التفسير المنير للزحيلي 008

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب : التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج
المؤلف : د وهبة بن مصطفى الزحيلي
 
البلاغة:
إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ التأكيد بإن واللام بسبب إنكار المخاطبين للوحدانية.
 
المفردات اللغوية:
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا أقسم الله بالملائكة التي تصف في السماء للعبادة كصفوف الناس في الصلاة في الدنيا، انتظارا لتنفيذ أمر الله، ويكون ترتيبهم في الصفوف بحسب مراتبهم في التقدّم والفضيلة.
فَالزَّاجِراتِ زَجْراً الملائكة التي تزجر السحاب أي تسوقه. وأصل الزّجر: الدّفع بقوة الصوت، يقال: زجرت الإبل والغنم: أي أفزعتها بالصوت والصياح، ثم استعمل في السوق والحثّ على الشيء.
فَالتَّالِياتِ ذِكْراً الملائكة التي تتلو القرآن وتقرؤه. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ هذا جواب القسم بالملائكة على أن الله واحد لا شريك له، وهو خطاب للمشركين الذين أنكروا التوحيد.
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ ربّ ذلك كله: أي خالقه ومالكه، والْمَشارِقِ: مشارق الشمس، أي وربّ المغارب أيضا، فللشمس كلّ يوم مشرق ومغرب.
والمعنى: أن وجود هذه المخلوقات على هذا النحو البديع من أوضح الأدلّة على وجود الله وقدرته.
 
التفسير والبيان:
أقسم الله تعالى بالملائكة الصّافّات صفوفا للعبادة أو الصّافّات أجنحتها في السماء، انتظارا لأمر الله تعالى، والذين هم يقومون بوظائف متعددة، منها: أنهم يسوقون السّحب إلى مكان معين بالتدبير المأمور به فيها، أو أنهم يزجرون الناس ويردعونهم عن المعاصي بإلهام الخير، ويزجرون الشياطين عن الوسوسة والإغواء.
ومنها: أنهم يتلون آيات الله على أنبيائه، أو على أوليائه. لقد أقسم الله بأن معبودكم أيها المخاطبون الذي يجب إخلاص العبادة له، هو واحد لا شريك له، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما من العوالم والمخلوقات، ومالك ذلك كله، وهو ربّ مشارق الشمس ومغاربها، فأعلنوا في نفوسكم توحيد الله، وأخلصوا له العبادة، وأفردوه بالطاعة، فوجود هذه المخلوقات من أوضح الدلائل على وجود الصانع وقدرته ووحدانيته.
(23/63)
 
 
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1- أقسم الله تعالى بالملائكة، ولله أن يقسم على ما يشاء، في أي وقت يشاء.
2- ذكرت الآيات صفات ثلاثا للملائكة، وهي: أولا- وقوف الملائكة صفوفا إما لأداء العبادات كما أخبر تعالى عنهم: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصّافّات 37/ 165] ، وإما أنها تصف أجنحتها في الهواء منتظرين وصول أمر الله إليهم، وثانيا- زجر السحاب، أي سوقه وتحريكه والإتيان به من موضع إلى موضع، أو زجر الناس عن المعاصي بالإلهام والتأثير في القلوب، أو زجر الشياطين عن التّعرض لبني آدم بالشّر والإيذاء. وثالثا- قراءة كتاب الله تعالى في الصلاة، وعلى الأنبياء، والأولياء للتذكير بها وغرس الشرائع في النفوس، والصفة الثالثة مذكورة في آية أخرى هي: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً [المرسلات 77/ 5- 6] .
هذا.. وقد ورد في السّنة النّبوية حديثان صحيحان عن كيفية صفوف الملائكة:
الأول-
ما أخرجه مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «فضّلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعل لنا ترابها طهورا إذا لم نجد الماء» .
والثاني-
ما أخرجه مسلم أيضا والنسائي وابن ماجه عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند
(23/64)
 
 
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
ربّهم؟ قلنا: وكيف تصفّ الملائكة عند ربّهم؟ قال ص: يتمّون الصّفوف المتقدّمة، ويتراصّون في الصّف» .
3- كان جواب هذا القسم العظيم أن الله واحد لا شريك له، ولا ثاني له، فهو قسم مشفوع بالبرهان الذي يثبت وحدانية الله تعالى.
وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنه واحد
4- الدّليل على وجود الله الصانع ووحدانيته وقدرته كونه الخالق المالك للسموات والأرض وما بينهما من المخلوقات، ولمشارق الشمس ومغاربها، فللشمس كل يوم مشرق ومغرب بعدد أيام السّنة، تطلع كل يوم من واحد منها، وتغرب في واحد، ولها في كل عام مشرقان: أقصى مشرق في الشمال، وأقصى مشرق في الجنوب. واكتفى بذكر المشارق عن المغارب، لدلالتها عليه، وقد صرح بها في قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ، إِنَّا لَقادِرُونَ [المعارج 70/ 40] ، وفي آية أخرى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن 55/ 17] ، يعني في الشتاء والصيف للشمس والقمر، فالآية الأولى لبيان مشرق الشمس الخاص كل يوم، والآية الثانية تبين أن لها في كل عام مشرقين.
 
تزيين السماء بالكواكب
 
[سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 10]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
(23/65)
 
 
الإعراب:
بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ الْكَواكِبِ: بدل من بِزِينَةٍ، وقرئ بنصب الكواكب: إما بأن أعمل الزينة في الكواكب، أي زيّنّا الكواكب، مثل أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً أن أن أطعم يتيما، وإما بنصبه على البدل من موضع بِزِينَةٍ وهو النصب، وإما بنصبه ب (أعني) . وقرئ بترك تنوين بِزِينَةٍ وجرّ الْكَواكِبِ على وجهين: الجر على الإضافة، أو بدل من بِزِينَةٍ وحذف تنوين بِزِينَةٍ لالتقاء الساكنين. والإضافة للبيان، أي المبينة ب الْكَواكِبِ.
وَحِفْظاً منصوب بفعل مقدر، أي حفظناها بالشّهب.
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أتى ب إِلَى وإن كان يَسَّمَّعُونَ لا يفتقر إلى حرف جرّ، إما بحمل يَسَّمَّعُونَ على (يصغون) ، وإما بحذف المفعول، وتقديره: لا يسّمّعون القول، مائلين إلى الملأ الأعلى.
دُحُوراً منصوب على المصدر، تقديره: يدحرون دحورا.
 
البلاغة:
كُلِّ جانِبٍ عَذابٌ واصِبٌ شِهابٌ ثاقِبٌ وكذلك في الآية بعدها طِينٍ لازِبٍ فيها ما يسمى بمراعاة الفواصل أحد المحسنات البديعية.
 
المفردات اللغوية:
السَّماءَ الدُّنْيا هي أقرب السموات لأهل الأرض، أي القربى منكم، وهي مؤنث الأدنى.
الْكَواكِبِ هي النجوم والأجرام السماوية، وتزيين السماء إما بها أو بضوئها. مارِدٍ عات خارج عن الطاعة، وحفظ السماء من الشياطين برميها بالشهب. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى كلام مستأنف مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ الله السماء منهم، ولا يجوز جعله صفة لكل شيطان، فإنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون. ويَسَّمَّعُونَ أي يتسمّعون. والْمَلَإِ الجماعة المجتمعون على رأي، والمراد بهم هنا الملائكة في السماء. والْمَلَإِ الْأَعْلى أهل السماء الدنيا فما فوقها. وَيُقْذَفُونَ يرجمون بالشهب، وهم الشياطين. مِنْ كُلِّ جانِبٍ من آفاق السماء.
دُحُوراً طردا وإبعادا. وَلَهُمْ في الآخرة. عَذابٌ واصِبٌ دائم أو شديد.
الْخَطْفَةَ مصدر للمرة الواحدة، وهي الاختلاس والأخذ بسرعة على غرّة. والاستثناء في قوله:
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ من ضمير يَسَّمَّعُونَ أي لا يسمع إلا الشيطان الذي سمع الكلمة من
(23/66)
 
 
الملائكة، فأخذها بسرعة. فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ شعلة ساطعة من النار، وهي ما يرى كأن كوكبا انقض. ثاقِبٌ مضيء فيحرقه، أو يثقب ما ينزل عليه.
 
المناسبة:
هذه الآيات تتضمن دليلا آخر على وجود الله تعالى وقدرته، ذكر بعد الدليل الأول وهو خلق السموات والأرض، وتبين أنه تعالى زيّن السماء الدنيا القريبة من البشر لمنفعتين، هما: تحصيل الزينة، والحفظ من الشيطان المارد.
وبالرغم من أن هذه الثوابت مركوزة- كما قال الرازي- في الكرة الثامنة، ما عدا القمر في السادسة، فإن التعبير جاء على وفق الرؤية والنظر حسب الظاهر، فأهل الأرض إذا نظروا إلى السّماء، يرونها ويشاهدونها مزينة بهذه الكواكب، كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة.
 
التفسير والبيان:
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ جمّل الله سبحانه السماء الدنيا التي هي أقرب السموات إلى الأرض بزينة جميلة فائقة الجمال هي الكواكب، فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة.
وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ أي وحفظناها حفظا من كلّ شيطان عات متمرد عن الطاعة، إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه، لذا قال تعالى:
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أي لا تقدر الشياطين أن يتسمّعوا لحديث الملأ الأعلى وهم الملائكة أهل السماء الدنيا فما فوقها، لأنهم يرمون بالشهب، وذلك إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى من شرعه وقدره.
(23/67)
 
 
وهاتان الخاصتان أو المنفعتان للسّموات، جاءت آيات كثيرة تقررهما مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك 67/ 5] ، وقوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ، وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [الحجر 15/ 16- 18] .
وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي يرمون بالشّهب من كلّ جهة يقصدون السماء منها، إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع.
دُحُوراً، وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ أي يدحرون دحورا، ويطردون ويمنعون من الوصول إلى ذلك، ولهم في الآخرة عذاب دائم مستمر موجع، كما قال تعالى في الآية المتقدمة: وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ.
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة، وهي الكلمة، يسمعها من السماء، فيلقيها إلى الذي تحته، ويلقيها الآخر إلى من تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها بقدر الله تعالى قبل أن يأتيه الشهاب، فيحرقه، فيذهب بها الآخر إلى الكاهن، كما جاء في الحديث.
فخاطف الكلمة العارضة يتبعه الله بنجم مضيء، أو بشعلة مستنيرة، فتحرقه، وربما لا تحرقه، فيلقي إلى إخوانه الكهان ما خطفه. والخطف: أخذ الشيء بسرعة. والثاقب: المضيء.
والملحوظ الثابت أن الشياطين قبل بعثة نبينا محمد ص كانت ترمى أحيانا، وأحيانا لا ترمى، وبعد البعثة تعرضوا للرمي من كل جانب، وزيد في حفظ السماء، فلم يتمكنوا من استراق السمع، إلا بأن يختطف أحدهم كلمة، فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل إلى الأرض، فيلقيها إلى إخوانه، وبهذا بطلت
(23/68)
 
 
الكهانة، وثبتت النبوة والرسالة «1» ، وأصبح المقرر شرعا منعهم من التنصّت، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء 26/ 212] ، وقال سبحانه واصفا المرحلتين: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ، فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجنّ 72/ 8- 9] .
قال الرازي: دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلا قبل مجيء النبي ص، فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي ص بزمان طويل، ذكروا ذلك، وتكلموا في سبب حدوثه، وإذا ثبت أن ذلك كان موجودا قبل مجيء النبي ص، امتنع حمله على مجيء النبي ص، والأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي ص، لكنها كثرت في زمان النبي ص، فصارت بسبب الكثرة معجزة «2» .
 
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن تزيين السماء الدنيا بالكواكب لمنفعتين، هما: تحصيل الزينة، والحفظ من الشيطان المارد.
2- وصف تعالى أولئك الشياطين بصفات ثلاث: هي أنهم لا يسّمعون إلى الملأ الأعلى وهم الملائكة، وأنهم يقذفون من كل جانب دحورا، أي طردا وإبعادا، ولهم عذاب واصب، أي دائم مستمر موجع.
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/ 66
(2) تفسير الرازي: 26/ 121
(23/69)
 
 
وسميت الملائكة بالملإ الأعلى، لأنهم يسكنون السموات، وأما الإنس والجنّ فهم الملأ الأسفل، لأنهم سكان الأرض.
واختلف العلماء على قولين: هل كان هذا القذف قبل المبعث، أو بعده لأجل المبعث؟ وقد جاءت الأحاديث عن ابن عباس بذلك، وستذكر في سورة «الجن» . ويجمع بينها كما تقدم بأنها كانت ترمى وقتا، ولا ترمى وقتا، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب، فصاروا يرمون دائما واصبا من كل جانب.
3- قوله تعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء من قوله:
وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي لا يسمع الشياطين شيئا مما يوحيه الله تعالى مما يقوله من شرعه وقدره إلا الشيطان الذي خطف الخطفة، أي اختلس الكلمة على وجه المسارقة.
ومضمون الأحاديث الصحاح في هذا: أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء، لاستراق السمع، فيقضي الله أمرا من أمور الأرض، فيتحدث به أهل السماء، فيسمعه منهم الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته، فربما أحرقه شهاب، وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه، كما بيّنا، فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة، وتصدق تلك الكلمة، فيصدّق الجاهلون جميع الكلام، فلما جاء الله بالإسلام، حرست السماء بشدة، فلا يفلت شيطان سمع شيئا. والكواكب الراجمة: هي التي يراها الناس تنقضّ. وليست بالكواكب الجارية في السماء، لأن هذه لا ترى حركتها، والراجمة ترى حركتها، لأنها قريبة منا.
(23/70)
 
 
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
إثبات المعاد- الحشر والنشر والقيامة
 
[سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 21]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
 
الإعراب:
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ تاء عَجِبْتَ بالفتح: تاء المخاطب. وقرئ بالضم: إما إخبارا عن الله من إنكار الكفار البعث، مع بيان القدرة على الابتداء، حتى بلغ هذا الإنكار منزلة يقال فيه: عجبت، وإما بتقدير: قل عجبت، وحذف القول في كلام العرب كثير.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ قال الزمخشري: فَإِنَّما جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا كان ذلك، فما هي إلا زجرة واحدة.
 
البلاغة:
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ طباق بين التعجب والسخرية.
 
المفردات اللغوية:
فَاسْتَفْتِهِمْ فاستخبر مشركي مكة المنكرين للبعث أو بني آدم، إما على سبيل التقرير أو التوبيخ. أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا أهم أقوى أجساما وأعظم أعضاء وأشق إيجادا، أم من خلقنا من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما، والمشارق، والكواكب، والشهب الثواقب؟
والإتيان بمن هنا: لتغليب العقلاء. إِنَّا خَلَقْناهُمْ أي خلقنا أصلهم آدم. مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لزج يلصق باليد. والمعنى: كيف يستبعدون المعاد، وهم مخلوقون من هذا الخلق الضعيف؟
(23/71)
 
 
وإن خلقهم ضعيف، فلا يتكبروا بإنكار النبي والقرآن المؤدي إلى هلاكهم اليسير.
بل للانتقال من غرض إلى آخر، وهو الإخبار بحال النبي ص وبحالهم عَجِبْتَ يا محمد من تكذيبهم إياك، ومن إنكارهم قدرة الله تعالى وإنكار البعث. وَيَسْخَرُونَ أي وهم يستهزئون من تعجبك ومما تقوله من إثبات البعث.
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي وإذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً معجزة دالة على الصدق من معجزات الرسول ص، كانشقاق القمر.
يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخرية والاستهزاء. وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي وقالوا: ما هذا الذي تأتينا به وهو القرآن إلا سحر ظاهر واضح.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي أنبعث إذا متنا، وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار، وإشعارا بأن البعث في رأيهم مستنكر في نفسه، وفي هذه الحالة أشد استنكارا. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الهمزة للاستفهام، وهو عطف بالواو على محل إن واسمها: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أو عطف على ضمير: لَمَبْعُوثُونَ والفاصل همزة الاستفهام، أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون؟.
قُلْ: نَعَمْ تبعثون. وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون ذليلون. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة، وهو جواب شرط مقدر، أي إذا كان ذلك، فإنما البعث زجرة، أي صيحة واحدة هي النفخة الثانية، يقال: زجر الراعي غنمه، أي صاح عليها وأمرها بالإعادة. فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي فإذا الخلائق قيام من مراقدهم أحياء، ينظرون ما يفعل بهم. وَقالُوا الكفار.
يا وَيْلَنا هلاكنا، وهو مصدر لا فعل له من لفظه، ويقال وقت الهلاك. الدِّينِ الحساب والجزاء. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الحكم والقضاء بين الخلائق وتمييز المحسن من المسيء. وهو من قول الملائكة.
 
المناسبة:
افتتح الله تعالى هذه السورة بإثبات وجود الخالق وقدرته ووحدانيته بدليل واضح وهو خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق المشارق والمغارب، وأعقب ذلك بإثبات المعاد وهو الحشر والنشر والقيامة.
ومن المعلوم أن المقصد الأصلي للقرآن الكريم هو إثبات الأصول الأربعة:
وهي الإلهيات، والمعاد، والنبوة، وإثبات القضاء والقدر.
(23/72)
 
 
التفسير والبيان:
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟ أي سل أيها الرسول هؤلاء المنكرين للبعث: أيهم أشد خلقا، أي أصعب إيجادا، هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ والآية نزلت في الأشد بن كلدة وأمثاله، سمي بالأشد لشدة بطشه وقوته.
والسؤال للتوبيخ والتقريع، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقا منهم، وإذا كان الأمر كذلك، فلم ينكرون البعث؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا، كما قال الله عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر 40/ 57] وقال سبحانه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس 36/ 81] .
ثم أوضح الله تعالى مدى هذا التفاوت، فقال:
إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي إنا خلقنا أصلهم وهو آدم من طين لزج يلتصق باليد. فإذا كانوا مخلوقين من هذا الشيء الضعيف، فكيف يستبعدون المعاد؟ وهو إعادة الخلق من التراب أيضا، أو من الماء الذي خالط التراب إذا مات الإنسان في الماء، ولم ينكر ذلك من هو أقوى منهم خلقا وأعظم وأكمل.
والمعنى: أن هذه الأجسام قابلة للحياة، إذ لو لم تكن قابلة للحياة، لما صارت حية في المرة الأولى، والإله قادر على خلق هذه الحياة في هذه الأجسام.
ثم انتقل البيان القرآني من أسلوب لأسلوب، فقال تعالى:
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ أي لا حاجة لاستفتائهم، فهم قوم معاندون، وأنت يا محمد تتعجب من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث، لأنك موقن إيقانا تاما بصنع الله وقدرته، وبما أخبر الله تعالى به من إعادة الأجسام بعد فنائها،
(23/73)
 
 
وهم على النقيض من ذلك يسخرون ويستهزئون مما تقول لهم من إثبات البعث، ومما تريهم من الأدلة والآيات. أو عجبت من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو عجبت من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث.
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله ورسوله، لا يتعظون ولا ينتفعون بها، لاستكبارهم وعنادهم وقسوة قلوبهم.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ أي وإذا شاهدوا دليلا واضحا، أو معجزة من معجزات الرسول ص التي ترشدهم إلى التصديق والإيمان، يبالغون في السخرية والاستهزاء، ويتنادون للتهكم والتضاحك، ومشاركة الآخرين في السخرية.
وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي وقالوا: ما هذا الذي تأتينا به من الدلائل إلا سحر واضح ظاهر، فلا يؤبه له، ولا ننخدع به، وهو من تراث الأقدمين المشعوذين.
ثم خصصوا إنكارهم بالبعث، فقالوا:
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً، أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أي إن من أعجب ما تقول: أنبعث أحياء بعد أن متنا، وصرنا ترابا وعظاما نخرة؟
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟ وهل يبعث أيضا آباؤنا وأجدادنا الأقدمون الغابرون الذين مضى على موتهم أحقاب طويلة الأمد؟ فإن بعثهم أشد غرابة.
فأجابهم الله تعالى بقوله:
قُلْ: نَعَمْ، وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي قل أيها الرسول لهم: نعم، تبعثون أحياء مرة أخرى، بعد صيرورتكم ترابا، وأنتم في هذا الحشر والنشر صاغرون
(23/74)
 
 
ذليلون حقيرون تحت القدرة العظيمة، كما قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل 27/ 87] وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 40/ 60] .
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي إن الأمر سهل جدا في قدرة الله، وليس البعث صعبا ولا عسيرا، فإنما البعث صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور بأمر واحد من الله عز وجل يدعوهم للخروج من الأرض، فإذا الناس قاطبة قيام من مراقدهم في الأرض، أحياء بين يدي الله تعالى، ينظرون إلى أهوال يوم القيامة.
ثم حكى الله تعالى ملامتهم لأنفسهم إذا عاينوا أهوال القيامة بقوله:
وَقالُوا: يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ أي وقال منكر والبعث الذين كذبوا به في الدنيا: لنا الويل والهلاك، فقد حلّ موعد الجزاء والعقاب على ما قدمنا من أعمال من الكفر بالله والتكذيب للرسل. دعوا على أنفسهم بالويل والثبور والهلاك، لأنهم يومئذ يعلمون ما حل بهم.
فأجابتهم الملائكة بقولهم:
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي هذا يوم الحكم والقضاء المبرم بين الناس، الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء، ويبين المحق من المبطل، ففريق في الجنة وفريق في السعير.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1- استدل الله تعالى على إثبات المعاد من وجهين:
أحدهما- إنه تعالى قدر على ما هو أصعب وأشد وأشق من خلق الإنسان وهو
(23/75)
 
 
خلق السموات والأرض والجبال والبحار، فوجب أيضا أن يقدر على إعادة خلق الإنسان.
الثاني- إنه تعالى قدر على خلق الإنسان في المرة الأولى، والفاعل وهو الله والقابل للخلق وهو الإنسان باقيان كما كانا، فوجب أن تبقى القدرة عليه في الحال الثانية، وهي البعث أو الحشر والنشر.
فدل ذلك على أن البعث والقيامة أمر جائز ممكن.
2- كان خلق آدم عليه السلام من الطين، وكذا خلق كل إنسان من الطين، لأن تكوينه من الدم، والدم يتولد من الغذاء، والغذاء إما حيواني وإما نباتي، وحياة الحيوان والنبات من تراب الأرض، فمنه تنتج الثمار والحبوب والأعشاب وغيرها بعد سقيها بالماء.
3- لقد تعجب الرسول ص من إنكار مشركي مكة وغيرهم للبعث، لما استقر في قلبه من مشاهدة قدرة الله العظمى، وعجيب صنعه، ومبلغ إرادته ومشيئته.
4- بعد تقرير الله تعالى الدليل القاطع في إثبات إمكان البعث والقيامة حكى الله تعالى أشياء عن المنكرين:
أولها- تعجب النبي ص من إصرارهم على الإنكار، وهم يسخرون منه في إصراره على الإثبات، كما تقدم، مما يدل على أن أولئك الأقوام كانوا في غاية التباعد، وفي طرفي النقيض.
ثانيها- أنهم إذا وعظوا بالقرآن وغيره من المسلّمات العقلية لا يتعظون ولا ينتفعون به.
(23/76)
 
 
ثالثها- أنهم إذا رأوا معجزة يبالغون في السخرية ويدعون غيرهم إلى مشاركتهم في السخرية والاستهزاء.
رابعها- أن سبب سخريتهم من الآية والمعجزة اعتقادهم أنها من باب السحر.
5- بعد إثبات إمكان البعث والقيامة بالدليل العقلي، أقام الله تعالى الدليل السمعي القاطع على وقوع القيامة بقوله: نَعَمْ جوابا على إنكارهم البعث، بعد الموت وصيرورتهم وأسلافهم ترابا وعظاما بالية.
6- وبعد الإثبات بالدليلين العقلي والسمعي لجواز حدوث القيامة ووقوعها ذكر تعالى بعض أحوال القيامة وهي ثلاث حالات:
الحالة الأولى- أن القيامة ما هي إلا صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور، بأمر الله لدعوة الناس للخروج من الأرض، فيمتثلون فورا، وإذا هم قيام من قبورهم أحياء، ينظرون إلى أهوال القيامة، وإلى بعضهم بعضا.
الحالة الثانية- من وقائع القيامة أن المكذبين بعد القيام من القبور يقولون: يا هلاكنا، هذا هو الجزاء الذي نجازى فيه على أعمالنا من الكفر وتكذيب الرسل.
الحالة الثالثة- تجيبهم الملائكة: هذا يوم الفصل الحاسم، يوم الحكم والقضاء، الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء.
(23/77)
 
 
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
مسئولية المشركين في الآخرة وأسبابها
 
[سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 37]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
 
الإعراب:
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ما: استفهامية، مبتدأ، ولَكُمْ: خبره، ولا تَناصَرُونَ: جملة في موضع نصب على الحال من الضمير المجرور في لَكُمْ مثل: مالك قائما.
يَسْتَكْبِرُونَ موضع الجملة إما منصوب على أنه خبر «كان» وجملتها في موضع رفع خبر إن، وإما مرفوع على أنه خبر «إن» و «كان» ملغاة.
 
البلاغة:
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أسلوب تهكمي في الهداية، لأنها تكون إلى طريق النعيم، لا إلى صراط الجحيم.
عَنِ الْيَمِينِ استعارة لجهة الخير أو للقوة والشدة أو لجهة الدين.
(23/78)
 
 
إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ إيجاز بالحذف، أي قولوا: لا إله إلا الله، وحذف لدلالة السياق عليه.
 
المفردات اللغوية:
احْشُرُوا يقال للملائكة: اجمعوا، من الحشر: وهو الجمع. الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشرك فهم المشركون، وهو أمر من الله للملائكة بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف.
وَأَزْواجَهُمْ أمثالهم وأشباههم، فيحشر عابد الصنم مع عبدة الصنم، وعابد الكواكب مع عبدتها، وأصحاب الخمر معا، وأصحاب الزنى معا. وقيل: أزواجهم: قرناؤهم من الشياطين. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يحشر المعبودون من غير الله من الأصنام والأوثان وغيرها، زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم، وهو عام مخصوص بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء 21/ 101] .
فَاهْدُوهُمْ دلوهم وعرفوهم طريقها ليسلكوه. إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ طريق النار.
وَقِفُوهُمْ احبسوهم في الموقف أو عند الصراط «1» إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن عقائدهم وأعمالهم.
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص من العذاب كحالكم في الدنيا، وهذا يقال لهم توبيخا وتقريعا. بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون خاضعون لعجزهم، وأصل الاستسلام:
طلب السلامة، ويلزمه الانقياد عرفا. وهذا أيضا يقال لهم.
يَتَساءَلُونَ يتلاومون ويتخاصمون، فيسأل بعضهم بعضا للتوبيخ. وقالُوا قال الأتباع للمتبوعين. عَنِ الْيَمِينِ عن أقوى الوجوه، وعن جهة الخير التي نأمنكم منها، لحلفكم أنكم على الحق، فصدقناكم واتبعناكم. والمعنى: أنكم أضللتمونا. قالُوا قال المتبوعون لهم. بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي إنكم كنتم في الأصل غير مؤمنين، فلم يحدث منا الإضلال الذي يؤدي إلى الرجوع عن الإيمان إلينا. مِنْ سُلْطانٍ تسلط عليكم، وقوة وقهر، نقهركم على متابعتنا.
طاغِينَ مختارين الطغيان والضلال مثلنا، ومتجاوزين الحد في العصيان.
فَحَقَّ عَلَيْنا وجب علينا جميعا. قَوْلُ رَبِّنا بالعذاب، وهو: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. إِنَّا لَذائِقُونَ إنا جميعا لذائقون العذاب بذلك القول. فَأَغْوَيْناكُمْ دعوناكم إلى الغيّ والضلال. غاوِينَ ضالين. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ هذا قول الله تعالى، فإنهم يوم القيامة جميعا الأتباع والمتبوعون مشتركون في العذاب، لاشتراكهم في الغواية.
__________
(1) الواو لا توجب الترتيب، فيصح أن يكون الحبس والإيقاف في الموقف، ويجوز أن يكون عند الصراط.
(23/79)
 
 
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك الفعل نفعل بالمشركين غير هؤلاء، أي نعذبهم، سواء التابع منهم والمتبوع.
إِنَّهُمْ كانُوا.. أي إن هؤلاء. يَسْتَكْبِرُونَ عن كلمة التوحيد أو على من يدعوهم إليها. لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمدا ص. بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ رد من الله تعالى عليهم، فإن هذا النبي ص جاء بالقرآن المشتمل على الوعد والوعيد، وإثبات الآخرة. والمعنى: إن ما جاء به من التوحيد حق ثبت بالبرهان، وتوافق عليه المرسلون.
 
المناسبة:
بعد إثبات وجود الله وعلمه وقدرته ووحدانيته، وإثبات القيامة، ذكر تعالى أحوال الكفار في الآخرة حيث يساقون إلى نار جهنم، دون أن يجدوا لهم نصيرا وعونا يخلصهم من العذاب، ثم يتلاومون فيما بينهم، ويتخاصم الأتباع والمتبوعون، ولكنهم جميعا متساوون في العذاب، بسبب إعراضهم استكبارا عن كلمة التوحيد في الدنيا، وافترائهم على الرسول ص بأنه لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ مع أنه جاء بالحق الثابت الذي لا محيد عنه وهو التوحيد الذي دعا إليه المرسلون جميعا.
 
التفسير والبيان:
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ يأمر الله الملائكة بجمع أصناف ثلاثة في موقف الحساب: وهم الظالمون المشركون، وأزواجهم أمثالهم وأشباههم، ومعبودوهم الذين كانوا يعبدونهم من غير الله، من الأوثان والأصنام معا، زيادة لهم في الحسرة والتخجيل على شركهم ومعصيتهم.
والظلم هنا: الشرك، لقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان 31/ 13] .
فهذا خطاب من الله للملائكة، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات وأنواعهم وضرباءهم.
(23/80)
 
 
يحشر المشركون وأشباههم في الشرك ومتابعوهم في الكفر ومشايعوهم في تكذيب الرسل وقرناؤهم من الشياطين، يحشر كل كافر مع شيطانه. كذلك يحشر أصحاب المعاصي مع بعضهم، فيجمع أهل الزنى معا، وأهل الربا معا، وأصحاب الخمر معا.. وهكذا.
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي أرشدوا وعرّفوا هؤلاء المحشورين طريق جهنم، زيادة في ازدرائهم والتهكم بهم.
وَقِفُوهُمْ، إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أي احبسوهم في الموقف للحساب والسؤال عن عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم التي صدرت منهم في الدنيا.
وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابن مسعود: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم» .
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: ما بالكم لا ينصر بعضكم بعضا، كما كنتم في الدنيا؟ وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر، فقيل لهم يوم القيامة: ما لكم غير متناصرين؟.
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ أي بل إنهم اليوم منقادون لأمر الله، لا يخالفونه، ولا يحيدون عنه، لعجزهم عن الحيلة، فلا ينازعون في شيء أبدا.
وفي هذا الموقف في ساحات القيامة، يتلاومون فيما بينهم، ويتخاصم الأتباع والرؤساء، فقال تعالى:
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقدم الأتباع والرؤساء من هؤلاء الكفار، يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة، في موقف القيامة، كما يتخاصمون في دركات النار، كما في آية: فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [إبراهيم 40/ 48- 47] .
(23/81)
 
 
قالُوا: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي قال الأتباع للرؤساء: إنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير، فتصدوننا عنه. وقيل: إن اليمين مجاز مستعار من القوة والقهر، أي كنتم تأتوننا من ناحية القهر والقوة وبحكم السيطرة والرياسة لكم علينا في الدنيا، حتى تحملونا على الضلال، وتقسرونا عليه. وقيل: تأتوننا من جهة الدّين، فتهونون علينا أمره وتنفروننا عنه، كما هو الشأن اليوم في كثير من الرؤساء والرفاق.
وكلمة قالُوا جواب عن سؤال مقدر، فهو استئناف بياني.
فأجاب الرؤساء بجوابين:
1- قالُوا: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي بل إنكم أنتم أبيتم الإيمان، وأعرضتم عنه، مع تمكنكم منه، مختارين الكفر، فقلوبكم هي القابلة للكفر والعصيان، وكنتم من الأصل على الكفر. وكلمة قالُوا أي المخاطبون وهم قادة الكفر أو الجن.
2- وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أي لم يكن لنا عليكم من حجة وتسلط نسلبكم به اختياركم وتمكنكم، بل كان فيكم طغيان وتجاوز الحد في الكفر، ومجاوزة للحق الذي جاءتكم به الأنبياء، وكنتم مختارين الطغيان، فلهذا استجبتم لنا وتركتم الدين الحق، وما كان منا إلا الدعوة، وكانت منكم الإجابة اختيارا لا جبرا.
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ أي وجب علينا وعليكم حكم ربنا، ولزمنا قول ربنا، وهو قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فلنذوقن ما وعدنا به، ونحن ذائقو العذاب لا محالة يوم القيامة. قال أبو حيان:
والظاهر أن قوله: إِنَّا لَذائِقُونَ إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم الرؤساء والأتباع.
(23/82)
 
 
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ أي إنا أضللناكم، ودعوناكم إلى الضلالة، وإلى ما نحن فيه من الغواية، فاستجبتم لنا.
ثم بعد هذا النقاش والجدل بين الأتباع والرؤساء، وصف الله تعالى العذاب الذي يحل بالفريقين، فقال:
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي إن التابعين والمتبوعين أو الأتباع والقادة مشتركون حينئذ جميعا في العذاب لا محالة، كما اشتركوا في الضلال والكفر، والجميع في النار، كل بحسبه.
واشتراكهم في العذاب عدل ككل المجرمين الكافرين، لذا قال تعالى:
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك الجزاء نفعل بالمشركين، ويجازى كل عامل بما قدم.
وسبب العذاب هو ما قاله تعالى:
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، يَسْتَكْبِرُونَ أي إنهم كانوا إذا دعوا إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، استكبروا عن القبول، وأعرضوا عن قولها كما يقولها المؤمنون.
وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا لقول شاعر مجنون، يسرح في الخيال، ويخلط في الأقوال، يعنون رسول الله ص. وبهذا أنكروا في الكلام الأول الوحدانية، وفي الثاني أنكروا الرسالة.
فرد الله عليهم تكذيبا لهم بقوله:
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أي إن النبي ص جاء بالحق في جميع ما شرعه الله له، وأوله التوحيد، وصدّق في ذلك الأنبياء المرسلين فيما جاؤوا به
(23/83)
 
 
من التوحيد والوعد والوعيد وإثبات المعاد، ولم يخالفهم في تلك الأصول، ولا جاء بشيء يغاير ما أتوا به من قبله، فكيف يصح وصفه بالشاعر أو المجنون؟
قال تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت 41/ 43] وقال سبحانه: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [فاطر 35/ 31] .
 
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يلي:
1- يحشر الملائكة ويسوقون بأمر الله تعالى الكفار إلى موقف السؤال، وهم ثلاثة أنواع: الظالمون، وأزواجهم (أمثالهم) والأشياء التي كانوا يعبدونها.
والمراد بالظالمين: الكافرون، لكونهم عابدين لغير الله تعالى.
وهذا يدل على أن الظالم المطلق هو الكافر، ويفهم منه أن كل وعيد ورد في حق الظالم، فالمراد منه الكفار، ويؤكده قوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 2/ 254] .
وقوله تعالى: وَأَزْواجَهُمْ فسر بأقوال ثلاثة الظاهر منها أولها، ويجوز إرادتها كلها:
الأول- أشباههم من الكفرة، فاليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، وهكذا، لقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة 56/ 7] .
الثاني- قرناؤهم من الشياطين، لقوله تعالى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف 7/ 202] .
الثالث- المراد: نساؤهم اللواتي على دينهم.
2- يوقف الكفار للحساب ثم يساقون إلى النار، فيكون الإيقاف أو الحبس قبل السوق إلى الجحيم، ويكون بين الآيتين فَاهْدُوهُمْ ووَ قِفُوهُمْ تقديم
(23/84)
 
 
وتأخير. وقيل: يساقون إلى النار أولا، ثم يحشرون للسؤال إذا قربوا من النار، ويكون سؤالهم عن عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم.
وهذا كله دليل على أن الكافر يحاسب.
3- يقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي لا ينصر بعضكم بعضا، فيمنعه من عذاب الله.
4- في ذلك الموقف الرهيب لا حيلة لهم، وهم منقادون خاضعون لأمر الله، مستسلمون لعذاب الله عز وجل.
5- تظهر هناك صورة من النقاش والجدل والتخاصم والتلاوم بين الرؤساء والأتباع، لقوله سبحانه: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي يسأل بعضهم بعضا، والمراد بالتساؤل: التخاصم، فليس المقصود منه تساؤل المستفهمين، بل هو تساؤل التوبيخ واللوم.
يقول الأتباع لمن دعاهم إلى الضلالة: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها، أو تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك من جهة النصح، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح، أو تأتوننا من قبل الدّين، فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها. قال القرطبي عن الأخير: وهذا القول حسن جدا، لأن من جهة الدين يكون الخير والشر، واليمين بمعنى الدّين، أي كنتم تزينون لنا الضلالة.
وقيل: اليمين بمعنى القوة، أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر، قال الله تعالى:
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات 37/ 93] أي بالقوة، وقوة الرجل في يمينه.
(23/85)
 
 
فيجيبهم الرؤساء: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لم تؤمنوا قط حتى ننقلكم من الإيمان إلى الكفر، بل كنتم على الكفر وألفتموه. ولم يكن لنا عليهم سلطان وقهر وحجة في ترك الحق، بل كنتم قوما ضالين متجاوزين الحد، فوجب علينا وعليكم قول ربّنا، فكلنا ذائقو العذاب، كما أخبر الله على ألسنة الرسل:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة 32/ 13] .
وقالوا أيضا: لقد أغويناكم وأضللناكم، أي زينا لكم ما كنتم عليه من الكفر، إنا كنا غاوين بالوسوسة والاستدعاء.
6- ثم أخبر الله تعالى عنهم: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي يكون القادة والأتباع جميعا في نار جهنم، سواء الضال والمضل، كل بحسبه.
7- إن مقتضى العدل الإلهي والسنن الرباني أن يعاقب المجرمون المشركون على جرمهم العظيم، وهو إنكار الوحدانية والاستكبار عن كلمة التوحيد، وتكذيب الرسل، أو التكذيب بالتوحيد، والتكذيب بالنبوة.
وقد صدر منهم الأمران جميعا، أما إنكار التوحيد ففي قوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، يَسْتَكْبِرُونَ وأما تكذيب الرسل فهو في قوله سبحانه: وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي لقول شاعر مجنون، فجمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة.
فردّ الله عز وجل عليهم بقوله: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أي إن الرسول ص جاء بالقرآن والتوحيد، وصدّق الأنبياء المرسلين قبله فيما جاؤوا به من التوحيد ونفي الشريك.
(23/86)
 
 
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين المخلصين
 
[سورة الصافات (37) : الآيات 38 الى 61]
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
 
الإعراب:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ الْعَذابِ: مجرور بالإضافة، من إضافة الفاعل لمفعوله.
وقرئ بنصب العذاب على تقدير النون في لَذائِقُوا كما يقال: ولا ذاكر الله إلا قليلا.
فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فَواكِهُ: بدل من رِزْقٌ في قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ظرف أو حال من ضمير مُكْرَمُونَ أو خبر ثان لأولئك. وكذلك عَلى سُرُرٍ إما حال أو خبر.
(23/87)
 
 
لا فِيها غَوْلٌ غَوْلٌ: مبتدأ، وفِيها: خبره، ولا يجوز أن يبنى غَوْلٌ مع لا للفصل بينهما ب فِيها.
هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ بفتح نون مُطَّلِعُونَ وقرئ بالكسر، وهو ضعيف جدا، لأنه جمع بين نون الجمع والإضافة، وكان ينبغي أن يكون «مطلعيّ» بياء مشددة، لأن النون تسقط للإضافة.
فَاطَّلَعَ بالتشديد، وقرئ بالتخفيف «اطلع» وهما فعلان ماضيان.
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى مَوْتَتَنَا: منصوب على المصدر، كأنه قال: ما نحن نموت إلا موتتنا الأولى، كما تقول: ما ضربت إلا ضربة واحدة.
 
البلاغة:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ التفات من الغيبة إلى الخطاب من إنهم إلى إنكم، لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم.
قاصِراتُ الطَّرْفِ كناية، كنّى بذلك عن الحور العين، لأنهن عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن.
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، فصار مجملا.
 
المفردات اللغوية:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ بالإشراك وتكذيب الرسل إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إلا مثل ما عملتم، أو جزاء ما عملتم إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي المؤمنين الذين أخلصوا لله في العبادة، أو أخلصهم الله لعبادته واصطفاهم لدينه، وهو استثناء منقطع أُولئِكَ لَهُمْ في الجنة رِزْقٌ مَعْلُومٌ أي معروف الخصائص من الدوام والانتظام وتمحض اللذة فَواكِهُ ما يؤكل تلذذا لا لحفظ الصحة والتغذي، لأن أهل الجنة مستغنون عن حفظها، بخلق أجسامهم للأبد وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي ولهم من الله إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده، وسماع كلامه تعالى ولقائه في الجنة.
وهم أيضا مكرمون في نيل الرزق، فإنه يصل إليهم من غير تعب ولا سؤال، كما عليه رزق الدنيا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي في جنات ليس فيها إلا النعيم.
عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي على أسرّة يتكئون عليها، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، كل منهم مسرور بلقاء أخيه، لا ينظر بعضهم قفا بعض. يُطافُ عَلَيْهِمْ على كل منهم بِكَأْسٍ بإناء فيه الشراب مِنْ مَعِينٍ أي من خمر يجري على وجه الأرض، كالعيون والأنهار بَيْضاءَ
(23/88)
 
 
أشد بياضا من اللبن لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي لذيذة لمن شربها، بخلاف خمر الدنيا، فإنها كريهة عند الشرب، قال الحسن البصري: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن، له لذة لذيذة لا فِيها غَوْلٌ أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون، بخلاف خمر الدنيا. قرئ بفتح الزاي وكسرها، من نزف الشارب وأنزف: سكر، فهو نزيف ومنزوف.
قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهن على أزواجهن، فلا يردن غيرهم عِينٌ أي ضخام الأعين حسانها، جمع عيناء: وهي المرأة الواسعة العين مع حسنها كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ شبههن في الصفاء والبياض المخلوط بشيء من الصفرة ببيض النعام المستور بريشه من الريح والغبار.
والمكنون: المصون من الغبار ونحوه. وهذا اللون وهو البياض المشوب بصفرة أحسن ألوان النساء.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقبل بعض أهل الجنة على بعض، حال شربهم، يسألون عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، وذلك من تمام نعيم الجنة قَرِينٌ خليل وصاحب في الدنيا، كافر بالبعث، منكر له. لَمَدِينُونَ مجزيون بأعمالنا، ومحاسبون بها، بعد أن صرنا ترابا وعظاما؟ قالَ المؤمن ذلك القائل لإخوانه مُطَّلِعُونَ معي إلى النار، لننظر حال ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة، كيف منزلته في النار؟
فَاطَّلَعَ ذلك المؤمن إلى النار فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ رأى قرينه في وسط النار قالَ له شماتة إِنْ كِدْتَ قاربت، وإِنْ: مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام هي الفارقة لَتُرْدِينِ لتهلكني بإغوائك وتوقعني في النار وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي ورحمته علي بالإيمان والهداية لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في النار، المسوقين للعذاب أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ أي أنحن مخلدون غير ميتين؟ وهو قول أهل الجنة إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى غير موتتنا التي في الدنيا، وهذا قول صادر من دواعي الابتهاج والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع، فهو استفهام تلذذ وتحدث بنعمة الله تعالى، من تأييد الحياة وعدم التعذيب وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي لسنا بمعذبين.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي إن ما فيه أهل الجنة من النعمة والخلود والأمن من العذاب، لهو الفوز الساحق الذي لا يقدر قدره. ويحتمل أن يكون هذا من كلام أهل الجنة، وأن يكون كلام الله تقريرا لما يقولون. لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي هذه هي التجارة الرابحة، وهو الهدف الأمثل الذي يسعى إليه العاملون، لا العمل للدنيا الزائفة، فلنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون، لا لحظوظ الدنيا المشوبة بالآلام، السريعة الزوال. ويحتمل أن يكون هذا أيضا من كلام أهل الجنة أو كلام الله.
(23/89)
 
 
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى تكذيب الكفار بالتوحيد وبالنبوة، نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور، مبينا أن حوار الأتباع والرؤساء من أهل الضلال لا فائدة فيه، فإن العذاب شامل الفريقين، وأن الجزاء العدل في الآخرة على وفق العمل في الدنيا، ثم استثنى الله تعالى العباد الذين اصطفاهم لطاعته، وأخلصوا العبادة لربهم، فهم في ألوان متنوعة من النعيم المادي في الجنة من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكذا من النعيم المعنوي حيث لا يشغلهم همّ ولا نصب، ويستذكرون أحوالهم في الدنيا، وأحاديثهم مع بعض القرناء الأخلاء.
 
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى حال المكذبين الضالين، وهو أيضا خطاب للناس، فيقول:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ أي إنكم أيها الكفار لتذوقن العذاب المؤلم في نار جهنم الذي يدوم ولا ينقطع.
وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إن جزاء كم لحق وعدل لا ظلم فيه، وهو عقابكم على أعمالكم من الكفر والمعاصي، فهي سبب الجزاء: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 41/ 46] وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف 18/ 19] .
بعد بيان حال المجرمين المتكبرين عن قبول التوحيد المصرّين على إنكار النبوة، ذكر تعالى حال المخلصين في كيفية الثواب، فقال:
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ، فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي ولكن عباد الله الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده، وأخلصوا العمل لله، ناجون لا يذوقون العذاب ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز عن سيئاتهم، كما
(23/90)
 
 
قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. [العصر 103/ 1- 3] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ.. [المدثر 74/ 38- 39] . والْمُخْلَصِينَ صفة مدح، لأن كونهم عباد الله يلزم منه أن يكونوا مخلصين.
ولهؤلاء المخلصين رزق من الله، معلوم حسنه وطيبه ودوامه دون انقطاع في الجنة، يعطونه بكرة وعشيا، وإن لم يكن ثمة بكرة وعشية، فيتمتعون بلذيذ الفواكه المتنوعة أي الثمار كلها، فهي أطيب ما يأكلونه، وذلك الأكل حاصل مع الإكرام والتعظيم، فهم يخدمون ويرفهون، ولهم أيضا إكرام عظيم برفع درجاتهم في الجنة عند ربهم، ويسمعون كلامه ويلقونه في رحاب الجنان.
وفي هذا دلالة على أن تناولهم الفاكهة إنما هو تلذذ لا للتغذي والقوت، لأنهم مستغنون عنه، لأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد. ووصف رِزْقٌ بمعلوم، أي عندهم.
وبعد بيان مأكولهم، وصف الله تعالى مساكنهم، فقال:
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي إن هذا الرزق يأتيهم في جنات ذات نعيم مقيم ومتاع دائم، وهم على أسرة يتكئون عليها، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، بسرور وابتهاج، لا ينظر بعضهم في قفا بعض، فصاروا يجمعون بين المتعة المادية الجسدية، والمتعة الروحية الإنسانية.
وبعد بيان صفة المأكل والمسكن ذكر تعالى صفة الشراب، فقال:
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي يدار عليهم بآنية من خمر تجري في أنهر، والمعين: الماء الجاري، فهي تخرج من العيون كما يخرج الماء دون انقطاع، وسمي معينا لظهوره.
(23/91)
 
 
ثم وصف الله تعالى خمر الجنة البعيدة عن آفات خمر الدنيا، فقال:
بَيْضاءَ لَذَّةٍ «1» لِلشَّارِبِينَ، لا فِيها غَوْلٌ، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي ذات لون أبيض شديد البياض، لذيذة الطعم، طيبة الرائحة، لا كخمر الدنيا المرّة ذات النكهة المزعجة، وهي لا تذهب بالعقول، ولا تؤدي إلى صداع الرأس، ووجع البطن، وأنواع الأمراض، كما هو شأن خمر الدنيا، فهي بخلاف خمر الدنيا في جميع تلك الأوصاف، لا تضر النفس والعقل والمال والشخصية، بسبب نزع مادة الغول أي الكحول منها. وفي هذا إيماء إلى مفاسد خمر الدنيا من صداع وفساد وسكر، وعربدة وهذيان، وإفساد للدم، وجهاز الهضم كله.
وبعد بيان صفة مشروبهم ذكر تعالى صفة زوجاتهم، فقال:
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ أي لديهم زوجات عفيفات، لا ينظرن إلى غير أزواجهن، ولا يردن غيرهم، ذوات عيون واسعة حسان. والعين جمع عيناء: وهي النجلاء الواسعة في جمال، الحسناء المنظر، وبه يتبين أنه تعالى وصف عيونهن بالحسن والعفة، كما قال تعالى في الحور العين: خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن 55/ 70] .
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أي كأن ألوانهن من البياض المشوب بأدنى الصفرة، كالبيض المحصون المصون المستور الذي لم تمسه الأيدي، ولم يتلوث بالريح والغبار. وهذا اللون أحسن ألوان النساء.
وبعد بيان ألوان المتعة المادية لأهل الجنة في المآكل والمشارب والمساكن والأزواج، ذكر الله تعالى بعض أنواع المتع النفسية، فقال:
__________
(1) لذة: صفة بالمصدر على سبيل المبالغة، أو على حذف، أي ذات لذة، أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ.
(23/92)
 
 
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقدم بعضهم حال شربهم واجتماعهم ومعاشرتهم في مجالسهم، يسأل بعضا آخر عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وماذا كانوا يعانون فيها، وذلك من تمام نعيم الجنة.
ومن موضوعات التساؤل قوله تعالى:
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي قال مؤمن من أهل الجنة: كان لي صاحب في الدنيا كافر بالبعث منكر له، يقول: أنحن إذا متنا وصرنا ترابا متفتتا وعظاما بالية، أنكون محاسبين بعدئذ على أعمالنا، ومبعوثين نجازى على ما قدمنا في الدنيا؟ فذلك أمر مستحيل غير معقول ولا مقدور لأحد، فهل أنت مصدق مثل هذه الخرافات؟
قالَ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ؟ قال المؤمن لجلسائه: انظروا معي إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة، كيف يعذب، وكيف يجازى الجزاء الأوفى؟
فَاطَّلَعَ، فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي فنظر ذلك المؤمن إلى أهل النار، فرأى قرينه في وسط جهنم، يتلظى بحرّها.
قالَ: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي قال المؤمن لقرينه الكافر على جهة التوبيخ: لقد قاربت أن توقعني في الردى والهلاك بالإغواء، وتهلكني بدعوتك إياي إلى إنكار البعث والقيامة، ولولا رحمة ربي وعصمته من الضلال، وتوفيقه وإرشاده لي إلى الحق، وهدايته لي إلى الإسلام، لكنت من المحضرين معك في النار للعذاب.
ثم عاد ذلك المؤمن إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة، فقال:
(23/93)
 
 
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي قال المؤمن لجلسائه ابتهاجا وسرورا بما أنعم عليهم من نعيم الجنة الدائم: أنحن مخلّدون منعّمون أبدا، فلا نموت إلا الموتة الأولى الحادثة في الدنيا، ولسنا معذّبين كما يعذّب الكفار أصحاب النار؟
هذه حال المؤمنين وصفتهم وما قضى الله لهم ألا يذوقوا إلا الموتة الأولى، بخلاف الكفار، فإنهم فيما هم فيه من العذاب يتمنون الموت كل ساعة. والمؤمن يقول هذا القول تحدثا بنعمة الله واغتباطا بحاله وبمسمع من قرينه توبيخا له، يزداد به عذابا، وأما المؤمن فيسعد ويغبط نفسه بالخلود في الجنة، والإقامة في النعيم، بلا موت ولا عناء.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي إن هذا النعيم الدائم المقيم وهذا الفضل العميم الذي نحن فيه لهو النجاح الباهر، والفوز الأكبر الذي لا يوصف، ولمثل هذا النعيم والفوز، ليعمل العاملون في الدنيا، ليحظوا به، لا أن يعملوا فحسب لحظوظ الدنيا الفانية، المقترنة بالمخاطر والآلام والمتاعب الكثيرة. والخلاصة: أن المطلوب هو العمل للآخرة وللجنة الخالدة، لا أن يقصر العمل على المكاسب الدنيوية فقط.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إن عذاب الكفار والمجرمين أمر حق وعدل ومؤكد الوقوع.
2- هذا الجزاء يكون بسبب العمل المنكر وهو الشرك والمعاصي، وهذا رد على من قد يقول: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده؟
(23/94)
 
 
3- إن تنفيذ الأمر الإلهي واجتناب القبيح والمعصية يتطلبان الترغيب في الثواب، والترهيب من العقاب، لذا استثنى الله من الإخبار بالعذاب عباده الذين أخلصوا العمل لله تعالى، فهم ناجون غير معذبين.
4- إن ثواب المؤمنين المخلصين هو الجنة، وفيها الرزق المعلوم الصفات وهو الدائم الذي لا ينقطع، المشتمل على أطيب المآكل من الثمار المختلفة الرطبة واليابسة، في بساتين يتنعمون فيها، ولهم إكرام من الله جل وعز برفع الدرجات وسماع كلامه ولقائه.
ولا ينظر بعضهم في قفا بعض، وإنما يجلسون على أسرّة يتكئون عليها متقابلين وجها لوجه، غير متدابرين.
وذلك الرزق مشتمل أيضا على أطيب المشارب من خمور تقدم لهم بكؤوس مترعة، لا يخافون انقطاعها ولا فراغها، وإنما تجري كما تجري العيون على وجه الأرض، وخمر الجنة أشد بياضا من اللبن، طيبة الطعم، وطيبة الريح، لا تغتال عقولهم، ولا تذهب بها بشربها، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع، ولا يسكرون منها.
ولهم أزواج من النساء العفيفات اللاتي قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم، وهن حسان العيون، ذوات جمال ولون بديع كبيض النعام المصون، يخالط لونها صفرة قليلة، وهو أحسن ألوان النساء.
5- يتجاذب أهل الجنة أطراف الأحاديث المسلّية التي يتذكرونها في الدنيا، إتماما للأنس في الجنة، فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا.
ومن موضوعات أحاديثهم: قصة المؤمن والكافر، يقول المؤمن من أهل الجنة: كان لي في الدنيا قرين أي صديق ملازم، فسألني متعجبا: هل أنت من
(23/95)
 
 
المصدقين بالبعث والجزاء؟ وهل نحن مجزيون محاسبون بعد الموت، وهل يعقل أن نعود أحياء بعد أن متنا وصرنا ترابا وعظاما نخرة؟
وتتمة الموضوع أن يقول المؤمن لأهل الجنة: هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين ومآله؟ فلم يفعلوا، وإنما اطلع هو، فوجد قرينه معذبا في وسط النار. فيقول له موبخا: والله، لقد قاربت أن توقعني في النار، وتهلكني، ولولا فضل ربي ورحمته وعصمته من الضلال والباطل، وإنعامه بالإرشاد والتوفيق إلى الحق، لكنت محضرا معك في النار مثلك.
6- ثم يعود ذلك المؤمن إلى خطاب جلسائه الذين هم من أهل الجنة، بعد أن يعلموا أنهم لا يموتون حين يمثل الموت بصورة كبش أملح فيذبح، بعد أن كانوا لا يعلمون بذلك في أول دخولهم في الجنة، فيقول مغتبطا مبتهجا: أنحن مخلّدون منعّمون، فما نحن بميتين ولا معذّبين؟
7- النتيجة من القصة والحديث المتبادل: هي أن الظفر بنعيم الجنان هو الفوز الأعظم، ولمثل هذا العطاء والفضل ينبغي أن يعمل العاملون العمل الصالح المؤدي إلى تلك النعمة الكبرى.
وقوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ يحتمل أن يكون من كلام المؤمن لما رأى ما أعد الله له في الجنة وما أعطاه، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة، ويحتمل أن يكون هو من قول الله عز وجل لأهل الدنيا، أي قد سمعتم ما في الجنة من الخيرات والجزاء، فليعمل العاملون لمثل هذا، كما تقدم إيجازه.
(23/96)
 
 
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
جزاء الظالمين وأنواع العذاب في جهنم
 
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
 
الإعراب:
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ: إما وصف لشجرة، وإما خبر بعد خبر، وإما في موضع نصب على الحال من ضمير تَخْرُجُ. وفِي أَصْلِ الْجَحِيمِ: اي منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
 
البلاغة:
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ في قوله: خَيْرٌ أسلوب تهكمي للتهكم بهم.
مُنْذِرِينَ الْمُنْذَرِينَ بينهما جناس ناقص، يراد بالأول الرسل، وبالثاني الأمم.
طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ تشبيه مرسل مجمل حذف منه وجه الشبه، أي في الهول والشناعة وتناهي القبح.
 
المفردات اللغوية:
أَذلِكَ المذكور لهم. خَيْرٌ نُزُلًا ضيافة، والنزل: ما يعد للنازل ضيفا وغيره من طعام وشراب. أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ شجرة معدة لأهل النار، وهي شجرة صغيرة الورق تنبت
(23/97)
 
 
بتهامة، لها ثمر مرّ كريه الرائحة، يكره أهل النار على تناوله، فهم يتزقمونه. والتزقم: البلع مع الجهد والألم. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ أي أنبتناها في قعر جهنم، لتكون محنة للكافرين من أهل مكة، إذ قالوا: كيف ذلك، والنار تحرق الشجر، فكيف تنبته؟ ولم يعلموا أن من قدر على خلق ما يعيش في النار، فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق، وهناك أشياء نشاهدها اليوم غير قابلة للاحتراق.
فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي تنبت في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. طَلْعُها ثمرها أو حملها المشبّه بطلع النخل، وأصل الطلع: ثمر النخلة أول ظهوره، أطلق على ثمر هذه الشجرة مجازا. كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ شبه المحسوس بالمتخيل، وإن كان غير مرئي، للدلالة على أن ثمرها في غاية القبح، ونهاية البشاعة، كتشبيه الفائق في الحسن بالملك، وقيل: الشياطين: حيات هائلة قبيحة المنظر، لها أعراف. فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فإن الكفار لآكلون من تلك الشجرة مع قبحها لشدة جوعهم. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ الملء: حشو الوعاء بما لا زيادة عليه. لَشَوْباً الشوب: الخلط، يقال: شاب الطعام أو الشراب: خلطه بشيء آخر. حَمِيمٍ ماء شديد الحرارة، يشربونه، فيختلط بالمأكول من شجرة الزقوم، فيصير شوبا له.
مَرْجِعَهُمْ مصيرهم. لَإِلَى الْجَحِيمِ إلى دركاتها أو إلى نفسها، وهذا دليل على أنهم يخرجون من النار لشراب الحميم، وأنه خارجها، لقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن 55/ 43- 44] يوردون إليه، كما تورد الإبل إلى الماء، ثم يردون إلى الجحيم.
أَلْفَوْا وجدوا. يُهْرَعُونَ يزعجون إلى اتباعهم، ويسرعون إسراعا شديدا، وهو تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال. والإهراع: الإسراع الشديد. وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك. أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم الماضية.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنبياء أنذروهم من العواقب. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي مصير الكافرين من الأمم وهو العذاب. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ إلا الذين تنبهوا بإنذارهم، فأخلصوا دينهم لله، فنجوا من العذاب، والمخلصين: بفتح اللام: هم الذين أخلصهم الله للعبادة والطاعة، وبكسر اللام: هم الذين أخلصوا في العبادة.
 
المناسبة:
بعد بيان ما أعده الله تعالى للأبرار في جنات النعيم من مآكل ومشارب وغيرها، ذكر تعالى ما أعده للأشرار في نار جهنم، من أنواع المآكل والمشارب بسبب تقليدهم الآباء في الكفر بالله وعبادة الأصنام والأوثان.
(23/98)
 
 
التفسير والبيان:
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ أهذا المذكور من نعيم الجنة وما فيها مآكل ومشارب وملاذ وغيرها خير ضيافة وعطاء، أم شجرة الزقوم ذات الطعم المرّ الشنيع، التي في جهنم؟ وهذا نوع من التهكم والسخرية بهم، فهو طعام أهل النار يتزقمونه، وهو نزلهم وضيافتهم.
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ أي إنا جعلنا تلك الشجرة اختبارا للكافرين، حين افتتنوا بها وكذبوا بوجودها، فقالوا: كيف تكون الشجرة في النار، والنار تحرق ما فيها؟
وهذا الاستبعاد لجهلهم بأن بعض الأشياء غير قابل للاحتراق، ولأنهم لم يعلموا ولم يلاحظوا أن من قدر على خلق إنسان يعيش في النار، فهو أقدر على خلق شجر فيها لا يحترق.
وصفات تلك الشجرة ما قاله تعالى:
1- إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي إنها شجرة تنبت في قعر النار وقرار جهنم، وترتفع أغصانها إلى دركاتها.
2- طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ أي إن ثمرها وما تحملها كأنه في تناهي قبحه وشناعة منظره كأنه رؤوس الشياطين، تبشيعا لها وتكريها لذكرها، فشبّه المحسوس بالمتخيل غير المرئي، والعرب تشبّه قبيح الوجه بالشيطان، وتشبه جميل الصورة بالملك، كما جاء في القرآن حكاية على لسان صواحبات يوسف عليه السلام: ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف 12/ 31] .
وقيل: إن الشياطين هي حيّات لها رؤوس وأعراف، وهي من أقبح الحيات.
(23/99)
 
 
ثم ذكر الله تعالى أن هذه الشجرة مأكل الكفار أهل النار، فقال:
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي إنهم يأكلون من ثمر هذه الشجرة السيء الريح والطعم والطبع، فيملئون بطونهم منه، بالإكراه والاضطرار، لأنهم لا يجدون غير هذه الشجرة ونحوها، كما قال تعالى: يْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ
[الغاشية 88/ 6- 7] فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة.
روى ابن أبي حاتم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ص تلا هذه الآية، وقال: «اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟» «1» .
وبعد وصف طعامهم، وصف تعالى شرابهم بما هو أبشع منه، قائلا:
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أي ثم إن لهم بعد الأكل منها لشرابا من ماء شديد الحرارة يخالط طعامهم. والمقصود من كلمة ثُمَّ بيان أن حال المشروب في البشاعة أعظم من حال المأكول. ومكان هذا الماء خارج جهنم، لقوله تعالى:
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ أي مرجعهم بعد شرب الحميم وأكل الزقوم إلى دار الجحيم. وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم، مما يدل على أن الحميم في موضع خارج عن الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه، كما تورد الإبل إلى الماء، ثم يردّون إلى الجحيم، كما قال تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن 55/ 43- 44] .
__________
(1) قال الترمذي: حسن صحيح.
(23/100)
 
 
وبعد وصف عذابهم في أكلهم وشربهم ذكر الله تعالى علة العذاب قائلا:
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ، فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ أي إنهم وجدوا وصادفوا آباءهم على الضلال، فاقتدوا بهم وقلدوهم، من غير تعقل ولا تدبر، ولا حجة وبرهان، فهم يتبعون آباءهم في سرعة، كأنهم حرّضوا على ذلك، وأزعجوا إلى اتباع آبائهم.
ثم بيّن الله تعالى أن الكفر ظاهرة قديمة، وأتباعه كثر، تسلية للرسول ص في كفر قومه وتكذيبهم، فقال:
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ أي إن أكثر الأمم الماضية كانوا ضالين، يجعلون مع الله آلهة أخرى.
ولكن رحمته تعالى لم تتركهم دون إنذار، فقال:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أي أرسل الله في الأمم الماضية أنبياء ورسلا ينذرونهم بأس الله، ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به، وعبد غيره، لكنهم تمادوا في مخالفة رسلهم وتكذيبهم فأهلكهم الله، كما قال:
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ فانظر أيها الرسول والمخاطب كيف كان مصير الكافرين المكذبين، أهلكهم الله ودمّرهم وصاروا إلى النار، مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، ثم استثنى تعالى منهم المؤمنين قائلا:
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لكن نجى الله عباده الذين اصطفاهم وأخلصهم لطاعته، بتوفيقهم إلى الإيمان والتوحيد، والعمل بأوامر الله، ففازوا بجنان الخلد، ونصرهم في الدنيا.
ويفهم من هذه التسلية للرسول ص أنه يجب عليه أن يكون له أسوة بمن
(23/101)
 
 
تقدمه من الرسل، فيصبر كما صبروا، ويستمر على دعوته، وإن تمرد المرسل إليهم، فليس عليه إلا البلاغ.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- لا مجال للمقارنة بين ما أعده الله لعباده الأبرار من نعيم في الجنان، وما أعده للأشرار من عذاب في النيران.
2- إن طعام أهل النار هو الزقّوم الثمر المرّ الكريه الطعم والرائحة، العسير البلع، المؤلم الأكل، كما قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان 44/ 43- 46] .
3- إن الإخبار عن وجود شجرة الزقوم في قعر جهنم فتنة وابتلاء واختبار للكفار الذين قالوا: كيف تكون الشجرة في النار وهي تحرق النار؟ لكن كان هذا القول جهلا منهم، إذ إن هناك أشياء نشاهدها اليوم غير قابلة للاحتراق، ولا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرا من جنسها لا تأكله النار، كما يخلق الله فيها الأغلال والقيود والحيّات والعقارب وخزنة النار.
4- وصف الله تعالى هذه الشجرة بصفتين: الأولى- إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم أي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. والصفة الثانية- ثمرها وحملها في قبحه وشناعته كأنه رؤوس الشياطين، وهذا الشبه متصور في نفوس العرب، وإن كان غير مرئي. ومن ذلك قولهم لكل قبيح: هو كصورة الشيطان، ولكل صورة حسنة كصورة الملك.
ومنه قوله تعالى مخبرا عن صواحبات يوسف: ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف 12/ 31] وهذا تشبيه تخييلي.
(23/102)
 
 
وقال الزجاج والفرّاء: الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف، وهي من أقبح الحيّات وأخبثها وأخفها جسما.
5- لا يكتفي أهل النار بتناول شيء قليل من الزقوم، وإنما يأكلون منه بالإكراه حتى تمتلئ منه بطونهم، فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة.
وبعد الأكل من الشجرة يشربون الماء المغلي الشديد الحرارة الذي يخالط طعام الزقوم، قال الله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ
 
[سورة محمد 47/ 15] . قيل: يمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحرارة الحميم، تغليظا لعذابهم، وتجديدا لبلائهم.
6- يشرب أهل النار من ماء الحميم ويأكلون الزقوم من مكان خارج جهنم، للآية: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ فهذا يدل على أنهم كانوا حين أكلوا الزقوم في عذاب غير النار، ثم يردون إليها. والحميم كما قال مقاتل خارج الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه، ثم يردون إلى الجحيم، لقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن 55/ 43- 44] .
7- إن سبب عذابهم الذي استحقوه هو تقليدهم آباءهم في الكفر بالله وتكذيب الرسل وعبادة الأصنام والأوثان، فكأنهم يستحثون من خلفهم، ويسرعون إلى تقليدهم، ويزعجون من شدة الإسراع.
8- لقد كفر بالله وكذب الرسل وضل كثير من الأمم الماضية، ولكن الله أرسل إليهم رسلا أنذروهم العذاب فكفروا، فكان مصيرهم الدمار والهلاك وولوج النار.
9- ينجي الله دائما عباده المؤمنين الذين استخلصهم من الكفر، وأخلصوا لله النية والعمل، ففازوا بنعيم الجنان، ونصرهم الله في الدنيا.
(23/103)
 
 
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
قصة نوح عليه السلام
 
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
 
الإعراب:
فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ المخصوص بالمدح محذوف، تقديره: فلنعم المجيبون نحن، كقوله تعالى:
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص 38/ 44] أي أيوب.
سَلامٌ عَلى نُوحٍ سَلامٌ: مبتدأ، وعَلى نُوحٍ: خبره، وجاز الابتداء بالنكرة، لأنه في معنى الدعاء، كقوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين 83/ 1] وقرئ سلاما بالنصب على أنه مفعول تَرَكْنا تقديره: تركنا عليه في الآخرين سلاما، أي ثناء حسنا.
 
البلاغة:
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ كناية، كنى بذلك عن الذكر الجميل والثناء الحسن.
 
المفردات اللغوية:
نادانا نُوحٌ دعانا حين أيس من قومه، فالمراد من النداء الاستغاثة، بقوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر 54/ 10] . فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ له نحن، اي فأجبناه أحسن الإجابة، والتقدير: فو الله لنعم المجيبون نحن، فحذف ما حذف لقيام ما يدل عليه. ونوع الجواب: أنا أهلكناهم بالغرق.
مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي الغرق أو أذى قومه، والكرب: الغم الشديد وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أي أبقينا ذريته متناسلين إلى يوم القيامة، فالناس كلهم من نسله عليه السلام، وكان
(23/104)
 
 
له ثلاثة أولاد: سام وهو أبو العرب وفارس والروم، وحام: وهو أبو السودان، ويافث: أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج من الصين واليابان ونحوهم. روي أنه مات كل من معه في السفينة غير بنيه وأزواجهم.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أبقينا عليه ثناء حسنا بين الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، فمفعول وَتَرَكْنا محذوف، كما في الثناء السابق بقوله: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ هذا الكلام جيء به على الحكاية، والمعنى: يسلمون عليه تسليما، أي يثنون عليه ثناء حسنا ويدعون له ويترحمون عليه. وقيل: هو سلام من الله عليه إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي مثل ذلك الجزاء الذي جازيناه نجزي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ تعليل لإحسانه بالإيمان، إظهارا لجلالة قدره وأصالة أمره ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي كفار قومه.
 
المناسبة:
هذه الآيات شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها، فبعد ذكر ضلال كثير من الأمم السابقة في قوله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وقوله:
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أتبعه بتفصيل قصص الأنبياء عليهم السلام، وهذه هي القصة الأولى- قصة نوح عليه السلام مع قومه، في بيان بليغ موجز.
 
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي تالله لقد دعانا نوح عليه السلام، واستغاث بنا، ودعا على قومه بالهلاك حيث قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح 71/ 26] بعد أن طال دعاؤهم إلى الإيمان، فكذبوه وآذوه وهموا بقتله ولم يؤمن معه إلا القليل، مع طول المدة التي لبثها فيهم وهي ألف سنة إلا خمسين عاما، ولم يزدهم دعاؤه إلا فرارا.
فأجاب الله دعاءه أحسن الإجابة، وأهلك قومه بالطوفان.
أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي ص إذا
(23/105)
 
 
صلّى في بيتي، فمرّ بهذه الآية: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ قال:
صدقت ربنا، أنت أقرب من دعي، وأقرب من بغي، فنعم المدعو، ونعم المعطي، ونعم المسؤول، ونعم المولى، أنت ربنا، ونعم النصير» .
وبعد بيان أنه سبحانه نعم المجيب على سبيل الإجمال، بين أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه:
1- وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي ونجينا نوحا وأهل دينه، وهم من آمن معه وهم ثمانون، من الغم الشديد وهو الغرق.
2- وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أي وجعلنا ذريته وحدهم دون غيرهم هم الباقين على قيد الحياة، وأهلكنا من كفر بدعائه، ولم نبق منهم باقية، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل، ولم يبق إلا أولاده وذريته.
والآية تفيد الحصر، وهو يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته قد فنوا.
قال ابن عباس: ذريته بنوه الثلاثة: سام وحام وي