نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 008

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

    
 
  
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
 
 
 
 
  
 
الكتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف: إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (المتوفى: 885هـ)
الناشر: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة
عدد الأجزاء: 22
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
 
الحال أو الاستقبال مرادا به ما يشمل الماضي لما ذكر أبو حيان وغيره في سورة الحج عند {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله} [الحج: 25] من أنه يطلق المضارع مرادا به مجرد إيقاع الفعل من غير نظر إلى زمان معين، فقال: {ما أعبد *} أي وجدت مني عبادته واتصفت بها الآن وفي ماضي الزمان ومستقبله اتصافا يعتد به.
ولما كان ذلك كله، وبدأ النفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه صلى الله عليه وسلم إيذانا بالاهتمام ببراءته منهم، أنتج قطعا مقدما لما يتعلق بهم على وجه اختصاصهم به تأكيدا لما صرح به ما مضى من براءته منهم: {لكم} أي خاصة {دينكم} أي الذي تعلمون أنه لا أصل له يثبت عليه، ولا دليل يرجع بوجه إليه، لا أشارككم فيه بوجه ولا ترجعون عنه بوجه بل تموتون عليه موتا لبعضكم حتف الأنف والآخرين قتلا على يدي بالسيف {ولي} أي خاصة {دين *} من واسع روضة الإسلام إلى أعلى مقام: مقام الإيقان والإحسان، وأنتم تعلمون - لو جردتم عقولكم عن الهوى وأخلصتم أفكاركم من الحمية والإبا - أنه كله دليل وفرقان ونور وحجة وبرهان، لا تشاركونني فيه بوجه، ولا تقدرون على ردي عنه أصلا، فكانت هذه علما
(22/308)
 
 
من أعلام النبوة من حيث إنه مات منهم ناس كثير بعد ذلك على الكفر وأتم الله له هذا الدين، فصدق سبحانه فيما قال، وثبت مضمون الكوثر بأكمل استدلال، وأما من آمن بعد ذلك فليس مرادا لأنه لم يكن عريقا في وصف الكفران، ولا راسخا في الضلال والطغيان، فأسعده وصف الإسلام والإيمان، وساق الجمل كلها غير مؤكد إشارة إلى أنها من الوضوح في حد لا خفاء به أصلا، ولا شك أن آخرها الذي هو اختصاص كل بدينه هو أولها الذي أفاد أنه لا يعبد معبودهم ولا يعبدون معبوده فصار آخرها أولها، ومفصلها موصلها - هذا هو الذي دل عليه السياق، وليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد ليحتاج إلى نسخ، ومن أعظم الدلائل إعجازها وجمعها للمعاني في إشارتها وإيجازها أن حاصلها قطع رجاء أهل الكفران من أن يقاربهم النبي صلى الله عليه وسلم في أن يعدل بربه أحدا في زمن من الأزمان، وذلك من أعظم مقاصد المناظرة لها في رد الآخر على أول الأنعام لأنها السادسة في العد من الأول، كما أن هذه السادسة في العد من الآخر {أغير الله اتخذ وليا} [الأنعام: 14] {أفغير الله ابتغي حكما} [الأنعام: 114] {أغير الله أبغي ربا وهو
(22/309)
 
 
رب كل شيء} [الأنعام: 164] إلى غير ذلك من الآيات، والفواصل والغايات، هذا ما يتعلق بمعاني تراكيبها ونظومها على ما هي عليه وتراتيبها وسياقاتها وأساليبها، وكلماتها الخطية سبع وعشرون إلى أربع كلمات البسملة إحدى وثلاثون إلى أربعة ضمائر مستترة خمس وثلاثون إلى تسعة بارزة، فتلك أربع وأربعون كلمة الضمائر منها ثلاثة عشر هي مدة الإقامة بمكة المشرفة قبل الهجرة لأنها في الخفاء كالضمائر في خزائن السرائر، ولا سيما الأربع الأول منها الموازية لضمائر الاستتار وغير الضمائر إحدى وثلاثون المناظر لها من السنين سنة إحدى وثلاثين، وهي سنة قتل يزدجرد ملك الفرس أكفر الكفرة من أهل ذلك الزمان وأعتاهم، وموافقة كلماتها في العدة لأحرف الكوثر مشيرة إلى أن اليسير من أتباعه صلى الله عليه وسلم أكثر وأكبر من كثير شانئيه وأضداده وحاسديه، وقد دل على ذلك شاهد الوجوه في يوم الفتح والمسلمون عشرة آلاف، والكفار من قريش وممن حولهم لا يحصون كثرة، وقد كان فعلهم في ذلك اليوم ما شهد به اعتذار حماس الذي كان يعد امرأته أن يخدمها بعض المسلمين في قوله وقد فر هاربا ولم يستطع أن يغلق وراءه، بل قال
(22/310)
 
 
لها: أغلقي بابي، فقالت له: أين ما كانت تعدني به؟ فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
واستقبلتهم بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه
ضربا فلا يسمع إلا غمغمه ... بهم تهيب خلفنا وهمهمه
لم تنطقي باللوم أدنى كلمه ... هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أوصاهم ألا يقاتلوا إلا من بدأهم بالقتال. وهذا مع ما كان من أهل الإسلام حين قصدهم الكفار يوم الخندق والمشركون في عشرة آلاف وهم لا يبلغون ربعهم ولا مدد لهم ممن حولهم ولا ناصر إلا الله، بل جاءتهم الأعداء - كما قال الله تعالى: {من فوقهم ومن أسفل منهم} [الأحزاب: 10] {وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} [الأحزاب: 22] وإلى هذا أيضا أشار بلوغ عدد كلمات النصر خطيها واصطلاحيها ظاهرها ومستترها إلى عدد كلمات الكافرون الخطية، فذلك رمز إلى أن أضعف أهل الإسلام لا يضعف عن مقاومة أهل الكفر وأرسخهم في كل صفة يريدها - والله هو الموفق.
(22/311)
 
 
سورة النصر
وتسمى التوديع.
مقصودها الإعلام بتمام الدين اللازم عن مدلول اسمها النصر، اللازم عنه موت النبي (صلى الله عليه وسلم) ، اللازم عنه العلم بأنه ما برز إلى عالم الكون والفساد إلا لإعلاء كلمة الله تعالى وإدحاض كلمة الشيطان - لعنة الله تعالى عليه - اللازم عنه أنه (صلى الله عليه وسلم) خلاصة الوجود، وأعظم عبد للولي الودود، وعلى ذلك أيضا دل اسمها التوديع وحال نزولها وهو أيام التشريق من سنة حجة الوداعه) بسم الله (الذي له الأمر كله، فهو العليم الحكيم) الرحمن (الذي أرسلك رحمة للعالمين، فعمهم بعد نعمة الإيجاد بأن بين لهم إقامة لمعاشهم ومعادهم بك طريق النجاة غاية البيان، بما أنزل عليك من معجز القرآن الذي من سمعه فكأنما سمعه من العلي العظيم) الرحيم (الذي خص من أراده بالإقبال به إلى حزبه وجعله من أهل قربه بلزوم الصراط المستقيم.
(22/312)
 
 
إذا جاء نصر الله والفتح (1) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا (2) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (3)
لما دلت التي قبلها على أن الكفار قد صاروا إلى حال لا عبرة بهم فيه ولا التفات ولا خوف بوجه منهم ما دام الحال على المتاركة، كان كأنه قيل: فهل يحصل نصر عليهم وظفر بهم بالمعاركة، فأجاب بهذه السورة بشارة للمؤمنين ونذارة للكافرين، ولكنه لما لم يكن هذا بالفعل إلا عام حجة الوداع بعد فتح مكة بسنتين كان كأنه لم يستقر الفتح إلا حينئذ، فلم ينزل سبحانه وتعالى هذه السورة إلا في ذلك الوقت وقبل منصرفه من غزوة حنين، فقال تعالى تحقيقا لأنه ينصر المظلوم ويعلي دينه ويمهل ولا يهمل، فإنه لا يعجزه شيء، حثا على التفويض له والاكتفاء به، مقدما معمول «سبح» تعجيلا للبشارة: {إذا} .
ولما كانت المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها، يسوقها إليها سائق القدرة، فتقرب منها شيئا فشيئا، كانت كأنها آتية إليها، فلذلك حصل التجوز بالمجيء عن الحصول فقال: {جاء} أي استقر وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له في الأزل، وزاد في تعظيمه بالإضافة ثم بكونها اسم الذات فقال: {نصر الله} أي الملك الأعظم الذي لا مثل له ولا أمر لأحد معه على جميع الناس في كل أمر يريده.
ولما كان للنصر درجات، وكان قد أشار سبحانه بمطلق الإضافة
(22/313)
 
 
إليه ثم بكونها إلى الاسم الأعظم إلى أن المراد أعلاها، صرح به فقال: {والفتح *} أي المطلق الصالح لكل فتح الذي نزلت فيه سورته بالحديبية مبشرة له بغلبة حزبه الذين أنت قائدهم وهاديهم ومرشدهم، لا سيما على مكة التي بها بيته ومنها ظهر دينه، وبها كان أصله، وفيها استقر عموده، وعز جنوده، فذل بذلك جميع العرب، وقالوا: لا طاقة لنا بمن أظفره الله بأهل الحرم، فعزوا بهذا الذل حتى كان ببعضهم تمام هذا الفتح، ويكون بهم كلهم فتح جميع البلاد، وللإشارة إلى الغلبة على جميع الأمم ساقه تعالى في أسلوب الشرط، ولتحققها عبر عنه ب {إذا} إعلاما بأنه لا يخلف الوعد ولا ينقص ما قدره وإن توهمت العقول أنه فات وقته، وإيذانا بأن القلوب بيده يقلبها كيف يشاء ليحصل لمن علم ذلك الإخلاص والخوف والرجاء، فأشعرت العبارة بأن الوقت قد قرب، فكان المعنى: فكن مترقبا لوروده ومستعدا لشكره.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما كمل دينه واتضحت شريعته واستقر أمره صلى الله عليه وسلم وأدى أمانة رسالته حق أدائها عرف عليه صلى الله عليه الصلاة والسلام نفاد عمره وانقضاء أجله، وجعلت له على ذلك
(22/314)
 
 
علامة دخول الناس في دين الله جماعات بعد التوقف والتثبط {حكمة بالغة فما تغني النذر} [القمر: 5] {لو شاء الله لجمعهم على الهدى}
[الأنعام: 35] وأمر بالإكثار من الاستغفار المشروع في أعقاب المجالس وفي أطراف النهار وخواتم المآخذ مما عسى أن يتخلل من لغو أو فتور، فشرع سبحانه وتعالى الاستغفار ليحرز لعباده من حفظ أحوالهم ورعي أوقاتهم ما يفي بعلي أجورهم كما وعدهم {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته} [الأنعام: 115] وقد بسطت ما أشارت إليه هذه السورة العظيمة - وكل كلام ربنا عظيم - فيما قيدته في غير هذا، وأن أبا بكر رضي الله عنه عرف منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيت إليه نفسه الكريمة على ربه وعرف بدنو أجله، وقد أشار إلى هذا الغرض أيضا بأبعد من الواقع في هذه السورة قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] وسورة براءة وأفعاله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع لكن لم يبلغنا استشعار أحد من الصحابة رضي الله عنهم تعيين الأمر إلا من هذه السورة. وقد عرفت بإشارة براءة وآية المائدة تعريفا شافيا، واستشعر الناس عام حجة الوداع وعند نزول براءة ذلك لكن لم يستيقنوه وغلبوا رجاءهم في حياته صلى الله عليه وسلم، ومنهم من توفي، فلما نزلت {إذا جاء نصر الله والفتح} استيقن أبو بكر رضي الله عنه ذلك
(22/315)
 
 
استيقانا حمله على البكاء لما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم - انتهى.
ولما عبر عن المعنى بالمجيء، عبر عن المرئي بالرؤية فقال: {ورأيت} أي بعينيك {الناس} أي العرب الذين كانوا حقيرين عند جميع الأمم، فصاروا بك هم الناس - كما دلت عليه لام الكمال، وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعا، وبالنسبة إليهم رعايا، حال كونهم {يدخلون} شيئا فشيئا متجددا دخولهم مستمرا {في دين الله} أي شرع من لم تزل كلمته هي العليا في حال إباء الخلق - بقهره لهم على الكفر الذي لا يرضاه لنفسه عاقل - ترك الحظوظ، وفي حال طواعيتهم بقسره لهم على الطاعة، وعبر عنه بالدين الذين معناه الجزاء لأن العرب كانوا لا يعتقدون القيامة التي لا يتم ظهور الجزاء إلا بها {أفواجا *} أي قبائل قبائل وزمرا زمرا وجماعات كثيفة كالقبيلة بأسرها أمة بعد أمة كأهل مكة والطائف وهوازن وهمدان وسائر القبائل من غير قتال في خفة وسرعة ومفاجأة ولين بعد دخولهم واحدا واحدا ونحو ذلك لأنهم قالوا: أما إذا ظفر بأهل الحرم وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل الذين لم يقدر أحد على ردهم فليس لنا بهم يدان. فتبين أن هذا القياس المنتج هذه النتيجة البديهية بقصة أصحاب الفيل ما رتبه الله إلا إرهاصا لنبوته وتأسيسا لدعوته فألقوا بأيديهم، وأسلموا قيادهم حاضرهم وباديهم.
(22/316)
 
 
ولما كان التقدير: فقد سبح الله نفسه بالحمد بإبعاد نجس الشرك عن جزيرة العرب بالفعل، قال إيذانا بأنه منزه عن النقائص التي منها إخلاف الوعد، وأن له مع ذلك الجلال والجمال، معبرا بما يفيد التعجب لزيادة التعظيم للمتعجب منه ليثمر ذلك الإجلال والتعظيم والتذلل والتقبل لجميع الأوامر، ويفهم أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بالاشتغال بخاصة نفسه بدنو أجله، وأن اشتغاله بالناس قد انتهى، لأن الدين قد كمل فلم يبق له صلى الله عليه وسلم شغل في دار الكدر: {فسبح} أي نزه أنت بقولك وفعلك بالصلاة وغيرها موافقة لمولاك فيما فعل، وزد في جميع أنواع العبادة، تسبيحا متلبسا {بحمد} أي بكمال وإجلال وتعظيم {ربك} أي الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدين وقمع المعتدين، المحسن إليك بجميع ذلك، لأنه كله لكرامتك، وإلا فهو عزيز حميد على كل حال، تعجبا لتيسير الله من هذا الفتح مما لم يخطر بالبال، وشكرا لما أنعم به سبحانه وتعالى عليه من أنه أراه تمام ما أرسل لأجله، ولأن كل حسنة يعملها أتباعه له مثلها.
ولما أمره صلى الله عليه وسلم بتنزيهه عن كل نقص، ووصفه تنزلا
(22/317)
 
 
عن غيب الغيب إلى الغيب بكل كمال مضافا إلى الرب تدليا إلى مشاهدة الأفعال، وصل إلى نهاية التنزل من الخالق إلى المخلوق مخاطبا لأعلى الخلائق كلهم فأمره بما يفهم العجز عن الوفاء بحقه لما له من العظمة المشار إليها بذكره مرتين بالاسم الأعظم الذي له من الدلائل على العظم والعلو إلى محل الغيب الذي لا مطمع في دركه ما تنقطع الأعناق دونه ليفهم عجز غيره من باب الأولى، فقال معلما بأن من كماله أن يأخذ بالذنب إن شاء ويغفر إن شاء وإن عظم الذنب، ليحث ذلك على المبادرة إلى التوبة وتكثير الحسنات وحسن الرجاء: {واستغفره} أي اطلب غفرانه إنه كان غفارا إيذانا بأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات لتقتدي بك أمتك في المواظبة على الأمان الثاني لهم، فإن الأمان الأول - الذي هو وجودك بين أظهرهم قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى والمحل الأقدس الأولى، وكذا فعل صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ودخل يوم الفتح مكة مطأطئا رأسه حتى إنه ليكاد يمس واسطة الرحل تواضعا لله سبحانه وتعالى إعلاما لأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أن ما وقع
(22/318)
 
 
إنما هو بحول الله، لا بكثرة مع معه من الجمع، وإنما جعلهم سببا لطفا منه بهم، ولذلك نبه من ظن منهم أو هجس في خاطره أن للجمع مدخلا بما وقع من الهزيمة في حنين أولا، وما وقع بعد من النصرة بمن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم لا يبلغون ثلاثين نفسا ثانيا، فالتسبيح الذي هو تنزيه عن النقص إشارة إلى إكماله الدين تحقيقا لما كان تقدم به وعده الشريف.
والاستغفار إشارة إلى أن عبادته صلى الله عليه وسلم التي هي أعظم العبادات قد شارفت الانقضاء، ولا يكون ذلك إلا بالموت، فلذلك أمر بالاستغفار لأنه يكون في خاتمة المجالس والأعمال جبرا لما لعله وقع فيها على نوع من الوهن واعترافا بذل العبودية والعجز.
ولما أمر بذلك فأرشد السياق إلى أن التقدير: وتب إليه، علله مؤكدا لأجل استبعاد من يستبعد مضمون ذلك من رجوع الناس في الردة ومن غيره بقوله: {إنه} أي المحسن إليك غاية الإحسان بخلافته لك في أمتك، ويجوز أن يكون التأكيد لأجل دلالة ما تقدم من ذكر الجلالة مرتين على غاية العظمة والفوت عن الإدراك
(22/319)
 
 
بالاحتجاب بإرادته الكبرياء والعز والتجبر والقهر مع أن المألوف أن من كان على شيء من ذلك كان بحيث لا يقبل عذرا ولا يقبل نادما {كان} أي لم يزل على التجدد والاستمرار {توابا *} أي رجاعا بمن هذب به الشيطان من أهل رحمته فهو، الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف والعداوات فأيدك بدخولهم في الدين شيئا فشيئا حتى أسرع بهم بعد سورة الفتح إلى أن دخلت مكة في عشرة آلاف، وهو أيضا يرجع بك إلى الحال التي يزداد بها ظهور رفعتك في الرفيق الأعلى ويرجع عن تخلخل من أمتك في دينه بردة أو معصية دون ذلك إلى ما كان عليه من الخير، ويسير بهم أحسن سير، فقد رجع آخر السورة إلى أولها لأنه لولا تحقق وصفه بالتوبة لما وجد الناصر الذي وجد به الفتح والتحم مقطعها أي التحام بمطلعها، وعلم أن كل جملة منها مسببة عما قبلها، فتوبة الله على عبده نتيجة توبته باستغفاره الذي هو طلب المغفرة بشروطه، وذلك ثمرة اعتقاده الكمال في ربه، وذلك ما دل عليه إعلاؤه لدينه، وقسره للداخلين فيه على الدخول مع أنهم أشد الناس شكائم وأعلاهم
(22/320)
 
 
همما وعزائم، وقد كانوا في غاية الإباء له والمغالبة للقائم به، وذلك هو فائدة الفتح هو آية النصر، وقد علم أن الآية الأخيرة من الاحتباك: دل بالأمر بالاستغفار على الأمر بالتوبة، وبتعليل الأمر بالتوبة على تعليل الأمر بالاستغفار، وعلم أن السورة أشارة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم بالحث على الاستغفار الذي هو الأمان الثاني، ومن شأنه أن تختم به الأعمال والمجالس بعد ما أشار إليه إعلامها بظهور الدين على الدين كله ونزولها في أوسط أيام التشريق من حجته عليه أفضل الصلاة والسلام سنة عشر كما ذكرته في كتابي «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور» وكتابي «الاطلاع على حجة الوداع» وذلك بعد نزول آية المائدة - التي هي نظيرتها في رد المقطع على المطلع - في يوم عرفة
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] ومن المعلوم أنه لا يكون في هذه الدار كمال إلا بعده نقصان، ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وخطب الناس فيها، فعلمهم أمور دينهم وأشهدهم على أنفسهم وأشهد الله عليهم
(22/321)
 
 
بأنه بلغهم، وودعهم وقال: لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، وأشار إلى ذلك أيضا بالتوبة وإلى وقوع الردة بعده صلى الله عليه وسلم ورجوع من ارتد إلى أحسن ما كانوا عليه من اعتقادهم في الدين وثباتهم عليه بقتل من كان مطبوعا على الكفر المشار إليهم بقوله تعالى: {ولو أسمعهم} [الأنفال: 23]- أي إسماع قهر وغلبة وقسر - {لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23] فكان وجودهم ضررا صرفا من غير منفعة وقتلهم نفعا لا ضرر فيه بوجه، ولأجل إفهامها حلول الأجل للإيذان بالتمام بكى العباس رضي الله تعالى عنه - وفي رواية: ولده عبد الله - عند نزولها فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «نعيت إليك نفسك» فقال: إنه لكما تقول. كما بكى عمر رضي الله عنه عند نزول آية المائدة، وعلل بهذا - والله الهادي، وقد ظهر بهذا أن حاصلها الإيذان بكمال الدين ودنو الوفاة لخاتم النبيين، والنصر على جميع الظالمين الطاغين الباغين، وذلك من أعظم مقاصد المائدة، المناظرة لهذه في التطبيق بين البادئة والعائدة، كما أشار إليه قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} [
(22/322)
 
 
الأنعام: 3] وقوله تعالى: {ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 56] وقوله تعالى: {لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} [المائدة: 120] ومن أعظم لطائف هذه السورة ودقيق بدائعها ولطيف منازعها أن كلماتها تدل بأعدادها على أمور جليلة وأسرار جميلة، فإنها تسع عشرة كلمة، وقد كان في سنة تسع عشرة من الهجرة موت قيصر طاغية الروم، وذلك أن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما فتح الإسكندرية قال قيصر: لئن غلبونا على الإسكندرية لقد هلكت الروم، فتجهز ليباشر قتالهم بنفسه، فعندما فرغ من جهازه صرعه الله فمات وكفى الله المسلمين شره، وذل الروم بذلك ذلا كبيرا، واستأسدت العرب، وفي هذه السنة أيضا فتح الله قيسارية من بلاد الشام فلم يبق بالشام أقصاها وأدناها عدو، وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، وكان فيها أيضا فتح جلولاء، من بلاد فارس، وكان فتحها يسمى فتح الفتوح، لأن الفرس لم ينجبروا بعده، هذا إن عددنا ما يوازي كلماتها من سنة الهجرة، وإن عددنا من سنة نزول السورة في سنة عشر فقد فتحت سنة تسع وعشرين من الهجرة - وهي التاسعة عشرة من نزولها -
(22/323)
 
 
مدينة اصطخر، واشتد ضعف الفرس، وأمر ملكهم يزدجرد واجتهاده في الهرب من العرب حتى قتل سنة إحدى وثلاثين من الهجرة بعد ذلك بسنتين، وذلك هو العد الموازي لعد كلماتها ظواهر وضمائر مع كلمات البسملة، وإذا نظرت إلى ما هنا من هذا وطبقت بينه وبين ما ذكر في سورة الفتح من مثله زاد عجبك من باهر هذه الآيات - والله الموفق، ثم إنك إذا اعتبرت اعتبارا آخر وجدت هذه السورة كا دلت بجملتها على انقضاء زمن النبوة بموت النبي صلى الله عليه وسلم دلت بمفردات كلماتها على انقضاء خلافة النبوة لتمام ثلاثين سنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه عن سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنه
«خلافة النبوة ثلاثون، ثم يؤتي الله الملك من يشاء» وذلك أنك إذا عددت كلماتها مع البسملة كانت باعتبار الرسم ثلاثا وعشرين كلمة، وذلك مشيرا إلى انقضاء الخلافة التي لم تكن قط خلافة مثلها، وهي خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه باستشهاده في ذي الحجة سنة ثلاثة وعشرين من الهجرة، فإذا ضممت إلى ذلك الضمائر البارزة وهي خمسة، والمستترة وهي ثلاثة، فكانت أحدا وثلاثين،
(22/324)
 
 
وحسبت من حين نزول السورة على النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة سنة عشر كان ذلك مشيرا إلى انقضاء خلافة النبوة كلها بإصلاح أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنهما في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وذلك عند مضي ثلاثين سنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة عشر من الهجرة لا تزيد شهرا ولا تنقصه، وإن أخذت الضمائر وحدها بارزها ومستترها دلت على فتح مكة المشرفة بعينه، فإنها - كما مضى - ثمانية وقد كان الفتح سنة ثمان من الهجرة، ومن لطائف الأسرار وبدائع الأنظار أنها تدل على السنين بحسب التفصيل، فالبارز يدل على سنة النصر والظهور على قريش لأنهم المقصودون بالذات لأن العرب لهم تبع، والمستتر يدل على ضد ذلك، وشرح هذا أنه لما كانت قد خفقت في السنة الأولى من الهجرة رايات الإسلام في كل وجه، وانتشرت أسده في كل صوب، وانبثت سراياه في كل قطر، أشار إليها التاء في {ورأيت} التي هي ضميره صلى الله عليه وسلم إشارة إلى ما يختص بفهمه من البشارة. ولما كان في السنة الثانية بغزوة بدر من واضح الظفر وعظيم النصر ما هد قلوب الكفار، وشد قلوب الأنصار في سائر الأمصار، وأعلى لهم القدر، أشار إلى ذلك واو {يدخلون} ، ولما حصل في السنة الثالثة ما لم يخف من المصيبة في غزوة أحد التي ربما أوهمت بعض من لم يرسخ نقصا، أشار إلى ذلك
(22/325)
 
 
الضمير المستتر في {فسبح} ، ولما كان الخبر في الرابعة بأجلاء بني النضير وإخلاف قريش للوعد في بدر جبنا وعجزا حيث وفى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم شجاعة وقوة بحول الله وانقلبوا، منها بنعمة من الله وفضل لم يمسهم سوء، أشار إلى ذلك الكاف في {ربك} ولما كان في الخامسة غزوة الأحزاب أشار إليها المستتر في {واستغفره} ولما كان في السادسة عمرة الحديبية التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم فتحا، أنزل الله فيها سورة الفتح لكونها كانت سببا للفتح، فكان ذلك علما من أعلام النبوة، ولبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى الملوك يدعوهم إلى الله تعالى أشار إلى ذلك الضمير البازر في {واستغفره} وأكد قوته كونه للرب تعالى، ولما كان في السابعة غزوة خيبر وعمرة القضاء أشار إليها الضمير الظاهر في {إنه} ولما كان ضمير {كان} لله، وكان له سبحانه حضرتان: حضرة غيب وبطون، وحضرة شهادة وظهور، وكانت حضرة الغيب هي حضرة الجلال والكبرياء والعظمة والتعالي، وحضرة الشهادة حضرة التنزل بالأفعال والاستعطاف بالأقوال، كانت الحضرتان للنصر، وكانت حضرة الغيب أعظمهما نصرا وأشدهما أزرا، فلذلك كان ضمير الاستتار دالا على الفتح الأكبر بالانتصار على السكان والديار بسطوة الواحد القهار، على أنا إذا نظرنا إليه من حيث كونه جائز البروز كان البارز فله حكمه - فسبحان من شمل علمه، ودقت حكمته فنفذ حكمه.
(22/326)
 
 
سورة المسد
مقصودها البت والقطع الحتم بخسران الكافر ولو كان أقرب الخلق إلى أعظم الفائزين، اللازم عنه أن شارع الدين له من العظمة ما يقصر عنه الوصف، فهو يفعل ما يشاء لأنه لا كفو - له أصلا، حثا على التوحيد من سائر العبيد ولذلك بين سورة الإخلاص المقرون بضمان النصر وكثرة الأنصار، واسمها تبت واضح الدلالة على ذلك بتأمل السورة على هذه الصورة) بسم الله (الجبار المتكبر المضل الهاد) الرحمن (الذي عم الولي والعدو بنعمة البيان بعد الإكرام بالإيجاد) الرحيم (الذي خص بالتوفيق أهل الوداد.
(22/327)
 
 
تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2) سيصلى نارا ذات لهب (3) وامرأته حمالة الحطب (4) في جيدها حبل من مسد (5)
لما قدم سبحانه وتعالى في سورة النصر القطع بتحقيق النصر لأهل هذا الدين بعد ما كانوا فيه من الذلة، والأمر الحتم بتكثيرهم بعد الذي مر عليهم مع الذلة من القلة، وختمها بأنه التواب، وكان أبو لهب - من شدة العناد لهذا الدين والأذى لإمامة النبي صلى الله عليه وسلم سيد العالمين مع قربه منه - بالمحل الذي لا يجهل، بل شاع واشتهر، وأحرق الأكباد
(22/327)
 
 
وصهر، كان بحيث يسأل عن حاله إذ ذاك هل يثبت عليه أو يذل، فشفى غل هذا السؤال، وأزيل بما يكون له من النكال، وليكون ذلك بعد وقوع الفتح ونزول الظفر والنصر، والإظهار على الأعداء بالعز والقهر، مذكرا له صلى الله عليه وسلم بما كان أول الأمر من جبروتهم وأذاهم وقوتهم بالعدد والعدد، وأنه لم يغن عنهم شيء من ذلك، بل صدق الله وعده في قوله سبحانه وتعالى {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جنهم وبئس المهاد} [آل عمران: 12] وكذبوا فيما كانوا فيه من التعاضد والتناصر والتحالف والتعاقد، فذكر تعالى أعداهم له وأقربهم إليه في النسب إشارة إلى أنه لا فرق في تكذيبه لهم بين القريب والبعيد. وإلى أنه لم ينفعه قربه له ليكون ذلك حاملا لأهل الدين على الاجتهاد في العمل من غير ركون إلى سبب أو نسب غير ما شرعه سبحانه، فقال تعالى معبرا بالماضي دلالة على أن الأمر قد قضى بذلك وفرغ منه، فلا بد من كونه ولا محيص: {تبت} أي حصل القطع الأعظم والحتم الأكمل، فإنها خابت وخسرت غاية الخسارة، وهي المؤدية إلى الهلاك لأنه لا نجاة إلا نجاة الآخرة، وجعل خطاب هذه السورة عن الله ولم يفتتحها ب «قل» كأخواتها لأن هذا أكثر
(22/328)
 
 
أدبا وأدخل في باب العذر وأولى في مراعاة ذوي الرحم، ولذلك لم يكرر ذكرها في القرآن، وأشد في انتصار الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم وأقرب إلى التخويف وتجويز سرعة الوقوع.
ولما كانت اليد محل قدرة الإنسان، فإذا اختلت اختل أمره، فكيف إذا حصل الخلل في يديه جميعا، قال مشيرا بالتثنية إلى عموم هلاكه بأن قوته لم تغن عنه شيئا، ولأن التثنية يعبر بها عن النفس، ومشيرا بالكنية وإن كان يؤتى بها غالبا للتشريف إلى مطابقة اسمه لحاله، ومجانسته الموجبة لعظيم نكاله: {يدا أبي لهب} فلا قدرة له على إعطاء ولا منع، ولا على جلب ولا دفع، وإشارة إلى أن حسن صورته لم تغن عنه شيئا من قيبح سيرته لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
لأنه إنما كني بهذا لإشراق وجهه وتوقد وجنتيه، ولأنها أشهر، فالبيان بها أقوى وأظهر، والتعبير بها - مع كونه أوضح - أقعد في قول التي هي أحسن. لأن اسمه عبد العزى وهو قبيح موجب للعدول عنه غيرة على العبودية أن تضاف إلى غير مستحقها.
(22/329)
 
 
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هذه السورة وإن نزلت على سبب خاص وفي قصة معلومة فهي مع ما تقدمها واتصل بها في قوة أن لو قيل: قد انقضى عمرك يا محمد، وانتهى ما قلدته من عظيم أمانة الرسالة أمرك، وأديت ما تحملته وحان أجلك، وأمارة ذلك دخول الناس في دين الله أفواجا، واستجابتهم بعد تلكؤهم، والويل لمن عاندك وعدل عن متابعتك وإن كان أقرب الناس إليك. فقد فصلت سورة {قل يا أيها الكافرون} بين أوليائك وأعدائك، وبان بها حكم من اتبعك من عاداك، ولهذا سماها عليه الصلاة والسلام المبرئة من النفاق، وليعلم كفار قريش وغيرهم أنه لا اعتصام لأحد من النار إلا بالإيمان، وأن القرابات غير نافعه ولا مجدية شيئا إلا مع الإيمان {لكم دينك ولي دين} {أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون} [يونس: 41] ، {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71] وههنا انتهى الكتاب بجملته - انتهى.
ولما كان ربما خص التباب بالهلاك، وحمل على هلاك اليدين حقيقة، وكان الإنسان لا يزول جميع منفعته بفوات يديه وإن كان قد يعبر بهما عن النفس، قال مصرحا بالمقصود: {وتب} أي هو بجملته بتمام الهلاك والخسران، فحقق بهذا ما أريد من الإسناد إلى اليدين
(22/330)
 
 
من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده، والظاهر أن الأول دعاء والثاني خبر، وعرف بهذا أن الانتماء إلى الصالحين لا يغني إلا إن وقع الاقتداء بهم في أفعالهم لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم.
ومادة «تب» و «بت» - الجامعة بجمع التاء والباء للسببين الأدنى الباطني والأعلى الظاهري - تدور على القطع المؤدي في أغلب أحواله إلى الهلاك، لأن من انقطع إلى الأسباب معرضا عن مسببها كان في أعظم تباب، وربما كان القطع باستجماع الأسباب، فحصل العوز بالمقاصد والمحاب، قال ابن مكتوم في الجمع بين المحكم والعباب: التب والتباب: الخسار، وتبا له - على الدعاء، وتبا تبيبا - على المبالغة، قال الإمام أبو عبد الله القزاز: كأنك قلت: خسرانا له، وهو المصدر، نصب نصب سقيا له، قال ابن دريد: وكأن التب المصدر والتباب الاسم، والتبب والتباب والتبيب: الهلاك، والتتبيب النقص والخسار، وكل هذا واضح في القطع عن الخير والفوز، قال: والتاب: الكبير من الرجال، والأنثى تابة، وقال القزاز: إذا سألت الرجل عن المرأة قلت: أشابة هي أم تابة، أي أم عجوز فانية، ومعلوم أن كبر السن مقرب من القطع والهلاك، والتاب: الضعيف، والجمع أتباب - هذلية، وحمار
(22/331)
 
 
تاب الظهر - إذا دبر، وجمل تاب كذلك نادرة، ولا شك أن الدبر والضعف هلاك في المعنى.
وتب: قطع مثل بت، أي بتقديم الموحدة ووقعوا في تبوب منكرة، وهو بتبة أي بحالة شديدة، والتبي - بالفتح والكسر: ضرب من تمر البحرين، قيل: هو رديء يأكله سقاط الناس، وأتب الله قوته: أضعفها، وتببوهم تتبيبا: أهلكوهم، وتبتب: شاخ، وكل ذلك واضح في القطع بالهلاك والخسار، والتبوب يعني بالضم: ما انطوت عليه الأضلاع كالصدر والقلب، وهذا يحتمل الخير والشر، فإن القلب إذا فسد فسد الجسد كله، وإذا صلح صلح الجسد كله، فيكون حينئذ القطع، بالفوز والنجاة، أو لأن انطواء الأضلاع عليه قطعة عن الخارج، واستتب الأمر: تهيأ واستوى. وقال القزاز: ويقال: هذه العلة لا تستتب في نظار هذا القول، أي لا تجري في نظائره، كأنه من باب الإزالة إذ إن السين لما جامعت حرف السببين آذنت بالنجاح والفوز والفلاح، فإنها حرف تدل على الاستيفاء في الإنباء عن الشيء والتتمة والألفة، وأحسن من هذا أنها إذا جرت في النظائر أوضحتها وكشفت معانيها ففصلتها وأبانتها وقطعتها عن غير النظائر بما أزالت من الإلباس بها، والذي يحقق معاني التب ويظهر
(22/332)
 
 
أنه يؤول إلى القطع مقلوبه، وهو البت - بتقديم الموحدة التي هي السبب الظاهر الذي هو أقوى من حيث إنه لا يتحقق إلا بكمال السبب الباطني، يقال: بت الشيء يبته بتا، وأبته: قطعه قطعا مستأصلا، وبت هو يبت وبيت بتا وانبت، ولعله استوى فيه المجرد والمزيد في التعدية دلالة على أن ما حصل بالمجرد من القطع هو من الكمال بحيث لا مزيد عليه، وكذا استوى القاصر مجردا ومطاوعا مع المتعدي في أصل المعنى. وصدقه بتة: بتلة باينة من صاحبها، وطلقها ثلاثا بتة وإبتاتا، أي قطعا لا عود فيه، ولا أفعله البتة - كأنه قطع فعله، قال سيبويه: وقالوا: قعد البتة - مصدر مؤكد، ولا يستعمل إلا بالألف واللام، وبت عليه القضاء بتا وأبته: قطعه، وسكران ما يبت كلاما وما يبت أي ما يقطعه، قال القزاز: يبت من أبت، ويبت من بت، وسكران بات: منقطع عن العمل بالسكر، وأبت يمينه: أمضاها، أي قطعها عن الحنث، وبتت هي: وجبت وحلت بتا وبتة وبتاتا، وكل ذلك من القطع، وأبت بعيره، أي قطعه بالسير، والمنبت في الحديث: الذي أتعب دابته حتى عطب ظهره فبقي منقطعا به، وقال القزاز: هو الذي أتعب
(22/333)
 
 
دابته حتى قطع ظهرها فبقي منبتا به، أي منقطعا به، وبت عليه الشهادة وأبتها: قطع عليه بها وألزمه إياها، وبت عليه القضاء وأبته، قطعه، والبات: المهزول الذي لا يقدر أن يقوم - كأنه قد انقطعت قوته، وفي الحديث «لا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل»
فمعناه: يوجبه، أي يقطعه على نفسه قبل الفجر، من أبت عليه الحكم - إذا قطعه، وروي: يبت، من بت - إذا قطع، وكلاهما بمعنى، وهما لغتان فصيحان. وروي في حديث «من لم يبت» من البيات، وأحمق بات: شديد الحمق - كذا قاله الليث، وقال الأزهري: هو تاب - بتأخير الموحدة، والبت: كساء غليظ مهلهل مربع أخضر، وقيل: هو من وبر وصوف، والجمع بتوت، والبتات أي بالتخفيف: متاع البيت والزاد، كأن ذلك يقطع صاحبه عن الحاجة، وبتتوه: زودوه، أو أن ذلك من الإزالة لأنه صلة لصاحبه ورفد لأن الاستقراء حاصل بأن كل مادة لها معنى غالب تدور عليه وفيها شيء لإزالة ذلك المعنى، وفلان على بتات أمر - إذا أشرف على فراغه، فإنه ينقطع حينئذ، وتقول: طحنت بالرحى بتا - إذا ابتدأت الإدارة عن يسارك، كأنه دال على القطع بتمام العزيمة لأن ذلك أقوى للطاحن وأمكن، وانبت الرجل: انقطع ماء ظهره، ويقال:
(22/334)
 
 
هذا حبل بت: إذا كان طاقا واحدا، كأنه لما كان كذلك فكان سهل القطع أطلق عليه القطع مبالغة مثل عدل، وقد انبت فلان عن فلان - إذا انقطع وانقبض.
ولما أوقع سبحانه الإخبار بهلاكه على هذا الوجه المؤكد لما كان لصاحب القصة وغيره من الكفار من التكذيب بلسان حاله وقاله لما له من المال والولد، وما هو فيه من القوة بالعدد والعدد، زاد الأمر تحققا إعلاما بأن الأحوال الدنيوية لا غناء لها فقال مخبرا، أو مستفهما منكرا {ما أغنى} أي أجزى وناب وسد {عنه} أي عن أبي لهب الشقي الطريد المبعود عن الرحمة مع العذاب {ماله} أي الكثير الذي جرت العادة بأنه ينجي من الهلاك.
ولما كان الكسب أعم من المال، وكان المال قد يكسب منافع هي أعظم منه من الجاه وغيره، وكان الإنسان قد يكون فائزا ولا مال له بأمور أثلها بسعيه خارجة عن المال، قال مفيدا لذلك مبينا أنه لا ينفع إلا ما أمر الله به {وما كسب *} أي وإن كان ذلك على وجه هائل من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يرضيها باتباع
(22/335)
 
 
النبي صلى الله عليه وسلم في المحافل يؤذيه ويكذبه وينهى الناس عن تصديقه مع أنه كان قبل ذلك يناديه بالصادق الأمين، وكان ابنه عتبة شديد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» فكان أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة لا بد أن تدركه، فلما حان الأمر وكان قد آن ما أراد صاحب العز الشامخ، سبب له أن سافر إلى الشام فأوصى به أبوه الرفاق لينجوه رغم من هذه الدعوة، فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم، والحمول محيطة به وهم محيطون بها والركاب محيطة بهم، فلم ينفعه ذلك بل جاء الأسد فتشمم الناس حتى وصل إليه فاقتلع رأسه ولم ينفع أباه ذلك، بل استمر على ضلاله لما سبق في علم الله تعالى حتى كانت وقعة بدر فلم يخرج فيها فلما جاء الفلال كان منهم ابن أخيه أبو سفيان بن الحارث فقال: هلم يا ابن أخي فعندك الخبر: فقال نعم! فوالله ما هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يفتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا، ومع ذلك والله مللت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئا - أي ما تبقيه -
(22/336)
 
 
ولا يقوم لها شيء، قال أبو رافع غلام العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وكان جالسا في حجرة في المسجد يبري نبلا، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وكنا نكتم إسلامنا، فما ملكت نفسي أن قلت: تلك والله الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، قال: وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل - يعني سيدته - زوجة العباس رضي الله عنها إلى عمود الحجرة - أي الخيمة - فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة وقالت: استضعفته أي عدو الله إن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال أو ستا حتى رماه الله بالعدسة فقتله وما نفعه إبعاده عن الخطر بتخلفه عن بدر، والعدسة بثرة تشبه العدسة تخرج في مواضع من الجسد من جنس الطاعون تقتل غالبا، قال القزاز: كانت تعدي في الجاهلية قلما يسلم منها أحد، تقول: عدس الرجل فهو معدوس، كما تقول: طعن فهو مطعون - إذا أصابه الطاعون - انتهى.
ولأجل تشاؤم العرب بها ترك أبو لهب من غير دفن ثلاثا
(22/337)
 
 
حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه، ويقال: إنهم حفروا له حفرة بعيدة عنه من شدة نتنه ثم دفعوه بخشب طوال حتى رموه فيها ورجموه بالحجارة والتراب من بعيد حتى طموه، فكان ذلك سنة في رجمه فهو يرجم إلى الآن، وذلك من أول إعجاز هذه الآيات أن كان سبة في العرب دون أن يغني عنه شيء مما يظن أنه يغني عنه.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بوقوع هذا التبار الأعظم به، وكان لا عذاب يداني عذاب الآخرة، بينه بقوله: {سيصلى} أي عن قرب بوعد لا خلف فيه {نارا} أي فيدس فيها وتنعطف عليه وتحيط به.
ولما كان المقصود شدة نكايته بأشد ما يكون من الحرارة كما أحرق أكباد الأولياء، وكانت النار قد تكون جمرا ثم تنطفىء عن قرب قال: {ذات لهب *} أي لا تسكن ولا تخمد أبدا لأن ذلك مدلول الصحبة المعبر عنها ب «ذات» ، وذلك بعد موته وليس في السورة دليل قاطع على أنه لا يؤمن لجواز أن يكون الصلي على الفسق، فلا دليل فيها لمن يقول: إن فيها التكليف بما علم أنه محال ليكون قد كلف بأن يؤمن وقد علم
(22/338)
 
 
أنه حكم بأنه لا يؤمن، وإن كان الله قد حقق هذا الخبر بموته كافرا في الثانية من الهجرة عقب غزوة بدر وهي الخامسة عشرة من النبوة، لكن ما عرف تحتم كفره إلا بموته كافرا لا بشيء في هذه السورة ولا غيرها، ومن الغرائب أن الكلمات المتعلقة به في هذه السورة خمس عشرة كلمة، فكانت مشيرة إلى سنة موته بعد أن رأى تبابه في وقعة بدر وغيرها بعينه، فإذا ضممنا إليها كلمات البسملة الأربع وازت سنة ست من الهجرة، وهي سنة عمرة الحديبية سنة الفتح السببي التي تحقق فيها تبابه وخساره عند كل من عنده إيمان بالغيب ودفع للريب، فإذا ضممت إليها الضميرين البارزين اللذين هما أقرب إلى الكلمات الاصطلاحية من المستترة وازت سنة ثمان من الهجرة التي كان فيها الفتح الحقيقي، فتحقق عند قريش كافة ما أنزل فيه في هذه السورة، فإذا ضممت إليها الضمائر الثلاثة المستترة وازت سنة إحدى عشرة على أنك إذا بدأت بالضمائر المستترة حصلت المناسبة أيضا، وذلك أنها توازي سنة تسع وهي سنة الوفود التي دخل الناس فيها في الدين أفواجا وحج فيها بالناس أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أميرا، ونودي
(22/339)
 
 
في الموسم ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، فتحققت خيبة أبي لهب عند كل من حضر الموسم لا سيما من كان يعلم دورانه وراء النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه له من مسلم وغيره، فإذا ضممنا إلى ذلك الضميرين البارزين وازت سنة إحدى عشرة أول سني خلافة الصديق رضي الله عنه التي فتحت فيها جميع جزيرة العرب بعد أن لعب الشيطان بكثير من أهلها.
فرجعوا بعد أن قتل الله منهم من علم أنه مخلوق لجهنم، وتحقق حينئذ ما لأبي لهب من التباب والنار ذات الالتهاب عند العرب كافة بإيمانهم عامة في السنة الحادية عشرة من الهجرة بعد مضي ثلاث وعشرين سنة من النبوة، واستقر الأمر حينئذ، وعلم أن الدين قد رسخت أوتاده وثبت عماده، وأن الذي كان يحميه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قد حماه بعده وهو سبحانه حي لا يموت وقادر لا يعجزه شيء، وعدد كلمات السورة ثلاث وعشرون وهي توازي سنة حجة الوداع سنة عشر، فإنها السنة الثالثة والعشرون من المبعث وفيها كمل الدين ونزلت آية المائدة. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرض العرب،
(22/340)
 
 
فتحقق كل الناس لا سيما من حضر الموسم تباب أبي لهب الذي كان يدور في تلك المشاهد وراء النبي صلى الله عليه وسلم يكذبه ويؤذيه
{إن في ذلك لعبرة} [آل عمران: 13 - والنور: 44] .
ولما أخبر سبحانه وتعالى عنه بكمال التباب الذي هو نهاية الخسار، وكان أشق ما على الإنسان هتك ما يصونه من حريمه حتى أنه يبذل نفسه دون ذلك لا سيما العرب، فإنه لا يدانيهم في ذلك أحد، زاده تحقيرا بذكر من يصونها معبرا عنها بما صدرها بازرا صورة وأشنعها، فقال مشيرا إلى أن خلطة الأشرار غاية الخسار، فإن الطبع وإن كان جيدا يسرق من الردىء، فكيف إذا كان رديئا وإن أرضى الناس بما يسخط الله أعظم الهلاك {وامرأته} أي أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي مثل زوجها في التباب والصلي من غير أن يغني عنها شيء من مال ولا حسب ولا نسب، وعدل عن ذكرها بكنيتها لأن صفتها القباحة وهي ضد كنيتها، ومن هنا تؤخذ كراهة التلقيب بناصر الدين ونحوها لمن ليس متصفا بما دل عليه لقبه، ثم وصفها بما أشار إليه ذنبها وأكمل قبيح صورتها فقال: {حمالة الحطب} أي الحاملة أقصى ما يمكن حمله من حطب
(22/341)
 
 
جهنم بما كانت تمشي به وتبالغ فيه من حمل حطب البهت والنميمة الذي تحمل به على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وشدة أذاه وإيقاد نار الحرب والخصومة عليه صلى الله عليه وسلم، من قول الشاعر:
من البيض لم تصطد على ظهر لأمه ... ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
أراد النميمة، وعبر بالرطب للدلالة على زيادة الشر بما فيه من التدخين وشبهت النميمة بالحطب لأنها توقد الشر فتفرق بين الناس كما أن الحطب يكون وقودا للنار فتفرقه، وكذا بما كانت تحمل من الشوك وتنثره ليلا في طريق النبي صلى الله عليه وسلم لتؤذيه، وكانت تفعله بنفسها من شدة عداوتها وتباشره ليلا لتستخفي به لأنها كانت شريفة، فلما نزلت سورة صورتها بأقبح صورة فكان ذلك - أعظم فاضح لها، وقراءة عاصم بالنصب للقطع على الشتم تؤدي أن امرأته مبتدأ وأن الخبر {في جيدها} أي عنقها وأجود ما فيها - هو حال على التقدير الأول {حبل} كالحطابين تخسيسا لأمرها وتحقيرا لحالها {من مسد} أي ليف أو ليف المقل أو من شيء قد فتل وأحكم فتله، من قولهم: رجل ممسود الخلق، أي مجدوله - وقد رجع آخرها على أولها، فإن من كانت امرأته مصورة بصورة حطابة على ظهرها حزمة حطب معلق
(22/342)
 
 
حبلها في جيدها فهو في غاية الحقارة، والتباب والخساسة والخسارة وحاصل هذه السورة أن أبا لهب قطع رحمه وجار عن قصد السبيل واجتهد بعد ضلاله في إضلال غيره، وظلم الناصح له الرؤوف به الذي لم يأل جهدا في نصحه على ما تراه من أنه لم يأل هو - جهدا في أذاه واعتمد على ماله وأكسابه فهلك وأهلك امرأته معه ومن تبعه من أولاده، ومن أعظم مقاصد سورة النساء المناظرة لها في رد المقطع على المطلع التواصل والتقارب والإحسان لا سيما لذوي الأرحام، والعدل في جميع الأقوال والأفعال، فكان شرح حال الناصح الذي لا ينطق عن الهوى، وحال الضال الذي إنما ينطق عن الهوى - قوله تعالى:
{يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} [النساء: 26] وختمها إشارة إلى التحذير من مثل حاله، فكأنه قيل: يبين الله لكم أن تضلوا فكونوا كأبي لهب في البوار، وصلي النار - كما تبين لكم، فكونوا على حذر من كل ما يشابه حاله وإن ظهر لكم خلاف ذلك، فأنا أعلم منكم، والله بكل شيء عليم «والحمد لله رب العالمين» .
(22/343)
 
 
(سورة الإخلاص)
وتسمى الأساس والمقشقشة وقل هو الله أحد.
مقصودها بيان الحقيقة الذات الأقدس ببيان اختصاصه بالاتصاف بأقصى الكمال للدلالة على صحيح الإعتقاد للإخلاص في التوحيد بإثبات الكمال، ونفي الشوائب النقص والاختلال، المثمر لحسن الأقوال والأفعال، وثبات اللجاء والاعتماد في جميع الأحوال، وعلى ذلك دل اسمها الإخلاص الموجب للخلاص، وكذا الأساس والمقشقشة، قال في القاموس: المقشقشتان الكافرون والإخلاص أي المبرئتان من النفاق والشرك كما يقشقش الهناء الجرب، الهناء: القطران، وقال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي: كما يبرئ المريض من علته إذا برئ منها - انتهى. وهو مأخوذ من القش بمعنى الجمع، فسميتا بذلك لأنها تتبعنا النفاق بجميع أنواعه، وكذا الشرك والكفر فجمعتاله ونفتاه بذلك لأنها تتبعنا النفاق بجميع أنواعه، وكذا الشرك والكفر فجمعناه ونفتاه عن قارئهما حق القراءة، وقد تقدم الكلام على هذا الاسم مبسوطا في براءة وكذا اسمها " قل هو الله أحد " دال على مقصوزدها بتأمل جميع السورة وما دعت إليه من
(22/344)
 
 
معاني التبرئة اليسيرة الكثيرة، وهذه السورة أعظم مفيد للتوحيد في القرآن، قال الرازي: والتوحيد مقام يضيق عنه نطاق النطق لأنك إذا أخبرت عن الحق فهنالك مخبر عنه ومخبر به مجموعهما، وذلك ثلاث، فالعقل يعرفه ولكن النطق لا يصل إليه سئل الجنيد عن التوحيد فقال: معنى تضمحل فيه الرسوم وتتشوش فيه العلوم ويكون الله كما لم يزل وقال الجنيد أيضا: أشرف كلمة في التوحيد ما قاله الصديق رضي الله عنه: سبحانه من لم يجعل لخلقه سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته) بسم الله (الذي له جميع الكمال بالجلال والجمال) الرحمن (الذي أفاض منت طوله على جميع الموجودات عموم الأفضال) الرحيم (الذي خص أهل وداده من نور الإنعام بالإتمام والإكمال.
لما كانت الكوثر علة للنهي عما تضمنه التكذيب من مساوئ الأفعال، وعلم بها أنه (صلى الله عليه وسلم) مختص بالخير المستلزم لأن شائنه هو الأبتر، فكان موضع السؤال عما يفعل مع الشانئين من معاركه أو متاركة، جاءت الكافرون للمتاركة لقلة أهل الدين إذ ذاك، إشارة إلى أن هذه الدار مبنية على الأسباب، فعلم بالكافرون أن الشانئ مما لا يعبأ به، فتحركت النفس إلى سؤال عن وقت الصلاحية
(22/345)
 
 
للمعاركة بعد هذه التاركة، وما يترتب على المعاركة من قهر الشانئ بالفعل، فجاءت سورة النصر لذلك الإشارة إلى أنه مما لا يسأل عنه بمتى، لتغبير ذلك في وجه الإحسان في التسليم، وإنما يسأل عما يفعل عندوعه من الإحسان في التعبد، معبرا بأداة التحقق إعلاما بأنه آت لا محالة، فالسؤال عن وقته ليس من دأب السائرين، ولما ظهرت ذخائر هذه الكنوز بدقائق تلك الرموز، وما انضم إليها من القرائن الظاهرة، استحضرت حال أبي لهب لما كان فيه مع قرابته القريبة من شدة العناد، والاجتهادج العظيم في كل ما يضاد أشرف العباد واشتد التشوف إلى اتقلاب حاله إذا ذاك هل يكون بما ختمت به النصر من التوبة أو بخذلانه وانقلابه بأعظم الخيبة والحوبة؟ فجاءت سورته لذلك بينا لأنه غلب عليه الشقاء فنزل به في دركاته مانعا من معالي درج الارتقاء، فلما بين سبحان بذلك إهلاكه عدوه (صلى الله عليه وسلم) ، وختم بأعدى أعدائه فحكم بهلاكه، وهلاك زوجه هلاكا لا جبر له على وجه مبين أنه في أدنى دركات الحقارة، وأعظم أنواع الخسارة، فرقص الفكر طربا من هذه الأمور، وسكر اللب من عجائب المقدور، واهتز
(22/346)
 
 
السامع غاية الاهتزاز إلى وصف الفاعل لذلك الذي هو خارج عن طوق البشر، وخارق للعوائد، وهو إظهار شخص واحد على الناس كافة مع شدة عداوتهم له، جاءت الإخلاص كاشفة لما ثبت من العظمة لولي النبي (صلى الله عليه وسلم) سبحانه وتعالى الذي أمره بهذا الدين وفعل له هذه الأمور - العظيمة الموجبة لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لئلا يستبعد عليه سبحانه وتعالى شيئا من ذلك ولا غيره، وإن تمثيل جميع ما يأم ربه كلائنا ما كان وكائنا فيه ما كان على أن يوجه كان موافقة لأمره وطاعة له ومنبئة للاعتقاد الحق الذي أوجب هذه النصرة، واردة على جميع فرق الضلال، هذا في انعطاف الآخر على الأول بالنسبة إلى السور - من أعظم المناسبات في ذلك بالنظر إلى الآيات أنه سبحانه شرح بالفيل وما بعدها من السور آيات الفاتحة كلها ثم - من أول البقرة إلى آية التوحيد، فأشار بالفيل إلى استجماعه لصفات الكمال بأن له الحمد بما حرس من بيته من الملوك ووحماه من كيد الجبابرة وأحسن التربية لقريش الذين هم أشرف العالمين وبصلاحهعم صلاح بلدتهم أم القرى، وبصلاحها صلاحها فدل ذلك " لى أنه يدين
(22/347)
 
 
العباد يوم التناد، ولذلك أعطى رأس الهداة الدين الذي أفرده العبادة ولاستعانة بالكوثر، وهداه إلى الصراط المستقيم وأعاذه من طريق الكافرين المعاندينوالضالين، وأشار أول البقرة إلى دخول المتقين - الذين الكتاب هدى لهم - في الدين أفواجا وإن أغنى أهل الكفر وأعتاهم سواء عليهم الإنذار وعدمه في لانه لا يؤمن وهو أبو لهب ومن سار بسيره من 0 مجاهر ومساتر ويعمهم الخسار، ويشملهم الهلاك والتبار، بحكم الواحد القهار المأمور بعبادته وتوحيده في الآية الجامعة لدعوات التوحيد) يا أيها الناس اعبدوا ربكم) [البقرة: 21] المتصف بما في سورة الصمد التي لم ينزل في وصفه مثلها، فتم الدين عند ذلك بما له سبحانه من كمال الأوصاف، وجلال النعوت بالجبروت والألطاف فلم يبق إلا تعويذ أهل الدين من أن يدخل عليهم خلل، أو يلحقهم نزع أو زلل، فختم بالمعوذتين لذلك، والله المسؤول في الإنعام بعائد السؤل لكل سالك.
(22/348)
 
 
قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)
ولما كان المقصود من القرآن دعوة العباد إلى المعبود، وكان المدعو إلى شيء أحوج ما يكون إلى معرفته، وكان التعريف تارة للذات وتارة للصفات وتارة للأفعال، وكانت هذه الأمة -
(22/348)
 
 
أشرف الأمم لأن نبيها أعلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكان هي الختام، أشبع الكلام في تعريفه سبحانه في القرآن، وأنهى البيان في ذلك إلى حد لا مزيد عليه ولم يقاربه في ذلك كتاب من الكتب السالفة، ولكنه لما كان الكبير إذا تناهى كبره عزت معرفة ذاته، وكان الله تعالى هو الأكبر مطلقا، وكانت معرفة ذاته - كما أشار إليه الغزالي في الجواهر، والفخر الرازي في كتبه - أضيق ما يكون مجالا وأعسره مقالا، وأعصاه على الفكر منالا، وأبعده عن قبول الذكر استرسالا لأن القرآن لا يشتمل من ذلك إلا على تلويحات وإشارات أكثرها رجع إلى ذكر التقديس المطلق كقوله تعالى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 112] وإلى التعظيم المطلق كقوله {سبحانه وتعالى عما يصفون} فكام القياس أن يقتصر على ذلك مع التعريف بالصفات والأفعال، لكن لما كانت هذه الأمة في الذروة من حسن الأفهام مع ما نالته من الشرف، حباها سبحانه وتعالى بسورة الإخلاص كاملة ببيان لا يمكن أن تحتمل عقول البشر زيادة عليه، وذلك ببيان أنه ثابت ثباتا لا يشبهه ثبات على وجه لا يكون لغيره أصلا، وأنه سبحانه وتعالى منزه عن الشبيه والنظير والمكافىء والمثيل، فلا زوجة له ولا ولد، ولا حاجة بوجه
(22/349)
 
 
إلى أحد، بل له الخلق والأمر، فهو يهلك من أراد ويسعد من شاء، فقال آمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم ليكون أول كلمة فيها دالة على رسالته ردا على من كذبه في خاصة نفسه وعلى البراهمة القائلين: إن في العقل غنى عن الرسل. ويكون البيان جاريا على لسانه صلى الله عليه وسلم ليكون إلى فهم الخلق عنه لتلك الصفات العلى أقرب لما لهم به من المجانسة: {قل} أي يا أكرم الخلائق ومن لا يفهم عن مرسله حق الفهم سواه، وإطلاق الأمر بعدم التقييد بمقول له يفهم عموم الرسالة، وأن المراد كل من يمكن القول له سواء كان سائلا عن ذلك بالفعل أو بالقوة حثا على استحضار - ما لرب هذا الدين - الذي حاطه هذه الحياطة ورباه هذه التربية - من العظمة والجلال، والكبرياء والكمال، ففي الإطلاق المشير إلى التعميم رد على من أقر بإرساله صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة، ويدل على أن مقول القول لا ضرر فيه على أحد فإن ظواهره مفهومة لكل أحد لا فتنة فيها بوجه، وإنما تأتي الفتنة
(22/350)
 
 
عند تعمق الضال إلى ما لا - يحتمله عقله.
ولما كان أهم المقاصد الرد على المعطلة الذين هم ضرب ممن يقول {نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24] أثبت وجوده سبحانه على أتم الوجوه وأعلاها وأوفاها وأجلاها بما معناه أن حقيقته ثابتة ثباتا لا يتوجه نحوه شك بوجه من الوجوه، فقال مكاشفا للأسرار - فإنه لا يمكن غيبته عنها أصلا - وللوالهين: {هو} فابتدأ بهذا الاسم الشريف الذي هو أبطن الأسماء إشارة إلى أنه غيب الغيب بالنظر إلى ذاته كالألف، وإلى أنه واجب الوجود لذاته - وأن هويته ليست مستفادة من شيء سواها ولا موقوفة على شيء سواها، فإن كل ما كانت هويته مستفادة من غيره أو موقوفة عليه فمتى لم يتعبر غيره فلم يكن هو هو، وما كانت هويته لذاته فهو هو سواء اعتبر غير أو لم يعتبر، فإذا لا يستحق هذا الاسم غيره أصلا على أن الهاء بمفردها مشيرة - بكونها من أبطن - الحلق إلى أنه هو الأول والباطن المبدع لما سواه، والواو - بكونها من أظهر حروف الشفة - إلى أنه الآخر والظاهر، وأن إليه المنتهى، وليس وراءه مرمى، وأنه المبدىء المعيد - كما يشير إلى ذلك تكرير الواو في اسمها، وإلى أنه محيط بكل شيء لما
(22/351)
 
 
فيها من الإحاطة.
ولما كان وجوده سبحانه لذاته، ولم يكن مستفادا من غيره، فإن ما استفيد وجوده من غيره كان ممكنا، كان لا يمكن شرح اسمه الذي هو هو، لا اسم لحقيقة غيره يقوم من جنس ولا نوع ولا فصل لأنه لا جنس له ولا نوع له ولا سبب يعرف به، والذي لا سبب له لا يمكن معرفته إلا بلوازمه، واللوازم منها سلبية ومنها إضافية ومنها قريبة ومنها بعيدة، والتعريف بالإضافية وبالقريبة أتم من التعريف بالسلبية وبالبعيدة، لأن البعيد كالضاحك الذي هو بعد المتعجب بالنسبة إلى الإنسان لا يكون معلولا لشيء بل معلولا لمعلوله، وبالجمع بين السلبية والإضافية أتم من الاقتصار على أحدهما، فلذلك اختير اسم جامع للنوعين ليكون التعريف أتم، وذلك هو كون تلك الهوية إلها، فاختير لذلك اسم دال عليها وهو مختص غير مشترك، وهو أول مظاهر الضمير كما أن الهمزة أول مظاهر الألف، ولهذا قال بعضهم: الاسم الأعظم آخر الظواهر من الأسماء، ولهذا كانت كلها صفات له وهو أول البواطن، فقال مكاشفا للأرواح
(22/352)
 
 
وللموحدين: {الله} أي الموجود الذي لا موجود في الحقيقة سواه! هو المسمى بهذا الاسم، واختير هذا الاسم للإخبار عنه لدلالته على جميع صفات الكمال: الجلال والجمال ولأنه اسم جامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، وهو أقرب اللوازم إلى الهوية الهوية لأنه لا لازم لها أقرب من وجوب الوجود الذي هو مقتضى الذات على ما هي عليه من الصفات، لا بواسطة شيء آخر، وبواسطة وجوب وجوده كان مفيضا باختياره الإيجاد على كل شيء أراده، ومجموع الوجوب الذي هو سلب وحده الإيجاد الذي هو اختيار للجود بإضافة الوجود وإضافة للإلهية التي جمعتها الجلالة، وهي أقرب اللوازم إلى الذات الأقدس، ودل التعبير به على أنه لا مقوم للهوية من جنس
(22/353)
 
 
ولا غيره ولا سبب، وإلا لكان العدول عنه إلى التعريف باللازم قاصرا، وعلى أن إلهيته على الإطلاق لجميع الموجدات، فكان شرح تلك الهوية باللازم أبلغ البلاغة وأحكم الحكمة، لأنه - مع كونه هو الحق - مشيرا إلى ما ذكر من الدقائق.
ولما ذكرت الذات التي لا سبب لها ولا مقوم من جنس ونوع وغيره أصلا بل هي مجرد وحدة وتنزه عن تركب لا كثرة لها ولا اثنينية بوجه، وعرفها باسم جامع الأنواع السلوب والإضافات اللازمة له هو أقرب اللوازم إليها، فانشرح وجودها المخصوص على ما هو عليه، فكان ذلك تعريفا كاملا لأن تعريف ما لا تركب فيه باللوازم القريبة في الكمال كتعريف المركبات بمقوماتها، فإن التعريف البالغ هو أن يحصل في النفس صورة مطابقة للمعقول، وكانت الزيادة في الشرح مطلوبة لأنها أكمل لا سيما في الأمور الباطنة الخفية، أتبع ذلك باسم سلبي إشارة إلى أن النظر في هذه الدار إلى جانب الجلال ينبغي كونه أعظم، وذلك الاسم قربه من الجلالة كقربتها من الهوية، فإنه دال على الوحدة الكاملة المجردة وهو متنزل الجلالة كما أنها متنزل الهوية، وهو كما أن الجلالة لم يقع فيها شركة أصلا قد ضاهاها في أنه لا شركة لغيره تعالى فيه عند استعماله مفردا بمعناه الحقيقي إلا أن في النفي إشارة إلى أن كل ما عداه سبحانه عدم، فقال مكاشفا للقلوب وللعارفين مكذبا للنصارى القائلين بالأب والابن وروح القدس، ولليهود القائلين بأنه جسم، وللمجوس الذين يقولون
(22/354)
 
 
بأنه اثنان: نور يخلق الخير، وظلام يخلق الشر، وللصابئة الذين يعبدون النجوم، وللمشركين القائلين بإلهية الأصنام، مخبرا خبرا آخر، أو مبدلا من الجلالة، أو مخبرا عن مبتدأ محذوف: {أحد} وهو لأجل كونه خاصة في الإثبات حال الانفراد به تعالى معرفة غني عن «آل» المعرفة، وهو أعرق في الدلالة على صفات الجلال كما أن الجلالة أعرق في الدلالة على صفات الكمال لأن الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الكاملة والحكمة التامة المقتضية للألوهية من غير لزوم دور ولا تسلسل من جهة تركب أو غيره، وقرىء بإسقاط «قل» هنا وفي المعوذتين مع الاتفاق على إثباتها في الكافرون ونفيها في تبت، ولعل الحكمة أن الكافرون مخاطبة للكفار بما بين مشاققة ومتاركة، فناسب الحال أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم، وتبت معاتبة عم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوبيخه فلا يناسب أن يكون ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، والباقيات ما بين توحيد وتعوذ،
(22/355)
 
 
فناسب أن يؤمر بتبليغه وأن يدعو به، ورتب الأحدية على الإلهية دون العكس، لأن الإلهية عبارة عن استغنائه عن الكل، واحتياج الكل إليه، وكل ما كان كذلك كان واحدا مطلقا، وإلا لكان محتاجا إلى أجزائه، فالإلهية من حيث هي تقتضي الوحدة، والوحدة لا تقتضي الإلهية، وعبر به دون «واحد» لأن المراد الإبلاغ في الوصف بالوحدة إلى حد لا يكون شيء أشد منه، والواحد - قال ابن سينا - مقول على ما تحته بالتشكيك، والذي لا ينقسم بوجه أصلا أولى بالواحدية مما ينقسم من بعض الوجوه، والذي ينقسم انقساما عقليا أولى مما ينقسم بالحس والذي ينقسم بالحس وهو بالقوة أولى من المنقسم بالحس بالفعل، وإذا ثبت أن الوحدة قابلة للأشد والأضعف.
وأن الواحد مقول على ما تحته بالتشكيك كان الأكمل في الوحدة الذي لا يمكن أن يكون شيء آخر أقوى منه فيها، وإلا لم يكن بالغا أقصى المرام، والأحد جامع لذلك دال على الواحدية من جميع الوجوه، وأنه لا كثرة هناك أصلا، لا معنوية من المقومات من الأجناس والفصول ولا بالأجزاء العقلية كالمادة والصورة، ولا حسية بقوة ولا فعل كما في الأجسام، وذلك لكونه سبحانه منزها عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر وجوه التثنية التي تثلم الوحدة الكاملة الحقة
(22/356)
 
 
اللائقة بكرم وجهه وعز جلاله أن يشبهه شيء أو يساويه لأن كل ما كانت هويته إنما تحصل من اجتماع أجزاء كانت هويته موقوفة على حصول تلك الأجزاء، فلا يكون هو هو لذاته بل لغيره، فلذا كان منزها عن الكثرة بكل اعتبار، ومتصفا بالوحدة من كل الوجوه، فقد بلغ هذا النظم من البيان أعظم شأن، فسبحان من أنزل هذا الكلام ما أعظم شأنه وأقهر سلطانه، فهو منتهى الحاجات، ومن عنده نيل الطلبات، ولا يبلغ أدنى ما استأثره من الجلال والعظم والبهج أقصى نعوت الناعتين وأعظم وصف الواصفين، بل القدر الممكن منه الممتنع أزيد منه هو الذي ذكره في كتابه العزيز، وأودعه وحيه المقدس الحكيم، وبالكلام على معناه ومعنى الواحد تحقق ما تقدم، قال الإمام أبو العبا الإقليشي في شرح الأسماء: فمن أهل اللسان من ساوى بينهما جعلهما مترادفين، فمنهم من قال: أصل أحد واحد سقطت منه الألف ثم أبدلت الهمزة من الواو المفتوحة، ومنهم من قال: ليس أصله واحد وإن كانا بمعنى واحد، بل أصله وحد - من الوحدة - يحد فهو وحد - مثل حسن يحسن فهو حسن - من الحسن، أبدلت الواو همزة، وأما من فرق بينهما فمنهم من قال: أحد اسم على حياله لا إبدال فيه ولا تغيير، ومنهم من قال: أصله وحد، أبدلت الواو همزة - انتهى، وقد استخلصت
(22/357)
 
 
الكلام على الاسمين الشريفين من عدة شروح للأسماء الحسنى وغيرها منها شرح الفخر الرازي والفخر الحرالي وغيرهما، قالوا: الواحد الذي لا كثرة فيه بوجه لا بقسمة ولا بغيرها مع اتصافه بالعظمة ليخرج الجوهر الفرد وهو أيضا الذي لا يتثنى، أي لا ضد له ولا شبيه، فهو سبحانه واحد بالمعنيين على الإطلاق لا بالنظر على حال ولا شيء، قال الإمام أبو العباس الاقليشي في شرح الأسماء: هذه حقيقة الوحدة عند المحققين، فلا يصح أن يوصف شيء مركب بها إلا مجازا، كما تقول: رجل واحد، ودرهم واحد، وإنما يوصف بها حقيقة ما لا جزء له كالجوهر الفرد عند الأشعرية غير أنك إذا نظرت فوجدت وجوده من غيره علمت أن استحقاقه لهذا الوصف ليس كاستحقاق موجده له، وهو أيضا إنما يوصف به لحقارته، وموجده سبحانه موصوف به مع الاتصاف بالعظمة، فاتصافه بالوحدة على الإطلاق، واتصاف الجوهر بالنظر إلى عدم التركب من الجسم مع أن صحة اتصافه بأنه جزء يزيل عنه حقيقة ذلك، والوحدة أيضا بالنظر إلى المعنى الثاني وهو ما لا نظير له لا تصح بالحقيقة إلا له سبحانه، وكل ما نوعيته في شخصيته كالعرش والكرسي والشمس والقمر يصح أن يقدر لها نظائر، وله معنى ثالث وهو التوحد بالفعل والإيجاد، فيفعل كل ما يريد من غير توقف على شيء، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول ناظر إلى نفي إله ثان، وهذا ناف لمعين ووزير، وكلاهما وصف ذاتي سلبي، والحاصل أن
(22/358)
 
 
النظر الصحيح دل على أن لنا موجدا واحدا بمعنى أنه لا يصح أن يلحقه نقص القسمة بوجه من الوجوه وبمعنى أنه معدوم النظير بكل اعتبار، وبمعنى أنه مستبد بالفعل مستقل بالإيجاد ومتوحد بالنصع متفرد بالتدبير، قضى بهذا شاهد العقل المعصوم من ظلمة الهوى وكثافة الطبع، وورد به قواطع النقل ونواطق السمع، ولهذا كان من أعظم الحق دعاؤه سبحانه لجميع الخلق، وكانت دعوة رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم للخلق كافة، وقال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في آخر شرحه للأسماء في بيان رد الأسماء الكثيرة إلى ذات واحدة وسبع صفات: الأحد المسلوب عنه النظير، وقال في الشرح المذكور: الواحد هو الذي لا يتجرى ولا يتثنى، أما الذي لا يتجزى فكالجوهر الواحد الذي لا ينقسم فقال: إنه واحد - بمعنى أنه لا جزء له، ولذلك النقطة لا جزء لها، والله تعالى واحد - بمعنى أنه يستحيل تقدير الانقسام في ذاته، وأما الذي لا يتثنى فهو الذي لا نظير له كالشمس مثلا فإنها وإن كانت قابلة للانقسام بالوهم متحيزة في ذاتها لأنها من قبيل الأجسام فهي لا نظير لها إلا أنه يمكن أن يكون لها نظير، وليس في الوجود موجود يتفرد بخصوص وجوده تفردا لا يتصور أن يشاركه فيه غيره أصلا إلا الواحد المطلق أزلا وأبدا، والعبد إنما يكون واحدا إذا لم يكن له في أبناء جنسه نظير في خصلة من خصال الخير، وذلك بالإضافة إلى أبناء جنسه
(22/359)
 
 
وبالإضافة إلى الوقت إذ يمكن أن يكون في وقت آخر مثله، وبالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع، فلا وحدة على الإطلاق إلا لله تعالى، وقال الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في مقدمة كتابه الملل والنحل: واختلفوا في الواحد أهو من العدد أم هو مبدأ العدد وليس داخلا في العدد، وهذا الاختلاف إنما ينشأ من اشتراك لفظ الواحد، فالواحد يطلق ويراد به ما يتركب منه العدد، فإن الاثنين لا معنى له إلا واحد، تكرر أول تكرير، وكذا الثلاثة والأربعة، ويطلق ويراد به ما يحصل منه العدد، أي هو علته ولا يدخل في العد أي لا يتركب منه العدد، وقد تلازم الواحدية جميع الأعداد لا على أن العدد تركب منها بل وكل موجود فهو جنسه أو نوعه أو شخصه واحد يقال: إنسان واحد، وشخص واحد، وفي العدد كذلك فإن الثلاثة في أنها ثلاثة واحدة، فالواحدة بالمعنى الأول داخلة في العدد، وبالمعنى الثاني علة العدد، وبالمعنى الثالث ملازمة للعدد، وليس من الأقسام الثلاثة قسم يطلق على البارىء تعالى معناه: فهو واحد لا كالأحاد أي هذه الوحدات والكثرة منه وجدت ويستحيل عليه الانقسام بوجه من وجوه القسمة - انتهى، وهو واحد أيضا بنفسه لا بالنسبة إلى ثان بوجه
(22/360)
 
 
من الوجوه، وقال بعضهم: الواحد يدل على الأزلية والأولية، لأن الواحد في الأعداد ركنها وإظهار مبدئها، والأحد يدل على بينونته من خلقه في جميع صفاته ونفي أبواب الشرك عنه، فالأحد بني لنفي ما ذكر معه من العدد، والواحد اسم لمفتتح العدد، وقال الإمام أبو حاتم محمد بن مهران الرازي في كتابه الزينة، قال بعض الحكماء: إنما قيل له سبحانه «واحد» لأنه عز وجل لم يزل قبل الخلائق متوحدا بالأزل لا ثاني معه ولا خلق، ثم أبدع الخق، فكان الخلق كله مع احتياجه إليه سبحانه محتاجا بعضه إلى بعض ممسكا بعضه بعضا متعاديا ومتضادا ومتشاكلا ومزدوجا ومتصلا ومنفصلا، واستغنى عز وجل عن الخلائق فلم يحتج إلى شيء فيكون ذلك الشيء مقرونا به لحاجته إليه ولا ناواه شيء فيكون ذلك الشيء ضدا له نصرا به، فيكون ذلك الضد والقرين له ثانيا، بل توحد بالغنى عن جميع خلقه لأنه كان قبل كل شيء، والأولية دلت على الوحدانية، فالواحد اسم يدل على نظام واحد يعلم باسمه أنه واحد ليس قبله شيء:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
(22/361)
 
 
والواحد من العدد في الحساب ليس قبله شيء، بل هو قبل كل عدد وهو خارج عن العدد، والواحد كيفما أدرته لم يزد فيه شيء ولم ينقص منه شيء، تقول: واحد في واحد بواحد - فلم يزد على الواحد شيء، فدل على أنه لا شيء قبله، وإذا دل على أنه لا شيء قبله دل على أنه محدث الشيء، فإذا دل على أنه محدث الشيء دل على أنه مغني الشيء، وإذا كان مغني الشيء دل على أنه لا شيء بعده، فإذا لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء فهو المتوحد بالأزل، يعني فهو الواحد الذي لا نظير له فهو الأحد، قال: فلذلك قيل: هو واحد وأحد، وقلنا: إن الأحد هو اسم أكمل - أي أعم - من الواحد، ألا ترى أنك إذا قلت: فلان لا يقوم له واحد، جاز في المعنى أن يقوم له اثنان أو ثلاثة فما فوقها، وإذا قلت: فلان لا يقوم له أحد، فقد جزمت بأنه لا يقوم له واحد ولا اثنان ولا ما فوقهما، فصار الأحد أكمل من الواحد، وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد، تقول: ليس في الدار واحد، يجوز أن يكون واحدا من الدواب أو الطير أو الوحش أو الإنس، فكان الواحد يعم الناس وغير الناس، وإذا قلت: ليس في الدار أحد، فهو مخصوص للآدميين دون سائرهم، والأحد ممتنع من الدخول في الضرب وفي العدد وفي القسمة
(22/362)
 
 
وفي شيء من الحساب، وهو منفرد بالأحدية، والواحد منقاد للعدد والقسمة وغيرها داخل في الحساب، تقول: واحد واثنان وثلاثة، فهذا وإن لم يكن من العدد فهو علة العدد، وداخل في العدد، لأنك إذا ضربت واحدا في واحد لم يزد، واثنان هو جذر الحساب، وتقول في القسمة، واحد بين اثنين أو ثلاثة، لكل واحد من الاثنين نصف، ومن الثلاثة ثلث، فهذه القسمة، والأحد ممتنع من هذا، لا يقال: أحد واثنان ولا أحد في أحد ولا أحد في واحد ولا في اثنين أو ثلاثة، والواحد وإن لم يتجزأ من الواحد فهو يتجزأ من الاثنين والثلاثة فما فوقهما، تقول: جزء واحد من جزأين أو ثلاث فما فوقها، ولا يجوز: جزء أحد من جزأين فما فوقهما، وقد سمى الله نفسه واحدا أحدا ووصف نفسه بالوحدانية والأحدية، فالواحد نعت يلزمه على الحقيقة لأنه كان قبل ولا ثاني معه، والثاني خلال الواحد، فهو واحد لاتحاده في القدم، والخلق اثنان لاقترانه بالحدث لأن الحدث ثان للقدم، وبه ظهرت التثنية، فالواحد هو الأحد في ذاته فهو لا شيء قبله ولا من شيء ولا في شيء ولا على شيء ولا لشيء ولا مع شيء، فيكون ذاك الشيء ثانيا معه بل هو الواحد منشىء والأشياء كلها له،
(22/363)
 
 
وهو المتحد بذاته ممتنع من أن يكون له شيء ثانيا بوجه من الوجوه والخلق كله له، وإن كان يسمى بالواحد، أو كانت هذه الصفة قد لزمت جميع الأشياء في وجه فإنها تزول عنها في وجه.
كما قيل: إنسان واحد وفرس واحد وبعير واحد، وكذلك يقال لسائر الأشياء، وهذه صفة تلزمها في اللفظ، والمسمى لا يخلو من معان كثيرة مجتمعة فيه كالجسم والعرض، وهو واحد مجموع من أشياء متفرقة، وكل شيء لا يخلو من ازدواج وتضاد وتشاكل وحد وعد، وهذه الصفات كلها تنفي عنه معنى الأحدية والواحدية، وفي الواحد عن العرب لغات كثيرة، يقال: واحد وأحد ووحد ووحيد وحاد وأحاد وموحد وأوحد - وهذا كله راجع إلى معنى الواحد، وإن كان في ذلك معان لطيفة ولم يجىء في صفة الله عز وجل إلا الواحد والأحد، قلت: والوحيد على بعض الإعرابات في المدثر، قال: وكلها مشتقة من الواحد، وكأن ذلك مأخوذ من الحد. كأن الأشياء كلها إليه انتهاؤها وهي محدودة كلها غيره عز وجل وهو محدود، بل هو غاية المحدودين وغاية الغايات لا غاية له، والأحد يجيء في الكلام بمعنى الأول وبمعنى الواحد، فإذا جاء بمعنى الأول وبمعنى الواحد جاز
(22/364)
 
 
أن يتكلم به في الخبر كقولك: هذا واحد أحد، والعرب كانت تسمي يوم الأحد في الجاهلية أولا، وقولك «يوم الأحد» دليل على أنه اليوم الأول من الأسبوع، والاثنين دليل على أنه اليوم الثاني، وفي التوراة أن الله عز وجل أول ما خلق من الأيام «يوم الأحد» قلت: يمكن أن يكون معنى يوم الأحد يوم الله، أضيف إليه لكونه أول مخلوقاته من الأيام، فلما أوجد الثاني سمي يوم الاثنين، لأنه ثاني يوم الأحد، قال: وضد الواحد اثنان، وضد الأحد الآخر، قال الله تعالى: {قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36] ثم قال في ضده «وقال الآخر» فهذا دليل على أن معنى قولهم «يوم الأحد» اليوم الأول: لأنهم قالوا لما بعده اثنان، ولم يقولوا: الآخر، لأن الأحد إذا لم يكن بمعنى الأول فضده الآخر، وإذا كان الأحد بمعنى الأول جاز الخبر والجحد، وإذا لم يكون بمعنى الأول وكان بمعنى الواحد جاز في الخبر وجاز في الجحد، قال الله تعالى: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} [الكهف: 19] فهذه من الخبر، فإذا لم يكن أحد بمعنى الأول وبمعنى الواحد لم يجز أن يتكلم به إلا في الجحد، تقول: ما جاءني أحد، ولا يجوز: جاءني أحد، وكلمني أحد، قال الله تعالى في معنى الجحد {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} [البلد: 5] وأحد يستوي
(22/365)
 
 
فيه المذكر والمؤنث، قال الله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء}
[الأحزاب: 32] وواحد لا يستوي فيه المذكر والمؤنت حتى يدخل فيه الهاء فيقال «واحدة» لا يجوز «كواحد من النساء» وأحد يكون بمعنى الجمع، تقول العرب: يظل أحدنا الأيام لا يأكل، بمعنى كلنا لا يأكل، فاحتمل معنى الواحد والجماعة - انتهى، فالواحد من الأسماء الثبوتية الإضافية، يكون في أصل اللغة بالنسبة إلى ثان هو نصفه، وثالث هو ثلثه، وهكذا هو صفة الله تعالى بمعنى المتوحد في الاتصاف بالألوهية حتى لا يقبلها غيره بوجه، فلا شريك له، والأحد من النعوت السلبية، بل هو مجمعها، هو أحد في نفسه لا يقبل العدد ولا التركيب بوجه لا بالقسمة ولا بغيرها سواء نظر إليه بالنسبة إلى الغير أو لا، فهو متمحض للسلب، فهو وصف راجع إلى نفس الذات بمعنى أنه كامل في ذاته لا يؤثر في مفهومه النظر إلى شيء أصلا، والفرد ناظر إلى نفي العدد، فافترقت الأوصاف الثلاثة وإن كانت متقاربة في المعنى.
وقال الإمام أبو الخير القزويني الشافعي في كتابه «العروة الوثقى في أصول الدين» ناقلا عن بعض من فرق بينه وبين الواحد: إن الأحد اسم لنفي ما يذكر معه، وعن بعضهم أنه الذي لا يجوز له التبعيض لا فعلا ولا وهما، فهو أحد بذاته وأحد بصفاته، وتوحيد الله تعالى
(22/366)
 
 
لنفسه علمه بأنه واحد، وإخباره بذلك وتوحيد العبد له علمه بذلك مع إقراره به، وقال الإمام فخر الدين الرازي في شرح الأسماء الحسنى: فالله سبحانه وتعالى أحد في ذاته، أحد في صفاته، أحد في أفعاله، أحد لا عن أحد غير متجزىء ولا متبعض، أحد غير مركب ولا مؤلف، أحد لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئا، أحد غني عن كل أحد - انتهى، وهذا معنى ما نقله المعربون عن ثعلب أنه فرق بينهما بأن واحدا يدخله العدد، وأحد لا يدخله ذلك، يقال: الله أحد، ولا يقال: زيد أحد، لأن الأحد خصوصية الله تعالى، زيد يكون منه حالات، ونقض عليه بالعدد المعدد المعطوف، يقال: أحد وعشرون واثنان وعشرون، ورد بأن أحدا فيه بمعنى واحد، وقال الإمام فخر الدين في شرح الأسماء: إنه اختص به البارىء سبحانه، أما الواحد فيحصل فيه المشاركة، ولهذا السبب أعري من لام التعريف لأنه صار نعتا لله عز وجل على الخصوص، فصار معرفة، وقال الأزهري: سئل أحمد بن يحيى عن الأحاد هل هي جمع أحد، فقال: معاذ الله ليس للأحد جمع، ولا يبعد أن يقال إنه جمع واحد كالأشهاد جمع شاهد - انتهى، وقال الإقليشي في شرح الأسماء: الأحد هو الذي ليس بمنقسم ولا متجزىء،
(22/367)
 
 
فهو على هذا اسم لعين الذات، فيه سلب الكثرة عن ذاته، فتقدس بهذا الوصف عن صفات الأجسام القابلة للتجزي والانقسام، والنقطة والجوهر الفرد عن مثبته - يعني من المتكلمين، والجوهر البسيط عند مدعيه - يعني من الفلاسفة، وإن كانت هذه لا تتجزى ولا تنقسم وإنها مخالفة للبارىء تعالى في أحديته، أما النقطة فعرض عند بعضهم إذ هي عبارة عن طرف الخط، وإذا كان الخط عرضا فالنقطة أولى بالعرضية، وأما الجوهر الفرد فإنه وإن كان لا ينقسم فهو مقدر بجزء، وكل ما قدر بجزء فلا يخلو من الأكوان وهو كيفما كان على رأي من أثبته من المتكلمين وإن كانوا في أوصافه متنازعين فلا يخلو من الأعراض، وأما الجوهر البسيط عند من أثبته فوجوده عندهم ليس عينه إذا اثنينيته غير ماهيته، وما هو بهذا الوصف عندهم ففيه اثنينية، ففارق البارىء سبحانه وتعالى بأحديته هذه الموجودات كما فارق بذاته الأجسام، فوجوده عن ذاته وليست صفاته تعالى مغايرة لذاته، وأما الواحد فهو وصف لذاته، فيه سلب الشريك والنظير عنه، فافترقا - يعني بأن الأحد ناظر إلى نفس الذات، والواحد إلى أمر خارج عنها، وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات: الأحد فيما يدعوه المشركون إلها من دونه لا يجوز
(22/368)
 
 
أن يكون إلها إذ كانت إمارات الحدث من التجزي والتناهي قائمة فيه لازمة له، والبارىء سبحانه وتعالى لا يتجزى ولا يتناهى، فقد مر أن الأحد خاص بالله سبحانه وتعالى: إنه لا فرق في إطلاقه عليه سبحانه وتعالى بين تعريفه وتنكيره لأنه معرفة في نفسة، فطاح اعتراض من قال من الملحدين: الجلالة معرفة وأحد نكرة لا ينعت به.
وعلى تقدير التسليم يجوز جعله بدلا كما تقدم ولا مانع من إبدال النكرة من المعرفة مثل لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة، قال صاحب كتاب الزينة: وعلى هذه القراءة - أي قراءة التنكير - أجمعت الأمة، وروى قوم عن أبي عبد الله بن جعفر بن محمد الصادق أنه قرأ قل هو الله أحد الله الواحد الأحد الصمد، وقال الإمام أبو الحسن الحرالي في شرح الأسماء الحسنى: الأحد اسم أعجز الله العقول عن إدراك آيته في الخلق إثباتا فلم تستعمله العرب مفردا قط أي وهو بمعناه الحقيقي لا بمعنى واحد ولا بمعنى أول مثلا إلا في النفي لما علموا أنه مفصح عن إحاطة جامعة لا يشذ عنها شيء، وذلك مما تدركه العقول والحواس في النفي ولا تدركه في الإثبات فيقولون: ما في الدار أحد - نفيا لكل ولا يسوغ في عقولهم أن يقولوا: في الدار أو في الوجود أحد -، إذ لا يعقل عندهم ذات إنسان هي جامعة لكل إنسان، فلما ورد عن
(22/369)
 
 
الله اسمه في القرآن تلقاه المؤمنون بالإيمان وأحبت قلوبهم سورة ذكره لجمعها لما لا يحصى من ثناء الرحمن وهي أحد الأنوار الثلاثة في القرآن، القرآن - نور
{ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52] ونور نوره سورة ذكر الأحد في ختمه وآية الكرسي في ابتدائه وسورة يس التي هي قبله في محلها منه واحد مبين عن اسم الله الذي هو بكل شيء محيط، لا يتطرق إليه شرك في حق ولا باطل، وهو واحد مبين عن اسم الإله الذي لا يصح فيه الشرك حقا، وقد يتطرق إليه باطلا {واتخذوا من دون الله آلهة} [يس: 74] وذلك لأن الواحد يضائف الثاني، وأحد جامع محيط لم يبق خارج عنه فيضايفه يعني أن مفهومه ناظر إلى كونه سبحانه وتعالى الآن كما كان في الأزل وحده، فإن الخلق فان فهو في الحقيقة عدم، وكأنه ما كان لإحاطته به وكونه في قبضته وطوع مشيئته، فلا خارج يكون مضايفا له لأنه لا يضايف الشيء إلا مناظر لمساواة أو مباراة بمعاندة أو غيرها، فالكل بالنسبة إليه عدم {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر: 30] {كل من عليها فان} [الرحمن: 26] {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88] هذا مراده بدليل سابقه ولاحقه فلا شبهة فيه لأهل الوحدة عليهم الخزي واللعنة، قال: والوحدة
(22/370)
 
 
من الواحد هي حد النهاية، والغاية مما هي وحدته، وما دون الوحدة التي هي الغاية ثانية ودونه وجماع إحاطات كل ذلك أعلى وأدنى هي الأحدية التي لا يشذ عنها شاذ ولا يخرج عنها خارج، فمن الأسماء معلوم لخليفة من خليقته بما أتاهم منه كالرحيم والعليم، ومنها ما يعجز عنه خلافتهم كالأسماء المتقدمة من اسمه المحصي، ولكن ينال مثلا من قولهم، ومنها ما لم ينله العلم ولا أدركت مثله العقول وهو اسمه الأحد، فالله هو الأحد الذي لا أحد إلا هو - انتهى، وقال الإمام أبو الحكم بن برجان في شرح الأسماء الحسنى: وهو - أي الأحد - أصل لباب الوحدة، يدل على محض الوحدة، ألا ترى أنه ناف يأتي معه، إذا قلت: لم يأتني أحد، انتفى الاثنان، ولا تقول: جاءني أحد كما تقول! جاءني واحد، لأن واحدا تزول عنه الواحدية بضم ثان إليه بخلاف الأحدية فإنها لازمة الواحد لا يفارقه حكمها بعد ضم الثاني بل لها من جهة محفوظة عليها يظهر ذاك بالأشفاع والأوتار، فإنك تقول ما جاءني أحد، فتنتفي الأشفاع كما تنتفي الأوتار، وهذا دليل على زيادة شرفه فإن الاسم كلما غمضت دلالته وتعذرت معرفته عن الأفهام وعزب عن العقول علمه كان ذلك دليلا على قربه من الاسم الأعظم - انتهى،
(22/371)
 
 
وقال بعض العارفين في كشف معنى الأحد ورتبته: إن الذات الأعظم غيب محض والأحد أول تعيناتها، ولذلك بدىء بالهمزة التي هي أول تعينات الألف التي هي لهيب محض وذلك سر مخالفتها للأحرف في أن كل حرف يدل على مسماه أول حروف اسمه إلا الألف لكونها غيبا، فكان أول اسمها الهمزة التي هي أول تعيناتها، والهمزة لكونها مرقى إلى غيب الألف كان أول اسمها أيضا غير دال على مسماها.
ثم بعد التعيين بالأحدية الشاملة المستغرقة يتنزل إلى الإلهية ثم منها إلى الواحدية، ولذلك ابتدىء الواحد بالواو التي هي وصلة إلى ما فيه من الألف الذي هو غيب، فإن الواحد مرقى إلى فهم الإله، والإله مرقى إلى تعقل الأحد، والأحد مرقى إلى التعبد للذات الأقدس الأنزه، ومن اعتقد أحديته سبحانه وتعالى، أنتج له ذلك حبه وتعظيمه، وهو توحيد الألوهية لأن التفرد بذلك يقتضي الكمال والجمال - والله الموفق.
قال الإمام جعفر بن الزبير: لما انقضى مقصود الكتاب العزيز بجملته عاد الأمر إلى ما كان، وأشعر العالم بحالهم من ترددهم بين عدمين {ثم الله ينشىء النشأة الآخرة} [العنكبوت: 20] فوجودهم منه سبحانه وتعالى وبقاؤهم به وهم وجميع ما يصدر عنهم من أقوالهم وأفعالهم
(22/372)
 
 
كل ذلك خلقه واختراعه، وقد كان سبحانه وتعالى ولا عالم ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان، لا يفتقر إلى أحد ولا يحتاج إلى معين، ولا يتقيد بالزمان، ولا يتحيز بالمكان، فالحمد لله رب العالمين، أهل الحمد ومستحقه مطلقا، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه المصير {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} هو الموجود الحق، وكلامه الصدق، {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب والدار الآخرة خير للذين يتقون} [العنكبوت: 64] فطوبى لمن استوضح آي كتاب الله، وأتى الأمر من بابه وعرف نفسه ودنياه، وأجاب داعي الله ولم ير فاعلا في الوجود حقيقة إلا هو سبحانه وتعالى والحمد لله رب العالمين، ولما كمل مقصود الكتاب، واتضح عظيم رحمة الله به لمن تدبر واعتبر وأناب، كان مظنة الاستعاذة واللجأ من شر الحاسد وكيد الأعداء فختم بالمعوذتين من شر ما خلق وذرأ وشر الثقلين - انتهى.
ولما تم البيان لهويته سبحانه وتعالى على هذا الوجه الذي أنهاه بالأحدية المعلمة بالتنزه عن القسمة والنظير، وكان بيان القرآن بالغا أقصى نهايات البيان، وكان الأحد من النعوت المتوغلة في السلب، وكانت الشركة تقع في التعبير به في النفي وهو بمعناه الحقيقي وتقع
(22/373)
 
 
فيه بالإثبات والسلب على حد سواء، أو دلالته على الكمال والإضافة أكمل، وبناه على الاسم الأعظم الذي هو آخر الأسماء الظاهرة وأول الأسماء الباطنة، ولم يقع فيه شركة بوجه دفعا لكل تعنت، وإشعارا بأن لم يسم به لم يستحق الألوهية، وأخلى الجملة عن عاطف لأنها كالنتيجة للأولى والدليل عليها، فقال مكاشفا لنفوس المؤمنين وللعلماء معيدا الاسم ولم يضمر لئلا يظن تقيد بحيثية غيب أو غيرها: {الله} أي الذي ثبتت إلهيته وأحديته، لا غيره {الصمد} الذي تناهى سؤدده المطلق في كل شيء إلى حد تنقطع دونه الآمال، فكان بحيث لا يحتاج إلى شيء وكل شيء إليه محتاج، وتنزه عن الجوفية فلم تدن من جنابه بفعل ولا قوة لأنه تنزه عن القسمة بكل اعتبار مع العظمة التي لا يشببها عظمة، فكان واحدا بكل اعتبار