تفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

    
 
  
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
 
 
 
 
  
 
الكتاب: تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
المؤلف: أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى: 982هـ)
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
 
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام} ترغيبٌ للناس في الحياة الأخرويةِ الباقيةِ إثرَ ترغيبهم عن الحياة الدنيا الفانية أي يدعو الناسَ جميعاً إلى دار السلامةِ عن كلِّ مكروهٍ وآفةٍ وهي الجنةُ وإنما ذُكرت
(4/137)
 
 
بهذا الاسم لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معَرْضاً للآفات أو إلى دار الله تعالى وتخصيصُ الإضافةِ التشريفية بهذا الاسم الكريمِ للتنبيه على ذلك أو إلى دار يسلّم الله أو الملائكةُ فيها على من يدخلها أو يسلم بعضُهم علي بعض
{ويهدي من يشاء} هدايته منهم
{إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٍ إليها وهو الإسلامُ والتزودُ بالتقوى وفي تعميم الدعوة وتخصيصِ الهدايةِ بالمشيئة دليلٌ على أن الأمرَ غيرُ الإرادة وإن من أصر على الضلالة لم يرد الله رشده
سورة يونس (26 27)
(4/138)
 
 
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
{لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} أي أعمالَهم أي عمِلوها على الوجه اللائقِ وهو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي وقد فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ
{الحسنى} أي المثوبةَ الحُسنى
{وزيادة} أى وما يزيد على تلك المثوبة تفضلاً لقوله عز اسمه وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ وقيل الحسنى مثلُ حسناتِهم والزيادةُ عشرُ أمثالهِا إلى سبعمائةِ ضعفٍ وأكثر وقيل الزيادةُ مغفرةٌ من الله ورِضوانٌ وقيل الحُسنى الجنةُ والزيادة اللقاء
{وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ} أي لا يغشاها
{قَتَرٌ} غبرةٌ فيها سوادٌ
{وَلاَ ذِلَّةٌ} أي أثرُ هوانٍ وكسوفُ بالٍ والمعنى لا يرهقهم ما يرهَق أهلَ النار أو لا يرهَقُهم ما يُوجبُ ذلك من الحزن وسوءِ الحالِ والتنكيرُ للتحقير أيْ شيءٌ منهما والجملةُ مستأنفةٌ لبيان أمنِهم من المكاره إثرَ بيان فوزِهم بالمطالب والثاني وإن اقتضى الأولَ إلا أنه ذُكر إذكاراً بما ينقذهم الله تعالى منه برحمته وتقديمُ المفعولِ على الفاعلِ للإهتمام ببيان أن المصونَ من الرهَق أشرفُ أعضائِهم وللتشويق إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخرَ تبقى النفسُ مترقبةً لوروده فعند ورودِه عليها يتمكن عندها فضلُ تمكّنٍ ولأن في الفاعل ضربَ تفصيلٍ كما في قوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ وقوله عز وجل وَجَاءكَ فِى هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ
{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بالصفات المذكورةِ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإيذان بعلو درجتِهم وسموّ طبقتِهم أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من النعوت الجميلةِ الفائزون بالمثوبات الناجون عن المكاره
{أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} بلا زوالٍ دائمون بلا انتقال
(4/138)
 
 
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
{والذين كَسَبُواْ السيئات} أي الشركَ والمعاصيَ وهو مبتدأٌ بتقدير المضافِ خبرُه قوله تعالى
{جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أي جزاءُ الذين كسبوا السيئاتِ أن يجازى سيئةً واحدةً بسيئة مثلها لا يزاد عليها كما يزاد في الحسنة وتغييرُ السبْكِ حيث لم يقل وللذين كسبوا السيئاتِ السوآى لمراعاة ما بينَ الفريقينِ من كمال التنائي والتبايُن وإيرادُ الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو لسوء صنيعِهم وبسبب جنايتِهم على أنفسهم أو الموصولُ معطوفٌ على الموصول الأولِ كأنه
(4/138)
 
 
قيل وللذين كسبوا السيئاتِ جزاء بسيئة مثلها كقولك في الدار زيدٌ والحجرةِ عمروٌ وفيه دلالةٌ على أن المرادَ بالزيادة الفضلُ
{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} وأيُّ ذلةٍ كما ينبىء عنه التنوينُ التفخيميُّ وفي إسناد الرَهق إلى أنفسهم دون وجوهِهم إيذانٌ بأنها محيطةٌ بهم غاشيةٌ لهم جميعاً وقرىء يرهَقهم بالياء التحتانية
{مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي لا يعصِمُهم أحدٌ من سُخطه وعذابِه تعالى أو ما لهم من عنده تعالى مَن يعصمهم كما يكون للمؤمنين وفي نفي العاصمِ من المبالغة في نفي العصمةِ ما لا يخفى والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ من ضمير ترهقهم
{كَأَنَّمَا أُغْشِيَت وُجُوههم قطعاً مِنَ اللَّيْلِ} لفرط سوادِها وظلمتِها
{مُظْلِماً} حالٌ من الليل والعاملُ فيه أغشيت لأنه العاملُ في قِطَعاً وهو موصوفٌ بالجار والمجرور والعاملُ في الموصوف عاملٌ في الصفة أو معنى الفعلِ في مِنَ الليل وقرىء قِطْعاً بسكون الطاء وهو طائفة من الليل قال ... افتحي الباب وانظُري في النجوم ... كم علينا من قِطْع ليلٍ بهيم ... فيجوزُ كونُ مظلماً صفةً له أو حالاً منه وقرىء كأنما يغشى وجوهَهم قِطعٌ من الليل مظلمٌ والجملةُ كما قبلها مستأنفةٌ أو حالٌ من ضمير ترهقهم
{أولئك} أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة
{أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} وحيث كانت الآيةُ الكريمةُ في حق الكفارِ بشهادة السياقِ والسباقِ لم يكن فيها تمسك للوعيدية
سورة يونس (28)
(4/139)
 
 
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
{ويوم نحشرهم} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ بعضٍ آخرَ من أحوالهم الفظيعةِ وتأخيرُه في الذكر مع تقدمه في الوجود على بعض أحوالِهم المحكيةِ سابقاً للإيذان باستقلال كلَ من السابق واللاحقِ بالاعتبار ولو روعيَ الترتيبُ الخارجيُّ لعُدَّ الكلُّ شيئاً واحداً كما مرَّ في قصَّةِ البقرة ولذلك فصل عما قبله ويومَ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ أي أنذرْهم أو ذكرْهم وضمير نحشُرهم لكلا الفريقين الذي أحسنوا والذين كسبوا السيئاتِ لأنه المتبادرُ من قوله تعالى
{جَمِيعاً} ومن أفراد الفريقِ الثاني بالذكر في قوله تعالى
{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أي نقول للمشركين من بينهم ولأن توبيخهم وتهديدهم على رءوس الأشهادِ أفظعُ والإخبارُ بحشر الكلِّ في تهويل اليومِ أدخل وتخصيصُ وصفِ إشراكهم بالذكر في حيز الصلةِ من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات لابتناء التوبيخِ والتقريعِ عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظمَ جناياتِهم وعمدةَ سيئاتِهم وقيل للفريق الثاني خاصةً فيكون وضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ لما ذكر آنفاً
{مَكَانَكُمْ} نُصب على أنه في الأصلِ ظرفٌ لفعل أقيم مُقامه لا على أنه اسمُ فعل وحركتُه حركةُ بناءٍ كما هو رأيُ الفارسي أي الزَموه حتى تنظُروا ما يفعل بكم
{أَنتُمْ} تأكيدٌ للضمير المنتقل إليه من عامله لسده مسدَّه
{وَشُرَكَاؤُكُمْ} عطفٌ عليه وقُرىء بالنَّصبِ على أنَّ الواو بمعنى مع
{فزيلنا} من زلت الشىء عن مكانه أُزيِّله أي أزلتُه والتضعيف للتكثير لا للتعدية وقرىء فزايلنا بمعناه نحو كلّمتُه وكالمته وهو معطوفٌ على نقول وإيثارُ صيغةِ الماضِي للدَلالة على التحققِ الموروث لزيادة التوبيخِ والتحسيرِ والفاءُ للدِلالة على وقوع التزييل ومباديه عقيبَ الخطابِ من غير مُهلةٍ إيذاناً
(4/139)
 
 
بكمال رخاوةِ ما بينَ الفريقينِ من العلاقة والوصلةِ أي ففرقنا بَيْنَهُمْ وقطّعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا لكن لا من الجانبين بل من جانب العبَدةِ فقط لعدم احتمالِ شمولِ الشركاءِ للشياطين كما سيجيء فخابت آمالُهم وانصرمت عُرى أطماعِهم وحصل لهم اليأسُ الكليُّ من حصول ما كانوا يرجونه من جهتهم والحالُ وإن كانت معلومةً لهم من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب لكن هذه المرتبةَ من اليقين إنما حصلت عند المشاهدةِ والمشافهةِ وقيل المرادُ بالتزييل التفريقُ الحسيُّ أي فباعدنا بينهم بعد الجمعِ في الموقفِ وتبرُّؤ شركائِهم منهم ومن عبادتهم كما في قوله أَيْنَمَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا فالواو حينئذ في قوله تعالى {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ} حاليةٌ بتقدير كلمةِ قد عند من يشترطها وبدونه عند غيره لا عاطفة كما في التفسير الأول لاستدعاء المحاورةِ المحاضرةَ الفائتةَ بالمباعدة وليس في ترتيب التزييلِ بهذا المعنى على الأمر بلزوم المكانِ ما في ترتيبه عليه بالمعنى الأول من النكتة المذكورةِ ليُصار لأجل رعايتِها إلى تغيير الترتيبِ الخارجيِّ فإن المباعدةَ بعد المحاورةِ حتماً وأما قطعُ الأقران والعلائق فليس كذلك بل ابتداؤُه حاصلٌ من حين الحشر بل بعضُ مراتبه حاصلٌ قبله أيضاً وإنما الحاصلُ عند المحاورةِ أقصاها كما أشير إليه فلا اعتداد بما في تقديمه من التغيير لا سيما مع رعاية ما ذكر من النكتة ولو سلم تأخرُ جميعِ مراتبِه عن المحاورة فمراعاةُ تلك النكتةِ كافيةٌ في استدعاء تقديمِه عليها ويجوز أن تكون حاليةً على هذا التقديرِ أيضاً والمرادُ بالشركاء قيل الملائكةُ وعزيز والمسيحُ وغيرُهم ممن عبدوه من أولي العلم ففيه تأييدٌ لرجوع الضميرِ إلى الكل وقولهم
{مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} عبارةٌ عن تبرئهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءَهم وشياطينَهم الذين أغوَوْهم لأنها الآمرةُ لهم بالإشراك دونهم كقولهم سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ الآية وقيل الأصنامُ يُنطِقها الله الذى أنطق كلَّ شيء فتُشافِهُهم بذلك مكانَ الشفاعةِ التي كانوا يتوقعونها
(4/140)
 
 
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
{فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} فإنه العليمُ الخبير
{إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين} أي عن عبادتكم لنا وتركهُ للظهور وللإيذان بكمال الغفلةِ عنها والغفلةُ عبارةٌ عن عدم الارتضاءِ وإلا فعدمُ شعورِ الملائكةِ بعبادتهم لهم غيرُ ظاهرٍ وهذا يقطع احتمالَ كونِ المرادِ بالشركاء الشياطينَ كما قيل فإن ارتضاءَهم بإشراكهم مما لا ريبَ فيه وإن لم يكونوا مُجْبِرين لهم على ذلك وإنْ مخففةٌ من أن واللامُ فارقة
(4/140)
 
 
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{هُنَالِكَ} أي في ذلك المقام الدهِش أو في ذلك الوقت على استعارة ظرفِ المكان للزمان تبلو أي تختبر وتذوق
{كُلُّ نَفْسٍ} مؤمنةً كانت أو كافرةً سعيدةً أو شقية
{مَّا أَسْلَفَتْ} من العمل وتعاينه بكُنهه مستتبِعاً لآثاره من نفع أو ضر وخيرٍ أو شر وأما ما علِمتْ من حالها من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب في البرزخ فأمرٌ مجملٌ وقرىء نبلو بنونِ العظمةِ ونصبِ كلُّ وإبدالِ ما منه أي نعاملها معاملةَ من يبلوها ويتعرّفُ أحوالَها من السعادة والشقاوةِ باختبار ما أسلفت من العمل ويجوزُ أن يُراد نُصيب بالبلاء أي العذاب
(4/140)
 
 
عاصيةٍ بسبب ما أسلفت من الشر فيكون ما منصوبة بنزع الخافض وقرئ تتلو أي تتبع لأن عملَها هو الذي يهديها إلى طريق الجنةِ أو إلى طريق النارِ أو تقرأ في صحيفه أعمالِها ما قدمت من خير أو شر
{وَرُدُّواْ} الضمير للذين أشركوا على أنه معطوفٌ على زيلنا وما عطف عليه قوله عز وجل {هنالك تبلو} الخ اعتراضٌ في أثناء الحكايةِ مقرّرٌ لمضمونها
{إِلَى الله} أي إلى جزائه وعقابه
{مولاهم} ربِّهم
{الحق} أي المتحقق الصادِق ربوبيتُه لا ما اتخذوه ربا باطلا وقرئ الحقَّ بالنصب على المدح كقولهم الحمدُ لله أهلَ الحمدُ لله أهلَ الحمد أو على المصدر المؤكد
{وَضَلَّ عَنْهُم} وضاع أي ظهر ضَياعُه وضلالُه لا أنه كان قبل ذلك غيرَ ضالٍ أو ضل في اعتقادهم أيضاً
{مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن آلهتَهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها آلهةٌ هذا وجُعل الضميرُ في رُدوا للنفوسِ المدلولِ عليها بكلِّ نفسٍ على أنه معطوفٌ على تبلو وأن العدولَ إلى الماضِي للدلالةِ على التحققِ والتقرر وأن إيثارَ صيغةِ الجمعِ للإيذان بأن ردّهم إلى الله يكون على طريقة الاجتماعِ لا يلائمه التعرُّض لوصف الحقيةِ في قوله تعالى مولاهم الحق فإنه للتعريض بالمردودين حسبما أشير إليه ولئن اكتُفيَ فيه بالتعريض ببعضهم أو حُمل الحقِّ على معنى العدل في الثواب والعقاب فقوله عز وجل وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ مما لا مجال فيه للتدارك قطعاً فإنَّ ما فيهِ من الضمائر الثلاثة للمشركين فيلزم التفكيكُ حتماً وتخصيصُ كلُّ نفس بالنفوس المشركة مع عموم البلوى للكل يأ باه مقامُ تهويلِ المقام والله تعالَى أعلمُ
سورة يونس (31)
(4/141)
 
 
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
{قُلْ} أي لأولئك المشركين الذين حُكيت أحوالُهم وبيّن ما يؤدي إليه أعمالُهم احتجاجاً على حقية التوحيدِ وبُطلانِ ما هم عليه من الإشراك
{مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض} أي منهما جميعاً فإن الأرزاقَ تحصُل بأسباب سماوية وموادَّ أرضيةٍ أو من كل واحدة منهما توسعةً عليكم وقيل مِنْ لبيان كلمة مَنْ على حذفِ المضافِ أي مِنْ أهل السماء والأرض
{أَم مَّنْ يَمْلِكُ السمع والابصار} أمْ منقطعةٌ وما فيَها من كلمةِ بل للإضراب عن الاستفهام الأولِ لكنْ لا على طريقةِ الإبطالِ بل على وجه الانتقالِ وصرفِ الكلام عنه إلى استفهام آخرَ تنبيهاً على كفايته فيما هو المقصودُ أي من يستطيع خلقَهما وتسويتَهما على هذه الفطرة العجيبة أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالِهما من أدنى شيءٍ يصيبهما
{وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} أي ومن يحيي ويميت أو ومن ينشىء الحيوانَ من النطفة والنطفةَ من الحيوان
{وَمَن يُدَبّرُ الامر} أي ومن يلي تدبيرَ أمرِ العالم جميعاً وَهُوَ تعميمٌ بعدَ تخصيصِ بعضِ ما اندرج تحته من الأمور الظاهرةِ بالذكر
{فَسَيَقُولُونَ} بلا تلعثم ولا تأخير
{الله} إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحِه والخبرُ محذوف أي الله يفعل ما ذُكر من الأفاعيلِ لا غيرُه فَقُلْ عند ذلك تبكيتاً لهم أَفَلاَ تَتَّقُونَ الهمزةُ لإنكار عدمِ الاتقاء بمعنى إنكار الواقعِ كَما في أتضربُ أباك لا بمعنى إنكارُ الوقوعِ كما في أأضرِب أبي والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظمُ الكريمُ أي أتعلمون ذلك فلا تقون
(4/141)
 
 
أنفسَكم عذابَه الذي ذَكر لكم بما تتعاطَونه من إشراككم به ما لا يشاركه في شيءٍ مَّما ذُكر من خواصّ الإلهية سورة يونس (32 34)
(4/142)
 
 
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
{فَذَلِكُمُ} فذلكةٌ لما تقدم أي ذلكم الذي اعترفتم باتصافه بالنعوت المذكورةِ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى
{الله} خبرُه وقوله تعالى
{رَبُّكُمْ} أي مالكُكم ومتولي أمورِكم على الإطلاق بدلٌ منه أو بيانٌ له وقوله تعالى الحق صفةٌ له أي ربكم الثابتُ ربوبيتُه والمتحقق ألوهيته تحققا لاريب فيه فَمَاذَا يجوز أن يكون الكلُّ اسماً واحداً قد غلب فيه الاستفهامُ على اسم الإشارةِ وأن يكون ذا موصولاً بمعنى الذي أي ما الذي
{بَعْدَ الحق} أي غيرُه بطريق الاستعارةِ وإظهارُ الحق إما لأن المرادَ به غيرُ الأول وإما لزيادة التقريرِ ومراعاةِ كمالِ المقابلةِ بينه وبين الضلالِ والاستفهامُ إنكاريٌّ بمعنى إنكارِ الوقوعِ ونفيِه أي ليس غيرُ الحق
{إِلاَّ الضلال} الذي لا يختاره أحدٌ فحيث ثبت أن عبادةَ من هو منعوتٌ بما ذُكِرَ من النعوتِ الجميلةِ حقٌّ ظهر أن ما عداها من عبادة الأصنامِ ضلالٌ محضٌ إذ لا واسطةَ بينهما وإنما سُميت ضلالاً مع كونها من أعمال الجوارحِ باعتبار ابتنائِها على ما هو ضلالٌ من الاعتقاد والرأيُ هذا على تقديرِ كونِ الحقِّ عبارةً عن التوحيد وأما على تقدير كونِه عبارةً عن الأول فالمرادُ بالضلال هو الأصنامُ لا عبادتُها والمعنى فماذا بعد الربِّ الحقِّ الثابتِ ربوبيّتُه إلا الضلالُ أي الباطلُ الضائعُ المضمحلُّ وإنما سمي بالمصدر مبالغةً كأنه نفسُ الضلالِ والضياعِ وهذا أنسبُ بقوله تعالى وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ على التفسير الثاني
{فأنى تُصْرَفُونَ} استفهامٌ إنكاريٌّ بمعنى إنكارِ الواقعِ واستبعادُه والتعجيبُ منه وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكارِ إلى نفس الفعلِ لأن كلَّ موجودٍ لا بد من أن يكون وجودُه على حال من الأحوال قطعاً فإذا انتفى جميعُ أحوال وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البرهاني كما مر مراراً والفاءُ لترتيب الإنكارِ على ما قبله أي كيف تُصرفون من الحق الذي لا محيد عنه وهو التوحيدُ إلى الضلال عن السبيل المستبينِ وهو الإشراكُ وعبادةُ الأصنام أو من عبادة ربكم الحقِّ الثابتِ ربوبيتُه إلى عبادة الباطلِ الذي سمعتم ضلالَه وضياعَه في الآخرة وفي إيثار صيغةِ المبنيِّ للمفعول إيذانٌ بأن الانصرافَ من الحق إلى الضلال مما لا يصدُر عن العاقل بإرادته وإنما يقع عند وقوعِه بالقسر من جهة صارفٍ خارجيَ
(4/142)
 
 
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{كذلك} أي كما حقت الربوبيةُ لله تعالى أو كما أنه ليس بعد الحقِّ إلا الضلالُ أو أنهم مصروفون عن الحق
{حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ} وحكمُه وقضاؤُه عَلَى الذين فَسَقُواْ أي تمردوا في الكفر وخرجوا من أقصى حدودِه
{أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بدلُ الكلمة من أو تعليلٌ لحقيتها والمرادُ بها العِدَةُ بالعذاب
(4/142)
 
 
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ}
(4/142)
 
 
احتجاجٌ آخرُ على حقية التوحيدِ وبطلانِ الإشراكِ بإظهار كونِ شركائِهم بمعزل من استحقاق الإلهية ببيان اختصاصِ خواصِّها من بدء الخلقِ وإعادتِه به سبحانه وتعالى وإنما لم يُعطف على ما قبله إيذاناً باستقلاله في إثبات المطلوبِ والسؤالُ للتبكيت والإلزامِ وقد جُعلت عليه الإعادةِ وتحققُها لوضوح مكانِها وسُنوحِ برهانِها بمنزلة بدءِ الخلقِ فنُظمت في سلكه حيث قيل
{مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} إيذاناً بتلازمهما وجودا وعلما يستلزم الاعترافَ بها وإن صدهم عن ذلك ما بهم من المكابرة والعِناد ثم أمر صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك فقيل له
{قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي هو يفعلهما لا غيرُ كائناً ما كان لا بأن ينوب صلى الله عليه وسلم عنهم في ذلك كما قيل لأن القولَ المأمورَ به غيرُ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن الجواب وإن كان مستلزِماً له إذ ليس المسئول عنه مَنْ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يعيده كما في قوله تعالى قُلْ مَن رَّبُّ السموات والارض قُلِ الله حتى يكونَ القولُ المأمور به عينِ الجوابِ الذي أريد منهم ويكون صلى الله عليه وسلم نائباً عنهم في ذلكَ بل إنَّما هو وجودُ مَنْ يفعل البدءَ والإعادةَ من شركائهم فالجوابُ المطلوبُ منهم لا لا غير نعم أمر صلى الله عليه وسلم بأن يضمِّنه مقالتَه إيذاناً بتعينه وتحققِه وإشعاراً بأنهم لا يجترءون على التصريح به مخافةَ التبكيتِ وإلقامِ الحجر لا مكابرةً ولَجاجاً فتدبر وإعادهُ الجملة فى الجواب بتمامها غير محذوفه الخبر كما في الجواب السابق لمزيد التأكيدِ والتحقيق
{فأنى تُؤْفَكُونَ} الإفكُ الصرْفُ والقلبُ عن الشيء وقد يُخصّ بالقلب عن الرأي وهو الأنسبُ بالمقام أي كيف تُقلبون من الحق إلى الباطل والكلامُ فيهِ كَما ذُكرَ في تصرفون
سورة يونس (35)
(4/143)
 
 
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ} احتجاجٌ آخرُ على ما ذكر جيء به إلزاماً لهم غِبَّ إلزامٍ وإفحاماً إثرَ إفحام وفصلُه عما قبله لما ذُكر من الدلالة على استقلاله
{مَّن يَهْدِى إِلَى الحق} أي بوجهٍ من الوجوهِ فإنَّ أدنى مراتبِ المعبودية هدايةُ المعبودِ لعبَدته إلى ما فيه صلاحٌ أمرِهم وأما تعيينُ طريقِ الهدايةِ وتخصيصُه بنصب الحجج وإرسالِ الرسلِ والتوفيقِ للنظر والتدبر كما قيل فمُخِلٌّ بما يقتضيه المقام من كمال التبكيتِ والإلزامِ فإن العجزَ عن الهداية على وجه خاصَ لا يستلزم العجزَ عن مطلق الهدايةِ وهدى كما يُستعمل بكلمة إلى لتضمّنه معنى الانتهاءِ يُستعمل باللام للدلالة على أن المنتهى غايةُ الهداية وأنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق ولذلك استُعمل بها ما أسند إلى الله تعالَى حيثُ قيل
{قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ} أي هو يهدي له دون غيره وذلك بما ذكر من نصب الأدلةِ والحججِ وإرسالِ الرسل وإنزال الكتبِ والتوفيقِ للنظر والتدبر وغيرِ ذلك من فنون الهداياتِ والكلامُ في الأمر بالسؤال والجوابِ كما مر فيما مر
{أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق} وهو الله عزَّ وجلَّ
{أحق أن يتبع أم من لا يهدي} بكسر الهاء أصله يهتدي فأدغم وكسرت الهاء لالقتاء السَّاكنينِ وقُرىء بكسر الياءِ إتباعاً لها لحركة الهاء وقرئ بفتح الهاء نقلاً لحركة التاء إليها أي لا يهتدي بنفسه فضلاً عن هداية غيرِه وفيه من المبالغة ما لا يخفى وإنما نُفي عنه الاهتداءُ مع أن المفهومَ مما سبق نفيُ الهدايةِ لما أن نفيَها مستتبعٌ لنفيه غالباً فإن من اهتدى إلى الحق
(4/143)
 
 
لا يخلو عن هداية غيرِه في الجملة وأدناها كونُه قدوةً له بأن يراه فيسلُكَ مسلَكَه من حيث لا يدري والفاءُ لترتيب الاستفهامِ على ما سبق من تحقق هدايتِه تعالى صريحاً وعدمِ هدايةِ شركائِهم المفهومِ من القصر ومن عدم الجوابِ المنبىء عن الجواب بالعدم فإن ذلك مما يَضطرهم إلى الجواب الحق لا لتوجيه الاستفهامَ إلى الترتيب كما يقع في بعض المواقعِ فإن ذلك مختصٌّ بالإنكاري كما في قوله تعالى أَفَمَنِ اتبع رضوان الله الخ ونحوه والهمزةُ متأخرةٌ في الاعتبارِ وإنَّما تقديمُها في الذكر لإظهار عراقتِها في اقتضاء الصدارةِ كما هو رأيُ الجمهورِ حتى لو كان السؤالُ بكلمة أي لأخِّرت حتماً ألا يُرى إلى قوله تعالى فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالامن إثرَ تقديرِ ما يُلجىء المشركين إلى الجواب من حالهم وحالِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرىء لا يهدي بمعنى لا يهتدي لمجيئه لازماً أو لا يهدي غيرَه وصيغةُ التفضيلِ إما على حقيقتها والمفضلُ عليه محذوف كما اختاره مكي والتقدير أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدي أم من لا يهدي أحق الخ وإما بمعني حقيق كما اختاره أبو حيان وأيا ما كان فالاستفهامُ للإلزام وأن يُتَّبعَ في حيزِ النصبِ أو الجرِّ بعد حذفِ الجارِّ على الخلاف المعروفِ أي بأن يتبع
{إِلا أَنْ يَهْدِى} استثناء مفرغ من أعمى الأحوال أى لايهتدى أولا يهدى غيره في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ هدايتِه تعالى له إلى الاهتداء أو إلى هداية الغير وهذا حالُ أشرافِ شركائِهم من الملائكة والمسيح وعزيز عليهم السلام وقيل المعنى أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقلُ إليه إلا أن ينتقل إليه أو إلا أن ينقُلَه الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه وقرئ إلا أن يهدى من التفعيل للمبالغة
{فَمَا لَكُمْ} أي أيُّ شيءٍ لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاءَ لله سبحانه وتعالى والاستفهامُ للإنكار التوبيخيِّ وفيه تعجيبٌ من حالهم وقوله تعالى
{كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي بما يقضي صريحُ العقل ببطلانه إنكارٌ لحكمهم الباطلِ وتعجبٌ منه وتشنيعٌ لهم بذلك والفاءُ لترتيب كلا الإنكارين على ما ظهرَ من وجوب اتباعِ الهادي إلى الحق إن قلت التبكيتُ بالاستفهام السابقِ إنما يظهر في حق من يعكسُ جوابَه الصحيحَ فيحكم بأحقية من لا يَهدي بالاتباع دون مَنْ يهدي وهم ليسوا حاكمين بأحقية شركائِهم لذلك دون الله سبحانه وتعالى بل باستحقاقهما جميعاً مع رجحان جانبه تعالى حيث يقولون هَؤُلاء شفعاؤُنا عِندَ الله قلتُ حكمُهم باستحقاقه تعالى للاتباع بطريق الاشتراكِ حكمٌ منهم بعدم استحقاقِه تعالى لذلك بطريق الاستقلال فصاروا حاكمين باستحقاق شركائِهم له دون الله تعالى من حيث لا يحتسبون
سورة يونس (36)
(4/144)
 
 
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} كلامٌ مبتدأٌ غيرُ داخلٍ في حيز الأمرِ مَسوقٌ من قِبَله تعالى لبيان عدمِ فهمِهم لمضمون ما أفحمهم وألقمهم الحجرَ من البرهان النيّر الموجبِ لاتباع الهادي إلى الحق الناعي عليهم بطلانَ حكمِهم وعدمَ تأثرِهم من ذلك لعدم اهتدائِهم إلى طريق العلم أصلاً أن ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إِلاَّ ظَنّا واهياً من غير التفاتٍ إلى فرد من أفراد العِلم فضلاً عن أن يسلُكوا مسالكَ الأدلةِ الصحيحةِ الهادية إلى الحق المبنيةِ على المقدمات اليقينية الحقةِ فيفهموا مضمونَها ويقفوا على صحتها وبُطلانِ ما يخالفها من أحكامهم الباطلةِ فيحصُل التبكيتُ والإلزامُ فالمراد بالاتباع مطلقُ الاعتقادِ الشامل لما يقارن القَبولَ والانقياد وما لا
(4/144)
 
 
سورة يونس (37) يقارنه وبالقصر ما أشيرَ إليهِ من أن لا يكونَ لهم في أثنائه اتباعٌ لفرد من أفراد العلمِ والتفاتٌ إليه ووجهُ تخصيصِ هذا الاتباعِ بأكثرهم الإشعارُ بأن بعضَهم قد يتبعون العلم فيقفون على حقية التوحيد وبطلان الشرك لكن لا يقبلونه مكابرةً وعناداً فيحصل بالنسبة إليهم التأثرُ من البرهان المزبورِ وإن لم يُظهروه وكونُهم أشدَّ كفرا وأكثر من الفريق الأولِ لا يقدح فيما يُفهم من فحوى الكلامِ عُرفاً من كون أولئك أسوأَ حالاً من غيرهم إذ المعتبرُ سوءُ الحالِ من حيث الفهمُ والإدراكُ لا من حيث الكفرُ والعذابُ أو ما يتبع أكثرُهم مدةَ عمرِهم إلا ظناً ولا يتركونه أبداً فإن حرفَ النفي الداخلِ على المضارع يُفيد استمرارَ النَّفي بحسبِ المقامِ فالمرادُ بالاتباع حينئذٍ هو الإذعانُ والانقيادُ والقصرُ باعتبار الزمان ووجهُ تخصيصِ هذا الاتباعِ بأكثرهم مع مشاركة المعاندين لهم في ذلك التلويحُ بما سيكون من بعضهم من اتباع الحقِّ والتوبةِ كما سيأتي هذا وقد قيل المعنى وما يتبع أكثرُهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظناً غيرَ مستندٍ إلى برهان عندهم وقيل وما يتبع أكثرُهم في قولهم للأصنام إنها آلهةٌ إلا ظناً والمرادُ بالأكثر الجميعُ فتأمل وقيل الضميرُ في أكثرهم للناس فلا حاجةَ إلى التكليف
{إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق} من العلم اليقينيِّ والاعتقادِ الصحيحِ المطابقِ للواقع
{شَيْئاً} من الإغناء ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به ومن الحق حالاً منه والجملةُ استئنافٌ ببيان شأنِ الظنِّ وبُطلانِه وفيه دِلالةٌ على وجوب العلمِ في الأصول وعدمِ جوازِ الاكتفاءِ بالتقليد
{إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} وعيدٌ لهم على أفعالهم القبيحةِ فيندرج تحتها ما حُكي عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعةِ والاتباعِ للظنون الفاسدةِ اندراجا أوليا وقرئ تفعلون بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد
(4/145)
 
 
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
{وما كان هذا القرآن} شروعٌ في بيان ردِّهم للقرآن الكريم إثرَ بيانِ ردهم للأدلة العقليةِ المندرجةِ في تضاعيفه أي وما صحَّ وما استقام أن يكون هذا القرآنُ المشحونُ بفنون الهداياتِ المستوجبةِ للاتّباع التي من جملتها هاتيك الحججُ البينةُ الناطقةُ بحقِّيةِ التوحيدِ وبُطلان الشرك
{أَنٍ يُفْتَرَى مِن دُونِ الله} أي افتراءً من الخلق أي مفترىً منهم سُمّي بالمصدر مبالغة
{ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتبِ الإلهية المشهودِ على صدقها أي مصدّقاً لها كيف لا وهو لكونه معجزاً دونها عيارٌ عليها شاهدٌ بصحتها ونصبُه بأنه خبرُ كان مقدراً وقد جوّز كونُه علةً لفعل محذوفٍ تقديرُه لكن أنزله الله تصديق الخ وقرئ بالرفع على تقدير المبتدإ أي ولكن هو تصديقُ الخ
{وَتَفْصِيلَ الكتاب} عطفٌ عليه نصباً ورفعاً أي وتفصيلَ ما كُتب وأثبت من الحقائق والشرائع
{لاَ رَيْبَ فِيهِ} خبرٌ ثالثٌ داخلٌ في حكم الاستدراكِ أي منتفياً عنه الريبُ أو حالٌ من الكتاب وإن كان مضافاً إليه فإنه مفعولٌ في المعنى أو استئنافٌ لا محلَّ له من الإعراب
{مِن رَّبّ العالمين} خبرٌ آخرُ أي كائناً من رب العالمين أو متعلقٌ بتصديق أو بتفصيل أو بالفعل المعلل بهما ولا ريب فيه اعتراضٌ كما في قولك زيدٌ لا شك فيه كريمٌ أو حالٌ من الكتابِ أو من الضميرِ في
(4/145)
 
 
سورة يونس (38 39) فيه ومساقُ الآية الكريمةِ بعد المنعِ عن اتباع الظنِّ لبيان ما يجب اتباعُه
(4/146)
 
 
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أي بل أيقولون افتراه محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم والهمزةُ لإنكار الواقِع واستبعادِه
{قُلْ} تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان مقالتِهم الفاسدةِ إنْ كانَ الأمرُ كَما تقولون
{فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ} أي في البلاغة وحسنِ الصياغةِ وقوةِ المعنى على وجه الافتراءِ فإنكم مثلي في العربية والفصاحةِ وأشدُّ تمرناً منى فى فى النظم والعبارة وقرئ بسورةِ مثلِه على الإضافة أي بسورة كتابٍ مثلِه
{وادعوا} للمظاهرة والمعاونة
{مَنِ استطعتم} دعاءَه والاستعانةَ به من آلهتكم التي تزعُمون أنها مُمِدّةٌ لكم في المُهمات والمُلماتِ ومدارِهِكم الذين تلجئون إلى آرائهم في كل ما تأتون وما تذرون
{من دون الله} متعلق بادعوا ودون جارٍ مجرى أداةِ الاستثناءِ وقد مر تفصيله في قوله تعالى وادعوا شُهَدَاءكُم مِن دُونِ الله أي ادعُوا سواه تعالى من استطعتم من خلقه فإنه لا يقدِر عليه أحدٌ وإخراجه سبحانه من حكم الدعاءِ للتنصيص على براءتهم منه تعالى وكونِهم في عُدوة المضادة والمُشاقّة لا لبيان استباده تعالى بالقدرة على ما كُلِّفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دَعَوْه تعالى لأجابهم إليه
{إِن كُنتُمْ صادقين} أي في أني افتريته فإن ذلك مستلزمٌ لإمكان الاتيانِ بمثله وهو أيضاً مستلزِمٌ لقدرتكم عليه والجوابُ محذوفٌ لدِلالة المذكورِ عليه
(4/146)
 
 
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} إضرابٌ وانتقالٌ عن إظهار بطلانِ ما قالُوا في حقِّ القُرآنِ العظيمِ بالتحدِّي إلى إظهاره ببيانِ أنه كلامٌ ناشيءٌ عن جهلهم بشأنه الجليلِ فما عبارةٌ عن كله لا عما فيه من ذكر البعث والجزاءِ وما يخالف دينَهم كما قيل فإنَّه ممَّا يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن مثله أي سارعوا إلى تكذيبه آثِرَ ذي أثيرٍ من غير أن يتدبروا فيه ويقِفوا على ما في تضاعيفِه من الشواهد الدالةِ على كونه كما وُصف آنفاً ويعلموا أنه ليس مما يمكنُ أن يكونَ له نظيرٌ يقدر عليه المخلوقُ والتعبيرُ عنه بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ دون أن يقال بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحو ذلك للإيذان بكمال جهلِهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدمِ العلمِ به وبأن تكذيبَهم به إنما هو بسبب عدم علمِهم به لما أن إدارةَ الحكم على الموصول مشعرةٌ بعلية مَا في حيزِ الصلةِ له {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} عطف على الصلة أو حالٌ من الموصولِ أي ولم يقِفوا بعدُ على تأويله ولم يبلُغ أذهانَهم معانيه الرائقةُ المنبئةُ عن علو شأنِه والتعبيرُ عن ذلك بإتيان التأويل للإشعار بأن تأويلَه متوجّهٌ إلى الأذهان منساقٌ إليها بنفسه أو لم يأتِهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين أنه صدقٌ أم كذبٌ والمعنى أن القرآنَ معجزٌ من جهة النظمِ والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم قد فاجئوا تكذيبَه قبل أن يتدبروا نظمَه ويتفكروا في معناه
(4/146)
 
 
سورة يونس (40) أو ينتظروا وقوعَ ما أخبر به من الأمور المستقبلةِ ونفيُ إتيان التأويل بكلمة لمّا الدالةِ على التوقع بعد نفي الإحاطةِ بعلمه بكلمة لم لتأكيد الذمِّ وتشديد التشنيعِ فإن الشناعةَ في تكذيب الشيء قبل علمِه المتوقّعِ إتيانُه أفحشُ منها في تكذيبه قبل علمِه مطلقاً والمعنى أنه كان يجبُ عليهم أنْ يتوقفوا إلى زمان وقوعِ المتوقَّعِ فلم يفعلوا وأما أن المتوقعَ قد وقع بعدُ وأنهم استمرّوا عند ذلك أيضاً على ما هم عليه أولا فلا تعرض له ههنا والاستشهادُ عليه بعدم انقطاعِ الذمِّ أو ادعاءُ أن قولَهم افتراه تكذيبٌ بعد التدبر ناشىءٌ من عدم التدبر فتدبر كيف لا وهم لم يقولوه بعد التحدى بل قبله وادعاءُ كونِه مسبوقاً بالتحدي الواردِ في سورة البقرة يردّه أنها مدنية وهذه مكيةٌ وإنما الذي يدلُّ عليهِ ما سيتلى عليك من قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ الخ وقوله تعالى
{كذلك} الخ وصفٌ لحالهم المحكيِّ وبيانٌ لما يؤدّي إليه من العقوبة أي مثلَ ذلك التكذيبِ المبنيِّ على بادي الرأي والمجازفةِ من غيرِ تدبرٍ وتأملٍ
{كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي فعلوا التكذيبَ أو كذبوا ما كذبوا من المعجزاتِ التي ظهرت على أيدي أنبيائِهم أو كذبوا أنبياءَهم
{فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} وهم الذين مِن قَبْلِهِم من المكذبين وإنما وضع المظهرِ موضعَ المضمر للإيذان بكون التكذيبِ ظلماً أو بعلّيته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبةِ وبدخول هؤلاء الظالمين في زمرتهم جرما ووعيداً دخولاً أولياً وقوله عز وجل
(4/147)
 
 
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
{وَمِنْهُمُ} الخ وصفٌ لحالهم بعد إتيانِ التأويل المتوقع إذا حينئذٍ يمكن تنويعُهم إلى المؤمِن به وغير المؤمن ضرورةَ امتناعِ الإيمان بشيء من غير علمٍ به واشتراكِ الكلِّ في التكذيب والكفرِ به قبل ذلك حسبما أفاده قولُه تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ أي ومن هؤلاء المكذبين
{مَن يُؤْمِنُ به} عند الإحالة بعلمه وإتيانِ تأويله وظهورِ حقيته بعدما سعَوا في المعارضة ورازُوا قواهم فيها فتضاءلت دونها أو بعد ما شاهدوا وقوع ما أخبر به كما أَخبر به مراراً ومعنى الإيمانِ به إما الاعتقادُ بحقيته فقط أي يصدق به في نفسه ويعلم أنه حقٌّ ولكنه يعاند ويكابر وهؤلاءِ هم الذين أُشير بقصْر اتباعِ الظنِّ على أكثرهم إلى أنهم يعلمون الحقَّ على التفسير الأول كما أُشيرَ إليهِ فيما سلف وإما الإيمانُ الحقيقيُّ أي سيؤمن به ويتوب عن الكفر وهم الذين أشير بالقصْر المذكورِ على التفسير الثاني إلى أنهم سيتبعون الحقَّ كما مر
{وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدق ظاهراً لفرْط غباوتِه المانعةِ عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي وإن كان فوق مرتبةِ عدمِ الإحاطةِ به أصلاً أو لسخافة عقلِه واختلالِ تمييزِه وعجزِه عن تخليص علومه عن مخالطة الظنونِ والأوهام التي ألِفَها فيبقى على ما كان عليه من الشك وهذا القدرُ من الإحاطة وإتيانِ التأويلِ كافٍ في مقابلة ما سبق من عدم الإحاطةِ بالمرة وهؤلاء هم الذين أريدوا فيما سلف بقوله عز وجل وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا على التفسير الأول أولا لا يؤمنوا به فيما سيأتي بل يموت على كفره معانداً كان أو شاكا وهم المستمرّون على اتباع الظن على التفسير الثاني من غير إذعانٍ للحق وانقيادٍ له
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} أي بكلا الفريقين على الوجه الأول لا بالمعاندين فقط كما قيل لاشتراكهما في أصل الإفسادِ المستدعي لاشتراكهما في الوعيد أو بالمُصرّين الباقين على الكفر على الوجهِ الثَّانِي من المعاندين والشاكين
(4/147)
 
 
سورة يونس (41 43)
(4/148)
 
 
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
{وَإِن كَذَّبُوكَ} أي إن تموا على تكذيبك وأصروا عليه حسبما أُخبر عنهم بعد إلزامِ الحجةِ بالتحدي
{فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي تبرأ منهم فقد أعذرتَ كقوله تعالى فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء والمعنى لي جزاءُ عملي ولكم جزاءُ عملِكم حقاً كان أو باطلاً وتوحيدُ العمل المضافِ إليهم باعتبار الاتحادِ النوعيِّ ولمراعاة كمالِ المقابلة
{أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ} تأكيدٌ لما أفادته لامُ الاختصاص من عدم تعدّي جزاءِ العمل إلى غير عاملِه أي لا تؤاخَذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم ولما فيه من إيهام المتاركةِ وعدم التعرضِ لهم قيل إنه منسوخٌ بآية السيف
(4/148)
 
 
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بيانٌ لكونهم مطبوعاً على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم وإنما جمع الضميرُ الراجعُ إلى كلمة مَنْ رعايةً لجانب المعنى كما أفرد فيما سيأتي محافظةً على ظاهرِ اللفظِ ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناءً على عدم توقفِ الاستماع على ما يتوقف عليه النظرُ من المقابلة وانتفاءِ الحجاب والظُلمة أي ومنهم ناسٌ يستمعون إليك عند قراءتِك القرآنَ وتعليمِك الشرائعَ
{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} همزةُ الاستفهامِ إنكاريةٌ والفاءُ عاطفةٌ وليس الجمعُ بينهما لترتيب إنكارِ الإسماع على الاستماع كما هُو رأيُ سيبويهِ والجمهور على أن يجعل تقديمُ الهمزة على الفاء لاقتضائها الصدارةَ كما تقرر في موضعه بل لإنكار ترتُّبِه عليه حسبما هو المعتادُ لكن لا بطريق العطفِ على الفعل المذكورِ لأدائه إلى اختلالِ المعنى لأنه إما صلةٌ أو صفة وأياما كان فالعطفُ عليه يستدعي دخولَ المعطوفِ في حيزه وتوجّهَ الإنكارِ إليه من تلك الحيثية وَلاَ ريب في فسادة بل بطريق العطفِ على مقدر مفهومٍ من فحوى النظمِ كأنه قيل أيستمعون إليك فأنت تسمعهم لا إنكار لاستماعهم فإنَّه أمرٌ محققٌ بلْ إنكاراً لوقوع الاستماعِ عقيبَ ذلك وترتبِه عليه حسب العادةِ الكليةِ بل نفياً لإمكانه أيضاً كما يُنبىء عنه وضع الصمِّ موضعَ ضميرِهم ووصفِهم بعدم العقلِ بقوله تعالى
{وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي ولو انضم إلى صممهم عدمُ عقولِهم لأن الأصمَّ العاقلَ ربما تفرس إذا وصل إلى صِماخه صوتٌ وأما إذا اجتمع فقدانُ السمع والعقل جميعا فقد تم الأمر
(4/148)
 
 
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
{وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} ويعاين دلائلَ نبوّتك الواضحة
{أَفَأَنتَ} أي أعقيبَ ذلك أنت تهديهم وإنما قيل
{تَهْدِى العمى} تربيةً لإنكار هدايتِهم وإبرازاً لوقوعها في معرض الاستحالةِ وقدْ أكَّد ذلكَ حيثُ قيل
{وَلَوْ كانوا لا يبصرون} أي ولو انضم إلى عدم البصَر عدمُ البصيرة فإن المقصودَ من الإبصارِ الاعتبارُ والاستبصارُ والعمدةُ في ذلك هي البصيرةُ ولذلك يحدس الأعمى المستبصرُ ويتفطن لما لا يدركه البصيرُ الأحمقُ فحيث اجتمع فيهم الحمَقُ والعمى فقد انسد عليهم بابُ الهدى وجوابُ لو في الجملتين محذوفٌ لدلالة قوله تعالى تُسْمِعُ الصم وتهدى العمى عليه وكل وكلٌّ منهما معطوفةٌ على
(4/148)
 
 
سورة يونس (44) جملة مقدرةٍ مقابلةٍ لها في الفحوى كلتاهما في موضع الحالِ من مفعول الفعلِ السابق أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون أفأنت تهدي العميَ لو كانوا يبصرون ولو كانوا لا يبصرون أي على كل حالٍ مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفا مطَّرداً لدلالة الثَّانيةِ عليها دلالةً واضحة فإن الشيء إذا تحقق عند تحققِ المانعِ أو المانع القوي فلأن يتحقق عند عدمِه أو عند تحققِ المانعِ الضعيفِ أولى وعلى هذه النكتةِ يدور ما في لو وأن الوصليتين من التأكيد وقد مر الكلامُ في قوله تعالى وَلَوْ كَرِهَ الكافرون ونظائرِه مراراً
(4/149)
 
 
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس} إشارةٌ إلى أن ما حكي عنهم من عدم اهتدائِهم إلى طريق الحقِّ وتعطّلِ مشاعرِهم من الإدراك ليس لأمر مستندٍ إلى الله عزوجل من خلقهم مؤفي المشاعرِ ونحو ذلكَ بل إنَّما هُو من قِبلهم أي لا ينقُصهم
{شَيْئاً} مما نيط به مصالحُهم الدينيةُ والدنيويةُ وكمالاتُهم الأولويةُ والأُخْروية من مبادى إدراكاتهم وأسبابِ علومِهم من المشاعر الظاهرةِ والباطنةِ والإرشادِ إلى الحق بإرسال الرسلِ وإنزالِ الكتبِ بل يوفيهم ذلك من غير إخلالٍ بشيء أصلاً
{ولكن الناس} وقرىء بالتخفيف ورفعِ الناس وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضَّميرِ لزيادة تعيينٍ وتقريرٍ أي لكنهم بعدم استعمالِ مشاعِرهم فيما خُلقت له وإعراضِهم عن قبول دعوةِ الحق وتكذيبِهم للرسل والكتب
{أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ينقُصون ما ينقصون مما يُخِلّون به من مبادى كما لهم وذرائعِ اهتدائِهم وإنما لم يُذكر لما أن مرمى الغرضِ إنما هو قصرُ الظلمِ على أنفسهم لا بيانُ ما يتعلق به الظلمُ والتعبيرُ عن فعلهم بالنقص مع كونِه تفويتاً بالكلية وإبطالاً بالمرة لمراعاة جانب قرينته وقوله عز وجل أَنفُسِهِمْ إما تأكيدٌ للناس فيكونُ بمنزلة ضمير الفصلِ في قوله تعالى وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين في قصر الظالمية عليهم وإما مفعولٌ ليظلمون حسبما وقعَ في سائر المواقعِ وتقديمُه عليه لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلةِ من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي مَن لا يرى التقديمَ موجباً للقصر فيكون كما في قوله تعالى وَمَا ظلمناهم ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ من غير قصد للظلم لا على الفاعل ولا على المفعول وأما على على رأيِ مَن يراهُ موجباً له فلعل إيثارَ قصرِها دون قصرِ الظالمية عليهم للمبالغة في بيان بطلان أفعالِهم وسخافةِ عقولِهم لما أن أقبحَ الأمرين عند اتحادِ الفاعلِ والمفعولِ وأشدَّهما إنكاراً عند العقل ونفرةً لدى الطبع وأوجبَهما حذراً منه عند كل أحدٍ هو المظلوميةُ لا الظالمية على أن قصرَ الأولى عليهم مسلتزم لما يقتضيه ظاهرُ الحالِ من قصر الثانية عليهم ضرورةَ أنه إذا لم يظِلمْ أحدٌ من الناس إلا نفسَه يلزم أن لا يظلِمَه إلا نفسُه إذ لو ظلمه غيرُه يلزم كونُ ذلك الغيرِ ظالماً لغير نفسِه والمفروضُ أن لا يظلم أحدٌ إلا نفسَه فاكتُفي بالقصر الأولِ عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة وصيغةُ المضارع للاستمرار نفياً وإثباتاً فإن حرفَ النفي إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقامِ استمرارَ النَّفِي لا نفيَ الاستمرارِ ألا يرى أن قولك ما زيدا ضربت يدل على اختصاص النفي لا على نفي الاختصاص ومساقُ الآيةِ الكريمةِ لإلزام الحجةِ ويجوز أن يكون للوعيد فالمضارعُ المنفيُّ للاستقبال والمُثبتُ للاستمرار والمعنى أن الله لا يظلِمُهم بتعذيبهم يومَ القيامة شيئاً من الظلم ولكنهم أنفسَهم يظلِمون ظلماً مستمراً فإن مباشرتَهم
(4/149)
 
 
سورة يونس (45 46) المستمرةَ للسيئات الموجبةِ للتعذيب عينُ ظلمِهم لأنفسهم وعلى الوجهين فالآيةُ الكريمة تذييلٌ لما سبق
(4/150)
 
 
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} منصوبٌ بمضمر وقرئ بالنون على الالتفات أي اذكر لهم أو أنذِرْهم يوم يحشرهم
{كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ} أي كأنهم لَّمْ يَلْبَثُواْ
{إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار} أي شيئاً قليلاً منه فإنها مثَلٌ في غاية القِلة وتخصيصُها بالنهار لأن ساعاتِه أعرفُ حالاً من ساعاتِ الليلِ والجملةُ في موقع الحالِ من ضمير المفعولِ أي يحشرهم مشبَّهين في أحوالهم الظاهرةِ للناس بمَنْ لم يلبَثْ في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا ذلك القدرَ اليسيرَ فإن مَنْ أقام بها دهراً وتمتع بمتاعها لا يخلو عن بعض آثارِ نعمةٍ وأحكامِ بهجةٍ منافيةٍ لما بهم من رثاثة الهيئةِ وسوء الحالِ أو بمن لم يلبَث في البرزخ إلا ذلك المقدارَ ففائدة التقييدِ بيانُ كمالِ يُسرِ الحشرِ بالنسبةِ إلى قُدرتِه تعالى ولو بعد دهرٍ طويلٍ وإظهارِ بطلانِ استبعادِهم وانكارِهم بقولهم أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أئنا لمبعوثون ونحوِ ذلك أو بيانُ تمامِ الموافقةِ بين النشأتين في الأشكال والصورِ فإن قلة اللبث فى البرزح من موجبات عدمِ التبدلِ والتغيرِ فيكون قوله عز وعلا
{يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} بياناً وتقريراً له لأن التعارفَ مع طول العهدِ ينقلب تناكراً وعلى الأول يكون استئنافاً أي يعرِف بعضُهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً وذلك أولَ ما خرجوا من القبور إذ هم حينئذٍ على ما كانُوا عليهِ من الهيئة المتعارَفةِ فيما بينهم ثم ينقطع التعارفُ بشدة الأهوالِ المذهلة واعتراءِ الأحوالِ المُعضلة المغيِّرةِ للصور والأشكالِ المبدّلة لها من حال إلى حال
{قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله} شهادةٌ من الله سبحانه وتعالى على خُسرانهم وتعجبٌ منه وقيلَ حالٌ منْ ضميرِ يتعارفون على إرادة القولِ والتعبيرُ عنهم بالموصول مع كون المقام مقام إضمارٍ لذمِّهم بما في حيزِ الصلة والإشعار بعليته لما أصابهم والمرادُ بلقاء الله إن كان مطلقَ الحسابِ والجزاءِ أو حسنَ اللقاءِ فالمراد بالخسران الوضيعةُ والمعنى وضَعوا في تجاراتهم ومعاملاتهم واشترائِهم الكفرَ بالإيمان والضلالةَ بالهدى ومعنى قوله تعالى
{وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} ما كانوا عارفين بأحوال التجارةِ مهتدين لطرقها وإن كان سوءَ اللقاءِ فالخَسارُ الهلاك والضلالُ أي قد ضلوا وهلكوا بتكذيبهم وما كانوا مهتدين إلى طريق النجاة
(4/150)
 
 
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
{وإما نرينك} أصله إن نُرِكَ ومَا مزيدةٌ لتأكيدِ معنى الشرط ومن ثمة أُكد الفعلُ بالنون أي بنُصرتك بأن نُظهرَ لك
{بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ} أي وعدناهم من العذاب ونعجِّلَه في حياتك فتراه والعدولُ إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار الصورةِ أو للدِّلالةِ على التَّجددِ والاستمرارِ أي نعِدُهم وعداً متجدداً حسبما تقتضيه الحكمةُ من إنذارٍ غِبَّ إنذار وفي تخصيص البعضِ بالذكر رمزا إلى العِدَة بإراءةِ بعضِ الموعودِ وقد أراه يومَ بدر
{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبلَ ذلكَ {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي كيفما دارات الحال أريناك بعض ما وعدناهم أولا فإلينا مرجعُهم في الدنيا والآخرة فنتجز ما وعدناهم البتة
(4/150)
 
 
سورة يونس (47 49) وقيل المذكورُ جوابٌ للشرط الثاني كأنه قيل فإلينا مرجعُهم فنريكَه في الآخرة وجوابُ الأول محذوفٌ لظهوره أي فذاك
{ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} من الأفعال السيئةِ التي حُكيت عنهم والمرادُ بالشهادة إما مقتضاها ونتيجتُها وهي معاقبتُه تعالى إياهم وإما إقامتُها وأداؤُها بإنطاق الجوارحِ وإظهارُ اسمِ الجلالةِ لإدخال الروعةِ وتربيةِ المهابةِ وتأكيدِ التهديد وقرئ ثَمّةَ أي هناك
(4/151)
 
 
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
{ولكل أمةٍ} من الأمم الخالية
{رَّسُولٌ} يُبعث إليهم بشريعة خاصةٍ مناسبة لأحوالهم ليدعُوَهم إلى الحق
{فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ} فبلغهم ما أُرسل به فكذبوه وخالفوه
{قُضِىَ بَيْنَهُمْ} أي بين كلِّ أمةٍ ورسولِها
{بالقسط} بالعدل وحُكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وهلاك المكذِبين كقوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً
{وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} في ذلك القضاءِ المستوجِب لتعذيبهم لأنه من نتائج أعمالِهم أو ولكل أمةٍ من الأمم يوم القيامةِ رسولٌ تُنسَبُ إليه وتدعى به فإذا جاء رسولُهم الموقفَ ليشهدَ عليهم بالكفر والإيمان كقوله عز وجل وَجِىء بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ
(4/151)
 
 
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} استعجالاً لما وُعدوا من العذاب على طريقة الاستهزاءِ به والإنكارِ حسبما يرشد إليه الجوابُ لا طلباً لتعيين وقتِ مجيئِه على وجه الإلزام كما في سورة الملك
{إِن كُنتُمْ صادقين} أي في أنه يأتينا والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون عليهم الآياتِ المتضمنةَ للوعد المذكورِ وجوابُ الشرط محذوفٌ اعتماداً على ما تقدم حسبما حُذف في مثلِ قولِه تعالى فائْتنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فإن الاستعجالَ في قوة الأمرِ بالإتيان عجلةً كأنه قيل فليأتنا عجَلةً إن كنتم صادقين ولِما فيه من الإشعار بكون إتيانِه بواسطة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قيل
(4/151)
 
 
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
{قل لا أملك لنفسى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا} أي لا أقدِر على شيءٍ منهما بوجه من الوجوه وتقديمُ الضر لِما أن مساقَ النظمِ لإظهار العجزِ عنه وأما ذكرُ النفعِ فلتوسيع الدائرةِ تكملةً للعجز وما وقع في سورة الأعرافِ من تقديم النفعِ للإشعار بأهميته والمقامُ مقامُه والمعنى إني لا أملك شيئا من شئونى رداً وإيراداً مع أن ذلك أقربُ حصولاً فكيف أملك شئونكم حتى أتسبّبَ في إتيان عذابِكم الموعودِ
{إِلاَّ مَا شَاء الله} استثناءٌ منقطعٌ أي ولكن ما شاء الله كائناً وحملُه على الاتصال على معنى إلا ما شاء الله أن املِكَه يأباه مقامُ التبُّرؤ من أن يكون له عليه السلام دخلٌ في إتيان الوعدِ فإن ذلك يستدعيى بيانَ كونِ المتنازَعِ فيه مما لا يشاء الله أن يملِكه عليه السلام وجعلُ ما عبارةً عن بعض الأحوالِ المعهودةِ المنوطةِ بالأفعال الاختياريةِ المفوضة إلى العباد على أن يكون المعنى لا أملك لنفسي شيئاً من الضر والنفعِ إلا ما شاء الله أن أملِكه منهما من الضر والنفعِ المترتبَيْن على أفعالى الاختيارية كالضر
(4/151)
 
 
سورة يونس (50) والنفعِ المترتبَيْن على الأكل والشربِ عدماً ووجوداً تعسّفٌ ظاهرٌ وقوله تعالى
{لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} بيانٌ لما أُبهم في الاستثناء وتقييدٌ لما في القضاء السابقِ من الإطلاق المُشعِر بكون المقضيِّ به أمراً مُنجزاً غيرَ متوقَّفٍ على شيء غيرِ مجيءِ الرسولِ وتكذيبِ الأمة أي لكل أمةٍ أمة ممن قُضي بينهم وبين رسولِهم أجلٌ معينٌ خاصٌّ بهم لا يتعدى إلى أمة أخرى مضروبٍ لعذابهم يحِلّ بهم عند حلولِه
{إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} إن جُعل الأجلُ عبارةً عن حد معينٍ من الزمان فمعنى مجيئِه ظاهرٌ وإنْ أُريدَ بهِ ما امتدّ إليه من الزمان فمجيئُه عبارةٌ عن انقضائِه إذ هناك يتحقق مجيئُه بتمامه والضميرُ إن جُعل للأمم المدلولِ عليها بكل أمة فإظهار الأجل مضافا إليه لإفادة المعنى المقصودِ الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئُه إياها بعينها من بين الأممِ بواسطة اكتسابِ الأجل بالإضافة عموماً يفيده معنى الجمعية كأنه قيل إذا جاءهم آجالُهم بأن يجيء كل واحدةٍ من تلك الأمم أجلها الخاص بها وإن جُعل لكل أمةٍ خاصةً كما هو الظاهرُ فالإظهارُ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ والإضافةُ إلى الضمير لإفادة كمالِ التعيين أي إذا جاءها أجلُها الخاصُّ بها
{فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ} عن ذلك الأجلِ
{سَاعَةً} أي شيئاً قليلاً من الزمان فإنها مثل في غاية القلة منه أي لا يتأخرون عنه أصلاً وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له
{وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي لا يتقدمون عليهِ وهو عطفٌ عَلى يستأخرون لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل للمبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيلِ عقلاً كما في قوله سبحانه وتعالى وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فإن من مات كافراً مع ظهور أن لا توبةَ له رأساً قد نُظم في عدم قَبولِ التوبةِ في سلك من سوّفها إلى حضور الموتِ إيذانا بتساوي وجود التوبة حينئذٍ وعدِمها بالمرة كما مر في سورة الأعراف وقد جُوِّز أن يراد بمجيء الأجلِ دنوُّه بحيث يمكن التقدمُ في الجملة كمجيء اليومِ الذي ضُرب لهلاكهم ساعةٌ معينةٌ منه لكن ليس في تقييد عدمِ الاستئخار بدنوه مزيدُ فائدةٍ وتقديمُ بيان انتفاءِ الاستئخار على بيان انتفاءِ الاستقدامِ لأن المقصودَ الأهمَّ بيانُ عدمِ خلاصِهم من العذاب ولو ساعةً وذلك بالتأخر وأمَّا ما في قولِه تعالى مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يستأخرون من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيانُ سرِّ تأخيرِ عذابِهم مع استحقاقهم له حسبما ينبيء عنه قوله عز وجل ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فالأهمُّ إذ ذاك بيانُ انتفاءِ السبقِ كما ذكر هناك
(4/152)
 
 
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
{قُلْ} لهم غِبَّ ما بيّنتَ كيفيةَ جريانِ سنةِ الله عزَّ وجلّ فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتَهم على أن عذابَهم أمرٌ مقررٌ محتومٌ ولا يتوقف إلا على مجيء أجله المعلومِ إيذاناً بكمال دنوِّه وتنزيلاً له منزلةَ إتيانه حقيقة
{أرأيتم} أي أخبروني
{إن أتاكم عَذَابُهُ} الذي تستعجلون به
{بَيَاتًا} أي وقتَ بياتٍ واشتغالٍ بالنوم
{أَوْ نَهَارًا} أي عند اشتغالِكم بمشاغلكم حسبما عُيِّن لكم من الأجل بمقتضى المشيئةٍ التابعةِ للحكمة كما عيّن لسائر الأمم المهلكة وقوله عز وجل
{مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} جوابٌ للشرط بحذف الفاءِ كما في قولك إن أتيتُك ماذا تطعمني والمجرمون موضوعٌ موضعَ المضمر لتأكيد الإنكارِ ببيان مباينةِ حالِهم
(4/152)
 
 
سورة يونس (51 52) للاستعجال فإن حقَّ المجرمِ أن يَهلك فزَعاً من إتيان العذابِ فضلاً عن استعجاله والجملةُ الشرطيةُ متعلقةٌ بأرأيتم والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابُه تعالى أيَّ شيءٍ تستعجلون منه سبحانه والشيءُ لا يمكن استعجالُه بعد إتيانِه والمرادُ به المبالغةُ في إنكار استعجالِه بإخراجه من حيز الإمكانِ وتنزيلُه في الاستحالة منزلةَ استعجالِه بعد إتيانِه بناءً على تنزيل تقرر إتيانِه ودنوِّه منزلةَ إتيانه حقيقةً كما أشير إليه وهذا الإنكارُ بمنزلة النهي في قوله عز وعلا أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ خلا أن التنزيلَ هناك صريحٌ وهنا ضمنيٌّ كما في قول من قال لغريمه الذي يتقضّاه حقَّه أرأيتَ إن أعطيتُك حقَّك فماذا تطلُب مني يريد المبالغةَ في إنكار التقاضي بنظمه في سلك التقاضي بعد الإعطاءِ بناءً على تنزيل تقرّرِه منزلة نفسه وقوله عز وجل
(4/153)
 
 
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمنتم بِهِ} إنكارٌ لإيمانهم بنزول العذابِ بعد وقوعِه حقيقةً داخلٌ مع ما قبله من إنكار استعجالِهم به بعد إتيانِه حكماً تحت القولِ المأمورِ به أي أبعد ما وقع العذابُ وحل بكم حقيقةً آمنتم به حين لا ينفعُكم الإيمان إنكارا لتأحيره إلى هذا الحد وإيذاناً باستتباعه للندم والحسرةِ ليُقلعوا عمَّا هُم عليهِ من العناد ويتوجهوا نحوَ التدارُك قبل فوتِ الوقتِ فتقديمُ الظرفِ للقصر وقيل ماذا يستعجل منه متعلِّقٌ بأرأيتم وجوابُ الشرطِ محذوفٌ أي تندموا على الاستعجال أو تعرِفوا خطأه والشرطيةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون الاستخبار وقيل الجوابُ قوله تعالى أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ الخ والاستفهاميةُ الأولى اعتراضٌ والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعِه حين لا ينفعكم الإيمان ثم جيء بكلمة التراخي دِلالةً على الاستبعاد ثم زيد أداةُ الشرطِ دِلالةً على استقلاله بالاستبعاد على أن الأولَ كالتمهيد له وجىء بإذا مؤكد بما ترشيحاً لمعنى الوقوعِ وزيادةً للتجهيل وأنهم لم يومنوا إلا بعد أن لم ينفعْهم الإيمانُ البتةَ وقولُه تعالى
{الآن} استئنافٌ من جهتِه تعالى غيرُ داخلٍ تحت القول الملقن مَسوقٌ لتقرير مضمونِ ما سبق على إرادةِ القولِ أيْ قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوعِ العذاب آلآن آمنتم به إنكاراً للتأخير وتوبيخاً عليه ببيان أنه لم يكن ذلك لعدم سبق الإنذارِ به ولا للتأمل والتدبرِ في شأنه ولا لشيء آخر مما عسى يعد عذراً في التأخير بل كان ذلك على طريق التكذيبِ والاستعجالِ به على وجه الاستهزاءِ وقرىء آلان بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللام وقوله تعالى
{وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي تكذيباً واستهزاءً جملةٌ وقعتْ حالاً من فاعل آمنتم المقدرِ لتشديد التوبيخِ والتقريعِ وزيادةِ التنديمِ والتحسيرِ وتقديم الجار والمجرور على الفعل لمراعاة الفواصلِ دون القصرِ وقوله تعالى
(4/153)
 
 
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
{ثُمَّ قِيلَ} الخ تأكيدٌ للتوبيخ والعتابِ بوعيد العذابِ والعقابِ وهو عطفٌ على ما قدّر قبل آلآن
{الذين ظلموا} أى وضعوا الكفرُ والتكذيبُ موضعَ الإيمان والتصديقِ أو ظلُموا أنفسَهم بتعريضِها للعذابِ والهلاكِ ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ لذمِّهم بما في حيزِ الصلة والإشعارِ بعلّيته لإصابة ما أصابهم ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد المؤلمَ على الدوام
{هَلْ تُجْزَوْنَ} اليوم
{إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} في الدنيا منْ أصنافِ الكفرِ والمَعَاصي التي من جملتها ما مر من
(4/153)
 
 
سورة يونس (53 54) الاستعجال
(4/154)
 
 
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
{ويستنبئونك} أى يستخرونك فيقولون على طريقة الاستهزاءِ أو الإنكار
{أَحَقٌّ هُوَ} أحقٌّ خبرٌ قُدم على المبتدإ الذي هو الضميرُ للاهتمام بهِ ويؤيدُه قولُه تعالى إِنَّهُ لَحَقٌّ أو مبتدأٌ والضميرُ مرتفعٌ به سادٌّ مسدَّ الخبر والجملةُ في موقع النصب بيستنبئونك وقرىء أحق هو تعريضاً بأنه باطلٌ كأنه قيل أهو الحق لا الباطل أو أهو الذي سميتموه الحقَّ
{قُلْ} لهم غيرَ ملتفتٍ إلى استهزائهم مغضياً عما قصدوا وبانياً للأمر على أساس الحكمة
{إِى وَرَبّى} إي من حروف الإيجابِ بمعنى نعم في القسم خاصةً كما أن هل بمعنى قد في الاستفهام خاصةً ولذلك يوصل بواوه
{إِنَّهُ} أي العذابُ الموعودُ
{لَحَقُّ} لثابتٌ البتةَ أُكّد الجوابُ بأتم وجوهِ التأكيدِ حسب شدةِ إنكارِهم وقوتِه وقد زيد تقريراً وتحقيقاً بقوله عز اسمُه
{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين العذابَ بالهرب وهو لاحقٌ بكم لا محالة وهو إما معطوفٌ على جواب القسم أو مستأنفٌ سيق لبيانِ عجزِهم عن الخلاص مع ما فيه من التقرير المذكور
(4/154)
 
 
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} بالشرك أو التعدّي على الغير أو غيرِ ذلك من أصناف الظلمِ ولو مرةً حسبما يفيده كونُ الصفةِ فعلاً
{مَّا فِى الأرض} أي ما في الدُّنيا من خزائنها وأموالِها ومنافعها قاطبةً بما كثُرت
{لاَفْتَدَتْ بِهِ} أي لجعلتْه فديةً لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه
{وَأَسَرُّواْ} أي النفوسُ المدلولُ عليها بكل نفس والعدولُ إلى صيغة الجمعِ مع تحقق العمومِ في صورة الإفرادِ أيضاً لإفادة تهويلِ الخطبِ بكون الإسرارِ بطريق المعيةِ والاجتماع وإنما لم يُراعَ ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كونِ جميعَ ما في الأرض لكل واحدةٍ من النفوس وإيثارُ صيغة الجمع المذكرِ لحمل لفظ النفسِ على الشخص أو لتغليب ذكورِ مدلولِه على إناثه
{الندامة} على مافعلوا من الظلم أي أخفَوْها ولم يظهروها لكن لا للاصطبار والتجلد هيهاتَ ولاتَ حينَ اصطبارٍ بل لأنهم بُهتوا
{لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي عند معاينتِهم من فظاعة الحالِ وشدةِ الأهوالِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ فلم يقدروا على أن ينطِقوا بشيء فلما بمعنى حين منصوبٌ بأسرّوا أو حرفُ شرطٍ حذف جوابُه لدِلالة ما تقدم عليه وقيل أسرها رؤساؤُهم ممن أضلوهم حياءً منهم وخوفاً من توبيخهم ولكن الأمرَ أشدُّ من أن يعترِيَهم هناك شيءٌ غيرَ خوفِ العذاب وقيل أسروا الندامةَ أخلصوها الأن إسرارها إخلاصُها أو لأن سرَّ الشيءِ خالصتُه حيث تخفى ويُضَنّ بها ففيه تهكمٌ بهم وقيل أظهروا الندامةَ من قولهم أسرَّ الشىء وأشره إذا ظهره حين عيل صبره وفى تجلُّده
{وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} أي أُوقع القضاءُ بين الظالمين من المشركين وغيرِهم من أصناف أهل الظلمِ بأن أُظهر الحقُّ سواءٌ كان من حقوق الله سبحانه أو من حقوق العبادِ من الباطل وعومل أهلُ كلَ منهما بما يليق به
{بالقسط} بالعدل وتخصيصُ الظلم بالتعدي وحملُ القضاء على مجرد الحكومةِ بين الظالمين والمظلومين من غير أن يُتعرَّضَ لحال المشركين وهم أظلمُ الظالمين لا يساعدُه المقامُ فإن مقتضاه
(4/154)
 
 
سورة يونس (155) إما كونُ الظلم عبارةً عن الشرك أو عما يدخُل فيه دخولاً أولياً
{وَهُمْ} أي الظالمون
{لاَ يُظْلَمُونَ} فيما فعلى بهم من العذاب بل هو من مقتضيات ظلمِهم ولوازمِه الضرورية
(4/155)
 
 
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)
{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا في السماوات والارض} أي ما وُجد فيهما داخلاً في حقيقتِهما أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما وكلمةُ ما لتغليب غيرِ العقلاءِ على العقلاء فهو تقريرٌ لكمال قدرتِه سبحانه على جميع الأشياءِ وبيان لاندارج الكلِّ تحت ملكوتِه يتصرف فيه كيفما يشاء إيجاداً وإعداماً وإثابةً وعقاباً
{أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله} إظهارُ الاسمِ الجليلِ لتفخيم شأنِ الوعدِ والإشعارِ بعلة الحكم وهو إما بمعنى الموعودِ أي جميعِ ما وُعد به كائناً ما كانَ فيندرج فيه العذابُ الذي استعجلوه وما ذُكر في أثناء بيان حالِه اندراجاً أولياً أو بمعناه المصدريِّ أي وعدَه بجميع ما ذكر فمعنى قولِه تعالى
{أحق} على الأول ثابتٌ واقعٌ لا محالة وعلى الثاني مطابقٌ للواقع وتصديرُ الجملتين بحرفي التنبيهِ والتحقيقِ للتسجيل على مضمونهما المقرِّر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيهِ على وجوب استحضارِه والمحافظةِ عليه
{ولكن أَكْثَرَهُمْ} لقصور عقولِهم واستيلاءِ الغفلة عليهم والفهمِ بالأحوال المحسوسةِ المعتادة
{لا يعلمون} ذلك فيقولون ما يقولُون ويفعلُون ما يفعلون
(4/155)
 
 
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
{هو يحيي وَيُمِيتُ} في الدُّنيا منْ غيرِ دخلٍ لأحدٍ في ذلك
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الآخرة بالبعث والحشر
(4/155)
 
 
يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
{يا أيها الناس} التفاتٌ ورجوعٌ إلى استمالتهم نحوَ الحق واستنزالِهم إلى قَبوله واتباعه غِبَّ تحذيرِهم من غوائل الضلالِ بما تُليَ عليهم من القوارع الناعيةِ عليهم سوءَ عاقبتِهم وإيذانٌ بأن جميعَ ذلك مسوقٌ لمصالحهم ومنافعِهم
{قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ} هي والوعظ والعظة التذكيرُ بالعواقب سواءٌ كان بالزجر والترهيبِ أو بالاستمالة والترغيبِ وكلمة مِن في قوله تعالى
{من رَّبّكُمْ} ابتدائيةٌ متعلقةٌ بجاءتكم أو تبعيضة متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لموعظة أي موعظةٌ كائنةٌ من مواعظ ربِّكم وفي التعرض لعنوان الربوببة من حُسنِ الموقِع ما لا يخفى
{وَشِفَاء لِمَا فِى الصدورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} أي كتاب جامعٌ لهذه الفوائد والمنافِع فإنه كاشفٌ عن أحوال الأعمالِ حسناتِها وسيئاتِها مرغب في الأولى ورادِعٌ عن الأخرى ومبينٌ للمعارف الحقةِ التي هي شفاءٌ لَما في الصدورِ منْ الأدواء القلبيةِ كالجهل والشكِّ والشِّرْكِ والنفاق وغيرِها من العقائد الزائغةِ وهادٍ إلى طريق الحقِّ واليقين بالإرشاد إلى الاستدلال بالدلائل المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ وفي مجيئه رحمةً للمؤمنين حيث نجَوا به من ظلمات الكفرِ والضلال إلى نور الإيمانِ وتخلصوا من دركاتِ النيرانِ وارتقَوا إلى درجات الجنانِ والتنكيرُ فى الكل للتفخيم
(4/155)
 
 
سورة يونس (58 59)
(4/156)
 
 
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{قُلْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمرَ الناسَ بأن يغتنموا ما في القرآن العظيم من الفضل والرحمة
{بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ} المرادُ بهما إما ما في مجيء القرآنِ من الفضل والرحمةِ وإما الجنسُ وهما داخلان فيه دخولاً أولياً والباء متعلقةٌ بمحذوف وأصلُ الكلام ليفرَحوا بفضل الله وبرحمته وتكرير الباء فى رحمته للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرحِ ثم قُدّم الجارُّ والمجرورُ على الفعلِ لإفادةِ القصرِ ثم أُدخل عليه الفاد لإفادة معنى السببيةِ فصار بفضل الله وبرحمته فليفرَحوا ثم قيل
{فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} للتأكيد والتقريرِ ثم حُذف الفعلُ الأولُ لدِلالة الثاني عليهِ والفاءُ الأولى جزائيةٌ والثانية لدلالة على السببية والأصلُ إن فرِحوا بشيء فبذلك ليفرحوا لا بشيء آخرَ ثم أدخل الفاء لدلالة على السببية ثم حذف الشرطُ ومعنى البُعد في اسم الإشارةِ لدلالة على بُعد درجةِ فضلِ الله تعالَى ورحمتِه ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فلْيعتنوا فبذلك فليفرحوا ويجوز أن يتعلق الباءُ بجاءتكم أي جاءتكم موعظةٌ بفضل الله وبرحمته فبذلك أي فبمجيئها فليفرَحوا وقرىء فلتفرحوا وقرأ أُبيّ فافرَحوا وعن ابن كعب أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تلا قل بفضلِ الله وبرحمتِهِ فقالَ بكتاب الله والإسلامِ وقيل فضلُه الإسلامُ ورحمتُه ما وعَد عليه
{هُوَ} أي ما ذكر من فضل الله ورحمته
{خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} من حُطام الدنيا وقرىء تجمعون أي فبذلك فليفرَحِ المؤمنون هو خير مما تجمعون أيها المخاطبون
(4/156)
 
 
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
{قل أرأيتم} أي أخبروني
{مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ} ما منصوبةُ المحلِّ بما بعدها أو بما قبلها واللامُ للدِلالة على أن المرادَ بالرزق ما حل لهم وجعلُه منزلاً لأنه مقدّرٌ في السماء محصّلٌ هو أو ما يتوقف عليه وجوداً أو بقاءً بأسباب سماويةٍ من المطر والكواكبِ في الإنضاج والتلوين
{فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ} أي جعلتم بعضَه
{حَرَامًا} أي حكمتم بأنه حرامٌ
{وَحَلاَلاً} أي وجعلتم بعضَه حلالاً أي حكمتم بحِلّه مع كون كلِّه حلالاً وذلك قولُهم هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ الآية وقولهم مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا ونحوُ ذلك وتقديمُ الحرامِ لظهور أثرَ الجعلِ فيه ودورانِ التوبيخِ عليه
{قُلْ} تكريرٌ لتأكيد الأمرِ بالاستخبار أي أخبروني
{الله أَذِنَ لَكُمْ} في ذلك الجعلِ فأنتم فيه ممتثلون بأمره تعالى
{أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} أم متصلةٌ والاستفهامُ للتقرير والتبكيتِ لتحقق العلمِ بالشق الأخيرِ قطعاً كأنه قيل أم لم يأذنْ لكم بل تفترون عليه سبحانه فأظهر الاسمَ الجليلَ وقدّم على الفعل دِلالةً على كمال قبحِ افترائِهم وتأكيداً للتبكيت إثرَ تأكيدٍ مع مراعة الفواصلِ ويجوز أن يكون الاستفهامُ للإنكار وأمْ منقطعةً ومعنى بل فيها الإضرابُ والانتقال من التوبيخ والزجرِ بإنكار الرذن إلى ما تفيده همزتُها من التوبيخ على الافتراء عليه سبحانه وتقريرِه وتقديمُ الجارِّ والمجرور على هَذا يجوزُ أنْ يكونَ للقصر كأنه قيل بل أعلى الله تعالى خاصة تفترون
(4/156)
 
 
سورة يونس (60 61)
(4/157)
 
 
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
{وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} كلامٌ مَسوقٌ من قِبَله تعالى لبيان هولِ ما سيلقَونه غيرُ داخلٍ تحت القولِ المأمورِ به والتعبيرُ عنهم بالموصول في موقع الإضمارِ لقطع احتمالِ الشق الأولِ من الترديد والتسجيلِ عليهم بالافتراء وزيادةِ الكذب مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذباً لإظهار كمالِ قبحِ ما افتعلوا وكونِه كذباً في اعتقادهم أيضاً وكلمةُ ما استفهاميةٌ وقعت مبتدأً وظن خبرُها ومفعولاه محذوفان وقوله عزَّ وجلَّ
{يَوْمُ القيامةِ} ظرفٌ لنفس الظنِّ أي أيُّ شيءٍ ظنُّهم في ذلك اليوم يومَ عرضِ الأفعال والأقوالِ والمجازاة عليها مثقالاً بمثقال والمرادُ تهويلُه وتفظيعُه بهول ما يتعلق به مما يُصنع بهم يومئذ وقيل هو ظرفٌ لما يتعلق به ظنُّهم اليومَ من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلاً له ولِما فيه من الأحوال لكمال وضوح أمره فى التقرر والتحققِ منزلةَ المسلم عندهم أي أي شيء ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يُسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه أو يجازون جزاءً يسيراً ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون كلا إنهم لفي أشدِّ العذاب لأن معصيتَهم أشدُّ المعاصي وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى على الله كذباً وقرىء على لفظ الماضي أي ظنوا يوم القيامة وإيرادُ صيغةِ الماضي لأنه كائنٌ فكأنه قد كان
{إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} أي عظيم لا يكتنه كنهه
{عَلَى الناس} أي جميعاً حيث أنعم عليهم بالعقل المميّز بين الحقِّ والباطلِ والحسَنِ والقبيحِ ورحِمهم بإنزال الكتبِ وإرسالِ الرسلِ وبيّن لهم الأسرارَ التي لا تستقلُ العقولُ في إدراكها وأرشدهم إلى ما يُهمّهم من أمر المعاشِ والمعاد
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} تلك النعمةَ الجليلةَ فلا يصرِفون قُواهم ومشاعرَهم إلى ما خُلقت له ولا يتبعون دليل العقل فيما يستبد به ولا دليلَ الشرعِ فيما لا يدرك إلا به وقد تفضل عليهم ببيان ما سيلقَوْنه يومَ القيامةِ فلا يلتفتون إليه فيقعون فيما يقعون فهو تذييلٌ لما سبق مقررٌ لمضمونه
(4/157)
 
 
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
{وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ} أي في أمر من شأنْتُ شأْنه أي قصدتُ قصدَه مصدر بمعنى المفعول
{وما تتلو مِنْهُ} الضميرُ للشأنِ والظرفُ صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي تلاوةً كائنةً من الشأن إذ هى معظم شئونه عليه السلام أو للتنزيل والإضمار قبل الذكر لتفخم شأنِه ومن ابتدائيةٌ أو تبعيضية أو لله عز وجل ومن ابتدائيةٌ والتي في قوله تعالى
{من قرآن} مزيدةٌ لتأكيد النفيِ أو ابتدائيةٌ على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضيةٌ على الثاني والثالث
{وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} تعميمٌ للخطاب إثر تخصيصه بمقتدى الكلِّ وقد رُوعي في كل من المقامين ما يليق به حيث ذُكر أولاً من الأعمال ما فيه فخامةٌ وجلالةٌ وثانياً ما يتناول الجليلَ والحقيرَ
{إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا}
(4/157)
 
 
استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي ما تلابِسون بشيء منها في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ كونِنا رُقباءَ مطّلعين عليه حافظين له
{إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تخوضون وتندفعون فيه وأصلُ الإفاضة الاندفاعُ بكثرة أو بقوة وحيث أريد بالأفعال السابقةِ الحالةُ المستمرَّةُ الدائمةُ المقارنةُ للزمان الماضي أيضاً أوثر في الاستثناء صيغةُ الماضي وفي الظرف كلمةُ إذ التي تفيد المضارعَ معنى الماضي
{وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ} أي لا يبعُد ولا يغيب على علمه الشامل وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ من الإشعار باللطف ما لا يخفى وقرئ بكسر الزاى
{مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ} كلمةُ مِنْ مزيدةٌ لتأكيدِ النَّفي أي ما يعزُب عنه ما يساوي في الثقل نملةً صغيرةً أو هباءً
{في الأرض ولا في السماء} أي في دائرة الوجودِ والإمكان فإن العامة لا تعرِف سواهما ممكناً ليس على أحدهما أو متعلِّقاً بهما وتقديمُ الأرضِ لأن الكلامَ في حال أهلِها والمقصودُ إقامةُ البرهانِ على إحاطة علمِه تعالى بتفاصيلها وقوله تعالى
{وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} كلامٌ برأسه مقرِّرٌ لما قبله وَلاَ نافيةٌ للجنس وأصغرَ اسمُها وفي كتاب خبرُها وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر ومن عطفَ على لفظ مثقالِ ذرةٍ وجعل الفتحَ بدلَ الكسرِ لامتناع الصرف أو على محله مع الجار جعلَ الاستثناءَ منقطعاً كأنه قيل لا يعزُب عن ربك شيءٌ ما لكنْ جميعُ الأشياء في كتاب مبين فكيف يعزُب عنه شيءٌ منها وقيل يجوز أن يكون الاستثناءُ متصلاً ويعزُب بمعنى يَبينُ ويصدُر والمعنى لا يصدُر عنه تعالى شيءٌ إلا وهو في كتابٌ مبين والمراد بالكتاب المبين اللوحُ المحفوظ
(4/158)
 
 
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله} بيانٌ على وجه التبشير والوعد لما هو نتيجةٌ لأعمال المؤمنين وغايةٌ لما ذكر قبله من كونه تعالى مهيمناً على نبيه صلى الله عليه وسلم وأمتِه في كلِّ ما يأتُون وما يذرون وإحاطةِ علمه سبحانه بجميع ما فى السماء والأرض وكونِ الكلِّ مثبتاً في الكتاب المبين بعد ما أُشير إلى فظاعة حالِ المفترين على الله تعالى يومَ القيامةِ وما سيعتريهم من الهول إشارةٌ إجماليةٌ على طريق التهديدِ والوعيد وصُدّرت الجملةُ بحرفي التنبيهِ والتحقيقِ لزيادة تقريرِ مضمونِها والوليُّ لغة القريبُ والمرادُ بأولياء الله خُلّصُ المؤمنين لقربهم الروحاني منه سبحانه وتعالى كما سيفصح عنه تفسيرهم
{لاَ خوفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين من لُحوق مكروهٍ
{وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من فواتِ مطلوبِ أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوفٌ وحزنٌ أصلاً بل يستمرون على النشاط والسرورِ كيف لا واستشعارُ الخوفِ والخشيةِ استعظاماً لجلال الله سبحانه وهيبتِه واستقصاراً للجد والسعي في إقامة حقوقِ العبوديةِ من خصائص الخواصِّ والمقرَّبين والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارِعاً لما مر مرارا من أن النفى إن دخل على نفس المضارع يفيد الاستمرارَ والدوامَ بحسب المقام وإنما يعتريهم ذلك لأن مقصِدَهم ليس إلا طاعةَ الله تعالى ونيلَ رضوانِه المستتبِعِ للكرامة والزُّلفى وذلك مما لا ريب في حصوله ولا احتمالَ لفواته بموجب الوعدِ بالنسبة إليه تعالى وأما ما عدا ذلك من الأمور الدنيويةِ المترددةِ بين الحصول والفوات فهي بمعزل من الانتظام في سِلكِ مقصِدهم وجوداً وعدماً حتى يخافوا من حصول
(4/158)
 
 
سورة يونس (63) ضارِّها أو يحزنوا بفوات نافعها وقوله عز وجل
(4/159)
 
 
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
{الذين آمنوا} أي بكل ما جاء من عند الله تعالى
{وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} أي يقون أنفسَهم عما يحِقّ وقايتُها عنه من الأفعال والتروك وقايةً دائمةً حسبما يفيدُه الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبل بيانٌ وتفسيرٌ لهم وإشارةٌ إلى ما به نالوا ما نالوا على طريقة الاستئنافِ المبنيِّ على السؤال ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ كأنه قيل مَنْ أولئك وما سببُ فوزِهم بتلك الكرامةِ فقيل هم الذين جمعوا بين الإيمانِ والتقوى المُفْضِيَيْن إلى كل خير المُنْحِيَيْن عن كل شر وقيل محلُّه النصبُ أو الرفعُ على المدحِ أو على أنه وصفٌ مادحٌ للأولياء ولا يقدحُ في ذلك توسطُ الخبرِ والمرادُ بالتقوى المرتبةُ الثالثةُ منها الجامعة لما تحتها من مرتبة النوقى عن الشرك التي يفيدها الإيمانُ أيضاً ومرتبةِ التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعلٍ وتركٍ أعني تنزهَ الإنسانِ عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتلِ إليه بالكلية وهي التقوى الحقيقيُّ المأمورُ به في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وبه يحصُل الشهودُ والحضورُ والقُرب الذي عليه يدورُ إطلاقُ الاسمِ عليه وهكذا كان حال من دخل معه صلى الله عليه وسلم تحت الخطاب بقوله عز وجل وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ خلا أن لهم في شأن التبتّلِ والتنزّهِ درجاتٍ متفاوتةً حسَب تفاوتِ درجاتِ استعداداتهم الفائضةِ عليهم بموجب المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم الأبيةِ أقصاها ما انتهى إليه هم الأنبياءِ عليهم السلام حتى جمعوا بذلك بين رياسَتي النبوة والولاية ولم يعُقْهم التعلقُ بعالم الأشباحِ عن الاستغراقِ في عالم الأرواح ولم تصُدَّهم الملابسةُ بمصالح الخلقِ عن التبتل إلى جناب الحقِّ لكمال استعدادِ نفوسِهم الزكيةِ المؤيدةِ بالقوة القدسيةِ فمَلاكُ أمرِ الولاية هو التقوى المذكورُ فأولياءُ الله هم المؤمنون المتقون ويقرُب منه ما قيلَ من أنهم الذين تولّى الله هدايتَهم بالبرهان وتولَّوُا القيامَ بحق عبوديةِ الله تعالى والدعوةِ إليه ولا يخالفه ما قيلَ من أنهم الذين يُذكرُ الله برؤيتهم لما رُوي عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل مَنْ أولياءُ الله فقال هم الذين يُذكرُ الله برؤيتهم أي بسَمْتهم وإخباتهم وسكينتهم ولا ما قيلَ من أنهم المتحابّون في الله لما رُوي عن عمر رضيَ الله عنه أنَّه قال سمعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقول إن من عبادِ الله عباداً ليسوا بأنبياءَ ولا شهداءَ يغبِطُهم الأنبياءُ والشهداءُ يوم القيامة لمكانهم من الله قالوا يا رسولَ الله خبِّرنا من هم وما أعمالُهم فلعلنا نحبّهم قال هم قوم تحابُّوا في الله على غير أرحامٍ منهم ولا أموالٍ يتعاطَونها فوالله إن وجوهم لنورٌ وإنهم لعلى منابرَ من نور لا يخافون إذا خاف الناسُ ولا يحزنون إذا حزِن الناسُ فإنَّ ما ذُكر من حسن السَّمْت والسكينةِ المذكِّرةِ لله تعالى والتحابِّ في الله سبحانه من الأحكام الدنيوية الازمة للإيمان والتقوى والآثارِ الخاصّةِ بهما الحقيقةِ بالتخصيص بالذكر لظهورها وقُربها من أفهام الناسِ قد أورد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كُلاًّ من ذلك حسبما يقتضيه مقام الإرشاد والذكير ترغيباً للسائلين أو غيرِهم من الحاضرين فيما خصه بالذكر هناك من أحكامهما فلعلَّ الحاضرين أولاً كانوا محتاجين إلى إصلاح الحالِ من جهة الأقوالِ والأفعال والملابس ونحو ذلك والحاضرين ثانياً مفتقرين إلى تأليف قلوبِهم وعطِفها نحوَ المؤمنين الذين لا علاقة بينهم وبينهم من جهة النسبِ والقرابةِ وتأكيدِ ما بينهم من الأخوة
(4/159)
 
 
سورة يونس (64) الدينية ببيان عِظَم شأنِها ورفعةِ مكانتها وحُسن عاقبتِها ليُراعوا حقوقَها ويهجُروا من لا يواتفقهم في الدين من أرحامهم وأما ما ذكر من أنه يغبِطُهم الأنبياءُ فتصويرٌ لحسن حالِهم على طريقة التثميل قال الكواشي وهذا مبالغةٌ والمعنى لو فُرض قومٌ بهذه الصفة لكانوا هؤلاء وقيل أولياءُ الله الذين يتولّونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجعل قولِه عزّ