تفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

    
 
  
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
 
 
 
 
  
 
الكتاب: تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
المؤلف: أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى: 982هـ)
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
 
{جَهَنَّمَ} وقولُه تعالى
{خَالِداً فِيهَا} حالٌ مقدّرةٌ من فاعل فعلٍ مقدرٍ يقتضيه المقامُ كأنه قيل فجزاؤه أن يدخُلَ جهنَّم خالداً فيها وقيلَ هُو حالٌ من ضمير يجزاها وقيل من مفعول جازه وأُيّد ذلك بأنه أنسبُ بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغةً ولا يخفى أن ما يُقدّر للحال أو العطف عليه حقُّه أن يكون مما يقتضيه المقامُ اقتضاءً ظاهراً ويدل عليه الكلامُ دَلالةً بينةً وظاهرٌ أن كونَ جزائِه ما ذُكر لا يقتضي وقوعَ الجزاءِ البتةَ كما ستقف عليه حتى يُقدَّرَ يُجزاها أو جازاه بطريق الإخبارِ عن وقوعه وأما قولُه تعالى
{وغضب الله عليه} فعطف على مقدر يدلُّ عليه الشرطيةُ دِلالةً واضحةً كأنه قيل بطريق الاستئنافِ تقريراً وتأكيداً لمضمونها حكمُ الله بأن جزاءَه ذلك وغضِب عليه أي انتقم منه
{وَلَعَنَهُ}
أي أبعده عن الرحمة بجعل جزائِه ما ذكر وقيل هو وما بعده معطوفٌ على الخبر بتقدير أنّ وحملُ الماضي على معنى المستقبلِ كَما في قولِه تعالى {وَنُفِخَ فِى الصور} ونظائرِه أي فجزاؤُه جهنمُّ وأن يغضَبَ الله عليه الخ
{وَأَعَدَّ لَهُ} في جهنم
{عَذَاباً عظيما} لا يقادر قدره ولِما ترى في الآية الكريمةِ من التهديد الشديدِ والوعيدِ الأكيدِ وفنونِ الإبراق والإرعادِ وقد تأيدت بما رُوي من الأخبار الشِّداد كقوله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لَزَوالُ الدُّنيا عند الله أهونُ من قتلِ مؤمن وقوله صلى الله عليه وسلم لو أن رجلاً قُتل بالمشرق وآخَرُ رضِي بالمغرب لأَشرَك في دمه وقوله صلى الله عليه وسلم من أعان على قتل مؤمنٍ ولو بشَطْر كلمةٍ جاء يوم القيامةِ مكتوبٌ بين عينيه آيسٌ من رحمة الله تعالى وبنحو ذلك من القوارع تمسكت الخوارجُ والمعتزلةُ بها في خلود مَنْ قتل المؤمنَ عمداً في النار ولا مُتمَسَّك لهم فيها إلا لِما قيل من أنها في حق المستحِلِّ كما هو رأيُ عِكرِمةَ وأضرابِه بدليل أنها نزلت في مقيسِ بنِ ضبابةَ الكِناني المرتدِّ حسبما مرت حكايتُه فإن العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوص السببِ بل لأن المرادَ بالخلود هو المكثُ الطويلُ لا الدوامُ لتظاهر النصوصِ الناطقةِ بأن عصاةَ المؤمنين لا يدوم عذابُهم وما رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لا توبةَ لقاتل المؤمنِ عمداً وكذا ما روي عن سفيانَ أن أهلَ العلم كانوا إذا سُئلوا قالوا لا توبةَ له محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظِ وعليه يُحمل ما روي عن أنسٍ رضيَ الله تعالى عنه أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمنِ توبة كيفَ لاَ وقد رُويَ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً سأله ألِقاتلِ المؤمنِ توبةٌ قال لا وسأله آخَرُ ألقاتل المؤمن توبةٌ فقال نعم فقيل له قلت لذلك كذا ولهذا كذا قال كان الأولُ لم يقتُلْ بعد فقلت ما قلت كيلا يقتُلَ وكان هذا قد قتل فقلت له ما قلت لئلا ييأسَ وقد روي عنه جوازُ المغفرةِ بلا توبة أيضاً حيث قال في قوله تعالى فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ الآيةُ هي جزاؤُه فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له ورُوي مرفوعا عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال هو جزاؤُه إن جازاه وبه قال عونُ بنُ عبدِ اللَّهِ وبكرُ بنُ عبدِ اللَّه وأبو صالح قالوا قد يقول الإنسانُ لمن يزجُره عن أمر إن فعلتَه فجزاؤُك القتلُ والضربُ ثم إن لم يجازِه بذلك لم يكن ذلك منه كذباً قال الواحدي والأصلُ في ذلك إِنَّ الله عز وجل يجوزُ أن يُخلِفَ الوعيدَ وإن امتنع أن يُخلِف الوعد بهذا وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أنسٌ رضيَ الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال من وعده الله تعالى على عمله ثواباً فهو مُنجِزُه له ومن أوعده على عمله عِقاباً فهو بالخيار والتحقيقُ أنه لا ضرورة إلى تفريع
(2/217)
 
 
94 - النساء ما نحن فيه على الأصل المذكورِ لأنه إخبارٌ منه تعالى بأن جزاءَه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك كيفَ لا وقَدْ قالَ الله تعالى وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كلَّ سيئةٍ بمثلها لعارض قوله تعالى {ويعفو عن كثير}
(2/218)
 
 
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} إثرَ ما بيّن حكمَ القتلِ بقسميه وأن ما يُتصوّر صدورُه عن المؤمن إنما هو القتلُ خطأً شرَعَ في التحذير عَمَّا يؤدَّي إليهِ منَ قلة المبالاةِ في الأمور
{إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله} أي سافرتم في الغزو ولِمَا في إذا من معنى الشرطِ صُدِّر قولُه تعالى
{فتبينوا} بالفاء أى فاطلُبوا بيانَ الأمرِ في كل ما تأتون وما تذرون ولا تعجَلوا فيه بغير تدبر وروية وقرئ فتثبّتوا أي اطلُبوا إثباته وقوله تعالى
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام} نهيٌ عما هو نتيجةٌ لترك المأمورِ به وتعيينٌ لمادّة مُهمّةٍ من الموادّ التي يجب فيها التبيينُ وقرئ السِّلْمَ بغير ألف وبكسر السين وسكون اللام أي لا تقولوا بغير تأمل لمن حياكم بتحية الإسلامِ أو لمن ألقى إليكم مقاليدَ الاستسلام والانقيادِ
{لَسْتَ مُؤْمِناً} وإنما أظهرتَ ما أظهرتَ متعوِّذاً بلِ اقبَلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه وقرئ مُؤمَناً بالفتح أي مبذولاً لك الأمانُ وهذا أنسبُ بالقراءتين الأخرتين ولاقتصار على ذكر تحيةِ الإسلامِ في القراءة الأولى مع كونها مقرونةً بكلمتي الشهادةِ كما سيأتي في سبب النزول للمبالغة في النهي والزجرِ والتنبيهِ على كمال ظهورِ خطئِهم ببيان أن تحية الإسلامِ كانت كافيةً في المُكافّة والانزجارِ عن التعرض لصاحبها فكيف وهي مقرونةٌ بهما وقوله تعالى
{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا} حال من فاعل لاتقولوا منبئ عما يحمِلُهم على العَجَلة وتركِ التأنّي لكن لا على أن يكون النهيُ راجعاً إلى القيد فقط كما في قولك لا تطلُبَ العلمَ تبتغي به الجاهَ بل إليهما جميعاً أي لا تقولوا له ذلك حالَ كونِكم طالبين لمالِه الذي هو حُطامٌ سريع النفاذ وقولُه تعالى
{فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} تعليلٌ للنهي عن ابتغاء مالِه بما فيه من الوعد الضِّمني كأنه قيل لا تبتغوا مالَه فعند الله مغانمُ كثيرةٌ يُغنِمُكموها فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه وقولُه تعالى
{كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} تعليلٌ للنهي عن القول المذكورِ ولعل تأخيرَه لما فيه من نوع تفصيل ربَّما يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم مع مافيه من مراعاة المقارنةِ بين التعليلِ السابقِ وبين ما عُلِّل به كما في قوله تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} الخ وتقديمُ خبرِ كان للقصر المفيد لتأكيد المشابهةِ بين طرفي التشبيهِ وذلك إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ والفاء في فمن للعطف على كنتم أي مثلَ ذلك الذي ألقى إليكم السلامَ كنتم أنتم أيضا في مبادى إسلامكم لايظهر منكم للناس غيرُ ما ظهر منه لكم من تحية الإسلامِ ونحوِها فمنّ الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبةَ وعصَم بها دماءَكم وأموالَكم ولم يأمُرْ بالتفحُّص عن سرائركم والفاء في قوله تعالى
{فَتَبَيَّنُواْ}
(2/218)
 
 
فصيحةٌ أي إذا كان الأمرُ كذلك فاطلُبوا بيانَ هذا الأمرِ البيِّنِ وقيسوا حالَه بحالكم وافعلوا به ما فُعل بكم في أوائلِ أمورِكم من قَبول ظاهرِ الحالِ من غيرِ وقوفٍ على تواطُؤِ الظاهِرِ والباطنِ هذا هو الذي تقتضيهِ جزالةُ التنزيلِ وتستدعيه فخامة شأنه الجليل ومن حسِبَ أن المعنى أولُ ما دخلتم في الإسلام سُمعت من أفواهكم كلمةُ الشهادةِ فحصَّنَتْ دماءَكم وأموالَكم من غير انتظارِ الاطلاعِ على مواطأة قلوبِكم لألسنتكم فمنّ الله عليكم بالاستقامة والاشتهارِ بالإيمان والتقدّمِ فيه وأنْ صِرْتم أعلاماً فيه فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فُعل بكم وأن تعتبروا ظاهِرَ الإسلام في المكافة ولا تقولوا الخ فقد أبعدَ عن الحق لأن المراد كما عرفت أن تحصينَ الدماءِ والأموالِ حُكمٌ مترتِّبٌ على ما فيه المماثلةُ بينه وبينهم من مجرد التفوُّه بكلمة الشهادة وإظهارِ أن ترتُّبَه عليه في حقهم يقتضي ترتبه عليه في حقه أيضاً إلزاماً لهم وإظهاراً لخطئهم ولا يخفى أن ذلك إنما يتأتى بتفسيرٍ منه تعالى عليهم المترتب على كونهم مثلَه بتحصين دمائِهم وأموالِهم حسبما ذكر حتى يظهرَ عندهم وجوبُ تحصينِ دمِه ومالِه أيضاً بحكم المشاركةِ فيما يوجبه وحيث لم يفعل ذلك بل فسره بما فسّره به لم يبقَ في النظم الكريم ما يدل على ترتب تحصينِ دمائِهم وأموالِهم على ما ذكر فمِنْ أين له أن يقول فحصَّنَتْ دماءَكم وأموالَكم حتى يتأتى البيانُ وارتكابُ تقديرِه بناءً على اقتضاء ما ذُكر في تفسير المنِّ إياه بناءً على أساس واهٍ كيف لا وإنما ذِكرُه بصدد التفسيرِ وإن كان أمراً متفرعاً على ما فيه المماثلةُ مبنياً عليه في حقهم لكنه ليس بحكم أريد إثباته في وجوب بناءً على ثبوته في حقهم كالتحصين المذكورِ حتى يستحقَّ أن يُتعرَّض له ولا بأمر له دخلٌ في وجوب اعتبارِ ظاهرِ الإسلامِ من الداخلين فيه حتى يصِحَّ نظمُه في سلك ما فُرِّع عليه قولُه فعليكم أن تفعلوا الخ وحملُ الكلامِ على معنى أنكم في أول الأمرِ كنتم مثلَه في قصور الرتبة في الإسلام فمنّ الله عليكم وبلغتم هذه الرتبةَ العاليةَ منه فلا تستقصروا حالتَه نظراً إلى حالتكم هذه بل اعتدّوا بها نظراً إلى حالتكم السابقةِ يردُّه أن قتلَه لم يكن لاستقصار إسلامِه بل لتوهم عدمِ مطابقةِ قلبِه للسانه فإن الآية الكريمة نزلت في شأن مرداس ابن نهيكٍ من أهل فدَكٍ وكان قد أسلم ولم يُسلمْ من قومه غيرُه فغزتْهم سريةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم غالب ابن فَضالةَ الليثي فهربوا وبقيَ مرداسٌ لثقته بإسلامه فلما رأى الخيلَ ألجأ غنمَه إلى عاقول من الجبل وصعِد فلما تلاحقوا وكبّروا وأكبر وقال لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله السلامُ عليكم فقتله أسامةُ بنُ زيدٍ واستاق غنمَه فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجَد وجْداً شديداً وقال قتلتموه إرادةَ ما معه فقال أسامة بن زيد إنه قال بلسانه دون قلبِه وفي رواية إنما قالها خوفاً من السلاح فقال صلى الله عليه وسلم هلا شقَقْتَ عن قلبه وفي رواية أفلا شقَقْتَ عن قلبه ثم قرأ الآيةَ على أسامةَ فقالَ يا رسولَ الله استغفِرْ لي فقال كيف بلا إله إلا الله قال أسامة فما زال صلى الله عليه وسلم يعيدُها حتى ودِدتُ أن لم أكن أسلمتُ إلا يومئذ ثم استغفرَ لي وقال أعتِقْ رقبة وقيل نزلت في رجل قال يارسول الله كنا نطلُب القومَ وقد هزمهم الله تعالى فقصَدْتُ رجلاً فلما أحسَّ بالسيف قال إني مسلمٌ فقتلتُه فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أقتلتَ مسلماً قال إنه كان متعوذا فقال صلى الله عليه وسلم أفلا شقَقْتَ عن قلبه
{إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} منَ الأعمالِ الظاهرةِ والخفيةِ وبكيفياتها
{خَبِيراً} فيجازيكم بحسبها إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌّ فلا تتهاونوا في القتل واحتاطوا فيه والجملةُ تعليلٌ لما قبلها بطريق الاستئناف وقرئ بفتح
(2/219)
 
 
95 - النساء إن على أنها معمولُه لِتَبَيَّنوا أو عَلى حذفِ لامِ التعليلِ
(2/220)
 
 
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
{لاَّ يَسْتَوِى القاعدون} بيانٌ لتفاوت طبقاتِ المؤمنين بحسب تفاوتِ درجاتِ مساعيهم في الجهاد بعد ما مر من الأمر به وتحريضِ المؤمنين عليه ليأنَفَ القاعدُ عنه ويترفَّعَ بنفسه عن انحطاط رتبته فيهتزله رغبةً في ارتفاع طبقتِه والمرادُ بهم الذين أُذِن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاءً بغيرهم قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هم القاعدون عن بدْر والخارجون إليها وهو الظاهرُ الموافقُ لتاريخ النزولِ لا ما روي عن مقاتل من أنهم الخارجون إلى تبوك فإنه مما لا يوافقه التاريخُ ولا يساعده الحال إذ لم يكن للمتخلّفين يومئذ هذه الرخصةُ وقولُه تعالى
{مِنَ المؤمنين} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من القاعدين أي كائنين من المؤمنين وفائدتُها الإيذانُ من أولِ الأمرِ بعدمِ إخلالِ وصفِ القعودِ بإيمانهم والإشعارُ بعلة استحقاقِهم لما سيأتي من الحُسنى
{غَيْرُ أُوْلِى الضرر} صفة للقاعدون لجريانه مجرئ النكرةِ حيث لم يُقصَدْ به قومٌ بأعيانهم أو بدل منه وقرئ بالنصب على أنه حال منه أو استثناء وبالجر على أنه صفةٌ للمؤمنين أو بدلٌ منه والضررُ المرضُ أو العاهةُ من عمىً أو عرَجٍ أو زَمانةٍ أو نحوها وفي معناه العجزُ عن الأُهبة عن زيدِ بنِ ثابتٍ رضي الله تعالى عنه أنه قال كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشِيَتْه السكينةُ فوقعت فخِذُه على فخذي حتى خشِيتُ أن ترُضَّها ثم سُرِّيَ عنه فقال اكتبْ فكتبتُ لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين والمجاهدون فقال ابنُ أمِّ مكتومٍ وكان أعمى يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهادَ من المؤمنين فغشيتْه السكينةُ كذلك ثم سُرِّي عنه فقال اكتب {لاَّ} يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر
{والمجاهدون} إيرادُهم بهذا العنوانِ دون الخروجِ المقابلِ لوصف المعطوفِ عليه كما وقع في عبارة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذا تقييدُ المجاهدةِ بكونها
{فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ} لمدحهم بذلك والإشعارِ بعلة استحقاقِهم لعلو المرتبةِ مع ما فيه من حسن موقعِ السبيلِ في مقابلة القعودِ وتقديمِ القاعدين في الذكر والإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ القصور الذى ينبئ عنه عدمُ الاستواءِ من جهتِهِم لا من جهةِ مقابلِيهِم فإن مفهومَ عدمِ الاستواءِ بين الشيئينِ المتفاوتينِ زيادةً ونقصاناً وإن جازَ اعتبارُهُ بحسبِ زيادةُ الزائدِ لكنْ المتبادرُ اعتبارُهُ بحسبِ قصورِ القاصر وعليهِ قولُه تعالى {هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور} إلى غير ذلك وأما قولُهُ تعالى {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} فلعلَّ تقديمَ الفاضلِ فيهِ لأنَّ صلَتَهُ ملكة لصلة المفضول وقوله عز وجل
{فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً} استئناف مسوق لتفضيل ما بينَ الفريقينِ من التفاضل المفهومِ من ذكر عدمِ استوائِهما إجمالاً ببيان كيفيتِه وكمِّيتِه مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنه قيل كيف وقع ذلك فقيل الله الخ وأما تقديرُ ما لهم لا يستووى فإنما يليق بجعل الاستئنافِ
(2/220)
 
 
96 - النساء تعليلاً لعدم الاستواءِ مَسوقاً لإثباته وفيه تعكيس ظاهرٌ فإن الذي يحِقُّ أن يكونَ مقصوداً بالذات إنما هو بيانُ تفاضُلِ الفريقين على درجات متفاوتة وأما عدمُ استوائِهما فقُصارى أمرِه أن يكون توطئةً لذكره ولامُ المجاهدين والقاعدين للعهد فقيدُ كونِ الجهادِ في سبيل الله معتبرٌ في الأول كما أن قيدَ عدمِ الضررِ معتبرٌ في الثاني ودرجة نُصب على المصدرية لوقوعها موقعَ المرَّةِ من التفضيل أي فضل الله تفضيلةً أو على نزع الخافض أي بدرجة وقيل على التمييز وقيل على الحالية من المجاهدين أي ذوي درجةٍ وتنوينُها للتفخيم وقوله تعالى
{وَكُلاًّ} مفعولٌ أولٌ لما يعقُبه قُدّم عليه لإفادة القصرِ تأكيداً للوعد أي كلَّ واحدٍ من المجاهدين والقاعدين
{وَعَدَ الله الحسنى} أي المثوبةَ الحُسنى وهي الجنةُ لا أحدَهما فقط كما في قولِه تعالى وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً على أن اللامَ متعلقةٌ برسولا والجملة اعتراض جئ به تداركاً لما عسى يُوهِمَهُ تفضيلُ أحدِ الفريقين على الآخَر من حرمانِ المفضول وقوله عز وجل
{وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين} عطفٌ على قوله تعالى فَضَّلَ الله الخ واللامُ في الفريقين مُغْنيةٌ لهما عن ذكر القيودِ التي تُركت على سبيل التدريجِ وقوله تعالى
{أَجْراً عَظِيماً} مصدرٌ مؤكّدٌ لفضّل على أنه بمعنى أَجَر وإيثار على ما هو مصدرٌ من فعله للإشعار بكون ذلك التفضيل أجرا لأعمالهم أو مفعولٌ ثانٍ له بتضمينه معنى الإعطاءِ أي أعطاهم زيادةً على القاعدين أجراً عظيماً وقيل هو منصوبٌ بنزعِ الخافضِ أي فضّلهم بأجر عظيم وقولُه تعالى
(2/221)
 
 
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
{درجات} بدلٌ من أجراً بدلَ الكلِّ مبينٌ لكمية التفضيلِ وقوله تعالى
{مِنْهُ} متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجاتٍ دالةً على فخامتها وجلالةِ قدْرِها أي درجاتٍ كائنةً منه تعالى قال ابن محير يزهي سبعون درجةٍ ما بين كلِّ درجتين عدْوُ الفرسِ الجوادِ المُضْمرِ سبعين خريفاً وقال السدي هي سبعُمائةِ درجةٍ وعن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه إن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بينَ السماءِ والأرضِ ويجوز أن يكونَ انتصابُ درجاتٍ على المصدرية كما في قولك ضربه أسواطاً أي ضرباتٍ كأنه قيل فضّلهم تفضيلات وقوله تعالى
{وَمَغْفِرَةٌ} بدلٌ من أجراً بدلَ البعضِ لأن بعضَ الأجرِ ليس من باب المغفرة أي مغفرة لَما يفرطُ منهم من الذنوب التي لا سائرُ الحسناتِ التي يأتي بها القاعدون أيضاً حتى تُعدَّ من خصائصهم وقولُه تعالى
{وَرَحْمَةً} بدل الكلِّ من أجرا مثل درجاتٍ ويجوز أن يكون انتصابُهما بإضمار فعلِهما أي غَفَر لهم مغفرةً ورحِمَهم رحمة هذا ولعل تكريرَ التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة وتقييدَه تارةً بدرجة وأخرى بدرجاتٍ مع اتحاد المفضّلِ والمفضلِ عليه حسبما يقتضيه الكلامُ ويستدعيه حسن النظام إما لتنزيل الاختلاف العنوانيِّ بين التفضيلين وبين الدرجةِ والدرجاتِ منزلةَ الاختلافِ الذاتي تمهيداً لسلوك طريقِ الإبهامِ ثمَّ التفسيرِ رَوْماً لمزيد التحقيقِ والتقريرِ كما في قوله تعالى فلما جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ كأنه قيل فضّل الله المجاهدين على القاعدين درجةٍ لا يقادَر قدرُها ولا يُبلَغُ كُنهُها وحيث كان تحقّقُ هذا البونِ البعيدِ بينهما مُوهِماً لحِرمان القاعدين قيل وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ثم أريد تفسيرُ ما أفاده
(2/221)
 
 
97 - النساء التنكيرُ بطريق الإبهامِ بحيث يقطَعُ احتمالَ كونِه للوِحْدة فقيل ما قيل ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجةِ والدرجاتِ على أن المرادَ بالتفضيل الأولِ ما خوّلهم الله تعالى عاجلاً في الدنيا من الغنيمة والظَّفَر والذِكْرِ الجميلِ الحقيقِ بكونه درجةً واحدةً وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العاليةِ الفائتةِ للحصر كما ينبئ عنه تقديمُ الأولِ وتأخيرُ الثاني وتوسيطُ الوعدِ بالجنة بينهما كأنه قيل وفضّلهم عليهم في الدنيا درجةً واحدةً وفي الآخرة درجاتٍ لا تحصى وقد وُسِّط بينهما في الذكر ما هو متوسِّط بينهما في الوجود أعني الواعد بالجنة توضيحاً لحالهما ومسارعةً إلى تسلية المفضولِ والله سبحانه أعلم هذا ما بين المجاهدين وبين القاعدين غيرِ أولي الضررِ وأما أولوا الضررِ فهم مساوون للمجاهدين عند القائلين بمفهوم الصفةِ وبأن الاستثناءَ من النفي إثباتٌ وأما عند من لا يقول بذلك فلا دِلالة لعبارة النصِّ عليه وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد خلّفتم في المدينة أقواماً ما سِرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم وهم الذين صحّت نياتُهم ونصَحَتْ جيوبُهم وكانت أفئدتُهم تهوى إلى الجهاد وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرار أو غيره وبعبارة أخرى إن في المدينة لأقواماً ما سِرتم من مسير ولا قطعتم من وادٍ إلا كانوا معكم فيه قالوا يا رسولَ الله وهم بالمدينة قال نعم وهم بالمدينة حبَسهم العُذرُ قالوا هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى سوى الضرر قذ ذكرت في قوله تعالى {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} إلى قوله {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وقيل القاعدون الأُوَلُ هم الأضراءُ والثاني غيرُهم وفيه من تفكيك النظمِ الكريمِ مَا لاَ يخفى ولا ريب في أن الأضّراءَ من غيرهم درجةً كما لا ريب في أنهم دون المجاهدين بحسب الدرجةِ الدنيوية
{وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} تذليل مقرِّرٌ لما وَعَد من المغفرة والرحمة
(2/222)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
{إن الذين توفاهم الملائكة} بيانٌ لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيانِ حالِ القاعدين عن الجهاد وتوفاهم يحتمل أن يكون ماضيا ويؤيده قرأ توفتْهم وأن يكون مضارعاً قد حُذف منه إحدى التاءينِ وأصلُه تتوفاهم على حكايةِ الحالِ الماضيةِ والقصدِ إلى استحضار صورتِها ويَعضده قراءةُ مَن قرأَ تُوَفاهم على مضارع وُفِّيَتْ بمعنى أن الله تعالى يرفى الملائكةَ أنفسِهم فيتوفّونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها
{ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} حالٌ من ضمير تَوَفاهم فإنه وإن كان مضافاً إلى المعرفة إلا أنه نكرةٌ في الحقيقة لأن المعنى على الانفصال وإن كان موصولاً في اللفظِ كما في قولِه تعالى غَيْرَ مُحِلّى الصيد وهديا بالغ الكعبه وثانى عِطْفِهِ أي مُحلّين الصّيدَ وبالغاً الكعبةَ وثانياً عِطْفَه كأنه قيل ظالمين أنفسَهم وذلك بترك الهجرةِ واختيارِ مجاورة الكفرة الموجبةِ للإخلال بأمور الدينِ فإنها نزلتْ في ناسٍ من مكةَ قد أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرةُ فريضة
{قَالُواْ} أي الملائكةُ للمُتوفَّيْن تقريراً لهم بتقصيرهم في إظهار إسرمهم وإقامةِ أحكامِه من الصلاة ونحوها وتوبيخها لهم بذلك
{فِيمَ كُنتُمْ} أي في أي شئ كنتم من أمور دينِكم
{قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤالِ الملائكةِ كأنه قيل فماذا قالوا في الجواب فقيل قالوا متجانِفين عن الإقرار
(2/222)
 
 
98 - 99 النساء الصريحِ بما هُم فيه من التقصير متعلِّلين بما يوجبه على زعمهم
{كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرض} أي في أرض مكةَ عاجزين عن القيام بمواجب الدينِ فيما بين أهلِها
{قَالُواْ} إبطالاً لتعللهم وتبكيتاً لهم
{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} إلى قطر آخر منها تقدِرون فيه على إقامةِ أمورِ الدينِ كما فعله من هاجر إلى المدينة وإلى الحبشة وأما حملُ تعلُّلِهم على إظهار العجزِ عن الهجرة وجعلُ جوابِ الملائكةِ تكذيباً لهم في ذلك فيردوه أن سببَ العجز عنها لا ينحصر في فُقدان دار الهجرةِ بل قد يكون لعدم الاستطاعةِ للخروج بسب الفقرِ أو لعدم تمكينِ الكفَرة منه فلا يكون بيانُ سعةِ الأرضِ تكذيباً لهم ورداً عليهم بلْ لا بدَّ من بيان استطاعتِهم أيضاً حتى يتم التبكيتُ وقيل كانت الطائفةُ المذكورة قد خرجوا مع المشركين إلى بدرٍ منهم قيسُ بنُ الفاكِهِ بنِ المغيرةِ وقيسُ بنُ الوليدِ بنِ المغيرة وأشباهُهما فقُتلوا فيها فضَرَبت الملائكةُ وجوهم وأدبارهم وقالوا لهم ماقالوا فيكون ذلك منهم تقريعاً وتوبيخاً لهم بما كانوا فيه من مساعدة الكَفَرةِ وانتظامِهم في عسكرهم ويكون جوابُهم بالاستضعاف تعلّلاً بأنهم كانوا مقهورين تحت أيديهم وأنهم أخرجوا كارهين فرُدَّ عليهم بأنهم كانوا بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكّنين من المهاجرة
{فَأُوْلَئِكَ} الذين حُكِيت أحوالُهم الفظيعةُ
{مَأْوَاهُمْ} أي في الآخرة
{جَهَنَّمُ} كما أن مأواهم في الدنيا دارُ الكفرِ لتركهم الفريضةَ المحتومة فمأواهم مبتدأوجهنم خبره والجملة خبر لأولئك وهذه الجملةُ خبرُ إن والفاءُ فيه لتضمُّن اسمِها معنى الشرطِ وقولُه تعالى قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ حالٌ من الملائكة بإضمار قد عند من يشترطه أو هو الخبرُ والعائدُ منه محذوفٌ أي قالوا لهم والجملةُ المصدرةُ بالفاء معطوفةٌ عليه مستنتَجَةٌ منه ومما في حيّزه
{وَسَاءتْ مَصِيراً} أى مصيرهم أي جهنم وفي الآية الكريمةِ إرشادٌ إلى وجوب المهاجرة من موضع لايتمكن الرجلُ من إقامة أمورِ دينِه بأي سبب كان وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من فرَّ بدينِه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنَّة وكان رفيقَ إبراهيمَ ونبيه محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم
(2/223)
 
 
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
{إِلاَّ المستضعفين} استثناءٌ منقطعٌ لعدم دخولِهم في الموصول وضميرِه والإشارةِ إليه ومِنْ في قولِه تعالَى
{من الرجال والنساء والولدان} متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المستضعفين أي كائنين منهم وذِكرُ الوِلدان إن أريد بهم المماليكُ أو المراهقون ظاهرٌ وأما إن أريد بهم الأطفالُ فللمبالغة في أمر الهجرة وإبهام انها بحيث لو استطاعها غيرُ المكلفين لوجبت عليهم والإشعارِ بأنهم لا محيصَ لهم عنها البتة عليهم كما بلغوا حتى كأنها واجبةٌ عليهم قبل البلوغِ لو استطاعوا وأن قومهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت وقوله تعالى
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} صفةٌ للمستضعفين فإنَّ ما فيهِ من اللام ليس للتعريف أو حالٌ منْهُ أو من الضميرِ المستكنِّ فيه وقيل تفسيرٌ لنفس المستضعفين لكثرة وجوهِ الاستضعافِ واستطاعةُ الحيلةِ وُجدانُ أسبابِ الهجرةِ ومباديها واهتداءُ السبيلِ معرفةُ طريقِ الموضعِ المهاجَرِ إليه بنفسه أو بدليل
(2/223)
 
 
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
{فأولئك}
(2/223)
 
 
100 - 101 النساء إشارةٌ إلى المستضعفين الموصوفينَ بما ذُكر من صفاتِ العجزِ
{عَسَى الله أَن يعفو عنهم} جئ بكلمة الإطماعِ ولفظِ العفوِ إيذاناً بأن الهجرةَ من تأكُّدِ الوجوبِ بحيث ينبغي أن يُعدَّ تركُها ممن تحقق عدمُ وجوبِها عليه ذنباً يجب طلبُ العفوِ رجاءً وطمعاً لا جزماً وقطعاً
(2/224)
 
 
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
{وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} تذييلٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ
{وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الارض مُرَاغَماً كَثِيراً} ترغيبٌ في المهاجَرَة وتأنيسٌ لها أي يجدْ فيها متحوَّلاً ومهاجَراً وإنما عبّر عنه بذلك تأكيد للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتجول بحيث يصل فيه المهاجرُ من الخير والنعمةِ إلى ما يكون سبباً لرغم آنف قومه الذين هاجروهم والرُّغمُ الذلُّ والهوانُ وأصلُه لصوقُ الأنفِ بالرَّغام وهو التراب وقيل يجد فيها طريقاً يراغِمُ بسلوكه قومَه أي يفارقهم على رَغم أنوفهم
{وسعة} أي من الرزق
{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت} أي قبل أن يصل إلى المقصِد وإن كان ذلك خارج بابه كما ينبئ عنه إيثارُ الخروجِ من بيته على المهاجَرة وهو عطفٌ على فعل الشرطِ وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ وقيل هو حركةُ الهاءِ نُقلت إلى الكاف على نية الوقفِ كما في قوله ... من عنزى سبنى لم أضربه عجيب والدهر كثير عجبه وقرى بالنصب على إضمار أنْ كما في قوله وألحقُ بالحجاز فأستريحا ...
 
{فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} أي ثبت ذلك عنده تعالى ثبوتَ الأمرِ الواجبِ رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما بَعَث بالآيات المتقدمةِ إلى مسلمي مكةَ قال جُندُبُ بنُ ضَمْرةَ لبنيه وكان شيخاً كبيراً احمِلوني فإني لستُ من المستضعفين وإني لأهتدي الطريقَ والله لا أبيتُ الليلةَ بمكةَ فحمَلوه على سرير متوجِّهاً إلى المدينة فلما بلغ التنعيمَ أشرفَ على الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايُعك على ما بايعك رسولُك فمات حميداً فبلغ خبرُه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لو تُوفيَ بالمدينة لكان أتمَّ أجراً فنزلت قالوا كلُّ هجرةٍ في غرض دينيَ من طلبِ علمٍ أو حجَ أو جهاد أونحو ذلك فهي هجرةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم
{وَكَانَ الله غَفُوراً} مبالِغاً في المغفرة فيغفرُ له ما فَرَط منه من الذنوبِ التي من جملتها القعودُ عن الهجرة إلى وقت الخروجِ
{رَّحِيماً} مبالِغاً في الرحمة فيرحمه بإكمال ثوابِ هجرتِه
(2/224)
 
 
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض} شروعٌ في بيانِ كيفيةِ الصلاةِ عند الضروراتِ من السفر ولقاءِ العدوِّ والمرضِ والمطرِ وفيه تأكيدٌ لعزيمة المهاجِرِ على المهاجَرة وترغيبٌ له فيها لما فيه من تخفيف أونه أي إذا سافرتم أيَّ مسافرةٍ كانت ولذلك لم يُقيَّد بما قُيِّد به المهاجَرة
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أى حرج أو اثم
{أَن تَقْصُرُواْ} أي في أن تقصُروا والقصرُ خلافُ المد يقال قصرت الشئ أي جعلته قصيراً بحذف بعضِ أجزائِه أو أوصافِه فمُتعلَّقُ القصرِ حقيقةً إنما هو ذلك الشئ لا بعضُه فإنه متعلَّقُ الحذف دون القصرو على هذا فقوله تعالى
(2/224)
 
 
{مِنَ الصلاة} ينبغي أن يكون مفعولاً لتقصُروا على زيادة مِنْ حسبما رآه الأخفش وأما على تقديرِ أنْ تكون تبعيضيةً ويكونَ المفعولُ محذوفاً كما هُو رأيُ سيبويهِ أي شيئاً من الصلاة فينبغي أن يُصارَ إلى وصف الجزءِ بصفة الكلِّ أو يرادَ بالقصر معنى الحبْس يقال قصرت الشئ إذا حبستْه أو يرادَ بالصلاة الجنسُ ليكون المقصورُ بعضاً منها وهي الرُّباعياتُ أي فليس عليكم جُناحٌ في أن تقصروا بعضَ الصلاة بتنصيفها وقرئ تُقْصِروا من الإقصار وتُقَصِّروا من التقصير والكل بمعنى وأدنى مدةِ السفرِ الذي ينعلق به القصرُ عند أبي حنيفةَ مسيرةَ ثلاثةِ أيام ولياليها بسير الإبلِ ومشيِ الأقدام بالاقتصاد وعند الشافعيِّ مسيرةَ يومين وظاهرُ الآية الكريمة التخييرُ وأفضليةُ الإتمام وبه تعلق الشافعيّ وبما رُوي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه أتم في السفر وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها أنها أتمت تارةً وقصرت أخرى وعن عثمانُ رضيَ الله عنْهُ أنَّه كان يُتمّ ويَقصُر وعندنا يجب القصرُ لا محالة خلا أن بعضَ مشايخنا سماه عزيمةً وبعضُهم رُخصةَ إسقاطٍ بحيث لا مساغ للإتمام لارخصة ترفيهٍ إذ لا معنى للتخيير بين الأخفِّ والأثقلِ وهو قولُ عمرَ وعليَ وابن عباس وابنِ عمرَ وجابر ورضوان الله عليهم وبه قال الحسنُ وعمرُ بنُ عبد العزيز وقتادةُ وهو قول مالك وقد رُوي عن عمر رضي الله عنه صلاةُ السفر ركعتانِ تمامٌ غيرُ قصرٍ على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وعن أنسٌ رضيَ الله عنه خرجنا مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من المدينة إلى مكةَ فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة وعن عمرانَ بنِ حُصين رضي الله عنه ما رأيت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يصلي في السفر إلا ركعتين وصلى بمكةَ ركعتين ثم قال أتمُّوا فإنَّا قومٌ سَفْرٌ وحين سمع بن مسعود ان عثمانُ رضيَ الله عنْهُ صلى بمِنىً أربعَ ركعاتٍ استرجع ثم قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ بمنى ركعتين وصليت مع عمر رضي الله عنه بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعاتٍ ركعتان مُتقبَّلتان وقد اعتذر عثمانُ رضيَ الله عنْهُ عن إتمامه بأنه تأهّل بمكة وعن الزهريّ أنه إنما أتمّ لأنه أزمع الإقامةَ بمكة وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها أولُ ما فُرضت الصلاةُ فُرضتْ ركعتين ركعتين فأُقِرَّت في السفر وزيدت في الحضر وفي صحيح البخاري أنها قالت فرضَ الله الصلاةَ حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضَر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وأما ماروى عنها من الإتمام فقد اعتذرت عنه وقالت أنا أمُّ المؤمنين فحيث حللتُ فهي داري وإنما ورد ذلك بنفي الجُناحِ لما أنهم ألِفوا الإتمامَ فكانوا مظِنةَ أن يخطُر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فصرح بنفي الجناحِ عنهم لتطيب به نفوسُهم ويطمئنوا إليهِ كما في قولِه تعالى فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا مع أن ذلك الطوافَ واجبٌ عندنا ركنٌ عند الشافعيِّ وقوله تعالى
{إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} جوابُه محذوفٌ لدِلالة مَا قبلَهُ عليهِ أيْ إنْ خفتم أن يتعرّضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيرِه فليس عليكم جُناح الخ وهو شرطٌ معتبرٌ في شرعية ما يُذكر بعده من صلاة الخوفِ المؤداةِ بالجماعة وأما في حق مُطلقِ القصرِ فلا اعتبار له اتفاقاً لتظاهُر السننِ على مشروعيته حسبما وقفت على تفصيلها وقد ذكر الطحاويُّ في شرح الآثارِ مسنداً إلى يعلى بن أميةَ أنه قال قلت لعمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إنما قال الله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} وقد
(2/225)
 
 
102 - النساء أمِن الناسُ فقال عمرُ رضي الله عنه عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقةٌ تصدّقَ الله بها عليكم فاقبَلوا صدقتَه وفيه دليلٌ على عدم جوازِ الإكمالِ لأن التصدقَ بما لا يحتمل التمليكَ إسقاطٌ محضٌ لا يحتمل الردَّ كما حُقّق في موضعه ولا يُتَوهّمنّ أنه مخالفٌ للكتاب لأن التقييدَ بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحُكمِ عند وجودِ الشرطِ وأما عدمُه عند عدمه فساكت عنه فإن وجدَ له دليلٌ ثبت عنده أيضاً وإلا يبقى على حاله لعدم تحققِ دليلِه لا لتحقق دليلِ عدمِه وناهيك بما سمعتَ من الأدلة الواضحةِ وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما يدل على نفي الحُكمِ عند عدم الشرط إذا لم يكن له فائدةٌ أخرى وقد خرج الشرط ههنا مخرجَ الأغلبِ كما في قوله تعالى وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً بل نقول إن الآيةَ الكريمةَ مجملةٌ في حق مقدارِ القصرِ وكيفيتِه وفي حق ما يتعلقُ به من الصلوات وفي مقدار مدةِ الضربِ الذي نيط به القصرُ فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من القصر في حال الامن من وتخصيصِه بالرُباعيات على وجه التصنيف وبالضرب في المدة المعينة بيانٌ لإجمال الكتابِ وقد قيل إن قوله تعالى إِنْ خِفْتُمْ الخ متعلقٌ بما بعده من صلاة الخوفِ منفصلٌ عما قبله فإنه روي عن أبي أيوبَ الأنصاري رضيَ الله عنه أنَّه قال نزل قولُه تعالى وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الارض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حولٍ فنزل إِنْ خفتم الخ أي إن خفتم أن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ الخ وقد قرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم على أنَّه مفعولٌ له لما دل عليه الكلامُ كأنه قيل شرُع لكم ذلك كراهةَ أن يفتنكم الخ فإن استمرارَ الاشتغالِ بالصلاة مَظِنةٌ لاقتدارهم على إيقاع الفتنةِ وقوله تعالى
{إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} تعليلٌ لذلك باعتبار تعلُّلِه بما ذُكر أو لما يُفهم من الكلام من كون فتنتِهم متوقَّعةً فإن كمالَ عداوتِهم للمؤمنين من موجبات التعرُّض لهم بسوء وقولُه تعالى
(2/226)
 
 
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} بيانٌ لما قبله من النص المُجملِ الواردِ في مشروعية القصرِ بطريق التفريعِ وتصويرٌ لكيفيته عند الضرورةِ التامةِ وتخصيصُ البيانِ بهذه الصورة مع الاكتفاء فيما عداها بالبيان بطريق السنةِ لمزيد حاجتِها إليه لما فيها من كثرة التغييرِ عن الهيئة الاصلية ومن ههنا ظهر لك أن مورِدَ النصِّ الشريفِ على المقصورة وحكمُ ما عداها مستفادٌ من حكمها والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التجريدِ وبظاهره يَتعلّق من لا يرى صلاةَ الخوف بعده صلى الله عليه وسلم ولا يخفى أن الأئمةَ بعده نوابه صلى الله عليه وسلم قُوّامٌ بما كان يقوم به فيتناولهم حكمُ الخطابِ الوارد له صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً وقد روي أن سعيدَ بنَ العاصِ لما أراد
(2/226)
 
 
أن يصلي بطيرستان صلاةَ الخوفِ قال من شهِد منكم صلاةَ الخوفِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام حُذيفةُ بنُ اليمانِ رضي الله عنه فوصف له ذلك فصلى بهم كما وصَف وكان ذلك بحضرة الصحابةِ رضيَ الله عنُهم فلم يُنْكِرْه أحدٌ فحل محلَّ الإجماعِ وروي في السنن أنهم غزَوْا معَ عبد الرحمن بنِ سَمُرةَ بابل فصلى بهم صلاةَ الخوفِ
{فأقمت لهم الصلاة} أي أردت أن تقيم بهم الصلاة
{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ} بعد أن جعلتَهم طائفتين ولتقِف الطائفةُ الأخرى بإزاء العدوِّ ليحرسوكم منهم وإنما لم يصرَّحْ به لظهوره
{وَلْيَأْخُذُواْ} أي الطائفةُ القائمة معك
{أَسْلِحَتَهُمْ} أي لا يضعوها ولا يلقوها وإنما عبر عن ذلك بالأخذ للإيذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخُذونها ابتداءً
{فَإِذَا سَجَدُواْ} أي القائمون معك وأتمّوا الركعة
{فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ} أي فلينصرِفوا إلى مقابلة العدوِّ للحراسة
{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ} بعدُ وهي الطائفةُ الواقفة تجاه العدوِّ للحراسة وإنما لم تُعرَفْ لما أنها لم تُذكرْ فيما قبل
{فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} الركعةَ الباقيةَ ولم يبيِّنْ في الآية الكريمة حالَ الركعةِ الباقيةِ لكل من الطائفتين وقد بُيِّن ذلك بالسنة حيث روى عن ابن عمرو ابن مسعود رضي الله عنهم أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حين صلى صلاةَ الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعةً وبالطائفة الأخرى ركعةً كَما في الآيةِ الكريمةِ ثم جاءت الطائفةُ الأولى وذهبت هذه إلى مقابلة العدوِّ حتى قضت الأولى الركعة الأخيرةَ بلا قراءة وسلّموا ثم جاءت الطائفةُ الأخرى وقضَوا الركعةَ الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان
{وَلْيَأْخُذُواْ} أي هذه الطائفة
{حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} لعل زيادة الأمرِ بالحذرِ في هذه المرة لكونها مظِنّةً لوقوف الكَفَرة على كون الطائفةِ القائمةِ مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في شغل شاغلً وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحرب وتكليفُ كلَ من الطائفتين بما ذكر لما أن الاشتغالَ بالصلاة مظنةٌ لإلقاء السلاحِ والإعراض عن غيرها ومئنة لهجوم العدوِّ كما ينطِقُ به قوله تعالى
{وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة} فإنه اسئناف مَسوقٌ لتعليل الأمرِ المذكورِ والخطابُ للفريقين بطريق الالتفاتِ أي تمنَّوا أن ينالوا غِرّةً وينتهزوا فرصةً فيشدّوا عليكم شدةً واحدةً والمرادُ بالأمتعة ما يُتمتع به في الحرب لا مطلقاً وهذا الأمر الموجوب لقوله تعالى
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ} حيث رُخّص لهم في وضعها إذا ثقُل عليهم استصحابها بسبب المطر أو مرضٍ وأُمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياطِ فقيل
{وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} لئلا يهجُمَ العدوُّ عليكم غِيلةً روى الكلبيُّ عن أبي صالحٍ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا محاربا وبنى إنما فنزلوا ولا يرَوْن من العدو أحداً فوضع الناسُ أسلحتَهم وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له وقد وضَع سلاحَه حتى قطع الواديَ والسماءُ ترُشّ فحال الوادي بينه صلى الله عليه وسلم وبين أصحابِه فجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فبصُرَ به غَوْرَثُ بنُ الحرث المحاربي فقال قتلني الله إن لم أقتلْك ثم انحدر من الجبل ومعه السيفُ فلم يشعُرْ به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائمٌ على رأسه وقد سل سيفَه من غِمْدِهِ فقال يا محمد من يعصِمك مني الآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عز وجل ثم قال اللهم اكفِني غورث بن الحرث بما شئت ثم أهوى بالسيفِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ليضرِبه فأكبَّ لوجهه من زلخة زلخها بين كتفيه فبدر سيفه فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ثم قال يا غَوْرَثُ من يمنعك مني الآن قال لا أحد قال صلى الله عليه وسلم تشهدُ أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله وأن محمداً عبدُه ورسولُه وأعطيك سيفَك قال لا ولكن أشهد أن لا أقاتِلَك أبداً ولا أُعينَ عليك عدواً
(2/227)
 
 
103 - 104 النساء فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفَه فقال غورثُ والله لأنت خيرٌ مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أحقُّ بذلك منك فرجَع غَوْرَثُ إلى أصحابه فقصَّ عليهم قِصتَه فآمن بعضُهم قال وسكن الوادي فقطع عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأخبرهم بالخبر وقوله تعالى
{إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً} تعليلٌ للأمر بأخذ الحذرِ أعد لهم عذاباً مهيناً بأن يخذُلهم وينصُرَكم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تُهمِلوا في مباشرة الأسباب كى يحل بهم عذابُه بأيديكم وقيل لما كان الأمرُ بالحذر من العدو مُوهماً لتوقّع غلبتِه واعتزازِه نُفي ذلك الإيهامُ بأن الله تعالى ينصُرهم ويُهين عدوَّهم لتقوى قلوبُهم
(2/228)
 
 
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة} أي صلاةَ الخوفِ أي أديتموها على الوجه المبيّنِ وفرَغتم منها
{فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ} أي فداوموا على ذكر الله تعالى وحافِظوا على مراقبته ومناجاتِه ودعائِه في جميعِ الأحوالِ حَتَّى في حال المسايفة والقتالِ كما في قوله تعالى إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
{فَإِذَا اطمأننتم} سكنَت قلوبُكم من الخوف وأمنتم بعد ما وضعت الحربُ أوزارَها
{فأقِيمُوا الصَّلاةَ} أي الصلاةَ التي دخل وقتُها حينئذ أي أدُّوها بتعديل أركانِها ومراعاةِ شرائطِها وقيل المرادُ بالذكر في الأحوال الثلاثةِ الصلاةُ فيها أى فإذ أردتم أداءَ الصلاةِ فصلّوا قِياماً عند المسايفةِ وقعوداً جاثين على الرّكَب عند المراماةِ وعلى جنوبكم مُثخَنين بالجِراح فإذا اطمأننتم في الجملة فاقضُوا ما صليتم في تلك الأحوالِ التي هي أحوال القلقِ والانزعاجِ وهو رأى الشافعى رحمه الله وفيه من البعد مالا يخفى
{إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} أى فرضا مؤقتا قال مجاهدٌ وقّته الله عليهم فلا بد من إقامتها في حالة الخوفِ أيضاً على الوجه المشروحِ وقيل مفروضاً مقدّراً في الحضَر أربَعَ ركعاتٍ وفي السفر ركعتين فلا بد أن تؤدى في كل وقتٍ حسبما قُدِّر فيه
(2/228)
 
 
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
{وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابتغاء القوم} أى لاتضعفوا ولاتتوانوا في طلب الكفارِ بالقتال والتعرّضِ لهم بالحِراب وقوله تعالى
{إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} تعليلٌ للنهي وتشجيعٌ لهم أي ليس ما تقاسونه من الآلام مختصاً بكم بل هو مشترَكٌ بينكم وبينهم ثم إنهم يصبِرون على ذلك فما لكم لاتصبرون مع أنكم أولى به منهم حيث ترجُون من الله من إظهار دينِكم على سائر الأديانِ ومن الثواب في الآخرة مالا يخطر ببالهم وقرئ أن تكونوا بفتح الهمزة أى لاتهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله تعالى فَإِنَّهُمْ تعليلٌ للنهي عن الوهن لأجله والآيةُ نزلت في بدرٍ الصُّغرى
{وَكَانَ الله عَلِيماً} مبالِغاً في العلم فيعلم أعمالَكم وضمائرَكم
{حَكِيماً} فيما يأمُر وينهى فجِدُّوا في الامتثال بذلك فإن فيه عواقب حميدة
(2/228)
 
 
105 - 106 107 108 النساء
(2/229)
 
 
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} رُوي أن رجلاً من الأنصار يقال له طُعمةُ بنُ أُبيرِقَ من بني ظفَرٍ سرَق دِرعاً من جاره قتادةَ بنِ النعمانِ في جرابِ دقيقٍ فجعل الدقيقُ ينْتثِرُ من خَرْقٍ فيه فخبأها عند زيد بنِ السمين اليهودي فالتمست الدرعَ عند طعمةَ فلم توجد وحلف ما أخذها وما لَه بها علمٌ فتركوه واتبعوا أثرَ الدقيقِ حتى انتهى إلى منزل اليهوديِّ فأخذوها فقال دفعها إليّ طعمةُ وشهِد له ناسٌ من اليهود فقالت بنو ظفر انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وشهِدوا ببراءته وسرقةِ اليهوديِّ فهمّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزلت وروي أن طعمةَ هرب إلى مكةَ وارتدّ ونقَبَ حائطاً بمكةَ ليسرِقَ أهلَه فسقَط الحائطُ عليه فقتله وقيل نزل على رجل من بني سليم من أهل مكة يقال له الحجّاجُ بنُ علاط فنقَبَ بيتَه فسقط عليه حجرٌ فلم يستطِع الدخولَ ولا الخروجَ فأخذ ليقتل فقيل دعه فإنه قد لجأ إليك فتركه وأخرجوه من مكةَ فالتحق بتجارٍ من قضاعةَ نحوَ الشام فنزلوا منزلاً فسرق بعضَ متاعِهم وهرب فأخذوه ورجموه بالحجارة حتى قتلوه وقيل إنه ركب سفينةً إلى جُدّة فسرَق فيها كيساً فيه دنانيرُ فأُخذ وألقيَ في البحر
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله} أي بما عرّفك وأوحى به إليك
{وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ} أي لأجلهم والذبِّ عنهم وهم طُعمةُ ومن يُعينُه من قومه أو هو ومن يسير بسيرته
{خَصِيماً} مخاصماً للبرآء أي لاتخاصم اليهودَ لأجلهم والنهيُ معطوفٌ على أمر ينسحب عليه النظمُ الكريمُ كأنه قيل فاحكم به ولا تكن الخ
(2/229)
 
 
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
{واستغفر الله} مما هممتَ به تعويلاً على شهادتهم
{إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} مُبالغاً في المغفرةِ والرحمةِ لمن يستغفره
(2/229)
 
 
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
{وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} أي يخونونها بالمعصية كقوله تعالى عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ جُعلت معصيةُ العُصاةِ خيانةً منهم لأنفسهم كما جُعلت ظلماً لها لرجوع ضررِها إليهم والمرادُ بالموصول إما طعمةٌ وأمثالُه وأما هو ومن عاونه وشهد ببراءته من قومه فإنهم شركاء له في الإثم والخيانةِ
{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً} مُفرِطاً في الخيانة مُصِراً عليها
{أَثِيماً} منهمكاً فيه وتعليقُ عدمِ المحبةِ الذي هو كنايةٌ عن البغضِ والسُّخطِ بالمبالِغ في الخيانة والإثمِ ليس لتخصيصه به بل لبيان إفراطِ طُعمةَ وقومِه فيهما
(2/229)
 
 
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} يستترون منهم حياءً وخوفاً من ضررهم
{وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله} أيْ لا يستحيون منه سبحانه وتعالى وهو أحقُّ بأن يُستحيا منه ويُخافَ من عقابه
{وَهُوَ مَعَهُمْ} عالمٌ بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى
(2/229)
 
 
109 - 110 111 112 النساء
الاستخفاء سوى تركِ ما يستقبِحُه ويؤاخِذُ به
{إِذْ يُبَيّتُونَ} يدبرون ويزورون
{مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القول} مِنْ رمى البرئ والحلِفِ الكاذب وشهادةِ الزور
{وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ} من الأعمال الظاهرةِ والخافية
{مُحِيطاً} لا يعزُب عنه شئ منها ولا يفوت
(2/230)
 
 
هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
{ها أنتم هؤلاء} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إليهم بطريقِ الالتفاتِ إيذاناً بأنَّ تعديد جنايتهم يوجب مشافهتَهم بالتوبيخ والتقريعِ والجملةُ مبتدأٌ وخبرٌ وقولُه تعالَى
{جادلتم عَنْهُمْ فِى الحياة الدنيا} جملةٌ مبيِّنةٌ لوقوع أولاءِ خبراً ويجوز أن يكون أولاءِ اسماً موصولاً بمعنى الذين وجادلتم الخ صلة له والمجادَلةُ أشدُّ المخاصَمَة والمعنى هَبُوا أنكم خاصمتم عن طُعمةَ وأمثالِه في الدنيا
{فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة} فمن يخاصم عنهم يومئذ عند تعذيبهم وعقابِهم
{أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} حافظاً ومحامياً من بأس الله تعالى وانتقامه
(2/230)
 
 
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
{وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً} قبيحاً يسوء به غيره كما فعلَ طُعمة بقتادةَ واليهوديِّ
{أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يختص به كالحلِف الكاذبِ وقيل السوء مادون الشرك والظلم الشركِ وقيل هما الصغيرةُ والكبيرة
{ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} بالتوبة الصادقة
{يَجِدِ الله غفورا} لذنوبه كائنة ماكانت
{رَّحِيماً} متفضّلاً عليه وفيه مزيدُ ترغيبٍ لطعمةَ وقومِه في التوبة والاستغفارِ لما أن مشاهَدةَ التائبِ لآثار المغفرةِ والرحمةِ نعمةٌ زائدةٌ كما مر
(2/230)
 
 
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
{وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً} من الآثام
{فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} حيث لا يتعدّى ضررُه ووبالُه إلى غيره فليحترز عن تعريضها للعقاب والعذابِ عاجلاً وآجلاً
{وَكَانَ الله عَلِيماً} مُبالغاً في العلم
{حَكِيماً} مراعياً للحكمة في كل ما قَدَّر وقضى ولذلك لا يحمل وازِرَةٌ وزرَ أخرى
(2/230)
 
 
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
{وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً} صغيرة أو مالا عمْدَ فيه من الذنوب وقرئ ومن يَكِسِّبْ بكسر الكاف وتشديد السين وأصله يكتسب
{أَوْ إِثْماً} كبيرةً أو ما كان من عمد
{ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} أي يقذِفْ به ويُسنده وتوحيد الضمير مع تعدد المرجِعِ لمكان أَوْ وتذكيره لتغليب الإثم على الخطيئة كأنه قيل ثم يرم بأحدهما وقرئ يرمِ بهما وقيل الضمير للكسبِ المدلولِ عليه بقوله تعالى يَكْسِبْ وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ
{بَرِيئاً} أي مما رماه به ليُحمِّلَه عقوبتَه العاجلةَ كما فعله طعمةُ بزيدٍ
{فَقَدِ احتمل} أي بما فعل من تحميل جريرته على البرئ
{بهتانا} وهو الكذِبُ على الغير بما يُبَهتُ منه ويُتَحيَّر عند سَماعِه لفظاعته وهولِه وقيل هو الكذبُ الذي يُتحيَّر في عِظَمه
{وَإِثْماً مُّبِيناً} أي بيناً فاحشاً وهو صفة لإثماً وقد اكتُفي في بيان عِظَمِ البهتانِ بالتنكير التفخيميّ
(2/230)
 
 
113 - النساء
كأنه قيل بهتاناً لا يقادَرُ قدرُه وإثماً مبيناً على أن وصفَ الإثمِ بما ذُكر بمنزلة وصفِ البهتانِ به لأنهما عبارةٌ عن أمر واحد هو رمى البرئ بجناية نفسِه قد عبّر عنه بهما تهويلاً لأمره وتفظيعاً لحاله فمدارُ العِظَم والفخامةِ كونُ المرميِّ به للرامي فإن رمى البرئ بجناية ما خطيئةً كانت أو إثماً بهتانٌ وإثمٌ في نفسه أما كونُه بهتاناً فظاهرٌ وأما كونُه إثماً فلأن كونَ الذنبِ بالنسبة إلى مَنْ فعله خطيئةً لا يلزم منه كونُه بالنسبة إلى مَنْ نسبه الى البرئ منه أيضاً كذلك بل لا يجوزُ ذلك قطعاً كيف لا وهو كذِبٌ محرَّمٌ في جميع الأديانِ فهو في نفسه بهتانٌ وإثمٌ لا محالةَ وبكون تلك الجنايةِ للرامي يتضاعفُ ذلك شدةً ويزداد قُبحاً لكنْ لا لانضمام جنايتِه المكسوبة الى رمى البرئ وإلا لكان الرميُ بغير جناية مثله في العظم ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرميُ بغير جنايةٍ مع تبرئةِ نفسِه كذلك في العِظَم بل لاشتماله على قصد تحميلِ جنايته على البرئ وإجراءِ عقوبتِها عليه كما ينبئ عنه إيثارُ الاحتمالِ على الاكتساب ونحوِه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديرِه على ما فيه من الإشعار بثِقَل الوِزرِ وصعوبةِ الأمرِ نعم بما ذُكر من انضمام كسبِه وتبرئةِ نفسه الى رمى البرئ تزداد الجنايةُ قبحاً لكنّ تلك الزيادةَ وصفٌ للمجموع لا للإثم
(2/231)
 
 
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهِك على الحق وقيل بالنبوة والعِصمة
{لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} أي منْ بني ظفَر وهم الذابّون عن طُعمةَ وقد جوز أن يكون المراد بالطائفة كلَّهم ويكونُ الضميرُ راجعاً إلى الناس وقيل هم وفدُ بني ثقيفٍ قدِموا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم وقالوا جئناك لنبايعَك على أن لا تكسِرَ أصنامَنا ولا تعشِّرَنا فردّهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
{أَن يُضِلُّوكَ} أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق مع علمهم بكُنه الأمرِ والجملةُ جوابُ لولا وإنما نفى همَّهم مع أن المنفيَّ إنما هو تأثيرُه فقط إيذاناً بانتفاء تأثيرِه بالكلية وقيل المراد هو الهمُّ المؤثّر ولا ريب في انتفائه حقيقةً وقيل الجوابُ محذوفٌ أي لأضلوك وقوله تعالى لَهَمَّتْ جملةٌ مستأنفةٌ أي لقد همت طائفة الخ
{وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} لاقتصار وبالِ مكرِهم عليهم من غير أن يصيبك منهم شئ والجملةُ اعتراضٌ وقولُه تعالى
{وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء} عطفٌ عليه ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على المصدرية أي وما يضرونك شيئاً من الضرر لما أنه تعالى عاصمُك وأما ما خطرَ ببالك فكان عملاً منك بظاهر الحالِ ثقةً بأقوال القائلين من غير أن يخطُر ببالك أن الحقيقةَ على خلاف ذلك
{وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} أي القرآنَ الجامعَ بين العنوانين وقيل المرادُ بالحكمة السنة
{وَعَلَّمَكَ} بالوحي من خفيّات الأمورِ التي من جملتها وجوهُ إبطالِ كيدِ المنافقين أو من أمور الدين وأحكامِ الشرع
{مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} ذلك إلى وقت التعليم
{وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} إذ لا فضلَ أعظمُ من النبوة العامةِ ووالرياسة التامّة
(2/231)
 
 
114 - 115
(2/232)
 
 
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
{لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ} أي في كثير من تناجي الناسِ
{إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} أي إلا في نجوى مَنْ أمرَ
{بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} وقيل المرادُ بالنجوى المتناجون بطريق المجازِ وقيل النجوى جمع نجى نقله الكرماني وأيَّاً ما كان فالاستثناءُ متصلٌ ويجوز الانقطاعُ أيضاً على معنى لكنْ مَنْ أمر بصدقة الخ ففي نجواه الخير والمعروفُ كلُّ ما يستحسنه الشرعُ ولا يُنكره العقلُ فينتظم أصنافَ الجميلِ وفنونَ أعمالِ البِرِّ وقد فُسِّر ههنا بالقرض وإعاثة الملهوف وصدقةِ التطوعِ على أن المراد بالصدقة الواجبة
{أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس} عندوقوع المشاقة والمعاداة بينهم من غير أن يجاوزَ في ذلك حدودَ الشرعِ الشريفِ وبين إما متعلقٌ بنفس إصلاحٍ يقال أصلحتُ بين القوم أو بمحذوف هو صفةٌ له أي كائنٍ بين الناسِ عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ألا أدلك على صدقةٍ خيرٍ لك من حمر النعم فقال بلى يا رسولَ الله قالَ تُصلح بين الناسِ إذا تفاسدوا وتُقرِّب بينهم إذا تباعدوا قالوا ولعل السرَّ في إفراد هذه الأقسامِ الثلاثةِ بالذكر أن عملَ الخيرِ المتعدِّي إلى الناس إما لإيصال المنفعةِ أو لدفع المضرَّةِ والمنفعةُ إما جُسمانية كإعطاء المالِ واليه الإشارة إلى قولِه تعالى إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بصدفة وإما روحانيةٌ وإليه الإشارةُ بالأمر بالمعروف وأما دفعُ الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس
{وَمَن يَفْعَلْ ذلك} إشارةٌ إلى الأمور المذكورةِ أعني الصدقةَ والمعروفَ والأصلاح فإنه يشاربه إلى متعدد وما فيه من معنى البعد مع قُرب العهدِ بها للإيذان ببُعد منزلتِها ورفعةِ شأنِها وترتيبُ الوعدِ على فعلها إثرَ بيانِ خيريةِ الأمرِ بها لما أن المقصودَ الأصليَّ هو الترغيبُ في الفعل وبيانُ خيريةِ الأمرِ به للدِلالة على خيريته بالطريق الأولى لما أن مدارَ حُسنِ الأمرِ وقُبحِه حسنُ المأمورِ به وقبحُه فحيث ثبت خيريةُ الأمرِ بالأمور المذكورةِ فخيريةُ فعلِها أثبتُ وفيه تحريضٌ للأمر بها على فعلها أو إشارةٌ إلى الأمر بها كأنه قيل ومن يأمْر بها والكلامُ في ترتيب الوعدِ على فعلها كالذي مر في الخيرية فإن استتباع الأمر بها للأجر العظيمِ إنما هو لكونه ذريعة إلى فعلها فاستتباعُه له أولى وأحقُّ
{ابتغاء مَرْضَاتَ الله} علةٌ للفعل والتقييدُ به لأن الأعمالَ بالنيات وأن من فعل خيراً لغير ذلك لم يستحِقَّ به غيرَ الحِرْمان
{فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} بنون العظمةِ على الالتفات وقرئ بالياء
{أَجْراً عَظِيماً} يقصُر عنه الوصفُ
(2/232)
 
 
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
{وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} التعرُّض لعنوان الرسالةِ لإظهارِ كمالِ شناعةِ ما اجترءوا عليه من المُشاقة والمخالفةِ وتعليلِ الحُكمِ الآتي بذلك
{مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى} ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} أي غيرَ ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل وهو الدين القيم
{نُوَلّهِ مَا تولى}
(2/232)
 
 
أي نجعله والياً لِمَا تولاه من الضلال ونخذُله بأن نُخلِّيَ بينه وبين ما اختاره
{وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} أي ندخله إياها وقرئ بفتح النون من صَلاه
{وَسَاءتْ مَصِيراً} أي جهنمُ وفيها دِلالةٌ على حجية الإجماعِ وحُرمةِ مخالفتِه
(2/233)
 
 
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} قد مر تفسيرُه فيما سبق وهو تكريرٌ للتأكيد والتشديد أو لقصة طُعمةَ وقد مرّ موتُه كافراً ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أن شيخاً من العرب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني شيخٌ منهمِكٌ في الذنوب إلا أني لم أشرِكْ بالله شيئاً منذ عرفتُه وآمنتُ به ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أواقع المعاصيَ جراءةً على الله تعالى وما توهّمتُ طرفةَ عينٍ أني أُعجِزُ الله هرباً وإني لنادم تائبٌ مستغفرٌ فما ترى حالي عند الله تعالى فنزلت
{وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بعيدا} عن الحق فإن الشركَ أعظمُ أنواعِ الضلالةِ وأبعدُها عن الصواب والاستقامةِ كما أنه افتراءٌ وإثمٌ عظيمٌ ولذلك جُعل الجزاءُ في هذه الشرطيةِ فقد ضل الخ وفيما سبق فقد افترى إثماً عظيما حسبما يقتضيهِ سياقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه
(2/233)
 
 
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أي ما يعبدون من دونه عز وجل
{إِلاَّ إناثا} يعني اللاتَ والعُزَّى ومناةَ ونحوَها عن الحسن أنه لم يكن من أحياء العربِ حيٌّ إلا كان لهم صنمٌ يعبُدونه يسمُّونه أنثى بني فلان قيل لأنهم كانوا يقولون في أصنامهم هن بناتُ الله وقيل لأنهم كانوا يُلْبِسونها أنواعَ الحَلْي ويزينونها على هيآت النِّسوانِ وقيل المرادُ الملائكةُ لقولهم الملائكةُ بناتُ الله وقيل تسميتُها إناثاً لتأنيث أسمائِها أو لأنها في الأصل جمادٌ والجماداتُ تؤنَّثُ من حيث أنها ضاهت الإناثَ لانفعالها وإيرادُها بهذا الاسم للتنبيه على فرط حماقةِ عَبَدتِها وتناهي جهلِهم والإناثُ جمع أنثى كرِباب وربى وقرئ على التوحيد وأُنُثاً أيضاً على أنه جمع أنيث كقليب وقلُب أو جمع إناث كثمار وثمر وقرئ وثنا واثنا بالتخفيف والتثقيل جمع وثن كقولك أسد وأسد وآسد على الأصل وقلبِ الواو ألفاً نحو أُجوه في وجوه
{وَإِن يَدْعُونَ} وما يعبدون بعبادتها
{إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً} إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها فكانت طاعتُهم له عبادةً والمَريد والمارد هو الذى لا يعلق بخير وأصلُ التركيبِ للملاسة ومنه صرحٌ مُمرّد وشجرةٌ مرداءُ للتي تناثر ورقُها
(2/233)
 
 
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
{لَّعَنَهُ الله} صفةٌ ثانيةٌ لشيطاناً
{وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} عطفٌ على الجملة المتقدمةِ أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنةِ الله وهذا القولِ الشنيعِ الصادرِ عنه عند اللعنِ ولقد برهن على أن عبادةَ الأصنام غايةُ الضلال بطريق التعليلِ بأن ما يعبدونها ينفعل ولا
(2/233)
 
 
119 - 120 121 النساء
يفعل فعلاً اختيارياً وذلك ينافي الألوهيةَ غايةَ المنافاةِ ثم استُدل عليه بأن ذلك عبادةٌ للشيطان وهو أفظعُ الضلالِ من وجوه ثلاثةٍ الأولُ أنه منهمكٌ في الغي لا يكاد يعلق بشئ من الخير والهدى فتكون طاعتُه ضلالاً بعيداً عن الحق والثاني أنه ملعونٌ لضلاله فلا تستتبعُ مطاوعتُه سوى اللعنِ والضلالِ والثالثُ أنه في غاية السعي في إهلاكهم وإضلالِهم فموالاةُ مَنْ هذا شأنُه غايةُ الضلالِ فضلاً عن عبادته والمفروضُ المقطوعُ أي نصيباً قُدّر لي وفُرض من قولِهم فرَضَ له في العطاء
(2/234)
 
 
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
{وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ} الأمانيَّ الباطلةَ كطول الحياة وأن لا بعْثَ ولا عقابَ ونحوَ ذلك
{ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام} أي فلَيقْطَعُنَّها بموجب أمري ويشُقُّنّها من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير وذلك ما كانت العرب تفعله فيه بالبحائر والسوائب
{وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ} ممتثلين به
{خَلَقَ الله} عن نهجه صورةً أو صفةً وينتظم فيه ما قيل من فقءِ عين الحامي وخِصاءِ العبيدِ والوشمِ والوشْرِ ونحوِ ذلك وعمومُ اللفظِ يمنع الخِصاءَ مطلقاً لكن الفقهاء رخّصوا في البهائم لمكان الحاجةِ وهذه الجملُ المحكيةُ عن اللعين مما نطق به لسانُه مقالاً أو حالاً وما فيها من اللامات كلَّها للقَسَم والمأمورُ به في الموضعين محذوفٌ ثقةً بدلالة النظمِ عليه
{وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله} بإيثار ما يدعوا إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزتِه عن طاعةِ الله تعالَى إلى طاعته
{فَقَدْ خَسِرَ خسرانا مبينا} لأنه ضيَّع رأسَ مالِه بالكلية واستبدل بمكانه من الجنة مكانَه من النار
(2/234)
 
 
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
{يعدهم} أى مالا يكاد يُنجِزُه
{وَيُمَنّيهِمْ} أي الأمانيَّ الفارغةَ أو يفعل لهم الوعدَ والتمنيةَ على طريقة فلان يُعطي ويمنَعُ والضميران لمَنْ والجمعُ باعتبارِ معناهَا كما أن الإفراد في يتخذ وخسر باعتبار لفظها
{وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} وهو إظهارُ النفعِ فيما فيه الضررُ وهذا الوعدُ إما بإلقاء الخواطرِ الفاسدةِ أو بألسنة أوليائِه وغروراً إما مفعولٌ ثانٍ للوعد أو مفعولٌ لأجله أونعت لمصدر محذوفٍ أي وعداً ذا غرورٍ أو مصدرٌ على غير لفظِ المصدرِ لأنّ يَعِدُهُمْ في قوة يغرّهم بوعده والجملةُ اعتراضٌ وعدمُ التعرّضِ للتمنية لأنها بابٌ من الوعد
(2/234)
 
 
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
{أولئك} إشارةٌ إلى أولياء الشيطان وما فيه من معنى البُعد للإشعارِ ببُعد منزلتِهم في الخُسران وهو مبتدأٌ وقولُه تعالى
{مَأْوَاهُمْ} مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالَى
{جَهَنَّمُ} خبرٌ للثانِي والجملةُ خبرٌ للأولِ
{وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} أي معدِلاً ومهرَباً من حاص الحمارُ إذا عدَل وقيل خلَص ونجا وقيل الحَيْصُ هو الروغان بنفور وعنها متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من محيصاً أي كائناً عنها ولا مَساغَ لتعلُّقه بمحيصاً أما إذا كان اسمَ مكانٍ فظاهرٌ وأما إذا كان مصدراً فلأنه لا يعملُ فيما قبلَهُ
(2/234)
 
 
122 - 123 النساء
(2/235)
 
 
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات} مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى
{سندخلهم جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً} قرَن وعيدَ الكفرةِ بوعد المؤمنين زيادةً لمَسرَّة هؤلاءِ ومَساءةِ أولئك
{وَعْدَ الله حَقّا} أي وعَده وعداً وحقَّ ذلك حقاً فالأولُ مؤكدٌ لنفسه لأن مضمونَ الجملةِ الاسميةِ وعدٌ والثاني مؤكدٌ لغيره ويجوز أن ينتصِبَ الموصولُ بمضمر يفسِّره ما بعده وينتصب وَعَدَ الله بقوله تعالى سَنُدْخِلُهُمْ لأنه في معنى نعِدُهم إدخالَ جناتٍ الخ وحقاً على أنه حال من المصدر
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} جملةٌ مؤكدةٌ بليغةٌ والمقصودُ من الآية معارضَةُ مواعيدِ الشيطانِ الكاذبةِ لقرنائه بوعد الله الصادقِ لأوليائه والمبالغةُ في تأكيده ترغيباً للعباد في تحصيله والقيلُ مصدرٌ كالقول والقال وقال ابنُ السِّكِّيتِ القيلُ والقالُ اسمانِ لا مصدرانِ ونصبُه على التمييز وقرئ بإشمام الصادِ وكذا كلُّ صادٍ ساكنةٍ بعدها دالٌ
(2/235)
 
 
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
{لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الكتاب} أي ليس ما وعد الله تعالى من الثواب يحصُل بأمانيكم إيها المسلمون ولا بأمانيِّ أهلِ الكتابِ وإنما يحصُل بالإيمان والعملِ الصالحِ ولعل نظمَ أمانيِّ أهلِ الكتابِ في سلك أمانيِّ المسلمين مع ظهور حالِها للإيذان بعدم إجداءِ أمانيِّ المسلمين أصلاً كما في قوله تعالى وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ كما سلف وعن الحسن ليس الإيمانُ بالتمنِّي ولكنْ ما وقر في القلب وصدّقه العملُ إن قوماً ألهتْهم أمانيُّ المغفرةِ حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنةَ لهم وقالوا نُحسِنُ الظنَّ بالله وكذَبوا لو أحسنوا الظنَّ به لأحسنوا العملَ وقيل إن المسلمين وأهلَ الكتاب افتخروا فقال أهلُ الكتاب نبيُّنا قبل نبيِّكم وكتابُنا قبل كتابِكم فنحن أولى بالله تعالى منكم فقال المسلمون نحنُ أولى منكم نبيُّنا خاتمُ النبيين وكتابُنا يقضي على الكتب المتقدمةِ فنزلت وقيل الخطابُ للمشركين ويؤيده تقدّمُ ذكرِهم أي ليس الأمرُ بأمانيِّ المشركين وهو قولُهم لا جَنةَ ولا نارَ وقولُهم إنْ كانَ الأمرُ كَما يزعُم هؤلاء لنكونَنّ خيراً منهم وأحسنَ حالاً وقولُهم لأوتين مالاً وولداً ولا أمانيِّ أهلِ الكتاب وهو قولُهم لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ من كان هودا أو نصارى وقولُهم لَن تَمَسَّنَا النار إلا أياما معدودة ثم قرر ذلك بقوله تعالى
{مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} عاجلاً أو آجلاً لما رُوي أَنَّهُ لمَّا نزلتْ قال أبُو بكرٍ رضيَ الله تعالى عنه فمن ينجو مع هذا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تحزنُ أو تمرَضُ أو يصيبُك البلاء قال بلى يا رسولَ الله قالَ هو ذاك
{وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله} أي مجاوزاً لموالاة الله ونُصرتِه
{وَلِيّاً} يواليه
{وَلاَ نَصِيراً} ينصُره في دفع العذاب عنه
(2/235)
 
 
124 - 125 النساء
(2/236)
 
 
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} أي بعضَها أو شيئاً منها فإن كلَّ أحدٍ لا يتمكن من كلها وليس مكلَّفاً بها
{من ذَكَرٍ أَوْ أنثى} في موضع الحالِ من المستكنِّ في يَعْمَلُ ومن للبيان أو من الصالحات فمن للابتداء أي كائنةً من ذكر الخ
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} حالٌ شرَط اقترانَ العملِ بها في استدعاء الثوابِ المذكورِ تنبيهاً على أنه لا اعتدادَ به دونه
{فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ بعنوان اتصافِه بالإيمان والعملِ الصالحِ والجمعُ باعتبار معناها كما أنَّ الإفرادَ فيما سبقَ باعتبار لفظِها وما فيهِ من معنى البعدِ لما مرَّ غيرَ مرَّةٍ من الإشعار بعلوِّ رُتبةِ المُشَارِ إليهِ وبُعد منزلتِه في الشَّرفِ
{يَدْخُلُونَ الجنة} وقرئ يُدخَلون مبنياً للمفعول من الإدخال
{وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} لا يُنقصون شيئاً حقيراً من ثواب أعمالِهم فإن النقيرَ عَلَم في القلة والحَقارةِ وإذا لم يُنقص ثوابُ المطيعِ فلأَنْ لا يزادَ عقابُ العاصي أولى وأحرى كيف لا والمجازي أرحمُ الراحمين وهو السرُّ في الاقتصار على ذكره عَقيبَ الثواب
(2/236)
 
 
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أسلم وجهه لله} أي أخلص نفسَه له تعالى لا يعرِف له رباً سواه وقيل بذل وجهَه له في السجود وقيل أخلص عمله له عز وجل وقيل فوّض أمرَه إليه تعالى وهذا إنكارٌ واستبعادٌ لأن يكون أحدٌ أحسنَ ديناً ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيب متعرضاً لإنكار المساواة ونفيها يُرشِدُك إليه العُرفُ المطّردُ والاستعمالُ الفاشي فإنه إذا قيل مَنْ أكرم من فلان أولا أفضلَ من فلان فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضلٍ وعليه مساقُ قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى ونظائرِه وديناً نُصب على التمييز من أحسنُ منقولٌ من المبتدأ والتقديرُ ومن دينُه أحسنُ من دين مَنْ أسلم الخ فالتفضيلُ في الحقيقة جارٍ بين الدينين لا بين صاحبيهما ففيه تنبيهٌ على أن ذلك أقصى ما تنتهي إليه القوةُ البشرية
{وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي آتٍ بالحسنات تاركٌ للسيئات أو آتٍ بالأعمال الصالحة على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ والجملة حال من فاعل أسلم
{واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم} الموافقةُ لدين الإسلامِ المتّفق عل صحتها وقبولِها
{حَنِيفاً} مائلاً عن الأديان الزائغةِ وهو حالٌ من فاعلِ اتبع أو من إبراهيم
{واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً} اصطفاه وخصَّه بكرامات تُشبه كراماتِ الخليلِ عند خليله واظهاره صلى الله عليه وسلم في مواقع الإضمار لتفخيم شأنِه والتنصيصِ على أنه الممدوحُ وتأكيدِ استقلالِ الجملةِ الاعتراضية والخُلّةُ من الخِلال فإنه ودٌّ تخلَّل النفسَ وخالطَها وقيل من الخَلَل فإن كلَّ واحدٍ من الخليلين يسد خلَلَ الآخَر أو من الخل وهو الطريقُ في الرمل فإنهما يتوافقان في الطريقة أو من الخَلّة
(2/236)
 
 
126 - 127 النساء
بمعنى الخَصْلة فإنهما يتوافقان في الخِصال وفائدةُ الاعتراضِ جملة من جملتها الترغيبُ في اتباع ملتِه عليه السلام فإن من بلغ من الزُّلفى عند الله تعالى مَبْلغاً مصحِّحاً لتسميته خليلاً حقيقٌ بأن يكون اتباعُ طريقته أهم مايمتد إليه أعناقُ الهِمم وأشرفَ ما يَرمُق نحوه أحداقُ الأمم قيلَ إنَّه عليه الصلاةُ والسلام بَعث إلى خليل له بمصرَ في أزمة أصابت الناسَ يمتارُ منه فقال خليلُه لو كان إبراهيمُ يطلب المِيرةَ لنفسه لفعلت ولكنه يُريدها للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناسَ من الشدة فرجَع غِلمانُه عليه الصلاة والسلام فاجتازوا ببطحاء لينة فملئوا منها الغرائرَ حياءً من الناس وجاؤا بها إلى منزل إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وألقَوْها فيه وتفرّقوا وجاء أحدُهم فأخبر إبراهيمَ بالقصة فاغتم لذلك غماً شديداً لاسيما لاجتماع الناسِ ببابه رجاءَ الطعام فغلبه عيناه وعمَدت سارةُ إلى الغرائر فإذا فيها أجودُ ما يكون من الحُوَّارَى فاختبزت وفي رواية فأطعمت الناس وانتبه إبراهيم عليه السلام فاشتم رائحةَ الخبزِ فقال من أين لكم قالت سارة من خليلك المِصريِّ فقال بل من عند خليلى الله عز وجل فسماه الله تعالى خليلاً
(2/237)
 
 
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
{ولله ما في السماوات وَمَا فِي الارض} جملةٌ مبتدأةٌ سيقت لتقريرٍ وجوبِ طاعة الله تعالى على أهل السموات والأرض ببين أن جميعَ ما فيهما من الموجوداتِ له تعالى خَلْقاً وملكا لايخرج عن ملكوته شئ منها فيجازي كلاًّ بموجب أعماله خيرا وشرا وقيل لبيان أن اتخاذَه عز وجل لإبراهيمَ عليه السلام خليلاً ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأنٍ من شئونه كما هو دأبُ الآدميين فإن مدار خُلَّتِهم افتقارُ بعضِهم إلى بعض في مصالحهم بل لمجرد تكرمتِه وتشريفِه عليه السلام وقيل لبيان أن الخُلة لا تخرجه عن رتبة العبوديةِ وقيل لبيان أن اصطفاءَه عليه السلام للخُلّة بمحض مشيئته تعالى أى تعالى ما فيهما جميعاً يختار منهما ما يشاء وقوله عز وجل
{وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء مُّحِيطاً} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ماقبله على الوجوه المذكورةِ فإن إحاطتَه تعالى علماً وقُدرةً بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جملتها ما فيهما من المكلفين وأعمالِهم مما يقرِّرُ ذلك أكملَ تقرير
(2/237)
 
 
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء} أي في حقهن على الإطلاق كما ينبئ عنه الأحكامُ الآتية لا في حق ميراثِهن خاصة فإنه صلى الله عليه وسلم قد سُئل عن أحوال كثيرةٍ مما يتعلق بهن فما بُيِّن حكمُه فيما سلف أحيل بيانُه على ماورد في ذلك من الكتاب ومالم يبين حكمه بعد ههنا وذلك قوله تعالى
{قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عليكم فى الكتاب} بإسناد الإفتاءِ الذي هو تبيين المُبهم وتوضيحُ المُشكلِ إليه تعالى وإلى ما تُليَ من الكتاب فيما سبق باعتبارين على طريقة قولِك أغناني زيدٌ وعطاؤُه بعطف مَا على المبتدأ أو ضميرِه في الخبر لمكان الفصلِ بالمفعول والجارِّ
(2/237)
 
 
والمجرور وإيثارُ صيغة المضارعِ للإيذان باستمرار التلاوةِ ودوامِها فِى الكتاب إما متعلقٌ بيُتلى أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المستكنّ فيه أي يتلى كائناً فيه ويجوز أن يكون ما يتلى عليكم مبتدأً وفي الكتاب خبرُه على أن المرادَ به اللوحُ المحفوظُ والجملةُ معترضةٌ مسوقةٌ لبيان عِظَمِ شأن المتلوِّ عليهم وأن العدلَ في الحقوق المبينة فيه من عظائم الأمورِ التى تجب مراعاتها والمحافظة عليها فما يتلى حينئذ متناولٌ لما تُليَ وما سيتلى ويجوز أن يكون مجروراً على القسم المنبئ عن تعظيم المقسَم به وتفخيمِه كأنه قيل قل الله يُفتيكم فيهن وأُقسِم بما يتلى عليكم في الكتاب فالمرادُ بقوله تعالى يُفْتِيكُمْ بيانُه السابقُ واللاحقُ ولا مساغَ لعطفه على المجرور من فيهن لاختلاله لفظاً ومعنى وقولُه تعالى
{فِى يتامى النساء} على الوجه الأولِ وهو الأظهرُ متعلقٌ بيتلى أي ما يتلى عليكم في شأنهن وعلى الأخيرين بدلٌ من فيهن وهذه الإضافةُ بمعنى من لأنها إضافة الشئ إلى جنسه وقرئ ييامى على قلب همزةِ أيامى ياءً
{اللاتى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} أي ما فُرض لهن من الميراث وغيره
{وَتَرْغَبُونَ} عطفٌ على الصلة عطفَ جملةٍ مُثبتةٍ على جملة منفية وقيل حال من فاعل تؤتونهن بتأويل وأنتم ترغبون ولاريب في أنه لا يظهر لتقييدِ عدمِ الإيتاءِ بذلك فائدةٌ إلا إذا أريد بما كُتب لهن صَداقُهن
{أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي في ان تنكحوهن لالأجل التمتعِ بهن بل لأكل ما لهن أوفي أن تنكحوهن بغير إكمالِ الصَّداقِ وذلك ما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ رضيَ الله تعالى عنها من أنها اليتيمةُ تكون في حجر وليها هو وليِّها فيرغب في مالها وجمالِها ويريد أن ينكِحَها بأدنى من سُنة نسائِها فنُهوا أن ينكِحوهن إلا أن يُقسِطوا لهن في إكمال الصَّداقِ أو عن أن تنكحوهن وذلك ماروى عنها رضيَ الله عنْهَا أنَّها يتيمةٌ يرغب وليُّها عن نكاحها ولا يُنكِحُها فيعضُلها طمعاً في ميراثها وفي رواية عنها رضى الله عنه هو الرجلُ يكون عنده يتيمة ووارثُها وشريكُها في المال حتى في العِذْق فيرغب أن ينكِحَها ويكره أن يزوِّجَها رجلاً فيَشرُكَه في ماله بما شرَكَتْه فيعضُلها فالمرادُ بما كُتب لهن على الوجه الأولِ والأخير ميراثُهن وبما يتلى في حقهن قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم وقولُه تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا ونحوُهما من النصوص الدالةِ على عدم التعرّضِ لأموالهم وعلى الوجه الثاني صَداقُهن وبما يتلى فيهن قولهِ تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى الآية
{والمستضعفين مِنَ الولدان} عطفٌ على يتامى النساءِ وما يتلى في حقهم قولُه تعالى يُوصِيكُمُ الله الخ وقد كانوا في الجاهلية لا يورِّثونهم كما لا يورِّثون النساءَ وإنما يورِّثون الرجالَ القوام بالأمور رُوي أن عيينةَ بنَ حصنٍ الفزاريَّ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أُخبرنا بأنك تعطي الابنةَ النصفَ والأختَ النصفَ وإنما كنا نورِّث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة فقال صلى الله عليه وسلم كذلك أُمِرْتُ
{وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} بالجر عطفٌ على ما قبله وما يتلى في حقهم قولُه تعالى وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم ونحوُ ذلك مما لا يكاد يحصر هذا على تقديرِ كونِ فِى يتامى النساء متعلقاً بيتلى وأما على تقدير كونِه بدلاً من فيهن فال