التفسير الموضوعي 1 جامعة المدينة

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
الكتاب: التفسير الموضوعي 1
 
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
 
 
 
الدرس: 1 التوحيد (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(التوحيد (1))
 
الوحدانية والتوحيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أقسام التوحيد:
أ- التفريق بين الوحدانية والتوحيد من حيث اللغة:
يقال في اللغة: وَحِد بكسر الحاء، ووَحُد بضم الحاء، أي: صار منفردًا، إذ أصل الوحدة الانفراد، أو كما يقول الراغب -رحمه الله: هي الشيء الذي لا جزء له ألبتة. انظر (المفردات) للراغب الأصفهاني مادة وَحَد ص 514.
ويُقال: وَحَّده توحيدًا، أي: جعله واحدًا أو عَدَّه واحدًا. والواحد: مشترك لفظي يطلق على الله تعالى، مع ملاحظة الفارق بين الوَحدة في الحالين، فالوَحدة في جانب الخلق جميعًا عارضة تقبل التحول، بل قد تكون ادّعائية، كقولهم: فلان واحد دهره، أو نسيج وحده.
أما الوَحدة في جانب الخالق جل شأنه فهي أصلية غير عارضة ولا مُدَّعاة، وهي حقيقة يقينية لا تقبل التحول والانتقال، وقد أحسن الراغب -رحمه الله- حين قال بعد أن بيّن استعمالات لفظ الواحد قال: "والوَحدة في كلها عارضة، وإذا وُصف الله بالواحد فمعناه هو الذي لا يصح عليه التجزّي ولا التكثّر". انظر المرجع السابق ص 515.
ولفظ أحد مشترك لفظي كذلك، لكنه إذا وقع وصفًا فلا يكون إلا لله تعالى؛ لأنه أكمل من الواحد كما قال أبو حاتم. انظر (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي: النوع الأربعون: في معرفة الأدوات التي يحتاج إليها المفسر جزء 1 ص 146.
(1/9)
 
 
وأَحَد: أرقى دلالة على معنى الوَحدة، أما الفرق بين الوحدانية والتوحيد فهو أن الوحدانية صفة ذاتية لله، والتوحيد إيمان المكلف واعتقاده أن الله متصف بذلك.
ولذلك يقول صاحب (القاموس المحيط): "التوحيد: الإيمان بالله وحده، والله الأوحد والمتوحد: ذو الوحدانية". انظر (القاموس المحيط) باب الدال فصل الواو.
الوحدانية: مصدر بمعنى الوَحدة، زيدت عليه ألف ونون للمبالغة في النسبة إلى الرب والروح والجسم؛ على وجه المبالغة. وجاء لفظ الوحدانية على هذا البناء للدلالة على اتصافه تعالى بالوحدة المطلقة، البالغة غاية الكمال، والثابتة له سبحانه قبل أن يكون الخلق جميعًا، كما قال تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (الحديد: 3) وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((كان الله ولم يكن شيء غيره)) رواه البخاري عن عمران بن حصين في كتاب بدء الخلق من كتاب (الجامع الصحيح) جزء 4 ص 73.
أما التوحيد شرعًا: فهو الإيمان الجازم بتفرد الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، ونفي الشركاء عنه سبحانه اعتقادًا وعملًا، على الوجه الذي جاء به الوحي الإلهي، على ألسنة الرسل -عليهم السلام.
ويتلخص من هذا أن الوحدانية هي صفة الله، وهي حقيقة قائمة بذاته جل شأنه، سواء اعترف الناس بذلك أم لم يعترفوا، فالوحدانية قائمة بذاته جل شأنه.
ب- موقف القرآن من الوحدانية والتوحيد:
لقد وقف القرآن موقفًا شاملًا في هذا الباب، وعُني بأمر الوحدانية والتوحيد غاية العناية، وأبرزها في الآيات المكية والمدنية جميعًا، وموقف القرآن في هذا الجانب واسع مستفيض يحتاج إلى مجلدات تفرد له.
(1/10)
 
 
جـ- سرّ اهتمام القرآن البالغ بالوحدانية والتوحيد:
اهتم القرآن اهتمامًا بالغًا بالوحدانية؛ لأن الوحدانية صفة جامعة من صفات الله، واهتم القرآن بالتوحيد أيضًا لأن التوحيد عقيدة ملزمة، لا يُقبل عمل العبد إلا إذا قام بها على وجهها الشرعي، ولأن التوحيد هو العقيدة التي كثر فيها انحراف البشر، عن حقائق الفطرة التي خُلقوا عليها، وعن حقائق الوحي الإلهي الذي جاء على ألسنة الرسل -عليهم السلام.
د- جوامع ألفاظ الوحدانية والتوحيد:
لقد تحدث القرآن الكريم عن هذه القضية الكبرى، بألفاظ شتى، تدور حول تقريرها وتأكيدها بطريق الإثبات. مثل: لفظ الواحد والأحد والرب والإله، أو بطريق نفي أضدادها. مثل: الشرك والشركاء والشفعاء والأنداد، والدعاء والعبادة لغير الله، وغير ذلك كثير. وعلى سبيل المثال فقد ورد لفظ: واحد، وما تفرع منه في القرآن الكريم في ثمانية وستين موضعًا. انظر (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن) مادة وَحَد ص 745.
منها ثمان وعشرون مرة وصفًا لله تعالى، وتقريرًا لوحدانيته. مثل قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 163). ومثل قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الزمر: 45).
وقد ورد لفظ أَحَد في القرآن الكريم خمسًا وثمانين مرة. انظر (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) مادة أَحَد ص 15.
ومن العجيب أن لفظة أحد جاءت مرة واحدة وصفًا لله تعالى، وهو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) وكأن هذا نوع من التأكيد لوحدانية الله تعالى، من حيث اللفظ والمعنى والعدد جميعًا.
(1/11)
 
 
وقد ورد لفظ أحد بصيغ أخرى غير الوصف، تتعلق بالله تعالى بوجهٍ ما. مثل: رد الأحدية إليه عن طريق الاستثناء. قال تعالى: {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} (الأحزاب: 39). ومثل نفي الشركاء مطلقًا قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن: 26، 27).
وقوله تعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} (الكهف: 26) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} (فاطر: 41).
هـ- الوحدانية أصل الأصول جميعًا:
القرآن العظيم يتحدث عن الوحدانية باعتبارها الصفة الإلهية الجامعة لكل صفات الكمال، فهو سبحانه واحد في ذاته، وهو سبحانه واحد في صفاته، فلا يشاركه أحد في علمه، ولا في قدرته أو إرادته أو حكمته، أو أي صفة من صفاته جل شأنه، وهو واحد في أفعاله سبحانه، فلا يشاركه أحد في خلقه ولا رزقه، كما قال تعالى في كلمة جامعة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11).
هو أيضًا واحد في أسمائه لا يشاركه فيها أحد، والواحد من هذه الأسماء الحسنى، جاء ذلك في حديث أبي هريرة، الذي رواه الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي، وقد عُني الوحي الإلهي أبلغ العناية ببيان تقرير كل ما يتعلق بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وجعل ذلك رأس الإيمان ولبَّ الاعتقاد خاصة: صفة الوحدانية؛ باعتبارها الصفة الجامعة لكل كمال يليق بالله تعالى.
والله تعالى متفرد بالوحدانية المطلقة، وكل شيء في الكون كله سواه مبثوث على نمط الزوجية المكررة ذات الأشياء والنظائر. والقرآن الكريم يتحدث عن التوحيد باعتباره رأس الإيمان، والأصل الذي ينبغي أن يتقرَّر في النفس والقلب قبل كل
(1/12)
 
 
شيء، ثم في العمل والسلوك؛ لأنه مقياس كل شيء بعده، فلا يقبل عمل بدونه، ولا تقبل شفاعة، ولا تعطى مغفرة لمن أخلَّ به. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48).
 
التوحيد أساس دعوة جميع الرسل -عليهم السلام-
لقد قرر القرآن الكريم أن الأساس الذي قامت عليه دعوة الرسل هو: تقرير وحدانية الله تعالى، وتنزيهه عن الشركاء والأنداد والأبناء والآباء، وصرف وجوه العباد له وحده؛ في العبادة والطاعة، والذكر والدعاء، والاستعانة والاستغاثة، والتوكل والرجاء، ونحو ذلك من كل ما لا يليق إلا به سبحانه وتعالى.
ولقد قرر القرآن الكريم هذا المعنى وأكده بطريقين:
الأول: الطريق الإجمالي: قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25). فهذا تعميم على سبيل الحصر، بأن كل رسول قد أوحي إليه أن الله تعالى متصف بالوحدانية، لا إله إلا الله، ومستحق للتوحيد، وذلك في قول الله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} أي: أفردوني بالعبادة لأني متفرد بالألوهية.
وقال تعالى في هذا المعنى أيضًا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36). هذه الآية تقرر أن الله تعالى قد بعث في كل أمة رسولًا، وكان أول دعوة كل رسول في كل أمة: أن اعبدوا الله ولا تشركوا به الطواغيت، والطواغيت: كل ما يعبد من دون الله تعالى، وهو مشتق من الطغيان.
هذا طريق من طرق القرآن في الاستدلال على التوحيد.
(1/13)
 
 
الثاني: الطريق التفصيلي في استدلال القرآن على توحيد الله سبحانه وتعالى: هذا الطريق يذكر فيه القرآن الرسل بأسمائهم، وكيف كان التوحيد رأس دعوتهم جميعًا؛ ومن ذلك:
1 - ما جاء في قصة نوح -عليه السلام- وهو أول رسول من أولي العزم بُعث إلى أهل الأرض. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59).
2 - قال تعالى عن هود -عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 65).
3 - ونفس الألفاظ قال تعالى عن صالح -عليه السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 73).
4 - وهي الألفاظ التي جاءت على لسان شعيب -عليه السلام. قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85).
5 - أما إبراهيم -عليه السلام- فقد تحدَّث القرآن بتفصيل وافر عن دعوته إلى النبوة، وتحدث القرآن عن دعوة إبراهيم بشتى الصيغ والأساليب، في المواقف المتعددة والأحوال المختلفة، ولعل السر في توسيع حديث القرآن عن إبراهيم -عليه السلام- أنه أبو الأنبياء الذين جاءوا بعده -صلى الله عليه وسلم- وعلى الرسل أجمعين.
وكان اليهود والنصارى والعرب يعترفون بنبوته وأبوته لهم، بل ويعتزون بالانتساب إلى إبراهيم -عليه السلام، ومن هنا توسع القرآن في الحديث عن إسلامه ودعوته البليغة إلى التوحيد، ونبذ الشرك، وعن محاوراته المفحمة للمشركين، وموقفه العملي الصارم من الأصنام، سخرية منها، وتحطيمًا لها، وتبكيتًا لعُبَّادها.
(1/14)
 
 
وبذلك تقوم الحجة على المنتسبين إليه من اليهود والنصارى ومشركي العرب، الذين انحرفوا عن دين الحق، ووقفوا في دروب من الوثنية الطامسة الدامسة، وبذلك تسقط دعواهم أنهم على دين إبراهيم، كما قال تعالى ردًّا عليهم مجتمعين: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67).
ويقول تعالى عنه وعن المؤمنين معه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (الممتحنة: 4).
وكذلك يقول القرآن عن موسى -عليه السلام- وهو يدعو إلى وحدانية الله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (طه: 13، 14).
وكذلك يخبر القرآن عن عيسى -عليه السلام: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (المائدة: 72).
ويخبر القرآن عن دعوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى التوحيد. لقد بُعث سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة العالمية الشاملة، وبالتقرير الأوفى، وبالبيان الأعلى في شأن الدين كله عامة، والتوحيد منه خاصة. وقد أمده القرآن الكريم بأتمّ الحجج والبراهين، وسجل أقاويل الكفار وردود الوحي عليها؛ حتى تكون حجة الله بالغة باهرة إلى يوم الدين، وحتى لا تكون للناس على الله حجة بعد ختم النبوة؛ لأن القرآن صوتها الممدود ونداؤها الموصول، وفيه أكمل حديث عن التوحيد تقريرًا وإثباتًا، وردًّا على المشركين والملحدين، وإبطالًا للشرك وكل دروب الوثنية والانحراف عن التوحيد.
ويكفي مثالًا لهذا ما أمره الله تعالى أن يقول للناس في كلمات جامعة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإخلاص: 1 - 4).
(1/15)
 
 
فهذه السورة الكريمة على وجازتها جامعة لكل ما يليق بالله تعالى وحده؛ من صفات الكمال: أحدية، استغناء، تنزيه له عن الشركاء والأشباه، ثم هي مصححة لضلالات المشركين وأهل الكتاب في باب الاعتقاد.
إن الآية الأولى تثبت الوحدانية لله تعالى على أبلغ الوجوه؛ لأن لفظ أحد أكمل من الواحد، ولذلك لا يوصف به إلا الله تعالى. والآية الثانية بيان لأسباب أحديته؛ إذ إنه هو وحده السيد الكامل في جميع صفاته وأفعاله، وهو المقصود في جميع الحوائج، وهو الغني عن كل شيء، بل كل شيء محتاج إليه. والآيتان الثالثة والرابعة تقرير لهذه الأسباب أيضًا؛ لأنه سبحانه متفرد عن الأصول والفروع، وما يلزمها من الصاحبة أُمًّا أو زوجة، وكذلك هو متفرد عن الشبيه والمماثل، وإن لم يكن أصلًا أو فرعًا. انظر تفسير سورة الإخلاص في تفسير البيضاوي والخازن وأبي السعود.
 
الربوبية والألوهية وصلتهما بالتوحيد
لقد تحدث القرآن الكريم طويلًا عن الربوبية والألوهية، وأبطل كل ادعاء لأحدهما من دون الله، وأثبت أنه لا رب ولا إله بحق إلا الله، وأوجب سبحانه على عباده أن يفردوه بهما معًا في التوحيد.
والرب شرعًا يطلق على معان، أجمعها:
1 - المربي الذي تعهَّد خلقه بالتنشئة والتربية وقضاء الحاجات على معنى أنه هو المتصف بكل صفات التأثير، مِن خلق، رزق، مُلك، إحياء، إماتة، تدبير، هداية ... إلى آخره.
2 - من معاني الربوبية: السيد المطاع النافذ الحكم.
(1/16)
 
 
أما الإله فيطلق على معانٍ، أجمعها:
1 - المعبود الذي يستحقّ وحده أقصى غايات التذلل والخضوع، مِن صلاة، ذكر، حب، خوف، توكل، دعاء، نذر، وقسم به سبحانه وتعالى ... إلى آخره.
2 - من معاني الإله: المستعلي على عباده، الخليق بالطاعة فيما أمر ونهى.
وصف الألوهية: وصف الألوهية والربوبية لله وصفان لا يفترقان، ومن هنا يتضح التلازم التام بين الربوبية والألوهية، وأنهما لا ينفصلان من حيث الحقيقة الشرعية، ومن حيث الوجود الواقعي؛ لما يأتي:
أولًا: لأنهما وصفان لذات واحدة، لا يوجدان في غيرهما، ولا يجتمعان في سواها، ولا يتحققان بمعناهما الصحيح إلا لله الواحد الأحد.
ثانيًا: لأنهما يجتمعان في معنًى مشترك بينهما، وهو المعنى رقم 2 من كل منهما، وإن اختص كل منهما بمعنى خاص به، كما رأينا في المعنى رقم 1.
الوحدانية والتوحيد، مجموع الأمرين: مجموع الألوهية والربوبية، ومن هنا يتضح أيضًا أن الوحدانية تعني اتصاف الله تعالى بالربوبية والألوهية جميعًا، والتوحيد يعني وجوب إفراده سبحانه وتعالى بالأمرين جميعًا، فلا يقال: توحيد الربوبية هو كذا، ولا يقال: توحيد الألوهية هو كذا؛ لأن التوحيد لا يقبل التجزئة أصلًا، حتى يقوم به أحد الجزأين مقام الآخر في الإطلاق.
لذلك لا يصح أن يقال: التوحيد المضاف لأحد الوصفين يقوم مقام الحقيقة الجامعة، ولا يصح أن يقال: هذا من باب المجاز؛ لأن المجاز لا يصار إليه في حقائق الاعتقاد.
أما من حيث الحقيقة الشرعية فالتوحيد: هو أن يؤمن العبد بأن الله تعالى هو
(1/17)
 
 
وحده الرب، صاحب كل صفات التأثير والكمال، وأنه لذلك هو وحده الإله المستحقّ للعبادة والطاعة بلا شريك، فإذا أقر العبد بأحدهما فقط لم يكن موحدًا، وإنما يقال: هو مقر أو معترف بأحدهما، ولكن لا يصح أن يسمى موحدًا؛ لأن التوحيد هو مجموع الأمرين معًا.
ولهذا لم يُطلق القرآن على الكفار أنهم موحدون توحيد الربوبية، حين أقروا أن الله تعالى هو الخالق المالك الرازق، وإنما سماهم كفارًا مشركين. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} (يونس: 31). ثم يقول تعالى بعد هذه الآية: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (يونس: 33، 34).
لقد سماهم القرآن كفارًا مشركين؛ لأنهم لم يأتوا بحقيقة التوحيد الجامعة، وإنما أقروا بوصف منها، والتوحيد لا يقبل التجزئة أصلًا، فمن أشرك في وصف فقد أشرك في الكل؛ لأنه لم يأت بحقيقة مسمى التوحيد الشرعي الجامعة، ولذلك يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48).
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
(1/18)
 
 
الدرس: 2 التوحيد (2).
(1/19)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(التوحيد (2))
 
(أوجه استعمال الربوبية والألوهية في القرآن، وشمولية عقيدة التوحيد)
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
استعمالات الوصفين: الربوبية والألوهية في القرآن الكريم.
أ- القرآن الكريم يورد هذين الوصفين على أربعة وجوه:
الوجه الأول: استعمال اللفظ في معناه الخاص به فقط. مثال الربوبية قول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) فالخلق من أخص معاني الربوبية، لذلك وقع صلة للموصول الذي وُصف به الربّ تحديدًا للمعنى المراد بالرب هنا.
مثال الألوهية قوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (طه: 14) فالإله هنا بمعنى المعبود، والمعنى: لا معبود بحق سواي، فخصني أيها العبد بالعبادة.
الوجه الثاني: استعمال كل لفظ منهما في معناه الخاص به مع جمعهما في مكان واحد. قال تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (الرعد: 30) أي: هو ربي خالقي ومالكي ورازقي ... إلى آخره. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: هو المعبود الذي لا معبود سواه. فكل لفظ أفاد معناه الخاص به، وجمع بينهما لبيان حقيقة التوحيد الجامعة للمعنيين جميعًا، لذلك جاءت آيات أخرى تبين المعنى المقصود عقب كل لفظ منهما.
مثل قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (غافر: 62) فالخلق متصل بمعنى الرب، واستنكار الانصراف عن عبادته متصل بمعنى الإله الحق.
وقد جاء المعنيان صراحة في قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} (الأنعام: 102) إذ الخلق عائد إلى معنى الرب، والأمر بالعبادة عائد إلى معنى الإله، على الترتيب الواقع في صدر الآية الكريمة.
(1/21)
 
 
الوجه الثالث: استعمال اللفظين في المعنى المشترك بينهما هو السيد المطاع. ومثال ذلك:
1 - قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} (الأنعام: 102) وهو من النوع المعروف في البديع باللف والنشر المرتب.
فسياق الآيات يدل على أن المراد بالرب هنا السيد المطاع في أمره ونهيه، المفهوم من قوله تعالى قبلها: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (الأنعام: 161).
مثال آخر قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (التوبة: 31) وربوبية الأحبار والرهبان هنا بمعنى طاعتهم طاعة مقدسة في أمور الحلال والحرام، ومعنى عبادة الإله الواحد في قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} أي: ليطيعوا سيدًا واحدًا لهم؛ لأن المقام عن الطاعة في التشريع.
كما جاء في حديث عدي بن حاتم أنه دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ هذه الآية، وكان عدي قد تنصَّر في الجاهلية فقال: ((إنهم لم يعبدوهم))، أي: ظن عدي أن العبادة المذكورة في هذه الآية هي العبادة المخصوصة لهم كالصلاة لهم أو دعائهم، فبيّن له النبي -صلى الله عليه وسلم- نوع العبادة المقصودة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((بل إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم)) رواه الترمذي والطبراني وغيرهما.
الوجه الرابع: استعمال كل لفظ مكان الآخر، أي: هناك تلازم بين الربوبية والألوهية، فإذا ذُكر أحدهما دل على الآخر، باعتبارهما وصفين متفردين لذات
(1/22)
 
 
واحدة، ولا يليق أحدهما إلا بالله، فإذا ذُكر الرب فُهم منه أنه المستحق للعبادة والطاعة وحده، وإذا ذكر الإله فُهم منه أنه الخالق الرازق المالك؛ لأنه لا يكون إلهًا حقًّا إلا بهذه الصفات.
ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى: {أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (النمل: 60) فالسؤال في أول الآية وقع عن أشياء تتصل بالخلق والرزق والقدرة والتدبير، وغيرها من صفات التأثير التي هي معنى لفظ الرب، فكان المقام يقتضي سؤالهم في آخر الآية عن ذلك، فيقال: أَرَبّ مع الله؟ لكن وقع السؤال بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} لأن اللفظين متلازمان، لا فرق بينهما من حيث الواقع.
وإن كان استعمال كلمة إله هنا قد جاء لحكمة عظيمة، لأنه سألهم عن محل النزاع مباشرة، والمعنى أربّ يخلق ويرزق مع الله فيستحق التأليه معه. ولما كان الخلق والرزق والتدبير ليس محل نزاع كثير، وإنما النزاع في عبادة غير الله، لذلك عاجلهم باستنكار اتخاذ آلهة مع الله تعالى.
والمثال الثاني: قوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (المائدة: 117) والمقام يقتضي أن يقول: اعبدوا الله إلهي وإلهكم، لكن استعمل كلمة الرب مكان الإله للتلازم التام بين الكلمتين. والحكمة هنا -والله أعلم- أن ذكر الرب فيه تصريح بعلة العبادة، وهو ما يتضمنه لفظ الرب من معاني الخلق والرزق ... إلى آخره، والمعنى: اعبدوا الله الذي خلقكم ورزقكم وتولاكم في سائر أموركم.
ب- التوحيد عقيدة شاملة:
إن التوحيد الذي أمرنا الله تعالى به إنما هو عقيدة شاملة، تستوجب يقين القلب وإسلام الوجه لله تعالى قولًا وعملًا، وإفراده -سبحانه وتعالى- وحده بالعبادة، كالصلاة
(1/23)
 
 
والدعاء والنذر والطواف والذكر، والطاعة في شئون الحياة، أي: في تشريعات الحلال والحرام، فالتوحيد ليس كقضية كلامية أو جدلية، وإنما هو التزام شامل بدين الله تعالى في كل نواحي الحياة الإنسانية.
لذلك قص الله علينا في القرآن الكريم كيف جعل الرسل جميعًا على رأس دعوتهم: اجتناب الطواغيت، التي تُعبد من دون الله، خاصة في أمر الشرائع والأحكام. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36).
ولذلك جعل الرسل جميعًا مدخلهم إلى تغيير حياة أهل الجاهليات هو التوحيد؛ لأن التوحيد يعني ردّ الحكم والتشريع إلى الله تعالى في العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات، فإذا فعل الناس ذلك سهل تغيير ما هم عليه من فساد وضلال.
يقول تعالى على لسان شعيب -عليه السلام-: {قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} (هود: 84) فالآية الكريمة ترتب على التوحيد وجوب الالتزام بشريعة الله في التجارة والتصرفات المالية.
ويقول صالح -عليه السلام- لقومه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 152) فقد رتب النهي عن طاعة أوامر الزعماء الضالين على تقوى الله، وطاعة الشرع الذي جاءهم به -عليه السلام- من عند الله.
ويقول تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (الأنعام: 151).
(1/24)
 
 
فقد جعلت الآية الكريمة التوحيد رأس الأمر فيما بعده من الأوامر والنواهي، فتقرر إذن اختصاص الله تعالى وحده بالطاعة في التشريع، كما اختص بالعبادة وحده، وهذا هو معنى التوحيد في شموله وسعة مدلوله.
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز -رحمه الله- بعد كلام طويل عن سورة البقرة: "الخطوة الأولى: تقرير وحدة الخالق المعبود. الخطوة الثانية: تقرير وحدة الأمر المطاع، وهي ركن من عقيدة التوحيد في الإسلام، فكما أن من أصل التوحيد ألا تتخذ في عبادتك إلهًا من دون الرحمن، الذي بيده الخلق والرزق، كذلك مِن أصل التوحيد ألا تجعل لغيره حكمًا في سائر تصرفاتك، بل لا تعتقد ألا حكم إلا له، وأن بيده وحده الأمر والنهي، والحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ومن استحل حرامًا أو حرم حلالًا فقد كفر". انظر (النبأ العظيم) ص 217.
 
أساليب القرآن الكريم في الحديث عن الوحدانية والتوحيد
جاءت أساليب القرآن في هذا الباب على غاية التفنن والإبداع، تلطفًا في استدعاء الناس إلى التوحيد، وتأليفًا لقلوبهم، ولفتًا لأسماعهم وأبصارهم، وإقامة للحجة عليهم بكل الأساليب، ومن ذلك:
أولًا: أسلوب الخبر المجرد بيانًا للحق وإعلامًا للخلق، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) وكما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (البقرة: 163).
ثانيًا: أسلوب الخبر المؤكد، والمؤكدات التي جاء بها القرآن الكريم في شأن الوحدانية والتوحيد كثيرة ومتنوعة؛ ومنها:
أولًا: التأكيد بإن.
ثانيًا: التأكيد باللام.
(1/25)
 
 
ثالثًا: التأكيد بالقسم.
ومثالها جميعًا قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * الزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * التَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} (الصافات: 1 - 5).
رابعًا: التأكيد بأساليب القصر، كأسلوب النفي والاستثناء في قوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} (طه: 14). وأسلوب القصر بإنما: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 19).
وأسلوب القصر بالتقديم والتأخير. مثل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) فتقديم المفعول إياك أفاد قصر العبادة على الله وحده، وأصل الجملة: نعبدك.
وكذلك أيضًا أسلوب القصر بتعريف طرفي الجملة: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (الشورى: 10) فتعريف الخبر ربي أفاد أنه مقصور على المبتدأ، أي: الربوبية مقصورة على الله تعالى.
كذلك أيضًا أسلوب الطلب كالاستفهام التقريري أو الإنكاري. قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل: 63). ومن هذا النوع الطلبي فعل الأمر. مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) فإن نظرت إلى أول الجملة كانت إنشائية طلبية لصدارة فعل الأمر قل، وإن نظرت إلى مضمون الجملة أو مقول القول كانت خبرية، وفي الحالين هي إثبات للوحدانية، وأمر بالتوحيد على أبلغ الوجوه وأوفاها. ولذلك كانت السورة المُصدَّرة بهذه الآية الكريمة تعدل ثلث القرآن، كما جاء في الحديث الصحيح.
كذلك أسلوب الأمثال، وهو باب واسع في القرآن الكريم، يقصد به تقرير المعاني في نفس السامع، وتصويرها في صورة محسوسة ملموسة، عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو غيرهما من أساليب البيان.
(1/26)
 
 
ومن ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:41 - 43).
فقد ضرب الله تعالى مثلًا للذين يستنصرون بآلهة غير الله، صورهم فيه بأنهم يستنصرون بأضعف شيء، وكأنهم العنكبوت في بيتها الهش الذي تمزقه الريح، وتقتحمه الحشرات، ويعبث به الصبيان، فلا يغني عن أهله شيئًا.
وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 29) فهذان مثلان للمشرك في تخبطه وحيرته، وللموحد في راحته وسلامته، ولا يستويان أبدًا، كما لا يستوي عبد مملوك يسومه سادته لسوء أخلاقهم سوء العذاب، وعبد مملوك لمالك واحد لطيف لا يشق عليه بكثرة الأوامر، واختلاف المذاهب والمشارب.
كذلك استخدم القرآن أيضًا أسلوب المحاورة، وهو الذي يورد فيه الحديث عن التوحيد، من خلال حوار يجري بين طرفين أو أكثر، فيتقرر في النفس أكثر من الخبر المجرد. قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (مريم: 42).
فالآيات الكريمة لم تأت على طريق الخبر المجرد، وإنما جاءت على سبيل المناقشة بين طرفين، وهي تورد حوارًا بين إبراهيم -عليه السلام- وبين أبيه المشرك، فيسأل إبراهيم أباه: لِم تعبد آلهة صماء عمياء لا تغني عنك شيئًا؟! هو سؤال يبين حقيقة هذه الآلهة الباطلة، ويتضمن صفات الله وحده بالعبادة، فهو السميع البصير الغني المغني عز وجل.
(1/27)
 
 
كذلك أيضًا أسلوب القصة، وهو أسلوب من أوسع أساليب القرآن في التوحيد وغيره، وقد عُني القرآن بهذا الأسلوب وأكثرَ منه؛ لما في القصة من تأثير في النفوس، وسهولة في الحفظ، وانتشار وذيوع بين الناس.
وأوضح مثال لذلك قصة إبراهيم -عليه السلام- مع قومه وأصنامهم وتحطيمه لها، وتقريره للتوحيد من خلال المشاهد المتتابعة، التي جرت بينه وبين قومه، كما قصَّ الله علينا ذلك في عديد من سور القرآن، كالشعراء والصافات والأنبياء، ومنها أنه بعد أن حطم الأصنام سألوه عليه السلام، فسخر منهم وأحالهم إلى الأصنام، فرجعوا إلى أنفسهم يتلاومون.
ثم كان ما قصه القرآن الكريم: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: 65 - 67).
وفي هذا تقرير للتوحيد بأبلغ أسلوب وأقواه، ونفي للشرك على أتم وجه وأوفاه، فضلًا عما فيه من تحقير للأصنام، وسخرية بالغة بعُبّادها الذين ألغوا عقولهم، وخروا عليها صمًّا وعميانًا.
 
الاستدلال القرآني على توحيد الله -سبحانه وتعالى-
أولًا: اهتمام القرآن بإقامة الدليل:
والدليل هو ما يُتوصل به إلى معرفة صحة الشيء وصدقه، أو إثبات هذه الصحة بطريق من طرق الإثبات، ولقد جاء القرآن الكريم يقرر مبادئ وتعاليم، ويقيم عليها دلائل صدقها وصحتها، ويحثّ الناس على طلب الدليل وفهم البراهين. وقد استوعب القرآن الكريم الاستدلال على صحة عقيدة الوحدانية، وأنها الحق المبين، وأن كل شريك أو معبود مع الله هو كذب وافتراء، بل كلها أصنام وأوهام لا حق فيها، بل لا حقيقة لها في باب الألوهية.
(1/28)
 
 
كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم: 19 - 23).
والمعنى أن هذه التي تسمونها آلهة ليس لها من حقيقة الألوهية أدنى نصيب، وإنما هي أسماء على غير حقائق، كالغول والعنقاء وغيرهما من الأشياء المتوهمة.
ولذلك يقول القرآن الكريم متحديًا المشركين: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} (الرعد: 33). والمعنى أن الله تعالى رقيب وعليم بكل شيء، وقد جعل له المشركون شركاء لا حقيقة لهم، وإنما عبدوها بظنون من القول وأوهام من الفكر باطلة.
ويقول تعالى منددًا بالمشركين، الذين يعبدون الأوهام المطلقة، تحت هذه الأسماء المخترعة: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18).
لذلك لم يترك القرآن الكريم دليلًا يصلح لخطاب البشر إلا أورده على أتم الوجوه، حتى لا نقول: إنه لم يسق الدليل على صحة الوحدانية أو وجوب التوحيد فقط، وإنما أوجب على الناس أن يتدبروا هذه الأدلة، وأن يفهموها ويحصلوها ولو إجمالًا، حتى يكونوا على بينة في أعظم حقائق الوجود، وحتى يكون إيمانهم على غاية الاستقرار، ولذلك نَوّع الأدلة في هذا تنويعًا عجيبًا، حتى تُناسب جميع الناس على اختلاف مستوياتهم وعصورهم.
(1/29)
 
 
أنواع الأدلة القرآنية على توحيد الله:
النوع الأول: الأدلة الحسية أو الكونية: وهذا النوع الذي يستخدم فيه القرآن الكريم الكائنات؛ للدليل على وجود الله تعالى ووحدانيته، وسعة قدرته وعظيم حكمته، والقرآن الكريم يتخذ كل شيء في الكون دليلًا لذلك، خاصة وجود الكون من العدم، وانتظامه على قوانين مطردة، ونواميس محكمة، وقيامه على غاية التدبير، والتكامل بين أجزائه، والعناية بما فيه من عجائب الأشياء والأحياء.
وفي كل هذا يتجه القرآن الكريم إلى الإنسان، مخاطبًا قلبه وفكره، ومطالبًا أن يتأمل بحسه هذه الموجودات؛ لينتقل من ملاحظاتها في أوضاعها المختلفة إلى ما وراءها، وليدرك من هذه المقدمات الحسية البدهية نتائجها القاطعة، فيعلم أن لهذا الكون ربًّا موحدًا وإلهًا واحدًا، مطلق القدرة والإرادة، واسع العلم والحكمة، متفردًا باستحقاق العبادة والطاعة.
وبذلك يدور الدليل بين السمع والبصر، والفكر والنظر، والمقدمات البدهية القريبة والنتائج السهلة المسلَّمة.
هذا النوع على سهولته ويسره هو أقوى أنواع الأدلة، وأقربها إلى القلوب والنفوس، وأعظمها في التأثير والإقناع؛ لدلالته على المطلوب ذاته ومن أقصر سبيل، بخلاف أدلة الفلاسفة والمتكلمين، التي تدل على المطلوب دلالة ناقصة، وتحتاج مقدماتها إلى برهنة واستدلال في الغالب، بل قد تحتاج النتائج نفسها إلى دليل آخر خارج عنها، مما يُعَقِّد الاستدلال لطول مقدماته، وكثرة وسائطه، وصعوبة طرقه على أكثر الناس.
وذلك كاستدلالهم بحدوث العالم على أن له محدثًا، ويستدلون على حدوث العالم بتقسيمه إلى جواهر وأعراض، ثم يثبتون حدوث كل منها بمقدمات طويلة، وكل هذا ينتهي إلى أن للعالم محدثًا.
(1/30)
 
 
هذه النتيجة ناقصة؛ لأنها لم توصلنا إلى من هو المحدث، وهذا يحتاج إلى دليل آخر لإثباته خارجًا عن نطاق عقولهم، ودروب منطقهم، ولكن القرآن العظيم يطوي هذا الشتات، ويضع الإنسان أمام حقائق الكون مباشرة؛ ليوقن بنفسه أن الذي أبدع هذا الكون ونظمه إله واحد، هو الله رب العالمين، الذي صدَّق المرسلين فيما يبلغوه عنه جل شأنه، ولذلك يحث سبحانه وتعالى عباده على النظر في الكون جملة.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (الأعراف: 185). وأيضًا قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} (ق: 6 - 10).
الآيات في هذا النوع كثيرة جدًّا، ومن أراد المزيد فليقرأ عجائب الاستدلال القرآني في سورة: الرحمن، والواقعة، والمرسلات، والنبأ، والنازعات، وعبس، والغاشية، والشمس، وغير ذلك في القرآن المجيد.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
(1/31)
 
 
الدرس: 3 التوحيد (3) - الإيمان بالقدر (1).
(1/33)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث
(التوحيد (3) - الإيمان بالقدر (1))
 
الأدلة النفسية أو الداخلية على توحيد الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
 
هذه الأدلة النفسية أو الداخلية هي التي تعتمد في انتزاع الدليل على الوحدانية من داخل الإنسان، لا من خارجه، ومن أعماق شعوره الداخلي ووجدانه الباطني، لا من مدركات حواسه المعروفة.
وهذا الدليل بالغ الأهمية للإنسان، وفي قضية الإيمان بالذات حتى يحاط به من خارجه ومن داخله جميعًا، فتمتلئ نفسه يقينًا لا يتسرب إليه ريب ولا قلق، وكم من إنسان امتلأ عقله بالمعارف والأرقام وفنون الإحصاء، وامتلأ عقله بعجائب هذا الكون، ولكنه يمضي متلبّد الإحساس، والسبب في ذلك تعطل وجدانه الداخلي، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46).
ومن هنا اهتم القرآن العظيم ببيان هذا الدليل النفسي، وساق الآيات تذكيرًا للناس بهذا الجانب الفذ، الذي أهملوه وعطلوه وطمروه تحت ركام من الشبهات والشهوات، التي رانت على قلوبهم فأظلمتها وأماتتها.
يخبرنا الله تعالى أن المشركين الذين يعطلون التوحيد، ويشركون مع الله آلهة أخرى في كل شئون حياتهم، ويجادلون غاية الجدل دفاعًا وحمية عن أوثانهم، يخبرنا الله تعالى أن هؤلاء يحملون في أعماق نفوسهم دليل الوحدانية، ويمضون صمًّا وعميانًا عنه في الرخاء، حتى إذا مستهم شدة جائحة انتفض الدليل في صدورهم حيًّا نابضًا، حين لا تغني الأصنام أو الأوهام عن أصحابه شيئًا، هم في أشد الحاجة إليه، وفي ذلك يقول تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء: 67).
(1/35)
 
 
يسألهم القرآن سؤال تقرير عن حقيقة يعلمونها وإن كابروا فيها، ثم يكررها لهم زيادة في التقرير والتأكيد، فيقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُون} (الأنعام: 40، 41).
وينتزع لهم القرآن من حياتهم صورة واقعة حية، تعتمد على هذا المعنى الذي تتجه فيه النفوس إلى مالك القوى والقدرة، اتجاه شعور وفطرة وخضوع ودعاء، وتنسى ما عداه سبحانه حين تكتنفها الأخطار الماحقة. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} ماذا بعد ذلك؟ لا أحد أمامهم سوى الله {دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِين} (يونس: 22).
النوع الثالث الذي استخدمه القرآن في الدلالة على توحيد الله: الأدلة العقلية:
وهي الأدلة التي تعتمد على عمليات نظرية وفكرية، كترتيب المقدمات واستخراج نتائجها، حسب ضوابط وقوانين وراء بداهة الحسّ ومشاعر النفس، وإن كان الإدراك في الجميع راجعًا إلى العقل، والأدلة العقلية أوسع مدى من أشكال المنطق اليوناني ودروبه المنتجة، لذلك لم يتقيد القرآن العظيم بهذا النمط الفكري، وإنما جاء على نمط خاص في الاستدلال العقلي، وهو ضرب من إعجازه الذي تفرد به.
وقد استخرج العلماء منه أنواعًا كثيرة؛ منها:
أولًا: الدليل البدهي: وهو الذي يقوم على استخدام الحقائق المشهورة والبديهات المستقرة، في ابتناء الدليل عليها، فيذعن الخصم للدليل إذعانًا إن كان
(1/36)
 
 
منصفًا. ومن ذلك قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} (الأنعام: 101).
فحيث تقرر الآية أن الولد لا يكون من غير أم، فقد بنى القرآن على هذه الحقيقة المسلَّمة دليل بطلان ما نسبوه إليه من الولد؛ لأنه ليس له صاحبة، فمِن أين يأتي الولد؟! والدليل كما ترى سهل واضح، يشبه الدليل الحسي في كونه يدل على المطلوب مباشرة، ولا يحتاج إلى مقدمات تنظم على وجه مخصوص، ولا بد من دليل على النظري منه، وغير ذلك من التعقيدات التي تصرف الذهن عن المطلوب الأصلي، بكثرة الوسائط، والاشتغال بالمقدمات، والاستدلال عليها، ثم على نتائجها أحيانًا.
ثانيًا: دليل التمانع: وهو مأخوذ من قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22).
وتقرير هذا الدليل أن يُقال: لو كان للعالم صانعان لكان تدبيرهما لا يجري على نظام، ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما؛ وذلك لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته، فحينئذٍ إما أن تنفذ إرادتهما معًا، فيتناقض النظام لاجتماع الضدين. وإما ألا تنفذ إرادتهما معًا، فيؤدي إلى عجزهما، أو لا تنفذ إرادة أحدهما، فيؤدي إلى عجزه، والإله لا يكون عاجزًا، فبطل ما أدى إليه، وهو افتراض التعدد، وثبت نقيضه وهو الوحدانية.
ثالثًا: دليل التسليم: وهو الذي يُسلَّم فيه بوقوع المستحيل جدليًّا، ثم يستدل على عدم فائدة هذا المحال على تقدير وقوعه. ومثاله قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 91).
(1/37)
 
 
ومعنى الآية الكريمة: ليس معه تعالى من إله، ولو سُلِّم جدلًا أن معه إلهًا لزم من ذلك التسليم ذهاب كل إله من الاثنين بما خلق، واستعلاء بعضهم على بعض؛ فلا يتم في العالم أمر، ولا ينفذ حكم، ولا تنتظم أحواله، والواقع المشاهد خلاف ذلك، ففرض الإلهين صاعدًا محال؛ لما يلزم عليه من المحال.
رابعًا: الشرك ظنون وأوهام: في ختام هذا الاستدلال على صحة التوحيد، يبرز القرآن العظيم وجهًا آخر من وجوه الاستدلال، حين يُطالب المشركين ويتحدَّاهم أن يقيموا دليلًا واحدًا مِن أي نوع، على صحة عقيدتهم، فلا يستطيعون، بل لا يملكون إلا التعلق بالظنون والأوهام، والاحتجاج بفعل آبائهم الذين قال عنهم القرآن: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُون} (البقرة: 170).
ومن هذا التحدي الشامل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} (الأحقاف: 4). أي أن الآلهة التي تعبدونها لم تخلق شيئًا في الكون، وليس عليها دليل من كتب الله المنزلة، ولا بقية من أثر على صاحبها، وإن ادعيتم شيئًا من ذلك فأتوا به إن كنتم صادقين، ولما كانوا عاجزين على إتيان ذلك، بيّن القرآن الكريم حقيقة عقائدهم، وأنها مجرد ظنون فاسدة. قال تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران: 154).
ويقول عن أصنامهم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم: 23).
(1/38)
 
 
التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب نوعان
- توحيد في الإثبات والمعرفة.
- وتوحيد في الطلب والقصد:
فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله، وقد أفصح القرآن الكريم عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وأول سورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول الم تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك.
النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} (الكافرون: 1). وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران: 64). وأول سورة تنزيل الكتاب، وآخرها، وأول سورة يونس وأوسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام.
وسور القرآن معظمها متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة من سور القرآن، فإن القرآن إما خَبَر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يُعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده، وما فَعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده.
وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، وهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
(1/39)
 
 
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، فـ {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} توحيد {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} توحيد {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} توحيد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} توحيد {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، الذين أنعم عليهم {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 1 - 7) الذين فارقوا التوحيد.
وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله. قال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} (آل عمران: 18، 19).
فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أَجَلّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، مِن أجلّ شاهد بأجلّ مشهود به، وعبارات السلف في شَهِدَ تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها، فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه، فلها أربع مراتب:
فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
وثانيها: تكلمه بذلك، وإن لم يُعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه، ويذكرها وينطق بها أو يكتبها.
ثالثها: أن يعلم غيره بها بما يشهد به، ويخبره به، ويبينه له.
رابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.
فشهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط، تضمنت هذه المراتب الأربع؛ علمه سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به.
(1/40)
 
 
فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهدًا بما لا علم له به. قال تعالى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون} (الزُّخرُف: 86).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وعلى مثلها فاشهد" هذا الحديث ضعيف لأنه في إسناده العقيلي، والعقيلي في الضعفاء.
وأما مرتبة التكلم والخبر قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُون} (الزُّخرُف: 19).فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدّوها عند غيرهم.
وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل معْلم لغيره بأمر، تارة يُعْلمه به بقوله، وتارة بفعله، ولذلك كان من جعل داره مسجدًا وفتح بابها، وأفردها بطريقها وأَذن للناس بالدخول والصلاة فيها، معْلمًا أنها وقف وإن لم يتلفظ به، وكذلك من وُجد متقربًا إلى غيره بأنواع المسار يكون معلمًا له ولغيره أنه يحبه، وإن لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس.
وكذلك شهادة الرب -عز وجل- وبيانه وإعلامه، يكون بقوله تارة وبفعله أخرى، فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، وأما بيانه وإعلامه بفعله كما قال ابن كيسان: "شهد الله بتدبيره العجيب".
والمقصود من قوله: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ} المقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله. ويستدل أيضًا بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك، كما في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون} (الحشر: 23) وأضعاف ذلك في القرآن.
(1/41)
 
 
هذه الطريق قليل سالكها، لا يهتدي إليها إلا الخواص، وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهدة؛ لأنها أسهل تناولًا وأوسع، والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض.
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له. قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} (العنكبوت: 51). وأكمل الناس توحيدًا الأنبياء -صلوات الله عليهم، والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولي العزم من الرسل أكملهم توحيدًا؛ وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -صلى الله عليهم أجمعين.
وأكملهم توحيدًا: الخليلان؛ محمد وإبراهيم -صلوات الله عليهما- لأنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما، علمًا ومعرفة وحالًا ودعوة للخلق.
أ- كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله: هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها، وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر، فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال، ولهذا -والله أعلم- لما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قال بعده: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم} (البقرة: 163) فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني، هَبْ أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}.
يقول شارح (العقيدة الطحاوية): "اعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقدير الخبر: لا إله إلا هو، فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله. قال: يكون ذلك نفيًا لوجود الإله، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أَولى.
(1/42)
 
 
وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ريّ الظمآن) فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب؛ فإن إله في موضع المبتدأ على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلا بد من خبر للمبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد.
وأما قوله: إذا لم يُضمر يكون نفيًا للماهية، فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تُتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة خلافًا للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية من الوجود. وإلا الله: مرفوع بدلًا مِن لا إله، لا يكون خبرًا له ولا للمبتدأ، وذكر الدليل على ذلك.
وليس المراد هنا ذكر الإعراض، بل المراد دفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة وهو فاسد، فإن قولهم في الوجود ليس تقييدًا؛ لأن العدم ليس بشيء. قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (مريم: 9).
ولا يقال: ليس قوله: غيره، كقوله: إلا الله؛ لأن غيرًا تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد إلا، فيكون التقدير للخبر فيهما واحد، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا". انظر شرح (العقيدة الطحاوية).
ب- توحيد الصفات: إن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد، كالجهم بن صفوان ومن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب. وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن إثبات ذات مجردة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج، وإنما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله، وهذا غاية التعطيل. وهذا القول قد أفضى بقوم إلى القول بالحلول أو الاتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى؛ فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عمموا جميع المخلوقات.
(1/43)
 
 
ومن فروع هذا التوحيد أن فرعون وقومه كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة، ومن فروعه أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وإنهم إنما عبدوا الله لا غيره، ومن فروعه أنه لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر والزنا والنكاح، الكل من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحدة، ومن فروعه أن الأنبياء ضيقوا على الناس. تعالى الله عما يقولون.
 
الإيمان بالقدر
جـ- الإيمان بالقدر:
عن أبي هريرة قال: ((كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بارزًا يومًا للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهم في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان: 34) ثم أدبر، فقال: ردّوه، فلم يروا شيئًا فقال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم)). قال أبو عبد الله: "جَعل ذلك ملة من الإيمان". انظر (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) لابن حجر العسقلاني، كتاب الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان، جزء 1 ص 141 طبعة دار المنار.
(1/44)
 
 
وفي رواية: ((وتؤمن بالقدر خيره وشره وحُلوه ومُره)) ثم زاده تأكيدًا بقوله في الرواية الأخيرة: ((من الله)).
د- تعريف القدر: القدر مصدر تقول: قدرت الشيء بتخفيف الدال وفتحها، أَقدِره بالكسر والفتح، قدَرًا وقدْرًا، إذا أحطت بمقداره، والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد. فكل محدَث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة.
وقد روى مسلم القصة في ذلك من طريق كهمس، عن أبي بريدة، عن يحيى بن يعمر قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني. قال: فانطلقت أنا وحميد الحميري، فذكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلك فأخبره بأنه بريء ممن يقول ذلك، وأن الله لا يقبل من لا يؤمن بالقدر عملًا". وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ عالمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها، وإنما يعلمها بعد كونها.
قال القرطبي وغيره: "قد انقرض هذا المذهب ولا نعرف أحدًا يُنسب إليه من المتأخرين. قال: والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف بأن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبًا باطلًا أخف من المذهب الأول، وأما المتأخرون منهم فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد؛ فرارًا من تعليق القديم بالمحدث.
وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سلم القدري العلم كان حجة عليه، يعني يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم، فإن مَنع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل. تعالى الله عن ذلك". انظر (فتح الباري) الجزء الأول 146 طبعة دار المنار.
(1/45)
 
 
هـ- الله عَلِم أزلًا أهل الجنة وأهل النار:
لقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار، جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} (الأنفال: 75). وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الأحزاب: 40). فالله تعالى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلًا وأبدًا، لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة. قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: 64).
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: ((كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة فنكس رأسه، فجعل ينكث بمخصرته ثم قال: ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها الجنة والنار، إلا وقد كُتبت شقية أو سعيد. قال: فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. ثم قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (الليل: 5 - 10))). وهذا الحديث في البخاري رقم 1362، ومسلم رقم 2647 وأبو داود 4694.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
(1/46)
 
 
الدرس: 4 الإيمان بالقدر (2).
(1/47)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع
(الإيمان بالقدر (2))
 
أصل القدر، والنزاع بين الناس في القدر، وحكم التكذيب به
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعد:
أ- أصل القدر:
أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى وأفقر وأغنى وأمات وأحيى وأضل وهدى. قال علي -رضي الله عنه: "القدر سر الله". فالقدر سر الله في خلقه، لم يُطلع على ذلك ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة إلى الخذلان ومُسَلِّم للحرمان، وكذلك أيضًا هو سلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر من أنامه ونهاهم عن مراده، كما قال تعالى في كتابه: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23).
فمن سأل لما فعل فقد رَدَّ حكم الكتاب، ومن ردَّ حكم الكتاب كان من الكافرين. انظر (شرح العقيدة الطحاوية) ص 320 مؤسسة الرسالة.
ب- النزاع بين الناس في مسألة القدر: هذا النزاع مشهور، والذي عليه أهل السنة والجماعة أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد. قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49). وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: 2). وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه ولا يرضاه ويحبه، فيشاؤه كونًا ولا يرضاه دينًا.
وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فَروا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذَّبه عليه.
ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه، فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، فإن الله قد شاء الإيمان منه على قولهم، والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة
(1/49)
 
 
الله تعالى، وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل.
جـ- التكذيب بالقدر شرك:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أن رجلًا قدم علينا يكذب بالقدر فقال: دلوني عليه، وهو يومئذٍ أعمى فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضنَّ أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدفنها؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: وكأني بنساء بني فهد يطفن بالخزرج، تصطك ألياتهنّ مشركات، وهذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده لا ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يُقدّر الخير، كما أَخرجوا من أن يقدر الشر". شرح (أصول اعتقاد أهل السنة) جزء 4 625 وإسناده ضعيف.
وهذا يوافق قوله: "القدر نظام التوحيد، فمن وحّد الله وكذّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده".
وروى عمر بن الهيثم قال: "خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم. قال المجوسي: حتى يريد الله، فقال القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد. قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان فكان ما أراد الشيطان، هذا شيطان قوي، وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما".
ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد فقال: "يا هؤلاء إن ناقتي سُرقت فادعوا الله أن يردّها علي، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تُسرق ناقته فسُرقت فارددها عليه، فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك. قال: ولِم؟ قال: أخاف كما أراد ألا تُسرق فسُرقت، أن يريد ردّها فلا تردّ".
وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: "أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال
(1/50)
 
 
ثم عذبني، أيكون منصفًا؟ فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئًا هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء".
وأما الأدلة من الكتاب والسنة في أن أفعال العباد لله تعالى فقد قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} (السجدة: 13). وقال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين} (يونس: 99). وقال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} (التكوير: 29). وقال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الإنسان: 30). وقال تعالى: {مَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (الأنعام: 39). وقال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (الأنعام: 125).
ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا، فسوّى بينهم الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره فيكون محبوبًا مرضيًّا. وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية لله، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
وقد دلَّ على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة والنظرة الصحيحة.
أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها، وأما نصوص المحبة والرضا فقال تعالى: {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد} (البقرة: 205). وقال تعالى: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (الزمر: 7). وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (الإسراء: 38).
وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) أخرجه البخاري حديث رقم 1477، ومسلم حديث
(1/51)
 
 
رقم 1593. وفي المسند: ((إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)) أخرجه أحمد، الجزء الثاني 108 من طريق قتيبة بن سعيد.
وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)).
فتأمَّل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول للصفة، والثاني لأثرها المترتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره.
فما أعوذ به أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى من عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي هو بمشيئتك أيضًا، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك.
فعياذي بك منك، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك، فلا يُعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله، ومعرفته، ومعرفة عبوديته.
فإن قيل: كيف يُريد الله أمرًا ولا يرضاه ولا يحبه، وكيف يشاؤه ويُكوّنه، وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟
قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقًا، وتباينت طرقهم وأقوالهم.
(1/52)
 
 
أنواع المراد من الله -سبحانه وتعالى
المراد نوعان: مراد لنفسه ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، وما فيه من الخير فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد. والمراد لغيره قد لا يكون مقصودًا للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده فهو مكروه له، من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضائه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، فلا يتنافيان لاختلاف متعلقهما.
وهذا كالدواء الكريه، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءَه، وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه، بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفى عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سببًا إلى هو أحب إليه من فوته.
ذلك أنه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد، وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى، وهو الساعي في في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تبارك وتعالى، ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها؛ منها: أنها تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا.
كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والداء والدواء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر، وذلك من أدلّ دليل على كمال قدرته وعزته
(1/53)
 
 
وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض، وجعلها محالّ تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود من بعضها بالكلية تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه، وتدبير مملكته.
ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية. مثل: القهار، المنتقم، العدل، الضار، الشديد العقاب، السريع الحساب، ذي البطش الشديد، والخافض والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال لا بد من وجود متعلقها، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء.
ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره، وتجاوزه عن حقه، وعتقه لمن شاء من عبيده.
فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء -لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا بقوله: ((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم)) صحيح مسلم، حديث رقم 2748، والترمذي حديث رقم 3539، وذلك بلفظ: ((لولا أنكم لا تذنبون لخلق الله خلقًا يذنبون فيغفر لهم)).
ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، ويُنزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك، فلو قَدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة، ولفاتت مصالح عديدة، ولو عُطلت تلك الأسباب -لما فيها من الشر- لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر، الذي في تلك الأسباب، وهذا كالشمس والمطر والرياح، التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر.
(1/54)
 
 
من هذه الفوائد لخلق إبليس، لو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها، مِن الموالاة لله سبحانه والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه، ويعصمه من كيده وأذاه ... إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها.
فإن قيل: هل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟ هذا سؤال فاسد، وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.
فإن قيل: إذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ قيل: هذا السؤال يرد على وجهين:
أحدهما: مِن جهة الرب تعالى، وهل يكون محبًا لها من جهة إفضالها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها.
والثاني: مِن جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضا بها من تلك الجهة أيضًا، فهذا سؤال له شأن.
 
إرادة الله سبحانه في الكون، ومسألة الاحتجاج بالقدر
كل ما يحدث في الكون فهو بإرادته سبحانه: وهذا ردٌّ لقول القدرية والمعتزلة؛ فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم، والكافر أراد الكفر. وقولهم فاسد مردود لمخالفته الكتاب والسنة والمعقول الصحيح، وهؤلاء سُمّوا قدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضًا، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب.
(1/55)
 
 
أما أهل السنة فيقولون: إن الله وإن كان يريد المعاصي قدرًا، فهو لا يُحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها، وهذا قول السلف قاطبة فيقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال: والله لأفعلنَّ كذا إن شاء الله، لم يحنث إذا لم يفعله وإن كان واجبًا أو مستحبًّا، ولو قال: إن أَحب الله حنث إذا كان واجبًا أو مستحبًّا.
والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خَلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية. فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث، وهذا كقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (الأنعام: 125). وقوله تعالى عن نوح -عليه السلام: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} (هود: 34). وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد} (البقرة: 253).
وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185). وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيم} (النساء: 26). وقوله تعالى: {وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 27، 28).
وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (المائدة: 6). وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: 33). فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي: لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.
(1/56)
 
 
وأما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل، فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلًا فهذه الإرادة المعلقة بفعله، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلًا فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعين معقول للناس، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى. فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر فقد يريد إعانة المأمور على ما أَمر به، وقد لا يريد ذلك، وإذا كان مريدًا منه فَعله.
وتحقيق هذا مما يبيّن فصل النزاع في أمر الله تعالى هل هو مستلزم لإرادته أم لا؟ فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله -عليهم السلام- بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، ولكن منهم من أراد أن يَخلق فعله، فأراد سبحانه أن يَخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلًا له، ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات، غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد، أو مفسدة.
وهو سبحانه إذا أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان، كان قد بيّن لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه، ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة، من حيث هو فعل له، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة، ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله، أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو، أو جعل المأمور فاعلًا، فأين جهة الخلق من جهة الأمر.
فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه، مريدًا لنصحه ومبينًا لما ينفعه، وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل؛ إذ ليس كل ما كان مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه، بل قد تكون مصلحتي
(1/57)
 
 
إرادة ما يضادّه، فجهة أمره لغيره نصحًا غير جهة فعله لنفسه، وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين، فهو في حق الله أولى بالإمكان.
والقدرية تضرب مثلًا بمن أمر غيره بأمر، فإنه لا بدّ أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله، كالبِشر والطلاقة وتهيئة المساند والمقاعد ونحو ذلك. فيقال لهم: هذا يكون على وجهين:
أحدهما: أن تكون مصلحة الأمر تعود إلى الآمر، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه، وأمر السيد عبده بما يُصلح ملكه، وأمر الإنسان شركاءه بما يصلح الأمر المشترك بينهما، ونحو ذلك.
الثاني: أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له، كالأمر بالمعروف، وإذا أعان المأمور على البر والتقوى، فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة، وأنه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه؛ فأما إذا قُدِّر أن الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور، لا لنفع يعود على الآمر من فعل المأمور كالناصح المشير، وقُدِّر أنه إذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة للآمر، وأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر.
مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال لموسى: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِين} (القصص: 20). فهذا مصلحته في أن يأمر موسى -عليه السلام- بالخروج، لا في أن يُعينه على ذلك؛ إذ لو أعانه لضره قومه، ومثل هذا كثير.
وإذا قيل: إن الله تعالى أمر العباد بما يصلحهم، لم يلزم من ذلك أن يعينهم على ما أمرهم به، لا سيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحدًا على ما به يصير فاعلًا، وإذا عللت أفعاله بالحكمة فهي ثابتة في نفس الأمر، وإن كنا نحن لا نعلمها، فلا يلزم إذا كان في نفس الأمر له حكمة في الأمر.
(1/58)
 
 
يعني: فلا يلزم إذا كان في نفس الآمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة على فعل المأمور به حكمة، بل قد تكون الحكمة تقتضي ألا يعينه على ذلك، فإنه إذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر بأمر لمصلحة المأمور، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر ألا يعينه على ذلك، فإنكار ذلك في حق الرب أولى وأحرى.
والمقصود أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه، فالخالق أولى لإمكان ذلك في حقه مع حكمته، فمَن أمره وأعانه على فعل المأمور؛ كان ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره نشأةً خُلقًا ومحبة، فكان مرادًا بجهة الخلق ومرادًا بجهة الأمر، ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره، ولم يتعلق به خُلقه؛ لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به، ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده، وخَلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر.
فإن خلق المرض الذي يحصل به ذلّ العبد لربه ودعاؤه وتوبته، وتكفير خطاياه، ويرقّ به قلبه، ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان، يُضادّ خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح، ولذلك خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم مِن جنس ما يحصل بالمرض، يضادّ خَلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح، وإن كانت مصلحته هو في أن يَعدل.
وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر، والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة، مثَّلوا الله فيها بخلقه، ولم يثبتوا حكمة تعود إليه.
احتجاج آدم على موسى -عليه السلام- بالقدر:
قال آدم لموسى: "أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن أُخلق بأربعين عامًا؟! " وشهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن آدم حَجَّ موسى، أي: غلبه بالحجة. هذا الحديث عن أبي هريرة في البخاري حديث رقم 3409، ومسلم حديث رقم 2652.
(1/59)
 
 
ماذا يقول أهل السنة في احتجاج آدم بالقدر؟
هذا الحديث تلقاه أهل السنة بالقبول والسمع والطاعة؛ لصحته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يتلقاه أهل السنة بالرّدّ والتكذيب كما فعلت القدرية، ولا أيضًا يتلقاه أهل السنة بالتأويلات الباردة، بل الصحيح أن آدم لم يحتجّ بالقضاء والقدر على الذَّنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يَحتج بالقدر، فإنه باطل.
وموسى -عليه السلام- كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم -عليه السلام- على ذنب قد تاب منه، وتاب الله عليه، واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم -عليه السلام- بالقدر على المصيبة لا على الخطيئة.
فإن القدر يُحتجّ به عند المصائب لا عند المعايب، وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قُدِّر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله ربًّا، وأما الذنوب فليس للعبد أن يُذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعايب ويصبر على المصائب.
قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} (غافر: 55). وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (آل عمران: 120).
وأما قول إبليس: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} (الحجر: 40) إنما ذُمَّ على احتجاجه بالقدر، لا على اعترافه بالقدر وإثباته له، ألم تسمع قول نوح -عليه السلام: {وَلاَ يَنفَعُكُ