التفسير المنير للزحيلي 005

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج
المؤلف : د وهبة بن مصطفى الزحيلي
 
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
وحجمها العظيم فهو كرة بدليل تثبيتها في الآية هنا بالجبال الرّواسي، وكذلك في آية أخرى: وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النّبأ 78/ 7] . وبدليل تكوير الليل على النّهار، والنّهار على الليل، والتّكوير: اللف على الجسم المستدير.
4- قال القرطبي عن آية وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ: في هذا أدلّ دليل على وحدانيته تعالى وعظم صمديته، والإرشاد لمن ضلّ عن معرفته فإنه سبحانه نبّه بقوله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ على أن ذلك كلّه ليس إلا بمشيئته وإرادته، وأنه مقدور بقدرته، وهذا أدلّ دليل على بطلان القول بالطّبع (الطّبيعة) إذ لو كان ذلك بالماء والتّراب والفاعل له الطّبيعة، لما وقع الاختلاف «1» .
5- الدّعوة القويّة، بل الفريضة والإيجاب لإعمال الفكر والعقل، والاسترشاد بما في الكون من دلائل وعلامات واضحة على وجود الله تعالى، وكمال قدرته، وعلمه، ووحدانيته.
6- قال الحسن البصري في آية: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ:
المراد بهذه الآية المثل ضربه الله تعالى لبني آدم، أصلهم واحد، وهم مختلفون في الخير والشّرّ والإيمان والكفر، كاختلاف الثّمار التي تسقى بماء واحد.
 
إنكار المشركين البعث واستعجالهم العذاب ومطالبتهم بإنزال آية مادية على النّبي صلّى الله عليه وسلّم
 
[سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)
__________
(1) تفسير القرطبي: 9/ 281
(13/109)
 
 
الإعراب:
فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، ولا بد فيه من تقدير صفة لتمكن المعنى أي فعجب أي عجب أو فعجب غريب.
أَإِذا عامل «إذا» : فعل مقدر دلّ عليه معنى الكلام، أي: أنبعث إذا كنا ترابا لأن في قوله: لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ دليلا عليه، ولا يجوز أن يعمل فيه: كُنَّا لأن «إذا» مضافة إليها، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولأنهم لم ينكروا كونهم ترابا، وإنما أنكروا البعث بعد كونهم ترابا.
وقوله أَإِذا كُنَّا إلى آخر قولهم: إما بدل مرفوع من قَوْلُهُمْ وإما منصوب بالقول.
والاستفهامان: أَإِذا وأَ إِنَّا للتأكيد وشدة الحرص على البيان.
عَلى ظُلْمِهِمْ محله النّصب على الحال.
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أَنْتَ: مبتدأ، وخبره: مُنْذِرٌ.
وهادٍ: معطوف على مُنْذِرٌ، فتكون اللام في لِكُلِّ متعلقة بمنذر أو بهاد، وقد فصل بين الواو والمعطوف بالجار والمجرور، وتقديره: إنما أنت منذر وهاد لكل قوم. ويجوز أن يكون هادٍ مبتدأ، ولِكُلِّ قَوْمٍ: الخبر، واللام متعلقة باستقر.
 
البلاغة:
بين بِالسَّيِّئَةِ والْحَسَنَةِ وبين مُنْذِرٌ وهادٍ طباق.
 
المفردات اللغوية:
وَإِنْ تَعْجَبْ يا محمد من تكذيب الكفار لك وعبادتهم ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام والأوثان. فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أي فأعجب منه، أو فعجب غريب أو فحقيق بالعجب تكذيبهم
(13/110)
 
 
بالبعث وإنكارهم له. والعجب: تغير النّفس واندهاشها حين رؤية ما يستبعد في العادة. أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ هذا استفهام إنكاري، ينكرون فيه إمكان إعادة الخلق بالبعث، وفاتهم أن القادر على إنشاء الخلق وما تقدم على غير مثال قادر على إعادتهم.
الْأَغْلالُ جمع غل: وهو طوق حديدي تشد به اليدان إلى العنق. بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بالعذاب قبل السّلامة. الْمَثُلاتُ جمع مثلة بوزن سمرة: وهي العقوبة، أي مضت عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لم يعتبروا بها، فلا يستهزءوا. وسميت مثلة لما بين العقاب والجريمة من المماثلة، كما قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشّورى 42/ 40] ومنه سمي عقاب القاتل قصاصا، لما فيه من المماثلة. مَغْفِرَةٍ الغفر والمغفرة: السّتر، بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة. عَلى ظُلْمِهِمْ أي مع ظلمهم، وإلا لم يترك على ظهرها دابة. لَشَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه.
أُنْزِلَ عَلَيْهِ هلا أنزل على محمد. آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ آية حسية كقلب عصا موسى حية، وجعل يده بيضاء مشعة كالشمس، وناقة صالح. مُنْذِرٌ مخوف الكافرين، وليس عليك إتيان الآيات، والإنذار: التخويف. وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ الهادي: الذي يرشد النّاس إلى الخير والحق والصواب كالأنبياء والحكماء والعلماء، أي لكل قوم نبي يدعوهم إلى ربهم بما يعطيه إياهم من الآيات، لا بما يقترحون، وهو مدعم عادة بمعجزة من جنس ما هو الغالب عليهم.
 
المناسبة:
أقام الله تعالى في الآيات السّابقة الأدلة السّماوية والأرضية على قدرته، ليثبت للناس أن من كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة، كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته، لأن القادر على الأقوى الأكمل، فإنه قادر بالأولى على الأقل الأضعف: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الأحقاف 46/ 33] .
ثم حكى هنا إنكار المشركين للبعث والقيامة، وأتبعه بحكاية حماقة أخرى وهي استعجالهم العذاب، وأردفه بطلباتهم إنزال آيات حسية للتعجيز.
 
التفسير والبيان:
وإن تعجب أيها الرّسول من تكذيب هؤلاء المشركين لك، وعبادتهم
(13/111)
 
 
ما لا يضر وما لا ينفع من الأصنام، مع ما يشاهدونه من آيات الله تعالى ودلائله في خلقه على أنه القادر على ما يشاء، ومع اعترافهم من أنه ابتدأ خلق الأشياء، فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، إن تعجب من ذلك، فالأعجب منه والأغرب تكذيبهم بالبعث والقيامة، وقولهم: هل تمكن الإعادة بعد الفناء والبلى والصيرورة ترابا؟ وقد تكرر منهم هذا الاستفهام الإنكاري في أحد عشر موضعا، في تسع سور من القرآن: في الرعد، والإسراء، والمؤمنون، والنّحل، والعنكبوت، والسّجدة، والصافات، والواقعة، والنّازعات.
مع أن كل عالم وعاقل يعلم أن خلق السّموات والأرض أكبر من خلق النّاس، وأن من بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف 46/ 33] .
ثم حكم الله تعالى حكمه عليهم بأحكام ثلاثة بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أي أولئك الكافرون الذين جحدوا بربهم، وكذبوا رسوله، وتمادوا في عنادهم وضلالهم لأن إنكار قدرة الله تعالى إنكار له. وهذا يدل على أن كل من أنكر البعث والقيامة، فهو كافر.
وأولئك المقيدون بالسلاسل والأغلال يسحبون بها، قال أبو حيان:
والظاهر أن الأغلال تكون حقيقية في أعناقهم كالأغلال «1» ، كما قال: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر 40/ 71] وهذا حقيقة، وحمل الكلام على الحقيقة أولى.
وهم أصحاب النّار الخالدون فيها في الآخرة بقوله: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ..
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 366
(13/112)
 
 
أي وأولئك أهل النّار الملازمون لها، المستحقون دخولها، الماكثون فيها أبدا لا يحولون عنها ولا يزولون بسبب كفرهم وإنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول: كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين 83/ 14] والمراد بذلك التهديد بالعذاب المخلد المؤبد. وهذا يدل على أن العذاب المخلد ليس إلا للكفار بهذه الآية.
ولم يقتصر تكذيبهم الرسول على إنكار عذاب الآخرة، وإنما أنكروا أيضا عذاب الدّنيا، فقال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ أي ويستعجلك هؤلاء المكذبون بالعقوبة قبل السّلامة منها والعافية من بلائها، كما قال تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج 70/ 1] وقال: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال 8/ 32] وقال:
وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص 38/ 16] أي عجّل لنا عقابنا وحسابنا.
وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم، وبعبارة أخرى: ويستعجلونك بالعقاب مستهزئين بإنذارك، والحال أنه قد مضت العقوبات النّازلة على أمثالهم من المكذبين، كالرجفة والخسف والطوفان ونحوها.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ.. أي إنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس على ذنوبهم، مع أنهم يظلمون، ويخطئون باللّيل والنّهار، ولولا حلمه وعفوه لعجل لهم العذاب فور ارتكاب الذنب، كما قال: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا، ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر 35/ 45] وقال: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف 18/ 58] .
(13/113)
 
 
والخلاصة: إن الله يغفر للنّاس مع ظلمهم أنفسهم باكتساب الذنوب، أي ظالمين أنفسهم، قال ابن عباس: ليس في القرآن آية أرجى من هذه.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ أي وإنه تعالى شديد العقاب للعصاة.
ويلاحظ أنه تعالى قرن حكم المغفرة والرحمة بأنه شديد العقاب، كما هو شأن القرآن كثيرا، ليعتدل الرجاء والخوف، وليكون الإنسان بين الأمل والحذر، كما قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام 6/ 147] وقال: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر 15/ 49- 50] وقال: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف 7/ 167] ونحو ذلك من الآيات التي تجمع بين الرجاء والخوف.
روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيّب قال: لما نزلت هذه الآية: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه، ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتّكل كل أحد» .
ثم ذكر الله تعالى ما طالب به المشركون النّبي صلّى الله عليه وسلّم من معجزة حسية كالأنبياء السّابقين بقصد التعجيز والإصرار على الكفر والطعن في النّبوة والتشكيك في صحتها فقال: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي يقول المشركون كفرا وعنادا:
لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون، مثل عصا موسى، وناقة صالح، ومائدة عيسى، فيجعل لنا الصفا ذهبا، وأن يزيح عنا الجبال، ويجعل مكانها مروجا وأنهارا.
فرد الله عليهم الشّبهة بآية أخرى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء 17/ 59] أي نخشى تطبيق العقاب على المكذبين، فإن
(13/114)
 
 
سنتنا أن من لم يؤمن بالآيات المنزلة بعد طلبها، أهلكناهم ودمرناهم بذنوبهم.
وهنا أعرض البيان عن الجواب عن قول المشركين، إلى توضيح مهمة الرسول التي أرسل بها وهي الهداية والإنذار، لا تلبية الطلبات، فقال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي إنما أنت رسول عليك أن تبلغ رسالة الله التي أمرك بها، وأما الآيات فأمرها إلى الله، كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] .
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أي ولكل أمة أو قوم داع من الأنبياء، يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى الدّين الحق، وسبيل الخير والرشاد، كما في آية أخرى:
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر 35/ 24] .
ويصح أن يكون هادٍ معطوفا على مُنْذِرٌ وفصل بينهما بقوله لِكُلِّ قَوْمٍ أي أنت منذر وهاد لكل قوم، وبه قال عكرمة وأبو الضحى.
والخلاصة: إن الآية نزلت في المشركين والكفار الذين لم يعتدوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر، وانقياد الشّجر، وانقلاب العصا سيفا، ونبع الماء من بين الأصابع، وأمثال هذه، فاقترحوا عنادا آيات، كالمذكورة في الإسراء والفرقان كتفجير الينبوع والرقي في السّماء والملك والكنز، فقال الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم:
إنما أنت منذر تخوفهم من سوء العاقبة، وناصح كغيرك من الرسل، ليس لك الإتيان بما اقترحوا، فالاقتراح إنما هو عناد، ولم ينزل الآيات إلا إذا تحتم العذاب والاستئصال «1» .
 
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1- إنكار البعث والقيامة مدعاة للعجب الشّديد، والله تعالى لا يتعجب،
__________
(1) البحر المحيط: 5/ 367
(13/115)
 
 
ولا يجوز عليه التعجب لأنه تغير في النّفس بما تخفى أسبابه، وإنما ذكر تعالى ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون.
2- من أنكر البعث والقيامة، فهو كافر، لإنكاره القدرة الإلهية والعلم والصدق في الخبر، ويساق إلى جهنم بالأغلال والسّلاسل، وهو خالد في النّار.
فهذه أوصاف ثلاثة لمنكري البعث: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
3- العذاب المخلد ليس إلا للكفار بهذه الآية: هُمْ فِيها خالِدُونَ أي هم الموصوفون بالخلود لا غيرهم، أما أهل الكبائر من المسلمين الذين يرتكبون الجرائم العظام، كالقتل وشهادة الزور وعقوق الوالدين، فلا يخلدون في النّار.
4- طلب المشركين إنزال العقوبة لفرط إنكارهم وتكذيبهم نوع من الطيش والحماقة، وكفاهم الاعتبار بعقوبات أمثالهم المكذبين، فالمثلات أي العقوبات كثيرة. وقد تبين من هذه الآية: أن عذاب الاستئصال لا ينزل بهم إلا بالإصرار على الكفر والمعاصي.
5- حكم سبحانه بتأخير العقوبة عن هذه الأمة إلى يوم القيامة.
6- إن الله تعالى لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا، وعن المذنبين إذا تابوا، وقد يعفو تعالى عن صاحب الكبيرة قبل التوبة في رأي أهل السّنة، لأن قوله تعالى عَلى ظُلْمِهِمْ أي حال اشتغالهم بالظلم، وحال الاشتغال بالظلم لا يكون المرء فيها تائبا.
قال ابن عباس: أرجى آية في كتاب الله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ.
7- وإن الله أيضا شديد العقاب للكافرين إذا أصروا على الكفر.
(13/116)
 
 
8- ليست مهمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم تلبية طلبات المشركين واقتراحاتهم، إنما مهمته الإنذار، أي التعليم، فهو منذر لقومه مبين لهم، ولكل قوم من قبله هاد ومنذر وداع.
9- لكل قوم هاد، أي نبي يدعوهم إلى الله. وقيل: الهادي الله أي عليك الإنذار، والله هادي كل قوم إن أراد هدايتهم.
10- اجتمع من المشركين كما تحكي هذه الآية ثلاثة طعون: وهي أنهم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في الحشر والنّشر، ثم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال، ثم طعنوا في نبوته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة.
وسبب كل هذه الطعون: أنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات، وقالوا: هذا كتاب مثل سائر الكتب. والإتيان بكتاب معين، لا يكون معجزا البتة، وإنما المعجز ما يكون مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السّلام، كفلق البحر بالعصا، وقلب العصا ثعبانا.
ولا تعني هذه الآية أنه لم تظهر معجزة تصدق النّبي عليه الصلاة والسّلام سوى القرآن، ولعل الكفار ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات، أو أنهم طلبوا منه معجزات سوى المعجزات التي شاهدوها منه صلّى الله عليه وسلّم كحنين الجذع، وانشقاق القمر، ونبوع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل.
ويظل القرآن هو المعجزة الكبرى للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو المناسب لزمنه، فلما كان الغالب في زمان موسى عليه السّلام هو السّحر، جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم، ولما كان الغالب في أيام عيسى عليه السّلام الطب، جعل معجزته ما كان من جنس تلك الطريقة، وهو إحياء الموتى، وإبراء الأكمه (الأعمى الذي ولد فاقد البصر) والأبرص، ولما كان الغالب في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم الفصاحة
(13/117)
 
 
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
والبلاغة، جعل معجزته ما كان لائقا بذلك الزمان، وهو فصاحة القرآن.
فإذا لم يؤمن العرب بهذه المعجزة، مع كونها أليق بطباعهم، فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى.
 
بعض مظاهر علم الله المحيط بكل شيء
 
[سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)
 
الإعراب:
اللَّهُ يَعْلَمُ ما ما هنا وفي بقية الآية: اسم موصول، مفعول يَعْلَمُ والجمل الفعلية التي بعدها هي الصلات، والعائد منها كلها محذوف. ويجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة بيعلم. ويجوز أن تكون ما مصدرية.
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ من: مبتدأ مرفوع، وسَواءٌ: خبر مقدم، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، فهو مستو.
وَإِذا أَرادَ اللَّهُ العامل في إِذا ما دل عليه الجواب.
(13/118)
 
 
البلاغة:
يوجد طباق في تَغِيضُ وتَزْدادُ وفي الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وفي أَسَرَّ وجَهَرَ وفي بِاللَّيْلِ وبِالنَّهارِ وفي مُسْتَخْفٍ وسارِبٌ أي ظاهر.
 
المفردات اللغوية
ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي حملها أو ما تحمله من كون الجنين ذكرا أو أنثى، واحدا أو متعددا، وصفات كل، وغير ذلك تَغِيضُ تنقص من زمن أو جسم. وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي وما تنقصه وما تزداده من الجثة والمدة والعدد. بِمِقْدارٍ بقدر واحد لا يتجاوزه ولا ينقص عنه، كقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر 54/ 49] فإنه تعالى خص كل حادث بوقت وحال معينين، وهيأ له أسبابا مسوقة إليه، تقتضي ذلك.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ما غاب، وما حضر أو شوهد. والغائب: ما غاب عن الحس، والشّاهد: الحاضر المشاهد. الْكَبِيرُ العظيم الشّأن. الْمُتَعالِ المستعلي على كل شيء بالقهر أو بقدرته. سَواءٌ مِنْكُمْ أي في علمه تعالى. مُسْتَخْفٍ مستتر. بِاللَّيْلِ بظلامه.
وَسارِبٌ ظاهر بارز بالنهار، بذهابه في سربه أي طريقه.
لَهُ مُعَقِّباتٌ له ملائكة تعتقب في حفظه ورعايته، أو تتعاقب على كتابة أقو اله وأفعاله، جمع معقّبة، من عقّبه: جاء عقبه، والتاء للمبالغة، لا للتأنيث، والمراد: ملائكة يتعاقبون على الإنسان بالليل والنّهار. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ قدامه. وَمِنْ خَلْفِهِ ورائه أي من جوانبه. مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي بأمره وإعانته، أو يحفظونه من بأس الله متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له، أو يحفظونه من المضار. لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية والنّعمة أي لا يسلبهم نعمته. حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة والمعاصي. سَواءٌ عذابا. فَلا مَرَدَّ لَهُ من المعقبات ولا غيرها. وَما لَهُمْ لمن أراد الله بهم سوءا. مِنْ دُونِهِ أي غير الله. مِنْ والٍ ناصر يمنعه عنهم، ومِنْ: زائدة، وهذا دليل على أن خلاف مراده محال.
 
المناسبة:
بعد أن حكى الله سبحانه إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له، أورد الأدلة على قدرته على ذلك بعلمه المحيط بكل شيء، فهو يعلم ما في الأجنّة التي في البطون، ويعلم الغائب عنا والمشاهد لنا، ويعلم السّر وأخفى، ويعلم جميع أجزاء الإنسان
(13/119)
 
 
المتناثرة ومواضعها في البر والبحر وأجواف الحيوان، فيعيدها مرة أخرى.
وبعد أن حكى عن المشركين أنهم طلبوا آيات أخرى غير ما أتى به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بيّن أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فيعلم من حالهم أنهم: هل طلبوا الآية الأخرى للاسترشاد، أو لأجل التعنت والعناد؟ وهل ينتفعون بظهور تلك الآيات، أو يزداد إصرارهم على الكفر واستكبارهم؟.
 
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء، فهو يعلم بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات، أهو ذكر أو أنثى، واحد أو متعدد، حسن أو قبيح، ذو خصائص وأوصاف، طويل العمر أو قصيره، كما قال تعالى: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان 31/ 34] وقال: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النجم 53/ 32] وقال: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر 39/ 6] .
وإذا أمكن معرفة نوع الجنين علميا بالتحليل مثلا من كونه ذكرا أو أنثى، فلا يكون ذلك معارضا الآية، لأن علم الله لا ينحصر به، وإنما علمه واسع محيط بكل شيء من الخواص والصفات الأخرى.
وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي والله يعلم ما تنقصه الأرحام وما تزداده من الجثة (سقطا أو تماما) والمدة (أقل من تسعة أشهر أو تسعة أو أكثر إلى عشرة) والعدد (واحدا أو متعددا) والدم (إراقة حتى يخسّ الولد، وعدم إراقة حتى يتم الولد ويعظم) .
والإحصاء العلمي دل على أن الجنين لا يزيد بقاؤه في بطن أمه عن 305 أو 308 أيام، وهناك رأي في المذهب المالكي أن عدة المطلقة سنة قمرية (354 يوما) .
(13/120)
 
 
وأما ما يذكر في المذاهب لأقصى مدة الحمل (أربع سنين عند الشافعية والحنابلة، وخمس سنين عند المالكية، وسنتان عند أبي حنيفة) فمستنده الاستقراء وأخبار الناس، والناس قد يخطئون أو يتوهمون وجود الحمل في فترة زمنية ما، وليس في ذلك أي نص شرعي ثابت.
وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أي وكل شيء عنده تعالى بأجل معين، أو بقدر واحد، لا يزيد عنه ولا ينقص، كقوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر 54/ 49] .
وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه الجماعة عن أسامة بن زيد: أن إحدى بنات النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثت إليه أن ابنا لها في الموت، وأنها تحب أن يحضره، فبعث إليها يقول: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمروها فلتصبر ولتحتسب» .
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي يعلم كل شيء غائب عن العباد لا تدركه أبصارهم، ومشاهد لهم مرئي، ولا يخفى عليه منه شيء، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء، المتعال على كل شيء، قد أحاط بكل شيء علما، أي شمل علمه كل شيء، وقهر كل شيء، فخضعت له الرقاب، ودان له العباد طوعا وكرها.
ويلاحظ أن هذه الآية استوفت بيان كمال علم الله تعالى، ففي مطلع الآية الذي هو كلام مستأنف أوضح تعالى أنه عالم بالجزئيات والمفردات، ثم ذكر أنه عالم بمقادير الأشياء وحدودها لا تتجاوزها ولا تقتصر عليها، وخصص كل حادث بوقته بعينه وبحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية، ثم أضاف أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو، وهي أشياء جزئية من خفايا علمه، فهو يعلم الباطن والظاهر، والغائب: وهو ما غاب عن الحس، والشاهد: وهو ما حضر للحس، ثم ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء، لا فرق فيه بين الخفي السرّ أو الظاهر المعلن فقال: سَواءٌ مِنْكُمْ.. أي أنه تعالى محيط علمه بجميع خلقه، وأنه سواء منهم من أسرّ قوله وأخفاه أو جهر به وأعلنه، فإنه يسمعه لا يخفى عليه
(13/121)
 
 
شيء، كما قال: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه 20/ 7] وقال: وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ [النمل 27/ 25] .
وقالت عائشة رضي الله عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله لقد جاءت المجادلة، تشتكي زوجها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا في جنب البيت، وإنه ليخفى عليّ بعض كلامها، فأنزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة 58/ 1] .
وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أي يعلم أيضا ما هو مختف في قعر بيته في ظلام الليل، والتنصيص على هذه الحالة تنبيه على رقابة الله في كل مكان قد يظن صاحبه أنه بتواريه عن أنظار الناس، لا يطلع عليه أحد.
وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي ظاهر ماش في ضوء النهار، فإن كلاهما في علم الله على السواء، كقوله تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ، وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يونس 10/ 61] .
ثم ذكر الله تعالى وسيلة إثبات المعلومات وخزائن المعارف والوقائع لمواجهة أصحابها بها مع علمه تعالى بكل شيء، وهي: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي للإنسان ملائكة حفظة، ملائكة في الليل تعقب ملائكة النهار، وبالعكس فهم يتعاقبون يتعاقبون على حراسته وحفظه من المضار ومراقبة أحواله، ويتعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ والتدوين أو الكتابة، سواء خيرا أو شرا. فالضمير عائد إلى مِنْ في قوله: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وقيل: الضمير يعود على اسم الله في عالم الغيب والشهادة.
(13/122)
 
 
فلهؤلاء الملائكة الحفظة وظائف، منها: حفظ الإنسان في الليل والنهار من المضارّ والحوادث بإذن الله وأمره ورعايته، ويقوم به ملائكة معينون وعددهم اثنان يحرسه أحدهما من ورائه والآخر من قدامه، ومنها حفظ الأعمال من خير أو شر، ويقوم به ملائكة آخرون، وهما اثنان عن اليمين والشمال، يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، كما قال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق 50/ 17- 18] فصار مجموع ملائكة كل إنسان أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل، وهم حافظان وكاتبان، كما
جاء في الحديث الصحيح عند البخاري: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بكم:
كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون»
وفي الحديث الآخر: «إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء، وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم» .
قال ابن عباس: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه.
ومن علم أن الملائكة الحفظة ترصد عليه أعماله وتحصي أقواله وأفعاله، تهيّب من مخالفة أوامر ربه، وكان حذرا من المعاصي، حتى لا تسجل عليه، ويفاجأ بها يوم القيامة، كأنه شريط مسجل من وقت التكليف (البلوغ والعقل) إلى الوفاة.
وقوله يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي يحفظونه بأمر الله وبإذنه، فحفظهم إياه متسبب عن أمر الله لهم بذلك. أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب بدعائهم له، وسؤالهم ربه أن يمهله، رجاء أن يتوب وينيب، كقوله: قُلْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ [الأنبياء 21/ 42] .
ثم بيّن الله تعالى مزيد فضله وعدله بأنه لا عقاب بدون جريمة، فقال:
(13/123)
 
 
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ.. أي إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية فيزيلها عنهم وينتقم منهم إلا بتغيير ما بأنفسهم بأن يكون منهم الظلم والمعاصي والفساد وارتكاب الشرور والآثام التي تهدم بنية المجتمع وتدمر كيان الأمم.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب» .
وهذا مؤكد للآية: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] .
وواقع التاريخ الإسلامي في القرون الماضية يدل دلالة واضحة على أن الله تعالى لم يغيّر ما كان عليه حال الأمة الإسلامية من عزة ومنعة، ورفاه واستقلال، وعلم وتفوق في السياسة والاقتصاد والاجتماع، إلا بعد أن غيروا ما بأنفسهم، فحكموا بغير القرآن، وأهملوا دينهم، وتركوا سنة نبيهم، وقلدوا غيرهم، وضعفت روابط التعاون بينهم، وساءت أخلاقهم، وانتشرت الموبقات بينهم، وقد وعد الله الأرض من يصلحها بقوله: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 21/ 105] أي الصالحون لعمارتها، وقوله: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ، يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف 7/ 128] .
ثم وصف تعالى قدرته المطلقة على العذاب فقال: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً.. أي وإذا أراد الله بقوم سوءا من فقر أو مرض أو احتلال ونحوها من أنواع البلاء، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم، وما لهم من غير الله تعالى ناصر يلي أمورهم، ويدفع عنهم، أي يجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر، فتلك الآلهة المزعومة لا تستحق الألوهية لعجزها عن فعل شيء نافع أو دفع أذى ضار.
(13/124)
 
 
وهذا يدل على أن الله قادر في أي وقت على إيقاع العذاب بالناس، فليس من العقل والحكمة في شيء استعجالهم ذلك.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1- إن الله تعالى عالم بالجزئيات وبالكليات، وبالماضي والحاضر والمستقبل، وبالباطن والظاهر أو السر المخفي والمعلن المجاهر به، وبالغائب عن مسامعنا وأبصارنا والشاهد الحاضر.
2- استدل مالك والشافعي بآية: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ على أن الحامل تحيض، قال ابن عباس في تأويلها: إنه حيض الحبالى، وهو قول عائشة، وأنها كانت تفتي النساء، الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة. وقال عطاء والشعبي وغيرهما، وأبو حنيفة: لا تحيض، لأنه لو كانت الحامل تحيض، وكان ما تراه من الدم حيضا، لما صح استبراء الأمة بحيض، وهو إجماع، فتماسك الحيض علامة على شغل الرحم، واسترساله علامة على براءة الرحم، فمحال أن يجتمع مع الشغل، لأنه لا يكون دليلا على البراءة لو اجتمعا.
3- وفي هذه الآية دليل أيضا على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر وأكثر، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر، وأن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر، وله أمثال كثيرون.
وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة.
واختلف العلماء في أكثر الحمل، فقال مالك في المشهور عنه، خمس سنين، وقال الشافعي وأحمد: أربع سنين، وقال أبو حنيفة: سنتان. ولا أصل لهذه المسألة إلا الاجتهاد والرد إلى ما عرف من أحوال النساء.
(13/125)
 
 
قال ابن العربي: نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر مدة الحمل تسعة أشهر «1» .
4- تخصيص الممكنات بخواص وأوصاف معينة دليل على كمال القدرة الإلهية، والدليل: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أي بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، فكلمة بمقدار تعني عدم النقصان والزيادة، وقال قتادة: في الرزق والأجل، والمقدار: القدر، ويقال: بِمِقْدارٍ: قدر خروج الولد من بطن أمه، وقدر مكثه في بطنها إلى خروجه. قال القرطبي: وعموم الآية يتناول كل ذلك.
5- الله عالم الغيب والشهادة، أي هو عالم بما غاب عن الخلق وبما شاهدوه، فالغيب: مصدر بمعنى الغائب، والشهادة: مصدر بمعنى الشاهد. وهذا تنبيه على انفراده تعالى بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد.
والله سبحانه الكبير أي الذي كل شيء دونه، المتعال عما يقول المشركون، المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره.
والله تعالى يعلم ما أسرّه الإنسان من خير وشر، كما يعلم ما جهر به من خير وشر، ويستوي في علم الله المستخفي بالليل والسارب بالنهار، أي يستوي في علم الله السرّ والجهر، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات.
6- للإنسان بتخصيص الله ملائكة أربعة في الليل، وأربعة في النهار، حافظان وكاتبان، وهي تتعاقب عليه ليلا ونهارا، وتتعقب أعماله وتتبعها
__________
(1) أحكام القرآن: 3/ 1097
(13/126)
 
 
بالحفظ والكتابة. قال الحسن البصري: المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة.
الفجر.
والمراد من قوله مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي بأمر الله وبإذنه، وتكون مِنْ بمعنى الباء، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقال الفرّاء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: له معقبات من أمر الله، من بين يديه ومن خلفه يحفظونه.
وفائدة جعل الملائكة موكلين علينا بالحفظ: أنها تدعونا إلى الخيرات والطاعات، وليكون الإنسان حذرا من المعاصي.
وفائدة كتابة أعمال العباد: قال المتكلمون: الفائدة في تلك الصحف وزنها ليعرف رجحان إحدى الكفتين على الأخرى، فإنه إذا رجحت كفة الطاعات ظهر للخلائق أنه من أهل الجنة، وإن كان بالضد فبالضد.
7- لا يغير الله ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب، كما غيّر الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم.
والمراد بالآية عند المفسرين: أنه تعالى لا يغير ما بالناس من النعم بإنزال الانتقال إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد «1» .
وهذا المعنى موجّه للجماعة، أما الفرد فقد يتعرض للمصائب بذنوب الغير، ولا يشترط أن يتقدم منه ذنب، كما قال صلّى الله عليه وسلّم، وقد سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟
قال فيما رواه البخاري في المناقب: «نعم إذا كثر الخبث»
أي الفسق والفجور. وقال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 8/ 25] .
__________
(1) تفسير الرازي: 19/ 22
(13/127)
 
 
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
8- إذا أراد الله بالناس بلاء من أمراض وأسقام، فلا مرد لبلائه وقيل: إن معنى الآية: إذا أراد الله بقوم سوءا، أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه، فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه. ولا ملجأ ولا ناصر لأحد من مراد الله وعذابه.
والأولى تفسير الآية بأنه ليس للبشرية من يلي أمورها غير الله، الذي يجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر، أما الآلهة المزعومة من أصنام وأوثان ونحوها فلا تستطيع أو تفعل شيئا، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج 22/ 73] .
 
مظاهر ألوهية الله وربوبيته وقدرته
 
[سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 15]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)
(13/128)
 
 
الإعراب:
خَوْفاً وَطَمَعاً مفعولان لأجله بتقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع، أو حال من البرق أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ الَّذِينَ: اسم موصول، ويَدْعُونَ: صلته، وعائده محذوف أي يدعونهم، كما حذف من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأعراف 7/ 194] أي تدعونهم. كَباسِطِ كَفَّيْهِ الكاف: متعلقة بصفة مصدر محذوف، أي الاستجابة كاستجابة باسط كفيه، ويكون على هذا التقدير حرفا فيه ضمير انتقل إليه من: كائنة. ويجوز أن يجعل الكاف اسما، أي الاستجابة مثل استجابة باسط كفّيه، ولا يكون في الكاف ضمير. ويجوز الاستثناء من الفعل المصدر والظرف والحال. ولام لِيَبْلُغَ فاهُ متعلقة بباسط.
 
البلاغة:
يوجد طباق بين خَوْفاً وَطَمَعاً وبين طَوْعاً وَكَرْهاً.
إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ.. تشبيه تمثيلي، شبه حال الكافرين في دعاء الأصنام بمن أراد أن يغترف الماء ليشربه بكف مبسوط. أو شبه عدم استجابة الأصنام لمن يدعونها بعدم استجابة الماء لباسط كفيه إليه من بعيد.
 
المفردات اللغوية:
الْبَرْقَ شرارة ضوئية تظهر في السماء بسبب تصادم الأجرام السماوية خَوْفاً وَطَمَعاً أي من أجل الإخافة من الصواعق، والطمع في المطر، وفيها مضاف محذوف، أي إرادة خوف وطمع، أو إخافة وإطماعا، أو حال أي خائفين طامعين، وإطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة. ومعنى الخوف والطمع: أن وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق، ويطمع في الغيث.
السَّحابَ الغيم المنسحب في الهواء الثِّقالَ بالمطر، وهو جمع ثقيلة، وإنما وصف به السحاب، لأنه اسم جنس في معنى الجمع الرَّعْدُ الصوت المسموع خلال السحاب بسبب احتكاك الأجرام السماوية، أي أنه ينشأ عن احتراق الهواء بالشرارة ظهور البرق، الذي يحدث من تصادم سحابتين مختلفتي الشحنة الكهربائية، ثم ينشأ عن تفريغ جزء من الهواء الذي يحدثه البرق احتكاك الهواء الذي يطرده البرق وظهور الرعد.
الصَّواعِقَ جمع صاعقة وهي التي تحدث بسبب الاحتكاك الكهربائي بين كهربة السحب
(13/129)
 
 
وكهربة الأرض عند تقارب السحب من الأرض، فتنشأ عنه صاعقة تحرق ما تقع عليه وَهُمْ يُجادِلُونَ أي الكفار يخاصمون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الله تعالى، والجدل: شدة الخصومة الْمِحالِ القوة أو الأخذ للأعداء.
لَهُ تعالى دَعْوَةُ الْحَقِّ أي كلمته وهي لا إله إلا الله أو الدعاء الحق، فإنه الذي يحق أن يعبد وَالَّذِينَ يَدْعُونَ يعبدون مِنْ دُونِهِ من غيره وهم الأصنام لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مما يطلبونه إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ أي إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه إلى الماء على حافة البئر، يطلب منه أن يبلغه، ليبلغ فاه بارتفاعه من البئر إليه وَما هُوَ بِبالِغِهِ أي بالغ فاه أبدا، فكذلك ما هم بمستجيبين لهم وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ أي عبادتهم الأصنام أو حقيقة الدعاء إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع وخسار وبطلان.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً يحتمل أن يكون السجود على حقيقته، فإنه يسجد له الملائكة والمؤمنون من الثقلين (الإنس والجن) طوعا حالتي الشدة والرخاء، ويسجد له الكفار كرها حالة الشدة والضرورة. والمنافقون من الكفار، إذ يسجدون كرها. ويحتمل أن يكون المراد: ينقادون لإحداث ما أراده الله فيهم من أفعاله، شاؤوا أو أبوا، لا يقدرون أن يمتنعوا عليه.
وَظِلالُهُمْ جمع ظل وهو الخيال المقابل للشمس الذي يظهر للشيء المادي القائم أي ويسجد ظلالهم، أو تنقاد أيضا حيث تخضع لمشيئة الله في الامتداد والتقلص والفيء والزوال بِالْغُدُوِّ جمع غداة: وهي أول النهار وَالْآصالِ جمع أصيل: وهو ما بعد العصر إلى المغرب.
 
سبب النزول: نزول الآية (13) :
وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ: ذكر الرواة سببين لنزول هذه الآية، أخرج
الطبراني وغيره عن ابن عباس: أن أربد بن قيس وعامر بن الطّفيل قدما المدينة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عامر: يا محمد: ما تجعل إليّ إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم، قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: ليس ذلك لك ولا لقومك، فخرجا، فقال عامر: إني أشغل عنك وجه محمد بالحديث، فاضربه بالسيف، فرجعا، فقال عامر: يا محمد، قم معي أكلمك، فقام معه، ووقف يكلمه، وسلّ (أربد) السيف، فلما وضع يده على قائم
(13/130)
 
 
السيف، يبست، والتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرآه، فانصرف عنهما، فخرجا، حتى إذا كانا بالرّقم (موضع) أرسل الله على أربد صاعقة، فقتلته، فأنزل الله:
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى إلى قوله شَدِيدُ الْمِحالِ.
وأما عامر فأرسل الطاعون عليه، فخرجت فيه غدّة كغدة الجمل، ومات في بيت سلولية.
وذكر الواحدي ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده والنسائي والبزار عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث رجلا مرّة إلى رجل من فراعنة العرب، فقال: اذهب فادعه لي، فقال: يا رسول الله، إنه أعتى من ذلك، قال: اذهب فادعه لي، قال: فذهب إليه، فقال: يدعوك رسول الله، قال: وما الله، أمن ذهب هو، أو من فضة أو من نحاس؟ فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، وقال: وقد أخبرتك أنه أعتى من ذلك، فقال: ارجع إليه الثانية فادعه، فرجع إليه، فعاد عليه مثل الكلام الأول، فرجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: ارجع إليه، فرجع الثالثة، فأعاد عليه ذلك الكلام، فبينا هو يكلمني، إذ بعثت إليه سحابة حيال رأسه، فرعدت، فوقعت منها صاعقة، فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ، فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ، وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ «1» .
 
المناسبة:
بعد أن خوّف الله تعالى عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم فلا مردّ له، أتبعه بهذه الآيات المشتملة على أمور ثلاثة، فهي دلائل على قدرة الله تعالى وحكمته، وتشبه النعم والإحسان حينا، وتشبه العذاب والقهر والنقمة حينا آخر.
__________
(1) أسباب النزول للواحدي 156، تفسير ابن كثير: 2/ 505، تفسير القرطبي: 9/ 296- 298 الكشاف: 2/ 162
(13/131)
 
 
التفسير والبيان:
الله تعالى هو الذي يسخر البرق: وهو ما يرى من النور اللامع ساطعا من خلال السحاب، بسبب تقارب سحابتين مختلفتين في الشحنة الكهربائية، ويريكم إياه تخويفا، فيخاف منه المسافر والمزارع الذي جمع حبوبه في البيدر (الجرين) ويحذر عواقبه كل إنسان من خطف البصر، أو مجيء السيول الجارفة، وطمعا، أي يرجو نفع المطر من كان بحاجة إليه لسقي زرعه وشجره وغسل الجو من الأتربة والرمال والدخان والميكروبات. فالناس في الظواهر العامة قسمان: إما فرح طامع بالخير بالنسبة إليه، وإما متشائم متبرم عابس لما يصيبه من شر أو ضر بالنسبة إليه.
وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ أي والله سبحانه هو الذي يوجد السحب المحملة المترعة بالماء، وهي لكثرة مائها ثقلية قريبة إلى الأرض. قال مجاهد:
السحاب الثقال: الذي فيه الماء.
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أي أن الرعد بلسان الحال لا بلسان المقال ينزه الخالق عن الشريك والعجز، ويعلن خضوعه له، وانقياده لقدرته وحكمته، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء 17/ 44] .
وتسبح الملائكة ربهم وتنزهه عن الصاحبة والولد، من هيبته وإجلاله.
ويرسل الله الصواعق نقمة، ينتقم بها ممن يشاء، ولهذا تكثر في آخر الزمان،
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة، حتى يأتي الرجل القوم، فيقول: من صعق قبلكم الغداة، فيقولون: صعق فلان وفلان وفلان» .
(13/132)
 
 
وكل من الرعد والبرق إما بشير خير أو نذير شر، لذا أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء حين رؤيتهما،
روى البخاري وأحمد عن سالم عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» .
ويسن عند رؤية البرق والرعد أن يقول: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ روى مالك في موطئه عن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد، ترك الحديث، وقال: «سبحان الذي يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته» .
وروى أحمد عن أبي هريرة أنه كان إذا سمع الرعد قال: «سبحان من يسبح الرعد بحمده» .
وروى أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تأخذ الصاعقة ذاكرا الله عز وجل» .
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع صوت الرعد يقول: «سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة، فعليّ ديته» .
وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وبالرغم من هذه الأدلة الدالة على قدرة الله وألوهيته، يجادل الكفار ويشكون في عظمة الله تعالى وأنه لا إله إلا هو، قال مجاهد: جادل يهودي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسأله عن الله تعالى: من أي شيء هو؟
وهو سبحانه شديد المحال أي شديد القوة والأخذ، والمماحلة: وهي شدة المماكرة والمكايدة لأعدائه، فيدبر لهم الحيلة لإنزال العقاب الشديد بهم من حيث لا يشعرون، يقال: تمحل لكذا: إذا تكلف استعمال الحيلة، واجتهد فيه.
وهو القادر على إنزال العذاب من فوقكم ومن تحت أرجلكم: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل 27/ 51] وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود 11/ 102] .
(13/133)
 
 
وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنهم لم يقتصروا على إنكار نبوته، بل تجاوزوا ذلك إلى إنكار الألوهية.
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أي لله تعالى دعوة الصدق والدعاء والتضرع، لا لغيره من الأصنام والأوثان والملائكة والبشر الذين اتخذوا آلهة. وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: دعوة الحق: كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، أي لله من خلقه أن يوحّدوه ويخلصوا له.
وذكر في الكشاف وجهان للآية: الأول- إضافة الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، أي أن دعوة الإسلام دعوة الحق المختصة به. والثاني- إضافة الدعوة إلى الحق الذي هو الله عز وعلا أي أن الدعاء لله الحق الذي يسمع فيجيب «1» .
وهذا وما قبله وعيد للكفار على مجادلتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأن الوعيد بالعقاب الذي هددهم به. قال أبو حيان عن لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ: والذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، كقوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ والتقدير: لله الدعوة الحق، بخلاف غيره، فإن دعوتهم باطلة، والمعنى أن الله تعالى، الدعوة له هي الدعوة الحق، وهو رد على الكفار في إثبات آلهة مع الله، فمن يدعو الله فدعوته هي الحق، بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها، فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شيء، فقال: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ.. أي إن الذين يدعون من دون الله الأصنام
__________
(1) الكشاف: 2/ 162 قال أبو حيان: وهذا الوجه الثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر لأن مآله إلى تقدير: الله دعوة الله وهذا التركيب لا يصح.
البحر المحيط: 5/ 376 [.....]
(13/134)
 
 
والأوثان والمعبودات الباطلة وهم المشركون، لا يجيبونهم إطلاقا، ولا يستجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء، ولا يحققون لهم نفعا ولا يدفعون عنهم ضرا، وما استجابتهم إلا كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد، طالبا وصوله إلى فمه، وهو عطشان، والماء جماد لا يعقل دعاء، ولا يلبي نداء، ولا يشعر به.
ويلاحظ ما عليه هذا التشبيه من واقعية ومن بسط الكفين كما يبسطها الداعي إلى الله.
فهذا مثل ضربه الله ليأس عبدة غير الله من الإجابة لدعائهم، لتنبيه عقولهم وحواسهم، والعرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد. قال الشاعر:
فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الودّ مثل القابض الماء باليد وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي ليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في خسار وضياع وبطلان، فإن دعاءهم لهم غير مجاب، كما أن دعاءهم الله غير مجاب أيضا.
ثم بين الله تعالى كمال قدرته وعظمته وسلطانه فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ.. أي ولله يخضع وينقاد كل شيء طوعا من المؤمنين والملائكة في حالي الشدة والرخاء، وكرها من الكافرين في حال الشدة، بل كل شيء من مخلوقات الكون من إنسان وحيوان ونبات وجماد خاضع منقاد للخالق الذي خلقهم وأوجدهم. وكذلك تسجد لله وتخضع ظلال كل من له ظل مما ذكر في الصباح الباكر وفي آخر النهار، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر لظهور الامتداد والتقلص، أو لإرادة الدوام، كما هو الشأن في استعمالات العرب. والسجود لله دال على الربوبية، فلا يستحق العبادة سوى الله تعالى.
(13/135)
 
 
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدتنا الآيات إلى ما يلي:
1- بيان كمال قدرة الله تعالى، وأن تأخير العقوبة عن العصاة ليس عن عجز، وكل ما ذكر في الآية من البرق والسحاب والرعد والصواعق دلائل ملموسة على قدرة الله عز وجل، وأنه شديد القوة والأخذ، والمحال أو المماحلة: وهي المماكرة والمغالبة.
فحدوث البرق مثلا دليل عجيب على قدرة الله تعالى: لأن السحاب مركب من أجزاء رطبة مائية، ومن أجزاء هوائية ونارية، والغالب عليه الأجزاء المائية، والماء جسم بارد رطب، والنار جسم حار يابس، فتغليب النار على الماء المتضادين، لا بد له من صانع مختار، يظهر الضد من الضد.
والأجزاء المائية من السحاب، سواء قيل: إنها حدثت في جو الهواء أو تصاعدت من أبخرة البحار، لا بد أن يكون حدوثها بإحداث حكيم قادر محدث.
وصوت الرعد المرعب بسبب تصادم كتل الهواء نتيجة تفريع جزء منه بالبرق دليل آخر على القدرة الإلهية.
والصواعق المخيفة المدمرة المتولدة من السحاب والتي تحدث بسبب احتكاك كهربة السحب بكهربة الأرض برهان واضح على الألوهية، ووجود موجود متعال عن النقص والإمكان.
2- كل شيء في الوجود من إنسان وحيوان ونبات وجماد وجنّ وملائكة يسبح بحمده، فالرعد يسبح بحمد الله، والملائكة تسبح أيضا بحمد الله من هيبته وإجلاله، والتسبيح: التنزيه عن الشريك والوالد والولد والصاحبة، والتقديس لله تعالى، ولكن الناس لا يفقهون تسبيح من سواهم.
(13/136)
 
 
3- هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل الدالة على كمال قدرة الله، يجادلون في الله، ويشككون في وجوده وألوهيته، والله شديد القوة والأخذ، والعقاب، ومغالبة هؤلاء المشككين المجادلين بالباطل.
4- لله الدعوة الحق، فمن يدعوه فدعوته هي الحق، أما دعاء الأصنام وأمثالها من الآلهة المزعومة دون الله فهو باطل لا يفيد شيئا.
5- الآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لا يحققون لأحد مطلبا، وما استجابتهم إلا كاستجابة الماء لباسط كفيه إلى الماء، والماء جماد لا يشعر بأحد ولا بحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاء داعيه، فكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم، ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم.
6- دل قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ.. على أنه يجب على كل من في السموات والأرض أن يسجد لله إما طوعا أو كرها، فعبر عن الوجوب بالوقوع والحصول، أو أن كل من السموات والأرض يعترفون بعبودية الله تعالى، على ما قال:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ [لقمان 31/ 25] .
وقيل: إن السجود عبارة عن الانقياد والخضوع وعدم الامتناع، وكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل.
7- دل قوله: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ على أن كل شخص، سواء كان مؤمنا أو كافرا، فإن ظله يسجد لله. قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد لله طوعا، وهو طائع، وظل الكافر يسجد لله كرها، وهو كاره. وقيل: إن المراد من سجود الظلال أي ظلال الخلق: ميلانها من جانب إلى جانب، وتختلف طولا وقصرا بسبب انحطاط الشمس وارتفاعها، فهي منقادة مستسلمة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب. وإنما خصص الغدو والآصال بالذكر لأن الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين.
(13/137)
 
 
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
وحدانية الله ومثل المؤمن والمشرك تجاه الوحدانية
 
[سورة الرعد (13) : آية 16]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)
 
لبلاغة:
قُلِ: اللَّهُ فيه إيجاز بالحذف، أي الله خالق السموات والأرض.
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ والظُّلُماتُ وَالنُّورُ فيهما طباق.
هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ فيهما استعارتان، استعار لفظ الأعمى للمشرك، والبصير للمؤمن، واستعار لفظ الظلمات والنور للكفر والإيمان.
أَمْ جَعَلُوا الهمزة للإنكار، أي بل جعلوا.
 
المفردات اللغوية:
قُلْ يا محمد لقومك مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومتولي أمرهما قُلِ: اللَّهُ إن لم يجيبوا فلا جواب غير أن تقول: الله الخالق إذ لا جواب لهم سواه، ولأنه الجواب البين الذي لا يمكن المراء فيه، أو أنه لقنهم الجواب أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي كيف اتخذتم من غيره أصناما تعبدونها؟ والمراد أنه ألزمهم بذلك أن اتخاذهم منكر بعيد على مقتضى العقل، والاستفهام للتوبيخ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا لا يقدرون على جلب نفع إليها أو دفع ضر عنها، فكيف يستطيعون إنفاع الغير ودفع الضر عنه؟ وكيف تركتم مالك السموات والأرض؟ وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء، رجاء أن يشفعوا لهم.
(13/138)
 
 
هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الكافر الجاهل، والمؤمن العالم العاقل أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ الكفر والإيمان؟ لا.
أَمْ جَعَلُوا بل أجعلوا، والهمزة للإنكار خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صفة لشركاء داخلة في حكم الإنكار فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ أي خلق الله بخلق الشركاء، أي ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله، حق يتشابه عليهم الخلق، فيقولوا: هؤلاء خلقوا كما خلق الله، فاستحقوا العبادة كما استحقها، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الناس، فضلا عما يقدر عليه الخالق.
وهو استفهام إنكاري، أي ليس الأمر كذلك، ولا يستحق العبادة إلا الخالق قُلِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي لا خالق غيره، فيشاركه في العبادة، فهو لا شريك له في الخلق، فلا شريك له في العبادة، أي أنه جعل الخلق يستوجب العبادة ويلزم منه ذلك، ثم نفاه عما سواه ليتوصل إلى الآتي وهو قوله: وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي هو المتوحد بالألوهية، الغالب على كل شيء.
 
المناسبة:
بعد أن بيَّن الله تعالى أن كل من في السموات والأرض ساجد له، خاضع لقدرته وعظمته، عاد إلى الرد على عبدة الأصنام، لإثبات الوحدانية، وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية، حتى لا يجدوا مناصا من الاعتراف بها.
 
التفسير والبيان:
قل للمشركين أيها الرسول: من خالق السموات والأرض؟ ثم أجب عنهم الجواب المتعين الذي لا مناص منه، وهو الذي يقرون به لأنهم كانوا يقرون بأن الله هو الخالق كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 31/ 25] وقل لهم إذن: الله خالقهما وربهما ومدبرهما.
قال الزمخشري: وقوله: قُلِ: اللَّهُ حكاية لاعترافهم وتأكيد له عليهم لأنه إذا قال لهم: من رب السموات والأرض؟ لم يكن لهم بد من أن يقولوا: الله.
ثم قل لهم بعد أن ثبت هذا لديكم: فلم اتخذتم لأنفسكم من دون الله معبودات
(13/139)
 
 
هي جمادات، وإذا كنتم مقرين بوجود الله، فما بالكم اتخذتم من دونه نصراء عاجزين وأولياء تعبدونهم، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟! وإذا كانت تلك الآلهة لا تملك لنفسها النفع والضر، فهي لا تملك لعابديها بطريق الأولى نفعا ولا ضرا. فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع الله، ومن عبد الله وحده لا شريك له، فهو على نور من ربه؟ لهذا قال: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ...
أي قل لهم مبينا لهم سوء اعتقادهم: هل يتساوى الأعمى الذي لا يبصر شيئا، والبصير الذي يدرك الحق ويهدي الأعمى إليه؟ أم هل تتساوى الظلمات والنور؟ جمع الظلمات وأفرد النور لأن طريق الحق واحدة، وطرق الباطل والكفر متعددة.
والمراد: هل يمكن لأحد الحكم بتساوي الكافر والمؤمن، وتساوي الكفر والإيمان، فالكافر كالأعمى، والكفر كالظلمات، والمؤمن كالبصير، والإيمان كالنور؟
أَمْ جَعَلُوا بل جعلوا أي جعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق، وحينئذ تشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم، فحينما جعلوا لله شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله، تشابه ذلك عليهم، فيعبدونهم، مع أنهم لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، فكيف يشركون في العبادة، أفمن يخلق كمن لا يخلق؟! وهذا بمعنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج 22/ 73] .
والمراد: ليس الأمر على هذا النحو، فإنه تعالى لا يشابهه شيء، ولا يماثله شيء، ولا ندّ له، ولا وزير له، ولا ولد له ولا صاحبة، وهؤلاء المشركون عبدوا آلهة، وهم معترفون أنها مخلوقة لله، وهم عبيد له، كما صرحوا في تلبيتهم:
(13/140)
 
 
«لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» وكما أخبر القرآن عنهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزّمر 39/ 3] . وتضمن هذا الاستفهام التعجب منهم والإنكار عليهم والتهكم بهم.
وبعد أن ناقشهم تعالى في فساد اعتقادهم، وأبان عدم وجود المسوغات لاتخاذ غير الله إلها معه، لعجزه وضعفه، قرر الحكم النهائي بقوله: قُلِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.. أي قل لهم يا محمد مبينا وجه الحق: الله خالق كل شيء، خالقكم وخالق أصنامكم وخالق جميع المخلوقات، فإذا فكرتم تفكيرا سويا وجدتم أن الله هو المتفرد بالخلق والإيجاد وهو المتوحد بالألوهية، المستحق للعبادة وحده، الغالب على كل شيء، فكيف تعبدون أصناما لا تنفع ولا تضر؟!
 
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
1- تثبيت الحقيقة الأبدية الخالدة وهي أن الله تعالى وحده هو خالق السموات والأرض وجميع مخلوقات الكون.
ومن له صفة الخلق والإيجاد هو المستحق للعبادة والتقديس.
2- دل قوله: قُلْ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ على اعترافهم بأن الله هو الخالق، وهو معنى آية أخرى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ [العنكبوت 29/ 61] أي فإذا اعترفتم بأن الله هو الخالق فلم تعبدون غيره؟ وذلك الغير لا ينفع ولا يضر، وهو إلزام صحيح بالحجة القاطعة التي لا مجال لردها أو الطعن فيها.
3- ضرب الله مثلا للمشركين بالأعمى للكافر والبصير للمؤمن، وإذا كان مسلّما لدى كل البشر ألا يستوي الأعمى والبصير، فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق والمشرك الذي لا يبصر الحق.
(13/141)
 
 
ثم ضرب الله تعالى مثلا للشرك والإيمان بالظلمات والنور.
4- طمس الله على عقول المشركين، فلم يقتنعوا بما سبق، بل جعلوا لله شركاء فاقدة أهم مقومات الألوهية وهو الخلق والإبداع، فهي عاجزة عن خلق أي شيء، فلا يمكن بعدئذ أن تنافس مخلوقات الله، ولو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق، ولم يتميز فعل هذا عن فعل ذلك، فبم يعلم أن الفعل من اثنين؟! والمشركون حينما اتخذوا آلهة خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله، التبس الأمر عليهم، فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم. وهو تهكم بهم، فإنهم في الحقيقة يرون كل شيء من خلق الله، وأن هذه الآلهة لم تخلق شيئا، ومع هذا فإنهم يعبدونها من دون الله.
5- الله خالق كل شيء، فلزم لذلك أن يعبده كل شيء. والآية رد على المشركين والقدرية الذين زعموا أنهم خلقوا كما خلق الله. والله تعالى هو الواحد قبل كل شيء، والقهار الغالب لكل شيء، الذي يغلب في مراده كل مريد، فكيف يصح بعد هذا القول بشريك لله؟! 6- استدل أهل السنة بهذه الآية على خلق الأفعال، أي أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وأن العبد لا يخلق فعل نفسه لأن فعله شيء والله خالق كل شيء، وإنما يحصل منه الكسب والتوجيه واختيار ما خلق الله له.
أما المعتزلة فقالوا: إن العبد يفعل ويحدث، ولا نقول: إنه يخلق كخلق الله تعالى، وإنما يفعل لجلب منفعة ودفع مضرة، والله تعالى منزه عن ذلك كله، فلا يلزمهم أنهم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه.
وقال المجبرة: عين ما هو خلق الله تعالى هو كسب العبد وفعل له. وهذا عين الشرك لأن الإله والعبد في خلق تلك الأفعال بمنزلة الشريكين، وكل شريك له حق في فعل الآخر.
(13/142)
 
 
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
مثل الحق والباطل ومآل السعداء والأشقياء
 
[سورة الرعد (13) : الآيات 17 الى 19]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19)
 
الإعراب:
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ جار ومجرور، في موضع نصب على الحال من الضمير المجرور في عَلَيْهِ وتقديره: ومما يوقدون عليه كائنا أو مستقرا في النار.
ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ منصوب على المصدر في موضع الحال من ضمير يُوقِدُونَ. ولا يجوز أن يكون فِي النَّارِ متعلقا بيوقدون لأنهم لا يوقدون في النار، وإنما يوقدون على الذهب، كائنا في النار.
زَبَدٌ مِثْلُهُ مبتدأ، ومِثْلُهُ: صفة له، وخبره إما يُوقِدُونَ أو فِي النَّارِ.
جُفاءً حال من ضمير فَيَذْهَبُ عائد على الزبد لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى مبتدأ مؤخر وخبر مقدم وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا مبتدأ، خبره: لَوْ أَنَّ ...
(13/143)
 
 
البلاغة:
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً.. تشبيه تمثيلي، وجه الشبه منتزع من متعدد، شبّه فيه الحق بالماء المستقر على الأرض، وبالجوهر الصافي من المعادن، وشبّه الباطل برغوة الماء وخبث المعدن الطافي عليه لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل.
فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها أي فسالت مياه الأودية، فهو مجاز عقلي من إسناد الشيء لمكانه.
يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فيه إيجاز بالحذف، أي أمثال الحق وأمثال الباطل.
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا.. وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا بينهما طباق السلب.
كَمَنْ هُوَ أَعْمى شبه الكافر الجاهل بالأعمى على سبيل الاستعارة.
 
المفردات اللغوية:
مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا من السحاب أو من جانب السماء أَوْدِيَةٌ أنهار، جمع واد: وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة، ثم استعمل للماء الجاري فيه، وتنكيرها لإتيان المطر على التناوب بين البقاع بِقَدَرِها بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع، أو بمقدار مثلها في الصغر والكبر فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رفعه، والزبد: ما يعلو وجه الماء من رغوة وقذر ونحوه رابِياً عاليا عليه مرتفعا فوقه وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ من جواهر الأرض وفلزاتها كالذهب والفضة والنحاس والحديد ومن: للابتداء، أو للتبعيض، والضمير للناس، وإضماره للعلم به ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ طلب زينة أَوْ مَتاعٍ ينتفع به كالأواني إذا أذيبت، وآلات الحرب والحرث، والمقصود من ذلك بيان منافعها زَبَدٌ مِثْلُهُ أي مثل زبد السيل، وهو خبثه وهو الذي ينفيه الكير كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي المذكور مثل الحق والباطل وأهل كل.
فَأَمَّا الزَّبَدُ من السيل وما أوقد عليه من المعادن فَيَذْهَبُ جُفاءً يزول باطلا مرميا به، فالجفاء: ما يرميه الوادي من الزبد إلى جوانبه وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء والمعادن فَيَمْكُثُ يبقى وينتفع به أهلها فِي الْأَرْضِ زمانا، كذلك الباطل يضمحل وينمحق، وإن علا على الحق في بعض الأوقات، والحق ثابت باق، أي أن الحق في إفادته وثباته كالماء النافع الذي يستقر في الأرض، وكالمعدن الذي ينتفع به في صوغ الحلي واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة، والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله كزبد الماء أو غثائه ورغوته، وخبث المعدن وشوائبه كَذلِكَ المذكور يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ يبين، لإيضاح المشتبهات.
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ أطاعوه، أي للمؤمنين الذين استجابوا بالطاعة لله، واللام متعلقة
(13/144)
 
 
بيضرب الْحُسْنى الجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وهم الكفار لَافْتَدَوْا بِهِ من العذاب أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ المؤاخذ بكل ما عملوه، لا يغفر منه شيء، أو المناقشة في الحساب، بأن يحاسب الإنسان بذنبه، لا يغفر منه شيء وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ مرجعهم النار وَبِئْسَ الْمِهادُ المستقر والفراش هي، والمخصوص بالذم محذوف.
أَفَمَنْ يَعْلَمُ.. الهمزة للإنكار، أي فيؤمن ويستجيب كالحمزة كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب لا يؤمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كأبي جهل، والمراد لا يستويان، ولا يتشابهان يَتَذَكَّرُ يتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
 
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى وجود دعوتين: دعوة الحق، ودعوة الباطل، وأن دعوة الله هي دعوة الحق ودعوة ما يعبدون من دونه هي دعوة الباطل، ولما شبه تعالى المؤمن والكافر والإيمان والكفر، بالبصير والأعمى، والنور والظلمات، ذكر مثلا آخر للإيمان والكفر، وأبان مثلا للحق وأهله، والباطل وحزبه، فجعل مثل الحق وأهله في ثباته وبقائه بالماء النازل من السماء فينفع الأرض والناس، وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه، واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، وجعل مثل الباطل في اضمحلاله وفنائه وسرعة زواله وانعدام منفعته بزبد السيل الذي يرمي به، وزبد المعدن الذي يطفو فوقه إذا أذيب.
 
التفسير والبيان:
اشتملت الآية الأولى على مثلين للحق وهو القرآن أو الإيمان في ثباته وبقائه ونفعه، والباطل وهو الكفر في اضمحلاله وفنائه، فقال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ...
أي أنزل الله تعالى من السحاب مطرا، فأخذ كل واد بحسبه صغرا وكبرا، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها في استيعاب الإيمان سعة وضيقا، فحمل السيل
(13/145)
 
 
المتجمع من ذلك المطر زبدا عاليا طافيا فوقه، وهذا هو المثل الأول للحق والباطل أو الإيمان والكفر.
ثم ذكر تعالى المثل الثاني: وَمِمَّا يُوقِدُونَ.. أي ومثل الحق أو الإيمان كالمعدن النافع من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس ونحوها الذي يستخلص من التراب والشوائب، بواسطة السبك في النار، ليجعل حلية أو آنية أو سلاحا أو متاعا ينتفع به، ويعلوه الخبث والشوائب الطافية عند الانصهار، وهو مثل الباطل.
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي المذكور مثل الحق والباطل إذا اجتمعا، فالحق في استقراره ونفعه كالماء المستقر النافع والمعدن النقي الصافي، والباطل في زواله وعدم نفعه كالرغوة التي يقذفها السيل على جوانبه، وخبث المعدن عند انصهاره، فالباطل لا دوام له أمام الحق.
ثم ذكر الله تعالى اضمحلال الباطل وذهابه بقوله: فَأَمَّا الزَّبَدُ.. أي أن الزبد الطافي فوق الماء يتبدد ويزول ويذهب في جانبي السيل، ويعلق على حافتيه، فتنسفه الرياح، وأما النافع من الماء والمعدن فيبقى مستقرا في الأرض، أما الماء فنشربه ونسقي به الزرع، وأما المعدن فنستفيد منه إما بالحلي أو بصناعة الأواني والأسلحة والأمتعة، كما قال تعالى عن الحديد: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد 57/ 25] .
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي أنه تعالى كما بيّن لكم هذه الأمثال، فكذلك يضربها بيّنات، لإيضاح الفوارق بين أصول الاعتقاد الجوهرية من الإيمان والكفر، والحق والباطل.
والخلاصة: إن القرآن الكريم الذي تجسد فيه الحق ونور الإيمان مثله في إحياء القلوب به مثل الماء الذي يحيي الأرض بعد موتها، ومثل المعدن النقي
(13/146)
 
 
الصافي الذي يحقق منافع كثيرة للناس. وأما الكفر وضلالات الشرك وباطل اعتقاد المشركين، فهو عديم النفع سريع الزوال، يتبدد فورا، فهو كرغوة الماء وغثاء السيل الذي يضمحل وتعصف به الرياح، وخبث المعدن الذي يستبعد ويلقى جانبا.
وما ضرب هذا المثل الرائع إلا لخير الإنسان، الذي عليه أن يقدر مآل أمره، وما ينتظره من سعادة وشقاوة في المعاد، فإذا كان يوم القيامة وعرض الناس وأعمالهم على ربهم، فيزيغ الباطل ويتلاشى، وينتفع أهل الحق بالحق.
وقد ضرب الله تعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين من النار والماء، فقال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ..
[17] ثم قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [19] .
وضرب سبحانه للكافرين في سورة النور مثلين، فقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [39] والسراب يكون في شدة الحر، ثم قال:
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ.. [40] .
وجاء في السنة أمثال مشابهة، فشبّه النبي صلّى الله عليه وسلّم أحوال المنتفعين بسنته بأحوال أراض ثلاث سقط عليها الماء،
ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان، لأتمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»
وهذا مثل مائي يشبه المثل الذي ضربه الله تعالى للمنافقين.
(13/147)
 
 
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار، يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلّم عن النار، فتغلبوني، فتقتحمون فيها»
وهذا مثل ناري أبان فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم حرصه على إبعاد أمته من النار، وتساقط بعضهم فيها كتساقط الفراش، وهو كالمثل الذي ضربه الله للمنافقين.
ثم أبان الله تعالى مستأنفا الكلام مصير أهل الحق وأهل الباطل، ومآل السعداء والأشقياء، ترغيبا وترهيبا، فقال: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا.. أي الجنة للذين أطاعوا الله ورسوله، وانقادوا لأوامره، وصدقوا أخباره الماضية والآتية، فلهم الجزاء الحسن ونعيم الجنة والثواب العظيم، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس 10/ 26] وقال: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً [الكهف 18/ 88] .
وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا.. أي والذين لم يطيعوا الله ورسوله، لا ينفعهم في الآخرة الفداء بجميع ما في الدنيا وضعف ما فيها، أي لا يمكنهم في الدار الآخرة أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا، ومثله معه. ولو كان لهم ذلك لافتدوا به، ولكن لا يتقبل الله منهم لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا، أي فداء وتوبة.
أولئك الذين لم يطيعوا الله لهم سوء العذاب في الدار الآخرة، ويناقشون على كل ما قدموه، لا يغفر منه شيء، ومن نوقش الحساب عذب، ومرجعهم إلى النار وبئس المستقر مستقرهم. وفي هذا تهويل شديد، وتخويف عظيم، لغفلتهم من اتباع أوامر ربهم، وتقربهم إليه، وانغماسهم في شهواتهم.
(13/148)
 
 
ثم نزل في حمزة رضي الله عنه وأبي جهل، كما ذكر ابن عباس قوله تعالى:
أَفَمَنْ يَعْلَمُ.. أي لا يستوي من يعلم من الناس أن المنزل إليك يا محمد من ربك هو الحق الذي لا شك فيه ولا لبس فيه، بل هو كله حق، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام 6/ 115] أي صدقا في الإخبار، وعدلا في الطلب، لا يستوي من صدّق بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومن لم يصدق به، وكان أعمى لا يستبصر، ولا يهتدي إلى خير، ولا يفهمه، ولو فهمه، ما انقاد له ولا صدقه، ولا اتبعه.
إنما الذي ينتفع بهذه الأمثال ويعتبر بها ويتعظ ويعقل هم أولو العقول السليمة، والأفكار الصحيحة، والآراء الرشيدة.
ونظير الآية: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ، وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر 59/ 20] .
 
فقه الحياة أو الأحكام:
أبانت الآيات أمورا ثلاثة:
1- تشبيه الحق والإيمان بالماء المستقر والمعدن النقي الصافي، وتشبيه الباطل والكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية، وتنسفه الرياح، أو تشبيهه بالطافي فوق المعدن المذاب فكذلك الكفر وشبهاته وخيالاته تذهب وتضمحل، ويبقى الجوهر الصافي من الماء، والمعدن النقي.
وهذان المثلان اللذان ضربهما الله للحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، يلفتان النظر إلى عواقب الأمور.
وقيل وهو ما يروى عن ابن عباس: المراد تشبيه القرآن وما يدخل منه
(13/149)
 
 
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
القلوب بالمطر، لعموم خيره وبقاء نفعه، وشبّه القلوب بالأودية، يدخل فيها من القرآن مثلما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها.
2- للطائعين أهل السعادة الذين أجابوا إلى ما دعا الله من التوحيد والنبوات الجزاء الحسن، وهو النصر في الدنيا، والنعيم المقيم غدا في الآخرة.
وللعصاة أهل الشقاوة الذين لم يجيبوا إلى الإيمان بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لا يتمكنون من فداء أنفسهم في الآخرة بملء الأرض ذهبا، ومثله معه، ولهم سوء العذاب، فلا يقبل لهم حسنة، ولا يتجاوز لهم عن سيئة، ومسكنهم ومقامهم النار، وبئس الفراش الذي مهدوا لأنفسهم، فهذه أربعة أنواع من العذاب والعقوبة: عدم قبول الفداء، والتعرض لسوء الحساب، ومأواهم جهنم، وبئس المهاد مهادهم أي بئس المستقر هي.
3- مثل آخر للمؤمن والكافر، روي أنه نزل في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وأبي جهل خزاه الله، فالمؤمن بالمنزل من الله على نبيه، المتحقق بصدقه، العامل بما بلغه إليه منه هو المستبصر الواعي العاقل، والكافر هو الجاهل بالدين أعمى القلب، وأولو العقول هم المتعظون المعتبرون بذلك.
 
أوصاف أولي الألباب السعداء وجزاؤهم
 
[سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 24]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
(13/150)
 
 
الإعراب:
الَّذِينَ يُوفُونَ إما صفة لأولي الألباب، وإما مبتدأ، خبره: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ.
وَمَنْ صَلَحَ مرفوع بالعطف على ضمير يَدْخُلُونَها المرفوع، وحسن العطف لو