التفسير الوسيط للزحيلي 004

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب : التفسير الوسيط للزحيلي
المؤلف : د وهبة بن مصطفى الزحيلي
 
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
وسطوع بيانه، وهذه الفئة تتمثل بمن عرفوا بالمشركين الوثنيين، إنهم يرون الحق ويعرفونه، ومع ذلك يعارضونه ويبتعدون عنه، فلا ينفعهم ترغيب أو تذكير بنعمة، ولا يرهبهم عذاب أو عقاب، حتى وإن رأوا أماراته واقتربت ساعاته، قال الله تعالى موضحا موقف المشركين المكيين من دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإصرارهم على الشرك، وترك دعوة الحق:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 77]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
«1» «2» »
«4» «5» [المؤمنون: 23/ 75- 77] .
هذا وصف دقيق لحال غريبة هي حال المشركين في مكة، فإنه لا حق لهم على الإطلاق في معاداة دعوة النبي محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم وكفرهم به، وبالقرآن الذي أنزل عليه، تشريفا لهم وتكريما، وهداية لهم، ونورا، وتبيانا.
وهم في أسوأ موقف، لا ينفعهم الترغيب والإنعام، ولا يرهبهم التهديد بالعذاب، فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم لو أزال عنهم القحط، ومنّ عليهم بالخصب، ورحمهم وأمدهم بالنعم، وأفهمهم القرآن، لما آمنوا به، ولما انقادوا له، ولتمادوا في ضلالهم، واستمروا في عنادهم وطغيانهم، وظلوا متحيرين مترددين، لا يعرفون ماذا يصنعون. كما قال الله تعالى فيهم: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) [الأنفال: 8/ 23] .
وهذه الآية نزلت في المدة التي أصابت فيها قريشا السنون الجدبة والجوع الذي
دعا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: اللهم سبعا كسني يوسف، وهو متفق عليه بلفظ «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» .
__________
(1) لتمادوا في ضلالهم.
(2) يتحيرون.
(3) فما خضعوا.
(4) ما يتذللون لله تعالى.
(5) يائسون متحيرون.
(2/1707)
 
 
أخبر الله تعالى عن المشركين أنهم أيضا لا يرهبهم التهديد بالعذاب، فلقد ابتليناهم بالمصائب والشدائد، ونالهم من الجوع والقحط، فظلوا في استكبارهم وطغيانهم، فما تركوا الكفر والمخالفة، وما عدلوا عن غيهم وضلالهم، وما خشعوا لربهم ولا خضعوا له ولا تواضعوا لعظمته، وما دعوا ولا تذللوا، كما جاء في آية أخرى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام: 6/ 43] .
وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ هو الجوع والجدب الذي نزل بهم، حتى أكلوا الجلود وما جرى مجراها، وقوله سبحانه: فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ معناه: ما انخفضوا وتواضعوا، أي فما طلبوا أن يكونوا لربهم أهل طاعة، وعبيد خير. روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: «إذا أصاب الناس من قبل الشيطان بلاء، فإنما هي نعمة، فلا تستقبلوا نعمة الله بالحميّة، ولكن استقبلوها بالاستغفار، واستكينوا وتضرعوا إلى الله» وقرأ هذه الآية: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ.
ثم أخبر الله تعالى بخبر ثالث عن المشركين، فذكر أنه إذا جاءهم أمر الله، وجاءتهم الساعة فجأة، فنالهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون، أيسوا من كل خير، ومن كل راحة، وانقطعت آمالهم، وخاب رجاؤهم. والمبلسون: الآيسون المتحيرون الذين لا يدرون ماذا يصنعون.
وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ ذكر بعضهم أنه يوم بدر حيث انهالت عليهم السيوف، والصواب: أنه توعد بعذاب غير معين، لأن إصابة قريش بالمجاعة والجدب إنما كان بعد وقعة بدر.
وهذه الأخبار الثلاثة التي تضمنتها الآيات الكريمة تصور ألوان العناد والاستكبار الذي استبد بعقول قريش، فإنه لا يفلح معهم أي لون من ألوان التربية،
(2/1708)
 
 
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
لا بالخير والإحسان، ولا بالشر والانتقام، فتراهم إذا أنعم الله عليهم ورحمهم، تمادوا في طغيانهم، ولو كشف الله ما بهم من ضر، أي قحط وجوع، لتمادوا في ضلالهم أيضا، ولقد تعرضوا للعذاب بالجوع والمرض والحاجة، فما خضعوا لربهم وما خشعوا له، وما تضرعوا بالدعاء لله تعالى في الشدائد التي تصيبهم، إنهم قوم متمردون، وأناس مستبدون، وقوم مصرون على الكفر والشرك والضلال، فلا غرابة إن عذّبوا أشد العذاب.
التذكير بالنعم الإلهية
تتعدد الأساليب التربوية التي انتهجها القرآن الكريم في حمل الناس على الإيمان بالله وحده لا شريك له، وترك عبادة الأصنام والأوثان، وتتكرر بين حين وآخر المذكّرات بألوان النعم التي هي في الوقت نفسه دليل باهر على عظيم قدرة الله تعالى، وأن هذه القدرة لا يعظم عنها أمر البعث، وجمع المخلوقات في محشر واحد، للحساب والجزاء، ونصب ميزان العدالة المطلق بين الناس جميعا، من غير بخس ولا زيادة، ولا حرص على العذاب والانتقام، وإنما من أجل إحقاق الحق، وإبطال الباطل، قال الله تعالى في تعداد نعمه على الناس وموقف الناس منها، وإنكارهم قدرة الله على البعث:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 83]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
«1»
__________
(1) خلقكم.
(2/1709)
 
 
«1» [المؤمنون: 23/ 78- 83] .
هذان موقفان متباينان غريبان: موقف الإله المنعم المتفضل بالمدد والعطاء الدائم، وموقف الكفرة في مواجهة ذلك بإنكار قدرة الله على البعث وإقامة القيامة العظمى.
أما الموقف الإلهي: فمستمد من الواقع المحسوس، حيث يذكّر الله عباده بالنعم القريبة منهم، الحسية المشاهدة لهم: وهي إقدارهم على السمع والبصر والفؤاد، أي العقل والفهم، لتمييز الأشياء، والاعتبار بما في الكون من آيات وعبر تدل على قدرة الله ووحدانيته، وأنه الفاعل المطلق لما يشاء. وأما موقف البشر: فهو موقف غريب عجيب، لا يتفق مع أفضال الله ونعمه.
لقد أمدكم الله أيها البشر بنعمة السمع لسماع الأصوات، والبصر لرؤية الأشياء، والفؤاد، أي العقل لفهم الأمور، وإدراك الحقائق المؤدية إلى تحقيق المنافع الدنيوية والأخروية، وخص الله تعالى هذه النعم الثلاث بالذكر، لأنها مفاتيح المعرفة، وطرق الاستدلال بها على وجود الله وقدرته. غير أن الشاكرين من الناس قليلون، فإنهم لم يشكروا الله على نعمه العظيمة، وقابلوها بالجحود والإنكار، وقابلوها بالإعراض والابتعاد.
وقوله سبحانه: الْأَفْئِدَةَ يراد بها القلوب أداة الوعي، وهي إشارة إلى النطق والعقل، وقوله تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ نعت لمصدر محذوف تقديره: شكرا قليلا ما تشكرون.
ومن أدلة قدرته تعالى: أنه ذرأكم في الأرض، أي خلقكم ووزعكم في أجزاء الأرض بالتناسل، لعمارتها وتحضرها، وجعلكم متميزين مختلفين في الأجناس
__________
(1) أكاذيبهم المسطورة في كتبهم.
(2/1710)
 
 
والألوان، واللغات والصفات، ثم يوم القيامة يجمعكم جميعا بعد التوزع والتشتت لميقات يوم معلوم، فلا يترك صغيرا ولا كبيرا إلا أعاده كما بدأه، وله سبحانه الحكم وحده، لا راد لفعله، ولا معقب لحكمه. وقوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي إلى حكمه وقضائه، وهذه آية البعث.
ومن الأدلة على قدرة الله سبحانه: أنه هو الذي يحيي الإنسان والحيوان والنبات بعد العدم، ويميت الكائنات الحية بعد الحياة، وهذا أمر ملموس مشاهد، فيكون ذلك دليلا قاطعا واضحا على إحياء الناس من القبور، والانتقال إلى دار الثواب، بالإعادة أحياء مرة أخرى للجزاء، كما أحياهم بعد الإماتة للعمل والاختبار.
ومن الأدلة على القدرة الإلهية أن الله يجعل اختلافا بين الليل والنهار، والاختلاف هنا: التعاقب والكون خلفه، وذلك بنظام دقيق وزمان محدد. أفلا تتفكرون أيها الناس في هذه الأشياء، وتدركون حقيقة قدرة الله ووحدانيته.
ولكن الواقع خلاف ذلك: بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) أي ليس لكفار مكة وأمثالهم نظر في هذه الآيات، وقالوا كمن تقدمهم من الأولين كعاد وثمود، فأنكروا البعث واستبعدوه، وقالوا: هل إذا متنا، وصرنا ترابا وعظاما بالية، نعود إلى البعث والحياة؟! لقد وعدنا بالبعث، كما وعد أسلافنا من الآباء والأجداد مثل هذا الوعد في الزمان الغابر، على لسان الأنبياء السابقين، ولم يتحقق هذا الوعد مع طول العهد، فما يكون هذا الوعد بالبعث إلا أكاذيب وأباطيل المتقدمين، لقد توارثناها تقليدا وعادة، دون وعي للحقيقة، ولا دليل يثبت صحتها، وهذا بحسب زعمهم، وكأن هذا لغباوتهم يحدث في دار الدنيا، أي أن الإعادة سريعة وقائمة في حال الحياة التي يحيونها دون انتظار أجيال أخرى.
(2/1711)
 
 
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
مناقشة المشركين في عقائدهم
دحض القرآن الكريم ببيانه البليغ، وحجته القاطعة، مزاعم المشركين في إنكار البعث، وردّ على شبهاتهم ببراهين ثلاثة، مستمدة من إقرارهم بأشياء معينة، يلزم من الإقرار بها أن يؤمنوا ببارئ هذه الأشياء، وأن يذعنوا لشرعه ورسالة رسوله. وهذه الأشياء ركيزة الأدلة هي من الواقع المشاهد المتعلق بالأرض التي يعيش عليها الإنسان، والسماوات السبع المحيطة بالأرض، وبحقيقة مالك الأشياء والمتصرف بها ومدبرها أحسن تدبير. قال الله تعالى ذاكرا هذا اللون من النقاش الهادئ المثير:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 90]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)
«1» «2» «3» «4» [المؤمنون: 23/ 84- 90] .
هذه مناقشات لعقائد المشركين، تتضمن الرد عليهم لإثبات البعث والقيامة وهي:
1- قل أيها النبي الرسول لمنكري الآخرة: من مالك الأرض ومالك من فيها من الحيوان والنبات والثمرة، وغير ذلك من المخلوقات الأرضية، إن كنتم من أهل العلم بذلك؟ وقوله سبحانه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ توبيخ لهم، واستهانة بهم، وإعلان لجهلهم.
إنهم سيقرون على الفور وبحسب دلالة العقل بداهة بأن ذلك كله لله وحده ملكا وخلقا وتدبيرا.
__________
(1) الملك الواسع.
(2) يغيث ويمنع.
(3) أي يمنع غيره، ولا يمنع منه.
(4) فكيف تخدعون عن توحيده.
(2/1712)
 
 
فإذا أقروا بذلك، فقل لهم أيها الرسول: أفلا تتعظون وتتدبرون أن من خلق هذا ابتداء، قادر على إعادته انتهاء، وأنه لا تصح العبادة إلا للقادر على الخلق والإحياء، والإماتة والإنهاء!! 2- وقل أيها النبي الرسول أيضا لهم: من خالق السماوات السبع وما فيها من الكواكب النيرة، ومجموعات النجوم العظيمة، والملائكة في كل أنحائها، ومن خالق العرش العظيم ومن ربّه والمهيمن عليه؟ فالعرش يجمع بين صفتين: العظمة والكبر اتساعا وعلوا، والحسن والبهاء في الجمال.
إنهم سيعترفون على الفور وبالفطرة بأن ذلك كله لله وحده، ولا جواب سواه.
فقل لهم حينئذ: إذا كنتم تعترفون بذلك، أفلا تخافون عقاب الله، وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره، وإشراككم به سواه؟! وهذه الآية تدل على أن المشركين يعترفون لله بالربوبية، وأنه واحد فيها، ويشركون معه غيره في الألوهية، حتى عبدوا معه غيره مما لا نفع له ولا ضر.
وبما أن العالم العلوي والسفلي لله تعالى، فهو مدبر شؤونهما، فقل لهم أيها الرسول الكريم: من بيده الملك والتصريف والتدبير لشؤون الكون سمائه وأرضه، وبيده ملك كل شيء، وهو سبحانه يحمي ويجير، ويغيث ويمنع الآخرين، ولا يجار ولا يمنع منه، لأنه صاحب السلطان الأعظم، والمهيمن الأكبر، والسيد المطلق في الأكوان.
وكلمة مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الملكوت: مصدر في بنائه مبالغة كالجبروت والرهبوت.
والمراد من قوله تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أنه تبارك وتعالى إذا منع أحدا فلا يقدر عليه، وإذا أراد أحدا فلا مانع له، وكذلك في سائر قدرته، وما نفذ
(2/1713)
 
 
من قضائه، لا يعارض ذلك شيء، ولا يحيله عن مجراه، إنهم سيقرون بلا تردد بأن المالك المدبر للكون هو الله، لا غيره، فقل لهم مستغربا موبخا: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي فكيف تخدعون عن توحيد الله وطاعته؟! والخادع: هو الشيطان والهوى.
والواقع: ليس الأمر كما يقولون من نسبتهم إلى الله تعالى ما لا يليق به، فلقد جئناهم بالقول الحق، والدليل القاطع، والإخبار الصادق الثابت بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الدليل الصحيح على ذلك كله، ولكنهم مع كل ذلك لكاذبون فيما ذكروا لله تعالى من الصاحبة والولد والشريك، وفي إنكار الحق، وفي عبادتهم مع الله غيره، ولا دليل لهم على مزاعمهم الباطلة وعقائدهم الملوثة، إنهم حيارى تائهون، وجهلة بعيدون عن المنطق والعقل، وذلك كما جاء في آية أخرى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) [المؤمنون: 23/ 117] . فهؤلاء المشركون لا دليل على صحة عقائدهم، وإنما هم قوم مقلدون عن غير وعي ورشد، آباءهم وأسلافهم الضالين.
نفي اتخاذ الله ولدا
وقع العقل الوثني بسبب الوثنية في ألوان مختلفة من الخرافات والأوهام، ومن أخطرها نسبة الولد والصاحبة والشريك لله، وهذا فضلا عن كونه يتنافى مع حقيقة الألوهية والعقل والحكمة، هو مدعاة للفساد والخراب في العالم، لأن سلطان الألوهية يضعف ويفسد، وتنهار معه النظم الكبرى، وتتداعى المشكلات المدمرة إذا قلنا بتعدد الآلهة، لذا كان جوهر الرسالات الإلهية والنبوات والكتب السماوية إقرار مبدأ توحيد الإله، ورفض كل أنواع تعدد الآلهة ومزاعم الوثنية، قال الله تعالى معلنا مبدأ وحدة الألوهية والربوبية:
(2/1714)
 
 
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 92]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
[المؤمنون: 23/ 91- 92] .
هذه الآية نفي قاطع، وتنزيه واضح لله تعالى عن أمرين: هما اتخاذ الولد، واتخاذ الشريك، فلم يجعل الله لنفسه ولدا، كما زعم بعض المشركين، حين قالوا: الملائكة بنات الله.
ولم يكن مع الله إله آخر يشاركه في الألوهية أو العبادة، لا قبل خلق العالم، ولا بعد خلقه، كما تصور الوثنيون، حين اتخذوا الأصنام آلهة. وقوله تعالى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ دليل التمانع، فلو افترض احتمال تعدد الآلهة، لانفرد كل واحد منهم بما خلق، واستقل بما أوجد، وتميز ملك كل واحد منهم عن ملك الآخر، لأن استمرار الشركة مستحيل، لأنه يكون همّ كل واحد منهم أن يغلب الآخر، ويطلب قهره والتسلط عليه، لإظهار قوة القوي على الضعيف، كما هو حال ملوك الدنيا.
ولو حدث هذا التغالب وانقسام السلطة، لاختل نظام الوجود، ولفسدت السموات والأرض ومن فيهن، كما قال الله سبحانه: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 21/ 22] . ولو اختلف إلهان في إدارة، فمحال نفوذهما، ومحال عجزهما، فإذا انفردت إرادة الواحد، فهو العالي، والآخر ليس بإله.
والمشاهد دقة نظام الكون وكماله وانسجامه، وارتباط العالم العلوي بالعالم السفلي دون تصادم ولا اضطراب، كما قال تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 67/ 3] . وهذا دليل على وحدة الإله صاحب السلطان الواحد.
وقوله تعالى: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ إذن: جواب لمحذوف تقديره لو كان معه إله إذن لذهب كل إله بما خلق.
(2/1715)
 
 
ولما ثبت عقلا ومنطقا كون التعدد في الآلهة مستحيلا، وبطل قول المشركين في الأمرين معا: وهما اتخاذ الولد واتخاذ الشريك، قال الله تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزه الله الحق الواحد الأحد عما يقول الظالمون المشركون المتجاوزون الحدود في ادعائهم الولد أو الشريك لله.
وقوله تعالى: عالِمِ الْغَيْبِ اتباع لقوله قبل ذلك: سُبْحانَ اللَّهِ قال الأخفش: والجرّ أجود ليكون الكلام من وجه واحد. وقرئ «عالم الغيب» والمعنى:
الله هو عالم الغيب والشهادة، يعلم ما غاب عن إدراك الخلق من الأشياء، ويعلم ما يشاهدونه وما يرونه وما يبصرونه، فهو يعلم الأمرين معا على حد سواء، وهذا دليل آخر على نفي الشريك، لأن غير الله، وإن علم الشهادة، أي العالم المشاهد والموجودات المرئيات أمامه، فلن يعلم معها الغيبيات غير المرئيات، وهذا دليل النقص، والله متصف بالكمال، فلا يكتمل النفع بعلم الشهادة وحدها، دون العلم بالغيب، والغيب: ما غاب عن الناس، والشهادة: ما شهدوه.
وإذا كان الله تعالى عالم الغيب والشهادة على حد سواء فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي فتعالى وتقدس وتنزه الله عما يقول المشركون المفترون، الذين يشركون مع الله إلها آخر، وهذه الخاتمة تقديس مطلق لله عز وجل عن أي نقص من صاحبة أو ولد أو شريك، وإطلاق التقديس هو مضمون الألوهية الحقيقية.
الدعاء بالنجاة من عذاب الظلمة
تعهدت العناية الإلهية النبي صلّى الله عليه وسلّم بأتم أنواع الحماية من شرور الظلمة ومن أجل تماسك الشخصية، وإرساء معالم الدعوة إلى الله بالتزام موقف الصلابة، في صراع الأهواء، والاستعاذة من وساوس الشياطين، ومقابلة الإساءة بالإحسان، وتلك
(2/1716)
 
 
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)
إرشادات عالية، وتوجيهات وأوامر قويمة، لتحقيق النجاح في ممارسة أساليب الدعوة إلى الدين، وتحصين المسيرة الإيمانية من التعثر والانحراف، قال الله تعالى مبينا هذه الإرشادات والأوامر:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 98]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
«1» «2» «3» «4» [المؤمنون: 23/ 93- 98] .
هذه طائفة من الأوامر والتوجيهات الإلهية إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم معناها: قل أيها الرسول: يا رب إن أريتني ما تعد هؤلاء القوم المشركين من عذاب الدنيا والآخرة، فلا تجعلني فيهم، ونجني منهم، ولا تعذبني بعذابهم، لأنه قد يصيب العذاب غير أهله، كما جاء في آية أخرى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 8/ 25] .
إن هذا التوجيه بأن يدعو النبي لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة، إن كان قضي أن يرى ذلك، هو المنهج الذي أنفذه الله تعالى في أنبيائه ورسله حين ينزل العذاب بأقوامهم. والإرشاد إلى هذا الدعاء ليعظم أجر النبي، وليكون دائما ذاكرا ربه، ومعلما إيانا الاعتصام بالله تعالى في وقت المحنة والشدة.
ففي هذا الدعاء مصلحتان: استصحاب الخشية من الله، والتحذير من الأمر المعذّب من أجله، ونظيره لسائر الأمة دعاء في جودة الخاتمة. ويتضمن هذا الدعاء إعلاما بقرب العذاب من قريش، كما كان في يوم بدر.
__________
(1) إما مكونة من ((إن شرطية)) و ((ما)) زائدة، وتريني: جزم بالشرط، لزمته النون الثقيلة. [.....]
(2) قوله ثانيا ((رب)) اعتراض بين الشرط وجوابه.
(3) أعتصم بك.
(4) وساوسهم.
(2/1717)
 
 
ويؤكد الله تعالى اقتراب العذاب من هؤلاء، فيخبر سبحانه: لو شئنا لأريناك ما نوقعه بهم من النقم والبلاء والمحن، ولكنا نؤخره لوقت معلوم، لأن بعض ذرياتهم سيكون من المؤمنين الأصفياء.
والتوجيه الثاني: مقابلة الإساءة بالإحسان، فقابل أيها النبي السيئة بالحسنة، وتحمل ما تتعرض له من أنواع أذى المشركين وتكذيبهم، وادفع بالخصلة التي هي أحسن، بالصفح والعفو، والصبر على الأذى، والكلام الجميل، كالسلام، أي إنه أمر عليه السلام بالصفح ومكارم الأخلاق، لأن الله أعلم بحال القوم الضالين، وبما يصفون ربهم من الشرك والتكذيب. وهذا وعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، معناه اشتغل أيها النبي بدعوتك، وكل تعذيبهم والنقمة منهم إلينا.
والتوجيه الثالث: الاعتصام بالله، ومضمونه اعتصم بالله والتجأ إلى الله تعالى من وساوس الشياطين المغرية بالسوء والعصيان ومخالفة الأوامر، وتعوذ بالله وتحصن من حضور الشياطين في شيء من الأمور، فإنهم إذا حضروا كانوا معدّين للهمز، وهذا توجيه للتحصن من الشيطان في كل أمر وفعل، سواء في الأحوال العادية أو في سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، فإن النزعات وسورات الغضب هي من الشيطان. وهذه هي الحالة التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار، فتزيد الحمية من تعقيد الأوضاع، فإن كان هناك اعتصام بالله، والتجاء إليه وتعوذ من الشيطان، خفّت الأزمة، وبرزت الحكمة، والهمزات: جمع همزة، والهمز: النخس والدفع والإثارة، أو الوخذ باليد وغيرها.
وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يلتزم هذا التوجيه في كل الأحوال،
أخرج أبو داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من الهدم ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان
(2/1718)
 
 
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
عند الموت» .
وفي مصنف أبي داود ومسند الإمام أحمد: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان: همزه ونفخه ونفثه» .
قال أبو داود: وهمزه: الموتة وهي الجنون، ونفخه: الكبر، ونفثه: السّحر.
إن هذه التوجيهات للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء من النجاة من عذاب الظلمة، ومقابلة الإساءة بالإحسان، والتعوذ من الشيطان لطرده في كل حال، توجيهات لأمة النبي أيضا ولكل من أراد الخير لنفسه ولغيره.
موازين الحساب يوم القيامة
الحياة في الدنيا: هي مجال العمل والاختبار والتسابق في الخيرات، وفيها ما يحقق النجاة أو الهلاك، وأما الآخرة فهي دار الجزاء والحساب على الأعمال خيرها وشرها، وكما يزرع الإنسان يحصد، ولا مجال لتعديل الأحوال، وإعطاء الفرصة لإصلاح الأعمال في عالم الآخرة، فإن ميزان النجاة قائم على الحق والعدل المطلق، فمن رجحت حسناته على سيئاته، كان من المفلحين، ومن طغت سيئاته على حسناته، كان من الهالكين الخاسرين، وليس هناك ميزان للعدالة أدق ولا أعظم ولا أفضل من هذا الميزان، قال الله تعالى مبينا سلفا للناس هذه الأحوال:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 104]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104)
«1» «2»
__________
(1) حاجز دون الرجعة.
(2) الصور: بوق ينفخ فيه نفختان: الأولى ليموت الناس، والثانية ليعودوا أحياء.
(2/1719)
 
 
«1» «2» [المؤمنون: 23/ 99- 104] .
«حتى» ابتداء كلام وإخبار عن حال جديدة: هي حال المحتضر عند الموت من عصاة المؤمنين والكافرين الجاحدين. والمعنى: إذا دنا أجل الإنسان الكافر أو العاصي المفرط في حقوق الله تعالى، ورأى ما ينتظره من العذاب، طلب الرجوع إلى الدنيا، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته، ويتدارك ما فاته من خير، وما قصّر فيه من الأعمال الصالحة.
فيأتيه الردع والزجر من الله بكلمة «كلا» أي لا إجابة لطلبه، وتلك كلمة لا بد من أن يقولها كل محتضر، تعبيرا عن الندم، لأنه لا فائدة من الرجعة، فلو ردّ لعاد لما كان عليه، وكذب في هذه المقالة، كما جاء في آية أخرى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام: 6/ 28] ويكون أمام هؤلاء الظلمة برزخ، أي حاجز مانع ما بين الدنيا والآخرة، يمنع من العودة إلى عالم الدنيا. وهذا تهديد ووعيد بعذاب البرزخ، والمراد من البرزخ، هنا بإجماع المفسرين: المدة التي بين موت الإنسان وبين بعثه، وجملة إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها إشارة إلى أن المحتضر لو ردّ لعاد، فتكون الآية آية ذمّ لهم.
وإذا نفخ في الصور (القرن الهائل) النفخة الثانية، وهي نفخة النشور، وقام الناس من القبور، فلا تنفعهم الأنساب والأحساب والقرابات، على الرغم من وجود التعاطف والتراحم والنسب، لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم، ولا يتمكن القريب أو الصديق من سؤال قريبه أو صديقه، وهو يبصره. لأن هول المطلع يشغل كل امرئ بنفسه، فلا أنساب نافعة، وإنما النافع: هو العمل الصالح.
__________
(1) تحرق.
(2) كالحون: عابسون متقلّصو الشفاه عن الأسنان.
(2/1720)
 
 
وميزان الحساب واضح، فمن رجحت حسناته على سيئاته، ولو بحسنة واحدة، فأولئك الذين فازوا بالمطلوب، فنجوا من النار، وأدخلوا الجنة. ومن ثقلت سيئاته، وطغت على حسناته، فأولئك الذين خابوا وهلكوا، وباءوا بالخسران، بأن صارت منازلهم للمؤمنين، وكان عذابهم ذا صفات ثلاث:
إنهم في جهنم ماكثون على الدوام، مقيمون فيها إلى الأبد، وهذا دليل تخليد الكفار في النار، وتحرق النار وجوههم، وتأكل لحومهم وجلودهم، وهم في النار عابسون، متقلصو الشفاه عن الأسنان. والموازين: هي الأعمال، ومعنى الوزن:
إقامة الحجة على الناس بالمحسوس على حسب عادتهم وعرفهم، ولفح النار: إصابة الوجوه بالوهج والإحراق. والكلح: انكشاف الشفتين عن الأسنان، وهذا يعتري الإنسان عند المباطشة وعند الغضب.
إن تصوير العذاب بهذه الصورة الشنيعة للجاحدين الكافرين تقشعر منه الأبدان، وتضطرب له فرائص «1» الإنسان، ويرهبه كل امرئ مهما كان، ولو من الجبابرة العتاة، لأن مثل هذا العذاب لا يضارعه أي عذاب في الدنيا مهما اشتد وقسا، ومهما عظم وامتد. فهل من متعظ معتبر، وخاشع يتدبر الأمر قبل وقوعه؟!.
تقريع أهل النار على كفرهم
لا يقتصر حال أهل النار على العذاب الشديد المؤلم، وإنما يقرّعون ويوبخون على كفرهم ومآثمهم، وتراهم إذا سمعوا هذا التقريع، أذعنوا، وأقروا على أنفسهم، فيدعون ربهم بأن يخرجهم من النار، فلا يجابون لدعائهم، فيقعون في اليأس
__________
(1) الفرائص: جمع فريصة وهي لحمة بين الجنب والكتف، ترعد عند فزع الإنسان.
(2/1721)
 
 
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
والإحباط، ويتلخص أمرهم في أنهم سخروا من أهل الإيمان، وابتعدوا عن تذكير القرآن، فوقعوا في حمأة العذاب، وفاز المؤمنون الأتقياء بجنان الخلد ورضوان الله، وجوزوا على صبرهم على الطاعة، والبعد عن المعصية، وهذا ما وصفه لنا القرآن الكريم قبل أن يقع تماما على هذا النحو في الآيات التالية:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 الى 111]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)
«1» «2» «3» «4» [المؤمنون: 23/ 105- 111] .
في مطلع هذه الآيات محذوف تقديره: يقال لأهل النار: ألم تكن آياتي أي آيات القرآن تتلى عليكم في الدنيا، للتذكير والاتعاظ، فتكذبون بها، وتعرضون عنها؟! وهذا استفهام تقرير وتوبيخ لهم. والمعنى: قرّوا بهذا واعترفوا، فهو أمر واضح، لا ينكره أحد.
فكان جوابهم بقولهم: يا ربنا غلب علينا شقاء أنفسنا بشهواتنا وملذاتنا، بحيث صارت مؤدية إلى سوء العاقبة، وأخطأنا طريق الحق والهدى، وكنا من القوم الضالين. ثم تدرّجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع. فقالوا: يا ربنا أخرجنا من عذاب النار، وردّنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى مثل ما كنا عليه، فنحن ظالمون، نستوجب العقوبة.
فأجيبوا بحسب ما تحتم عليهم من العذاب وبحسب علم عز وجل: امكثوا في النار، خاسئين أذلاء صاغرين، واسكتوا ولا تطلبوا مثل هذا الطلب، فإنه لا رجعة
__________
(1) شقاوتنا.
(2) انزجروا.
(3) أي استهزاء.
(4) أي لأنهم.
(2/1722)
 
 
إلى الدنيا. وقوله تعالى: وَلا تُكَلِّمُونِ بلفظ نهي، وهم لا يستطيعون الكلام، على ما روي، فهذا مبالغة في المنع. ويقال: إن هذه الكلمة إذا سمعوها يئسوا.
ثم أخبر الله تعالى عن سبب عذابهم بما يفيد بأنه كان جماعة من عبادي المؤمنين يقولون: يا ربّنا صدّقنا بك وبرسلك، وبما جاؤوا به من عندك، فاستر ذنوبنا، وارحم ضعفنا، فأنت خير الراحمين.
فما كان منكم إلا أن سخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي، حتى حملكم بغضهم والهزء بهم على نسيان ما ذكّرتكم به مما ينفعكم، ولم تلتفتوا لمقتضى التذكرة، ولم تخافوا العقاب، وكنتم تضحكون استهزاء من صنيعهم وعبادتهم، كما جاء في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) [المطففين: 83/ 29- 30] . أي يلمزونهم استهزاء. والفريق المشار إليه ممن هزئوا به:
كل مستضعف من المؤمنين، وقد نزلت الآية في كفار قريش الذين كانوا يهزؤون بصهيب وعمار وبلال رضي الله عنهم ونظرائهم. ولكنها عامة فيمن جرى مجراهم قديما، وبقية الدهر.
ثم أخبر الله تعالى عما جازى به عباده الصالحين بأنه جازاهم في يوم القيامة بسبب صبرهم على أذى الكفار واستهزائهم بهم، وكان الجزاء هو الفوز بالسعادة والسلامة، والنعيم المقيم في الجنة، والنجاة من النار، كما جاء في آية أخرى وهي:
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) [المطففين: 83/ 34- 36] .
والجزاء المعطى للمؤمنين: هو الجنة والرضوان الإلهي، والفائزون: هم المنتهون إلى غايتهم التي كانت أملهم، ومعنى الفوز: النجاة من هلكة إلى نعمة.
تتبين عظمة القرآن، وأفضال الله ونعمه: في أن الحق سبحانه وتعالى بيّن لعباده
(2/1723)
 
 
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
سلفا في هذه الدنيا، كل ما يلاقون في عالم الغيبيات، ومصير كل فريق: إما في الجنة وإما في النار.
عمر الدنيا قصير
مهما طال العمر بالإنسان، فإن عمر الإنسان قصير، بل وعمر الدنيا كلها قصير، وذلك رحمة من الله بعباده، لأن الدنيا دار امتحان واختبار، ودار تكليف ومسئولية، والمسؤولية تقتضي التخفيف وعدم الإطالة، فكما زاد العمر ثقلت المسؤولية، فكان من الرحمة أن يقصّر الأجل منعا من تزاحم المسؤوليات وإطالتها، لذلك اقترن الإخبار عن قصر الدنيا بالتذكير بالمسؤولية فيها، وأنها ليست دار العبث واللهو، وإنما هي جسر للآخرة التي يكون فيها الحساب، والمحاسب: هو الله صاحب العزة المطلقة، والملك الحق، وذو السلطان الأكبر، وهو رب العرش الكريم، فكيف يصح لعاقل عبادة غير الله؟ ومن عبد إلها غير الله خاب وخسر، ومن عبد الله وحده لا شريك له فاز ونجا، قال الله تعالى مبينا هذه المعاني والمبادئ:
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 118]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
«1» [المؤمنون: 23/ 112- 118] .
__________
(1) تنزه عن البعث.
(2/1724)
 
 
ينبّه الله تعالى في هذه الآيات على أمور ثلاثة: قصر العمر في الدنيا، وإناطة التكليف والمسؤولية فيها بعنق الإنسان. وإفراد الحساب بالله عز وجل.
أما الأمر الأول: فيسأل الله الكافرين والمقصرين سؤال تقريع وتوبيخ: كم مكثتم في الدنيا؟ فأجابوا لعظم الأهوال وشدة العذاب: مكثنا يوما أو بعض يوم، فاسأل الحاسبين وهم الملائكة، والمراد توقيفهم على أن أعمارهم قصيرة، لكن الكفر في الدنيا أداهم إلى عذاب طويل.
فأجاب أحد الملائكة الحفظة: ما مكثتم إلا زمنا يسيرا، على أي تقدير، سواء كان المكث في الدنيا أو في القبور، وذلك بالنسبة إلى العذاب الطويل في الآخرة، ولكنكم كنتم لا تعلمون الحقيقة، ولو علمتم فعلا بها لعملتم بما يرضي ربكم. ثم لبيان الأمر الثاني وهو التذكير بالتكاليف، وبخهم الله على غفلتهم، بما مفادة:
أظننتم أنما خلقناكم عبثا، أي لعبا وباطلا، بلا قصد كريم، ولا غاية معينة؟! وهل ظننتم أنكم لا تعودون إلينا في الآخرة للحساب والجزاء؟! وهذا هو الأمر الثالث الدال على تفرد الله بالحساب. لقد تنزه الله صاحب الملك الواسع، الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، أن يخلق شيئا عبثا، فإنه سبحانه الملك الحق المنزه عن ذلك، وهو ذو العرش العظيم البهي، الشامل في تدبيره نظام الكون الرحيب.
ثم توعد الله جلت قدرته عبدة الأوثان: بأنه من يعبد إلها آخر مع الله دون حجة ولا دليل، فحسابه عند الله، إنه لا يفوز الكفار بشيء من النعيم وإنما مصيرهم إلى الجحيم، وهذا تأكيد أن الكافر لا يبلغ أمنيته، ولا ينجح سعيه.
وقل أيها النبي الرسول: يا رب اغفر لي ذنوبي واستر عيوبي، وارحمني بقبول توبتي، ونجّني من العذاب الأليم، فإنك صاحب المغفرة الشاملة والرحمة الواسعة.
وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء بالمغفرة والرحمة وذكر الله بأنه
(2/1725)
 
 
أرحم الراحمين: تعليم لأمته، وإرشاد إلى أن الرحمة الحقيقية والشاملة إنما هي لله سبحانه، وما رحمة كل راحم بغيره إلا جزء من مائة من رحمة الله تعالى، فإن الله تعالى أنزل ووزّع في العالم رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعة وتسعين.
أخرج البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه والدارمي عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلّهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب، لم يأمن من النار» .
(2/1726)
 
 
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
تفسير سورة النور
عقوبة الزناة
حرص الإسلام من أجل طهر المجتمع ونقائه، وقوته وبقائه على إشاعة الفضيلة، ومحاربة المنكر والرذيلة، وصيانة العلاقات الإنسانية من المعكرات والأمراض الضارة، ووضع حد ونظام متين لمجتمع يحيا حياة طيبة، وجيل نظيف خال من الشوائب والأخلاط، لذا حرّم الإسلام الفواحش، وحارب كل اعتداء على الأعراض والأخلاق والأنساب، ووفر الحرية الكريمة والحياة السوية للناس جميعا، قال الله تعالى في مطلع سورة النور المدنية:
[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
«1» «2» [النور: 24/ 1- 3] .
المعنى: هذه هي السورة الموحى بها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمفروض فيها أحكام تتعلق بالأسرة، وفيها دلائل واضحة وعلامات بيّنة على توحيد الله وكمال قدرته، لتتذكروها، فتعتقدوا وحدانيته وقدرته تعالى.
__________
(1) خبر مبتدأ مضمر تقديره: هذه سورة، أو مبتدأ وخبره مفهوم، تقديره: فيما يتلى عليكم. [.....]
(2) أوحينا أحكامها.
(2/1727)
 
 
والمقصود بكلمة وَفَرَضْناها أثبتناها وقررناها، فهي أشبه بالفرض في الإلزام، وقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي على توقع البشر ورجائهم.
ومن هذه الأحكام الأساسية في كيان المجتمع المسلم: أن عقوبة الزناة الأبكار غير المتزوجين هي الجلد مائة لكل من الزاني والزانية في دار الإسلام أيا كان. ولا يحملنكم العطف والرأفة على ترك هذا الحد فهو حكم الله تعالى، والواجب تنفيذه، والغيرة على حرمات الله، ما دمتم مؤمنين مصدقين بالله وبالآخرة التي يجري فيها الحساب والجزاء، وهذا حث شديد على تطبيق حدود الله وتنفيذها. وتكون إقامة الحد علانية أمام فئة من الناس المؤمنين، تحقيقا للزجر والردع، وبعدا عن التورط في الفاحشة، وتقريعا وتوبيخا لمن تدنّس بها.
والطائفة التي تشهد على إقامة الحد: أقلها واحد، وقيل: اثنان فأكثر، وقال قتادة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، أي نفر من المسلمين، ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا.
ثم ذكر الله تعالى قبح مستنقع الفواحش، وأنه يجب تطويقه وعزله عن المجتمع، فأخبر خبرا خرج مخرج الغالب، من غير قصد التحريم الاصطلاحي، وإنما التنزه والابتعاد والترفع عن وسط الزناة، والمعنى: الشأن في الزاني الفاسق الفاجر ألا يرغب إلا في نكاح أمثاله من النساء الزانيات الفاسقات، فهو في العادة لا يرغب إلا في الزواج بأمثاله من الفواسق الخبائث أو المشركات، ممن لا يهتم بعرض ولا يأبه بتعفف، وذلك الزواج بأهل الفسق والبغايا، كان محرما على أهل الإيمان، فلا يتزوج زان إلا زانية، ولا يتلوث بذلك مؤمن. وهذا التحريم يراد به المبالغة في التنفير والتنزه والتعفف، بدليل إباحة الزواج بأي امرأة لا زوج لها، وهي الأيم وجمعها أيامى، لقول الله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: 24/ 32] فإنه يتناول البغايا.
(2/1728)
 
 
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
وفي الجملة: إن الفاحشة أو الزنا قبيح شرعا وفي العقل السليم، والفواحش:
طريق لتدمير الأمم والشعوب بإشاعة الانحراف، وتحطيم سياج الأعراض والأخلاق، وقد حرّم الزنا في كل الأديان، وازداد تحريمه والتشنيع عليه، وتبشيع أمره في القرآن الكريم، وجعل الزنا في مرتبة الشرك، وصنّف الزناة مع المشركين، ومن المعلوم أن الشرك أعظم المعاصي، فما يقترن به يكون قبيحا مثله. هذا فضلا عن أن تعاطي الفاحشة يعرّض صاحبها لألوان الاعتداءات والجنايات المختلفة، بل ويمهد للإصابة بأخطر الأمراض الفتاكة التي لا علاج لها، ومنها مرض فقد المناعة (الإيدز) فإن 90 من حالاته بسبب الشذوذ أو الانحراف الجنسي.
عقوبة القاذفين
لقد طوّق التشريع القرآني مصادر الجريمة، وعمل على استئصال أسبابها، وحارب كل الوسائل المؤدية إليها، لأن المزالق والأساليب هي مبدأ التوجه نحو الغايات، فإذا أوصد الباب في وجه الوسيلة، امتنع تحقيق الغاية، وإذا حرّم الإسلام أمرا لقبحه وضرره، حرّم كل الوسائل المؤدية إليه، لأنها منافذ الخطر. وعلى هذا النهج ترى القرآن الكريم يحرم الزنا لفحشه وضرره البالغ، ويحرم كل ما أدى إليه، وسهّل إليه من كلام الفحش، وقذف الأعراض، وخدش الكرامات والخلوة بالمرأة، فتكون كلمة القذف، أي النسبة إلى الزنا من غير إثبات بالبينة أو الإقرار حراما وموجبا لحد مكمل لحد الزنا يسمى حد القذف. قال الله تعالى مبينا مقدار هذا الحد وطريق التخلص منه بالتوبة الصادقة:
[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
«1»
__________
(1) يقذفون العفيفات بالزنا.
(2/1729)
 
 
[النور: 24/ 4- 5] .
نزلت هذه الآية في القاذفين، فبعد أن نفّر الله من نكاح الزانيات، وإنكاح الزناة، نهى الله تعالى عن القذف: وهو الرمي بالزنا، أي إلصاق التهمة بعفيف أو عفيفة من دون حجة ولا برهان، وهذا الاتهام وإن ظن بعض الناس أنه لا يستحق عقابا، فإنه في الواقع أمر خطير ربما يؤدي إلى القتل، أو تدمير كيان الأسرة، أو الإساءة الدائمة للسمعة، بسبب الاستفزاز وإثارة الأحقاد، وإيجاد العداوة والبغضاء، واحتدام السخط والغضب، والغالب أن الغضوب بعيد عن دواعي العقل والحكمة والرشد، فيسارع إلى اتخاذ موقف متهور، يؤدي إلى نتائج خطيرة، بسبب كلمة عابرة أو تهمة كاذبة. لذا طلب القرآن مزيدا من التثبت أو الإثبات للتهمة بأربعة شهود.
والمعنى: إن الذين يتهمون النساء العفيفات الحرائر المسلمات بالزنا، ولم يتمكنوا من إثبات التهمة بأربعة شهود، رأوهن متلبّسات بالزنا، أي لم يقيموا البينة على صحة القذف الذي تورطوا به، هؤلاء لهم عقوبات ثلاث:
أولها: أن يجلدوا، أي القذفة ثمانين جلدة.
وثانيها: أن تردّ شهادتهم أبدا، وتسقط عدالتهم، فلا تقبل شهادتهم بعدئذ في أي شيء، مدة العمر.
وثالثها: أن يصيروا فسقة فجرة، ليسوا عدولا، لا عند الله ولا عند الناس، سواء كانوا صادقين في القذف لكنهم لم يثبتوه، أو كاذبين، والفسق: الخروج عن طاعة الله تعالى. وهذا دليل على أن القذف إحدى الكبائر، لما يؤدي إليه من التشنيع، وهتك حرمة أعراض المؤمنات.
(2/1730)
 
 
وقد ذكر الله تعالى في الآية قذف النساء لأنه أهم، وأكثر إثارة، وأبشع للنفوس.
وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك، كالنص القرآني على لحم الخنزير، ودخول شحمه وغضاريفه ونحو ذلك بالمعنى وبالإجماع. وذكر الزهراوي: أن المعنى: الأنفس المحصنات، فهي تعم بلفظها الرجال والنساء. ويدل على ذلك قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء: 4/ 24] . والمحصنات في هذا الموضع: العفائف، لأن هذا هو الذي يجب به جلد القاذف. والعفة أعلى معاني الإحصان، وفي طيه الإسلام والحرية، ونزلت الآية في الحرائر، فيشترط في القاذف أن يكون من أهل التكليف، أي بالغا عاقلا مختارا عالما بالتحريم، وأن يكون المقذوف محصنا، وهو المكلف (البالغ العاقل) الحر، المسلم، العفيف عن الزنا.
ثم استثنى الله تعالى من تاب وأصلح من بعد القذف، فوعدهم بالرحمة والمغفرة، فمن رجع عن قوله، وندم على فعله، وأصلح حاله وعمله، فلم يعد إلى قذف المحصنات، فيسترد عدالته، ويرتفع عنه صفة الفسق، فإن جمهور العلماء قالوا:
الاستثناء المذكور عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وتوبته: إما بتكذيب نفسه في ذلك القذف الذي حدّ فيه في رأي جماعة، وإما بالاقتصار على إصلاح نفسه وتحسين حاله، وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب.
قذف الرجل زوجته واللعان
لما نزلت آية رمي المحصنات، تناول ظاهرها الأزواج وغيرهن، مما أوجد الحرج في العلاقات الزوجية، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة (أي شهداء) ؟ والله لأضربنّه بالسيف غير مصفح عنه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني؟» .
ثم
(2/1731)
 
 
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
وقعت حادثتان: الأولى: اتهم هلال بن أمية زوجته بالزنا، وسأل عويمر العجلاني النبي صلّى الله عليه وسلّم عمن وجد رجلا مع امرأته، كيف يصنع به؟ فنزلت آية اللعان، والمشهور أن واقعة هلال قبل، وأنها سبب الآية الآتية:
[سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
«1» [النور: 24/ 6- 10] .
الأزواج في هذا الحكم يعم جميع الزوجات مسلمات وغير مسلمات، وإماء، وحرائر، فكلهن يلاعنهن الزوج لنفي الحمل، ويرفع القاذف الحر حد القذف عن نفسه باللعان، أي يلاعن امرأته لرفع حد القذف عن نفسه، فيكون حكم اللعان فرجا عن الأزواج.
والمعنى: إن الأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنا، ولم يتمكنوا من إحضار أربعة شهود، يشهدون بصحة قذفهم، فالحكم الواجب أن يشهد الواحد منهم أربع شهادات بالله، إنه لصادق فيما رمى زوجته من الزنا، والشهادة الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به. واللعن: الطرد من رحمة الله. فإذا أدى هذه الشهادات الخمس، بانت منه زوجته، وحرمت عليه حرمة مؤبدة بهذه الأيمان المسماة بأيمان اللعان، ويعطيها مهرها، ويسقط عنه حد القذف، وينفى الولد عنه إن وجد، ويتوجه عليها حد الزنا إذا لم تلاعن.
__________
(1) يدفع عنها.
(2/1732)
 
 
ويدرأ أو يدفع عن الزوجة حد الزنا بأن تحلف بالله أربعة أيمان: أن زوجها كاذب فيما رماها به من الفاحشة، والشهادة الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما يقول.
وجعلت اللعنة للرجل الكاذب في يمينه الخامسة، لأنه مفتر مباهت بالقول، فأبعد باللعنة، وجعل الغضب الذي هو أشد على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل، ثم كذبت وباهتت بالقول، وسبب التفرقة بين الرجل بتخصيصه باللعنة، وتخصيص المرأة بالغضب: هو التغليظ عليها، لأنها سبب الفجور ومنبعه عادة، بإطماعها الرجل في نفسها.
والعدول عن حد القذف إلى أيمان اللعان بين الزوجين في حال الاتهام بالزنا:
تخفيف ودفع للحرج عن الأزواج، وفضل ونعمة ورحمة من الله، إذ جعل اللعان للزوج من غير حاجة إلى إثبات قوله بأربعة شهود طريقا لتحقيق مراده، وللزوجة سبيلا إلى درء العقوبة عن نفسها، لذا عقب الله تعالى على حكم اللعان (أيمان الملاعنة بين الزوجين) بأنه لولا ما خصكم الله به من مزيد فضله ونعمته، وإحسانه، ورحمته ولطفه بهذا التشريع المخرج من الشدة والضيق إلى الأيسر والأخف، لولا ذلك لوقعتم في الحرج والمشقة في كثير من الأمور، وعوجلتم بعقاب حد القذف، ولكن الله ستركم، وأنقذكم من التورط بتهمة الزنا، بطريق شهادات أو أيمان اللعان، وذلك لأن من الصفات الذاتية لله سبحانه: أنه كتب الرحمة على نفسه، وأنه هو التواب الكثير القبول لتوبة عباده، وإن كان ذلك بعد الأيمان المغلظة، وأنه حكيم فيما يشرعه، ويأمر به، وينهى عنه، فإنه على الرغم من أن أحد الزوجين كاذب في يمينه، فإن عقاب الحد الدنيوي يدرأ عنه، ويستحق ما هو أشد منه وهو العقاب الأخروي. وعبّر الله تعالى في نهاية الآية بكلمة «حكيم» وليس بكلمة «رحيم» مع أن
(2/1733)
 
 
الرحمة تناسب التوبة وقبولها، لأن الله أراد الستر على عباده، بتشريع اللعان بين الزوجين.
وهكذا يجب اللعان بين الزوجين حين وجود الاتهام برؤية جريمة الزنا، أو من أجل نفي الحمل، فيسقط حد القذف عن الزوج، ويفرق بين المتلاعنين، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان.
إدانة المتورطين بقصة الإفك
الإفك: الزور والكذب، والأفّاك: الكذاب، والإفك: قلب الحقيقة عن حالها بالأقوال، وصرفها عن جهة الصواب، وبذلك شبّه بالكذب. وهو في الواقع اختلاف الكذب. وقد أنزل الله تعالى في سورة النور ست عشرة آية لتبرئة السيدة عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وما اتصل بذلك من أمر الإفك.
والقصة تدور على استغلال تخلف السيدة عائشة لقضاء حاجتها عن ركب الجند، وعودتها للبحث عن عقدها الذي أضاعته في غزوة، بني المصطلق سنة خمس من الهجرة، وهي غزوة المريسيع، والمريسيع: ماء لبني المصطلق، من ناحية قديد إلى الساحل ناحية البحر الأحمر. وكان قائد الفتنة الذي أشعل نارها: هو زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول، وتورط معه ثلاثة، وهم حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش. وقد استغل المنافق ابن أبي هذه الحادثة ليلصق التهمة بعائشة حين وجد صفوان بن المعطّل السّلمي يقود راحلته التي أركب عليها عائشة. فنزلت الآيات التي تبرئ السيدة عائشة، وتلوم مروجي الإشاعة الكاذبة، وتؤدب الصحابة بآداب عظيمة في مثل هذه الحادثة. قال الله تعالى مبينا إدانة المتورطين بهذه التهمة الخطيرة:
(2/1734)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 14]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14)
«1» «2» «3» «4» [النور: 24/ 11- 14] .
هذه الآيات الكريمة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ودحض الافتراء الشنيع، وهي تبدأ في بيان القصة من أولها، وأولها: إن الذين فعلوا هذا الفعل جماعة محسوبون على المؤمنين، وهؤلاء الجماعة أتوا بأبلغ الكذب، وأعظم الافتراء، وهو الإفك، الذي كان وراءه ثلاثة بزعامة منافق، وهو عبد الله بن أبي، فإنه هو الذي اختلق الكذب على السيدة عائشة رضي الله عنها، وتواطأ مع جماعة صغيرة لترويج الخبر بين الناس، وإشاعته قريبا من شهر، حتى نزل القرآن الكريم مبينا أسبابه ودروسه ونتائجه.
واسى الله تعالى أسرة أبي بكر في هذه التهمة المفتراة فقال: لا تظنوا يا آل بكر بأن ذلك الافتراء شر محض لكم، وإساءة إليكم، بل هو خير لكم في الدنيا والآخرة، لإظهار مدى العناية بعائشة بنت الصدّيق رضي الله عنها، حين برأها الله في القرآن العظيم، وجعله حكما ونصا يتلى إلى يوم القيامة، ومن أجل كسبكم الثواب العظيم به في الدار الآخرة.
وأما دعاة الفتنة فلكل واحد تكلم في هذه الفرية ورمى أم المؤمنين عائشة بالفاحشة، فله نصيب من العذاب الشديد، بقدر ما خاض فيه.
__________
(1) أقبح الكذب.
(2) عصبة: أي جماعة بدل من الضمير في «جاؤوا» ، وجملة «لا تحسبوه» خبر «إن» والتقدير: إن فعل الذين.
(3) تحمل معظمه وهو رأس المنافقين.
(4) خضتم فيه.
(2/1735)
 
 
والذي تحمل معظم الإثم منهم: هو عبد الله بن أبي زعيم المنافقين، له عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، فإنه أول من اختلق هذا الخبر، ومعظم الشرّ كان منه، أما عذابه في الدنيا: فبإظهار نفاقه ونبذه من المجتمع، وأما في الآخرة: فهو في الدرك الأسفل من النار.
ثم أدّب الله تعالى المؤمنين بمناسبة هذه القضية وزجرهم بتسعة أشياء: أذكر منها هنا أدبين وأمرين خالفوا بهما أحكام التشريع الأساسية. وهما: هلا حين سمعتم أيها المؤمنون كلام الأفاكين في أم المؤمنين عائشة، ظننتم بها خيرا بمقتضى الإيمان الذي يحمل على حسن الظن! وهلا بادرتم إلى القول صراحة: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي كذب مختلق، واضح مكشوف على أم المؤمنين رضي الله عنها! فإنها جاءت راكبة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة، والجيش كله يشاهد ذلك، ولو كان فيه شيء من الريبة، لما تم الأمر هكذا جهارا نهارا.
وهلا أتى الأفاكون على ما قالوا بأربعة شهود، يشهدون على ثبوت التهمة، وصحة المعاينة، فحين لم يأتوا بالشهود لإثبات التهمة، فأولئك في حكم الله كاذبون فاجرون، وهذا من الزواجر، ومن التقصير في القيام بعبء الإثبات، عملا بالقاعدة الكبرى: «البيّنة على من ادعى، واليمين على من أنكر» .
تأثيرات قصة الإفك في المؤمنين
إن الاتهام الرخيص سرعان ما يتبدد ويزول أثره، ولا سيما إذا تولى الله تعالى بنفسه الدفاع عن سمعة المؤمن، وحماه وبرّأه، وقد كان لقصة الإفك أبعاد أو أحكام تنفيذية سريعة: وهي أن زعيم المنافقين عبد الله بن أبي أرجئ عذابه، فكان العذاب المتوعد به هو عذاب الآخرة، وأن حسّان ومسطحا وحمنة بنت جحش أقيم عليهم
(2/1736)
 
 
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
حد القذف، وأن الذين أشاعوا الخبر لامهم الله تعالى لوما شديدا، ووبخهم توبيخا مهينا، وهدّدهم بالعذاب، وعلّمهم الوحي الإلهي وجوب الالتزام بآداب معينة، أذكر منها هنا ستة، كلها ذات وقع شديد، وتتضمن التهديد والوعيد، قال الله تعالى مبينا هذه التأثيرات لقصة الإفك:
[سورة النور (24) : الآيات 14 الى 20]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
«1» »
[النور: 24/ 14- 20] .
المعنى: لولا تفضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي منها الإمهال للتوبة، ولولا رحمته بكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعجّلت بكم العقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك، وهذا من الزواجر أيضا.
- ولولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب حين تلقيتم أو تلقفتم بألسنتكم حديث الإفك وسؤال بعضكم عنه، وإكثار الكلام فيه، وقولكم ما لا تعلمون، وظنكم ذلك أنه أمر سهل يسير، وهو في حكم الله عظيم الخطر، ومن الكبائر. وهذا من الزواجر كذلك وعتاب على تناقل الأخبار، والإفاضة في الحديث، وإشاعة الكلام.
- وهلا حين سمعتم ما لا يليق من فحش الكلام وخبث المقال قلتم: ما ينبغي وما لا يصح لنا ولا يحل أن نتفوه بهذا الكلام، ونخوض في عرض النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالعقل
__________
(1) تظنونه سهلا.
(2) كذب محيّر.
(2/1737)
 
 
والدين يمنعان الخوض في مثل هذا، وهذا تأديب جم، وعتاب لجميع المؤمنين بأنه كان ينبغي عليهم إنكار هذا المقال وترك حكايته ونقله، وأن يحكموا عليه بالبهتان:
وهو أن يقول الإنسان في غيره ما ليس فيه. ويحذر الله المؤمنين من العود لمثله، أي ينهاكم الله متوعدا أن يقع منكم ما يشبه هذا في المستقبل، ما دمتم أحياء مكلفين، وكنتم من أهل الإيمان بالله وشرعه، وتعظيم رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويوضح الله لكم الأحكام الشرعية والآداب الدينية والاجتماعية، والله تام العلم بما يصلح عباده، وكامل الحكمة في شرعه وقدره وتدبير شؤون خلقه، وهذا من الزواجر العظام.
- وإن الذين يشيعون الفاحشة عن قصد وإرادة في أوساط المؤمنين لهم عذاب مؤلم في الدنيا، وهو حد القذف، وفي الآخرة لهم عذاب النار، والله يعلم بحقائق الأمور علما تاما، فردوا الأمر إليه ترشدوا، وأنتم بسبب نقص علمكم لا تعلمون تلك الحقائق.
- ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم، لكان أمر آخر، أي لهلكتم أو لعذبكم الله واستأصلكم، ولكنه تعالى رؤف بعباده، رحيم بهم، فتاب على التائبين من هذه القضية، وأرشد إلى ما فيه الخير، وهدى إلى الطريق القويم، وأبان خطر هذا الفعل الشنيع، وهو الطعن بعرض بيت النبوة.
لقد تضمنت هذه الآيات في بدايتها وخاتمتها بيان سبق الرحمة الإلهية، وإسباغ الفضل الإلهي على الفئة التي تورطت في ترداد الأخبار الملفقة، وتناقل الحديث من لسان إلى لسان، وما بين البداية والنهاية لوم وتقريع، وعتاب وتوبيخ، وأن مجرد التحدث في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إيذاء كبير للنبي وزوجه ولآل أبي بكر. فيكون الخوض في مثل هذا ممنوعا، ويحتاج مثله إلى التثبت والروية، وتبيّن الحقيقة، كما قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أو «فتثبتوا» [الحجرات: 49/ 6] .
(2/1738)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
التحذير من آثار قصة الإفك
كان لآثار قصة الإفك آثار تربوية عظيمة، ونتائج إنسانية سامية، وأهمها ثلاثة:
التحذير من اتباع خطوات الشيطان أو وساوسه، وتدنيس سيرة المتورطين في هذا الذنب وإساءة سمعتهم، وحث أبي بكر على مواصلة مسطح ابن خالته، على الرغم من اشتراكه في ترويج أباطيل زعيم المنافقين: عبد الله بن أبي، وتجاوز هذه الآثار كان بفضل من الله ومغفرة وعفو عن المسيئين، وبه تنتهي فتنة ابن أبي التي روّجها بين المسلمين، فقال الله تعالى معددا هذه الآثار:
[سورة النور (24) : الآيات 21 الى 22]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
«1» «2» «3» «4» «5» [النور: 24/ 21- 22] .
- هذا خطاب لجميع المؤمنين، مطلعه التحذير من وساوس الشيطان، ومضمونه لا تمشوا في سبل الشيطان وطرقه وأفعاله الخبيثة، ولا تسمعوا لوساوسه، فإن من يتبع وساوس الشيطان خاب وخسر، لأن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء (وهو ما أفرط قبحه) والمنكر (ما أنكره الشرع وحرمه وقبحه العقل ونفر منه) فلا يصح لمؤمن إطاعة الشيطان، وهذا نهي لكل المؤمنين في كل زمان، وخوطب المؤمنون بهذا ليتشددوا في ترك المعاصي، ولئلا يتشبهوا بحال أهل الإفك.
- وكرر الله تعالى تأكيد منّته وفضله على عباده، فلولا تفضل الله على المؤمنين
__________
(1) طرقه ومذاهبه.
(2) ما تطهر من الذنوب.
(3) أي لا يحتلف من الأليّة: وهي اليمين.
(4) أهل التدين والإحسان.
(5) الغنى. [.....]
(2/1739)
 
 
بالنعم ورحمته السابغة، بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، ما طهّر أحدا من ذنبه، ولا خلّصه من أمراض الشرك والفجور، والأخلاق المزدولة، وإنما عاجله بالعقوبة، كما قال الله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [النحل: 16/ 61] .
ومن فضل الله تعالى أنه يطهر من يشاء من ذنبه بقبول توبته، وتوفيقه إلى ما يرضي ربه، ومن ذلك قبول توبة حسان ومسطح وغيرهما من أهل الإفك، والله سميع لأقوال عباده، عليم بمن يستحق الهدى والضلال، وبجميع الأقوال والأفعال، وهذا حث على التوبة المخلصة من كل الذنوب.
وآية وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ نزلت في أبي بكر حيث حلف على ألا ينفق على قريبه ابن خالته الفقير مسطح، وقد كان يتيما في حجره، وكان ينفق عليه وعلى أقاربه.
والمعنى: لا يحلف أصحاب الفضل في الدين والخلق والإحسان، وأصحاب السعة في المال والثراء: ألا يعطوا أقاربهم المساكين المهاجرين، كمسطح ابن خالة أبي بكر الذي كان فقيرا مهاجرا من مكة إلى المدينة، وشهد بدرا، وهذا حث على صلة الرحم، وتلك الصلة عمل إنساني كريم مبارك.
وليعف الأغنياء والأقوياء عن المسيء، وليصفحوا عن خطأ المذنب، فلا يعاقبونه ولا يحرمونه من عطائهم، فإن من أخطأ مرة لا يشدد عليه في العقاب.
ألا تريدون أن يغفر الله لكم، أي يستر عليكم ذنوبكم، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما يغفر الإنسان ذنب المذنب يغفر الله له، وكما يصفح المرء عن المسيء يصفح الله عنه، والله تام الرحمة، وواسع المغفرة لذنوب عباده الطائعين التائبين، رحيم بهم، فلا يعذبهم بزلة حدثت، ثم تابوا عنها. وهذا ترغيب في العفو والصفح، ووعد كريم بمغفرة ذنوب التائبين، لذا بادر أبو بكر الصديق إلى القول: «بلى والله، إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا» ثم أعاد إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه، وقال:
«والله لا أنزعها منه أبدا» .
(2/1740)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
جزاء القاذفين في الآخرة
إن الذين يقدحون في أعراض أهل العفة والصون من المؤمنات والمؤمنين يرتكبون جرما عظيما، وإثما كبيرا، يستحقون بموجبه العقاب في الدنيا والآخرة، وجاء الوعيد على ذلك بمناسبة قصة الإفك، وتورط بعض الناس بقذف السيدة عائشة رضي الله عنها، والوعيد لا يقتصر عليها، بل يشمل جميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، غلّظ الله أمر رميهن لمكانهن من الدين، فلعن قاذفهن، ولم يقرن بآخر الآية توبة. وقال جماعة من العلماء: بل هي في شأن عائشة رضي الله عنها إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة، قال الله تعالى مبينا خطورة القذف، أي رمي النساء كذبا بالفاحشة:
[سورة النور (24) : الآيات 23 الى 26]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
«1» [النور: 24/ 23- 26] .
هذا وعيد شديد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات المؤمنات العفيفات، خرج مخرج الغالب، ويشمل أيضا من رمى المحصن المؤمن العفيف.
والمعنى: إن الذين يتهمون النساء الحرائر، العفيفات، البعيدات عن المعاصي والفواحش، النقيات من كل تهمة باطلة، المؤمنات بالله ورسوله، لعنوا في الدنيا والآخرة، أي طردوا من رحمة الله في الآخرة، وعذّبوا في الدنيا بحد القذف، جزاء جرمهم وافترائهم. وهذا دليل على أن القذف من الكبائر.
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
__________
(1) جزاءهم الثابت لهم.
(2/1741)
 
 
«اجتنبوا السبع الموبقات ... » وذكر منها: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات،
وهذا العقاب في الدرجة الأولى لزعيم المنافقين عبد الله بن أبي وأشباهه.
قال الإمام الزمخشري: «ولو قلّبت القرآن كله، وفتّشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم، وأنه يوفيهم جزاء الحق الذي هم أهله حتى يعلموا أن الله هو الحق، فأوجز وأشبع، وفصّل وأجمل، وأكدّ وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة» .
ثم أخبر الله تعالى أن عذاب القاذفين يوم القيامة يكون بشهادة أعضائهم عليهم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما عملوا في الدنيا من قول أو فعل، بأن ينطقها الله بقدرته، كما جاء في آية أخرى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 41/ 21] .
في ذلك اليوم الرهيب يوفيهم الله حسابهم، أو جزاءهم على أعمالهم، ويعلمون أن وعد الله ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه.
ثم سنّ الله قانونا عاما يدل دلالة مادية حسية على براءة السيدة عائشة رضي الله عنها، وهو أن النساء الزواني الخبيثات للخبيثين من الرجال، والخبيثين الزناة من الرجال للخبيثات من النساء، فاللائق بكل واحد أمثاله، فشأن الخبيثات تزوج الخبيثين، وشأن الطيبين تزوج الطيبات. أولئك الطيبون والطيبات كصفوان بن معطّل المتهم البريء، وعائشة الصديقة التي هي أسمى وأرفع من التهمة، بعيدون مبرؤون عما يقوله أهل الإفك والبهتان، ممن تميزوا بالخبث والدنس والتلوث بالمنكرات.
(2/1742)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
وأولئك المبرؤون من التهم الباطلة لهم مغفرة عن ذنوبهم بسبب ما قيل فيهم من الكذب، ولهم رزق كريم عند الله في جنات النعيم.
إن هذه الآية تضع حدا فارقا بعيد الجانبين، بعد السماء عن الأرض بين حكم عبد الله بن أبي وأشباهه من المنافقين، وبين حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم وفضلاء الصحابة رضوان الله عليهم، وأمته، أي إن النبي صلّى الله عليه وسلّم طيب، فلم يجعل الله له إلا كل طيّبة، وأولئك خبيثون، فهم أهل النساء الخبيثات.
آداب الاستئذان
الساحة الإسلامية ملأى بالآداب والأخلاق الرفيعة ذات المعاني الحضارية السامية، والمقومات الأساسية لبناء المجتمع الفاضل، وإشاعة المودة والمحبة بين الناس، والحفاظ على الروابط الأسرية والاجتماعية، والقصد من تشريع هذه الآداب صون قاعدة الحرية، والاحتفاظ بالأسرار الشخصية، والترفع عن المباذل والدناءات وسفساف الأمور، ووضع الحواجز والموانع التي تمس العورات والأعراض، وتتعلق بخصوصيات الإنسان. قال الله تعالى مبينا حكم الاستئذان عند الدخول إلى بيوت الآخرين، وآدابه وضوابطه:
[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
«1» «2» «3» «4» [النور: 24/ 27- 29] .
__________
(1) تستأذنوا.
(2) أطهر لكم من الريبة.
(3) إثم.
(4) منفعة ومصلحة لكم.
(2/1743)
 
 
المعنى: يا أيها المصدقون بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت غيركم حتى يؤذن لكم، وحتى تسلّموا على أهل البيت، حتى لا تقعوا على عورات غيركم، ولا تنظروا إلى ما لا يحل النظر إليه، ولا تفجؤوا الساكنين أو تزعجوهم، فيحدث النفور والكراهية.
وقوله تعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا معناه: حتى تستعلموا من في البيت وتستبصروا وتستكشفوا الأمر، وتحصلوا على الإذن. ويكون الاستئذان ثلاث مرات فقط كما ورد في السنة الثابتة.
وحكمة الاستئذان واضحة: وهي توفير حرمة المسكن وحرية السكان، لذا قال الله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي إن الاستئذان خير وأفضل للطرفين، والمستأذن وأهل البيت، فهو خير من الدخول فجأة، وخير من تحية الجاهلية، وهي: أنعم صباحا، أو مساء، وقد أنزل الله عليكم هذا الأدب، وأرشدكم إليه، لتتذكروا وتتعظوا، وتعملوا بالأصلح لكم. فإن لم تجدوا في بيوت غيركم أحدا يأذن لكم، فلا تدخلوها حتى يأذن لكم صاحب الدار، فلا يحل الدخول في هذه الحالة، لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، ولأن للبيوت حرمة، وهي محل السكن الخاص والطمأنينة الشخصية، والراحة والوداعة.
وإن طلب منكم صاحب البيت الرجوع بعد الاستئذان، فارجعوا، فإن الرجوع هو خير لكم وأطهر في الدين والدنيا، ولا يليق بكم أيها المؤمنون الإلحاح في الاستئذان والوقوف على الأبواب، ففي ذلك ذل ومهانة. والله عليم بنياتكم وأقوالكم، وأفعالكم ونظراتكم.
ولا إثم ولا حرج عليكم من الدخول إلى بيوت لا تستعمل للسكنى الخاصة، كحوانيت التجار والحمامات العامة، والأماكن المخصصة للتسلية البريئة، وذلك إذا كان لكم فيها مصلحة أو انتفاع كالمبيت فيها، وتخبئة الأمتعة، والمعاملة بالبيع والشراء وغير ذلك.
(2/1744)
 
 
والله تعالى عليم بما تظهرونه من استئذان عند الدخول، وما تضمرونه من قصد سيء، وتدخّل في شؤون الآخرين، وحب الاطلاع على عورات الناس وخصوصياتهم وهذا وعيد لأهل الريبة الذين يدخلون البيوت للتلصص، واستراق السمع، ومعرفة الأسرار.
يتبين من هذه الآية أنها تشتمل على حكمين:
الحكم الأول: وجوب الاستئذان حين الدخول إلى بيوت الآخرين المسكونة.
والحكم الثاني: السماح بالدخول إلى البيوت غير الآهلة بالسكان، وليس فيها أحد، إذا كان للداخل متاع فيها، وذلك بغير إذن، كالمضافة العامة، والنزل المخصصة للمسافرين والعابرين.
والمهم في الاستئذان: هو تجنب النظر إلى ما يؤذي أهل البيت،
فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن سهل بن سعد: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» .
وذلك للبعد عن المضايقات، وتربية الإنسان على الخلق الكريم، والحياء والأدب الجم، ورقابة الله في السر والعلن، فإن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
غض البصر والحجاب
لقد نظم الشرع الحنيف العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس من الثقة والحياء والاحترام المتبادل، وترك الاسترسال في التفكير بالخصوصيات المتعلقة بكل منهما، والتي تحتاج إلى وجود مسوغ شرعي واضح ودائم، وبعيد عن ساحات الحياة العامة والأنظار الشائعة، ليكون كل شيء في وضعه السليم، وفي موضعه الملائم، لذا أمر الشرع بغض البصر من الجنسين، وبستر ما يجب ستره، منعا من التشبه بالبدائيين،
(2/1745)
 
 
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
وحفاظا على الأعراض والحرمات والكرامات، قال الله تعالى مبينا حكم النظر والحجاب، وذلك من قبيل سد الذرائع ومنع الوسائل إلى الحرام:
[سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» [النور:
24/ 30- 31] .
نزلت هذه الآية في رجل وامرأة تبادلا نظرات السوء، زاعمين أنهما نظرا إلى بعضهما إعجابا وإعظاما، بفعل وسوسة الشيطان، ولكن الحقائق أقوى من الوسواس، والله لا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
لذا أمر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للمؤمنين: كفّوا أو غضوا أبصاركم، فلا تنظروا إلا إلى ما أبيح النظر إليه. والمعنى: قل لهم: غضوا يغضوا. والغض لبعض الأبصار، لتوبيخ من يكثر التأمل في الحرام. ومع غض البصر حفظ الفروج من ارتكاب الفواحش، فإن غض البصر وحفظ الفرج خير وأطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم، فإن الله تام العلم بكل ما يصدر عن الناس من أفعال. وهذا تهديد ووعيد.
وخلافا للمعتاد في أن خطاب الرجال يتناول النساء، أفرد الله النساء أيضا
__________
(1) يكفوا من نظرهم إلى الحرام.
(2) وليلقين.
(3) أغطية رؤوسهن.
(4) على صدورهن وما حولها.
(5) لأزواجهن.
(6) أصحاب الحاجة للنساء.
(7) لم يطلعوا.
(2/1746)
 
 
بالأمر بغض الأبصار في النظر إلى الرجال، وبحفظ الفروج من الفواحش والشذوذ، حفاظا على الحرمات والأعراض، وتوفيرا للحرية المنظمة أو المنضبطة، وإبعادا عن تلويث السمعة، وحفظا للصحة والكمال الإنساني.
ثم أعقب الله ذلك الأمر المشترك بين الرجال والنساء ببيان أحكام خاصة بالنساء وهي:
1- ألا تظهر النساء شيئا من مواضع الزينة للأجانب غير المحارم، إلا ما جرت العادة بظهوره: وهو الوجه والكفان والثياب الظاهرة. وهذا دليل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة إذا لم تحدث فتنة.
2- وعلى النساء ستر الرأس وكامل الجسد، ولا سيما أجزاء الصدر لستر الشعر والعنق ونواحي الصدر. وسبب هذه الآية: أن النساء كن في الجاهلية إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة سدلنها من وراء الظهر.
3- ولا تظهر النساء زينتهن الخفية إلا للمحارم ونحوهم وهم الأزواج وآباء الأزواج، والآباء والأبناء والبنات، وأبناء الأزواج والإخوة وبنو الإخوة وبنو الأخوات، والنساء من جنسهن، والمماليك من الرجال والنساء، والأطفال الصغار دون العاشرة، والتابعون غير أولي الرغبة أو الحاجة إلى النساء.
وتدل الآية على أن المرأة مأمورة بألا تبدي زينتها لغير المحارم وغير الأزواج والأتباع، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، إلا ما غلب عليها، فظهر بحكم ضرورة حركة لا بد منها أو إصلاح شأن ونحو ذلك، فهذا الذي يظهر للضرورة من المعفو عنه، وغالب الأمر أن الوجه والكفين يكثر منهما الظهور، وهو الظاهر في الصلاة، ويحسن الاحتياط ومراعاة فساد الناس، واستتار الحسنة الوجه إلا من ذي رحم محرم.
ولا يجوز للمرأة أن تلفت النظر إليها أثناء المشي، فلا تدق الأرض برجلها،
(2/1747)
 
 
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
ليعلم الناس صوت خلخالها، لأنه مظنة الفتنة والفساد، ولفت النظر وإثارة المشاعر غير الشريفة، وما أوقع وأحكم خاتمة الآية، فهي تأمر جميع الناس بالتوبة الخالصة، وبطاعة الله، والإنابة إليه، ليتحقق الفوز والفلاح وسعادة الدنيا والآخرة.
الترغيب في الزواج والاستعفاف
ما من نهي عن شيء ضار في الإسلام إلا ويقابله الأمر بممارسة شيء نافع، فقد نهى الله تعالى عما لا يحل، مما يؤدي إلى الفاحشة من إرسال البصر والتلوث بالمنكر، ثم أعقبه ببيان طريق الحل وهو الزواج المؤدي للعفة والصون، وبقاء النوع الإنساني، وحفظ الأنساب، ودوام الألفة والمحبة، وبناء الأسرة القويمة، لذا رغب الشرع الحنيف بالزواج والاستعفاف، وحذر من البغاء، وحض على تحرير الأرقاء، وإعتاق العبيد، والتخلص من ظاهرة الرق الشاذة، وندب إلى مكاتبة ملك اليمين على عوض مقسط، إذا احتاج السيد لذلك، ورغّب الموسرين في مساعدة المكاتبين على أداء بدل الكتابة للتحرر السريع، قال الله تعالى مبينا هذه الأمور المتعلقة بالزواج والعفة وتحرير الأنفس:
[سورة النور (24) : الآيات 32 الى 33]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
«1» «2» «3» «4» [النور: 24/ 32- 33] .
__________
(1) من لا زوج لها، ومن لا زوجة له.
(2) يطلبون المكاتبة من مماليككم. [.....]
(3) الزنا.
(4) تعففا.
(2/1748)
 
 
هذه الآية خطاب للأولياء المأمورين بتزويج من لا زوج له ومن لا زوجة له، والمعنى: زوّجوا أيها الأولياء الأيامى: وهم كل رجل أو امرأة لا زوج لهما، وزوّجوا الصالحين من الأولاد والإماء للزواج، وهذا الأمر للندب والاستحسان.
والصلحاء: هم القائمون بأوامر الدين، المبتعدون عن النواهي والمحظورات، وظاهر الآية: أن المرأة لا تتزوج إلا بولي، سواء كانت صغيرة أو كبيرة.
ولا يتعلل الأولياء بفقدان المال، فالله تبارك وتعالى وعد بإغناء الفقراء المتزوجين، طلبا لرضا الله عنهم، واعتصاما من معاصيه، فلا تنظروا إلى مشكلة الفقر، فقر الخاطب أو المخطوبة، فإن في فضل الله ما يغنيهم، والله غني ذو سعة، لا تنفد خزائنه، ويبسط الرزق لعباده على وفق الحكمة والمصلحة، ويخص الأزواج بمزيد من العطاء، لاستمرار الحياة الزوجية، قال عمر رضي الله عنه: عجبي ممن لا يطلب الغنى بالنكاح، وقد قال الله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وأخرج ابن ماجه في س