التفسير الموضوعي 2 جامعة المدينة

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: التفسير الموضوعي 2
 
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
 
 
 
 
الدرس: 1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الأخلاق في القرآن الكريم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الأخلاق في القرآن الكريم)
 
التعريف بالتفسير الموضوعي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالتفسير الموضوعي:
هو علم يبحث في القرآن الكريم، من حيث استخراج ما في القرآن من موضوعات، وجمع الآيات المتعلقة بكل موضوع، وتقسيمها إلى عناصر يسميها الباحث فصولًا، أو يجعل الفصول أبوابًا، أو يقسمها إلى فقرات يعرضها، فينتقل من فصل إلى فصل، ومن باب إلى باب، ومن فقرة إلى فقرة، إلى أن يوفي الموضوع حقه من البحث، وهو في ذلك يستعين بما يتطلبه البحث من الأحاديث النبوية، وأقوال الأئمة، وما جاء في كتب اللغة، وما إلى ذلك مما يتطلبه الموضوع في تجلية جوانبه، وجمع الآيات في موضوع واحد لدراسته واستخراج فوائده منهج بدأ من عهد نزول القرآن؛ حين كانت تنزل الآية مجملة في موضع، ومفصّلة في موضع آخر، أو عامة في موضع مخصصة في موضع آخر، وهكذا.
وقد ألف العلماء في بداية القرن الثاني الهجري وما بعده كتبًا في موضوعات جمعوا فيها الآيات، فكانت بداية موفقة لدراسة موضوعات القرآن، كمن ألفوا في الناسخ والمنسوخ، وفي غريب القرآن، وفي إعجاز القرآن، وفي أسباب النزول، وفي أقسام القرآن، وفي أحكام القرآن، وفي هذه المؤلفات، ترى أن العلاقة التي تجمع بين أطراف الموضوع علاقة عامة، ولهذا اتجه التفسير الموضوعي نحو التحديد، ومن ذلك ما تراه من دراسة لموضوعات قرآنية محددة، كما ترى فيما كتبت في الإنسان في القرآن، والمرأة في
(1/9)
 
 
القرآن، والأخلاق في القرآن، في كتابي (شذرات من التفسير الموضوعي للقرآن الكريم)، وكما ترى فيما كتبه المرحوم الدكتور أحمد الشرباصي، ومن ذلك ما كتبه عن الرجولة في القرآن، القلة والكثرة في القرآن، حديث الغرور في القرآن، إلى غير ذلك مما تراه في كتابات الإخوة الأساتذة، وما تلمحه في موضوعات كتب فيها، وما يزالون يكتبون طلاب الدراسات العليا في الجامعات الإسلامية، أثرت المكتبة القرآنية في جملة من البحوث القرآنية النافعة.
ولا بُدّ أن نفرق بين هذا النوع من التفسير وما نراها من كتابات إسلامية فيما يعرف بالدراسات الإسلامية، وفرق بين أن يقال: المرأة في الإسلام، والمرأة في القرآن، أو أن يقال: الأخلاق في الإسلام، والأخلاق في القرآن، وما إلى ذلك، فالموضوع إذا بحث من الناحية الإسلامية لا يعنيه جمع الآيات في الموضوع، إنما يدرسه دراسة عامّة، يستشهد في الفقرة التي يكتب فيها بما يراه من الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة، وما كتبه من سبقوه في دراسة موضوعه، أمّا إذا كان البحث في التفسير الموضوعي فالاعتماد فيه أولًا على جمع الآيات من القرآن، وتقسيمها إلى فقرات أو فصول أو أبواب كما ذكرنا، ودراسة هذه الآيات دراسة متأنية، يقارن بين الآيات ويستنبط منها الأحكام والدروس والعبر، وما إلى ذلك مما يتضح من وضع الآيات بجوار بعضها، والنظر فيها لتكوين رؤية متكاملة عن الموضوع.
ويدخل في التفسير الموضوع ما يسمَّى أيضًا بالوحدة الموضوعية في السورة، بأن يجتهد المفسّر في تحديد الهدف والمحور الذي تدور حوله آيات السورة، وقد يكون للسورة أكثر من هدف، فيقسّم المفسر السورة إلى عناصر، ويعرض هذه العناصر من خلال هدف السورة ومحورها، ويبرز الأسرار العظيمة التي تدلّ
(1/10)
 
 
على إعجاز هذا القرآن حين يتحدث حين يتحدث عن سر اختيار حروف معينة تتكرر في الصورة التي يدرسها دون غيرها، وحين يتكلم عن السبب في بسط قصة من قصص الأنبياء في موضع، واختصارها في كلمات في موضع آخر.
وقد بذل قسم التفسير في كلية أصول الدين جامعة الأزهر جهدًا مشكورًا حين كلّف طلاب الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه بالكتابة في سور القرآن، تحت عنوان: سورة كذا والأهداف التي ترمي إليها، فتناول معظم سور القرآن بهذه الطريقة بالبحث والدراسة، وقد بدأ العمل في هذا المشروع في بداية عام ألف وتسعمائة وثلاث وسبعين، واستمر لفترة طويلة من الزمن، وهو جهد مشكور وعمل مبرور، جزا الله الجميع خير الجزاء.
 
الأخلاق في القرآن الكريم
عرفها الإمام الغزالي في (الإحياء) فقال: "الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلًا وشرعًا، سُمّيت تلك الهيئة خلقًا حسنة، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقًا سيئًا، فما يصدر عن النفس البشرية من أفعال دون تكلّف، هو الذي يطلق عليه بأنه خلق، وما يكون من الإنسان بتكلف وتحت أي ظروف لا يعد خلقًا؛ كمن طبعه السخاء والكرم، لكنه بخل في موقف من المواقف، بسبب من الأسباب، فلا يقال عنه بأنه بخيل، والعكس صحيح، فمن كان خلقه البخل، ولكنه لأمر ما، ساعد محتاجًا أو تبرع بمبلغ من المال، لا يقال عنه بأنه كريم".
(1/11)
 
 
وليس معنى قولهم: "الأخلاق في القرآن" أن يستقصي الباحث في كتاب الله كل خلق حثّ عليه القرآن، وكل خلق نفّر منه؛ ليجمع فيه الآيات لدراستها دراسة موضوعية، فهذا يستغرق كما نرى زمن طويلًا، وقد يقع في مجلدات تشكل موسعة في أخلاق القرآن، مما تصعب الإحاطة به، وإنما يعني هذا القول أنّ يؤصِّل من يكتب في التفسير الموضوعي للأخلاق في القرآن، بأن يبيّن ما تعنيه الأخلاق في لغتتنا العربية، وعند العلماء الذين اعتنوا بدراسة الأخلاق، وأن يبيّن الأسس التي أقيمت عليها أخلاق القرآن، وكيف دعا القرآن لمكارم الأخلاق، وكيف نفّر من الأخلاق السيئة، ثم له أن يختار بعض الأخلاق في القرآن ليتحدث عنها وفق منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.
 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ندرس هذا الموضوع من خلال العناصر التالية:
أولًا: ورود كلمة المعروف في القرآن الكريم وما تدل عليه.
ثانيًا: ورود كلمة المنكر في القرآن الكريم وما يقصد بها.
 
ثالثًا: ما ورد في السنة وأقوال السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
رابعًا: بواعث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خامسًا: من له الحق في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
سادسًا: أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إصلاح المجتمعات.
وقد وردت مادة العين والراء والفاء عدة مرات في كتاب الله، كما وردت مادة النون والكاف والراء عدة مرات كذلك، وهي غالبًا تأتي مقترنة بالمعروف، وأحيانًا تنفرد كلّ منهما فتذكر وحدها، والذي يعنينا منها ما له صلة بموضوع
(1/12)
 
 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالنظر في كتاب الله، نجد أنها قد وردت بهذا المعنى في سورة "آل عمران"، في ثلاثة مواضع، في سياق الحديث عن واجب الأمة المسلمة تجاه مجتمعها، بل والمجتمع البشري، في قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104).
فهذا أمر من الله لأمة الإسلام أن تكون بكامل أفرادها قائمة على قدم وساق، لا يغفلون ولا يتهاونون ولا يتوانون في الدعوة إلى الخير، وفي الأمر بالمعروف والنهي عنه، كما دلّ على ذلك استعمال الفعل المضارع في قوله: {يَدْعُونَ} و {يَأْمُرُونَ} و {يَنْهَوْنَ} وقد حكم الله بأنّ الفلاح مختص بهذه الأمة وحدها إن هي فعلت ذلك، كما يفهم من أسلوب القصر في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وإنها قد بلغت الغاية التي لا تدرك، كما يرشد إليه استعمال اسم الإشارة البعيد في قوله: {وَأُولَئِكَ} ويجوز أن تكون "من" في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ} للتبعيض، وهذا يعني أن يكون في الأمة أناس هم أعمدة الأمة وحداتها والحراس لدينه، يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولو خلت الأمة من هؤلاء انفرط عقدها، وانتشر الفساد في أرجائها، وكانت عرضة للزوال، ولذلك قال الضحاك في هذه الفرقة: "هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة" يعني المجاهدين والعلماء، وهذا لا يتعارض مع أن تكون أمة الإسلام بأكملها قائمة على شريعة الله حامية لحوزة الدين، وليقم كل واحد بدوره، حسب موقعه وظروفه.
ومما يؤيد ذلك ما جاء في الموضع الثاني في السورة -سورة آل عمران- من بيان سبب خيرية الأمة الإسلامية، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110)
(1/13)
 
 
يقول ابن كثير بعد أن ذكر بعض الأحاديث والأقوال: "والصحيح أنّ هذه الآية عامّة في جميع الأمة، كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذي بعث فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلوونهم، ثم الذين يلوونهم".
والموضع الثالث في سورة "آل عمران" جاء في ذكر صفة فئة من أهل الكتاب، عرفوا الحق فاتبعوه؛ كعبد الله بن سلام، وغيره ممّن أسلموا من أهل الكتاب، قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران: 113، 114)، فذكر من صفاتهم التي تميزوا بها، وكانوا بها من الصالحين، أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وفي سورة "النساء" في قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء: 114) ترى أنّ الله حصر خير الكلام في ثلاثة، في الأمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس، ومع أنّ الأمر بالصدقة أمرٌ بالمعروف، وأن الأمر بالإصلاح بين الناس أمر بالمعروف، إلّا أن الأمر بالمعروف أعمّ وأشمل، فقد ذكر أمرًا خاصًّا ثم عامًّا ثم خاصًّا؛ ليكون هذا الأمر العام -وهو المعروف- واسطة العقد؛ إزهارًا لمنزلته وأهميته.
وفي سورة "المائدة" في بيان ما كان من أمر بني إسرائيل، يقول تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 79)، وقد ذكر الله ذلك؛ ليبين لماذا استحق بني إسرائيل اللعنة على لسان داود وعيسى بن مريم، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة: 78)،
(1/14)
 
 
ثم قال: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (المائدة: 79) ومعنى {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ} أي: لا ينهي بعضهم بعضًا عن المنكر الذي يشيع بينهم، وهذا يعني أنّ أي إنسان لا يسلم من النقص، ولا يخلو من الوقوع في خطأ، فكل بني آدم خطّاء، وخير الخطاءين التوابون، وإذا كان المجتمع نابضًا بوحي الله، مشرقًا بنور ما أنزل الله، لم يقبل أن يرى أحد أفراده غارقًا في بحار المعاصي، ملوثًا بالخطيئة، فينبري كل واحد يأخذ بيد أخيه يدله على الطريق الصحيح، فإن لم يحدث هذا، واستمرأ الناس المعاصي، وسكت الآخرون فلم ينكروا المنكر، وإنما كما سنرى في الحديث ((آكلوهم وشاربوهم)) وكأنّ هؤلاء العصاة لم يرتكبوا منكرًا يستحق الإنكار، إن حدث هذا غرق الجميع وضاع الجميع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي سورة "الأعراف" نرى ذلك في بيان صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأن أهل الكتاب يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، كما قال ربنا: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157).
وفي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن يأخذ العفو، ويأمر بالعرف -أي المعروف، وأن يعرض عن الجاهلين، قال تعالى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199).
وفي سورة "التوبة" في ذكر صفات المنافين والمنافقات، وأنهم كما قال تعالى: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} (التوبة: 67).
(1/15)
 
 
وفي بيان صفات المؤمنين والمؤمنات، وأنهم كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71).
ثالثًا: في جعلها صفة من صفات المؤمنين، الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله وجاهدوا في سبيله، فكانت لهم البشرى من الله بالنعيم المقيم في جنات النعيم، قال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة: 112).
وفي سورة "النحل" يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90).
وفي سورة "الحج" في ذكر عمل المؤمنين إن نصرهم الله ومكّن لهم في أرضه، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41).
في سورة "النور" حيث يحذّر الله من اتباع خطوات الشيطان؛ لأنه كما قال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (النور: 21).
وفي سورة "العنكبوت" في موضعين، في ذكر ما كان من فعل قوم لوط -عليه السلام- يقول ربنا على لسان لوط: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} (العنكبوت: 29) وفي بيان أثر الصلاة في
(1/16)
 
 
السلوك: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45).
وفي سورة "لقمان" في قوله وصايا لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17).
وفي سورة "المجادلة" في بيان أن من يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، يقول منكرًا من القول وزورًا، كما ذكر ربنا ذلك فقال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (المجادلة: 2).
وفي سورة "الممتحنة" فيما بايع عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النساء، قال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الممتحنة: 12).
هذه معاشر الأبناء هي الآيات التي وردت فيها كلمة المعروف وكلمة المنكر في كتاب الله، ومن سياق الآيات نستطيع أن نفهم المعنى المقصود بكلٍّ منهما؛ فليس المعروف أو المنكر ما تواضعت عليه المجتمعات، ورضيه الناس طريقًا لحياتهم، فكثيرًا ما يختار الناس ما فيه ضرر بهم، فقد يرى بعضهم أنّ الخمر لذة للشاربين، فيشربها ويستمتع بها، وينكر على من لا يحضر مجلسها، ويشارك الآخرين في شربها، مع أنها أم الخبائث، وقد قدر بعض الأمم أنّ الزنا لا حرمة فيه؛ لأنه متعة مشتركة بين الرجل والمرأة، وأمر يرجع إلى حرية الفرد في اختياره، وإنما يمنع ويعاقب المجتمع على ذلك، إذا ما كان هذا الأمر على فراش الزوجية، أو كان عن طريق الإجبار والإكراه، والحرمة هنا -كما نرى- لا لذات الزنا، وإنما للاعتداء على حرية الفرد.
(1/17)
 
 
وهكذا لو تتبعنا عادات الشعوب والأمم، وما وضعته من قوانين تحكم حياتها، لوجدنا أمورًا لا يصدقها عقل راجح وفكر صائب، ولا يرتضيها دين، ولذلك لا بُدّ من أن تكون المرجعية أولًا لما ورد في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، في تحديد ما يُفعَل وما لا يفعل، وما يفعل قد يكون واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا، وما لا يفعل قد يكون نهي تحريم أو نهي تنزيه، وهكذا، وما يأتي به دين الله في التحريم والتحليل، وما يذكره من أنّ مِن المعروف وهذا من المنكر، لا يتعارض مع ما ترتضيه العقول السليمة والفطر المستقيمة، ولعلكم لا ترضون معي ما ذكره الراغب في مفرداته، وذكره غيره، من أن المعروف اسم لكل فعل يعرَف بالعقل أو الشرع حسنه، وأن المنكر ما ينكر بهما؛ لأنّ الشرع هو الأصل، ولأن العقل تابعًا له، والعقل لا ينفرد بالحكم على الفعل بالحسن أو القبح؛ لأنه لا يستطيع ذلك، إنما يهديه ويرشده نور وحي الإلهي.
ومن نور الوحي الإلهي ما جاء في السنة المطهرة، من ترغيب وحثٍّ على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد وردت جملة من الأحاديث في ذكر ذلك، فلنذكر بعضها:
روى الإمام البخاري بسنده، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلّا المجالس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر)) وروى بسنده عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقطابه في النار فيدور كما يدور
(1/18)
 
 
الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنتم آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)).
وروى الإمام مسلم بسنده، عن أبي ذر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((يصبح على كل سُلامَى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحه صدقة، وكل تحميده صدقة، وكل تهليله صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتين يركعهما من الضحى)) وروى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر)) وروى بسنده عن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطة الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)).
وروى بسنده عن حذيفة بن اليمان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) وروى بسنده عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنَّكُمْ مَنْصُورُونَ وَمُصِيبُونَ وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ منكم فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ)).
(1/19)
 
 
وروى بسنده عن أبي أمية الشعباني قال: ((أتيت أبي ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أي آية؟ قلت: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105) قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا وهوًى متبعًا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخاصّة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهنّ مثل القبض على الجمر، للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجل يعملون مثل عملكم)) قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة: ((قيل يا رسول الله: أجر خمسين منا أو منهم، قال: بل أجر خمسين منكم)).
وروى النسائي بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من والٍ إلّا وله بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالًا، فمن وقي شرها فقد وقي، وهو من التي تغلب عليه منهما)) وروى أبو داود بسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل له)) وروى أبو داود بسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (المائدة: 78) إلى قوله: {فَاسِقُونَ} ثم قال: كلّا والله، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا)) وفي رواية أخرى زاد: ((أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)).
(1/20)
 
 
وروى ابن ماجه بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم)) وروى بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقّن الله عبدًا حجته قال: يا رب رجوتك وفرقت من الناس)) وروى الإمام مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)). وروى النسائي بسنده عن طارق بن شهاب قال: قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من رأى منكرًا فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيّره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيّره بقلبه فقد برئ، وذلك أضعف الإيمان)).
من هذه الآيات والأحاديث نستطيع أن نعرف الدوافع التي تدعو أيّ إنسان ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما نستطيع أن نعرف من له الحق في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما للقيام بهذا الواجب من أثر في إصلاح المجتمع، فالذي يدعو أيّ إنسان ليكون مما أكرمهم الله واختارهم، ووصفهم في قوله: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (التوبة: 112) هو الإيمان بالله، وعلى قدر إيمان المؤمن يكون جهده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك رأينا في الحديث المرحلة الأخيرة وهي التغير بالقلب، وفيها يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((وذلك أضعف الإيمان)).
(1/21)
 
 
كما أنّ الظروف الاجتماعية لها أثرها في ذلك، فالمجتمع المتكافل في ضبط خطى أبنائه على طريق الثبات، وفي محاربة كل مظاهر الفساد، يساعد أفراده على القيام بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حين ينبري أحد الناس آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، فيجب بجانبه مجتمعًا يؤازره، وحكومة تحميه بقوانينها وسلطانها، فلا يخشى ظلم الظالمين وجهل الجاهلين، ولعل مما يصوّر هذا، أنّ الآيات التي جاءت تدعو إلى ذلك، جاءت تتحدث عن أمة وعن جماعة، فأتى الفعل فيها مستندًا إلى ضمير الجمع: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، أو جمعًا كما في قوله: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ولم يرد الفعل مسندًا إلى المفرد إلّا فيما كان خطابًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أو جاء ذلك إخبارًا عنه، كما في قوله: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} (الأعراف: 157) أو نصيحة يوجهها لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ} (لقمان: 17).
ولهذا جاء توجيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وهو يضرب لها مثلًا للعلاقة بين القائمين على حدود الله والواقعين فيها، فيقول: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوما استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)).
كما أنّ هذا الأمر يحتاج إلى تربية إيمانية ونفسية، تجعل كل فرد في الأمة واثقًا من نفسه، يدرك أنه قادر على رد القافلة الشاردة ورأب الصدع في مجتمعه، وأنه إذا
(1/22)
 
 
قال: استمع الناس لقوله؛ لما يرون فيه من صدق اللهجة وحسن الأدب وقوة البيان والقدرة على الإقناع، إنها عوامل مشتركة، تؤدي في النهاية إلى القيام بهذا الأمر على أحسن الوجوه، وهذا يجعلنا نتساءل عمّن له الحق في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهناك فرق بين من له الحق في ذلك ومن يجب عليه القيام به، وهذا شأن ما جاء من تكاليف شرعية، تراها واجبة على أناس تحققت فيهم شروط الوجوب، وبقي الباب مفتوحًا لغيره؛ كما ترى في وجوب الصلاة على المسلم البالغ العاقل، فلو أداها صبي دون البلوغ صحّت منه، وهكذا في الصيام والحج وغير ذلك.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم مكلف قادر على ذلك، كل بحسب قدرته، كما بيّن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده)) إلى آخر الحديث، واشترط قوم العدالة، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، والواقع في المعاصي كيف تقبل نصيحته لغيره في ترك المعاصي، وقد عاب الله على المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 3).
وقال مؤنّبًا أهل الكتاب من بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفهاهم بمقاريض من نار، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك من أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون)) والواقع أنّ هذا شرط كمال. ومن الأدب أن يكون من يأمر غيره بمعروف، أو ينهاه عن منكر، هو أول من يأتمر بما أمر به وينتهي عما نهى عنه، وما عاب الله على هؤلاء أنهم يأمرون بالمعروف
(1/23)
 
 
وينهون عن المنكر، وإنما عاب عليهم هذا التناقض بين قولهم وفعلهم، ولو أنّ كل من يريد أن يأمر غيره بمعروف، أو ينهاه عن منكر، لا يفعل ذلك إلّا إذا ضبط سلوكه واستقام على الجادة، لما وجدت أحدًا يؤدي هذا الواجب؛ ولذا قال سعيد بن جبير: "إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلّا من لا يكون فيه شيء، لم يأمر أحد بشيء".
ولو قام الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بواجبهم وفق الضوابط الشرعية، بأن يجعلوا لكل حالة ما يناسبها من الوعظ أو الزجر أو التخويف أو التغيير باليد، وهكذا، لو فعلوا ذلك كلٌّ في موقعه الاجتماعي أو العلمي أو السياسي، وتعاون الجميع في ذلك، لما وجدت مقصرًا أو منحرفًا أو متهاونًا في أداء فرائض الله، أو مفسدًا في أرض الله، حين ذاك تكون الأمة في مجموعها جديرة بشرفي الخيرية، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110).
ولعلكم تلاحظون معي أنّ الواو لا تفيد ترتيبًا ولا تعقيبًا، إلّا أنّ ذكر أمر قبل أمر آخر له أسراره في تعبيرات القرآن الكريم، وهنا جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سابقًا للإيمان بالله، فدل على مكانته ومنزلته، ولذلك قال الإمام الغزالي في (الإحياء) في مقدمة كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "أمّا بعد، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة، وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربة البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلّا يوم التناد".
ثم أخذ الإمام الغزالي يشكو من فساد زمانه، وما آل إليه حال الناس في تقصيرهم في أداء هذا الواجب، ومدى عظم أجر من قام به آن ذاك، فكان مما
(1/24)
 
 
قال: "فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق، واسترسل الناس في اتّباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعزّ على بساط الأرض مؤمن صادق، لا تأخذه في الله لومة لائم"، ثم يقول: "فمن سعى في تلافي هذه الفترة، وسد هذه الثلمة، إما متكفلًا بعملها، أو متقلدًا لتنفيذها، مجددًا لهذه السنة الدائرة، ناهضًا بأعبائها، ومتشمّرًا في إحيائها، كان مستأثرًا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبدًّا بقربة تتضاءل القرب دون ذروتها".
ولا أدري ماذا كان سيقول الإمام أبو حامد الغزالي، المتوفّى عام خمس وخمس مائة من الهجرة، وبعد أكثر من تسعة قرون، حين يرى ما آل إليه حال الدنيا من الفساد والانحراف عن دين الله، وعلى قدر انتشار الفساد وقوته، يكون أجر من يقاومه ما يستطيع من ألوان المقاومة، حتى يستقيم الناس على طريق الحق، فيعود الأمن والسلام والسعادة لبني الإنسان.
والله المستعان، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
(1/25)
 
 
الدرس: 2 مفهوم العلة.
(1/27)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(مفهوم العلة)
 
"الصفح" و"العفو" في معاجم اللغة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنتحدث عن الأمر بالصفح كما جاء في كتاب الله:
أولًا: الصفح والعفو في معالم اللغة:
ذكر ابن منظور في (لسان العرب) عدَّة معاني للصفح: منها الجنب، وعرض الوجه، وعرض السيف، وعرض صدر الرجل. والمصافحة: الأخذ باليد، وصفح عنه يصفح صفحًا أعرض عن ذنبه، والصفوح الكريم؛ لأنه يصفح عمن جنى عليه، واستصفحه ذنبه استغفره إيَّاه، وطلب أن يصفح له عنه. وأما الصفوح من صفات الله فمعناه: العفو، يقال: صافحت عن ذنب فلان، وأعرضت عنه فلم أءخذه به، وضربت عن فلان صفحًا إذا أعرضت عنه، وتركته، فالصفوح في صفة الله العفوّ عن ذنوب العباد، معرضًا عن مجازاتهم بالعقوبة تكرمًا.
أما العفو فقد ذكر ابن منظور كلامًا كثيرًا خلاصته: أن العفو هو محو الشيء حسيًّا ومعنويًّا، فيقال: عفت الرياح الآثار إذا درستها ومحتها، وعفا عن ذنبه إذا تجاوز عنه ولم يؤاخذه به، والعفو في أسماء الله فعول من العفو، وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المحو والطمس، وهو من أبنية المبالغة، وكل من استحقَّ عقوبة فتركتها؛ فقد عفوت عنه.
فإذا ما انتقلنا إلى صاحب (القاموس المحيط) لنرى ماذا يقول، يقول: الصفح الجانب، وصفح أعرض وترك، وصفح عنه عفا، والصفوح الكريم والعفو، ويقول في بيان معنى العفو: العفو عفو الله -جلّ وعزَّ- عن خلقه، والصفح، وترك عقوبة المستحق، عفا عنه ذنبه، وعفا له ذنبه وعن ذنبه، والمحو والإمحاء، وأحل المال وأطيبه، وخيار الشيء وأجوده، والفضل والمعروف.
(1/29)
 
 
ومن قبل ابن منظوم وصاحب (القاموس) يجمع ابن فارس في معجم (مقاييس اللغة) معاني هذه الكلمات، فيقول في الصفح ما خلاصته: الصاد والفاء والحاء أصل صحيح مضطرد يدل على عَرْض وعِرَض، ويسوق في ذلك بعض ما ورد في اللغة ثم يقول: ومن الباب المصافحة باليد، كأنه ألصق يده بصفحة يد ذاك، ويقول: فأما قولهم صفح عنه، وذلك إعراضه عن ذنبه فهو من الباب؛ لأنه إذا أعرض عنه فكأنه قد ولَّاه صفحته، ويقول في بيان المعنى العفو: العين والفاء والحرف المعتل أصلان يدل أحدهما على ترك الشيء، والآخر على طلبه، ثم يرجع إليه فروع كثيرة لا تتفاوت في المعنى.
فالأول: العفو عفو الله تعالى عن خلقه، وذلك تركه إياهم فلا يعاقبهم، فضلًا منه، قال الخليل: وكل من استحق عقوبة فتركته فقد عفوت عنه، والأصل الآخر الذي معناه الطلب قول الخليل: إن العفاة طلاب المعروف.
وأخيرًا يأتي حديث صاحب (معجمي المفردات) في بيان معاني هذه الكلمات فيقول: صفح الشيء عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف، وصفحة الحجر والصفح ترك التثريب وهو أبلغ من العفو، ولذلك قال: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح، قال: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ}، {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}، {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا}، وصفحت عنه: أوليته مني صفحة جميلة معرضًا عن ذنبه، أو لقيته صفحته متجافيًا عنه، أو تجاوزت الصفحة التي أثبتُّ فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك: تصفَّحت الكتاب إلى آخر ما قال.
ومما قال في معنى العفو: العفو القصد لتناول الشيء، وعفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفًا عنه، وقوله في الدعاء ((أسألك العفو والعافية)) أي: أسأل ترك العقوبة والسلامة، هذا أيها الأبناء هو بعض ما ورد في كُتب اللغة.
(1/30)
 
 
كلمة الصفح في القرآن الكريم
وقد وردت كلمة الصفح في القرآن الكريم في ستّ مواضع:
الموضع الأول: في قول الله تعالى في سورة "البقرة": {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 109) ففي هذه الآية الكريمة يُبيّن الله -عز وجل- أن أمل كثير من أهل الكتاب أن يُخرجوا المسلمين من دينهم، وأن يردُّوهم من بعد إيمانهم كفارًا، وهذا كله بسبب الحسد الذي سيطر على قلوبهم فجعلهم لا يقبلون هذا الدين، ولا يدخلون هذا الدين، مع أن الحق قد تبيَّن لهم وهم أعرف الناس بأن الإسلام هو دين الحق، وقد قال الله للمسلمين: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فذكر أن العفو والصفح هو الرد العملي على كيد هؤلاء الحاقدين الحاسدين، وهذا العفو والصفح موقوتٌ بوقت محدد ألا وهو {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقد كانت هذه مرحلة من مراحل الجهاد الإسلامي، وهي مرحلة العفو والصفح إلى أن جاء الأمر بقتال هؤلاء الناس وقتال أهل الكتاب فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التوبة: 36) إلى آخر الآية الكريمة.
الموضع الثاني: جاء في سورة "المائدة" في قول الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة: 13) فهذا الأمر بالعفو والصفح عن
(1/31)
 
 
هذا الفريق من أهل الكتاب من اليهود خاصة، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظًّا عظيمًا مما ذُكّروا به، وما يزال هؤلاء يخونون أهل الإسلام ويدبِّرون لهم المؤامرات إلا من عصمه الله فدخل الإسلام كعبد الله بن سلام وأمثاله عليهم رضوان الله. وأن على الإسلام أن يواجهوا هذا الكيد بالعفو والصفح؛ لأنه لا قتال ولا شيء إنما هي الدسائس والمؤامرات، ومواجهة هذه المؤامرات إنما يكون بأن يعفو عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون، وأن يصفحوا عن كيد هؤلاء الماكرين الحاقدين، وعليهم أن يلتزموا جانب الإحسان في دينهم، فإن جانب الإحسان تجويد وتعلية، وإعلاء بما جاء به هذا الدين في سلوك منضبط بشرع الله وهدي الله، وبهذا يستطيع أهل الإسلام أن يردُّوا كيد هؤلاء الكائدين الحاقدين الحاسدين.
الموضع الثالث: جاء في سورة "الحجر" في قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (الحجر: 85)، وكم في هذه الآية الكريمة من تهديد ووعيد لهؤلاء؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- بيَّن أنه الإله القوي القادر القاهر حين قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} وذكر سبحانه أن الموعد هو الساعة، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل وعلى المؤمنين مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصفحوا الصفح الجميل.
والصفح الجميل هو الذي لا عتاب فيه، فهذا من الرَّدّ العملي على كيد الكائدين، وحقد الحاقدين وحسد الحاسدين أنه لا يعاتبهم، ولا يتحدَّث إليهم، ولا يناقشهم، ولا يسألهم عن الأسباب التي دعتهم لكل هذا الكيد الرهيب العجيب الذي تآمر فيه أهل الكتاب مع كل أعداء الإسلام، يريدون إطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.
(1/32)
 
 
الموضع الرابع: في قول الله تعالى في سورة "النور": {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 22)، وهذه الآية الكريمة جاءت في سياق الحديث عما كان من أمر الكريمة العظيمة السيدة الشريفة أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- حين رماها أهل الإفك بما نطقوا به، وقد فتن بهذه المسألة بعض المسلمين، ومنهم واحد من هؤلاء الذين كان أبو بكر يتعهَّدهم بالرعاية والعناية والإنفاق عليه، ذلكم هو مسطح بن أثاثة وهو ابن الخالة أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى- عن أبي بكر؛ إذ صار في ركاب هؤلاء الذين تحدَّثوا بما تحدَّثوا به من رمي السيدة عائشة بجريمة بشعة هي جريمة الزنا، فأقسم أبو بكر أن يقطع نفقته على مسطح هذا جزاء بما صنع، فجاء قول الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}، ثم قال مرغبًا في العفو والصفح: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فلما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: "والله إني لأحب أن يغفر الله لي؛ فأعاد نفقته على مسطح هذا"، فرضوان الله على أبي بكر الصديق.
أما الموضع الخامس: ففي سورة "الزخرف" في قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} (الزخرف: 5)، وهذا في الواقع ليس من باب الصفح والعفو، وإنما يقول الله -سبحانه وتعالى- معاتبًا ومهددًا المشركين الذين أسرفوا في عداءهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} في عداءكم وإشراككم وإجرامكم. إننا لن نضرب عنكم الذكر صفحًا وإنما سنوالي إنزال هذا القرآن حتى تفيئوا إلى دين الله وإلى شرع الله وإلى هدي الله، فهذا القرآن نزل ليكون آخر الكُتب التي أنزلها الله لهذه الدنيا.
(1/33)
 
 
الموضع السادس: وهو في سورة "التغابن" في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التغابن: 14) فماذا نرى في هذه الآيات الكريمة نرى أن الله -سبحانه وتعالى- يُنادي المؤمنين، يحذّرهم من فتنة الأزواج والأولاد؛ لأن الإنسان بطبيعته مشدودٌ إلى زوجته وأبنائه، وقد يَدْعُه هذا إلى أن يرتكب ما حرم الله، وأن يكتسب لهم من المال الحرام، فالله -سبحانه وتعالى- نبَّه إلى هذا، وبيَّن أن الإنسان عليه أن يحذر هذا الأمر، بل إن هذه الآية نزلت في هؤلاء الذين منعهم أبناؤهم وأزواجهم من الهجرة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما هاجروا ووجدوا ما وصل إليه الذين هاجروا من قبلهم من خير ومن علم ومن إحاطة بالقرآن الكريم، ومن حضور المشاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزواته حزنوا لذلك، وانقلبوا إلى أبنائهم وأزواجهم يلومونهم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}.
ولكن هذا الذي حدث ليس فيه ما يدعو إلى أن يُعَاقب هؤلاء، وإنما على هؤلاء الأزواج وهؤلاء الآباء أن يعفوا وأن يصفحوا عما كان من هؤلاء، وأن يغفروا لهم خطأهم؛ إذ كانوا سببًا في عدم إسراعهم في اللحاق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لكم ولهم، هذا إذا هو العفو وهو الصفح كما جاء في كتاب الله عز وجل.
أيضًا كلمة العفو وردت في كتاب الله وصفًا لله تعالى، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}، {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}، {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}، {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} عفو الله عنك كما جاءت وصفًّا للمؤمنين: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}،
(1/34)
 
 
{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}، {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، فنرى من خلال هذه الآيات أن كلمة العفو تعني شيئًا زائدًا على مجرد الصفح، والذي هو كما رأينا في معانيه اللغوية يعني: أن يدير الإنسان صفحته بعيدًا عن هذا الذي أساء إليه، أو أخطأ، أو وقع منه ذنب.
أما العفو فهو المحو التام للذنب وآثاره، ومن هنا جاءت هذه الآيات كما نرى وصفًا لله -سبحانه وتعالى-، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}، {إِنَّ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}، وأن الله سبحانه كما قال: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}، {عَفَا اللهُ عَنْكَ} بمعنى: أنه أزال هذا الذنب فلا تثريب، ولا مؤاخذة، ولا عتاب؛ فالمؤمنون حين يصفون بهذا {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} إلى آخر الآيات، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} فهذا معناه: أن المؤمن يكظم غيظه، ولا يكفي هذا إنما يحتاج إلى أن يعفو عمن أساء إليه، {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، فهذا العفو يعني: ألا يبقى للذنب أثر في نفس هذا الإنسان. وهذا هو الإسلام الذي جاء بالدعوة إلى الصفح وإلى العفو.
 
العفو في السنة المشرفة
يروي الإمام البخاري بسنده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ((كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء)) فما أكرم هذا الرسول هذا الأعرابي يصنع هذا الصنيع بمن؟ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مع
(1/35)
 
 
أصحابه، وأنس بن مالك خادمه كان معه يشاهد هذا الموقف ويرى أن هذه الجذبة قد أثَّرت في صفحة عاتق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان بإمكان هذا الأعرابي أن يطلب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون أن يصنع هذا، ولكن الرسول -عليه الصلاة والسلام- مع ذلك التفت إليه فضحك، مما يدل سعة صدره، وحلمه، وحسن خلقه، وعظم صفحه وعفوه عما أساء إليه، ولم يكتفِ بهذا إنما أمر له بعطاء، فأعطاه ما أعطاه حتى رضي.
أيضًا يروي الإمام البخاري بسنده عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه-: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان راكبًا على حمارٍ على قطيفة فدكيه، وأنه أردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن خزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يُسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عَبَدة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة -أي: الغبار الذي يكون من أثر سير دابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- خمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه -أي: غطاه- ثم قال: لا تغبّروا علينا، فسلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًّا فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نُحبّ ذلك، فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتساورون -أي: يمسك بعضهم برقاب بعض- فلم يزل النبي -صلى الله عليه وسلم- يُخفّضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي -صلى الله عليه وسلم- دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ -يريد عبد الله بن أبي قال: كذا وكذا- قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعفُ واصفح عنه، فو الذي أنزل عليك الكتاب
(1/36)
 
 
لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوِّجُوه فيعصِّبوه بالعصابة -أي: ليتوجوه ملكًا عليهم، أو رئيسًا عليهم- فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله؛ شرك بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم)) كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله -عز وجل-: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} (آل عمران: 186) الآية، وقال الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} (البقرة: 109) إلى آخر الآية.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتأوَّل العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدرًا فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجَّه، فبايعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام فأسلموا، ولكن إسلام هؤلاء كان إسلامًا في الظاهر، أما الباطن فهو ما زال مظلمًا بظلام الكفر، فهؤلاء أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وما زالوا يكيدون للإسلام بكل ألوان الكيد، ولكن الله -سبحانه وتعالى- كان يأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يعفو عن هؤلاء المنافقين، وأن يصفح عنهم ما وقعوا فيه من نفاق.
أيضًا يروي الإمام البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} قال في التوراة: "يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدًا ومبشرًا وحرزًا للأمين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظٍّ، ولا غليظ، ولا صخَّاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يُقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به أعينًا عميًا، وأذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا"، فالعفو والصفح إذًا -كما نرى- في هذا الحديث صفة أو صفتان ملازمتان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبر الله بهما في التوراة.
(1/37)
 
 
وأيضًا إذا ما انتقلنا إلى ما رواه الإمام الترمذي سوف نجد جملة من الأحاديث، منها ما رواه الإمام الترمذي بسنده عن أبي إسحاق قال: سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول: سألت عائشة عن خُلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: ((لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح)) قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأبو عبد الله الجدلي: اسمه عبد الله بن عبد، ويقال: عبد الرحمن بن عبد.
أن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- قد ذكرت من صفات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وهذا ما ذكره أيضًا عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- في الحديث السابق حين ذكر أنه قرأ في التوراة "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح"، فتحقق ما أخبر الله به في الكُتب المنزلة السابقة على القرآن مما سيكون من أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فتحقق ما أخبر به ربنا في كتبه المنزلة، وأخبرت السيدة عائشة بما كان من خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
أيضًا في هذا السياق يروي الإمام أحمد بسنده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أفضل الفضائل: أن تصل من قطعك، وتعطي من منعك، وتصفح عمن شتمك)) كما يروى أيضًا عن عائشة أنها قالت: ((لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزئ بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح)) كما سبق أن ذكر ذلك الإمام الترمذي، هذا في الصفح.
أما في العفو فهناك جملة منها الأحاديث، منها ما رواه الإمام البخاري بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم عُينية بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس وكان من النفر الذين يُدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورتهم، كهولًا كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي
(1/38)
 
 
هل لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فأستأذن الحر بن عيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: ها يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ أن يُوقع به -أي: أن يوقع به عقابًا- فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبييه -صلى الله عليه وسلم-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله".
ففي هذا الحديث ما يبين كان عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنه عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- من التزام ما جاء في كتاب الله -عز وجل.
أيضًا يروي الإمام البخاري عن عبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنهما- في قول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} قال: ما أنزل الله إلا في أخلاق الناس، وقال عبد الله بن براد: حدثنا أبو أسامة، حدثنا هشام عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: "أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ العفو من أخلاق الناس" أو كما قال. ومعنى أن يأخذ العفو من أخلاق الناس أي: أن يتجاوز عما يكون منهم من سوء خلق، وإنما يقبل منهم عذرهم، وعليه أن يعفو عنهم، وقال ابن عباس في قول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} (المؤمنون: 96): "الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوك عصمهم الله وخضع لهم عدوهم".
وعند الإمام مسلم نقرأ ما يلي: يروي الإمام مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما توضع أحد لله إلا رفعه الله))،
(1/39)
 
 
وعند الترمذي يروي بسنده عن شيخ من بني مرّة فقال: "قدمت الكوفة وأُخبرت عن بلال بن أبي بردة، فقلت: إن فيه لمعتبر؛ فأتيته وهو محبوس في داره التي قد كان بنى قال: وإذا كل شيء قد تغيَّر من العذاب والظرب، وإذا هو في قشاش فقلت: الحمد لله يا بلال، لقد رأيتك وأنت تمرّ بنا تُمسك بأنفك من غير غبار، وأنت في حالك هذا اليوم فقال: ممن أنت؟ فقلت: من بني مرة بن عباد، فقال: ألا أحدثك حديثًا عسى الله أن ينفعك به قلت: هات. قال: حدثني أبي أبو بردة عن أبيه أبي موسى -أي: الأشعري- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يصيب عبدًا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر))، قال: وقرأ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} ".
فهذا عفو الله عن عباده مع ارتكابهم للذنوب، ويروي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: ((قلت يا رسول الله: أرأيت أن علمت أي ليلة ليلةُ القدر ما أقول فيها قال: قولي اللهم إنك عفوّ كريم تحب العفو فاعفُ عني))، ويروي الإمام أبو داود بسنده عن ابن عمر أنه قال: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَدَع هؤلاء الدعوات حين يُمسي وحين يصبح: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عورتي -وقال عثمان: "عوراتي، وآمن روعاتي"- اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)) فهذا هو ما كان يدعو به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان يسأل الله العافية، وكان يسأل الله العفو ... والعفو هو محو الذنب بكل ما في هذا الذنب من مساوئ، ولكن الأمل في الله كان عظيمًا في أن الله الإله الكريم يعفو ويصفح.
(1/40)
 
 
ويروي الإمام أحمد عن الحسن -رضي الله تعالى عنه- قال: ((استشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس في الآثار يوم بدر، فقال: إن الله -عز وجل- قد أمكنكم منهم، قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، قال: فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم، وإن ما هم أخوانكم بالأمس، قال: فقام عمر فقال: يا رسول الله؛ اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ثم عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله إن ترى أن تعفو عنهم وتقبل منهم الفداء، قال: فذهب عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كان فيه من الغمّ، قال: فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء قال: وأنزل الله -عز وجل-: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 68))) إلى آخر ما نزل من الآيات.
ففي هذا الحديث ما يبين عظم خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه مع شدة عداء أعدائه، ومع أنهم حاربوه وقتلوا من أصحابه من قتلوا إلا أنه -عليه الصلاة والسلام- عفا عنهم، وقبل منهم الفداء -فصلوات الله وسلامه- على هذا الرسول الذي لا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح.
الإمام أبو الحسن الماوردي في (أدب الدنيا والدين)، ذكر كلامًا كثيرًا في الفصل الرابع في كتابه في الحلم والغضب، وذكر لنا أسباب الحلم الذي يؤدّي إلى الصفح وإلى العفو، فمما ذكر في ذلك قال: روى سفيان بن عيينة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين نزلت هذه الآية: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) قال: ((يا جبريل ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم، ثم عاد جبريل وقال: يا محمد، إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك))، ثم يذكر ما رواه هشام عن الحسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان
(1/41)
 
 
إذا خرج من منزله قال: اللهم إني تصدَّقت بعرضي على عبادك))، ويروي أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن الله يُحب الحليم الحيي ويبغض الفاحش البذيء))، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((من حَلُم ساد، ومن تفهَّم ازداد))، ويذكر عن بعض الأدباء قول من غرز شجرة الحلم اجتنى شجرة السلم، وقال بعض البلغاء: ما ذبَّ عن الأعراض كالصفح والإعراض، وذكر عن بعض الشعراء قوله:
أُحبّ مكارم الأخلاق جهدي ... وأكره أن أعيب وأن أعاب
وأصفح عن سباب الناس حلمًا ... وشر الناس من يهوي السباب
ومن هاب الرجال تَهيَّبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهاب
ثم يقول: فالحلم من أشرف الأخلاق وأحقها بذوي الألباب لما فيه من سلامة العرض، وراحة الجسد، واجتلاب الحمد، وقد قال علي -رضي الله تعالى عنه-: "أول عوض الحليم عن حلمه أن الناس أنصاره، وحدّ الحلم ضبط النفس عند هيجان الغضب"، وهذا هو ما نذكره من الصفح والحلم.
وقد ذكر الإمام الماوردي عشرة أسباب تؤدّي إلى ضبط النفس؛ منها" الرحمة بالجهال، والقدرة على الانتصار، والترفع عن السباب ... إلى آخر ما ذكر من هذه الأسباب، والتي تحتاج إلى قراءتها في هذا الكتاب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1/42)
 
 
الدرس: 3 الإحسان إلى الوالدين.
(1/43)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث
(الإحسان إلى الوالدين)
 
معنى كلمتي الإحسان والبر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد:
الإحسان إلى الوالدين:
والإحسان إلى الوالدين، وبر الوالدين من الموضوعات المهمة التي لو أن الناس أحسنوا إلى آبائهم وأمهاتهم سوف يترتب على ذلك خير كثير للناس في الدنيا وفي الآخرة.
كلمة الإحسان وكلمة البر في لغتنا العربية:
يقول ابن فارس في معجم (مقاييس اللغة): الحاء والسين والنون أصل واحد، فالحسن ضد القبح، يقال: رجل حسن وامرأة حسنة، ويقول في البِّر: الباء والراء في المضاعف أربعة أصول الصدق وحكاية صوت وخلاف البحر ونبت؛ فأما الصدق فقولهم: صدق فلان وبر، وبرت يمينه: صدقت، وأبرها: أمضاها على الصدق، ومن هذا الباب قولهم: يبر قرابته، وأصله الصدق في المحبة، يقال للرجل: بار وبار، وبررت والدي وبررت في يميني.
ومما قاله ابن منظور في (لسان العرب): الحسن ضد القبح والإحسان ضد الإساءة، والفرق بين الإحسان والإنعام أن الإحسان يكون لنفس الإنسان ولغيره، تقول: أحسنت لنفسي، والإنعام لا يكون إلا لغيرك، ويقول في المراد بالبر: البر الصدق والطاعة، وبر يبر إذا صلح، وبر في يمينه يبر إذا صدّقه ولم يحنث، وبر رحمه يبر إذا وصلها، وفي أسماء الله تعالى البَّر دون البار وهو العطوف على عباده ببره ولطفه، والبِّر ضد العقوق.
وفي (القاموس المحيط) يقول الفيروز أبادي: الحسن بالضم الجمال، والإحسان ضد الإساءة، والحسنة ضد السيئة، ويقول في البر: البر الصلة والجنة والخير
(1/45)
 
 
والاتساع في الإحسان والحج والصدق والطاعة، وضد العقوق، وبالفتح -أي: البر- من الأسماء الحسنة.
أما الراغب في (معجم مفردات ألفاظ القرآن) فيقول: الحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب فيه؛ وذلك ثلاثة أضرب؛ مستحسن من جهة العقل، ومستحسن من جهة الهوى، ومستحسن من جهة الحس، ثم يقول: والإحسان يقال على وجهين:
أحدهما: الإنعام على الغير، يقال: أحسن على فلان.
والثاني: إحسان في فعله، والإحسان أعم من الإنعام؛ قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} (الإسراء: 7)، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (النحل: 90) فالإحسان فوق العدل؛ وذلك أن العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ما له، والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له، ولذلك عظم ثواب المحسنين؛ فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُحْسِنِين} وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} (البقرة: 195) ويقول في البِّر: البَّر خلاف البحر، وتصور منه التوسع، فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير، وينسب ذلك إلى الله تارة نحو {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيم} (الطور:28) وإلى العبد تارة فيقال: بر العبد ربه؛ أي توسع في طاعته، فمن الله تعالى الثواب ومن العبد الطاعة، وذلك ضربان: ضرب في الاعتقاد وضرب في الأعمال، وقد اشتمل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} (البقرة: 177) الآية، وعلى هذا ما روي أنه سئل -عليه الصلاة والسلام- عن البر فتلا هذه الآية؛ فإن الآية متضمنة للاعتقاد وأعمال الفرائض والنوافل، وبر الوالدين التوسع في الإحسان إليهم وضده العقوق قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} (الممتحنة: 8) ويستعمل البر في الصدق لكونه بعد الخير المتوسع فيه، يقال: بر في قوله وبر في يمينه، وقول الشاعر:
(1/46)
 
 
أكون ما كان البر منه
قيل: أراد به الفؤاد، وليس كذلك، بل أراد ما تقدم؛ أي يحبني محبة البر، ويقال: بر أباه فهو بار وبر، مثل صائف وصيف وطائف وطيف، وعلى هذا قوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} (مريم: 14) وبرا بوالدتي، وبر في يمينه فهو بار، وأبررته وبر يميني، وحج مبرور أي مقبول، وجمع البار أبرار وبررة قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (الانفطار: 13). وقال: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} (المطففين: 18). وقال في صفة الملائكة: {كِرَامٍ بَرَرَة} (عبس: 16) فبررة خص بها الملائكة في القرآن من حيث أنه أبلغ من أبرار؛ فإنه جمع بر وأبرار جمع بار، وبر أبلغ من بار، كما أن عدلًا أبلغ من عادل، والبر معروف، وتسميته بذلك لكونه أوسع ما يحتاج إليه في الغذاء ... إلى آخر ما قال عليه رحمة الله.
من خلال هذا العرض لكلمتي الإحسان والبر في لغتنا العربية- يتضح لنا أن الإحسان معناه أن يبذل الشخص أقصى ما في وسعه حتى يصل إلى درجة التجويد في ما يؤديه من قول أو فعل، وأن البر معناه الطاعة والتوسع في الخير، وهذا التوسع على الأبناء أن يصلوا به إلى درجة تنشرح لها وبها صدور آبائهم؛ ليصلوا من هذا البر وبهذا البر إلى درجة الإحسان.
 
الإحسان إلى الوالدين في القرآن الكريم
وقد وردت هذه الوصية في القرآن في ستة مواضع:
أولها: في سورة "البقرة" في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} (البقرة: 83) فهذه إذًا وصية الله لبني إسرائيل، فهي وصية
(1/47)
 
 
قديمة أخذها الله ميثاقًا على بني إسرائيل، جاءت الوصية جاءت الوصية بالوالدين فيما أوصى الله به وفيما أخذ من العهد والميثاق بعد عبادة الله -سبحانه وتعالى- وما بعد ذلك هذا هو الذي نراه في قوله: {وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} لكن بني إسرائيل لم يلتزموا بهدي الله وشرع الله، إنما كما قال ربنا في الآية الكريمة: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}.
وفي سورة "النساء" يقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (النساء: 36).
وفي وصايا سورة "الأنعام" يقول تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الأنعام: 151).
وفي سورة "الإسراء" يقول ربنا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا * إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 24).
فأنت ترى في هذه الآيات أن -سبحانه وتعالى- أمر بعبادته أولًا، ثم ثنى بالوصية بالإحسان إلى الوالدين ثانيًا؛ لتعرف قيمة هذه الوصية وقيمة هذا الأمر وقيمة ما أمر الله به في قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
(1/48)
 
 
يقول الإمام الفخر الرازي: وإنما ثنى القرآن بهذا التكليف لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى، ويتلوها نعمة الوالدين؛ لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله سبحانه، وفي الظاهر هو الأبوان، ثم نعمهما على الإنسان عظيمة، وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ من الضياع والهلاك في وقت الصغر.
وقد تأتي الوصية من الله مباشرة بالوالدين والإحسان إليهما كما نرى ذلك في سورة "العنكبوت" حيث يقول ربنا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8).
وكما جاء في "الأحقاف" في قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (الأحقاف: 16).
هذه الآيات الستة التي وردت فيها كلمة الإحسان أو حسنى إلى الوالدين، ولكن وردت وصية من الله -عز وجل- بالوالدين دون ذكر كلمة الإحسان وذلك في سورة "لقمان" في قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 15).
(1/49)
 
 
أما كلمة البر -والتي نتحدث فيها عن بر الوالدين- فلم ترد في كتاب الله إلا في سورة "مريم" في قول يحيى وعيسى، يحيى كما قال ربنا: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} (مريم: 14)، وعيسى -عليه السلام- يقول: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (مريم: 32) الغاية إذا من هذا البر -كما ألمحت- هو يبذل الابن قصار جهده في أن يتوسع في الخيرات والعطاءات، وأن يقوم بواجبه تجاه والديه، إلى أن يصل بذلك إلى درجة الإحسان.
 
الإحسان إلى الوالدين في السنة المشرفة
وحين نتأمل سوف نرى كلمة الإحسان قد جاءت في السنة المشرفة في قول الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم- تبين المرحلة العليا في تجويد الإسلام والإيمان، فلما سئل الرسول -عليه الصلاة والسلام- وذكر الإسلام وذكر الإيمان وسئل عن الإحسان قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) فسوف نعرف كثيرًا من هذه المعاني حين نستعرض ما جاء في السنة المشرفة، وفيها الكثير من المعاني، هيا إذًا لنقتبس من نور المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما يضيء للدنيا الطريق:
روى البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك))، فترى أنه -صلى الله عليه وسلم- أوصى هذا الصحابي بأمه المرة تلو المرة، ثم جاء الأب في المرتبة الأخيرة، وما ذلك لم بذلته الأم من تعب ومن مشقة كما رأينا في الآيات: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} أو كما قال ربنا: {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} ثم إنها ضعيفة فتحتاج إلى مزيد من الرعاية.
(1/50)
 
 
سوف نجد أيضًا في ما رواه الإمام البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص أنه نزلت فيه آيات من القرآن، قال: حلفت أم سعد إلا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثًا حتى غشي عليها من الجهد أي من المشقة والتعب، فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله -عز وجل- في القرآن هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا و َإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} وفيها: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15).
إذًا الطاعة والبر والإحسان إنما يكون في طاعة الله لا معصية الله، وأعظم المعاصي وأكبرها وأشدها جرمًا هو الكفر بالله والإشراك بالله فهذا لا طاعة فيه لأحد.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ((أقبل رجل إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبياعك على الهجرة والجهاد؛ أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحدٌ حي؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما))، وفي هذا بيان لعظم صحبة الأبوين بالإحسان كليهما.
وهناك أيضًا حديث عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجل عابد فاتخذ صومعة، فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جرير فقال: يا رب أمي وصلاتي -يعني: كيف أختار بينهما- فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج،
(1/51)
 
 
فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات -أي: المشتغلات بأمر الزنا- فتذاكر بنو إسرائيل جريج وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو لجريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به فقال: دعوني حتى أصلي فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا)).
ففي هذا الحديث نرى ما كان من أمر هذا العابد وأنه فضل صلاته على إجابة دعوة أمه لجبر خاطرها، فلما غضبت منه دعت عليه بهذه الدعوة؛ أن ينظر إلى وجوه المومسات، فتحقق هذا وحدث، وجاءت هذه البغي وفعلت ما فعلت؛ لكنه لأنه حفظ الله -سبحانه وتعالى-؛ فلم يقترب منها ولم يرتكب المعصية، وإنما لاذ بدينه وإيمانه، ولكن هذه المرأة الفاجرة جاءت إلى راعٍ يأتي إلى هذه الصومعة ففعلت معه ما فعلت، وحملت بهذا الصبي، فارتكبت عدة جرائم: ارتكبت جريمة الزنا وجريمة الكذب وجريمة البهتان وادعت زورًا وظلمًا أن هذا الصبي هو ابن لجريج، ولكن الله -عز وجل- عنده الفرج وهو ولي الصالحين؛ لم يترك عبده هذا لجرم هؤلاء المجرمين، إنما أنطق هذا الصبي فذكر أن فلانًا الراعي هو أبوه، فأقبل القوم على جريج -كما جاء في الحديث- يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا، الشاهد في الحديث -كما رأينا- هو ما في طاعة الأم من فضل ومن خير ومن بركة.
(1/52)
 
 
وعند الترمذي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ((سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لميقاتها، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله، ثم سكت عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو استزدته لزادني)).
في هذا الحديث ترى أن بر الوالدين يأتي قبل الجهاد في سبيل الله، وقد سبق أن رأينا الرسول -صلى الله عليه وسلم- نصح هذا الذي طلب منه أن يهاجر وأن يجاهد أن يعود إلى أبويه فيحسن صحبتهما.
ويروي أيضًا الإمام الترمذي عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أحدثكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، قال: وجلس وكان متكئًا، فقال: وشهادة الزور -أو قول الزور- فما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولها حتى قلنا: ليته سكت)).
ففي هذا الحديث بيان لجريمة عقوق الوالدين، وأن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، ويأتي بعد الإشراك بالله، وكما رأينا في الوصية بالوالدين والإحسان إليهما أن ذلك يأتي بعد الأمر بعبادة الله وإخلاص العبادة لله، هنا أيضًا هذا الأمر في عقوق الوالدين يأتي بعد الإشراك بالله.
بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوصي بالمحافظة على كرامة الأبوين؛ ذلكم في الحديث الذي رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من الكبائر أن يشتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أب الرجل فيشتم أباه، ويشتم أمه فيسب أمه)) فعلى الإنسان أن يحافظ على كرامة والديه بمحافظته على ألا يسب أحدًا وألا يشتم أحدًا؛ لأنه إذا فعل ذلك هذا الذي شُتم لن يسكت، إنما سوف يشتم الرجل والديه ويشتم أمه، وهكذا.
(1/53)
 
 
ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعظيمًا لقدر الأبوين وأن الابن مهما بذل فلن يستطيع أن يوفيهما حقهما يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)).
بل إن جريمة قطيعة الرحم -وفي مقدمة ذلك ما يفعله بعض الأبناء بالآباء حين يقاطعون آباءهم وينسون مودتهم وينشغلون عنهم بأبنائهم وأزواجهم- وفي هذا يروي الإمام الترمذي بسنده عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يدخل الجنة قاطع)) قال ابن أبي عمر: قال سفيان: يعني قاطع رحم، فنسأل الله السلامة والعافية.
بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد من الأبناء أن يواصلوا بر آبائهم حتى بعد وفاتهم، وفي هذا يروي الإمام مسلم بسنده عن عبد الله بن عمر؛ أن رجلًا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال ابن دينار، وكان مع ابن عمر: فقلنا له: أصلحك الله، إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان ودًّ لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه)).
وما زلنا نواصل الحديث من خلال أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك ما ذكره صاحب (الترغيب والترهيب) في كتاب البر والصلة الترغيب في بر الوالدين وصلتهما وتأكيد طاعتهما والإحسان إليهما وبر أصدقائهما من بعدهما، مما ذكر الإمام المنذري في هذا الباب وفي هذا الكتاب ذكر حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-: ((أن رجلًا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي، قال: أذنا لك؟ قال: لا، قال: فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما)).
(1/54)
 
 
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأذنه في الجهاد فقال: أحيّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)).
وقريب من ذلك ما روي عن أنس -رضي الله عنه- قال: ((أتى رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه -ربما لظروفه الصحية أو لعدم قدرته المالية- فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: هل بقي من والداك أحد؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برها فإن فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد)) يقول الإمام الحافظ المنذري: رواه أبو يعلى والطبراني في (الصغير) و (الأوسط)، وإسنادهما جيد؛ ميمون بن نجيح وثقه ابن حبان، وبقية رواته ثقات مشهورون.
وأيضًا في هذا الباب وفي هذا السياق يروي عن طلحة بن معاوية السلمي -رضي الله عنه- قال: ((أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، إني أريد الجهاد في سبيل، قال: أمك حية؟ قلت: نعم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الزم رجلها فثم الجنة)) أي فهناك الجنة عند رجلها.
وعن معاوية بن جاهمة: ((أن جاهمة جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن الجنة عند رجلها)).
وما إلى ذلك من هذه الأحاديث التي تبين أن التزام الأم والتزام الوالدين والقيام بحقهما لا يقل عن الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى- بل ربما كان هذا أفضل من الجهاد.
والمقصد من هذا الجهاد الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الجهاد غير المفروض، فإن الجهاد إما فرض عين وإما فرض كفاية، فرض العين هو الجهاد الواجب على كل فرد من الأفراد وعلى كل مسلم من المسلمين، وله أسبابه المذكورة في كتب الفقه، أما غير الجهاد المفروض فهو الجهاد الكفائي الذي إذا قام به البعض سقط
(1/55)
 
 
الفرض عن الباقين، فالمقصد من هذا الجهاد الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأراد هؤلاء الصحابة أن يخرجوا فيه هو الجهاد الكفائي.
أيضًا، في طاعة الأبوين وطاعة الأب وطاعة الأم يروي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-: "أن رجلًا أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها، فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضِع هذا الباب أو احفظه)) " قال الترمذي: حديث صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه، ولفظه: "أن رجلًا أتى أبا الدرداء فقال: إن أبي لم يزل بي حتى زوجني وإنه الآن يأمرني بطلاقها؟ قال: ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق امرأتك! غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمعته يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة)) فحافظ على ذلك الباب إ