التفسير المنير للزحيلي 006

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب : التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج
المؤلف : د وهبة بن مصطفى الزحيلي
 
وجاء في الحديث المروي عند أصحاب السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر جنازة، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب، فألقاها في القبر، وقال: منها خلقناكم، ثم أخذ أخرى وقال: وفيها نعيدكم؟ ثم أخرى وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- لم يؤمن فرعون بدعوة موسى وهارون، وظل على كفره، وتساءل تكبرا وتجبرا وزورا وبهتانا، مع كونه عارفا بالله تعالى، وقال: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟
2- تدل الآية المذكورة على أنه يجوز حكاية كلام المبطل لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله، وحكى شبهات منكري النبوة، وشبهات منكري الحشر، لكن يجب قرن الجواب بالسؤال، لئلا يبقى الشك.
3- وتدل الآية أيضا على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطل، والجواب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش، كما فعل موسى بفرعون هنا، وكما أمر الله تعالى رسوله في قوله: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل 16/ 125] ، وقال سبحانه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ، فَأَجِرْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة 9/ 6] .
4- كان جواب موسى لفرعون: إن الله تعالى يعرف بصفاته، فهو خالق العالم، وهو الذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة معينة. قال مجاهد: أعطى كل شيء صورة لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر:
وله في كل شيء خلقة ... وكذاك الله ما شاء فعل
(16/226)
 
 
أراد بالخلقة: الصورة.
5- الله هو المختص بعلم الغيب في الماضي والحاضر والمستقبل، فلما سأل فرعون عن حال وشأن الأمم الغابرة، أجابه موسى وأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله تعالى في اللوح المحفوظ.
6- هذه الآية: قالَ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ.. ونظائرها تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى، فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع، فيقيده لئلا يذهب عنه.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه، فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي» .
وفي صحيح مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه- رجل من اليمن- لما سأله كتبها.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قيدوا العلم بالكتابة» .
وأسند الخطيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل من الأنصار لا يحفظ الحديث: «استعن بيمينك» .
وأما النهي عن كتابة الأحاديث، فكان ذلك متقدما، فهو منسوخ بأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالكتابة، وإباحتها لأبي شاه وغيره.
قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد، ثم الحبر خاصة، دون المداد «1» لأن السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور، وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة.
__________
(1) الحبر والمداد في اللغة سواء. ولعل المراد به المداد الذي لا لون له أو لونه باهت.
(16/227)
 
 
7- دل قوله تعالى: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى على أن الله عالم بكل المعلومات، وهو اللفظ الأول، وعلى بقاء ذلك العلم أبد الآباد، وهو إشارة إلى نفي التغير، وهو اللفظ الثاني.
8- من نعم الله تعالى أن جعل الأرض رغم كرويتها الكلية ممهدة كالفراش، وقرارا للاستقرار عليها، لتصلح للعيش عليها.
9- ظاهر آية وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ.. يدل على أنه سبحانه إنما يخرج النبات من الأرض بواسطة إنزال الماء، فيكون للماء فيه أثر، وهذا التأثير على تقدير أن الله تعالى هو الذي أعطى الماء هذه الخواص والطبائع، فيكون الماء المنزل سبب خروج النبات في الظاهر.
10- إن إخراج أصناف من النبات المختلفة الأنواع والألوان من الأرض دليل واضح على قدرة الله تعالى ووجود الصانع. وإن جعل بعض النبات صالحا للإنسان وآخر للحيوان: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ من أجل النعم على الإنسان، ومما يقتضي التأمل والتفكير عند ذوي العقول الصحيحة.
11- ما أعظم خيرات الأرض، وما أحوج الناس إليها! فالله خلقنا منها، ويعيدنا إليها بعد الموت، ويخرجنا منها للبعث والحساب. أما كيفية الإخراج من الأرض فهو أن الله تعالى خلق أصلنا وهو آدم عليه السلام من التراب، فكنا تبعا له، وأما استمرار الخلق فهو أن تولد الإنسان من النطفة ودم الطمث، وهما يتولدان من الأغذية، والغذاء إما حيواني أو نباتي، والحيواني ينتهي إلى النبات، والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب.
(16/228)
 
 
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
- 7- اتهام موسى بالسحر
 
[سورة طه (20) : الآيات 56 الى 59]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
 
الإعراب:
مَكاناً سُوىً مَكاناً بدل منصوب من مَوْعِداً ولا يجوز نصبه بقوله مَوْعِداً لأن مَوْعِداً قد وصف بقوله: لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ والمصدر إذا وصف لا يعمل ويجوز أن يجعل مَكاناً منصوبا بنزع الخافض: في.
سوى: يقرأ بكسر السين وبضمها، فمن قرأ بالكسر، فلأن «فعل» لم يأت في الوصف إلا نادرا نحو: قوم عدى، ولحم زيم. والضم أكثر لأن «فعل» في الوصف كثير، نحو: لكع وحطم.
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ.. يَوْمُ: خبر مَوْعِدُكُمْ على تقدير حذف مضاف، أي موعدكم وقت يوم الزينة، ولا يجوز أن يكون يَوْمُ ظرفا لأن العرب لم تستعمله مع الظرف استعمال سائر المصادر، ولهذا قال تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود 11/ 81] بالرفع إذ يراد به هنا المصدر، ولو قلت: إن خروجكم الصبح، لم يجز فيه إلا النصب، أي وقت الصبح.
وموعد مصدر بمعنى الوعد في الأظهر.
والموعد: يكون مصدرا وزمانا ومكانا بلفظ واحد، وَأَنْ يُحْشَرَ معطوف بالرفع على يَوْمُ الزِّينَةِ أي موعدكم وقت يوم الزينة، وموعدكم وقت حشر الناس، فحذف المضاف أيضا.
 
البلاغة:
سُوىً ضُحًى ... سجع حسن.
(16/229)
 
 
المفردات اللغوية:
أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها بصرنا فرعون آيات معهودة هي الآيات التسع المختصة بموسى.
فَكَذَّبَ بها وزعم أنها سحر. وَأَبى امتنع أن يوحد الله تعالى أو أبي الإيمان والطاعة، لعتوه. لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا مصر، ليصبح لك الملك فيها. بسحر مثله يعارضه.
مَوْعِداً ميعادا معينا لذلك. لا نُخْلِفُهُ لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه، إذا جعل (موعد) هنا هو الزمان، وإذا جعل مصدرا أي لا نخلف ذلك الموعد. سُوىً أي وسطا، تستوي إليه مسافة الجائي من الطرفين.
قالَ موسى. مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ يوم عيد كان لهم، يتزينون فيه ويجتمعون، ويوم: بضم الميم، وقرأ الحسن بالنصب، فمن رفع فعلى أنه خبر المبتدأ، والمعنى: وقت موعدكم يوم الزينة، ومن نصب فعلى الظرف، معناه: موعدكم يقع يوم الزينة. والسؤال وقع عن مكان الموعد، وطابقه من حيث المعنى ذكر الزمان، وإن لم يطابق لفظا لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان معين مشهود باجتماع الناس في ذلك اليوم، فبذكر الزمان علم المكان.
وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ يجمعون. ضُحًى وقت ارتفاع شمس النهار.
 
المناسبة:
بعد سؤال فرعون عن رب موسى، ذكر الله تعالى أنه بصره بالآيات الدالة على توحيد الله، مثل رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وقوله:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً والدالة على نبوة موسى مثل العصا واليد البيضاء، فكذب بكل هذا، واتهم موسى بالسحر، وطلب المبارزة مع السحرة، وتحديد مكان اللقاء وموعد الاجتماع.
 
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى أي وتالله لقد بصرنا فرعون وعرفناه آياتنا الدالة على قدرتنا وتوحيدنا وعلى نبوة موسى، كالآيات التسع «1» .
__________
(1) وهي العصا، واليد، وفلق البحر، والحجر، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونتق الحل.
(16/230)
 
 
وغيرها من الحجج والبراهين، فعاين ذلك وأبصره، ولكنه كذب بها، وأبى الاستجابة للإيمان والحق، كفرا وعنادا وبغيا، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل 27/ 14] وقال سبحانه: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء 17/ 102] .
ثم ذكر الله تعالى شبهة فرعون وصفة تكذيبه، فقال:
قالَ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى أي قال فرعون لموسى مستنكرا معجزة العصا واليد: هل جئت يا موسى من أرض مدين لتخرجنا من أرضنا مصر بما أظهرته من السحر، وهو قلب العصا حية؟ توهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك، حتى تتوصل بذلك إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها. وإنما ذكر فرعون الإخراج من الأرض لتنفير قومه عن إجابة موسى، وحملهم على السخط على موسى والغضب منه، والعمل على طرده وإخراجه من مصر.
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر، فإن عندنا سحرا مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه.
فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً أي حدد لنا يوما معلوما ومكانا معلوما، نجتمع فيه نحن وأنت، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر، لا نخلف ذلك الوعد من قبل كل منا. وقد فوض فرعون تعيين الموعد إلى موسى إظهارا لكمال اقتداره.
وليكن المكان مكانا مستويا ظاهرا لا ارتفاع فيه ولا انخفاض، ليظهر فيه الحق، أو مكانا وسطا بين الفريقين، حتى لا يكون عذر في التخلف.
قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي قال موسى
(16/231)
 
 
عليه السلام: موعد الاجتماع يوم العيد (عيد النيروز) الذي يتزين فيه الناس، وفي وقت الضحى، ليكون الاجتماع عاما في يوم يفرغ فيه الناس من أعمالهم، ويجتمعون جميعا، ويتحدثون بنتيجة المبارزة، فتظهر الدعوة، وتعلو كلمة الحق، ويزهق الباطل، وليكون الضوء غالبا، وفي نشاط أول النهار، فلا يشكوا في المعجزة، ويشاهدوا قدرة الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية.
واختيار هذا الوعد دليل على الثقة بالنصر، وسبيل لإيضاح الحجة.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- لم يبق عذر لفرعون في كفره، بعد إرسال موسى وهارون رسولين إليه، وتأييدهما بالمعجزات الدالة على نبوة موسى، وإبدائهما البراهين والدلائل والحجج على وحدانية الله وقدرته، وهذا يدل على أنه كفر عنادا لأنه رأى الآيات عيانا لا خبرا، واقتنع بها في أعماق نفسه، كما قال سبحانه: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل 27/ 14] .
2- حاول فرعون تأليب قومه وتحريضهم على معاداة موسى وطرده، باتهامه بأنه بحسب عقلية الحاكم يريد إخراج الناس من مصر، والاستيلاء على السلطة.
3- وحاول أيضا إبطال المعجزات النبوية بالسحر، ظنا منه أن ما جاء به موسى من الآيات سحر يوهم الناس به لاتباعه والإيمان به، فإذا عورض السحر بمثله، تبين للناس أن ما أتى به موسى ليس من عند الله.
4- طلب فرعون من موسى تعيين يوم معلوم ومكان معروف لا يخلف فيه أحد الطرفين الوعد، إيهاما للناس بمدى الثقة به، وبكمال اقتداره، وإنهاء دعاوى موسى في يوم مشهود للجميع.
(16/232)
 
 
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
وكان اقتراحه أن يكون المكان مكانا سوى أي مكانا مستويا متوسطا بين الطرفين، حتى لا يكون عذر في التخلف.
5- اختار موسى يوم العيد (يوم الزينة) لتعلو كلمة الله، ويظهر دينه، ويكبت الكفر، ويزهق الباطل، أمام الناس قاطبة في المجمع العام، ليشيع الخبر، ويتناقل جميع أهل المدن والقرى والحضر والأعراب قصة الأمر العجيب، ونبأ المعجزة الكبرى. ثم عين موسى عليه السلام من اليوم وقتا معينا بقوله:
وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي في ضحوة الناس بعد طلوع الشمس، حيث تكون الرؤية واضحة، والنفوس مستعدة نشيطة، ولأنه أول النهار، فلو امتد الأمر فيما بينهم كان في النهار متسع. وكان ذلك بالصدفة مناسبا للسحرة، لتسخين الحبال والأدوات المعبأة بالزئبق.
 
- 8- جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم
 
[سورة طه (20) : الآيات 60 الى 64]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)
 
الإعراب:
إِنْ هذانِ لَساحِرانِ إِنْ إما مخففة من الثقيلة لم تعمل، وإما بمعنى «ما» واللام بمعنى «إلا» أي ما هذان إلا ساحران. وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين. ومن قرأ بالتشديد
(16/233)
 
 
إِنْ أتى به على لغة بني الحارث بن كعب، فإنهم يقولون: مررت برجلان، وقبض منه درهمان، وهي لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث.
وقيل: إن بمعنى «نعم» أي نعم هذان لساحران، لكن فيه ضعف، لدخول اللام في الخبر، وهو قليل في كلامهم. وقرئ «إن هذين لساحران» .
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ قرئ: أجمعوا بقطع الهمزة ووصلها، ففي قراءة القطع نصب كَيْدَكُمْ ب فَأَجْمِعُوا على تقدير حذف حرف الجر، أي فأجمعوا على كيدكم. فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه، يقال: أجمع على كذا: إذا عزم عليه، فحذف الجار من الآية، كما في آية: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [البقرة 2/ 235] أي على عقدة النكاح.
وعلى قراءة فاجمعوا بوصلها، لم يفتقر إلى تقدير حذف حرف الجر لأنه يتعدى بنفسه.
ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا مصدر في موضع الحال، أي ائتوا مصطفين، أو مفعول به، أي ائتوا إلى صف، والأول أوجه.
 
المفردات اللغوية:
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أدبر وانصرف عن المجلس. فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي جمع ذوي كيده من السحرة، والكيد: ما يكاد به من السحرة وأدواتهم. ثُمَّ أَتى أي أتى بالموعد بهم. قالَ لَهُمْ مُوسى وهم اثنان وسبعون مع كل واحد حبل وعصا. وَيْلَكُمْ أي هلاك لكم. لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تدعوا آياته سحرا، وتشركوا أحدا مع الله. والافتراء: الاختلاق والكذب.
فَيُسْحِتَكُمْ يهلككم. بِعَذابٍ شديد من عنده. وَقَدْ خابَ خسر. مَنِ افْتَرى كذب على الله، كما خاب فرعون، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك معه، فلم ينفعه.
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ فتفاوض السحرة وتشاوروا في أمر موسى، حين سمعوا كلامه.
وَأَسَرُّوا النَّجْوى بالغوا في إخفاء الكلام بينهم. قالُوا لأنفسهم. وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى المثلى: مؤنث أمثل بمعنى أشرف، أي يذهبا بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب، بإظهار مذهبه وإعلاء دينه، لقوله تعالى حكاية لقول فرعون: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ [غافر 40/ 26] .
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ بهمزة القطع من أجمع أي أحكموا كيدكم الذي يكاد به، وبهمزة الوصل من جمع، أي لم ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي مصطفين لأنه أهيب في صدور الرائين. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى فاز اليوم من غلب.
(16/234)
 
 
المناسبة:
بعد اتفاق موسى وفرعون على موعد المبارزة وهو يوم عيد لهم، ذكر الله تعالى ما قام به فرعون من تدبير أمره بجمع السحرة وآلاتهم، ثم ذكر ما حذرهم به موسى من عذاب شديد إن أقدموا على إبطال آيات الله، فأوقع الخلاف بينهم، وعقدوا المشاورات في خطتهم، فاتفقوا على وحدة الصف أمام موسى وهارون اللذين يريدان الغلبة والتفوق على دينهم الذي هو في زعمهم أفضل الأديان.
 
التفسير والبيان:
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ، ثُمَّ أَتى أي انصرف فرعون وشرع في جمع السحرة من مدائن مملكته، فجمع ما يكيد به من سحره وحيله وآلاته وأنصاره، وقد كان السحر شائعا عندهم، ثم أقبل في الموعد المعين، وجلس في مكان خاص به مع كبار أعوانه، كجناح العروض العسكرية المخصص اليوم لرئيس الدولة، وجاء موسى مع أخيه هارون، وجاءت السحرة ووقفوا صفوفا، وبدأ فرعون يحرضهم ويستحثهم ويعدهم، فتجرءوا أن يطلبوا منه الأجر، كما قال تعالى:
قالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ، قالَ: نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء 26/ 42] وعدهم فرعون بالجزاء المادي والأدبي ليتفانوا في إجادة عملهم، ويتغلبوا على موسى عليه السلام.
وشرع موسى في الإعلان عن رسالته، فقال:
قالَ لَهُمْ مُوسى: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً، فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى أي قال موسى لفرعون والسحرة: الهلاك والعذاب لكم إن اختلقتم على الله كذبا وزورا، بأن تزعموا أن الذي جئت به ليس بحق، وأنه سحر، فيستأصلكم الله بعذاب شديد من عنده، وقد خسر وهلك من افترى على الله أي كذب كان.
(16/235)
 
 
فأعرضوا عن قوله:
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي لما سمع السحرة كلام موسى تناظروا وتشاوروا وتفاوضوا فيما بينهم في ذلك، وتناجوا فيما بينهم سرا عن موسى وأخيه، وقرروا ما يأتي:
قالُوا: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما، وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي قالت السحرة: إن موسى وهرون لساحران يريدان إخراجكم أيها المصريون من أرضكم مصر بصناعة السحر، كما يريدان التغلب للاستيلاء على جميع المناصب، ولتكون لهما الرياسة في كل شيء، ومآل ذلك أن تنقضي سنتكم في الحياة، ويعصف بمنهجكم في العيش الحر العزيز الكريم، وتسلب خيراتكم، ويزول مذهبكم الأمثل الحسن.
قالوا ذلك متأثرين بما قاله فرعون، ومرددين ما يشيعه، مستخدمين أساليب ثلاثة للتنفير منهما، وهي تكذيب نبوتهما ووصفهما بالسحرة، والكشف عن نواياهما البعيدة بطرد السكان الأصليين من أرضهم مصر، والاستيلاء على جميع المناصب والرياسات.
فيجب علينا الوقوف صفا واحدا أمام هذا الخطر، فقالوا:
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ، ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا، وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي فاعزموا على تقديم جميع خبراتكم ومهاراتكم، ولا تتركوا أقصى ما تستطيعون عليه من الكيد والحيلة، وقفوا صفا واحدا، وألقوا ما لديكم دفعة واحدة، لتبهروا الأبصار، وتعظم هيبتكم، وتغلبوا هذين الرجلين، فإنه قد فاز اليوم بالمطلوب من غلب منا ومنهما.
وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض، بقصد التحريض وشد العزائم، لبذل أقصى الجهود للفوز بالمطلوب.
(16/236)
 
 
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- بدأت استعدادات فرعون في جمع السحرة، وإعداد الحيل كما هي عادة التهيؤ للمبارزة، قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل ساحر منهم حبال وعصي.
2- لما أتى فرعون وسحرته في الموعد المعين قال موسى لفرعون والسحرة:
الهلاك والعذاب لمن اختلق الكذب على الله، وأشرك به، ووصف المعجزات بأنها سحر، فيستأصلكم الله بعذاب شديد من عنده، وقد خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به. وهذا شعار الأنبياء، وهو الصدق في الدعوة، وانتهاز الفرص المناسبة لإعلان دعوتهم.
3- تشاور السحرة سرا فيما بينهم، وقالوا: إن كان ما جاء به سحرا، فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر. وهذا حق وصدق لا شيء فيه.
4- ثم أعلنوا قرارهم بأن موسى وأخاه هارون ساحران عظيمان، يريدان إخراج الناس من مصر بسحرهما، وإفساد دينهم، وإزالة مذهبهم الحسن، كما قال فرعون عن موسى: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غافر 40/ 26] . وهذا كله من دعاية فرعون وتحريضه.
5- ثم حرضوا بعضهم قائلين: اعزموا وجدوا في تجميع أنواع الكيد والحيلة، وأقصى فنون السحر، وأحكموا أمركم، وقفوا صفا واحدا، ليكون أشد لهيبتكم، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة، لتبهروا الأبصار، وتغلبوا موسى وأخاه، وقد فاز اليوم من غلب. وهذا شأن كل من الفريقين المتبارزين، يحرص كل منهما على الفوز والانتصار، ويتأثران بالتأييد الشعبي وبحماس المتفرجين واللاعبين أنفسهم، كما هو معروف.
(16/237)
 
 
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
- 9- المبارزة بين موسى والسحرة وإعلان إيمانهم بالله تعالى
 
[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 76]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
(16/238)
 
 
الإعراب:
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى مُوسى فاعل أوجس، وهاء نَفْسِهِ تعود إلى موسى لأنه في تقدير التقديم، ونَفْسِهِ في تقدير التأخير. وخِيفَةً مفعول أوجس.
وأصل خيفة «خوفة» لأنها من الخوف، فانقلبت الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها.
تَلْقَفْ التاء إما لتأنيث ما وهي العصا، حملا على المعنى، كأنه قال: ألق العصا تلقف ما صنعوا، وإما أن تكون التاء للمخاطب، أي تلقف أنت. وهو مجزوم بجواب الأمر، بتقدير حذف حرف الشرط. ومن قرأ بالرفع، كان حالا من ما أو من ضمير فِي يَمِينِكَ. وما في قوله إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ إما اسم موصول بمعنى الذي اسم إن، والعائد محذوف، أي إن الذي صنعوه، وكَيْدُ خبر إن، وإما أن تكون ما كافة، وكَيْدُ عند من قرأ بالنصب منصوب ب صَنَعُوا. ومن قرأ كيد سحر أي كيد ذي سحر، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
«من خلاف» حال.
وَالَّذِي فَطَرَنا: إما مجرور بالعطف على ما جاءَنا أي «على الذي جاءنا وعلى الذي فطرنا» وإما مجرور بالقسم، وجوابه محذوف، لدلالة ما تقدم عليه.
وما في إِنَّما تَقْضِي إما بمعنى الذي في موضع نصب اسم «إن» والعائد محذوف، أي: إن الذي تقضيه. وهذه: خبر «إن» . وإما أن تكون «ما» كافة، وهذه: في موضع نصب على الظرف، أي إنما تقضي في هذه الحياة الدنيا. والحياة الدنيا صفة هذِهِ في كلا الوجهين.
وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ما إما في موضع نصب بالعطف على خَطايانا وإما مبتدأ مرفوع، وخبره محذوف، تقديره: ما أكرهتنا عليه مغفور لنا. ومِنَ السِّحْرِ متعلق ب أَكْرَهْتَنا.
فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ.. الدَّرَجاتُ مرفوع بالظرف لأنه جرى خبرا عن المبتدأ، وهو أولئك، وجَنَّاتُ بدل مرفوع من الدَّرَجاتُ أي أولئك لهم جنات عدن. وخالِدِينَ حال من الهاء والميم في لَهُمُ والعامل فيه: اللام، أي الاستقرار، أو معنى الإشارة.
 
البلاغة:
بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ فيه إيجاز بالحذف، أي فألقوا فإذا حبالهم. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ ثم قال: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً فيه إيجاز بالحذف، وهو: فألقى موسى عصاه، فتلقفت ما صنعوا من السحر، فألقي السحرة سجدا. وحسن الحذف في الموضعين لدلالة المعنى عليه.
(16/239)
 
 
يَمُوتُ ويَحْيى بينهما طباق.
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ووَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ بينهما مقابلة: وهي أن يؤتى بمعينين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك.
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى فيه مؤكدات هي: إن، وأنت، وتعريف الخبر: الْأَعْلى ولفظ العلو الدال على الغلبة، وصيغة التفضيل الْأَعْلى.
 
المفردات اللغوية:
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قال السحرة ذلك مراعاة للأدب، وخيروه بين أن يلقي عصاه أو يلقوا عصيهم. وأن وما بعده: منصوب بفعل مضمر، أو مرفوع بخبر محذوف، أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاؤنا، أو الأمر إلقاؤك، أو إلقاؤنا. قالَ: بَلْ أَلْقُوا مقابلة أدب بأدب، وعدم مبالاة بسحرهم، وليستنفدوا أقصى وسعهم، ثم يظهر الله سلطانه، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه.
فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ.. أي فألقوا، وكلمة فَإِذا التحقيق أنها ظرفية متعلقة بفعل المفاجأة، والجملة ابتدائية، والمعنى: فألقوا ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وذلك بأنهم لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس، اضطربت، فخيل إليه أنها تتحرك. وأَنَّها تَسْعى بدل اشتمال، أي أنها حيات تسعى على بطونها.
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً أحس بشيء من الخوف، من جهة أن سحرهم من جنس معجزته، أن يلتبس أمره على الناس، فلا يؤمنوا به.
قُلْنا: لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى قلنا له: لا تخف ما توهمت فإنك أنت الأعلى عليهم بالغلبة، وهذا الأخير تعليل للنهي وتقرير لغلبته، مؤكدا بالاستئناف وحرف التحقيق: «إن» وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو الدال على الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل.
وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ وهي العصا، ولم يقل: عصاك، تحقيرا لها، أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، أو تعظيما لها، أي لا تحتفل بكثرة هذه الأشياء وعظمها، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرا، فألقه. تَلْقَفْ تبتلع بقوة وسرعة وبقدرة الله تعالى، والخطاب على إسناد الفعل إلى السبب إِنَّما صَنَعُوا إن الذي زوروا وافتعلوا كَيْدُ ساحِرٍ أي كيد سحري لا حقيقة له، أي ذي سحر، أو إضافة قصد بها البيان مثل: علم فقه. وإنما وحد الساحر لأن المراد به الجنس المطلق. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي هذا الجنس. حَيْثُ أَتى بسحره، أي أينما كان، وأينما أقبل.
(16/240)
 
 
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً خروا ساجدين لله تعالى، أي فألقى فتلقفت، فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر، وإنما هو من آيات الله، ومعجزة من معجزاته، فألقاهم ذلك على وجوههم سجدا لله، توبة عما صنعوا وتعظيما لما رأوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى قدم هارون لكبر سنه، أو لروي الآية، روي أنهم رأوا في سجودهم الجنة ومنازلهم فيها. قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قال فرعون: آمنتم لموسى، واللام لتضمين الفعل معنى الاتباع. قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أنا في الإيمان له. إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ إن موسى لمعلمكم أو لأستاذكم الذي علمكم السحر، وأنتم تواطأتم على ما فعلتم. مِنْ خِلافٍ في موضع النصب على الحال أي لأقطعنها من حال مختلفة: اليد اليمنى والرجل اليسرى.
ومن: ابتدائية. وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي عليها، شبه تمكن المصلوب بالجذوع بتمكن المظروف بالظرف، وهو أول من صلب. وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا يريد نفسه ورب موسى لقوله:
آمَنْتُمْ لَهُ. أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي أدوم عذابا. وهل نفذ فيهم تهديده؟
الآيات لم تذكر ذلك، لكن ذكر المفسرون أنه أنفذ فيهم وعيده، فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، فماتوا على الإيمان، فقال ابن عباس: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة.
قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ قال السحرة: لن نختارك. عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ على ما جاءنا موسى به من المعجزات الواضحات الدالة على صدقه. وَالَّذِي فَطَرَنا خلقنا وأوجدنا من العدم. وهذا عطف على ما جاءنا، أو قسم فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ اصنع ما أنت قاضيه، أي صانعه، أو ما قلته أو احكم. إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا، فالنصب على الاتساع، أي فيها، ثم تجزى عليه في الآخرة، والآخرة خير وأبقى، فهو كالتعليل لما قبله، والتمهيد لما بعده.
لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا من الكفر والمعاصي. وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ تعلما وعملا في معارضة موسى والمعجزة. وَاللَّهُ خَيْرٌ منك ثوابا إذا أطيع. وَأَبْقى منك عذابا إذا عصي.
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً إن الأمر من يأت ربه كافرا، بأن يموت على كفره وعصيانه.
لا يَمُوتُ فِيها فيستريح. وَلا يَحْيى حياة هنيئة فتنفعه. قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ الفرائض والنوافل. لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى المنازل الرفيعة، جمع عليا مؤنث أعلى.
جَنَّاتُ عَدْنٍ أي جنات أعدت للإقامة. مِنْ تَحْتِهَا من تحت غرفها. جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى تطهر من الذنوب والكفر.
قال البيضاوي: والآيات الثلاث- أي الأخيرة- يحتمل أن تكون من كلام السحرة، وأن تكون ابتداء كلام الله.
(16/241)
 
 
المناسبة:
بعد ذكر الموعد وهو يوم الزينة وذكر مجيئهم صفا، حدثت المبارزة بين السحرة وموسى، فخيروه بين بدئه بالإلقاء، وبدئهم به، وكان ذلك أدبا منهم وتواضعا، رزقوا الإيمان ببركته، فقابلهم موسى أدبا بأدب، وقدمهم في الإلقاء لأنه الطريق إلى إزالة الشبهة، فما كان منهم إلا الإيمان، لمعرفتهم بأن فعل موسى معجزة وليس سحرا، وصمدوا على إيمانهم هازئين بتهديد فرعون بالتقطيع والصلب.
 
التفسير والبيان:
لما بدأت المبارزة، والتقى الفريقان، قالت السحرة لموسى:
قالُوا: يا مُوسى، إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أي قالت السحرة لموسى حين تقابلوا معه: اختر أحد الأمرين: إما أن تلقي أنت أولا ما تريد، وإما أن نلقي نحن ما معنا من العصي والحبال على الأرض.
وهذا التخيير مع تقديمه في الكلام أدب حسن وتواضع له، ألهمهم الله به، ورزقوا الإيمان ببركته، فقابل موسى عليه السلام أدبهم بأدب، فقال:
قالَ: بَلْ أَلْقُوا قال لهم موسى: بل ألقوا أنتم أولا، لنرى سحركم وتظهر حقيقة أمركم، ولتكون معجزته أظهر إذا ألقوهم ما معهم، ثم إذا ألقى عصاه فتبتلع ما ألقوه كله، وليظهر عدم المبالاة بسحرهم.
فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أي فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، فتوهم موسى ومن رآهم من الناس أنها تتحرك بسرعة كالأفاعي. ففي بدء الكلام حذف، أي فألقوا، وقوله: فَإِذا في رأي الزمخشري أنها إذا المفاجأة، وتعقبه الرازي فقال: والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها.
(16/242)
 
 
وجاء في آية أخرى أنهم لما ألقوا وَقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ، إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ [الشعراء 26/ 44] ونظير الآية التي هنا: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف 7/ 116] .
وذلك أنهم حشوها بالزئبق الذي يتأثر بحرارة الشمس، أو بمادة أخرى تتأثر بالحرارة، فيخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وكأن الوادي امتلأ حيات يركب بعضها بعضا.
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى أي أحس موسى بالخوف من أن يغلب، تأثرا بالطبيعة البشرية. وابتهج فرعون وقومه، وظنوا أنهم قد نجحوا، وأن السحرة فازوا على موسى وهارون.
قُلْنا: لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي قال الله لموسى: لا تخف، فإنك أنت المستعلي عليهم بالظفر والغلبة.
وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي وألق يا موسى العصا التي في يمينك، تبتلع بعد أن تصير حية جميع ما صنعوه من الحبال والعصي، وسحروا بها أعين الناس، إن الذي صنعوه ليس إلا سحرا خيالا لا حقيقة له ولا بقاء، ولا يفوز الساحر حيث أتى من الأرض، أو حيث احتال، وأنه لا يحصل مقصوده بالسحر، خيرا كان أو شرا. وإنما أبهم العصا تهويلا لأمرها، وأنها ليست من جنس العصي المعروفة.
فقامت المعجزة، واتضح البرهان، وظهر الحق، وبطل السحر، ودهش الناس الذين ينظرون، وأدرك السحرة أن السحر لا يفعل هذا أبدا، وأن هذا خارج عن طاقة البشر، وأنه من فعل الإله خالق الكون، فآمنوا كما قال تعالى:
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً، قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى أي فلما ألقى
(16/243)
 
 
موسى عصاه، وابتلعت عصيهم وحبالهم، علموا أن فعل موسى ليس من قبيل السحر والحيل، بل هو عن أمر الله القادر على كل شيء، فسجدوا لله وآمنوا برسالة موسى، قائلين: آمنا برب العالمين، رب هارون وموسى، مفضلين الآخرة على الدنيا، والحق على الباطل. قال ابن عباس وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة. وروى عكرمة عن ابن عباس أيضا أنه قال: كانت السحرة سبعين رجلا، أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء. قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجدا، رفعت لهم الجنة، حتى نظروا إليها.
الله أكبر! ففعل الله أعجب وأدهش، والإيمان البسيط سبب للمجد العظيم، والفضل الكبير، والنعم الخالدة في جنان الله. وليس المراد بقوله:
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أنهم أجبروا على السجود، وإلا لما كانوا محمودين، بل إنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا، قال صاحب الكشاف: ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!! وإنما قالوا: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى ولم يقولوا برب العالمين فقط لأن فرعون ادعى الربوبية في قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات 79/ 24] وادعى الألوهية في قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص 28/ 38] فلو أنهم قالوا: آمنا برب العالمين فحسب، لقال فرعون إنهم آمنوا بي، لا بغيري، فاختاروا هذه العبارة لإبطال قوله، والدليل عليه: أنهم قدموا ذكر هارون على موسى لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى لأنه رباه في صغره كما حكى تعالى عنه: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء 26/ 18] .
ثم إن فرعون لما شاهد السجود والإقرار بالله تعالى، خاف متابعة الناس لهم واقتداءهم بهم في الإيمان بالله وبرسوله، فألقى شبهة أخرى في النبي ونبوته، فقال:
(16/244)
 
 
قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي قال فرعون الذي أصر على كفره وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى المعجزة الباهرة، وإيمان من استنصر بهم من السحرة، وهزيمته الساحقة: هل صدقتموه أو صدقتم قوله واتبعتموه على دينه من غير إذن مني لكم بذلك؟ فلم تؤمنوا عن بصيرة وتفكير، إنما أنتم أخذتم السحر عن موسى، فهو معلمكم وأستاذكم، وأنتم تلاميذه، واتفقتم وتواطأتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه وتروجوا لدعوته، كما قال تعالى: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ، لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف 7/ 123] .
أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس، حتى لا يؤمنوا، وإلا فإنه قد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيسا لهم، ولا بينه وبينهم صلة أو مواصلة.
ثم لجأ فرعون إلى التهديد والتنفير عن الإيمان قائلا:
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي أقسم أني لأمثلن بكم، فأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، أي بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو عكسه. قال ابن عباس: فكان أول من فعل ذلك، وهذا تعطيل للمنفعة، وأيضا لأصلبنكم على جذوع النخل، زيادة في الإيلام والتشهير، وإنما اختارها لخشونتها وأذاها، ولتعلمن هل أنا أشد عذابا لكم أو رب موسى؟
وفي هذا تحد لقدرة الله، وتحقير لشأن موسى، وإيماء إلى ماله من سلطة وقهر واقتدار.
ولما صال عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل:
- قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا أي لن
(16/245)
 
 
نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله تعالى، والمعجزات الظاهرة كاليد والعصا، وعلى ما حصل لنا من الهدى واليقين، ولن نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، فهو المستحق للعبادة والخضوع، لا أنت.
- فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي فافعل ما شئت، واصنع ما أنت صانع، إنما لك تسلط ونفوذ علينا في هذه الدنيا التي هي دار الزوال، بما تريد من أنواع القتل، ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، ونحن قد رغبنا في دار القرار.
- إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا، وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي إننا صدقنا بالله ربنا المحسن إلينا، ليتجاوز ويستر ويعفو عن سيئاتنا وآثامنا وذنوبنا، خصوصا ما أجبرتنا عليه من عمل السحر، لنعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه، والله خير لنا منك جزاء وأدوم ثوابا، مما كنت وعدتنا، وأبقى منك عقابا.
ذكر أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين، اثنان من القبط، والباقي من بني إسرائيل، فقالوا لفرعون: أرنا موسى نائما، فرأوه فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بساحر، الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه.
ولم تدل الآيات على تنفيذ فرعون ما هدد به السحرة، ولكن الظاهر أنه نفذ ذلك، لقول ابن عباس المتقدم: أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء بررة.
وتابع السحرة وعظ فرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم، ويرغبونه في ثوابه الأبدي الخالد، فقالوا:
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ، لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي إن من يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم، فعذابه في جهنم، لا يموت فيها ميتة
(16/246)
 
 
مريحة، ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي. وهذا من قول السحرة لما آمنوا، وقيل: ابتداء كلام من الله عز وجل.
ونظير الآية قوله تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر 35/ 36] وقوله سبحانه: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الأعلى 87/ 11- 13] وقوله عز وجل: وَنادَوْا يا مالِكُ، لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف 43/ 77] .
وأخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب، فأتى على هذه الآية، فقال: «أما أهلها الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا بأهلها، فإن النار تميتهم إماتة، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر «1» على نهر، يقال له: نهر الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل» .
وفي الخبر الصحيح: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» .
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى أي ومن يلقى ربه يوم المعاد مؤمن القلب، قد صدق ضميره بقوله وعمله، فعمل الطاعات، فأولئك لهم بإيمانهم وعملهم الصالح الجنة ذات الدرجات والمنازل العالية الرفيعة، والغرف الآمنة، والمساكن الطيبة.
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله تعالى، فاسألوه الفردوس» .
__________
(1) الضبر: الجماعة، جمع ضبور، وضبائر: جمع الجمع.
(16/247)
 
 
وفي الصحيحين: «إن أهل عليين ليرون من فوقهم، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين»
وفي السنن: «وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما» .
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي تلك الدرجات العلى في جنات إقامة تجري من تحت غرفها الأنهار، ماكثين فيها أبدا، وذلك الفوز الذي أحرزوه جزاء من طهر نفسه من دنس الكفر والمعاصي الموجبة للنار، واتبع المرسلين فيما جاؤوا به من عند الله العلي القدير.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1- الأدب الحسن يفيد في الدنيا والآخرة، فلما خير السحرة موسى بين أن يلقي أولا أو يلقوهم، أفادهم ذلك في التوفيق للإيمان. ولما قدمهم موسى في الإلقاء وهم الجمع الكثير، نصره ربه، فالتقمت عصاه التي تحولت حية جميع ما ألقوه من الحبال والعصي، وكان ظهور المعجزة أوقع وأتم وأوضح.
وليس أمر موسى بالإلقاء رضى منه بما هو سحر وكفر إذ لا يقصد منه ظاهر الأمر فلا يكون نفس الإلقاء كفرا ومعصية، وإنما هو وسيلة لما بعده، ليظهر الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة الرسول موسى عليه السلام، ولأن الأمر مشروط بتقدير محذوف هو: ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين. ثم إنه قدمهم في الإلقاء على نفسه، مع أن تقديم إيراد الشبهة على إيراد الحجة غير جائز ليكون إظهار المعجزة سببا لإزالة الشبهة.
(16/248)
 
 
2- خاف موسى عليه السلام من الحيات، حسبما يعرض لطباع البشر، كما خاف لأول مرة حينما كلمه الله بإلقاء عصاه فصارت حية عظيمة. وقيل: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه.
3- أزال الله الخوف عن قلب موسى بقوله له: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي الغالب لهم في الدنيا، وأنت في الدرجات العلى في الجنة، للنبوة والاصطفاء الذي آتاك الله به. وبقوله أيضا: وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العصا التي بيمينك، فإنها بقدرة الله تلتهم كل ما ألقوا، وهي أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء، فإنها تبتلع بإذن الله ما معهم وتمحقه.
4- اختلف الرواة في عدد السحرة، والظاهر كما نقل عن ابن عباس وغيره كالكلبي: أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا، اثنان منهم من القبط، وسبعون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على ذلك. هذا مع العلم بأن ظاهر القرآن لا يدل على شيء من العدد، والمهم أنه لا يفوز ولا ينجو الساحر حيث أتى من الأرض، أو حيث احتال، ولا يحصل مقصوده بالسحر خيرا كان أو شرا، وذلك يقتضي نفي السحر بالكلية.
5- خر السحرة ساجدين لله، لما رأوا من عظيم الأمر وخرق العادة في العصا فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي، وكانت حمل ثلاث مائة بعير، ثم عادت عصا، لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى «1» .
وفي قوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً دلالة على أنه ألقى العصا، وصارت حية، وتلقفت ما صنعوه، وفي التلقف دلالة على أن جميع ما ألقوه تلقفته،
__________
(1) تفسير القرطبي: 11/ 224
(16/249)
 
 
وذلك لا يكون إلا مع عظم جسدها وشدة قوتها. وقد حكي عن السحرة أنهم عند التلقف أيقنوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام ليس من مقدور البشر من وجوه:
أحدها- ظهور حركة العصا على وجه لا يمكن بالحيلة.
وثانيها- زيادة عظمها على وجه لا يتم بالحيلة.
وثالثها- ظهور الأعضاء عليها من العين والمنخرين والفم وغيرها، ولا يتم ذلك بالحيلة.
ورابعها- تلقف جميع ما ألقوه على كثرته، وذلك لا يتم بالحيلة.
وخامسها- عودها خشبة صغيرة كما كانت، ولا يتم شيء من ذلك بالحيلة «1» .
6- قوله: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ فيه دلالة على أن ما مع موسى معجزة إلهية، والذي معهم تمويهات باطلة.
7- آمن السحرة بما رأوه من المعجزة، وعرفوا أن رب موسى وهارون هو الرب الحقيقي المستحق للعبادة، وكان إيمانهم أرسخ من الجبال، فهان عليهم عذاب الدنيا، ولم يأبهوا بتهديد فرعون.
8- لم يملك فرعون إلا أن يعلن بأن موسى كبير السحرة ورئيسهم في التعليم، وأنه إنما غلبهم لأنه أحذق منهم ليشبه على الناس، حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته.
9- ولجأ أخيرا إلى التهديد بالتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف، لتعطيل المنفعة، وضم إليه التصليب للإذلال والإهانة، وزاد في غيه وكفره وعناده أنه أشد عذابا وأدوم أثرا من عذاب رب موسى. وهذا إفك شديد.
__________
(1) تفسير الرازي: 22/ 85
(16/250)
 
 
10- لم يتراجع السحرة عن إيمانهم بالرغم من شدة التهديد والوعيد وقالوا لفرعون: لن نختارك على ما جاءنا من اليقين والعلم، ولا على الذي فطرنا، أي خلقنا، فافعل ما شئت، إنما ينفذ أمرك في هذه الدنيا.
إننا صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى ليغفر الله لنا خطايانا، أي الشرك الذي كانوا عليه، ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر، وثواب الله خير وأبقى.
قال عكرمة وغيره: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم من الجنة فلهذا قالوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ.
وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فقيل لها: غلب موسى وهارون فقالت: آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة، فإن مضت على قولها فألقوها عليها فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء، فأبصرت منزلها في الجنة، فمضت على قولها فانتزعت روحها، وألقيت الصخرة على جسدها، وليس في جسدها روح.
11- استمر السحرة في وعظ فرعون وغيره وتحذيره من عذاب الآخرة وترغيبه في العمل للجنة، فقالوا: إن المجرم يدخل النار، والمؤمن يدخل الجنة، والمجرم: هو الكافر بدليل مقابلته بالمؤمن في الآية التالية: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً.. وصفة الكافر المكذب الجاحد أنه في جهنم لا يموت فيها ولا يحيا. وإذا كان هذا كلام السحرة، فلعلهم سمعوه من موسى أو من بني إسرائيل، إذ كان فيهم بمصر أقوام، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون. ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم، أنطقهم بذلك لما آمنوا.
وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على وعيد أصحاب الكبائر، وقالوا: صاحب الكبيرة مجرم، وكل مجرم فإن له جهنم لقوله: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ومن
(16/251)
 
 
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
الشرطية تفيد العموم. والجواب أن كلمة المجرم كما بينا يراد بها الكافر، بدليل مقابلتها بالمؤمن فيما بعد.
وأما من يموت على الإيمان، ويلقى ربه مصدقا به وبرسله وبالبعث، ويعمل الصالحات، أي الطاعات وما أمر به وما نهي عنه، فله الدرجة الرفيعة التي عجز الوصف عن إدراكها والإحاطة بها. والدرجات العلى هي جنان الخلد والإقامة التي تجري من تحت غرفها وسررها الأنهار من الخمر والعسل واللبن والماء، ماكثين دائمين، وذلك جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي.
 
- 10- إغراق فرعون وجنوده في البحر ونعم الله على بني إسرائيل
 
[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
 
الإعراب:
طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً يَبَساً صفة طَرِيقاً وهو مصدر، فهو إما أن يكون بمعنى: ذا يبس، فحذف المضاف، أو جعل الطريق اليبس نفسه.
(16/252)
 
 
لا تَخافُ دَرَكاً جملة فعلية في موضع نصب على الحال، أي غير خائف، مثل: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر 74/ 6] أي مستكثرا. ومن قرأ لا تخف جزمه جوابا لقوله: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً.
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، والمفعول الثاني محذوف، أي فأتبعهم فرعون عقوبته بجنوده، أي معه جنوده.
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي من ماء اليم، وما غَشِيَهُمْ: في موضع رفع فاعل، وكان حق الكلام: فغشيهم من ماء اليم شدته. فعدل إلى لفظه ما لما فيها من الإبهام، تهويلا للأمر، وتعظيما للشأن لأنه أبلغ من التعيين، فيكون أبلغ تخويفا وتهديدا.
وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ جانِبَ الطُّورِ مفعول ثان لواعدناكم، والتقدير:
واعدناكم إتيان جانب الطور الأيمن، ثم حذف المضاف. والْأَيْمَنَ صفة جانب.
وَعَمِلَ صالِحاً صفة لموصوف محذوف، أي: وعمل عملا صالحا، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.
 
البلاغة:
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ تهويل.
وَأَضَلَّ وَما هَدى طباق بينهما.
فَقَدْ هَوى استعارة، استعار لفظ الهوي: وهو السقوط من علو إلى سفل للهلاك والدمار.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ صيغة مبالغة، أي كثير المغفرة للذنوب.
 
المفردات اللغوية:
أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ليلا من مصر، والسري والإسراء: السير ليلا فَاضْرِبْ لَهُمْ اجعل لهم بعصاك يَبَساً أي طريقا يابسا، لا ماء فيه، فامتثل ما أمر به، وأيبس الله الأرض في قاع البحر، فمروا فيها لا تَخافُ دَرَكاً أو دركا، أي إدراكا ولحوقا وَلا تَخْشى ولا تخاف غرقا فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ حذف المفعول الثاني، أي فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده.
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ فغمرهم وعلاهم من ماء البحر ما علاهم، فأغرقهم، والضمير: له ولهم. وفيه مبالغة وتهويل وإيجاز، أي غشيهم ما سمعت قصته ولا يعرف كنهه إلا الله وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أي أضلهم في الدين وما هداهم بدعوتهم إلى عبادته، وإيقاعهم في الهلاك، خلافا
(16/253)
 
 
لقوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر 40/ 29] فمعنى أَضَلَّهُمُ: سلك بهم طريقا إلى الخسران في دينهم ودنياهم، إذ أغرقوا فأدخلوا نارا. ومعنى وَما هَدى: وما أرشدهم طريقا يؤدي بهم إلى السعادة.
أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون بإغراقه الْأَيْمَنَ أي عن يمين من يأتي من الشام إلى مصر، لإنزال التوراة، للعمل بها، وقرئ الأيمن بالجر على الجوار الْمَنَّ نوع من الحلوى يسمى الترنجبين وَالسَّلْوى طائر هو السماني، وكلاهما في التيه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ لذائذه أو حلالاته مما أنعمنا به عليكم وَلا تَطْغَوْا فِيهِ بأن تكفروا النعمة به، وتخلوا بشكره، وتتعدوا لما حد الله لكم فيه، كالسرف والبطر والمنع عن المستحق فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي بكسر الحاء: أي فيجب ويلزمكم عذابي، وبضمها: أي ينزل وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ بكسر الحاء وضمها فَقَدْ هَوى سقط من النار وهلك.
لَغَفَّارٌ كثير المغفرة وستر الذنوب لِمَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ وحد الله وآمن بما يجب الإيمان به وَعَمِلَ صالِحاً عمل الفرائض والنوافل ثُمَّ اهْتَدى ثم استقام على الهدى المذكور إلى موته.
 
المناسبة:
بعد بيان الانتصار الساحق لموسى عليه السلام على السحرة، أبان الله تعالى طريق الخلاص بين فرعون الطاغية وقومه وبين بني إسرائيل، فأغرق الله فرعون وجنوده في البحر، حين تبعوا موسى وقومه، لما خرج من مصر إلى الطور، وذلك بمعجزة العصا التي ضرب بها موسى البحر، فأحدث فيه بقدرة الله طريقا يبسا، بالرغم من الآيات المفصلة التي حدثت على يد موسى في مدى عشرين سنة حسبما ذكر في سورة الأعراف.
وأنقذ الله بني إسرائيل الذين أنعم الله عليهم بأنواع من النعم الدينية والدنيوية وأهمها إزالة المضرة، فاقتضى تذكيرهم إياها، وابتدأ بالمنفعة الدنيوية بقوله: أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وهو إشارة إلى إزالة الضرر، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية بقوله: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وهو إنزال التوراة كتاب دينهم ومنهاج شريعتهم، ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية بقوله: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ
(16/254)
 
 
الْمَنَّ وَالسَّلْوى، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
ثم زجرهم عن العصيان بقوله:
وَلا تَطْغَوْا فِيهِ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ثم بيان قبول توبة العاصي بقوله:
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ.
 
التفسير والبيان:
أمر الله موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل، وينقذهم من قبضة فرعون، فقال:
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ، يَبَساً، لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى أي ولقد أوحينا إلى النبي موسى أن يسير ببني إسرائيل من مصر ليلا، دون أن يشعر بهم أحد، وأمرناه أن يتخذ أو يجعل لهم طريقا يابسا في وسط البحر (بحر القلزم أو البحر الأحمر) وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين.
وأشعرناه بالأمان والنجاة، فقلنا له: أنت آمن لا تخاف أن يدركك وقومك فرعون وقومه، ولا تخشى أن يغرق البحر قومك، أو لا تخاف إدراك فرعون ولا تخشى الغرق بالماء.
والتعبير عن بني إسرائيل بكلمة بِعِبادِي دليل على العناية بهم، وأنهم كانوا حينئذ قوما صالحين، وإيماء بقبح صنع فرعون بهم من الاستعباد والظلم.
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي تبعهم فرعون ومعه جنوده، فغشيهم من البحر ما غشيهم مما هو معروف ومشهور، فغرقوا جميعا. وتكرار غَشِيَهُمْ للتعظيم والتهويل.
وأما تورط فرعون الداهية الذكي في متابعة موسى فكان بسبب أنه أمر مقدمة عسكره بالدخول، فدخلوا وما غرقوا، فغلب على ظنه السلامة، فلما دخل الكل أغرقهم الله تعالى.
(16/255)
 
 
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى أي أضل فرعون قومه عن سبيل الرشاد، وما هداهم إلى طريق النجاة حينما سلك بهم في الطريق الذي سلكه بنو إسرائيل في وسط البحر.
ثم بدأ الله تعالى يعدد نعمه على بني إسرائيل، مقدما إزالة المضرة على جلب المنفعة، وهو ترتيب حسن معقول لأن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» فقال:
1- يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ أي قلنا لهم بعد إنجائهم:
يا بني إسرائيل، قد أنجيناكم من عدوكم: فرعون، الذي كان يذبح أبناءكم ويستحيي نساءكم، وأقررنا أعينكم منهم، حين أغرقتهم وأنتم تنظرون إليهم، فقد غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم أحد، كما في آية أخرى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة 2/ 50] وهو إشارة إلى إزالة الضرر.
2- وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي جعلنا لكم ميقاتا وهو موعد تكليم موسى بحضرتكم، وإنزال التوراة ذات الشريعة المفصلة، وأنتم تسمعون الكلام الذي يخاطبه به رب العزة. وكان مكان الموعد جانب جبل الطور الأيمن، وهو جبل في سيناء. قال المفسرون: ليس للجبل يمين ولا يسار، بل المراد أن طور سيناء عن يمين من انطلق من مدين إلى مصر.
3- وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي وأنزلنا عليكم المن والسلوى وأنتم في التيه، أما المن: فهو حلوى كانت تنزل عليهم من الندى من السماء، من الفجر إلى طلوع الشمس، على الحجارة وورق الشجر. وأما السلوى: فهو طائر السماني الذي تسوقه ريح الجنوب، فيأخذ كل واحد منكم ما يكفيه.
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي وقلنا لهم: أنعموا بالأكل من تلك الطيبات المستلذات من الأطعمة الحلال.
(16/256)
 
 
وَلا تَطْغَوْا فِيهِ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أي ولا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز، ولا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين، ولا تأخذوا من الرزق من غير حاجة، وتخالفوا ما أمرتكم به من البعد عن السرف والبطر وارتكاب المعاصي والاعتداء على الحقوق، فينزل بكم غضبي، وعقوبتي.
وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى أي ومن ينزل به غضبي فقد شقي وهلك.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى أي وإني لستار وذو مغفرة شاملة لمن تاب من الذنوب، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل عملا صالحا مما ندب إليه الشرع وحسنه، ثم استقام على ذلك حتى يموت. وفي التعبير ب ثُمَّ اهْتَدى دلالة على وجوب الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة، حتى يستمر عليه في المستقبل، ويموت عليه، ويؤكده قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت 41/ 30] وكلمة ثُمَّ هنا للتراخي، وليست لتباين المرتبتين، بل لتباين الوقتين، فكأنه تعالى قال: الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، مما قد يحدث أحيانا لكل أحد، ولا صعوبة في ذلك، إنما الصعوبة في المداومة والاستمرار على المطلوب.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت هذه الآيات إلى ما يأتي:
1- تفضل الله على بني إسرائيل بإنقاذهم وإنجائهم من ظلم فرعون وقومه، فأوحى الله إليه أن يتخذ لهم طريقا يابسا في البحر لا طين فيه ولا ماء، بأن ضربه بعصاه، فانشق، وجف بما هيأ الله له من الأسباب كالرياح، فأضحى لا يخاف لحاقا من فرعون وجنوده، ولا يخشى غرقا من البحر.
(16/257)
 
 
2- تورط فرعون بعد أن أرسل فريقا من عسكره وراء بني إسرائيل في البحر، فلما لم يغرقوا، أمر جنوده بالمسيرة بقيادته، فتبعهم ليلحقهم مع جنوده، فأطبق عليهم البحر، ولم ينج أحد.
3- كان فرعون شؤما على نفسه وعلى قومه، فإنه أضلهم عن الرشد، وما هداهم إلى خير ولا نجاة لأنه قدر أن موسى عليه السلام ومن معه لا يفوتونه لأن بين أيديهم البحر.
فلما ضرب موسى البحر بعصاه انفلق منه اثنا عشر طريقا، وكان الماء بين الطرق قائما كالجبال، كما قال تعالى: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء 26/ 63] أي الجبل الكبير، فأخذ كل سبط من أسباط بني إسرائيل طريقا.
وأوحى الله إلى أطواد الماء بالتشبك، فصارت شبكات يرى بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم كلام بعض، فكان هذا من أعظم المعجزات، وأكبر الآيات. فلما أقبل فرعون، ورأى الطرق في البحر، والماء قائما، أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته، فدخل هو وأصحابه، فانطبق البحر عليهم. وهذا كله يحتاج إلى الإيمان بقدرة الله.
4- أنعم الله على بني إسرائيل بنعم كثيرة، ذكر منها هنا ثلاثا، وهي الإنجاء من آل فرعون، والمواعدة: إتيان جانب الطور، وإنزال المن والسلوى في التيه.
5- إن النعم تقتضي الحفظ والشكر، فقد يسر الله لهم الأكل من طيبات الرزق الحلال ولذيذه الذي لا شبهة فيه، فما عليهم إلا حفظ النعمة، فلا يؤخذ منها أكثر من الحاجة، وشكرها، فلا تؤدي إلى السرف والبطر والمعصية، وهذا هو الطغيان، أي التجاوز إلى ما لا يجوز.
(16/258)
 
 
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
6- إن جحود النعمة يوجب حلول غضب الله ونزوله، ومن نزل به غضب الله وعقابه ونقمته وعذابه، فقد شقي وهلك وهوى، أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار.
7- الله غفور على الدوام لمن تاب من الشرك والكفر والمعصية، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل صالح الأعمال بأداء الفرائض والطاعات، واجتنب المعاصي، ثم أقام على إيمانه حتى مات عليه.
 
- 11- تكليم الله موسى في الميقات وفتنة السامري بصناعة العجل إلها
 
[سورة طه (20) : الآيات 83 الى 89]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)
(16/259)
 
 
الإعراب:
وَما أَعْجَلَكَ ... ما مبتدأ، وأَعْجَلَكَ خبره، وفيه ضمير يعود إلى ما وتقديره: أي شيء أعجلك؟.
يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً وَعْداً إما منصوب على المصدر، تقول: وعدته وعدا، كضربته ضربا، وإما أن يكون الوعد بمعنى الموعود، كالخلق بمعنى المخلوق، فيكون مفعولا به ثانيا ل يَعِدْكُمْ على تقدير حذف مضاف، أي تمام وعد حسن.
ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا بالفتح: هو اسم أي بإصلاح ملكنا ورعايته، ومن ضم الميم جعله مصدر «ملك» يقال: ملك بين الملك، ومن كسر الميم جعله مصدر «مالك» يقال: مالك بين الملك، والمصدر هنا مضاف إلى الفاعل.
فَنَسِيَ الفاعل إما السَّامِرِيُّ أي نسي طاعتنا وتركها، والنسيان بمعنى الترك، قال تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة 9/ 67] أي تركوا طاعة الله فتركهم في النار، وإما الفاعل مُوسى أي ترك موسى ذلك وأعرض عنه، والأول أوجه.
أَلَّا يَرْجِعُ «أن» مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف: أنه.
 
المفردات اللغوية:
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ لمجيء ميعاد أخذ التوراة، وهو يدل على تقدم قومه في المسير إلى المكان، وهو سؤال عن سبب العجلة، يتضمن إنكارها، من حيث إنها نقيصة في نفسها، انضم إليها إغفال القوم، وإيهام التعظم عليهم، فأجاب موسى عن الأمرين، وقدم جواب الإنكار لأنه أهم فقال: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي ما تقدمتهم إلا بخطي يسيرة لا يعتد بها عادة، وهم قادمون ورائي، ليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة، يتقدم الرفقة بها بعضهم بعضا. ثم قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى عني، أي زيادة على رضاك، فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك يوجب مرضاتك. وقبل الجواب أتى بالاعتذار بحسب ظنه. يقال: جاء على أثره: أي لحقه بلا تأخير.
قال تعالى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي ابتليناهم واختبرناهم بعبادة العجل، بعد فراقك لهم، وأضلهم موسى السامري: أي أوقعهم في الضلال والخسران، باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته. وهم الذين خلفهم مع هارون، وكانوا ست مائة ألف، ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. وقرئ: وأضلهم السامري، أي أشدهم ضلالة لأنه كان ضالا مضلا.
والسامري: منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة.
(16/260)
 
 
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد ما استوفى الأربعين ليلة وأخذ التوراة غَضْبانَ عليهم أَسِفاً شديد الحزن بما فعلوا وَعْداً حَسَناً أي صدقا أنه يعطيكم التوراة فيها هدى ونور أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي زمان الإنجاز، يعني زمان مفارقته لهم أَنْ يَحِلَّ يجب عليكم غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ بعبادتكم العجل فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله، والقيام بما أمرتكم به، وتركتم المجيء بعدي.
بِمَلْكِنا مثلث الميم أي بقدرتنا واختيارنا وأمرنا، إذ لو خلينا وأمرنا ولم يسول علينا السامري، لما أخلفنا موعدك وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ وقرئ: وحملنا، وأَوْزاراً أثقالا، وزينة القوم أي حلي قوم فرعون، أي حملنا أحمالا من حلي القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر، باسم العروس فَقَذَفْناها طرحناها في النار بأمر السامري فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي كما ألقينا فكذلك ألقى السامري ما كان معه منها أي من حليهم ومن التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبريل.
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً أي صاغ من تلك الحلي المذابة عجلا جثة لا روح فيها لَهُ خُوارٌ الخوار: صوت العجل، والمراد هنا صوت يسمع بسبب التراب الذي يكون أثره الحياة فيما يوضع فيه، وقد وضعه في فم العجل بعد صوغه.
فَقالُوا أي السامري وأتباعه فَنَسِيَ أي نسي السامري وترك ما كان عليه من إظهار الإيمان، وقيل في زعم السامري: نسي موسى ربه هنا، وذهب يطلبه عند الطور.
أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا ألا يرد العجل لهم جوابا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي لا يقدر على دفع ضر عنهم ولا جلب نفع لهم، فكيف يتخذ إلها؟!
 
المناسبة:
بعد تعداد النعم على بني إسرائيل، أردف هذا بقصة الكلام الذي جرى بينه تعالى وبين موسى في الميقات بحسب المواعدة التي واعده بها ربه سابقا، ثم أعقبه ببيان فتنة السامري لبني إسرائيل باختراع العجل من الذهب، وجعله إلها، يصدر صوتا حينما تهب رياح معينة، فتحرك التراب الذي في فمه، فوبخهم الله بأن هذا العجل لا يجيب سائله، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا.
وتجاوب بني إسرائيل في تأليه العجل وعبادته نابع من ميلهم إلى الوثنية
(16/261)
 
 
أثناء مخالطة المصريين، بدليل أنه لما نجاهم الله من طغيان فرعون، طلبوا من موسى نفسه عليه السلام أن يصنع لهم تمثالا ليعبدوه، كما قال تعالى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ، فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ، قالُوا: يا مُوسَى، اجْعَلْ لَنا إِلهاً، كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف 7/ 138] .
 
التفسير والبيان:
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أي ما حملك على أن تسبقهم، والقوم:
هم بنو إسرائيل، والمراد بهم هنا النقباء السبعون، أي ما الذي حملك على العجلة حتى تركت النقباء وخرجت من بينهم.
وذلك أن الله وعد موسى باللقاء في جبل الطور بعد هلاك فرعون، ليعطيه الألواح التي فيها الوصايا الدستورية لبني إسرائيل. فلما أهلك الله فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما، ثم زيدت إلى أربعين يوما:
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ، فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف 7/ 142] .
وكانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه، فاختار موسى منهم سبعين رجلا: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا [الأعراف 7/ 155] وهم النقباء السبعون الذين اختارهم، فسار موسى بهم، ثم عجل من بينهم شوقا إلى ربه، أي لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله، فقال الله له:
ما أعجلك؟ أي ما الذي حملك على العجلة حتى تركت قومك وخرجت من بينهم؟.
وهذا الإنكار إنكار للعجلة في ذاتها لما فيها من عدم العناية بصحبه لأن من شرط المرافقة الموافقة، وهو تعليم للأدب الحسن الرفيع في المصاحبة.
(16/262)
 
 
قالَ: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي، وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي قال موسى مجيبا ربه: هم بالقرب مني، واصلون بعدي، وما تقدمتهم إلا بخطإ يسيرة، وسارعت إليك رب لتزداد عني رضا بمسارعتي إلى الوصول إلى مكان الموعد، امتثالا لأمرك، وشوقا إلى لقائك. فهو عليه السلام يعتذر بالخطإ في الاجتهاد.
قالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي قال الله تعالى: إنا قد اختبرنا قومك بني إسرائيل من بعد فراقك لهم، وهم الذين تركهم مع أخيه هارون، وجعلهم موسى السامري في ضلالة عن الحق، باتخاذهم عبادة العجل من ذهب.
والسامري من قبيلة السامرة، أو من قوم يعبدون البقر، والأكثرون أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة السامرة، قال لمن معه من بني إسرائيل: إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه وهو عشر ليال، لما صار معكم من الحلي، وهي حرام عليكم، وأمرهم بإلقائها في النار، وكان منها العجل، الذي يصدر منه صوت أحيانا بفعل تأثير الرياح.
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً أي فعاد موسى إلى قومه بني إسرائيل بعد انقضاء الليالي الأربعين، شديد الغضب والحنق، والأسف والحزن والجزع.
قالَ: يا قَوْمِ، أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً؟ أي قال موسى: يا قوم أما وعدكم ربكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة، من إنزال الكتاب التشريعي العظيم لتعملوا به، والنصر على عدوكم، وتملككم أرض الجبارين وديارهم، والثواب الجزيل في الآخرة بقوله المتقدم: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى.
(16/263)
 
 
أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أي هل طال عليكم الزمان في انتظار وعد الله ونسيان ما سلف من نعمه، ولم يمض على ذلك من العهد غير شهر وأيام، أَمْ (أي بل «1» ) أردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم غضب ونقمة وعقوبة من ربكم؟ فأخلفتم وعدي، إذ وعدتموني أن تقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن أرجع إليكم من الطور. يعني هل طال العهد عليكم فنسيتم أو أردتم المعصية فأخلفتم؟.
قالُوا: ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي أجابوه قائلين: ما أخلفنا عهدك ووعدك باختيارنا وقدرتنا، بل كنا مضطرين إلى الخطأ. وهذا إقرار منهم بالمعصية والوقوع في الفتنة بتسويل السامري وغلبته على عقولهم، كما قال تعالى:
وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ، فَقَذَفْناها، فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي ولكن حملنا أثقالا من زينة القوم أي القبط المصريين، حين خرجنا من مصر معك، وأوهمناهم أننا نجتمع في عيد لنا أو وليمة. وسميت أوزارا أي آثاما لأنه لا يحل لهم أخذها. وقال السامري لهم: إنما حبس موسى عنكم بشؤم حرمتها، ثم أمرنا أن نحفر حفرة، ونملأها نارا، وأن نقذف الحلي فيها، فقذفناها، أي فطرحناها في النار طلبا للخلاص من إثمها، فمثل ذلك قذف السامري ما معه، وصاغ من الحلي عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول جبريل.
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أي فأخرج السامري لبني إسرائيل من الذهب الملقى في النار (الأوزار) جسد عجل لا روح ولا حياة فيه، له خوار العجول لأنه صنعه بطريقة معينة، عمل فيه خروقا، وألقى فيه رملا من أثر جبريل، فكان إذا دخلت الريح في جوفه خار. والخوار: صوت البقر.
__________
(1) بل: للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني، كأنه يقول: بل أردتم.. إلخ.
(16/264)
 
 
فَقالُوا: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى، فَنَسِيَ أي قال السامري ومن فتن به:
هذا هو إلهكم وإله موسى، فاعبدوه، ولكن موسى نسي أن يخبركم أن هذا إلهكم.
فرد الله تعالى عليهم مقرعا لهم ومسفها عقولهم، فقال:
أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرد عليهم جوابا، ولا يكلمهم إذا كلموه، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضررا، أو يجلب لهم نفعا، فكيف يتوهمون أنه إله؟!.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل الآيات على ما يأتي:
1- تعجل موسى عليه السلام سابقا قومه النقباء السبعين شوقا للقاء ربه وسماع كلامه، باجتهاد منه، ولكنه أخطأ في ذلك الاجتهاد، فاستوجب العتاب.
ثم إن العجلة وإن كانت في الجملة مذمومة، فهي ممدوحة في الدين، قال تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران 3/ 133] .
وكنى موسى عن ذكر الشوق وصدقه بابتغاء الرضا، قائلا: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني.
2- اختبر الله بني إسرائيل في غيبة موسى عليه السلام، ليتبين القائمين على أمر الله عز وجل، واعتقاد توحيده، والتزام شريعته، تبين انكشاف وظهور لأن الله عالم بالجميع.
3- لقد أضلهم السامري، أي دعاهم إلى الضلالة، أو هو سببها.
(16/265)
 
 
4- حق لموسى عليه السلام أن يعود إلى قومه شديد الغضب والأسى بسبب ما أحدثوا بعده من عبادة العجل.
5- بادر موسى إلى عتاب قومه بتذكيرهم بنعم الله عز وجل عليهم، ومنها إنجاؤهم من فرعون وجنوده، ووعدهم بالجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى، ليعملوا بما فيها، فيستحقوا ثواب عملهم. وقوله: أَلَمْ يَعِدْكُمْ يدل على أنهم كانوا معترفين بالإله، لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبدة الأصنام.
6- لا عذر لهم في نقض العهد الذي لم يطل أمره، ولكنهم أرادوا العصيان وإحداث الأعمال التي تكون سبب حلول غضب الله بهم، وأخلفوا الوعد مع موسى أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور.
7- اعتذروا لموسى عليه السلام بأنهم كانوا مضطرين إلى خلف الموعد، ونقض العهد، وذلك للتخلص من آثام الحلي التي كانوا قد أخذوها من القبط المصريين، حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة، فألقوها في النار لتذوب.
8- لما ذابت الحلي في النار، أخذها السامري، وصاغ لهم منها عجلا، ثم ألقى عليه قبضته من أثر فرس جبريل عليه السلام، فصار عجلا جسدا له خوار.
9- زيف السامري الحقائق، ودلس على بني إسرائيل، وقال لهم مع أتباعه الذين كانوا ميالين إلى التجسيم والتشبيه إذ قالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف 7/ 138] : هذا إلهكم وإله موسى الذي نسي أن يذكر لكم أنه إلهه.
10- سفه الحق تعالى أحلامهم وعاب تفكيرهم، وقال لهم: أفلا يعتبرون
(16/266)
 
 
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
ويتفكرون في أن هذا العجل لا يكلمهم، ولا يملك لهم ضرا يدفعه عنهم ولا نفعا يجلبه لهم، فكيف يكون إلها؟!.
أما الذي يعبده موسى عليه السلام فهو يضر وينفع ويعطي ويمنع.
11- دل قوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ.. على وجوب النظر في معرفة الله تعالى، كما في آية أخرى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [الأعراف 7/ 148] . وهو قريب في المعنى من قوله تعالى في ذم عبدة الأصنام:
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الأعراف 7/ 195] .
 
- 12- معاتبة موسى لهارون على تأل