التقييد الكبير للبسيلي

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: التقييد الكبير في تفسير كتاب الله المجيد
المؤلف: أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد البسيلي التونسي (المتوفى: 380هـ)
 (/)
 
 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
الاستعاذة
قال رحمه الله يردّ على لفظة سؤال: وهو أن الاستعاذة استجارة والاستجارة إبعاد، وهو من باب النفي، وقد تعلق بالأخص؛ لأن الشيطان الرجيم أخص من مطلق الشيطان، " ونفى الأخص لا يستلزم نفي الأعم، فلا يلزم من الاستعاذة من هذا الشيطان المخصوص الاستعاذة من مطلق الشيطان ".؟!
وأجاب: بأن النعت قسمان: نعت تخصيص، ونعت لمجرد الذم، وهذا منه.
الفخر: لفظ: (أعوذ بالله). مشتمل على الألوف من المسائل المهمة المعتبرة نحو العشرة الألف؛ لأن المراد منه الاستعاذة بالله من جميع المنهيات المنقسمة إلى الاعتقادات، وأعمال الجوارح، أما الاعتقادات فقال - صلى الله عليه وسلم -
(1/219)
 
 
" ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا ملة واحدة". فدل على أن الإِثنين والسبعين موصوفون بالعقائد الفاسدة، ثم إن ضلال كل فرقة منهم حاصل في مسائل كثيرة من المباحث المتعلقة بذات الله، وبصفاته، وبأحكامه، وبأفعاله، وبأسمائه، وبمسائل الجبر، والقدر، والتعديل، والتجويز، والنبوات، والمعاد، والوعد، والوعيد،
(1/220)
 
 
والأسماء، والأحكام، والإِمامة.
فإذا وزعنا عدد الفرق الضالة على هذه المسائل الكثيرة بلغ العدد الحاصل مبلغًا عظيمًا.
وقولنا: (أعوذ بالله). يتناول الاستعاذة من جميع تلك الأنواع، والاستعاذة من الشيء لا يمكن إلَّا بعد معرفة المستعاذ منه، وإلَّا بعد معرفة كون ذلك " الشيء " باطلا. وأما الأعمال الباطلة فهي عبارة عن كل ما ورد النهي عنه إمِّا في القرآن، أو في الأخبار المتواترة، أو في أخبار الآحاد، أو في إجماع الأمة، أو في القياسات الصحيحة.
ولا شك أن تلك المنهيات تزيد على الألوف.
وقولنا: (أعوذ بالله). متناول لجميعها، وجملتها.
(1/221)
 
 
البسملة
مسألة: كون الاسم المسمى أو غيره. تكلم عليها الآمدي في " أبكار الأفكار "، والإِمام في " الإِرشاد "، وظاهر كلامه مخالف للآمدي، والفخر في " نهاية العقول ".
(1/222)
 
 
وتكلم عليها ابن السَّيد في تأليف مستقل، ووقعت في " العتبية " في الجزء الخامس من الجامع، وتكلم عليها شيخنا ابن عرفة في " العقيقة " فِي " مختصره الفقهي "، ونقل ابن راشد في أوائل تأليفه
(1/223)
 
 
المسمى بـ " المرقبة العليا في تفسير الرؤيا " عن القَرَافي أنه كان يقول: " إنما الخلاف في لفظة اسم، هل هي نفس المسمى أو لا، كقوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى:1]، (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ). [تبارك:78]!.
وقول الفخر: احتج من زعم أن الاسم غير المسمى بأن إثبات وجود الباري تعالى بالعقل لا بالسمع، وإثبات أسمائه متوقف على السمع إذ لا يسمى إلا بما ورد عنه أنه سمى به نفسه ..
يُردُّ: بأنه إن أريد معاني الألفاظ، فثابت بالنقل، وإن أريد مجرد الألفاظ فثبوتها بالسمع.
(1/224)
 
 
وحصَّل شيخنا في المسألة من حيث الجملة ثلاثة أقوال:
الأول: أن الاسم هو المسمى، وهو قول أهل الحق.
الثاني: أنه غيره، وهو مذهب المعتزلة، ومثله للأشعري في بعض كتبه.
الثالث: ما كان اسمًا لله تعالى باعتبار صفة فعل كخالق فهو غير المسمى، وإلا فهو المسمى.
(1/225)
 
 
وهو قول الباقلاني الإِمام.
(1/226)
 
 
قال مشايخنا: قول سيبويه: " الأفعال أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء " يدل على أن الاسم المسمى.
(1/227)
 
 
الفخر: " البحث عن كل واحد من أسماء الله تعالى مسألة، والعلم بالاسم مسبوق بالعلم بالمسمى، فالبحث عن ثبوت تلك المسميات وعن الدلائل الدالة على ثبوتها، وعن أجوبة الشبهات التي تذكر في نفيها مسائل كثيرة، ومجموعها يزيد على الألوف. ولمَّا كان التقدير: (بسم الله) أشرع في آداء الطاعات، وهذا المعنى لا يصير ملخصًا معلومًا إلا بعد 1 - 1 الوقوف على أقسام الطاعات المنقسمة إلى عقائد، وأعمال مع الأدلة، وأجوبة الشبهات، وهذا المجموع ربما زاد على عشرة آلاف مسألة.
وتقدم الاستعاذة على البسملة من حسن الترتيب؛ لأن الاستعاذة إشارة إلى نفي ما لا ينبغي من الاعتقادات، والعمليات.
قال: ويظهر أيضا كيفية استنباط العلوم الكثيرة من الألفاظ القليلة باعتبار المباحث المتعلقة باللغة، والإِعراب، والأصول والمسائل الفقهية.
قال في " شرح الأسماء الحسنى ": قال بعض المحققين: " الرحمة من صفات الذات إرادة إيصال الخير، ودفع الشر؛ لأن من تراه في شدّة، وتريد أن تدفعها عنه، ولا تقدر يصح أن يقال: رحمته، ولا يقال: أنعمتَ عليه فإن أُكْرهت على الإِنعام عليه ولم ترده يقال: أنعمتَ عليه، ولا يقال: رحمته.
(1/228)
 
 
وقيل: إنها صفة فعل فهي إيصال الخير، ودفع الشر بدليل تسمية الجنّة رحمة، قال تعالى: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ)، وقال: (وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا).
وأجيب: بأنه من مجاز إطلاق السبب على المسبب. قال: ورحمة
الله أكمل من رحمة العباد لبعضهم؛ لأنها في العباد محدثة، والمحدث الجائز لا يوجد إلا لمرجح بخلقه، فلولا رحمة الله لما خلق الرحمة.
قال: ولأن انتفاع العبد برحمة العبد، وإحسانه له بالجنان واللذات، إنما يكمل له بعد صحّة حواسّه، وبدنه، وقوته الهاضمة، وعقله، وروحه، وذلك أعظم قدرًا من الأشياء التي يهبها بعض الناس، لبعض؛ ولأن إحسان العبد للعبد ينقصه بقدر ما أعطى.
قال: ومذهب أهل السنة أنه ليس من شرط كونه رحيمًا أن لا يفعل إلا الرحمة، فهو رحيم للبعض، وقهَّار للبعض، ليست رحمته معللة
(1/229)
 
 
باستحقاق محض؛ ولأنه لو كان التفاوت في القهر للتفاوت في الاستحقاق، لقلنا: من أين حصل التفاوت في الاستحقاق؟. وإن كان التفاوت في الطاعة، فلِمَ صار هذا مطيعًا، وهذا عاصيًّا؟.
قال أبو بكر الواسطي: " لا أعبد من ترضيه طاعتي، ويسخطه ذنبي ". أي: إنما أعبد من حملني رضاه على الطاعة، وسخطه على المعصية، ثم نقل قول الفلاسفة، والمعتزلة.
(1/230)
 
 
قال ابن العربي في " كتاب الآمدي ": معنى كونه أرحم الراحمين أو خير الراحمين: إما كمال الرحمة بنفي الآفات عن صفته، أو كثرة ثمرتها وهي الإِنعام أو أن رحمة العباد لبعضهم، إمّا لتوقع العوض عن ذلك، وإمّا لزوال الألم اللاحق للراحم بمعرفته حاجة المرحوم، والله تعالى منزه عن ذلك كله.
قال: فإن قيل: كيف يُفهم أنه أرحم الراحمين مع كثرة البلايا في الناس، والرحيم لا يَرى مبتلًا، ولا محتاجًا إلا أعاذه؟!.
فأجاب عنه ابن العربي لمن سأل مسترشدًا: بأنه يُعمم نظره في الأسماء الحسنى فإذا استحضر أن الله أرحم الراحمين، استحضر أن الله شديد العقاب، وأنه عفو منتقم، وهادٍ مضل، وغفَّار قهَّار، ولو عافى الجميع لما كان شديد العقاب.
(1/231)
 
 
قال: وأجاب بعض علمائنا يريد به الغزالي في " الاحياء ": " بأن الطفل ترق له أمه فتمنعه من الحجامة، والأب يحمله عليها مع شفقته عليه؛ لأنه يرى له فيها خير، فليس في الوجود شر إلا وفي طيه خير، وشر لا خير فيه غير ممكن فإن خطر لك شر لا خير فيه فاتهم عقلك، ويُعدُّ هذا كشف سرك القدر المنهى عنه وأنت أيها المخاطب أظنك عارفًا بسرّ القدر ".
وردَّه ابن العربي بوجوه:
منها: أن قياس الغائب على الشاهد عند من جوَّزه إنما يكون بالجوامع الأربعة وهي: العلة، والحقيقة، والشرط، والدليل.
قال: وقوله: " كل شر في طيه خير "، إن أراد أن الخير يقارنه أو يعقبه، فباطل بعذاب أهل النار فإنه لا خير فيه، وإن أراد أنه يشتمل عليه فمردود لهذا، وبأن الضُرّ لا يشتمل على الخير.
(1/232)
 
 
وقوله: إن هذا سر القدر الذي لا يفشى، والمخاطب به عارف فكل عالم يعلم سرّ القدر، وهو أن الله تعالى لا يُسأل عمَّا يفعل؛ وإن زعمت أن له سرًّا.
قيل لك: أتقدر أن تردّ ما ظهر من الأدلة بما تظن من الدعاوى هذا لا يفعله حبيب!.
قال: فإن قلت: أهل النار تحت رحمة، فإن في الإِمكان أن يكون عذابهم أشد؟!.
قلنا: هذه عقوبات، وآلام، ولا يقال: لها رفق، فالمقتول بالحجارة
كان يمكن قتله بالطعن، ولا يقال: إنه قُصد الرفق به.
(1/233)
 
 
قال الآمدي في " أبكار الأفكار ": قال ابن عباس: الرحمن بخلقه جميعًا، والرحيم للمؤمنين خاصة ".
قال: وقيل: الرحيم؛ لأهل الدنيا، والرحمن، لأهل الآخرة "
انتهى.
ونقل ابن العربي فيه سبعة أقوال:
أحدها: قول ابن عباس: أنهما رقيقان أحدهما أرق من الآخر ".
وقال الفخر: رواه عنه أبو صالح "
قال الفخر: وهو وهْم من الراوي، بل هما رفيقان بالفاء؛ لأن الرفق من صفات الله تعالى بخلاف الرقة.
(1/234)
 
 
" انتهى ".
الثاني: قال الحسن: الرحيم أرق ". وإليه ردّ ابن العربي قول ابن عباس، وقرره بوجهين:
إما بأن لفظ: " الرحمن " خاص باللَّه لا يطلق على غيره، ومعناه: عام في منافع الدنيا، وثواب الآخرة. و " الرحيم " خاص في المعنى بالثواب، والعفو عام في اللفظ، لجواز وصف غير الله به.
وإمّا بأن تقدير " رحمن " كعطفان إذا كان تلك الساعة على تلك الحالة، وإن لم يكن دائما، و " رحيم " نعتًا دائم مثل: كريم.
الثالث: قال أبو عبيدة: " الرحمن: ذو الرحمة، والرحيم: الراحم، وربما سوَّت العرب بين فعلان، وفعيل. قالوا: ندمان، ونديم ".
الرابع: قال ثعلب: جمعوا بينهما؛ لأن الرحمن عبراني الأصل،
(1/235)
 
 
والرحيم عربي.
الخامس: أنهما بمعنى واحد.
السادس: قال عطاء: " الرحمن في الرزق، والرحيم في المغفرة "
قال الفخر: " والأكثرون على أن الرحمن أبلغ لقولهم: رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة، ورحمة الدنيا شاملة للخلق كلهم بالرزق، ورفع المؤلِّمات، ورحمة الآخرة تخص المؤمنين، وكذا قال جعفر الصادق:
(1/236)
 
 
اسم الرحمن خاص باللَّه عام في الأثر، والرحيم عكسه "؛ ولأن بناء الرحمن للمبالغة يقال: عُريان لمن لا ثوب له أصلًا، فإن كان له ثوب خلق قلت: " عارٍ لا عُريان "، ورحيم: فعيل بمعنى فاعل، كسميع أو مفعول كقتيل؛ ولأن حروف الرحمن أكثر؛ ولأن أبا سعيد الخدري روى عن علي عليه السلام أنه قال: " الرحمن رحمن الدنيا، والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة ".
قال: وقُدِّم على الرحيم إمّا لأن الرحمن انفرد به الباري تعالى أو لإفادته عموم الرحمة فكان أصلًا، والرحيم كالزيادة في التشريف؛
(1/237)
 
 
للمؤمنين قال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ).
وإمّا لأجل رؤوس الآي في الفاتحة.
وقيل: الرحيم أبلغ بدليل ذكره بعد الرحمن، ولأن الرحمن يفيد نوعًا من القهر، والكبرياء قال تعالى: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ) وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا)، إذ لولا ذلك لما ناسب ذكر الوعيد معه؛ ولأن ختم الكلام بما هو أقوى دلالة على الرحمة، أرجى، وأقرب لحسن الظن باللَّه ". انتهى.
وذكر ابن السِّيد في " أسئلته " الخلاف في " الرحمن "، و " الرحيم " أيهما أخص، وقال: " إن المختص باللَّه تعالى إنما هو مجموعهما ". ومثله للفاسي في " شرح الشاطبية ".
ونص إمام الحرمين، وغيره من الأصوليين على أن: الرحمن مختص باللَّه تعالى لا يوصف به غيره ".
(1/238)
 
 
وحكى ابن الحاجب في " الأصل " لما عرَّف الحقيقة، والمجاز، والمشترك إنما هو رحمن اليمامة بالاضافة، وذكر الرحمن الأصوليون مثالًا للمجاز الذي ليست له حقيقة.
(1/239)
 
 
قال ابن الحاجب: ولو قيل: لو استلزم المجاز الحقيقة لكان لنحو " الرحمن " حقيقة، ولنحو: " عسى " كان قويًّا ".
ابن هشام المصري: الحق قول الأعلم، وابن مالك:
(1/240)
 
 
الرحمن ليس بصفة، بل عَلَم.
وأما قول الزمخشري: إذا قلت: " الله رحمن هل يُصْرف أم لا؟ "
وقول ابن الحاجب: اختلف في صرفه "
فخارج عن كلام العرب من وجهين:
أنه لم يستعمل صفة، ولا مجردًا من " ال "، ويبين عَلَميته أنه في البسملة، ونحوها بدل (لا)، نعت، وأن " الرحيم " بعده نعت له لا نعت لاسم الله سبحانه إذ لا يتقدم البدل على النعت، وأن السؤال الذي سأله الزمخشري، وغيره: لِمَ قدم الرحمن مع أن عادتهم تقديم غير الأبلغ، كقولهم: عالم نحرير، وجواد فياض؟ ا، فغير متجه وممَّا يوضح لك أنه غير صفته مجيئُه كثيرًا غير تابع نحو: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ)، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ).
(1/241)
 
 
قال: وقول الشاطبي:. . . . . تبارك رحمانًا رحيمًا ومَوْئلًا.
فصب " رحمانًا " بإضمار: أخص أو أمدح، و " رحيمًا ": حال منه لا نعت له، ولا تمييز كما ذكرنا، وجعلهما بعضهم تمييزين، وهو خطأ؛ لأن التمييز لا يتعدد بخلاف الحال فإنها تتعدد.
وقيل: إن " رحمانًا " حال، وحذف " أل " من " رحمانًا " للضرورة ".
" الفخر ": وقيل: إن عمر بن عبد العزيز خرج إلى المصلى يوم " العيد "، فلما صلى قال: " اللهم ارحمني فإنك قلت: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)، فإن لم أكن منهم فأنا من الصائمين، وقلت: (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35). فإن لم أكن منهم فأنا من المؤمنين، وقلت: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)، فإن لم استوجب ذلك فأنا شيء، وقلت: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، فإن لم أكن
(1/242)
 
 
كذلك فأنا مصاب حيث حُرِمْتُ رحمتك، وقلت: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ).
(1/243)
 
 
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
سورة أم القرآن
2 - الألف، واللام في (الْحَمْدُ ... (2) .. للجنس، ويتناول الحمد القديم، وهو حمده تعالى نفسه بنفسه، ويتناول حمده في الدنيا، وحمده في الآخرة.
وإن كان خبرًا بمعنى الطلب، فتكون " أل " للماهية إذ لا يقدر أحد على حمده تعالى بجميع محامده؛ ولذا قال عليه السلام في حديث الشفاعة: " فاحمده بمحامد يعلمنيها لم أكن أحمده بها قبل ذلك ".
(1/244)
 
 
فإن قلت: يكون المطلوب حمده " تعالى " لمجموع المحامد من حيث هو مجموع.
قلت: صيغ العموم كلية لا كلٌ.
فإن قلت: قد ثبت الحمد للمخلوق فأين العموم؟.
فالجواب: أنه، وإن ثبت للمخلوق فهو مجاز لا حقيقة.
النووي في " الأذكار ": سئل الحافظ أبو عمرو بن الصلاح عمن حلف أنه يحمد الله بجميع محامده.
فأجاب: بأنه لا يبر بقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، " بل بأن " يقول:
(1/245)
 
 
" الحمد لله حمدًا كثير، طيبًا مباركا فيه "، أو يقول: لا الحمد لله حمدًا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده "، ونقله حديثًا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.
انظر:، التفتازاني " شرح تلخيص المفتاح ".
(1/246)
 
 
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
5 - (إِيَّاكَ ... (5). . لمَّا اجرى الحامد ما ذكر من الصفات على اسم الذات كأنه اعتقد أنه عزّ وجل كالمشاهد الحاضر، فخاطبه بقوله: (إياك). قاله الطيِّبيِّ في غير هذا الموضع. وجعل الزمخشري، ومن تبعه تقديم الضمير المنفصل المنصوب، والمفعول الظاهر يدل على الحصر.
وقال صاحب " المثل السائر ": " تقديم المجرور يفيد الحصر كقوله تعالى: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26).
ورده صاحب " الفلك الدائر ": " بأن الحصر " في ذلك من
(1/247)
 
 
السياق لا من تقديم المجرور.
قيل: لو اقتضى التقديم الحصر لاقتضى نقيضه عدم الحصر في مثل (وَاعْبُدْ رَبَّكَ).
وأجيب: بأن اللازم؛ لاقتضاء نقيضه لا حصر، وهو أعم من عدم الحصر.
قيل: لو اقتضاه، لاقتضاه في قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4).
وأجيب: بأنَّا إنما نَدْعِي ذلك ظاهرًا لا نصًّا.
(1/248)
 
 
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
(1/249)
 
 
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
سورة البقرة
 
2 - (لَا رَيْبَ فِيهِ (2) .. ابن هشام المصري: قول بعضهم: الوقف على (ريب)، يرده قوله تعالى في سورة السجدة: (لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
انظر: " شرح تلخيص المفتاح " للتفتازاني " ص: 172.
3 - (ومما رزقناهم ينفقون). يستدل به من يقول: إن الحرام ليس برزق؛ لأن الآية خرجت مخرج الثناء.
ويجاب: بأن " من " للتبعيص أي: ينفقون بعض رزقهم، وذلك البعض هو الحلال.
7 - (ختم الله على قلوبهم. .)، إن قلت: لِمَ خصّ الختم بالقلب، والسمع، وخص الغشاوة بالأبصار؟.
قلت:؛ لأن الغشاوة كافية في المنع من الإِبصار، وهي غير مانعة
من إدراك القلب، والسمع، والمانع من إدراكهما إنما هو الختم.
(1/250)
 
 
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
10 - (فزادهم الله مرضا. .). قيل: زيادة المرض في القلب مِثْلُه ملزوم؛ لاجتماع الأمثال في المحل الواحد.
أجيب بوجهين:
 
إما بأن يزاد في جواهر القلب جواهر أُخر يكون محلًا للمزيد أو يُزاد في أزمنة المرض كما يفهم أن صبغ هذا الثوب أقوى من صبغ هذا بمعنى: أنه صبغ في زمن أطول من زمن صبغ الآخر. وهذا المعنى قد تكرر في مواضع من القرآن في سورة آل عمران 173، (فزادهم إيمانًا)، وفي سورة الأنفال 2، (زادتهم إيمانًا. .)، وفي براءة 125 (فزادتهم رجسًا) وفي مريم 76، (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى)، وفي سورة النحل 88، (زدناهم عذابا فوق العذاب)، وفي الأحزاب 30، (يضاعف لها العذاب ضعفين)، وفي الفتح 4، (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم)، وفي القتال 17، (والذين اهتدوا زادهم هدى)، وفي المدثر 31، (ويزداد الذين آمنوا إيمانًا).
17 - (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ. .). الآمدي: منع المعتزلة إطلاق لفظ " الترك " على الله تعالى، وأجازه أهل السنة، لقوله تعالى: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ). . .
(1/251)
 
 
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
20 - (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ). لم يقل مثل ذلك في الرعد؛ لإِتيان البرق بغتة، وعدم إمكان الاستعداد له، والحذر من إبصاره بخلاف الرعد؛ لأنه متأخر عن البرق فيسْتعد له.
25 - (وبَشِّر. .). ابن هشام المصري: عطف الإِنشاء على الخبر، والعكس مَنَعَه البيانيون، وابن مالك في شرح باب المفعول معه من كتاب " التسهيل "، وابن عصفور في " شرح الإِيضاح "، ونقله عن
(1/252)
 
 
الأكثرين.
وأجازه الصفار، وجماعة مستدلين بهذه الآية، ومثلها في الصف.
وقال الزمخشري في هذه الآية: ليس المعتمد بالعطف الأمر حتى 3 - 1 يطلب له مُشَاكِل، بل المراد عطف جملة ثواب المؤمنين على جملة عذاب الكافرين كقولك:: " زيد يعاقب بالقيد، وبشِّر فلانًا بالإطلاق "، وجوَّز عطفه على (اتقوا). وأتم من كلامه في الجواب الأول أن يقال: المعتمد بالعطف جملة الثواب كما ذكر، ويزاد عليه فيقال: والكلام منظور فيه إلى المعنى الحاصل منه، وكأنه قيل: والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات فبشرهم.
(1/253)
 
 
وأما الجواب الثاني ففيه نظر لا يصح أن يكون جوابًا للشرط إذ ليس الأمر بالتبشير مشروطًا بعجز الكافرين عن الإِتيان بمثل القرآن. ويجاب: بأنهم قد عُلم أنهم غير المؤمنين، فكأنه قيل: فإن لم تفعلوا فبشر غيرهم بالجنات "، ومعنى هذا: فبشر هؤلاء المعاندين أنهم لا حظ لهم في الجنة.
وقال السكاكي: الأمر معطوف على " قل ". مقدَّره قبل (يا أيها) وحذف القول كثير.
وقيل: " معطوف على أمر محذوف تقديره: " فأنذر ".
واستدلال أبي حيان بأن سيبويه: أجاز " جاءني زيد، ومَنْ عمرو العاقلان "، على أن يكون العاقلان خبر المحذوف. غلط. إنما قال سيبويه: واعلم أنه لا يجوز: " مَن عبد الله، وهذا زيد الرجلين الصالحين " رفعت أو نصبت؛ لأنك لا تُثْني إلا على من أثْبَتَّه، وعلمتَه، ولا يجوز أن تخلط من تعلم ومن لا تعلم فتجَعلهما بمنزلة واحدة.
(1/254)
 
 
وقال الصفار: لما منعها سيبويه من جهة النعت عُلم أن زوال النعت يصححها فتصرف أبو حيان في كلام الصفار يوهم فيه، ولا حجة فيما ذكر الصفار إذ أنه قد يكون للشيء مانعان، ويقتصر على ذكر أحديهما؛ لأنه الذي اقتضاه المقام.
(1/255)
 
 
- (الصالحات). قال سيبويه: جمع السلامة جمع قلة يحتمل العشرة فدون فإن عُرِّف بـ أل أفاد الكثرة.
وردّه ابن السِّيد بأنه إنما يفيد الكثرة في أنها محتملاته، وهو العشرة، ويصير صريحًا فيها كـ (الصالحات) هنا.
- (جنات). تحتمل التوزيع أو لكل واحد جنات.
- (ولهم فيها. .). مجيء هذين المجرورين متلاحقين دليل لمن يجيزه من البيانيين.
- (أزواج مطهرة). أبو حيان: استغنى بجمع القلة فيه؛ لقلة استعمال جمع الكثرة فيه، وهو زوجات.
الْمُبرّد في " المقتضب ": جمع التكسير يصح أن يجرى على المفرد؛ لأنه
يعرب بالحركات كالمفرد.
(1/256)
 
 
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
27 - (الذين ينقضون). قيل: هذه الصفات إن كانت؛ للتبيين لزم أن يكون من اتصف ببعضها غير فاسق، وإن كانت للتخصيص لزم ثبوت وصف الفسق دونها.
أجيب: بأنها للتبيين، والمراد قوم مخصوصون.
 
28 - (فَأَحْيَاكُمْ) عُطِفَ بالفاء، وما بعده بـ (ثم)؛ لأن المراد بهذا الإحياء الإِيجاد من عدم، وهو أصعب عند العقل من إعادة ما سبق وجوده، فدلت الفاء على أن ذلك بالنسبة إلى قدرة الله أسهل.
وأجاب الزمخشري بغير هذا.
 
29 - (خلق لكم). قول أبي حيان: قيل اللام، للسبب. لا يصح على مذهب أهل السنة في عدم تعليل أفعال الله تعالى، وهو كقول الزمخشري: " لأجلكم ". وكونها للتمليك بناء على أن الأشياء على الإباحة.
(1/257)
 
 
- (ما في الأرض جميعًا). انظر كلام ابن عطية هنا، وفيه نظر، لأنه ليس لنا إلا المعمورة من الأرض.
قال القرطبي: والآية تدل على أن الأرض واحدة. وهو بناء على أن (جميعًا) حال من (ما). وذلك لا يتعين؛ لاحتمال كونه حالًا من ضمير (لكم).
- (وهو بكل شيء عليم). الآمدي في " أبكار الأفكار ": " مذهب أهل السنة أن المعدوم ليس بشيء " خلافًا للمعتزلة، ولا نبني على ذلك كفر، ولا إيمان.
(1/258)
 
 
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
وأما هل للمعدوم تقرر في العدم أو لا؟، وهي مسألة أخرى.
فمذهب أهل السنة أن لا.
وذهب المعتزلة إلى أن له تقرر، فألزمنا قدم العالم ".
 
30 - (في الأرض خليفة)، قدم المجرور هنا، وأَخر في سورة ص (إنَّا جعلناك خليفة في الأرض)، وذلك لوجهين:
الأول: أن أحد أسباب التقدم " الشرف ". وكان آدم حينئذ معدومًا، والأرض موجودة، والموجود أشرف من العدم، والمخاطب في سورة (ص) داود عليه السلام، وهو أشرف من الأرض ضرورة.
(1/259)
 
 
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
الثاني: أن هذه الآية خرجت مخرج الاعتناء بالأرض بجعل الخليفة فيها؛ لإزالة الفساد عنها، وآية (ص) في معرض التشريف لداود فقدم فيها ما يقتضي التشريف، وهو الخلافة.
- (قالوا أتجعل. .). قد يحتج به من يقول: " بالتحسين، والتقبيح "، وجوابه بين عقلًا.
ابن عطية: " كأنهم تعجبوا من استخلاف الله من يعصيه أو عصيان من يستخلفه ". وذكره أبو حيان، ولم يتعقبه. ولا يصح الوجه الثاني؛ لأنهم لو تعجبوا من عصيان المُسْتَخْلَف؛ لقالوا: " أيفسد في الأرض من تجعله خليفة ".
 
36 - (بعضكم لبعض. .). يدل على إطلاق لفظ " البعض " على أكثر من النصف.
38 - (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). إن قلت: لِمَ نفى الخوف بلفظ الاسم، والحزن بلفظ الفعل مع أن الخوف هو التألم بسبب أمر مستقبل متوقع، والحزن هو التألم بسبب أمر واقع فيما مضى، فكان المناسب باعتبار الفَهْمِ العكس؟.
(1/260)
 
 
فالجواب من وجوه:
أ - روعي في كل واحد منهما سببه، فسبب الخوف مستقبل، وهو متقدم عليه فجعل ماضيًا ثابتًا واقعًا، فأتى فيه بلفظ الاسم المقتضي للثبوت.
وسبب الحزن ماضٍ وهو متأخر عنه فجعل مستقبلاً؛ لتأخره عن سببه فأتى فيه بلفظ المستقبل.
ب - إن متعلق الحزن ماضٍ، ومتعلق الخوف مستقبل، والأمور المستقبلة أكثر من الأمور الماضية، فأشبهت غير المتناهي ألا ترى أن الإِنسان يخاف العذاب في الدنيا، وفي الآخرة، وأمر الآخرة غير متناهٍ، لأنه يدخل الجنّة فيذهب عنه الخوف دائمًا، وأمر الماضي متناهٍ؛ لأنه بدخول الجنة ذهب الخوف عنه، فناسب الإِتيان فيما يتناهى بالاسم النكرة في سياق النفي، ليعم، وهو أبلغ.
جـ - إن سبب الخوف يمكن دفعه، والتحرز منه؛ لأن متعلقه مستقبل بخلاف سبب الحزن.
د - إن الخوف متقدم في الوجود على الحزن؛ لأن متعلقه مستقبل، ومتعلق الحزن ماضٍ، والمستقبل أسبق في الوجود من الماضي، والاسم متقدم على الفعل فعبّر عن كلٍّ بما يناسبه.
(1/261)
 
 
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
هـ - إن سبب الخوف مستقبل فلا يعقل فيه تجدَّد؛ لأنه لم يقع بخلاف الحزن.
 
46 - (الذين يظنون. .). متعلق الظن زمن الملاقاة، وإن كان في الحقيقة مشكوكًا فيه لكن؛ لمحبتهم لقاء ربهم جُعل مظنونًا لهم. وجَعل
(1/262)
 
 
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
ابن عطية: " الظن بمعنى: العلم ".
وقال الزمخشري: " يتوقعون لقاء ثوابه، وقيل: ما عنده، ويطمعون فيه.
 
47 - (وأني فضلتكم. .). إن جعل قوله: (نعمتي) عاما فهو عطف الخاص على العام، وإن جعل مطلقًا فهو من عطف المقيد على المطلق.
- (على العالمين). إن جعلت " ال " للجنس كما قال الزمخشري: فالقضية حقيقة لا خارجية، وإن جعلت للعهد أي: عالم زمانهم فهي خارجية.
(1/263)
 
 
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
48 - (ولا تقبل منها شفاعة. .) ابن عطية: " أحاديث الشفاعة متواترة ".
ابن الصلاح: " لم يصح من أحاديث الشفاعة غيرحديثين. فعلى هذا يكون التواتر معنويا لا لفظيًّا.
 
49 - (يذبِّحون أبناءكلم ويستحيون نساءكم. .) أي: لم يقل: بناتكم في مقابلة أبناءكم؛ لتركهم إياهن إلى أن يصرن نساء بخلاف الأبناء.
50 - (فأنجيناكم. .) فإن قلت: لمَ قدم الانجاء وإن كان دفع المؤلم آكد؟. مراعاة للترتيب الوجودي؛ لأن الانجاء متقدم على إغراق آل فرعون.
59 - (فبدل الذين ظلموا. .). يؤخذ عدم صحة نقل الحديث بالمعنى إلا أن يجاب بأنهم بدلوا اللفظ، والمعنى.
(1/264)
 
 
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
واسْتُشْكِلَ فَهْم معنى الآية بأنها اقتضت أنهم بدلوا غير الذي قيل لهم لا ما قيل لهم؛ لأن (غير) نعت (قولًا) إذ لا يتعدى (بدَّل) إلا لمفعول واحد!.
وأجيب: بأنه تعدى إلى الثاني بحرف الجر أي ب (غير) أو يكون (بدَّل) بمعنى: " أتى ".
 
60 - (فانفجرت. .) ابن هشام: فضرب (فانفجرت).
وزعم ابن عصفور: " أن الفاء في (فانفجرت) هي (فاضرب).
وأن فاء (فانفجرت) حذفت؛ ليكون على المحذوف دليله ببقاء بعضه، وليس بشيء؛ لأن لفظ الفاءين واحد، فكيف يحصل الدليل؟.
وجوّز الزمخشري ومن تبعه أن تكون فاء الجواب أي: فإن ضربت فقد (انفجرت).
ويرُدّه أن ذلك يقتضي تقدم الانفجار على الضرب مثل: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)، إلا أن يقال: " المراد: فقد حكمنا بترتيب الانفجار على ضربك ".
 
61 - (أتستبدلون). إن قلت: الاستبدال يقتضي ترك المبدل منه، وهم
(1/265)
 
 
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
لم يطلبوا ذلك " منه لما، وإنما طلبوا الزيادة عليه فكيف يناسب الجواب؟!.
قلت: العادة تقتضي أن من كان بين يديه طعام واحد أكل منه حتى يشبع، فإذا كان بين يديه طعامان ترك موضعًا للطعام الثاني.
 
73 - (فقلنا اضربوه ببعضها. .). إن قلت: لِمَ لم يسألوا تعيين البعض كما سألوا تعيين البقرة؟.
قلت: لأن الأجزاء، والأبعاض متماثلة بخلاف الأشخاص.
 
74 - (أو أشد. .) أتى بـ (أشدُّ)، وإن كانت القسوة ليست من الخُلق الثابتة؛ لأنه أبلغ؛ لاقتضائه أعلى مراتب القسوة، وهي شدّتها.
وجعل السكاكي ذلك من " ترشيح المجاز ".
(1/266)
 
 
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
80 - (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا. .). معناه: طلب دليلهم على ذلك.
فإن قلت: قد تقرر أن النافي لا يطالب بدليل!.
قلت: هؤلاء نفوا، وأثبتوا، ويردّ على هذا الجواب أن من ادعى ما يوافقه خصمه عليه لم يطلب منه دليل، ودعوى هؤلاء أن النار تمسهم أيامًا معدودة صحيح، وإنما ينكر عليهم ادعاؤهم عدم دوام العذاب.
والجواب: أن النفي الأصلي هو الذي لا يحتاج مدعيه إلى دليل بخلاف النفي " الذي " يتقدمه إثبات، وهؤلاء أقروا بدخولهم النار، وأنكروا دوام العذاب " بعد دخولهم ".
 
84 - (ثم أقررتم وأنتم تشهدون. .). يدل على تغاير الإقرار، والشهادة وفيه خلاف، ومذهب " المدونة " أن الإقرار شهادة.
85 - (أفتؤمنون ببعض الكتاب. .). . داموا على قصر الإِيمان بالبعض لا على نفس الإِيمان به.
(1/267)
 
 
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
- (فما جزاء. .). أتى بالحصر، وإن كان عدمه في مثل هذا التركيب أبلغ
دفعًا [لما] يتوهم من أن إيمانهم بالبعض يوجب تخفيف العذاب عنهم.
 
86 - (اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة. .). أخذ منه ابن عطية، أن من خُّير بين شيئين يُعدُّ متنقلًا.
وُيرَدُّ بحديث: " كل مولود يولد على الفطرة ".
فإن قيل: يلزم عليه أن يكون كل كافر مرتدًّا.
قيل: حقيقة المرتد من اتصف بالكفر بعد تلبُّسِه بالإِيمان بالفعل.
(1/268)
 
 
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
87 - (ولقد آتينا موسى الكتاب. .). ابن عطية: يجوز أن يكون (الكتاب) مفعولًا أولًا أو ثانيًا ". انتهى.
يردّ بأن " أعطى " مفعولاها أولهما فاعل في المعنى، و (وموسى) هو أخذ الكتاب.
 
89 - (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا. .). الزمخشري: " أي من الحق ".
ابن عطية: المراد النبيّ صلى الله عليه وسلم ". . انتهى. و (ما)
(1/269)
 
 
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
واقعة على صفته لا على ذاته؛ لأنها لا تقع على من يعقل. ويؤخذ منه الاكتفاء في الشهادة، والأحكام بالصفة، ومثله في " كتاب اللقطة " من " المدونة " في مسألة: من اعترفت بيده دابة. والموثوقون في ذلك متفاوتون منهم من يكتب الصفة، والتعريف بعين المشهود عليه، وأنه هو فلان بن فلان، وهذا أبلغ، ومنهم من يكتفي بالصفة.
وقد يقال: الإِتيان بالمُعْجِزات قرائن تقوم مقام التعيين.
 
91 - (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا. .). الأُبَّذي في " شرح الجزولية ": إنما
(1/270)
 
 
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
شُرِطَ في الحال الانتقال، لكونها هيئة الفاعل، والمفعول " التي " يكون عليها كل واحد منهما، وتلك الهيئة هي غير لازمة، بل هي صفات متنقلة نحو قوله تعالى: (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا)، و (يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا. .). ومثل: " دعوت الله سميعا "، ومعلوم أن البعث لا يكون إلا على صفة " الحياة "، والحق لا يكون إلا مصدقا، والله تعالى لم يزل سميعًا، وهذا عند النحويين يسمونه حالًا مؤكدة؛ لأن الحال صفة في المعنى، والصفة قد تكون بيانًا، وقد تكون توكيدًا.
 
101 - (وراء ظهورهم. .) كناية عن البعد، وإلا فظاهر اللفظ يقتضي أنهم طرحوه بين أيديهم.
106 - (ما ننسخ. .). استدل بها الفخر في " المحصول ": على جواز النسخ.
وردّه السرّاج في " التحصيل اختصار المحصول ": بأنها قضية
(1/271)
 
 
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
شرطية لا يلزم منها الجواز، ولا العدم إذ لا يلزم من ملازمة الشيء للشيء جواز وقوعه " ولا عدم وقوعه "
وأجاب الخطيب شمس الدين الجزري: بأن الآية خرجت مخرج التمدح، والتمدح لا يكون إلا بالممكن الوقوع.
 
114 - (ومن أظلم ممّن منع. .) وفي آية أخرى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى. .). فالجواب: بثبوت التساوي في المذكُورين.
116 - (بل له ما في السماوات. .). استدل به اللَّخْمِي على أن من
(1/272)
 
 
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
ملكه ابنه عتق عليه.
 
120 - (حتى تتَّبع ملتهم. .). حذف الأول؛ لدلالة الثاني.
- (ولئن اتبعت أهواءهم. .). يدل على نفي التحسين، والتقبيح عقلاً، وأن الحاصل للمُقَلِّد غير علْم.
 
124 - (بكلماتٍ. .). الزمخشري: " قيل: هي مناسك الحجّ كالطواف، والسعي، والرمي، والإِحرام، والتعريف " انتهى. يعني بالتعريف: الوقوف بعرفة.
- (لا ينال عهدي الظالمين. .). الزمخشري: " يدل على عدم صحة إمامة الفاسق ".
(1/273)
 
 
عزّ الدين بن عبد السلام: إذا تعارض الإِئتمام به أو ترك الصلاة في جماعة ائتم به.
(1/274)
 
 
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
125 - (للطائفين. .). يدل على أن الطواف للقادم أفضل.
129 - (العزيز الحكيم). مناسب؛ لأن بعثة الرسول فيهم تشريف لهم، وموجب لعزتهم.
133 - (أم كنتم. .). ابن عطية: (أم) بمعنى: الهمزة.
أبو حيّان: " لم أقف، لأحد من النحويين أن (أم) يستفهم بها في صدر الكلام.
ابن هشام:. " زعم أبو عبيدة: " أن (أم) قد تأتي بمعنى الاستفهام المجرد، فقال: في قول الأخطل:
(1/275)
 
 
كذبتْك عينُك أم رأيت بواسط ... غلس الظَّلام من الرّباب خيالا؟
أن المعنى: هل رأيت؟.
وأجاز الزمخشري وحده حذف ما عطف عليه " أم " فقال في (أم كنتم شهداء): يجوز كونُ " أَمْ " متصلة على أن الخطاب، لليهود، وحَذَفَ معادلَها أي: أتدَّعُون على الأنبياء اليهوديةَ، (أم كنتم شهداء).
وجوّزه الواحدي أيضا، وقدَّر: أَبَلَغَكُم ما تنسبون إلى يعقوب من إيصائه بنيه باليهودية، (أم كنتم شهداء).
(1/276)
 
 
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
134 - (ولكم ما كسبتم. .)، معطوف على الحال فهو حال لكن الأولى محصَّلة، وهذه مقدَّرة، وبهذا يجاب عن استشكال أبي حيان.
136 - (قولوا آمنا. .) يدل على صحة قول القائل: " أنا مؤمن " دون تقييد بـ إن شاء الله، والكلام على ذلك يأتي - إن شاء الله - في سورة آل عمران.
- (وما أوتى. .) عبّر أولًا: بـ " الإِنزال "، وثانيا: بـ " الإِيتاء "؛ لأن معجزة من ذكر معه الإِنزال معظمها الوحي، ومن ذكر معه الإِيتاء ما ظهر على يديه من المعجزات الفعلية.
(1/277)
 
 
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
143 - (لتكونوا. .). جعل أبو حيان اللام للصيرورة، ولا يصح؛ لأن الفاعل هو الله تعالى بخلاف قوله: (فالتقطه آل فرعون. .).
144 - (وحيثما كنتم. .) يدل على جواز الصلاة في الحمام إذا كان الموضع طاهرًا.
146 - (كما يعرفون أبناءهم. .). لم يشبه بمعرفة أنفسهم للمشاكلة؛ لأن الولد منفصل عن أبيه كانفصال الكتب عنهم.
(1/278)
 
 
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
وأجاب ابن عطية: " بأن الإِنسان مضى له زمن لا يعرف فيه نفسه، وهو زمن الصغر بخلاف معرفته ولده ".
- (وإن فريقًا منهم. .). المراد بهذا الفريق: من لم تعرض له شبهة،
وغيرهم عرضت له الشبهة، وكلهم عالم، فلا إشكال في فهم الآية.
 
158 - (فلا جناح عليه. .). قول الزمخشري: " يدل على كون السعي تطوعا ".
يردّ بأن رفع الجناح قدر مشترك بين الواجب وغيره. في مسلم في " كتاب الحج " استدلال عائشة رضي الله عنها على وجوب السعي بالآية (فلا جناح عليه).
(1/279)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
161 - (الملائكة. .). إن قلت: ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)؟.
قلت: معناه: (لَا يَفْتُرُونَ) عن العبادة، وفي آية أخرى (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. .).
 
164 - (من كل دابة. .). العموم في الأنواع، والتبعيض في الأشخاص، فلا تناقض.
(1/280)
 
 
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
168 - (كلوا. .). إمّا للامتنان إن قلنا: الأصل للإِباحة وإلّا فللإِباحة، وهو أولى؛ لأنها حقيقة فيها على رأي بعض الأصوليين، وهي في الامتنان مجاز اتفاقًا.
169 - (ما لا تعلمون). الفقيه يعلم أنه يجب عليه العمل بما ظنه، فقد قال: " على " الله ما يعلم.
(1/281)
 
 
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
173 - (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. .). قال شيخنا: " ما ذبح " للجانِّ " تبركًا أو إكراما ". إن قُصِد به التبرك لم يؤكل، وإن قُصد به الإكرام، والضيافة أكل.
(1/282)
 
 
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
وكذا ما يذبح في مائة.
 
177 - (واليوم الآخر. .). قُدِّم مع " الكتاب " على " النبيين "، وإن عُلِم ذلك من قِبَلهم؛ لأنه المقصود.
- (وفي الرقاب. .). أتى بـ (في) دون ما قبله؛ لأن (الرقاب) لا يعطاهم ذلك؛ لأنفسهم، بل يُؤدَّى عنهم؛ ليعتقوا بخلاف غيرهم فإنه يأخذ ذلك، ويتصرف فيه.
 
179 - (ولكم في القصاص حياة. .). انظر: الطيِّبي في " التبيان ".
(1/283)
 
 
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
180 - (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا. .). هو " فعل " لا " أفعل "، فلا يؤخذ منه أفضلية الغنى.
186 - (فليستجيبوا. .). قُدِّم على الإِيمان؛ لأن النظم سابق.
187 - (أُحِلَّ. .). يدل على أن الأصل الحظر.
- (هُنَّ لِبَاسٌ. .). قُدِّم؛ لأنه المقصود.
 
190 - (الذين يقاتلونكم. .). إن قلت: ما أفاد، وهو معلوم من (وقاتلوا)؟.
قلت: أفاد أنهم لا يقاتلون إلا من بدأهم.
- (لا يحب المعتدين). نفى المحبَّة تقتضي الذم الدال على التحريم، وهذا كقول النحاة " لا حبَّذا " ذم.
(1/284)
 
 
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
191 - (واقتلوهم حيث ثقفتموهم). . . يخصصه تخيير الإِمام في الوجوه المعلومة.
- (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام. .). ابن العربي في كتابه " تلخيص التلخيص ": " كنت بالبيت المقدس في مدرسة ابن عقبة في مجلس القاضي الزنجاني من أئمة الحنفية [فبينا] نحن في أثناء التدريس، والشيخ مستند وهده لا يوازيه أحد من الطلبة كعادته طلع على المجلس رجل عليه أخلاق صوف دسمة فسلم ثم تخطى إلى أن وازى الشيخ فجلس بجنبه فلمحه الحاضرون إنكارًا، فسأله الشيخ عن حاله أحسن سؤال ثم قال له: من الشيخ على عادتهم في تعظيم المخاطبة؟.
فقال: رجل من الطلبة " قصد " زيارة الخليل فسلب في القافلة.
وقد كان سُلبت بالأمس قافلة بالموضع المذكور. فقال الشيخ للطلبة: سلوه برأيه. على عادتهم في مبادرة القادم بالسؤال على طريق المبرّةِ، والإِجلال.
فقال له بعض الطلبة: ما يقول الشيخ الإِمام في الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يعصمه أم لا؟.
فقال: يعصمه.
فقال له القاضي، وكان الشيخ حنفيا: هذه مبرّة.
فقال له السائل: ما الدليل؟.
(1/285)
 
 
قال له: قول الله تعالى: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ. .)، قرئ (ولا تقتلوهم)، وقرئ (ولا تقاتلوهم)، فإن كان الاستدلال بقراءة (ولا تقتلوهم)، فهو نص في المسألة، وإن كان بقراءة (ولا تقاتلوهم) كان تنبيهًا جليًّا، لأنه إذا نهُى عن القتال المفضي إلى القتل، فأولى عن القتل. فأبْهَت الحاضرين مقالُه، وصارت الجُبَّةُ الدسمة في أعينهم كالحلة الوسمة، وعجَّز السائل.
وذهب القاضي على العادة فقال: لا حجة في هذه الآية؛ لأنها
منسوخة بقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. .) الآية.
فقال له المستدل المذكور: أنا أُجل مرتبة القاضي الإمام عن أن يفوه بمثل هذا الكلام، كيف ينسخ العام الخاص، والخاص هو الذي يقضي على العام. فبهت القاضي، ولم يقل شيئًا. هذا هو الشيخ الإِمام أبو علي الصاغاني من أهل ما وراء النهر.
(1/286)
 
 
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
وحكى أبو الوليد الباجي عن أبي حنيفة: أن العام ينسخ الخاص. ولم يذكر هذا غيره.
والجواب عن تعلق أبي حنيفة بهذه الآية أن المراد بها قريشًا، فزال حكمها بزوالهم يدل على ذلك صدر الآية.
- (كذلك جزاء الكافرين). " مختصر " أبي حيان: (جزاء) مبتدأ؛ لأنه المعرفة. يريد: أن الكاف بمعنى: مثل. وإضافته غير محضة.
 
193 - (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ. .)، وفي الأنفال (كله) آية: 39.
أجاب الفخر: " بأن هذه خاصة بقتال قوم مخصوصين، وهم أهل مكة، ولا يحصل بذلك الدين في كل البلاد، وآية الأنفال عامة؛ لأن قبلها (قل للذين كفروا. .) " آية: 38.
(1/287)
 
 
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
196 - (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ. .). لا يدل على وجوب العمرة؛ لأن من دخل في نافلة وجب عليه إتمامها.
- (فمن كان منكم مريضًا. .). كالاستثناء من قوله: (ولا تحلقوا)، فيدل أن العام في الأشخاص عام في الأزمنة، والأحوال.
 
200 - (فَإِذَا قَضَيْتُمْ. .). قول الزمخشري: أي فرغتم من عبادتكم.
يدل أن القضاء يطلق على الأداء، فلا حجة للفقهاء في قوله عليه السلام: " وما فاتكم فاقضوا. . "، على أن ما يأتي به المسبوق قضاء، ومثل هذه الآية (فإذا قضيتم الصلاة. .).
- (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا. .). الطِّيبي: قول الزمخشري: على أن (ذِكْرًا) من
(1/288)
 
 
فعل المذكور أي: يكون المصدر من " ذُكِر " المجهول لا من " ذَكَرَ ". المعروف.
قال المصنف: المصدر يأتي من (فُعِل) كما يأتي من (فَعَلَ)، كقوله تعالى: (من بعد غَلَبهمْ. .). المعنى: من بعد كونهم مغلوبين. فكذلك قوله: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)، معناه: أو قومًا أبلغ في كونهم مذكورين.
وقدَّر القاضي: أو كذكركم أشد مذكورًا من آبائكم.
وقال ابن الحاجب في " الأمالي ": " قوله: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)، في موضع جرّ عطفًا على ما أضيف إليه الذكر في قوله: (كذكركم. .). فيه نظر لما يلزم منه العطف على المضمر المخفوض، وذلك لا يجوز عنده، وردّ قراءة حمزة أقبح ردّ أي في (تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ. .)،
(1/289)
 
 
بالجر. وكذا في قوله: أن (ذِكْرًا) من فعل المذكور، لما يؤدي إلى أن يكون (أفعل) للمفعول، وهو شاذ، لا يرجع إليه إلا بثبت. و (أفعل) لا يكون إلا للفاعل كقولهم: " هو أضرب الناس "، على أنه فاعل للضرب سواء أضفته أو نصبت عنه تمييزًا.
(1/290)
 
 
والوجه أن يقدر جملتين أي " فاذكروا الله ذكرًا مثل ذكر آبائكم، أو " اذكروا الله في حال كونكم أشد ذكرًا من ذكر آبائكم "، فتكون الكاف نعتًا لمصدر محذوف، و (أشدَّ) حالًا، وهذا أولى؛ لأنه جرت الكاف على ظاهرها، ولا يلزم ما ذكروه من أن المعطوف يشارك المعطوف عليه في العامل؛ لأن ذلك من المفردات.
وقلت: نظر المؤلف إلى التوافق بين المعطوف، والمعطوف عليه وإلى جعلهما من عطف المفرد على المفرد لا من عطف الجملة على الجملة؛ لأن جعل أحدهما مصدرًا، والآخر حالًا له عامل آخر مما يؤدي إلى تنافي النظم. وذكر مثله في قوله تعالى: (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً. .).
أما الجواب عن الأول فإنه ورد في النساء العطف على المضمر المجرور. لغلبة شدة الاتصال، وصُحِّح نحو: " مَررتُ بزيد وعمرو ": لضعف الاتصال.
(1/291)
 
 
وهنا إضافة المصدر إلى الفاعل، وهو في حكم الانفصال، على أن من الجائز أن يكون الفاصل بين المعطوفين هو المصحح، للعطف كما في العطف على المرفوع المتصل.
وذكر ابن الحاجب في " شرح المفصَّل ": " أن بعض النحويين يجوزونه في المجرور بالاضافة دون المجرور بحرف الجرّ؛ لأن اتصال المجرور
(1/292)
 
 
بالمضاف ليس كاتصاله بالجارة لاستقلال كل منهما بمعناه ثم استشهد بالآية.
وعن الثاني أنه إنما يلزم ذلك أن لو كان " أفعل " من " الذكْر " وبُني منه، بل إنما يُبْنى ممّا يَصُح بناؤه منه الفاعل وهو (أشد). وجعل (ذكرًا) الذي بمعنى: " المذكور " تمييزًا كأنه قيل: " أشد مذكورًا ". وهو إذن مثل سائر ما يَمْتَنعُ بناؤه، نحو: " أقبح عذرًا، وأكثر شُغْلًا ". وفيه بحث. انتهى.
قال شيخنا: وهذا الموضِع من الطيِّبيِّ هو سبب نسخه بتونس، لأنه بين كلام الزمخشري بيانًا حسنا، وكان يَبعُد فَهْمُه.
(1/293)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
208 - (ادخلوا في السِّلم. .). الزمخشري: " دوموا على الإِسلام فيكون أمرًا للمؤمنين ". انتهى.
فيؤخذ من الآية أن من حلف لا دَخَلَ عليَّ فلان بيتًا، فدخل المحلوف عليه على الحالف حنث الحالف إن لم يخرج مكانه.
 
216 - (وعسى. .). جعل أبو حيان الأولى للإشفاق، والثاني للترجي ". والمناسب العكس؛ لأن الأول خير.
- (وأنتم لا تعلمون). إن جُعِلَ عدولًا ترجح العطف، أو سلبًا ترجح الحال.
(1/294)
 
 
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
أبو حيان عن بعضهم: " كل (عسى) في القرآن واجبة بمعنى أنها تدل على الوقوع إلا قوله تعالى: (عسى ربه إن طلقكُنَّ. .). انتهى.
وهذه أيضا واجبة؛ لدلالتها على وقوع ما دخلت عليه، وهو الملازمة بين الشرط والجزاء.
 
217 - (وَمَنْ يَرْتَدِدْ. .). في تنزيل. لم يقيد بالموت على الكفر، فقيل: يردّ المطلق للمقيد.
ورُدَّ بأن تلك خاصة بالمخاطب، وهذه عامة، والخاص يقضي على
العام.
(1/295)
 
 
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
وأجيب: بأن المراد بتلك: العموم أيضا.
وقيل: ذكر هنا وصف " الخلود "، وثمَّ وصف " الخسران ". ورُدَّ بأن الكلام في إحباط العمل، وهو في الآيتين معا. قلت: " قد " تقرر أن الشرطية تتعدّد بتعدُّد أجزاء تاليها، فكل منهما شرطيتان.
 
221 - (حَتَّى يُؤْمِنَّ. .). " إن قلت: ما أفاد، ومعلوم جواز نكاح المؤمنة؟.
قلت: هو حث لهنّ على الإِيمان؛ لميلهنّ إلى النكاح، والنهي في قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا. .)؛ للتحريم. ففيه ردّ على ابن بشير في بحثه مع اللَّخميِّ في قوله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا. .).
(1/296)
 
 
قال: إن النهي إذا كان للتحريم فضدّه الأمر للوجوب.
فيقال له: النهي عن نكاح المشركات، للتحريم، وهو إذا أسلمن مباح لا واجب، فليس تحريم نكاح المشركات مقتضيًا، لوجوب نكاح المؤمنات.
والجواب عن هذا أن تقول: قول ابن بشير: إذا كان النهي للتحريم فضدّه الأمر للوجوب. صحيح، لكن ما لم يعارض معارض، كما أن الأمر للوجوب ما لم تكن قرينه تدل على الندب، وهنا قد جاء الأمر بالنكاح صريحًا. قال تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء. .)، وفي الحديث: " من استطاع منكم الباءة فليتزوج. . ".
والأمر الصريح ظاهره الوجوب، فحملوه على الندب، فإذا كان الأمر الصريح بالنكاح مصروفًا عن ظاهره، فأحرى الأمر المفهوم من النهي.
- (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا. .). هل المراد تُنكحوهم المسلمات أو تكونوا أولياء في إنكاحهن، فيدل على وجوب الولي في النكاح إذ لو لم يكن
(1/297)
 
 
واجبًا لما تعلق النهي.
وقال ابن الحاجب: " هذا مما بقي علي عمومه ".
وردّه السطِّى بأحد الأقوال بجواز تزويج المسلم أخته النصرانية من نصراني.
(1/298)
 
 
قال شيخنا: وظهر لي أن الذي بَقِي على عمومه قوله تعالى: (فصيام ثلاثة أيام في الحج. .)، إن أخرها يوم عرفة، ثم ظهر لي أنه مخصوص بالمريض، وشبهه.
- (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ). . في الآية سؤال، وهو أن يقال: " اكتفى في الأول بقوله: (إلى النار)، ولم يقل: إلى النار، والكفر، أو إلى النار والعذاب. وقال في الثاني: (إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ)، مع أن دخول الجنة يستلزم (المغفرة)، كما أن النار تستلزم الكفر، والعذاب، فذكر اللازم في الأول دون الثاني "؟.
الجواب عنه أن دخول الجنة تارة يكون أوليًا، وتارة يتقدمه دخول النار، فقوله: أولاً (يدعو إلى الجنة)، أعم من أن يدخلها المكلف أولاً، أو بعد دخول النار.
وقوله: ثانيا (والمغفرة): يتناول من اقترف الذنوب، فغُفِرَ له فلم يدخل النار بوجه، وأُدخل الجنة.
(1/299)
 
 
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
فإن قلت: وكذلك من دخل النار ثم أُخْرِج منها مغفور له؟. قلت: المغفرة في حق هذا أجلي، وأظهر منها في الآخَر، وقدم الجنة على المغفرة؛ لنفع الدلالة على المغفرة مرتين أولًا: باللزوم، وثانيًا: بالمطابقة.
 
222 - (ويسألونك عن المحيض. .) ظاهره وقوع السؤال من جماعة.
وقال ابن عطية: السائل واحد. فكيف يُفْهم مع الآية إلا أن يقال المباشرة بالسؤال واحد، وغيره يسأل، ولم يباشر بالسؤال، فيكون على هذا من باب إطلاق اللفظ، واستعماله في حقيقته، ومجازه.
الزمخشري: إن قلت: ما بال (يسألونك) قد جاء بغير واو ثلاث مرات، ثم مع الواو ثلاثًا؟.
فأجاب: بأن سؤالهم عن تلك الحوادث. الأول وقع في أحوال متفرقة، فلم يؤت بحرف العطف، فكان كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ. وسألوا عن الحوادث الأُخر في وقت واحد، فجىء بحرف العطف، لذلك، كأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عن الخمر، والميسر، والسؤال عن الانفاق، والسؤال عن كذا، وكذا. وهذا بناء منه على أن الواو تفيد الجمع في الزمان، وعدم المهلة، وهو خلاف قول المحققين.
(1/300)
 
 
ومذهب المحققين: أنها تفيد الاشتراك في الفعل، ولا تقتضي إثبات المهلة، ولا نفيها، ولا إثبات الترتيب، ولا نفيه بخلاف الفاء فإنها صريحة في الترتيب، و " ثم " صريحة في المهلة.
قال ابن هشام: " الواو العاطفة معناها: مطلق الجمع، فتعطف الشيء على مصاحبه نحو: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ)، وعلى سابقه نحو: (ولقد أرسلنا نوحًا وإبراهيم. .)، وعلى لاحقه نحو: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ)، وقد اجتمع هذان في (ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى).
فعلى هذا إذا قيل: " جاء زيد وعمرو "، احْتُمِل ثلاثة معان. قال ابن
مالك: وكونها للمعية راجح؛ وللترتيب كثير، ولعكسه قليل. انتهى.
ويجوز أن يكون بين متعاطفيها تقاربٌ أو تراخٍ نحو: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، فإن الردّ بعد إلقائه في اليمِّ، والإِرسال على رأس أربعين سنة. وقول بعضهم: إن معناها الجمع المطلق
(1/301)
 
 
غير سديد، لتقييده الجمع بقيد الإطلاق، وإنما يُبْنى، للجمع لا بقيد.
وقال السيرافي: " إن النحويين، واللغويين أجمعوا على أنها لا تفيد الترتيب ". مردود، بل قال: بإفادتها إياه " قطرب، والرّبعي،
(1/302)
 
 
والفراء،، وثعلب، وأبو عمر الزاهد، والشافعيِّ، ونقل الإِمام في " البرهان " عن بعض الحنفية: " أنها للمعية ".
- (قُلْ هُوَ أَذًى. .). استدل به ابن سرور على أن أقل الحيض لا حدّ له خلافًا لِمَنْ ذهب إلى أن أقله ثلاثة أيام، وهم الكوفيون. أو يوم وليلة، وهو الشافعي، والطبري.
(1/303)
 
 
قال: ووجه الدليل من الآية ثلاثة أوجه:
الأول: أنه اقتصر في جوابهم على سؤالهم عن الإِخبار بأنه (أذى) ومن شرط الجواب أن يكون مطابقًا للسؤال، وذلك يقتضي أن يكون كل أذى حيض؛ لأنهم سألوا عن المحيض، فأخبروا بأنه أذى، والأذى يطلق على القليل، والكثير، فلولا أن يسيره حيض لما صحَّ الجواب. وهذا الوجه الذي ذكر ضعيف؛ لأنه لا يلزم مطابقة الجواب للسؤال من جميع الوجوه.
قال: الوجه الثاني: أنه تعالى أمرنا باعتزالهن في حال الحيض، وعلق الأمرِ باعتزالهن على شرط وجوده، فلا بدّ من أن يكون لنا ما نعلم به كونهن حِيْضَا؛ ليصبح منا إمْتثال الأمر بالإعتزال، ويكون ذلك قبل أن ينقضي وقته، فلو كان محدودًا بثلاثة أيام لما عَلِمْتَ في ابتدائه هل يدوم ثلاثة أيام، فيكون حيضًا مانعًا من الصلاة، أو أقل فلا يمنع فيؤدى إلى تكليف مالا يطاق.
أما إذا قلنا: أول دم تراه ولو دفعة، فهو حيض أمكن اعتزالهن، وسقوط التكليف عنهن.
الثالث: أن السؤال وقع عن الحيض، والحيض هو السيلان، فأول دم تراه يتناوله الاسم؛ لصدق السيلان عليه.
(1/304)
 
 
- (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ. .). أجاز ابن بُكَير، والعراقيون وطىء الحائض إذا طهرت، ولم تغتسل.
قال ابن يونس: واستدل بثلاثة أوجه:
الأول: قوله: (حَتَّى يَطْهُرْنَ)، فعلَّق المنع بغاية، ومن شرط الغاية أن يكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها.
الثاني: أن الحكم إذا تعلق بعلة وجب زواله بزوالها، والعلة هنا وجود الدم، فوجب أن يجوز الوطىء إذا ارتفع.
(1/305)
 
 
الثالث: أن الحيض قد زال، ولم يبق إلا الغسل، فوجب وطئها كالجنب.
قال ابن بُكير: " ورواية أشهب عن مالك في " العتبية ": " من أنه لا يجبر زوجته النصرانية إذا طهرت على الغسل من الحيض ". يدل على أنه يجوز له الوطىء قبل الغسل.
وردَّه ابن رُشد: " بأنه إنما جاز له وطؤها قبل أن تغتسل؛ لأنه لا يجب الغسل عليها على القول بأن الكفار