التفسير المنير للزحيلي 010

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب : التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج
المؤلف : د وهبة بن مصطفى الزحيلي
 
ثم أبان الله تعالى علة الأمر بقيام الليل (التهجد) فقال:
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا أي إن قيام الليل، وهو الذي يقال له: ناشئة إذا كان بعد نوم، أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص وتوافق القلب واللسان، فذلك يتجلى في هدوء الليل أكثر من أي وقت آخر، وهو أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها، وأسدّ مقالا وأثبت قراءة، لحضور القلب فيها وأكثر اعتدالا واستقامة على نهج الحق والصواب لأن الأصوات فيها هادئة، والدنيا ساكنة، أما النهار فهو وقت الانشغال بالأعمال، كما قال تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي إن لك في وقت النهار تقلبا وتصرفا في حوائجك ومصالح الحياة، فلا تتفرغ فيه للعبادة، فصل بالليل.
ولكن لا ينبغي الانشغال عن ذكر الله بأي حال نهارا أو ليلا، فقال تعالى:
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي أكثر من ذكر الله، وداوم عليه إن استطعت ليلا ونهارا، وأخلص العبادة لربك، وانقطع إلى الله انقطاعا بالاشتغال بعبادته، والتماس ما عنده إذا فرغت من أشغالك وحوائجك الدنيوية، كما قال تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الانشراح 94/ 7- 8] أي إذا فرغت من أشغالك فأتعب نفسك في طاعة ربك وعبادته، لتكون فارغ البال، واجعل رغبتك إلى الله وحده.
ثم أبان الله تعالى سبب الأمر بالعبادة، والباعث على التبتل، فقال:
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي إن ربك الذي تذكره، وتتفرغ لعبادته هو الجدير بالعبادة، فهو المالك المتصرف في المشارق والمغارب الذي لا إله إلا هو، وكما أفردته بالعبادة، فأفرده بالتوكل، واجعله وكيلا لك في جميع الأمور، كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
(29/194)
 
 
هود 11/ 123 وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة 1/ 5] . وقوله:
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إشارة إلى كماله تعالى في ذاته، والكمال محبوب لذاته. وفيه دليل على أن من لم يفوض كل الأمور إلى ربه لم يكن راضيا بألوهيته، ولا معترفا بربوبيته. وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سيكفيه شر الكفار وأعداء الدين.
ثم أمره ربه بالصبر على الأذى فقال:
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أي اصبر أيها الرسول على أذى قومك وما ينالك من السب والاستهزاء، ولا تجزع من ذلك، ولا تتعرض لهم ولا تعاتبهم ودارهم، كما جاء في آيات أخرى منها: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا [النجم 53/ 29] .
 
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
 
1- فرضية التهجد:
يدل ظاهر توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وأمره بقيام الليل، ووصفه بالتزمل أن التهجد كان فريضة عليه، وأن فرضيته كانت خاصة به. وهذا رأي أكثر العلماء لأن الندب والحضّ لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء 17/ 79] فإن قوله: نافِلَةً لَكَ بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم. وليس معنى النافلة في هذه الآية: التطوع، فإنه لا يكون خاصا به عليه الصلاة والسلام، بل معناه أنه شيء زائد على ما هو مفروض على غيره من الأمة.
(29/195)
 
 
وقيل: كان التهجد فرضا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أمته، ثم نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.
وقيل: إن التهجد كان نافلة، لا مفروضا، لقوله تعالى: نافِلَةً لَكَ ولأن حمل الأمر: قُمِ اللَّيْلَ على الندب أولى لأنه متيقن، فإن أوامر الشريعة تارة تفيد الوجوب، وتارة تفيد الندب، فلا بد من دليل آخر على الوجوب كالتوعد على الترك ونحوه، وليس هذا متوفرا هنا. ويرد عليه بأن المختار في علم الأصول في الأوامر حملها على الوجوب أو الإلزام إلا بقرينة تصرفه عن ذلك إلى الندب أو الإباحة. ولأنه تعالى ترك تقدير قيام الليل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وخيره بين النصف أو أقل منه أو أكثر، ومثل هذا لا يكون في الواجبات. ويرد عليه بأنه قد يكون الواجب مخيرا بين أمور ثلاثة كالكفارة.
والراجح هو أن التهجد نسخ عن الأمة وحدها، وبقي وجوبه على النبي صلّى الله عليه وسلّم، بدليل آية الإسراء: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ. وربما كان العمل بحديث سعد بن هشام بن عامر السابق صحيحا: وهو نسخ الوجوب مطلقا وصيرورة التهجد (أو قيام الليل) تطوعا، تخفيفا وتيسيرا، والناسخ هو الصلوات الخمس، وأما آخر سورة المزمل الذي نزل بعد أولها بنحو عام كما في بعض الآثار، فقد نسخ المقدار الذي بيّن في أولها، دون نسخ أصل وجوب التهجد.
والمقدار المذكور في أول السورة: هو نصف الليل أو أنقص منه قليلا إلى الثلث، أو الزيادة عليه إلى الثلثين.
 
2- وجوب ترتيل القرآن:
لا خلاف في أنه يقرأ القرآن بترتيل على مهل، وتبيين حروف، وتحسين مخارج، وإظهار مقاطع، مع تدبر المعاني. والترتيل:
التنضيد والتنسيق وحسن النظام.
(29/196)
 
 
والخلاف في التغني به وتلحينه فقال بكراهته جماعة منهم الإمامان مالك وأحمد، وأجازه جماعة آخرون منهم الإمامان أبو حنيفة والشافعي، ولكل فريق أدلة «1» .
استدل المجيزون بما يأتي.
أولا-
ما أخرجه أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» .
ثانيا-
ما أخرجه مسلم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» .
ثالثا-
ما رواه البخاري عن عبد الله بن مغفّل قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته، فرجّع في قراءته.
رابعا- ما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استمع لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك قال: لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبّرته لك تحبيرا.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما سمعه: «إن هذا أعطي مزمارا من مزامير داود» .
خامسا-
ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما أذن الله لشيء كإذنه- استماعه «2» - لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن» .
سادسا- إن الترنم بالقرآن من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء، وهو أوقع في النفس وأبلغ في التأثير.
واحتج المانعون بما يأتي:
أولا-
ما رواه الترمذي في نوادر الأصول عن حذيفة بن اليمان عن
__________
(1) تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي السايس: 4/ 193 وما بعدها.
 
(2) أذن له: استمع، وباب طرب.
(29/197)
 
 
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق، فإنه يجيء من بعدي أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم»
فهذا نعي على الترجيع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح.
ثانيا-
ما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر أشراط الساعة، وذكر أشياء، منها: أن يتخذ القرآن مزامير، وقال: «يقدّمون أحدهم، ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ليغنيهم غناء» .
ثالثا-
أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤذن يطرب، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلا سمحا، وإلا فلا تؤذن»
فقد كره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يطرب المؤذن في أذانه، مما يدل على كراهة التطريب في القراءة بالأولى.
رابعا- أنكر أنس بن مالك على زياد النميري حينما قرأ ورفع صوته وطرب، وقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون.
خامسا- إن التغني والتطريب يؤدي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه لأنه يقتضي مد ما ليس بممدود، وهمز ما ليس بمهموز، وجعل الحرف الواحد حروفا كثيرة، وهو لا يجوز. كما أن التلحين يلهي النفس بنغمات الصوت، ويصرفها عن تدبر معاني القرآن.
والحق التوسط في الأمر، فإذا كان التلحين والتطريب يغير من ألفاظ القرآن، ويخل بطرق الأداء، أو كان تكلّفا وتصنعا يشبه توقيعات الموسيقى، فهو ممنوع وحرام. أما إذا كان تحبيرا وترقيقا وتحزينا يؤدي إلى اتعاظ القارئ، وكمال تأثره بمعاني القرآن، فلا دليل على المنع، بل الأدلة تجيزه.
(29/198)
 
 
3- ثقل القرآن والوحي:
القرآن ثقيل شديد بما اشتمل عليه من تكاليف شاقة على النفس، وفرائض وحدود صعبة على الإنسان. والوحي أيضا ذو تأثير كبير على القلب والنفس، كما جاء في خبر عائشة رضي الله عنها المتقدم، وأخرج أحمد وابن جرير وغيرهما عن عائشة أيضا: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوحي إليه، وهو على ناقته، وضعت جرانها- يعني صدرها- على الأرض، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه» أي الوحي.
 
4- ناشئة الليل:
إن أوقات الليل وساعاته أو العبادة الناشئة في الليل، أو النفس الناشئة في الليل الناقضة من مضاجعها للعبادة أشد وطأ، أي أشد موافقة بين السر والعلانية أو القلب واللسان، وأكثر مصادفة للخشوع والإخلاص وأسدّ مقالا وأثبت قراءة، بسبب سكون الليل، وراحة النفس من الضوضاء والعناء، والبعد عن الرياء والمباهاة، أو حبّ اطلاع الآخرين على الطاعة والعبادة، وشدة الاستقامة والاستمرار على الصواب لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلّي ما يقرؤه.
 
5- مشاغل النهار:
الإنسان مشغول عادة بحاجاته ومصالحه المعيشية في النهار، فلا يتفرغ عادة للعبادة، وإنما الفراغ موجود في الليل.
 
6- ذكر الله والتبتل:
المؤمن مأمور بالاستكثار من ذكر الله وأسمائه الحسنى، وبالمداومة على التسبيح والتحميد والتهليل وقراءة القرآن، دون أن يشغله شاغل في الليل والنهار، وهو مطالب أيضا بأن يجعل همه كله في إرضاء ربه، وتجريد نفسه عن التعلق بغيره، والاستغراق في مراقبته في جميع أعماله.
ويكون أشرف الأعمال عند قيام الليل: ذكر اسم الرب، والتبتل إليه، وهو الانقطاع إلى الله بالكلية.
(29/199)
 
 
وليس المراد الانقطاع عن أعمال النهار، والعكوف على الذكر والعبادة، فهذا يتنافى مع قوله تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا بل المراد التنبيه إلى أنه ينبغي ألا يشغله السّبح في أعمال النهار عن ذكر الله تعالى.
والتبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل، أي انقطاع الإنسان بعبادته إلى ربه، دون أن يشرك به غيره، وليس المعنى الانقطاع عن مشاغل الحياة لكسب المعيشة من طرق عزيزة كريمة، لا يكون فيها الإنسان عالة على غيره.
فقد ورد في الحديث النهي عن التبتل بمعنى الانقطاع عن الناس والجماعات.
وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة 5/ 87] وهذا يدل على كراهة من تبتّل، وانقطع عن الناس، وسلك سبيل الرهبانية.
والخلاصة: التبتل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة كما قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البيّنة 98/ 5] . والتبتل المنهي عنه: هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع.
 
7- إفراد الله بالتوكل عليه:
كما أن المؤمن مطالب بإفراد الله بالعبادة، مطالب أيضا بإفراده بالتوكل عليه، فمن علم أن الله رب المشارق والمغارب، انقطع بعمله وأمله إليه، وفوّض جميع أموره إليه، فهو القائم بأمور العباد، الكفيل بما وعد.
 
8- الصبر على الأذى في سبيل الدعوة:
أمر الله نبيه بأن يصبر من أجل دعوته على الأذى والسب والاستهزاء من سفهاء قومه الذين كذبوه، وبألا يتعرض لهم، ولا يعاتبهم ويداريهم. قال قتادة وغيره: وكان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك.
وأرى أن هذا من منهج الدعوة الدائم وسياستها الثابتة التي يحتاج إليها الدعاة في
(29/200)
 
 
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
كل عصر. قال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام، ونضحك إليهم، وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم.
 
تهديد الكفار وتوعدهم
 
[سورة المزمل (73) : الآيات 11 الى 18]
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)
 
الإعراب:
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ.. يَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه ما في لَدَيْنا من معنى الاستقرار، كما تقول: إن خلفك زيدا غدا، والعامل في (غدا) الاستقرار الذي دل عليه (خلفك) .
كَثِيباً مَهِيلًا مَهِيلًا: أصله (مهيولا) على وزن مفعول، من (هلت) فاستثقلت الضمة على الياء، فنقلت إلى الهاء قبلها، فبقيت الياء ساكنة والواو ساكنة، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وكسرت الهاء لتصحيح الياء.
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً يَوْماً: مفعول تَتَّقُونَ وليس منصوبا على الظرف، ويَجْعَلُ: جملة فعلية في موضع نصب لأنه صفة يَوْماً.
السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ إنما قال مُنْفَطِرٌ من غير تاء لثلاثة أوجه: إما بمعنى النسب، أي ذات انفطار، أو بجعل السماء في معنى السقف، كما في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الأنبياء 21/ 32] ، أو لأن السماء يجوز فيها التذكير والتأنيث، فيقال: مُنْفَطِرٌ على التذكير، وهو قول الفراء.
(29/201)
 
 
البلاغة:
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ، وَعَذاباً أَلِيماً.. إلخ: سجع مرصع.
أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا جناس اشتقاق.
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا التفات من الغيبة إلى الخطاب للتقريع والتوبيخ على عدم الإيمان، والأصل أن يقال: إنا أرسلنا إليهم.
فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا تأكيد الفعل بالمصدر.
 
المفردات اللغوية:
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ اتركني وإياهم، فإني قدير على مجازاتهم. النَّعْمَةِ بفتح النون:
التنعم والترفه، وبكسر النون: الإنعام أو اسم الشيء المنعم به. وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا اتركهم زمانا قليلا برفق وتأنّ، أو أمهلهم إمهالا. أَنْكالًا قيودا ثقيلة، جمع نكل بكسر النون وفتحها: وهو القيد الثقيل. وَجَحِيماً نار محرقة شديدة الإيقاد. ذا غُصَّةٍ يغص به فلا يستساغ في الحلق، كالضريع والزقّوم والغسلين والشوك من نار، فلا يخرج ولا ينزل. وَعَذاباً أَلِيماً مؤلما لا يعرف كنهه إلا الله، زيادة على ما ذكر.
تَرْجُفُ تضطرب وتتزلزل. كَثِيباً رملا متجمعا بتأثير الريح. مَهِيلًا رخوا ليّنا تغوص الأقدام فيه. إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ أرسلنا إليكم يا أهل مكة. رَسُولًا هو محمد صلّى الله عليه وسلّم. شاهِداً عَلَيْكُمْ يشهد عليكم يوم القيامة بالعصيان أو الإجابة للدعوة. وَبِيلًا ثقيلا شديدا، ومنه طعام وبيل: لا يستمرأ لثقله، ووابل: وهو المطر العظيم. تَتَّقُونَ تقون أنفسكم. إِنْ كَفَرْتُمْ بقيتم على الكفر في الدنيا. يَوْماً عذاب يوم أي بأي حصن تتحصنون من عذاب يوم القيامة. شِيباً جمع أشيب، وجعلهم شيبا لشدة هوله، يقال لليوم الشديد:
يوم يشيب الأطفال، وهو مجاز، أصله أن الهموم تضعف القوى وتسرع بالشّيب. مُنْفَطِرٌ منشق متصدع. كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أي إن وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم كائن لا محالة.
 
سبب النزول: نزول الآية (11) :
وَذَرْنِي: روي أنها نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.
(29/202)
 
 
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى إرشاداته لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، هدد المشركين وأوعدهم على الإعراض عن قبول تلك الدعوة، وخوفهم عذاب يوم القيامة وكيفيته وأهواله، وعذاب الدنيا ومخاطره، ثم عاد إلى وصف عذاب الآخرة وتخويفهم به لشدته التي بلغت حدا تشيب الولدان، وتتشقق السموات منه.
 
التفسير والبيان:
هدد الله تعالى كفار مكة وأمثالهم وتوعدهم، وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء، فقال:
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أي دعني وأولئك المكذبين المترفين أصحاب الأموال، فإني أكفيك أمرهم، وأنتقم لك منهم، فلا تهتم بكونهم أرباب الغنى والسعة والترفّه في الدنيا، وتمهل عليهم رويدا وزمنا قليلا، أو تمهلا قليلا إلى انقضاء آجالهم، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان 31/ 24] . وقد أهلك زعماؤهم في موقعة بدر، قالت عائشة: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر.
ثم ذكر الله تعالى أنواعا أربعة من عذابهم، فقال:
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا، وَجَحِيماً، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ، وَعَذاباً أَلِيماً أي إن عندنا القيود والأغلال لهؤلاء المكذبين بآياتنا وبرسولنا، ونارا مؤججة مضطرمة، وطعاما لا يستساغ، ينشب في الحلق، فلا يدخل ولا يخرج كالزقوم والضريع، ونوعا آخر من العذاب المؤلم الشديد، لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. وتنكير قوله عَذاباً يدل على أن هذا العذاب أشد مما تقدم وأكمل.
وبعد وصف العذاب، أخبر تعالى عن زمانه متى يكون فقال:
(29/203)
 
 
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ، وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا أي إن ذلك العذاب الذي يعذب به الكفار هو في يوم تضطرب في الأرض والجبال وتتزلزل بمن عليها، والرجفة: الزلزلة الشديدة، وتصير الجبال كالكثيب المهيل، أي الرمل المجتمع السائل الذي يسيح فيه الإنسان والحيوان، بعد ما كانت حجارة صماء، ثم تنسف نسفا، فلا يبقى منها شيء إلا ذهب. والرجفة: الزلزلة والزعزعة الشديدة، والمهيل: هو الذي إذا وطئته القدم زلّ ما تحتها، وإذا وصلت أسفله انهال.
وبعد تخويف أهل مكة وأمثالهم بأهوال القيامة، هددهم وخوفهم تعالى بأهوال الدنيا التي تعرضت لها الأمم المكذبة المتقدمة، فقال:
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ، كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ، فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أي يخاطب الله تعالى كفار قريش، والمراد سائر الناس، فيقول لهم: إنا أرسلنا إليكم رسولا هو محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم وبما يصدر عنكم من إجابة وامتناع، وطاعة وعصيان، كما أرسلنا موسى عليه السلام إلى الطاغية فرعون يدعوه إلى الحق والإيمان، فعصى فرعون الرسول المرسل إليه، وكذّبه ولم يؤمن بما جاء به، فأخذناه أخذا شديدا ثقيلا غليظا، أي عاقبناه عقوبة شديدة وأهلكناه ومن معه بالغرق في البحر، فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم الذي هو أشرف وأعظم من موسى بن عمران عليه السلام. وإنما عرّف كلمة الرسول ثانيا لأنه ينصرف إلى المعهود السابق في الذكر.
ثم عاد الله تعالى إلى تخويفهم بعذاب الآخرة ذاكرا هو له من وجهين، فقال:
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ،
(29/204)
 
 
كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا
أي كيف تقون أنفسكم وتنعمون بالأمان والاطمئنان إن بقيتم على الكفر، من عذاب يوم يجعل الأطفال شيبا بيض الشعور، لشدة هوله، وهذا كناية عن شدة الخوف، وتصير السماء متشققة به متصدعة لشدته وعظيم هوله، وكان وعد الله بمجيء ذلك اليوم كائنا واقعا لا محالة ولا محيد عنه.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- هدد الله صناديد قريش وأمثالهم من المستهزئين والمترفين الطغاة والمكذبين بآيات الله والكفر برسالة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وتوعدهم بأشد العذاب في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فعوقب رؤساء مكة في موقعة بدر، وأما في الآخرة فنار جهنم تنتظرهم.
2- إن أنواع العذاب الشديد في الآخرة هي الأنكال أي القيود، والنار المؤججة، والطعام الذي لا يستساغ، فلا هو نازل ولا هو خارج، وهو الغسلين والزّقوم والضريع وهو شوك كالعوسج.
3- زمان هذا العذاب هو يوم القيامة، الذي تضطرب وتحرك فيه الأرض والجبال بمن عليها، وتصبح الجبال فيه رملا مجتمعا سائلا متناثرا غير متماسك.
4- التشابه في الجريمة والعقاب: اشترك أهل مكة في تكذيب النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والاستخفاف به، مع فرعون وقومه الذين كذبوا موسى عليه السلام، قال مقاتل: ذكر- أي الله- موسى وفرعون لأن أهل مكة ازدروا محمدا صلّى الله عليه وسلّم واستخفوا به لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون ازدرى موسى لأنه ربّاه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء 26/ 18] فكان التشابه في الأحوال سببا لذكر قصة موسى وفرعون على التعيين دون سائر الرسل والأمم.
(29/205)
 
 
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
لذا عوقب فرعون وأتباعه بالعقاب الثقيل الشديد وهو الغرق في البحر، وعوقب كفار مكة بالهلاك يوم بدر. ويكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم شاهدا على قومه يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم.
5- وبخ الله تعالى الكفار وقرعهم على كفرهم بطريق التساؤل بقوله:
كيف تتقون عذاب يوم يجعل الولدان شيبا إن كفرتم، وتتفطر فيه السماء؟
وهذا وصف لهول يوم القيامة بأمرين: الأول- يجعل الولدان شيبا، وهذا مثل في الشدة. والثاني- تتصدع فيه السماء. وكلاهما وصف لليوم بالشدة الشديدة، فهو يوم يشيّب نواصي الأطفال، والسماء على عظمتها وقوتها تتفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟
6- إن وعد الله تعالى بالقيامة والحساب والجزاء كائن لا شك فيه ولا خلف.
7- دلت آية: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا.. على أن القياس حجة لأنه استقر عند العقلاء وعند المشركين في مكة وغيرهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنا، يجب اشتراكهما في الحكم، وإلا لما أورد هذا الكلام على هذه الصورة.
 
تذكير وإرشاد بأنواع الهداية
 
[سورة المزمل (73) : الآيات 19 الى 20]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
(29/206)
 
 
الإعراب:
وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ طائفة مرفوع عطفا على الضمير المرفوع في تَقُومُ. وإنما جاز العطف على الضمير المرفوع المستكن في تَقُومُ لوجود الفصل، والفصل يقوم مقام التوكيد في تجويز العطف.
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالجر عطفا على ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وبالنصب عطفا على أَدْنى.
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إِنَّ مخففة من الثقيلة، والسين عوض عن التشديد، وقد يقع التعويض بسوف وقد وحرف النفي، كما يعوض بالسين جبرا لما دخل الحرف من النقص.
تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً.. خَيْراً مفعول ثان ل تَجِدُوهُ والهاء: هي المفعول الأول، وهو ضمير فصل على قول البصريين، ولا موضع له من الإعراب: ويسميه الكوفيون عمادا، وله موضع من الإعراب.
 
البلاغة:
فَتابَ عَلَيْكُمْ استعارة، حيث شبه الترخيص بقبول التوبة في رفع التبعة.
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ مجاز مرسل، أراد به الصلاة، من إطلاق الجزء وهو القراءة على الكل وهو الصلاة.
وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ عام بعد خاص، عمم بعد ذكر الصلاة والزكاة والإنفاق، ليشمل جميع أعمال الخير والصلاح.
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً استعارة تبعية، شبه التصدق على المحتاجين بإقراض الله تعالى لأنه هو الذي يعطي الثواب المقابل.
هُوَ خَيْراً قال ذلك للتأكيد والمبالغة.
(29/207)
 
 
المفردات اللغوية:
إِنَّ هذِهِ الآيات الموعدة أو المخوفة. تَذْكِرَةٌ عظة. فَمَنْ شاءَ أن يتعظ.
اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا طريقا يتقرب به إلى الجنة، بالتزام الإيمان والطاعة أو التقوى والاحتراز عن المعصية. أَدْنى أقل منه. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يعلم مقادير ساعاتهما. أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي لن تستطيعوا تقدير الأوقات وضبط الساعات لتقوموا قيام الليل، فيحصل قيام الكل وهو أمر شاق عليكم. فَتابَ عَلَيْكُمْ بالتيسير والتخفيف والترخيص في ترك القيام. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي فصلّوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، عبر عن الصلاة بالقراءة. وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يسافرون للتجارة.
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يطلبون من فضله ورزقه بالتجارة وغيرها. وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يجاهدون، وكل من الفئات الثلاث يشق عليهم قيام الليل، فخفف عنهم بقيام ما تيسر منه، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ المفروضة. وَآتُوا الزَّكاةَ الواجبة. وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أنفقوا في سبيل الخيرات فيما عدا المفروض من المال، عن طيب نفس. هُوَ خَيْراً أفضل مما أنفقتم. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في جميع أحوالكم ومجالسكم، فإن الإنسان لا يخلو من تفريط.
 
المناسبة:
بعد بيان أحوال المؤمنين السعداء وترغيبهم، وأحوال الأشقياء وتهديدهم بأنواع العذاب في الآخرة، ختمت السورة بتذكيرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد، فمن أراد الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية، فليفعل، ثم خفف عن المؤمنين مقدار قيام الليل لما يطرأ لهم من أعذار المرض، أو السفر للتجارة ونحوها، أو الجهاد في سبيل الله تعالى.
 
التفسير والبيان:
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي إن ما تقدم في هذه السورة من الآيات المخوفة موعظة لأولي الألباب، فمن أراد اتعظ بها واتخذ الطاعة طريقا توصله إلى رضوان الله في الجنة. وبعد نزول أوائل السورة استعد النبي صلّى الله عليه وسلّم لقيام الليل، وترك الرقاد، ثم خفف الله عنهم قائلا:
(29/208)
 
 
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ أي إن الله يعلم أنك أيها الرسول تقوم ممتثلا أمر ربك أقلّ من ثلثي الليل أحيانا، أو تقوم نصفه أو ثلثه، وتقوم ذلك القدر معك طائفة من أصحابك، والله سيجازيكم على ذلك أحسن الجزاء.
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ أي يعلم الله مقادير الليل والنهار حقيقة، ويعلم القدر الذي تقومونه من الليل، ولكن الله علم أنكم لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به، ولن تتمكنوا ضبط مقادير الليل والنهار ولا إحصاء الساعات، أو علم الله أنكم لن تطيقوا قيام الليل أو الفرض الذي أوجبه عليكم، فعاد عليكم بالعفو والترخيص في ترك القيام إذ عجزتم، ورجع بكم من العسر إلى اليسر. وأصل التوبة: الرجوع.
قال مقاتل: لما نزلت قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا شقّ ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم، فقال تعالى:
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ «1» . والمراد بقوله: لَنْ تُحْصُوهُ أي لن تطيقوه: لصعوبة الأمر، لا أنهم لا يقدرون عليه.
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي صلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، فالمراد بالقراءة الصلاة، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، كما تقدم بيانه.
وهذه الآية نسخت قيام الليل، ويؤكده
الحديث الصحيح عند مسلم والنسائي والترمذي واللفظ له عن أنس بن مالك الذي فيه قال السائل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل عليّ غيرها؟ يعني الصلوات الخمس، فقال: «لا، إلا أن تطوّع»
فهو يدل على عدم وجوب غير تلك الصلوات المفروضة، فارتفع بهذا وجوب قيام الليل وصلاته عن الأمة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 53
(29/209)
 
 
ثم ذكر الله تعالى أسباب التخفيف وأعذاره أو حكمته قائلا:
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي علم الله عز وجل بطروء أعذار ثلاثة هي المرض والسفر والجهاد، فقد يكون منكم مرضى لا يطيقون قيام الليل، وآخرون يسافرون في الأرض للتجارة والربح، يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم، فلا يطيقون قيام الليل، وقوم آخرون هم المجاهدون في سبيل الله لا يطيقون قيام الليل، فوجود هذه الأعذار المقتضية للترخيص سبب لرفع فرضية التهجد عن جميع الأمة.
ثم ذكر الحكم الدائم بعد الترخيص، فقال تعالى:
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي فصلوا ما تيسر واقرؤوا ما تيسر من القرآن، وقد أعيد الأمر هنا لتأكيد الرخصة وتقريرها، وأدوا الصلاة المفروضة قائمة بفروضها وأركانها وشرائطها واحتضار الخشوع فيها دون غفلة عنها، وآتوا الزكاة الواجبة في الأموال، وأنفقوا في سبيل الخير من أموالكم إنفاقا حسنا على الأهل وفي الجهاد وعلى المحتاجين، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة 2/ 245] .
ثم أكّد الطلب على الصدقة ورغّب فيها، فقال:
وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً أي وجميع ما تقدموه من الخير المذكور وغير المذكور، فثوابه حاصل لكم، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا، ومما تؤخرونه إلى عند الموت، أو توصون به ليخرج من التركة بعد موتكم.
(29/210)
 
 
أخرج البخاري والنسائي وأبو يعلى الموصلي عن الحارث بن سويد قال:
قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله: ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله، قال: إنما مال أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر» .
ثم ختم السورة بالأمر بالاستغفار فقال:
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي أكثروا من الاستغفار لذنوبكم وفي أموركم كلها، فإنكم لا تخلون من ذنوب اقترفتموها، وإن الله كثير المغفرة لمن استغفره، كثير الرحمة لمن استرحمه.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- كل ما جاء في سورة المزمل وفي آياتها عظة للمتعظ، فمن أراد أن يؤمن ويتخذ إيمانه وطاعته طريقا إلى رضا ربه ورحمته، فليرغب وليفعل، فذلك ممكن له لأنه تعالى أظهر له الحجج والدلائل.
2- قام النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحابته بما أمروا به من قيام الليل في أول السورة:
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ثم نسخت فرضية القيام بهذا المقدار الثقيل بآخر السورة في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ... وكان النسخ بإيجاب الصلوات الخمس.
3- خفف الله عن الأمة وعاد عليهم بالعفو. وهذا يدل- كما قال القرطبي- على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به. والأولى أن يقال: تاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. قال أبو نصر القشيري: والمشهور أن نسخ قيام الليل كان
(29/211)
 
 
في حق الأمة، وبقيت الفريضة في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب، كقوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة 2/ 196] فالهدي لا بد منه، كذلك لم يكن بدّ من صلاة الليل، ولكن فوّض قدره إلى اختيار المصلي. وهذا مذهب الحسن. ومذهب الشافعي: النسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلا.
4- أمر الله بقراءة ما تيسر من القرآن، والمراد من هذه القراءة: الصلاة لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، أي فصلوا ما تيسر لكم، والصلاة تسمى قرآنا، كقوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء 17/ 78] قال ابن العربي: وهو الأصح لأنه عن الصلاة أخبر، وإليها يرجع القول.
وقيل: المراد القراءة نفسها، أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خفف عنكم.
قال السدّي: مائة آية، وقال الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن.
وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد بن المسيب: خمسون آية. قال القرطبي: قول كعب أصح
لما أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمئة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين»
أي أعطي من الأجر قنطارا.
وصحح القرطبي القول الثاني حملا للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الآخر مجاز، فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.
5- أبان الله تعالى حكمة هذا النسخ، وذكر علة تخفيف قيام الليل فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليه قيام الليل، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، وكذلك المجاهد، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء.
6- سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال
(29/212)
 
 
الحلال للنفقة على نفسه وعياله، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله.
روى إبراهيم عن علقمة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد، فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
7- إذا كان المراد من آية فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ هو القراءة في الصلاة عملا بظاهر اللفظ، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ في الصلاة.
فقال مالك والشافعي وأحمد: فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها، ولا الاقتصار على بعضها
لما رواه السبعة عن عبادة بن الصامت أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
وظاهر النفي انعدام الصلاة الشرعية لعدم قراءة الفاتحة فيها. ورويت أحاديث كثيرة في معنى ذلك.
وقال أبو حنيفة: الفرض مطلق قراءة، وهو آية واحدة طويلة من القرآن، أو ثلاث آيات قصار لأنها أقل سورة. ودليله
ما ثبت في الصحيحين من حديث المسيء صلاته عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: «اقرأ ما تيسر معك من القرآن»
فلو كانت الفاتحة بخصوصها ركنا لعيّنها وعلمه إياها إن كان يجهلها،
وما روى أبو داود عن أبي هريرة من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بقرآن، ولو بفاتحة الكتاب»
فإنه ظاهر في عدم تعين الفاتحة.
8- أوجب الله تعالى إقامة الصلاة المفروضة وهي الخمس لوقتها، وإيتاء الزكاة الواجبة في الأموال. والمراد من الصلاة: ما كان مفروضا في النهار أول الأمر «ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي» والمراد بالزكاة: زكاة المال المفروضة التي فرضت في السنة الخامسة من البعثة على الراجح.
(29/213)
 
 
9- حث الله تعالى على القرض الحسن: وهو ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وذلك إشارة أيضا إلى صدقة التطوع.
10- أي عمل يقدمه العبد في الدنيا يبتغي به منفعته في الآخرة، سواء أكان متعلقا بالمال أم بغيره، فإنه يلقى به عند ربه جزاء أحسن منه وأكثر نفعا لإعطائه بالحسنة عشرا. وهذا حث على الإنفاق مطلقا.
11- طلب الله تعالى من عباده مداومة الاستغفار مما عسى أن يقع في الأعمال من الخلل أو التقصير، ووعد سبحانه بالرحمة والمغفرة لمن يلجأ إلى جنابه الكريم، إذ أخبر بأنه عظيم المغفرة واسع الرحمة. وهذا تحريض على الاستغفار في جميع الأحوال، وإن كانت طاعات، لما عسى أن يقع فيها من تفريط.
(29/214)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
سورة المدثر
مكيّة، وهي ست وخمسون آية.
 
تسميتها:
سميت سورة المدّثر لافتتاحها بهذا الوصف الذي وصف به النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأصل المدثر المتدثر: وهو الذي يتدثر بثيابه لينام أو ليستدفئ. والدثار: اسم لما يتدثر به.
 
مناسبتها لما قبلها:
صلة السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة هي:
1- تتفق السورتان في الافتتاح بنداء النبي صلّى الله عليه وسلّم.
2- صدر كلتيهما نازل في قصة واحدة. وقد نزلت المدثر عقب المزمّل.
3- بدئت السورة السابقة بالأمر بقيام الليل (التهجد) وهو إعداد لنفسه ليكون داعية، وبدئت هذه السورة بالأمر بإنذار غيره، وهو إفادة لسواه في دعوته.
 
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت السورة إرشادات للنبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء دعوته، وتهديدات لزعيم من زعماء الشرك، وأوصاف جهنم.
(29/215)
 
 
بدأت السورة بتكليف النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقيام بالدعوة إلى ربه، وإنذار الكفار، والصبر على أذى الفجار: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.. [الآيات: 1- 7] .
ثم وصفت يوم القيامة الرهيب الشديد، لما فيه من الأهوال: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ.. [الآيات: 8- 10] .
ثم انطلقت تهدد إنسانا في أقوى وأشد صور التهديد، وهو الوليد بن المغيرة الذي أقر بأن القرآن كلام الله تعالى، ثم من أجل الزعامة والرياسة، زعم أنه سحر، فاستحق النار: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.. [الآيات: 11- 26] .
وناسب ذلك تعداد أوصاف النار، وعدد خزنتها وحكمة ذلك، وبروزها للناس: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ.. [الآيات: 27- 31] .
وزاد الأمر تهويلا قسم الله بالقمر والليل والصبح على أن جهنم إحدى الدواهي العظام: كَلَّا وَالْقَمَرِ.. [الآيات: 32- 37] .
وأوضحت السورة مسئولية كل نفس بما كسبت وتعلقها بأوزارها، وبشارة المؤمنين بالنجاة، والكفار بالعذاب، وتصوير ما يجري من حوار بين الفريقين:
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ.. [الآيات: 38- 48] .
وختمت السورة ببيان سبب إعراض المشركين عن العظة والتذكر والإيمان:
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ.. [الآيات: 49- 56] .
 
فضلها:
ثبت في صحيح البخاري عن جابر أنه كان يقول: أول شيء نزل من القرآن: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وخالفه الجمهور، فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [القلم 96/ 1] .
(29/216)
 
 
سبب نزولها:
أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري، هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي، فرأيت شيئا، فأتيت خديجة، فقلت: دثّروني، وصبّوا عليّ ماء باردا، قال: فدثّروني وصبوا علي ماء باردا، فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ» .
ورواه مسلم بلفظ آخر يدل على أن أول ما نزل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [القلم 96/ 1- 5] .
ووجه الجمع بين الرأيين: أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة، كما
قال الإمام أحمد والشيخان عن جابر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ثم فتر الوحي عن فترة، فبينا أنا أمشي، سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت- فزعت- منه فرقا- أي خوفا-، حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت لهم: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوني، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ثم حمي الوحي وتتابع» .
وأخرج الطبراني «1» عن ابن عباس قال: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما، فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر، وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس
__________
(1) بسند ضعيف.
(29/217)
 
 
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
بكاهن، وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر، وقال بعضهم: بل سحر يؤثر، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فحزن وقنّع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ.
 
إرشادات للنبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء الدعوة
 
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
 
الإعراب:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أصله المتدثر، فأدغمت التاء في الدال لتقارب مخرجهما. ولم تدغم الدال في التاء لأن التاء مهموسة، والدال مجهورة، والمجهور أقوى من المهموس، فكان إدغام الأضعف في الأقوى أولى من العكس.
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ تَسْتَكْثِرُ جملة فعلية في موضع نصب على الحال، أي ولا تمنن مستكثرا.
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فِي النَّاقُورِ إما في موضع الرفع لأنه قام مقام النائب للفاعل، وإما في موضع النصب لأن المصدر قام مقام الفاعل، فاتصل الفعل به بعد تمام الجملة، فوقع فضلة، فكان في موضع نصب.
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ فَذلِكَ مبتدأ، ويَوْمَئِذٍ بدل منه، ويَوْمٌ عَسِيرٌ خبر المبتدأ، ولا يجوز أن يتعلق. يَوْمَئِذٍ بقوله عَسِيرٌ لأن ما تعمل فيه الصفة لا يجوز تقدمه على الموصوف. والعامل في فَإِذا في قوله: فَإِذا نُقِرَ.. ما دلت عليه الجملة، أي اشتد الأمر.
(29/218)
 
 
البلاغة:
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ تقديم المفعول به لإفادة الاختصاص.
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ جناس اشتقاق.
عَسِيرٌ ويَسِيرٍ بينهما طباق، وجناس اشتقاق.
 
المفردات اللغوية:
الْمُدَّثِّرُ المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه، وأصله: المتدثر، وأجمعوا على أن المدثر هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو لابس الدثار: وهو الثوب الظاهر الذي يلبس فوق لباس داخلي يلاصق الجسد قُمْ من مضجعك، أو قيام عزم وجدّ فَأَنْذِرْ خوّف أهل مكة وغيرهم النار إن لم تؤمنوا. فَكَبِّرْ عظّم. فَطَهِّرْ أي طهر ثيابك من النجاسات، فإن التطهير واجب في الصلاة، محبوب في غيرها، وذلك بغسلها، أو بحفظها عن النجاسة، أو طهر نفسك من الأفعال والأخلاق الذميمة.
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي اترك الأسباب والمآثم المؤدية إلى العذاب، وداوم على هجرها، والرجز: بضم الراء وكسرها: العذاب، قال تعالى: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ [الأعراف 7/ 134] . وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي لا تعط شيئا فتطلب أكثر منه، أو لا تمنن على الله بعبادتك مستكثرا إياها، أو على الناس بالتبليغ مستكثرا به الأجر منهم أو مستكثرا إياه. فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ نفخ في الصور وهو القرن النفخة الثانية. فَذلِكَ أي وقت النقر. يَوْمٌ عَسِيرٌ شديد على الكفار. غَيْرُ يَسِيرٍ غير سهل عليهم.
 
سبب النزول:
تقدم، وملخصه:
أخرج الشيخان عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري، نزلت، فاستنبطت الوادي، فنوديت، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، فرجعت، فقلت:
دثروني. فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» .
 
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ أي يا أيها النبي الذي قد تدثر بثيابه، أي
(29/219)
 
 
تغطى بها رعبا من رؤية الملك عند نزول الوحي أول مرة، انهض، فخوّف أهل مكة، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا.
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي عظم الله وصفه بالكبرياء، في عبادتك وكلامك وجميع أحوالك، فإنه أكبر من أن يكون له شريك، وطهّر ثيابك واحفظها عن النجاسات. وقال قتادة: أي طهرها من المعاصي والذنوب، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله: إنه لدنس الثياب، وإذا وفّى وأصلح: إنه لمطهر الثياب. وكلا المعنيين صحيح، فإن الطهارة الحسية أو النظافة تلازم عادة الطهارة المعنوية، أي التجرد والتباعد من المعاصي، والعكس صحيح، فإن وجود الأوساخ ملازم لكثرة الذنوب.
والآية دليل على تعظيم الله مما يقول عبدة الأوثان، وعلى النظافة وتحسين الأخلاق واجتناب المعاصي.
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي اترك الأصنام والأوثان، فلا تعبدها، فإنها سبب العذاب، واهجر جميع الأسباب والمعاصي المؤدية إلى العذاب في الدنيا والآخرة، فالآية دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي.
والنهي عن جميع ذلك لا يعني تلبسه بشيء منها وإنما يبدأ به لكونه قدوة، وللمداومة على الهجران، فهو كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب 33/ 1] وقوله سبحانه: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف 7/ 142] فمثل هذا الخطاب للنبي يراد به الأمر بالدوام والمتابعة، واستمرار تجنب الفساد.
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي لا تمنن على أصحابك وغيرهم بتبليغ الوحي، مستكثرا ذلك عليهم، أو إذا أعطيت أحدا عطية، فأعطها لوجه الله، ولا تمنّ
(29/220)
 
 
بعطيتك على الناس، أو لا تضعف أن تستكثر من الخير، فإن تَمْنُنْ في كلام العرب تضعف.
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل، فإنك حمّلت أمرا عظيما، ستحاربك العرب عليه والعجم، فاصبر عليه لله.
واصبر أيضا على طاعة الله وعبادته. وبعد إرشاد النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، أبان الله تعالى وعيد الأشقياء، فقال:
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ أي اصبر على أذاهم، فأمامهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية للبعث من القبور، فوقت النقر يومئذ يوم شديد جدا على الكفار، غير سهل عليهم.
أخرج ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة والإمام أحمد عن ابن عباس في قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر، فينفخ؟ فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا» .
 
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ملاطفة في الخطاب ولين في الكلام من الله إذ ناداه ربه بحاله وعبّر عنه بصفته.
2- أمر الله نبيه بتخويف أهل مكة وغيرهم من الناس قاطبة، وبتحذيرهم العذاب إن لم يسلموا.
(29/221)
 
 
3- ما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإنذار إلا لحكمة بالغة، ومهمات عظيمة، لا يجوز له الإخلال بها.
أولها- تعظيم الله ووصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد، كما يقول عبدة الأوثان.
ثانيها- تطهير الثياب من النجاسة المادية أو الحكمية، وتطهير النفس من المعاصي المؤدية إلى العذاب، وتجميلها بمحاسن الأخلاق.
ثالثها- هجر الأوثان والمآثم التي هي سبب العذاب، ويراد بذلك الأمر بالمداومة على ذلك الهجران.
رابعها- عدم الامتنان على الله بالأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعل، وإنما الواجب الصبر على ذلك لوجه الله تعالى، متقربا إليه، غير ممتنّ به عليه، وعدم الامتنان على الناس بتعليم أمور الدين والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام، وبالنبوة لأخذ أجر يستكثر به ماله. وقال أكثر المفسرين: المعنى: ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه، حتى تكون عطاياه لأجل الله عز وجل، لا لأجل طلب الدنيا. وهذا سمة أهل الجود والكرم.
خامسها- الصبر على أداء الفرائض والعبادات وإيذاء الناس بسبب تبليغ الدين. والخلاصة: أن الله تعالى وضع أساسين لنجاح دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد استكمال العقل وتحرره من الشرك، واستكمال النفس بالخلق الكامل، وهما:
الجود والصبر.
4- هدد الله الكفار الأشقياء بأهوال يوم القيامة، فإنه إذا نفخ إسرافيل في الصور- وهو كهيئة البوق- النفخة الثانية، كان ذلك اليوم يوما شديدا على كل من كفر بالله وبأنبيائه، غير سهل ولا هيّن عليهم، فإنهم دائما يواجهون صعابا أشد، بخلاف المؤمنين الذين يتجهون دائما إلى ما هو الأخف، حتى يدخلوا الجنة
(29/222)
 
 
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
برحمة الله تعالى. وقد فهم ابن عباس من قوله تعالى: عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ كون ذلك اليوم يسيرا على المؤمن، وهذا حجة لمن قال بدليل الخطاب أنه حجّة.
 
تهديد زعماء الشرك
 
[سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 30]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
 
الإعراب:
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَحِيداً حال من هاء. خَلَقْتُ المحذوفة، وتقديره: خلقته وحيدا.
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ لَوَّاحَةٌ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هي لواحة.
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ مبتدأ، مبني على الفتح، لتضمنه معنى الحرف، وهو واو العطف، وأصله: تسعة وعشر، ولما حذفت الواو تضمنا معنى الحرف، فوجب أن يبنيا، وبنيا على الفتح لأنه أخف الحركات. وعَلَيْها خبره.
 
البلاغة:
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ إطناب بتكرار الجملة لزيادة التوبيخ. وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ الاستفهام للتهويل والتفخيم.
(29/223)
 
 
المفردات اللغوية:
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً دعني واتركني وحدي وإياه، فإني أكفيكه. مَمْدُوداً مبسوطا كثيرا، فقد كان للوليد الزرع والضرع والتجارة. شُهُوداً حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم ولقائهم، لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش، استغناء بنعمته، ويشهدون المحافل وتسمع شهادتهم. قيل: كان له عشرة بنين أو أكثر، كلهم رجال، فأسلم منهم ثلاثة: خالد وعمار وهشام.
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً بسطت له الرياسة والجاه العريض، حتى لقب: ريحانة قريش، والوحيد، أي باستحقاق الرياسة والتقدّم.
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ يطمع في الزيادة على ما أوتيه. كَلَّا كلمة ردع وزجر، أي لا أزيده على ذلك. عَنِيداً معاندا لها ومكابرا. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأكلفه وأحمله عذابا شاقا صعبا لا يطاق، وهو مثل لما يلقى من الشدائد. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ تعليل للوعيد، أي تأمل في القرآن، وهيأ الأمر في نفسه. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجب من تقديره استهزاء به، أي لعنه الله كيف توصل إلى ما تريد قريش. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير للمبالغة، وثُمَّ للدلالة على أن الثانية أبلغ من الأولى. ثُمَّ نَظَرَ في وجوه قومه أو فيما يقدح به فيه.
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ عَبَسَ قطّب جبهته بين الحاجبين، وَبَسَرَ كلح وجهه وتغير، فهو أشد من العبوس. ثُمَّ أَدْبَرَ عن الإيمان. وَاسْتَكْبَرَ تكبر عن اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم فَقالَ الفاء للدلالة على سرعة الحكم من غير تفكر. إِنْ هذا أي ما هذا القرآن. إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي يروى ويتعلم. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ كالتأكيد للجملة الأولى، أي إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.
سَأُصْلِيهِ أدخله. سَقَرُ جهنم. وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ تعظيم لشأنها. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ أي لا تبقى على شيء يلقى فيها، ولا تدعه حتى تهلكه. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ تلوح وتظهر لأنظار الناس من مسافات بعيدة لعظمها وهولها، أو مسوّدة لأعالي الجلد، والبشر على هذا جمع بشرة: وهي ظاهر الجلد.
 
سبب النزول:
نزول الآية (11) :
ذَرْنِي.. أخرج الحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا
(29/224)
 
 
لك مالا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا، لتتعرض لما قبله، قال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، فقال: وماذا أقول؟ فوالله، ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه، فقال: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يأثره عن غيره، فنزلت: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.
 
نزول الآية (30) :
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وابن مردويه عن البراء: أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم عن خزنة جهنم، فجاء، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل عليه ساعتئذ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ.
 
المناسبة:
بعد أن أخبر الله تعالى عن كون يوم القيامة عسيرا غير يسير على الكافرين، هدد الوليد بن المغيرة وأمثاله من زعماء الشرك، وسلّى نبيه بقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وهو كقوله في المزمّل، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ.. [11] ثم عدد تعالى نعمه على الوليد من المال والولد والجاه والرياسة، وكفره بها، ووعيده بنار جهنم لوصفه القرآن الكريم بأنه سحر يؤثر.
 
التفسير والبيان:
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أي دعني أنا والذي خلقته حال كونه وحيدا
(29/225)
 
 
في بطن أمه، لا مال له ولا ولد، أو دعني وحدي معه، فإني أكفيك في الانتقام منه.
وأجمع المفسرون على أن المراد به هنا الوليد بن المغيرة.
وهذا توعد وتهديد لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله، وبدلها كفرا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وجعلها من قول البشر. ثم عدد الله تعالى تلك النعم، فقال:
وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ أي وجعلت له مالا واسعا كثيرا، وقد كان الوليد مشهورا بكثرة المال، من الزروع والمواشي والتجارات في مكة وما بينها وبين الطائف. وجعلت له أيضا بنين حضورا معه بمكة، لا يفارقونها ولا يسافرون بالتجارات في البلاد لطلب الرزق، لكثرة مال أبيهم. قيل: كان له عشرة بنين أو ثلاثة عشر ولدا كلهم من الرجال فكان يسمى ريحانة قريش، والوحيد، لأنه وحيد متميز في قومه بالرياسة والجاه.
وكذلك بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش، ومكّنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك.
ومع كل هذا يطمع في زيادة المال والولد وغير ذلك، مما يدعو إلى التعجب. وقوله: ثُمَّ هنا معناه التعجب، كقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام 6/ 1] فمعنى ثُمَّ هنا للإنكار والتعجب.
وهذا إنكار عليه لشدة حرصه على الدنيا، فرد الله تعالى عليه بقوله:
كَلَّا، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي لا أزيده، فإنه كان لآيات القرآن معاندا لها، كافرا بما أنزلناه منها على رسولنا، بعد العلم بصدقها.
(29/226)
 
 
وهذا دليل على أنه كان كافرا كفر عناد، فهو في أعماق نفسه يقرّ بكون آي القرآن من عند الله، ولكنه ينكر ذلك بلسانه إرضاء لقومه، لذا استحق العقاب الآتي:
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً أي سأكلفه وأحمّله مشقة من العذاب، لا راحة فيه، كمن يتكلف صعود أعالي الجبال الشاهقة الوعرة. والإرهاق: أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل الذي لا يطيقه.
وقيل: الصعود: جبل في النار،
روى ابن أبي حاتم والبزار وابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قال:
«هو جبل في النار، من نار، يكلف أن يصعده، فإذا وضع يده ذابت، وإذا رفعها عادت، فإذا وضع رجله ذابت، وإذا رفعها عادت» .
ورواه الترمذي بلفظ: «الصعود: جبل من نار يتصعّد فيه سبعين خريفا، ثم يهوي كذلك فيه أبدا» .
وقال فيه: حديث غريب. ثم حكى تعالى أحواله وكيفية اتخاذ قراره وكيفية عناده، فقال:
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أي إنه فكر في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي القرآن العظيم، وهيّأ الكلام في نفسه ما يقول، وتروى ماذا يصف به القرآن حين سئل عنه، ففكر ماذا يختلق من المقال، فلعن وعذّب على أيّ حال قدّر ما قدر من الكلام، وأكد ذلك قائلا: ثم لعن وعذب، وأتى ب ثُمَّ للدلالة على أن الدعاء عليه في المرة الثانية أبلغ وآكد من الأولى.
وهذا كله تعجب واستعظام من موقفه، واستحقاقه مضاعفة العذاب. ثم وصفه بأحوال ظاهرة للناس فقال:
ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ أي ثم أعاد النظر والتروي والتأمل في الطعن
(29/227)
 
 
بالقرآن، ثم قطّب وجهه لما لم يجد مطعنا يطعن به القرآن، وكلح وجهه وتغير وأظهر الكراهة، ثم أعرض عن الإيمان، وانصرف عن الحق، وتكبر عن الانقياد للقرآن، فقال: ما هذا إلا سحر ينقل ويحكى، نقله محمّد عن غيره ممن قبله، وحكاه ورواه عنهم، فليس بكلام الله، بل هو كلام البشر أو الإنس.
وهذا دليل على أنه كان مناقضا فيما اختلقه لقناعته الذاتية، فقد كان بقلبه مصدقا للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنه أنكره عنادا.
روى العوفي عن ابن عباس قال: دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة، فسأله عن القرآن، فلما أخبره، خرج على قريش، فقال: يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر، ولا بسحر، ولا بهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، فلما سمع بذلك النفر من قريش، ائتمروا، وقالوا:
والله لئن صبأ الوليد، لتصبو قريش، فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام، قال:
أنا والله أكفيكم شأنه، فانطلق، حتى دخل عليه بيته، فقال للوليد: ألم تر إلى قومك، قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألست أكثرهم مالا وولدا؟ فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه فقال الوليد: أقد تحدّث به عشيرتي!! فلا، والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر، فأنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم:
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً- إلى قوله- لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ.
ومما يدل على أن كفره كفر عناد: ما ذكر سابقا أن الوليد مرّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقرأ: حم السجدة، فرجع وقال لبني مخزوم:
والله لقد سمعت آنفا من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة. وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى.
(29/228)
 
 
وقال قتادة: زعموا أنه قال: والله لقد نظرت فيما قال الرجل، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه يعلو وما يعلى عليه، وما أشك أنه سحر، فأنزل الله: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ الآية.
ولا ريب أن من عرف هذا القدر، ثم زعم أن القرآن سحر، فإنه يكون معاندا، وكان منكرا للتوحيد والنبوة والبعث.
ثم ذكر الله تعالى ما يستحقه من عقاب على موقفه هذا، فقال: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أي سأدخله النار، وسأغمره فيها من جميع جهاته، وسقر: من أسماء النار، ثم هوّل أمرها وفخّم شأنها بقوله: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ المعنى: أيّ شيء أعلمك ما سقر؟ لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا، فلا تتركهم، بل تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبدا، كما قال تعالى:
كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ، بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها، لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء 4/ 56] .
وتلوح جهنم للناس حتى يرونها عيانا، كما قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء 26/ 91] . أو تلفح الجلد لفحة، فتدعه أسود من الليل، وعلى النار زبانية وخزنة أشداء، عظيمو الخلق، غليظو الخلق، عددهم من الملائكة تسعة عشر، والمميز في رأي الأكثرين: شخصا، وقيل: صنفا.
والبشر: إما الإنس من أهل النار، وهو رأي الأكثرين، أو جمع بشرة:
وهي جلدة الإنسان الظاهرة.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
يحتاج نجاح الدعوة إلى الله إلى عناصر بشرية إيجابية، وحماية إلهية، أما
(29/229)
 
 
العناصر الإيجابية فهي ما تحدثت عنه فاتحة السورة من تطهير النفس والعقل من الشرك والوثنية، والاتصاف بأمثل الصفات الخلقية، والاستعانة بالجود والصبر.
وجاء هنا دور الوقاية والحفظ الإلهي، فالله سبحانه وقى رسوله صلّى الله عليه وسلّم من أذى المشركين، وسلاه وهدد أعظم زعماء الشرك وهو الوليد بن المغيرة ليكون عبرة لغيره.
فقد كان الوليد موقنا بقلبه، مقتنعا بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنه كذب بلسانه إرضاء لهوى نفسه في حب الزعامة والرياسة والجاه، وإيثارا للانضمام إلى صف أهل الشرك في مكة.
فبالرغم من أن الحق سبحانه أمده بالمال والبنين، وجعله متقلبا في أعطاف الرفاه والنعيم، ثم طمع في زيادة المال والولد، فإنه قابل النعمة بالجحود، والشكر بالكفران، فكذب بالقرآن، ولم يؤمن بأنه كلام الله تعالى، ووصفه بأنه سحر مروي من كلام البشر المتناقل، وعاند النبي صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به.
فحجب الله عنه زيادة النعمة لأنها لا تكون مع الكفر بالمنعم بها، وتوعده وهدده بدخوله نار جهنم، ذاكرا أسباب ذلك، وهي كيفية عناده، فإنه فكر في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، وهيأ الكلام في نفسه، ونظر بأي شيء يرد الحق ويدفعه، وقطّب بين عينيه في وجوه المؤمنين، وكلح وجهه وتغير لونه، وولّى معرضا عن الحق والإيمان، وتعظم عن أن يؤمن، فقال: ما هذا الذي أتى به محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا سحر يأثره ويحكيه عن غيره، وما هذا إلا كلام المخلوقين، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر.
فلعن كيف فكر، وعذب على ما قدّر، ثم لعن لعنا بعد لعن، واستحق الإدخال في جهنم التي وصفها الله وبالغ في وصفها بقوله، وما أعلمك أي شيء هي؟ فهي لا تترك لهم عظما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته، ثم تعاود إحراقهم إلى
(29/230)
 
 
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
الأبد، تلوح للبشر عيانا، وتلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل، ولا يستطيع أحد الفرار منها، فإن عليها خزنة تسعة عشر من الملائكة، يلقون فيها أهلها وهم مالك وثمانية عشر ملكا آخرون بأعيانهم. قال الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق، كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. والأكثرون على أن المراد تسعة عشر شخصا من الملائكة، وقيل: صنفا.
قال القرطبي: والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ
وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها» «1» .
 
الحكمة في اختيار عدد خزنة جهنم التسعة عشر
 
[سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 37]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 80
(29/231)
 
 
الإعراب:
إِلَّا فِتْنَةً مفعول ثان لجعلنا.
ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا مَثَلًا: حال.
نَذِيراً لِلْبَشَرِ منصوب من خمسة أوجه:
1- أن يكون منصوبا على المصدر، أي إنذارا للبشر، فيكون نذير بمعنى إنذار، كنكير بمعنى إنكار.
2- أن يكون منصوبا على الحال من لَإِحْدَى الْكُبَرِ وذكّر لأنها بمعنى العذاب، أو لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث.
3- أن يكون منصوبا على الحال من ضمير قُمْ في أول السورة، وتقديره: قم نذيرا للبشر.
4- أن يكون منصوبا بتقدير فعل، أي صيرها الله نذيرا، أي ذات إنذار، على النسب.
5- أن يكون منصوبا بتقدير: أعني، أي أعني نذيرا للبشر.
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ إِذْ: ظرف زمان ماض، أَدْبَرَ: انقضى، يراد به التعبير عن إدبار الليل فيما مضى، وقرئ «إذا» ظرف زمان مستقبل دبر: تولى. قال الفراء: دبر وأدبر بمعنى واحد، كقبل وأقبل.
 
البلاغة:
يُضِلُّ وَيَهْدِي بينهما طباق، وكذا بين يَتَقَدَّمَ ويَتَأَخَّرَ.
كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ سجع مرصع.
 
المفردات اللغوية:
إِلَّا مَلائِكَةً أي فلا يمكن مقاومتهم ولا يطاقون كما يتوهمون. عِدَّتَهُمْ عددهم المذكور. فِتْنَةً سبب ضلال واستبعاد. لِلَّذِينَ كَفَرُوا بأن يقولوا: لم كانوا تسعة عشر.
لِيَسْتَيْقِنَ ليستبين. الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود والنصارى، أي ليتبينوا صدق القرآن وصدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لما رأوا أن عددهم تسعة عشر موافق لما في كتابهم. وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً يزداد المؤمنون من أهل الكتاب وغيرهم تصديقا لموافقة ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلّم لما في كتابهم.
وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ من غيرهم في عدد الملائكة. مَرَضٌ
(29/232)
 
 
شك أو نفاق، وهم منافقو المدينة. وَالْكافِرُونَ بمكة. ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي ماذا أراد الله بهذا العدد حديثا. كَذلِكَ يُضِلُّ.. أي مثل ذلك المذكور من إضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه، يضل الكافرين، ويهدي المؤمنين. وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أي ما يعلم الملائكة في قوتهم وأعوانهم، وكذلك جموع خلقه على ما هم عليه. وَما هِيَ أي سقر.
ذِكْرى تذكرة وموعظة للناس.
كَلَّا ردع لمن أنكرها، أي حقا. أَدْبَرَ مضى وولّى. أَسْفَرَ ظهر وأضاء.
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ أي إن سقر وصفتها لإحدى الدواهي أو البلايا العظام. أَنْ يَتَقَدَّمَ إلى الخير أو الجنة بالإيمان. أَوْ يَتَأَخَّرَ إلى الشر أو النار بالكفر.
 
سبب النزول: نزول الآية (31) :
وَما جَعَلْنا..: قال ابن إسحاق وقتادة: قال أبو جهل يوما:
يا معشر قريش، يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا، أفيعجز مائة رجل منكم عن رجل منهم، فأنزل الله:
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً الآية.
وقال السّدّي: لما نزلت عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قال رجل من قريش يدعى أبا الأشد بن كلدة الجمحي- وكان شديد البطش «1» -: يا معشر قريش لا يهولنّكم التسعة عشر، أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، فأنزل الله: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً.
وفي رواية: أن الحارث بن كلدة قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم
__________
(1) كان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة، لينزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه.
قال السهيلي: وهو الذي دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مصارعته، وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه النبي صلّى الله عليه وسلّم مرارا، فلم يؤمن. وصارع النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب.
(29/233)
 
 
اثنين، فنزل قوله: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي لم يجعلهم رجالا تستطيعون مغالبتهم.
 
التفسير والبيان:
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي لم نجعل خزنة النار وزبانيتها القائمين بالتعذيب إلا ملائكة غلاظا شدادا، ولم نجعلهم رجالا تمكن مغالبتهم، ومن يطيق الملائكة ومن يغلبهم؟ وهم أقوى الخلق وأشدهم بأسا وأعظمهم بطشا، وأقومهم بحق الله والغضب له تعالى.
وهذا رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة، فقال أبو جهل كما تقدم: يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟
فقال الله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي شديدي الخلق، لا يقاومون ولا يغالبون.
ثم أبان الله تعالى حكمة اختيار عدد الخزنة، فقال:
وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر، اختبارا منا للناس، وسبب محنة وإضلال للكافرين، حتى قالوا ما قالوا، ليتضاعف عذابهم، ويكثر غضب الله عليهم. فقوله: فِتْنَةً معناه سبب فتنة، أي جعلنا تلك العدة وهي تسعة عشر سببا لفتنة الكفار، وفتنتهم: هو كونهم أظهروا مقاومتهم والطمع في مغالبتهم، وذلك على سبيل الاستهزاء، فإنهم مكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها.
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً أي إنه تعالى جعل عدة الزبانية تسعة عشر ليتيقن ويعلم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى أن هذا الرسول حق، فإنه جاء ناطقا بما يطابق كتبهم السماوية المنزلة على الأنبياء
(29/234)
 
 
قبله، فإن فيها أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر، ولكي يزداد إيمان المؤمنين وتصديقهم حين يرون موافقة أهل الكتاب لهم، ويشهدون صدق إخبار نبيهم محمد- صلّى الله عليه وسلّم.
ثم أكد الله تعالى ذلك بنفي الشبهة والشك، فقال:
وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ أي ولا يشك أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمؤمنون بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في صحة وحقيقة هذا العدد، وفي دين الله. والمراد بذلك في الواقع التعريض بالمتشككين المنافقين.
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي وليقول المنافقون الذي في قلوبهم شك وريب في صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم والكافرون من أهل مكة وغيرهم: أي شيء أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل؟
وما الحكمة في ذكر هذا هنا؟ ومرادهم إنكار أصل هذا الكلام، وأنه ليس من عند الله «1» .
ثم ذكر الله تعالى سنته في الإضلال والهداية لمن كان من أهلهما، فقال:
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل من يريد بخذلانه عن إصابة الحق، لسوء استعداده، وتوجيه نفسه لمواقع الضلال والسوء، ويهدي إلى الحق والإيمان من يريد، بتوفيقه إلى الصواب، فمثل إضلال أبي جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم، يضل الله عن الهداية والإيمان أي يخزي ويعمي من أراد إضلاله، ويهدي أي يرشد من أراد هدايته، كإرشاد أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وليس معنى الإضلال والهداية أنه تعالى يجبر كل فريق على الضلالة والهدى،
__________
(1) البحر المحيط: 8/ 377
(29/235)
 
 
فذلك مناف للعدل الإلهي، ولحكمة التشريع الذي جاء بالتكليف، وإنما لإرادة المكلف واختياره دور أساسي في الاستجابة للتكليف، ولاستحقاق المؤاخذة والثواب، ولا يقع شيء قهرا عن الله، وإنما بمراده، فإن خالف العبد عصى المأمور به، والمحبوب لربه، ولم يخرج عن مشيئة الله، فالله قهر الأشياء كلها، ولكنه أرخى الزمام في أشياء لاختيار الإنسان.
ثم أكد تعالى أن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها، فقال:
وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أي إن خزنة النار، وإن كانوا تسعة عشر، فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
وهذا رد على المشركين الذين استقلوا ذلك العدد، ملخصه: هبوا أن هؤلاء تسعة عشر، إلا أن لكل واحد من الأعوان والجنود ما لا يحصيهم إلا الله، فلا يعلم جنود الله إلا هو لفرط كثرتهم، ولا يعسر عليه تتميم الخزنة إلى عشرين وأزيد، ولكن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها.
وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أي وما سقر وصفتها، وما ذكر عدد خزنتها إلا تذكرة وموعظة للناس، ليعلموا كمال قدرة الله، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار.
ثم وجّه الله تعالى تحذيرا لمن أنكر جهنم، فقال:
كَلَّا، وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ أي أوجه تحذيرا رادعا لكم أيها الناس، فلا سبيل لإنكار وجود النار في الآخرة، وأقسم بالقمر المتلألئ، وبالليل إذا مضى وولى ذاهبا، وبالصبح إذا ظهر وتبين وأضاء، إن سقر (جهنم) لإحدى الدواهي العظام والبلايا الكبار لإنذار البشر وتخويفهم من عقاب الله على العصيان.
(29/236)
 
 
ثم عيّن الله تعالى المنذرين، فقال:
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أي إن جهنم إنذار لمن أراد أن يتقدم إلى الخير والطاعة أو الجنة بالإيمان، أو يتأخر عن ذلك إلى الشر والمعصية أو النار بالكفر. ونظير الآية قوله سبحانه: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [الحجر 15/ 24] أي المبادرين إلى الخير، والمتأخرين عنه إلى الشر.
قال ابن عباس: هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلّى الله عليه وسلّم عوقب عقابا لا ينقطع «1» .
وقال الحسن البصري: هذا وعيد وتهديد، وإن خرج مخرج الخبر، كقوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 18/ 29] «2» .
 
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
1- إن خزنة جهنم وزبانيتها التسعة عشر هم من الملائكة الذين لا يغالبون لا من الرجال الذين يمكن مقاومتهم بالتجمع عليهم.
2- إن إيراد عدد التسعة عشر من الملائكة صار سببا لفتنة الكفار، أي اختبارهم، قال الزمخشري: ما جعل افتتانهم بالعدة سببا، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سببا، وذلك أن المراد بقوله: ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً، لِلَّذِينَ كَفَرُوا: وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر، فوضع فتنة للذين كفروا موضع
__________
(1) تفسير القرطبي: 19/ 86
(2) المرجع والمكان السابق.
(29/237)
 
 
تسعة عشر لأن حال هذه العدّة الناقصة واحدا من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزئ، ولا يذعن إذعان المؤمن، وإن خفي عليه وجه الحكمة، كأنه قيل: ولقد جعلنا عدتهم عدة، من شأنها أن يفتتن بها، لأجل استيقان المؤمنين، وحيرة الكافرين «1» .
3- إن ذكر هذا العدد أدى إلى زيادة يقين الذين أعطوا التوراة والإنجيل بصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم، وأدى أيضا إلى زيادة إيمان المؤمنين بذلك لأنهم كلما صدّقوا بما في كتاب الله آمنوا، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم، وإلى نفي الشك من الذين أعطوا الكتاب والمصدّقين من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم في أن عدّ