يزيلُ نكهةَ الفمِ ويطولُ الشعرَ وهُوَ أمانٌ منَ الفالجِ وأما الزيتونُ فهو فاكهةٌ وإدامٌ ودواءٌ ولو لم يكنْ له سِوى اختصاصِه بدهنِ كثيرِ المنافعِ معَ حصولِه في بقاعٍ لا دهنيةَ فيهَا لكَفى به فضلاً وشجرتُه هيَ الشجرةُ المباركةُ المشهودُ لهَا في التنزيلِ ومرَّ معاذُ بنُ جبلٍ رضيَ الله عنْهُ بشجرةِ الزيتونِ فأخذَ منهَا قضيا واستاكَ بهِ وقالَ سمعتُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقولُ نعمَ السواكُ الزيتونُ من الشجرةِ المباركةِ يطيبُ الفمَ ويذهبُ بالحفرةِ وسمعتُه يقولُ هوَ سواكِي وسواكُ الأنبياءِ قبلِي وقيلَ هما جبلانِ من الأرضِ المقدسةِ يقال لهما بالسريانية طور تينا وطور زيتا لأنهمَا منبِتا التينِ والزيتونِ وقيل التين جبل ما بينَ حلوانَ وهمدانَ والزيتونُ جبالُ الشامِ لأنهمَا منابتَهما كأنه قيلَ ومنابتِ التينِ والزيتونِ وَقالَ قَتَادةُ التينُ الجبلُ الذي عليهِ دمشقُ والزيتونُ الجبلُ الذي عليهِ بيتُ المقدسِ وقال عكرمةُ وَابنُ زيدِ التينُ دمشقُ والزيتونُ بيتُ المقدسِ وهو اختيارالطبري وقالَ محمدُ بنُ كعبٍ التينُ مسجدُ أصحابِ الكهفِ والزيتونُ مسجدُ إِيْليَا وعن ابن عباس رضي الله عنهماالتين مسجدُ نوحٍ عليهِ السلامُ الذي بناهُ على الجُودِيِّ والزيتونُ مسجدُ بيتِ المقدسِ وقالَ الضحَّاكُ التينُ المسجدُ الحرامُ والزيتونُ المسجدُ الأَقْصى والصحيحُ هُوَ الأولُ قالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا هو تينُكُم الذي تأكلونَ وزيتونُكم الذي تعصِرونَ منْهُ الزيتَ وبه قالَ مجاهدٌ وعكرمةُ وإبراهيمُ النخعيُّ وعطاءٌ وجابرٌ وزيدٌ ومقاتلٌ والكلبيُّ
(9/174)
 
 
وَطُورِ سِينِينَ (2)
{وَطُورِ سِينِينَ}
(9/174)
 
 
هو الجبلُ الذي ناجَى عليهِ موسى ربَّهُ وسينينَ وسيناءُ علمانِ للموضعِ الذي هُوَ فيهِ ولذلكَ أضيفَ إليهمَا وسينونَ كبيرونَ في جوازِ الإعرابِ بالواوِ والياءِ والإقرارِ على الياءِ وتحريكِ النونِ بالحركاتِ الإعرابيةِ
(9/175)
 
 
وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
{وهذا البلد الأمين} أيْ الآمنِ من أمنَ الرجلُ أمانةً فهُو أمينٌ وهُوَ مكةَ شرَّفها الله تعَالَى وأمانتُها أنَّها تحفظُ من دخلَها كما يحفظُ الأمينُ ما يؤتمنُ عليهِ ويجوزُ أنْ يكونَ فعيلاً بمَعْنى مفعولٍ من أمنَهُ لأنَّه مأمونُ الغَوَائلِ كما وصفَ بالآمنِ في قولِه تعالَى {حَرَماً آمنا} بمَعْنى ذِي أمنٍ ووجْهُ الإقسامِ بهاتيكَ البقاع المباركةِ المشحونةِ ببركاتِ الدُّنيا والدِّينِ غنيٌّ عن الشَّرحِ والتبيينِ
(9/175)
 
 
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} أيْ جنسُ الإنسانِ {فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أيْ كائناً في أحسنُ ما يكونُ من التقويمِ والتعديلِ صورةً ومَعْنى حيثُ برأه الله تعالَى مستويَ القامةِ متناسبَ الأعضاءِ متصفاً بالحياةِ والعلمِ والقدرةِ والإرادةِ والتكلمِ والسمعِ والبصرِ وغيرِ ذلكَ منَ الصفاتِ التي هيَ مِنْ أنموذجاتٍ منَ الصفاتِ السبحانيةِ وآثارٌ لهَا وقدْ عبرَ بعضُ العلماءِ عنْ ذلكَ بقولِه خلقَ آدمَ علَى صورتِه وفي روايةٍ على صورةِ الرحمن وبَنَى عليهِ تحقيقَ مَعْنى قولِه مَنْ عرفَ نفسَهُ فقدْ عرفَ رَبَّه وقالَ إنَّ النفسَ الإنسانيةَ مجردةٌ ليستْ حالّةً في البدنِ ولا خارجةً عنْهُ متعلقةً بهِ تعلقَ التدبيرِ والتصرفِ تستعملُه كيفمَا شاءتْ فإذَا أرادتْ فعلاً من الأفاعيلِ الجُسمانيةِ تلقيهِ إلى مَا في القلبِ منَ الروحِ الحيوانيِّ الذي هُوَ أعدلُ الأرواحِ وأصفاهَا وأقربُها منْهَا وأقواهَا مناسبةً إلى عالمِ المجرداتِ إلقاءً روحانياً وهو يلقيهِ بواسطةِ ما في الشرايينِ منَ الأرواحِ إلى الدماغِ الذي هُو منبتُ الأعصابِ التي فيهَا القُوَى المحركةُ للإنسانِ فعندَ ذلكَ يحركُ منَ الأعضاءِ ما يليقُ بذلكَ الفعلِ من مباديهِ البعيدةِ والقريبةِ فيصدرُ عنْهُ ذلكَ بهذه الطريقةِ فمَنْ عرفَ نفسَهُ على هذه الكيفيةِ من صفاتِها وأفعالِها تسنَّى لهُ أن يترقى إلى معرفةِ ربِّ العزةِ عَزَّ سلطانُهُ ويطلعُ على أنَّه سبحانَهُ منزهٌ عنْ كونِه داخلاً في العالمِ أو خارجاً عنْهُ يفعلُ فيهِ ما يشاء ويحكُم ما يريدُ بواسطةِ ما رتبَهُ فيهِ منَ الملائكةِ الذينَ يستدلُّ على شؤونِهم بما ذكرَ من الأرواحِ والقُوى المرتبةِ في العالمِ الإنسانيِّ الذي هُوَ نسخةٌ للعالمِ الأكبر وأنموذح مِنْهُ وقوله تعالى
(9/175)
 
 
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
{ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} أيْ جعلنَاهُ من أهلِ النَّارِ الذينَ هُم أقبحُ من كُلِّ قبيحٍ وأسفلُ من كُلِّ سافلٍ لعدمِ جريانِه على موجبِ ما خلقناهُ عليهِ منَ الصفاتِ التي لو عملَ بمقتضاهَا لكانَ في أعْلَى عليينَ وقيلَ رددناهُ إلى أَرْذَلِ العمرِ وهُو الهرمُ بعدَ الشبابِ والضعفُ بعدَ القوةِ كقولِه تعالَى {وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الخلق} وأياً ما كانَ فأسفلُ سافلينَ إمَّا حالٌ منَ المفعولِ أيْ رددناهُ حالَ كونِه أسفلَ سافلينَ أو صفةٌ لمكانٍ محذوفٍ أيْ رددناهُ مكاناً أسفلَ سافلينَ والأولُ أظهر وقرىء
(9/175)
 
 
95 سورة التين آية (6 8) أسفلَ السافلينَ وقولُه تعالَى
(9/176)
 
 
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
{إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} على الأولِ استثناءٌ متصلٌ منْ ضميرِ رددناه فإنَّه فِي معْنَى الجمعِ وعلى الثاني منقطعٌ أيْ لكنْ الذينَ كانُوا صالحينَ منْ الهَرْمَى {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} غيرُ منقطعٍ عَلى طاعتِهم وصبرِهم على بلاء الله تعالَى بالشيخوخةِ والهرمِ وعَلى مقاساةِ المشاقِّ والقيامِ بالعبادةِ على تخاذلِ نهوضِهم أو غيرِ ممنونٍ بهِ عليهمْ وهذِه الجملةُ على الأولِ مقررةٌ لمَا يفيدهُ الاستثناءُ منْ خروجِ المؤمنين عن حكم الرد ومبينة لكيفيةِ حالِهم والخطابُ في قولِه تعالَى
(9/176)
 
 
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
{فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين} للرسول صلى الله عليه وسلم أيْ فأيُّ شيءٍ يكذبكَ دلالةً أو نطقاً بالجزاءِ بعدَ ظهورِ هذهِ الدلائلِ الناطقةِ بهِ وقيلَ ما بمعنَى مَنْ وقيلَ الخطابُ للإنسانِ على طريقِ الالتفاتِ لتشديدِ التوبيخِ والتبكيتِ أيْ فَما يجعلكَ كاذباً بسببِ الدينِ وأنكارِه بعدَ هذهِ الدلائلِ والمَعنى أنَّ خلقَ الإنسانِ منْ نطفةٍ وتقويمَهُ بشراً سوياً وتحويلِه منْ حالٍ إلى حالٍ كمالاً ونُقصاناً من أوضحِ الدلائلِ على قُدرةِ الله عزَّ وجلَّ على البعثِ والجزاءِ فأيُّ شيءٍ يضطركَ بعدَ هَذَا الدليلِ القاطعِ إلى أنْ تكونَ كاذباً بسببِ تكذيبهِ أيُّها الإنسانُ
(9/176)
 
 
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
{أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} أي أليسَ الذي فعلَ ما ذُكرَ بأحكمِ الحاكمينَ صنعاً وتدبيراً حتَّى يتوهَم عدمُ الإعادةِ والجزاءِ وحيثُ استحالَ عدمُ كونهِ أحكَمَ الحاكمينَ تعينَ الإعادةُ والجزاءُ فالجملةُ تقريرٌ لما قبلَها وقيلَ الحكمُ بمعْنَى القضاءِ فهي وعيدٌ للكفارِ وأنَّه يحكمُ عليهم بما يستحقونَهُ منَ العذابِ
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كانَ إذَا قَرأها يقولُ بَلَى وأنَا عَلى ذلكَ منَ الشاهدينَ وعنْهُ صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة التين أعطاهُ الله تعالى الخصلتينِ العافيةَ واليقينَ ما دامَ في دار الدُّنيا وإذا ماتَ أعطاهُ الله تعالى من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة
(9/176)
 
 
سورة العلق سورة العلق مكية وأيها تسع عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
(9/177)
 
 
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
{اقرأ} أيْ مَا يوحَى إليكَ فإنَّ الأمرَ بالقراءةِ يقتَضي المقروءَ قطعاً وحيثُ لَمْ يُعينَ وجبَ أنْ يكونَ ذلكَ ما يتصلُ بالأمرِ حتماً سواءً كانتِ السورةُ أولَ ما نزلَ أولا والأقربُ أنَّ هَذا إلى قولِه تعالى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} أولُ ما نزلَ عليه عليه الصلاة والسلام كما ينطقُ بهِ حديثُ الزهر المشهورُ وقولِه تعالى {باسم رَبّكَ} متعلقٌ بمضمرٍ هُو حالٌ من ضميرالفاعل أي اقرأْ ملتبساً باسمهِ تعالى أيْ مُبتدئاً بِه لتتحقق مقارنته لجميع أجزاءِ المقروءِ والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ المُنْبئة عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمالِ اللائقِ شيْئاً فشيئا مع الإضافة إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ للإشعارِ بتبليغِه عليِه السَّلامُ إلى الغايةِ القاصيةِ منَ الكمالاتِ البشريةِ بإنزالِ الوَحي المتواتِرِ ووصفُ الربَّ بقولِه تعالَى {الذى خَلَقَ} لتذكيرِ أولِ النعماءِ الفائضةِ عليهِ عليه الصلاة والسلام منه تعالى والتنبيهِ على أنَّ منْ قدرَ عَلى خلقِ الإنسانِ على ما هو عليه من الحياةَ وما يتبعُها منَ الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ منْ مادةٍ لم تشمَّ رائحةَ الحياةِ فضلاً عن سائرِ الكمالاتِ قادرٌ على تعليمِ القراءةِ للحيِّ العالمِ المتكلمِ أي الذي أنشأَ الخلقَ واستأثرَ بِه أوْ خلَقَ كُلّ شَىْء وقولُه تعالى
(9/177)
 
 
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
{خَلَقَ الإنسان} عَلى الأولِ تخصيص لخلق اإلإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقاتِ لاستقلالِه ببدائعِ الصنعِ والتدبيرِ وَعَلى الثاني إفرادٌ للإنسانِ منْ بينِ سائرِ المخلوقاتِ بالبيانِ وتفخيمٌ لشأنِه إذْ هُو أشرفُهم وإليهِ التنزيلُ وهُو المأمورُ بالقراءةِ ويجوزُ أنْ يرادَ بالفعلِ الأولِ أيضاً خلقُ الإنسانِ ويقصدُ بتجريدِه عن المفعولِ الإبهامِ ثمَّ التفسيرِ رَوْماً لتفخيمِ فطرتِه وقولُه تعالى {مِنْ عَلَقٍ} أيْ دمٍ جامدٍ لبيانِ كمالِ قُدرتِه تعالى بإظهارِ مَا بينَ حالتِه الأولى والآخرةِ من التباينِ البينِ وإيرادُه بلفظِ الجمعِ بناءً على أنَّ الإنسانَ في مَعْنى الجمعِ لمراعاةِ الفواصلِ ولعلَّه هو السرُّ في تخصيصِه بالذكرِ منْ بينِ سائرِ أطوارِ الفطرة الإنسانيةِ معَ كونِ النطفةِ والترابِ أدلَّ منْهُ عَلَى كمالِ القُدرةِ لكونِهما أبعدَ منْهُ بالنسبةِ إلى الإنسانيةِ ولَمَّا كانَ خلقُ الإنسان أول النعمُ الفائضةِ عليه عليهِ الصلاة والسلام منه تعالى
(9/177)
 
 
96 سورة العلق آية (3 7) وأقدم الدلائلِ الدالةِ على وجودِه عزَّ وجلَّ وكمالِ قُدرتِه وعلمِه وحكمتِه وصفَ ذاتَه تَعالى بذلكَ أولاً ليستشهدَ عليه السلامُ بهِ على تمكينهِ تعالى لَه منَ القراءةِ ثم كررَ الأمرَ بقولِه تعالى
(9/178)
 
 
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)
{اقرأ} أي افعلْ ما أُمرت بِه تأكيداً للإيجابِ وتمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {وَرَبُّكَ الاكرم} الخ فأنَّه كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لإزاحةِ ما بينَهُ عليه السَّلامُ منَ العُذرِ بقولِه عليهِ السَّلامُ مَا أنَا بقارىءٍ يريدُ أنَّ القراءةَ شأنُ منْ يكتبُ ويقرأُ وأنَا أُميٌّ فقيلَ لَهُ وربُّكَ الذي أمركَ بالقراءةِ مبتدئاً باسمِه هو الأكرمُ
(9/178)
 
 
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
{الذى عَلَّمَ بالقلم} أي علمَ ما علمَ بواسطةِ القلم لا غيره فكما علَّم القارىءَ بواسطةِ الكتابةِ والقلمِ يعلمكَ بدونِهما وقولُه تعالَى
(9/178)
 
 
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
{عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} بدلُ اشتمالٍ منْ عَلَّمَ بالقلمِ أي علَّمه بهِ وبدونِه منَ الأمورِ الكليةِ والجزئيةِ والجليةِ والخفيةِ مالم يخطرُ ببالِه وفي حذفِ المفعولِ أولاً وإيرادِه بعنوانِ عدمِ المعلوميةِ ثانياً من الدلالةِ عَلى كمالِ قُدرتِه تعالى وكمالِ كَرَمِه والإشعارِ بأنَّه تعالى يعلمُه من العلوم ما لا تحيطُ بِه العقولُ ما لا يخفى
(9/178)
 
 
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)
{كَلاَّ} ردعٌ لمن كفرَ بنعمةِ الله تعالى بطغيانِه وإن لم يسبقْ ذكرُهُ للمبالغةِ في الزجرِ وقولُه تعالَى {إِنَّ الإنسان ليطغى} أيْ ليجاوزُ الحدَّ ويستكبرُ عَلى ربِّه بيانٌ للمردوعِ والمردوعِ عَنْهُ قيلَ هَذَا إلى آخرِ السورةِ نزلَ في أبي جهلٍ بعدَ الزمان وهو الظاهرُ وقولُه تعالَى
(9/178)
 
 
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
{أن رآه استغنى} مفعولٌ لَهُ أي يطغى لأنْ رَأى نفسَهُ مستغنياً عَلى أنَّ استغنى مفعولٌ ثانٍ لرأى لأنه بمَعْنى علمَ ولذلكَ ساغَ كونُ فاعلِه ومفعولِه ضميريْ واحدٍ كَمَا في علمتني وإن جَوَّزَهُ بعضُهم فِي الرؤيةِ البصريةِ أيضاً وجعلَ من ذلك قول عائشةَ رضيَ الله عنها لقد رأيتُنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما لَنا طعامٌ إلاَّ الأسودانِ وتعليلُ طُغيانِه برؤيتهِ لا بنفسِ الاستغناءِ كمَا ينبىء عنه قوله تعالى {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الارض} للإيذانِ بأنَّ مَدَارَ طُغيانهِ زعمه الفاسد
رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتزعمُ أنَّ منِ استغنى طغَى فاجعلُ لنَا جبالَ مكةَ فضةً وذهباً لعلنَا نأخذُ منْهَا فنطغَى فندعَ ديننَا ونتبعَ دينكَ فنزلَ عليهِ جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقالَ إن شئْتَ فعلنَا ذلكَ ثُمَّ إنْ لَمْ يُؤمنوا فعلْنا بهمْ مَا فعلنَا بأصحابِ المائدةِ فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدُّعاءِ إبقاءً عليهمْ وقوله تعالى
(9/178)
 
 
96 سورة العلق آية (8 14)
(9/179)
 
 
إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
{إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} تهديدٌ للطاغي وتحذيرٌ لَهُ من عاقبةِ الطغيانِ والالتفاتُ للتشديدِ في التهديدِ والرُّجعى مصدرٌ بمعنَى الرُّجوعِ كالبشرى وتقديمُ الجار والمجرور عليه لقصره عليهِ أيْ إنَّ إلى مالكِ أمركِ رجوعَ الكُلِّ بالموتِ والبعثِ لا إلى غيره استقلالا ولااشتراكا فسترى حينئذٍ عاقبةَ طُغيانِكَ وقوله تعالى
(9/179)
 
 
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
{أرأيتَ الَّذي يَنْهى عبْداً إِذَا صلى} تقبيحٌ وتشنيعٌ لحالهِ وتعجيبٌ منهَا وإيذانٌ بأنَّها منَ الشناعةِ والغرابةِ بحيثُ يجبُ أنْ يَراهَا كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ ويقضي منهَا العجبَ
رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قالَ في ملأٍ من طُغاةِ قريشٍ لئِنْ رأيتُ محمداً يُصلي لأطأنَّ عنقَهُ فرآهُ عليهِ السَّلامُ في الصَّلاةِ فجاءَهُ ثُمَّ نكصَ على عقبيه فقالوا مالك قال إن بيني وبينهُ لخندقاً منْ نارٍ وهولاً وأجنحةً فنزلتْ ولفظُ العبدِ وتنكيرُه لتفخيمِه عليهِ السَّلامُ واستعظامِ النَّهي وتأكيدِ التعجبِ منْهُ والرؤيةُ هَهُنا بصريةٌ وأمَّا ما في قولِه تعالى
(9/179)
 
 
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)
{أرأيت إن كان على الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى} ومَا في قوله تعالى
(9/179)
 
 
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
{أرأيت إِن كَذَّبَ وتولى} فقلبيةٌ معناهُ أخبرني فإنَّ الرؤيةَ لما كانت سبباً للإخبارِ عنِ المَرئي أجرى الاستفهامُ عنْهَا مجرى الاستخبارِ عنْ متعلَّقها والخطابُ لكلِّ منْ صلُحَ للخطابِ ونظمُ الأمرِ والتكذيبِ والتولِّي في سلكِ الشرط المتردد بين الوقوع وعدمه ليس ليسَ باعتبارِ نفسَ الأفعالِ المذكورةِ منْ حيثُ صدورُها عن الفاعلِ فإنَّ ذلكَ ليسَ في حيزِ الترددِ أصلاً بلْ باعتبارِ أوصافها التي هِيَ كونُها أمراً بالتقوى وتكذيباً وتولياً كَمَا في قوله تعالى {قل أرأيتم إن كان مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} كَمَا مرَّ والمفعولُ الأولُ لأرأيتَ محذوفٌ وهو ضميرٌ يعودُ إلى الموصولِ أو اسمُ إشارةِ يُشارُ بهِ إليهِ ومفعولُه الثاني سدَّ مسدَّهُ الجملةُ الشرطيةُ بجوابها المحذوفِ فإنَّ المفعولَ الثاني لأرأيتَ لا يكونُ إلا جملةً استفهاميةً أو قسميةً والمعَنى أخبرني ذلك الناهي إن كان على الهدى فيمَا ينهي عَنْهُ منْ عبادةِ الله تعالى أوْ آمراً بالتَّقوى فيمَا يأمرُ بهِ من عبادةِ الأوثانِ كما يعتقدُه أوْ مكذباً للحق معرضا عن الصوب كما نقول نحن
(9/179)
 
 
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)
{ألم يعلم بأن الله يرى} أيْ يطلعُ على أحواله فيجازيه
(9/179)
 
 
96 سورة العلق آية (15 18) بِهَا حتَّى اجترأ على ما فعلَ وإنَّما أفردَ التكذيبَ والتولِّي بشرطيةٍ مستقلةٍ مقرونةٍ بالجوابِ مصدرةٍ باستخبارٍ مستأنفِ ولم ينظمَا في سلكِ الشرطِ الأولِ بعطفهما على كانَ للإيذانِ باستقلالهما بالوقوعِ في نفسِ الأمرِ واستتباعِ الوعيدِ الذي ينطقُ بهِ الجوابُ وأما القسمُ الأولُ فأمرٌ مستحيلٌ قد ذكر في حيزالشرط لتوسيعِ الدائرةِ وهو السرُّ في تجريدِ الشرطيةِ الأولى عنِ الجوابِ والإحالةِ بهِ على جوابِ الثانيةِ هَذا وقد قيلَ أرأيتَ الأولُ بمعنى أخبرني مفعولُه الأولُ الموصولُ ومفعولُه الثاني الشرطيةُ الأولى بجوابها المحذوفِ لدلالةِ جوابِ الشرطيةِ الثانيةِ عليه وأرأيتَ في الموضعينِ تكريرٌ للتأكيدِ ومعناهُ أخبرني عمَّنْ ينهى بعضَ عبادِ الله عن صلاته إنْ كانَ ذلكَ النَّاهي علَى طريقةٍ سديدةِ فيما ينهى عنْ عبادةِ الله تعالى أوْ كانَ آمراً بالمعروفِ والتَّقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده وكذلكَ إنْ كانَ على التكذيبِ للحقِّ والتولِّي عنِ الدينِ الصحيح كما نقولُ نحن {ألم يعلم بأن الله يرى} ويطلعُ على أحوالِه منْ هُداهُ وضلالهِ فيجازيَهُ عَلى حسبِ ذلكَ فتأملْ وقيلَ المَعْنى أرأيتَ الَّذي يَنْهى عبْداً يُصلي والمُنهيُّ عنِ الهُدى آمرٌ بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجبَ من ذَا وقيلَ الخطابُ الثاني للكافرِ فإنَّه تعالَى كالحاكمِ الذي حضَرهُ الخصمانِ يخاطبُ هذا مرةً والآخرَ أُخرى وكأنَّه قالَ يا كافرُ أخبرني إنْ كانَ صلاتُه هُدى ودُعاؤُه إلى الله تعالى أمراً بالتَّقوى أتنهاهُ وقيلَ هُو أُميةُ بنُ خلفٍ كانَ ينْهى سلمانَ عنِ الصَّلاةِ
(9/180)
 
 
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
{كَلاَّ} ردعٌ للناهي اللعينِ وخسوءٌ لَهُ واللامُ في قولِه تعالَى {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ} موطئةٌ للقسمِ أي والله لئِن لَمْ ينتِه عَمَّا هُو عليهِ ولمْ ينزجرْ {لَنَسْفَعاً بالناصية} لنأخذنَّ بناصيتهِ ولنسحبنّهُ بِهَا إلى النَّارِ والسفعُ القبضُ على الشيءِ وجذبُه بعنفٍ وشدةٍ وقُرِىءَ لنسفعنَّ بالنونِ المشددةِ وقُرِىءَ لأسفعنَّ وكتبتهُ في المصحفِ بالألفِ عَلى حكمِ الوقفِ والاكتفاءُ بلامِ العهدِ عنِ الإضافةِ لظهورِ أنَّ المرادَ ناصيةُ المذكورِ
(9/180)
 
 
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)
{نَاصِيَةٍ كاذبة خَاطِئَةٍ} بدلٌ منَ الناصيةِ وإنَّما جازَ إبدالُها منَ المعرفةِ وهي نكرةٌ لوصفِها وقُرئَتْ بالرفعِ على هِيَ ناصيةٌ وبالنصبِ وكلاهُما على الذمِّ والشتمِ ووصفُها بالكذبِ والخطإِ على الإسنادِ المجازيِّ وهُمَا لصاحبها وفيه من الجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب المخطىء
(9/180)
 
 
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)
{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أيْ أهلَ ناديهِ ليعينوهُ وهُو المجلسُ الَّذي ينتدي فيه القومُ أي يجتمعونَ
رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ مرَّ برسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم وهُو يُصلي فقالَ ألم أنهكَ فأغلظَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ أتهددني وأنا أكثرُ أهلِ الوادي نادياً فنزلتْ
(9/180)
 
 
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
{سَنَدْعُ الزبانية} ليجروه إلى النار والزبانية
(9/180)
 
 
96 سورة العلق آية (19) الشرطُ الواحدُ زبْنيةٌ كعفريةٍ من الزِّبنِ وهُوَ الدَّفعْ وقيلَ زَبَنِي وكأنَّه نسبَ إلى الزبنِ ثُمَّ غير كأمْسى وأصلُها زَبَاني فقيلَ زبانيةٌ بتعويضِ التاءِ عن الياءِ والمرادُ ملائكةُ العذابِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لَوْ دَعا ناديه لأخذتْهُ الزبانيةُ عياناً
(9/181)
 
 
كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
{كَلاَّ} ردعٌ بعدَ ردعٍ وزجرٌ إثرَ زجرٍ {لاَ تُطِعْهُ} أيْ دُم عَلى ما أنت عليه من معاصاتِه {واسجد} وواظبْ عَلى سجودِكَ وصلاتك غيرَ مكترثٍ بِه {واقترب} وتقربْ بذلك إلى ربِّكَ وفي الحديثِ أقربُ ما يكونُ العبدُ إلى ربِّه إذَا سجدَ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ العلقِ أُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما قرأالمفصل كله
(9/181)
 
 
سسورة القدر سورة مكية مختلف فيها وآيها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم
(9/182)
 
 
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
{إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر} تنويهٌ بشأنِ القرآنِ الكريمِ وإجلالٌ لمحلِه بإضمارِهِ المُؤذنِ بغايةِ نباهتِهِ المغنيةِ عن التصريحِ بهِ كأنهُ حاضرٌ فِي جميعِ الأذهانِ وبإسنادِ إنزالِه إلى نونِ العظمة المنبئ عنْ كمالِ العنايةِ بهِ وتفخيمُ وقتِ إنزالِه بقولِه تعالى
(9/182)
 
 
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر} لما فيهِ منَ الدلالةِ عَلى أنَّ علوِّ قدرِها خارجٌ عنْ دائرةِ درايةِ الخَلْقِ لا يدريَها وَلاَ يدريَها إلاَّ علاَّمُ الغيوبِ كمَا يُشعر بهِ قولُه تعالَى
(9/182)
 
 
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
{لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فإنهُ بيانٌ إجماليٌّ لشأنها إثرَ تشويقهِ عليهِ السلامُ إلى درايتها فإنَّ ذلكَ معربٌ عنِ الوعدِ بإدرائها وقدْ مرَّ بيانُ كيفيةِ إعرابِ الجملتينِ وفي إظهارِ ليلةِ القدرِ في الموضعينِ منْ تأكيدِ التفخيم مالا يخفى والمرادُ بإنزالِه فيها إمَّا إنزالُ كُلِّه إلى السماءِ الدُّنيا كَما رُوي أنَّه أُنزل جملةً واحدةً في ليلةِ القدرِ من اللوحِ المحفوظِ إلى السماءِ الدُّنيا وأملاهُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ على السَفَرة ثُمَّ كانَ ينزلهُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم نُجوماً في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً وإمَّا ابتداءُ إنزالِه فيها كما نُقلَ عن الشَّعبيِّ وقيلَ المَعْنى أنزلناهُ في شأنِ ليلةِ القدرِ وفضلِها كَما في قولِ عمر رضي الله عنه خشيتُ أن ينزلَ فيَّ قرآن وقولِ عائشةَ رضيَ الله عنها لأنَا أحقرُ في نفسي منْ أن ينزلَ فيَّ قرآن فالأنسبُ أن يجعلَ الضميرُ حينئذٍ للسورةِ التي هيَ جزءٌ من القرآنِ لا للكُلِّ واختلفوا في وقتها فأكثرهم على أنها في شهرِ رمضانَ في العشرِ الأواخرِ في أوتارِها وأكثرُ الأقوالِ أنها السابعةُ منها ولعلَّ السرِّ في إخفائها تعريضُ منْ يريدُها للثوابِ الكثير بإحياءِ الليالي الكثيرةِ رجاءً لموافقتها وتسميتُها بذلكَ إمَّا لتقدير الأمورِ وقضائها فيها لقولِه تعالى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أو لخطرها وشرفها على سائرِ الليالي وتخصيصُ الألفِ بالذكرِ إمَّا للتكثيرِ أوْ لمَا روي أنه صلى الله عليه وسلم ذكرَ رجلاً من بني إسرائيلَ لبسَ السلاحَ في سبيلِ الله ألفَ شهرٍ فعجبَ المؤمنونَ منه وتقاصرتْ إليهم أعمالهم فأعطوا ليلةً هيَ خير منْ مدةِ ذلكَ الغازي وقيلَ إنَّ رجل فيما مَضَى مَا كانَ يقالُ لَهُ عابدٌ حَتَّى يعبدَ الله تعالى ألفَ شهر فأعطوا
(9/182)
 
 
97 سورة القدر آية (4 5) ليلةً إنْ أحيوْها كانُوا أحقَّ بأن يُسمَّوا عابدينَ من أولئكَ العبادِ وقيلَ أري النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أعمارَ الأممِ كافةً فاستقصرَ أعمار أمنه فخافَ أنْ لا يبلغوا من العملِ مثلَ ما بلغَ غيرهم في طولِ العمرِ فأعطاهُ الله ليلةَ القدرِ وجعلها خيراً منْ ألفِ شهرٍ لسائرِ الأممِ وقيلَ كانَ ملكُ سليمانَ خمسمائةَ شهرٍ وملكُ ذي القرنينِ خمسمائةَ شهرٍ فجعلَ الله تعالَى العملَ في هذهِ الليلةِ لمنْ أدركها خيراً منْ مُلكِهِمَا وقولُه تعالَى
(9/183)
 
 
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
{تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} استئنافٌ مبينٌ لمناطِ فضلِها على تلكَ المدةِ المتطاولةِ وقد سبقَ في سورةِ النبأ ما قيلَ في شَأنِ الروحِ عَلى التفصيلِ وقيلَ هم خلقٌ منَ الملائكةِ لا يراهُم الملائكةُ إلا تلكَ الليلةَ أيْ تتنزل الملائكةُ والروحُ في تلكَ الليلةِ منْ كُلِّ سماءٍ إلى الأرضِ أوْ إلى السماءِ الدُّنيا {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} متعلقٌ بتنزلُ أوْ بمحذوفٍ هُو حالٌ من فاعلِه أيْ ملتبسينَ بِإِذْنِ رَبّهِمْ أيْ بأمرِه {مّن كُلّ أَمْرٍ} أي من أجلِ كُلِّ أمرٍ قضاهُ الله عزَّ وجلَّ لتلكَ السنةِ إلى قابلِ كقولِه تعالَى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حكيم وقرئ من كل امرئ أي من أجل كل إنسانٍ قيلَ لا يلقونَ فيها مؤمنا ولا مؤمنةً إلا سلمُوا عليهِ
(9/183)
 
 
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
{سلام هِىَ} أيْ مَا هيَ إلا سلامةٌ أيْ لا يقدرُ الله تعالى فيها إلا السلامةَ والخيرَ وأمَّا في غيرِها فيقضي سلامةً وبلاءً أوْ ما هيَ إلا سلامٌ لكثرةِ ما يسلمونَ فيها على المؤمنينَ {حتى مَطْلَعِ الفجر} أ