التفسير المنير للزحيلي 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب : التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج
المؤلف : د وهبة بن مصطفى الزحيلي
 
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
الألوهية الحقة والوحدانية الصمدانية، ثم انظر كيف يصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟!.
 
مناقشة النصارى في تأليه عيسى ومطالبة أهل الكتاب بعدم الغلو في الدين ولعنة بني إسرائيل لعدم النهي عن المنكر
 
[سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
 
الإعراب:
أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أن وصلتها يجوز في موضعها النصب والرفع. فالنصب: إما على البدل من ما على أنها نكرة، وإما على حذف اللام، أي لأن سخط. والرفع: على البدل من ما في لَبِئْسَ ما على أنّ ما معرفة.
(6/275)
 
 
البلاغة:
قُلْ: أَتَعْبُدُونَ استفهام للإنكار.
لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تقبيح لسوء أعمالهم وتعجب منه بالتوكيد والقسم.
 
المفردات اللغوية:
مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بأحوالكم يا أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى لا تَغْلُوا تجاوزوا الحدود، والغلو: نقيض التقصير، وهو الإفراط وتجاوز الحد فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أي غلوا باطلا، بأن تضعوا عيسى أو ترفعوه فوق حقه أَهْواءَ قَوْمٍ آراء قوم مبعثها الهوى والشهوة دون الحجة والبرهان قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ بغلوهم وهم أسلافهم وَأَضَلُّوا كَثِيراً من الناس وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ طريق الحق، والسواء في الأصل: الوسط.
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اللعن: الطرد من الرحمة واللطف الإلهي عَلى لِسانِ داوُدَ بأن دعا عليهم فمسخوا قردة، وهم أصحاب أيلة وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ بأن دعا عليهم فمسخوا خنازير، وهم أصحاب المائدة ذلِكَ بِما عَصَوْا ذلك اللعن.
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ أي لا ينهى بعضهم عن بعض يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يوالونهم ويؤيدونهم، وهم أهل مكة بغضا لك. ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ من العمل لآخرتهم.
 
المناسبة:
بعد أن رد الله تعالى على أباطيل اليهود، ثم رد على أباطيل النصارى، وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها، أنكر على كل من عبد غير الله من الأصنام والأنداد والأوثان، وأبان أنها لا تستحق شيئا من الألوهية، ثم خاطب مجموع الفريقين من اليهود والنصارى فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ، لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ.
 
التفسير والبيان:
قل يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله، سواء من أهل الكتاب أو من المشركين عبدة الأوثان: أتعبدون غير الله الذي لا يقدر على دفع ضر عنكم، ولا جلب نفع
(6/276)
 
 
لكم، والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بكل شيء، فلم تعدلون عن عبادته- وهو النافع الحق لكم- إلى عبادة بشر، أو جماد لا يسمع ولا يبصر، ولا يعلم شيئا، ولا يملك البشر والحجر وغيرهما ضرا ولا نفعا لغيره ولا لنفسه.
فإن اليهود الذين عادوا المسيح لم يقدر على إلحاق الضرر بهم، بل حاولوا صلبه وقتله، ولم يتمكن هو بدفع ضررهم عن نفسه، وكذا لم يستطع تحقيق نفع دنيوي لأتباعه وأنصاره وصحبه، وقد تعرضوا للطرد والتعذيب، فكيف يعقل أن يكون إلها؟.
ثم أمر الله نبيه أن يقول أيضا لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) : يا أهل الكتاب، لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تبالغوا في تعظيم العزير، ولا تعظيم عيسى، حتى تؤلّهوا أحدا منهما فتخرجوا عيسى من مقام النبوة إلى مقام الألوهية، وتجعلوا عزيرا ابن الله، ولا تبالغوا أيضا أيها اليهود في إهانة عيسى وأمه، وتنسبوها إلى الفاحشة.
ولا تتبعوا أهواء قوم وآراءهم النابعة من شهواتهم، وهم شيوخ الضلال الذين ضلوا قديما، وأضلوا كثيرا من الناس، وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال.
ثم بيّن الله تعالى سبب ذلك: وهو تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي أنه تعالى لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل، فيما أنزله على داود نبيه عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم، بسبب عصيانهم لله، واعتدائهم على خلقه، ولعن داود من اعتدى منهم يوم السبت ومن عصى الله، ولعن عيسى العصاة من بني إسرائيل بسبب تمردهم ومخالفتهم أوامر الله. قال ابن عباس: لعنوا في التوراة والإنجيل، وفي الزبور، وفي الفرقان. كان العالم منهم لا ينهى أحدا عن ارتكاب المآثم
(6/277)
 
 
والمحارم، فلبئس الفعل فعلهم، وهذا تقبيح لسوء فعلهم، وتحذير من ارتكاب مثل ما ارتكبوه لأن شيوع المنكر يضر ضررا بليغا بالأمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصون المجتمع من الرذيلة، ويذكر بالفضيلة والأخلاق، ويدفع إلى الخير ويحقق السعادة.
روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم» .
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل: أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله: فاسِقُونَ ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: كلا، والله لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ثم لتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه «1» على الحق أطرا، ولتقسرنّه على الحق قسرا، أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم» .
وأخرج الترمذي عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابا منه، ثم تدعونه، فلا يستجيب لكم» .
ثم ذكر الله تعالى أحوال المعاصرين من أهل الكتاب لنزول الوحي فقال:
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ.. أي ترى يا محمد كثيرا من اليهود يتولون المشركين من أهل مكة، ويحالفونهم، ويحرضونهم على قتالك، ويتركون موالاة المؤمنين.
__________
(1) أي تعطفنّه. [.....]
(6/278)
 
 
روي أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة، وحرضوا المشركين على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم لم يستجيبوا لدعوتهم، وخابت مساعيهم، ولم يتم لهم ما أرادوا.
فكان جزاؤهم تقبيح فعلهم وإنزال الغضب الإلهي عليهم وتخليدهم في العذاب، فقال تعالى: لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ.. أي بئس شيئا قدمته أنفسهم لآخرتهم من الأعمال التي استوجبت سخط الله عليهم، وإنزال العذاب الأليم بهم، والحكم عليهم بالخلود في نار جهنم.
مع أنهم لو آمنوا بالله حق الإيمان وبالرسول والقرآن، لما والوا الكافرين في السر والباطن، وعادوا المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه، ولكن الكثيرون منهم فاسقون أي خارجون عن حظيرة الدين، وعن طاعة الله ورسوله، متمردون في النفاق، مخالفون لحكم الله بموالاة المؤمنين ومناصرتهم، أمام أعداء الأديان كلها، وذلك إما لتحريفهم دينهم أو لنفاقهم.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
إن عبادة غير الله تدل على خرق العقل، وسفاهة الرأي، وضعف التفكير، وطيش الإنسان لأن المعبود هو الذي يرجى منه النفع، ويخاف من عذابه عند التقصير في حقه والمخالفة لأمره، وكل من عدا الله من الكواكب والملائكة والأوثان والأنداد والأنبياء وزعماء البشر والقادة المتفوقين المنتصرين في معركة حربية فاصلة، وإن تأمل الإنسان تحقيق النفع منهم، ودفع الضرر والشر بواسطتهم، فذلك نوع من الوهم والسخف، وانتكاس الفطرة الإنسانية، ومغالطة المعقول والتفكير السليم.
(6/279)
 
 
فهذا عيسى الذي ظهرت المعجزات على يديه بإذن الله، لا يستطيع تجاوز ما أجرى الله على يديه من خوارق العادات، ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، وإذا أقررتم أن عيسى كان جنينا في بطن أمه، وكان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يضر، فكيف اتخذتموه إلها؟
ومن كان يدبر الكون قبل ولادته، ومن الذي يدبره بعد وفاته؟
فالحق يا أهل الكتاب أن تلتزموا الاعتدال، ولا تتبعوا الأهواء والعصبيات والتقليد الأعمى الموروث، ولا تنخدعوا بآراء شيوخ الفتنة والضلال وأصحاب المصالح المادية.
وإن تقصير علماء بني إسرائيل في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدى بهم إلى إنزال اللعنة الإلهية بهم في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، فهل هناك أشد عقابا من ذلك؟
وليحذر المسلمون من تقليد من استحق اللعنة والطرد من رحمة الله. قال ابن عطية: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه، وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه.
وقال العلماء: ليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا.
واقتضى قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ اشتراكهم في الفعل، وذمهم على ترك التناهي، ودلت الآية على النهي عن مجالسة المجرمين والأمر بتركهم وهجرانهم. وأكد ذلك بقوله تعالى في الإنكار على اليهود: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المشركين الذين ليسوا على دينهم، فلبئس ما سولت لهم أنفسهم وزينت.
(6/280)
 
 
ودل قوله تعالى: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ على أن من اتخذ كافرا وليا (ناصرا) فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله.
انتهى الجزء السادس ولله الحمد
(6/281)
 
 
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
[الجزء السابع]
[تتمة سورة المائدة]
 
علاقة اليهود والنصارى بالمؤمنين عداوة اليهود وإيمان القساوسة والرهبان
 
[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
 
الإعراب:
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من أَعْيُنَهُمْ لأن تَرى هاهنا من رؤية العين.
لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ: في موضع نصب على الحال من ضمير لَنا كقولهم: مالك قائما.
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها: بِما قالُوا:
ما مصدرية وهي مع الفعل بعدها في تقدير المصدر، وتقديره: بقولهم. جَنَّاتٍ مفعول ثان لأثابهم تَجْرِي جملة فعلية في موضع نصب على الوصف لجنات. خالِدِينَ فِيها: حال من الهاء والميم في فَأَثابَهُمُ.
(7/5)
 
 
البلاغة:
عَداوَةً ... ومَوَدَّةً بينهما طباق.
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ معناه: تمتلئ من الدمع حتى تفيض، استعار الفيض الذي هو الانصباب لامتلاء العين بالدمع حتى تفيض مبالغة لأن الفيض: أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء، فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من الدمع من أجل البكاء (الكشاف: 1/ 479) .
 
المفردات اللغوية:
النَّاسِ هم اليهود العرب ومشركو العرب ونصارى الحبشة في عصر التنزيل. عَداوَةً اعتداء وبغضاء، والعداوة ضد المسالمة والمحبة الَّذِينَ أَشْرَكُوا هم الذين جعلوا مع الله إلها آخر كعبدة الأوثان من أهل مكة، وسبب عداوتهم للمؤمنين: هو زيادة كفرهم وجهلهم وإغراقهم في اتباع الهوى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ أي قرب مودتهم للمؤمنين بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ جمع قسّ وقسّيس، وهو أحد رؤساء النصارى، العالم بالدين والكتب فوق الشماس ودون الأسقف، والقسيسون: علماء النصارى وَرُهْباناً عبادا، جمع راهب: وهو العابد المتفرع للعبادة في دير أو صومعة. وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن اتباع الحق، كما يستكبر اليهود وأهل مكة.
ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ القرآن تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ تمتلئ دمعا حتى يتدفق من جوانبها، لكثرته آمَنَّا صدّقنا بنبيك وكتبك فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ المقربين الذين يشهدون بربوبيتك وألوهيتك وبتصديق نبيك.
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ لم لا نبادر إلى الإيمان مع وجود مقتضيه وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ القرآن أَنْ يُدْخِلَنا الجنة مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ المؤمنين.
فَأَثابَهُمُ جازاهم بِما قالُوا أي بما أعلنوا من اعتقاد.
 
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه
(7/6)
 
 
كتابا إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين، ثم أمر جعفر بن أبي طالب، فقرأ عليهم سورة مريم، فآمنوا بالقرآن، وفاضت أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله فيهم: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً إلى قوله:
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشي ثلاثين رجلا من خيار أصحابه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا وقالوا:
ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فنزلت فيهم الآية.
وأخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ.. وروى الطبراني عن ابن عباس نحوه «1» . قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي: المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به.
قال الطبري: والصواب في ذلك من القول عندي: أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا: إنا نصارى: أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي، ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى، فأدركهم الإسلام، فأسلموا لما سمعوا القرآن، وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه «2» .
 
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أحوال أهل الكتاب، فأوضح مخازي اليهود وعيوبهم، ومن أهمها قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 5/ 64] ، وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ [آل
__________
(1) أسباب النزول للسيوطي، أسباب النزول للواحدي.
(2) تفسير الطبري: 7/ 3.
(7/7)
 
 
عمران 3/ 181] ، وأبان زيف عقيدة النصارى في التثليث وتأليه المسيح، ذكر هنا موقفهم في العداوة والمحبة من المؤمنين، ونبه على أن اليهود في غاية العداوة للمسلمين، ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العداوة، بل إنهم أشد عداوة من المشركين لتقديم ذكرهم على ذكر المشركين،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن مردويه عن أبي هريرة: «ما خلا يهودي بمسلم قط إلا همّ بقتله»
وذكر تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم.
 
التفسير والبيان:
أقسم الله تعالى بذاته على أن أشد الناس المعاصرين للتنزيل عداوة للمؤمنين هم اليهود لأن كفرهم كفر عناد وجحود وهضم للحق، بل إن عداوتهم أشد من عداوة المشركين لتقديمهم في الذكر، ولهذا قتلوا كثيرا من الأنبياء، حتى هموا بقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرة، وسموه وسحروه، وألّبوا عليه أشباههم من المشركين، ثم يليهم في العداوة والبغضاء المشركون عبدة الأوثان لجهلهم بحقائق الدين، وبالإله الحق، وبالنبوات، والفريقان متشابهان في الكفر والعتو والبغي وغلبة الحياة المادية وحب الذات.
وأشد ما لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم من أذى، كان من يهود الحجاز، ومن مشركي العرب في الجزيرة، وخاصة أهل مكة والطائف.
ووالله إن أقرب الناس محبة ومودة للمؤمنين: الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى أي قالوا: إنهم أتباع المسيح والإنجيل، فكان فيهم في الجملة مودة للإسلام وأهله، لما في قلوبهم على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [الحديد 57/ 37] وفي الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» .
وقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم من النصارى خيرا، فتلقى نصارى الحبشة المؤمنين
(7/8)
 
 
المهاجرين إليها بالحماية والتكريم، هربا من أذى المشركين، ورد هرقل ملك الروم النصارى كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ردا حسنا، بعد أن حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام، وكان المقوقس عظيم القبط في مصر أحسن منه ردا، فأرسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم هدية، وبعد فتح مصر والشام أسلم كثير من النصارى في تلك البلاد، لما رأوا في الإسلام من مزايا، وأسلم أصحمة النجاشي ملك الحبشة مع بطانته، ولما مات صلّى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة الجنازة على الغائب ونعاه للناس.
وكان سبب مودة النصارى للمؤمنين: أنه يوجد فيهم قسيسون (علماء) ورهبان (عبّاد) يدعون للإيمان والفضيلة والتواضع، والزهد والتقشف، ولا يستكبرون عن سماع الحق والإنصاف وينقادون له، فوصفهم الله بالعلم والعبادة والتواضع، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتّباعه، والإنصاف.
وإذا سمعوا شيئا من القرآن المنزل على الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، بكوا بكاء حارا غزيرا تعاطفا مع كلام الله، وما عرفوا من الحق، مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم يبادرون لقبول دعوة الإيمان قائلين: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، والمراد به إنشاء الإيمان والدخول فيه أي آمنا بك وبرسلك وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فاكتبنا مع من يشهد بصحة هذا المنزل على الأنبياء ومنهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، ويشهد لك بالوحدانية. وروى ابن مردويه وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة، كما قال تعالى في خصائص أمة المصطفى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة 2/ 143] .
ثم أكدوا قولهم فقالوا: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ.. إنكار استبعاد أي ولا مانع يمنعنا من الإيمان بالله، واتباع الحق الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، ونطمع أن يدخلنا ربنا الجنة بصحبة الصالحين أتباع هذا النبي الكريم الذين ثبت لنا صلاحهم وصحة إيمانهم.
(7/9)
 
 
وهؤلاء الذين آمنوا من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ، لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران 3/ 200] وفي قوله تعالى أيضا:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ إلى قوله: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص 28/ 52- 55] .
لذا جازاهم الله على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق، فقال: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ ... أي جعل جزاءهم دخول الجنة دار النعيم، التي تجري من تحتها الأنهار، أي تسيل مياهها من تحت أشجارها، وهم ماكثون فيها أبدا، وهذا هو جزاء المحسنين: الذين أحسنوا في اتباعهم الحق وانقيادهم له مهما كان مصدره، ونعيم الآخرة يصعب علينا معرفته وتحديده، لقوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة 32/ 17] .
أما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، أي جحدوا بها وخالفوها، وأنكروا وحدانية الله ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فأولئك هم أهل النار والداخلون فيها، والمقيمون إقامة دائمة فيها.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات مثل عال دقيق للإنصاف والحق والعدل، إذا أنها قسمت الناس إلى فريقين: فريق المؤمنين والموالين لهم وجزاؤهم جنات النعيم، وفريق المشركين والكفار الموالين لهم من اليهود وجزاؤهم نيران الجحيم.
إنه إنصاف من الناس لأنفسهم وإنصاف من الله تعالى لهم.
لقد أنصف جماعة من النصارى أنفسهم بسبب إذعانهم لدين الحق والتوحيد، فآمنوا بالله ورسوله وبالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا يعلّمون الناس أصول الدين
(7/10)
 
 
الصحيح من توحيد الله تعالى والتصديق بجميع الأنبياء والدعوة إلى الفضائل والأخلاق الحميدة، وكانوا يتعبدون بإخلاص في الأديرة والصوامع ويخشعون لخالق الأرض والسماء، وليس لهم مطمع في مصالح دنيوية، أو رئاسة فارغة، ولم تعمهم العصبية لدين ما عن ولائهم لدين آخر، ولم تحجبهم عن إعلان إيمانهم بالله ورسله وبما أنزل الله. فتراهم بما استقر في جوانحهم من إيمان صحيح بالله وبالأنبياء يصغون إصغاء تدبر وإمعان وإنصاف للحقائق لما أنزل إلى الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتفيض أعينهم بالدموع، بسبب ما وجدوا من تطابق الحق الذي عرفوه وما سمعوه في القرآن الكريم، فسألوا الله أن يتقبل منهم، وجددوا إيمانهم بالله وبرسله، وطلبوا أن يكونوا من جملة الشاهدين بحق على صدق وصحة دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم والشاهدين بالحق من قوله عز وجل، والشاهدين على سائر الأمم يوم القيامة بتبليغ أنبيائهم لهم رسالة الله الحقة.
وهذه أحوال العلماء العاملين المنصفين يذعنون للحق ويستجيبون للإيمان الصحيح، وتخشع جوارحهم لذكر الله، كما قال سبحانه وتعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر 39/ 23] وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال 8/ 2] .
والخلاصة: لقد بيّن الله سبحانه في هذه الآيات أن أشد الكفار تمردا وعتوا وعداوة للمسلمين اليهود، ويضاهيهم المشركون، وأن أقرب الناس مودة للمؤمنين هم نصارى ذلك الزمان.
ومن علائم إنصاف أولئك النصارى الذين آمنوا بدعوة الإسلام إيمانا جريئا عدا اعترافهم بصحة المنزل من القرآن في شأن عيسى عليه السلام وإثبات البعث
(7/11)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
والحساب، هو إنكارهم عدم الإيمان بالحق حينما قالوا: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ فدلّ ذلك على استبصارهم في الدين ومعرفتهم الحق، وانصياعهم له، دون عتو ولا استكبار ولا إعراض مثلما فعل اليهود والمشركون.
وكان الإنصاف من الله تعالى: أنه جازى أولئك المؤمنين بدينهم الحق وبدين الإسلام الحق المصدق له والمكمل له، كما قال سبحانه: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ ... وهذا دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالتهم، فأجاب الله سؤلهم وحقق طمعهم، وذلك عدل الله وفضله أنه يمنح رضوانه وجنته لمن آمن بإخلاص وعمل صالحا بصدق ويقين. وهكذا من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة.
والعدل يقضي أيضا أن الذين كفروا من اليهود والنصارى والمشركين، وكذبوا بالدلائل الواضحة على وجود الله ووحدانيته وصدق أنبيائه، أولئك أصحاب الجحيم، أي النار الشديدة الاتقاد.
 
إباحة الطيبات
 
[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
 
الإعراب:
حَلالًا حال مما رزقكم الله، كما قال الزمخشري، أو مفعول به ل كُلُوا، ومِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حال منه، وسوغ مجيء الحال من النكرة تقدمها عليها.
(7/12)
 
 
المفردات اللغوية:
لا تُحَرِّمُوا لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم طَيِّباتِ ما تستطيبه الأنفس، وهي ما لذّ وطاب من الحلال وَلا تَعْتَدُوا تتجاوزوا أمر الله ولا تتخطوا الحدود المقررة شرعا، أو لا تسرفوا في تناول الطيبات، أو لا تعتدوا بتحريم الطيبات وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقا حَلالًا حال كون ما رزقكم الله من الحلال لا من الحرام طَيِّباً غير مستقذر ولا نجس.
 
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة، منهم عثمان بن مظعون، قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«لكني أصوم وأفطر، وأصلّي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني» .
وفي رواية السدي: أنهم كانوا عشرة، منهم ابن مظعون وعلي بن أبي طالب.
وأخرج بن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة، وقدامة تبتّلوا فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرّموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهمّوا بالاختصاء، وأجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار، فنزلت الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية.
فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فقال: «إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، وإن لأهلكم حقا، فصلوا وناموا، وصوموا وأفطروا، فليس منا
(7/13)
 
 
من ترك سنتنا» فقالوا: اللهم صدّقنا واتبعنا ما أنزلت على الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وعن ابن مسعود: أن رجلا قال: إني حرمت الفراش، فتلا هذه الآية وقال: نم على فراشك، وكفر عن يمينك.
والخلاصة: اتفقت الروايات على أن هذه الآية نزلت في قوم من الصحابة هموا أن يلازموا الصوم وقيام الليل، ولا يقربوا النساء والطيب، ولا يأكلوا اللحم، ولا يناموا على الفراش.
 
المناسبة:
بدئت سورة المائدة بالأمر بإيفاء العقود، وذلك يشمل التزام حدود الله وما أحله الله واجتناب ما حرمه، ثم نص تعالى على عدم إحلال ما حرم الله بقوله:
لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وهذه الآية لبيان النوع المقابل وهو تحريم ما أحل الله.
وهي أيضا مرتبطة بما قبلها، فبعد أن مدح الله النصارى بأنهم أقرب مودة للمؤمنين بسبب وجود قسيسين ورهبان منهم، فهم بعض المؤمنين بأن في هذا ترغيبا في الرهبانية وتحسينا للتقشف والزهد، وذلك بترك الطيّبات من الطعام واللباس والنساء. فنهاهم تعالى عن منع أنفسهم من الطيبات، كالذي فعله القسيسون والرهبان، فحرموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، وحبس في الصوامع بعضهم أنفسهم، وساح في الأرض بعضهم «1» .
 
التفسير والبيان:
يا أيها المؤمنون لا تحرموا على أنفسكم ولا تمنعوها من الطيبات: وهي ما تستلذه الأنفس، لما فيها من المنافع، بأن تتركوا التمتع بها تقربا إلى الله، ولا تتعدوا حدود ما أحل الله إلى ما حرم عليكم، أو: ولا تسرفوا في تناول
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 6
(7/14)
 
 
الطيبات، أو: ولا تعتدوا بتحريم الطيبات، فكان الاعتداء شاملا أمرين:
الاعتداء في الشيء نفسه بالإسراف فيه، كقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف 7/ 31] والاعتداء بتجاوزه إلى غيره من الخبائث.
وسبب النهي عما ذكر أن الله يبغض المعتدين ويعاقب المتجاوزين حدود شرعه، وتحريم حلاله ولو بقصد عبادته، سواء كان التحريم بيمين أو نذر أو بغيرهما.
وفي هذا انسجام مع مبدأ وسطية الإسلام واعتداله، فلا إسراف ولا تقتير، ولا امتناع عن المادية ولذائذ الحياة المشروعة، ولا رغبة في الرهبانية والزهد المؤدي إلى الكبت وتعذيب النفس وإضعاف الجسد وحرمانه، كما لا إغراق في الشهوات وانتهاب اللذات فوق القدر المعتاد المتوسط.
وبعد أن نهى تعالى عن منع النفس من طيبات الحياة، أمر بنحو إيجابي على سبيل الإباحة بالأكل مما أحلّ الله لكم وطاب، مما رزقكم الله من الحلال، لا من المحرّمات بنفسها كالميتة والدّم المسفوح ولحم الخنزير، ولا من الحرام بطريق الكسب كالرّبا والقمار والسرقة والسّحت وغير ذلك من أكل أموال الناس بالباطل.
وهذا يدلّ على أنّ الرّزق يتناول الحلال والحرام، ووجود الحرام للاختبار ومعرفة مدى مجاهدة النفس بحملها على ما أحلّه الله، ومنعها مما حرّمه الله.
ثم وضع الله ظابطا ليس في العبادة وحدها، وإنما في الأمور المعاشية المعتادة أيضا، وهو الأمر بتقوى الله، والاعتصام بحدود الله، أي فاتّقوا الله الذي آمنتم به في كل شؤون المعيشة والحياة من أكل وشرب ولباس ونساء وغيرها، ولا تتجاوزوا المشروع في تحليل ولا تحريم.
(7/15)
 
 
والأمر بالتقوى هنا إنما ذكر للحثّ على المحافظة على ما أوصى به الله، والمداومة عليه وإيراده عقب النّهي عن تحريم الطّيبات والأمر بالأكل من الرّزق الطيب الحلال: للدلالة على أنه لا منافاة ولا تغاير بين الاستمتاع بطيبات الرزق وبين التقوى.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة 2/ 172] ، وقوله عزّ وجلّ: قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف 7/ 32] ،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم عن أبي هريرة-: «إنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلّا طيّبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى:
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً [المؤمنون 23/ 51] ، وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة 2/ 172] » .
والمراد بالطّيّبات: الحلال، كما قال النّووي.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية من أصول الإسلام الداعية إلى التّوسّط والاعتدال، والأخذ باليسر والسّماحة، والبعد عن التّنطّع في الدّين، وعن الأخذ بمشاق الأعمال المضنية للنّفس البشرية، ومراعاة متطلّبات الحياة، ودواعي الفطرة السليمة السوية من إيفاء حقّ الرّوح والجسد.
وفيها دليل على حرمة الرّهبانية، وقد صرّح القرآن بأنها مبتدعة،
وورد في السّنّة النّبويّة عنه عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الدارمي أنه قال: «إني لم أومر بالرّهبانية»
ورواية أحمد: «إن الرهبانية لم تكتب علينا» .
وعن أنس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس منّي» .
وأخرج مسلم عن أنس أنّ نفرا من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم سألوا أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن
(7/16)
 
 
عمله في السّر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على الفراش فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» .
وخرّجه البخاري عن أنس أيضا بلفظ آخر، قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النّبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدّم وما تأخّر، فقال أحدهم: أما أنا، فإنّي أصلّي الليل أبدا. وقال آخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوّج أبدا. فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله، إنّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» .
وهذا صريح في نبذ التّزمّت والتّشدّد والمبالغة في التّديّن، وهو صريح أيضا في أنّ الإسلام دين اليسر والسّماحة،
أخرج الإمام أحمد عن أنس أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن هذا الدّين متين، فأوغلوا فيه برفق» .
وأخرج أحمد أيضا عن أبي أمامة الباهلي أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّي لم أبعث باليهوديّة ولا النّصرانية، ولكنّي بعثت بالحنيفية السّمحة» .
وقال علماء المالكية: في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها ردّ على غلاة المتزهّدين، وعلى أهل البطالة من المتصوّفين إذ كلّ فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه «1» قال الطّبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحلّ الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيّبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقّة، ولذلك ردّ
__________
(1) تفسير القرطبي: 6/ 262
(7/17)
 
 
النّبي صلّى الله عليه وسلّم التّبتّل على ابن مظعون «1» ، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحلّه الله لعباده، وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسنّه لأمته، واتّبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإذا كان كذلك تبيّن خطأ من آثر لباس الشعر والصّوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حلّه، وآثر أكل الخشن من الطّعام، وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء.
وتأكّد مفهوم أوّل الآية بآخرها: وَلا تَعْتَدُوا فقد تضمن ذلك النّهي عن أمرين: أي لا تشددوا فتحرموا حلالا، ولا تترخّصوا فتحلّوا حراما، كما قال الحسن البصري.
وقال الإمام مالك: من حرّم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمة له، أو شيئا مما أحلّ الله، فلا شيء عليه، ولا كفارة في شيء من ذلك. وقال أبو حنيفة: إنّ من حرّم شيئا صار محرّما عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة. قال القرطبي:
وهذا بعيد والآية تردّ عليه. وقال الشافعي وسعيد بن جبير: لغو اليمين تحريم الحلال.
وقوله تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً يشتمل التّمتّع بالأكل والشرب واللّباس والرّكوب ونحو ذلك. وخصّ الأكل بالذّكر لأنّه أعظم المقصود وأخصّ الانتفاعات بالإنسان. أمّا التّمتّع بالكماليات والتّرفه بالفاكهة ونحوها، فرأى بعضهم صرف النفس عنها، حتى لا يصير أسير شهواتها، ومنقادا بانقيادها، ورأى آخرون: أن تمكين النفس من لذاتها أولى لما فيه من ارتياحها
__________
(1)
أخرج البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل، فنهاه النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا.
(7/18)
 
 
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
ونشاطها بإدراك إرادتها، والحقّ التوسّط والاعتدال في ذلك لأن في إعطاء النفس مرة ومنعها أخرى جمع بين الأمرين.
وكان طعام النّبي صلّى الله عليه وسلّم ما وجد، فتارة يأكل أطيب الطعام كاللحوم، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير مع الملح أو الزيت أو الخل، وأحيانا يجوع وأخرى يشبع، فكان في عادته قدوة للموسر والمعسر، أو الغني والفقير، وينفق على قدر حاله بلا تقتير ولا إسراف، لقوله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطّلاق 65/ 7] .
وكان يهتم بالشراب أكثر من الطّعام، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان أحبّ الشراب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحلو البارد» .
 
اليمين اللغو واليمين المنعقدة وكفّارتها
 
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
 
الإعراب:
بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ يحتمل أن تكون «ما» مصدرية أي بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنّيّة، ويحتمل أن تكون اسم موصول.
مِنْ أَوْسَطِ متعلّق بمحذوف، صفة لمصدر محذوف، أي إطعاما كائنا من أوسط.
أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على إطعام، إما باعتبار أن الكسوة مصدر أو على إضمار مصدر.
(7/19)
 
 
البلاغة:
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، والمراد عتق النفس.
 
المفردات اللغوية:
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو الكائن في اليمين: وهو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف، كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله. عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي قصدتم اليمين أو حلفتم عن قصد، وتعقيد اليمين: المبالغة في توكيدها. فَكَفَّارَتُهُ الكفارة من الكفر وهو السّتر والتّغطية، ثم صارت في الاصطلاح الشرعي اسما لما يزيل أثر اليمين من الذّنب والمؤاخذة عليه حال الحنث فيه.
إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ لكل مسكين مدّ (675 غم) . مِنْ أَوْسَطِ الوسط في الطعام والغالب في أقوات الناس، لا الأعلى ولا الأدنى. أَوْ كِسْوَتُهُمْ أي ما يسمى كسوة عرفا وعادة كقميص وعمامة ورداء وإزار، ولا يكفي في مذهب الشافعي دفع الكفارة إلى مسكين واحد بل لا بدّ من التّعدّد: ثلاثة فأكثر. أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ عتق رقبة، ويشترط كونها عند الجمهور غير الحنفية مؤمنة كما في كفارة القتل والظهار، حملا للمطلق على المقيد. وهذه كفارة يمين الموسر.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ واحدا من خصال الكفارة المذكورة بأن كان معسرا معدما. فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ كفارته، وظاهره أنه لا يشترط التتابع، وهو مذهب المالكية والشافعية، واشترط الحنفية والحنابلة التتابع لقراءة ابن مسعود «متتابعات» . وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أن تنكثوها ما لم تكن على فعل بر أو إصلاح بين الناس، كما تقدّم في سورة البقرة. كَذلِكَ أي مثل ما بيّن لكم ما ذكر.
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أحكام شريعته. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروه على ذلك.
 
سبب النّزول:
روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ في القوم الذين كانوا حرموا النّساء واللحم على أنفسهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها، فأنزل الله تعالى ذكره: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ الآية. علّق الطّبري على ذلك بقوله: فهذا يدلّ على ما قلنا من أن القوم كانوا حرّموا ما حرموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها، فنزلت هذه الآية بسببهم «1» .
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 10
(7/20)
 
 
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان عن يعلى بن مسلم قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية.. قال: اقرأ ما قبلها فقرأت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.. إلى قوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ.
 
المناسبة:
هذه متعلّقة بما قبلها لأن الله تعالى بعد أن نهى عن تحريم الطّيّبات بسبب قوم أرادوا الزّهد والتّقشّف والتّرهّب في الحياة تقرّبا إلى الله، سألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم عمّا يصنعون بأيمانهم التي حلفوها، فأجابهم الله عزّ وجلّ بإنزال حكم كفارة الأيمان.
 
التفسير والبيان:
لا مؤاخذة بالأيمان التي تحلف بلا قصد، ولا يتعلّق بها حكم، وهي اليمين اللغو: وهي التي تسبق على لسان الحالف من غير قصد،
قالت عائشة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هو كلام الرحل في بيته: لا والله، وبلى والله» .
وهذا مذهب الشافعي، وقال باقي الأئمة (الجمهور) : هي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال على الظّنّ أن المخبر به كما أخبر، وهو بخلافه، في النّفي والإثبات. بدليل ما روي عن ابن عباس في لغو اليمين: أن تحلف على الأمر أنه كذلك وليس كذلك، وهو مروي أيضا عن مجاهد: هو الرجل يحلف على الشيء أنه كذلك، وليس كما ظنّ.
ولكن يؤاخذكم باليمين المنعقدة: وهي التي يحدث الحلف فيها على أمر في المستقبل بتصميم وقصد أن يفعله أو لا يفعله. وهناك نوع ثالث هي اليمين الغموس: وهي في رأي الحنفية: اليمين الكاذبة قصدا في الماضي أو في الحال. فتصير الأيمان ثلاثة أنواع: يمين لغو، ويمين منعقدة، ويمين غموس. أخرج الطبري عن أبي مالك قال: الأيمان ثلاث: يمين تكفر، ويمين لا تكفر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحبها، فأما اليمين التي تكفر: فالرجل يحلف على الأمر لا يفعله ثم يفعله، فعليه
(7/21)
 
 
الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفر: فالرجل يحلف على الأمر يتعمد فيه الكذب، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها: فالرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة، وهو اللغو «1» .
واليمين المنعقدة: هي التي يكون الحلف فيها بالله أو بصفة من صفاته،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عمر: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت»
ولا تنعقد اليمين بالحلف بغير الله من المخلوقات كنبيّ أو وليّ، بل إنه حرام.
وقد اختلف الفقهاء في اليمين الغموس على رأيين، فقال الحنفية والمالكية:
لا كفارة فيها لأن جزاء الغموس الغمس في جهنم. وقال الشافعية وجماعة:
تجب الكفارة فيها لأن الله يقول: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ومن تعمد الكذب في يمينه فقد كسب بقلبه إثما، وهو مؤاخذ به لأنه عقد قلبه على الكذب في اليمين، وقد قال الله: فَكَفَّارَتُهُ.
ورأى الحنفية والمالكية أن المؤاخذة بما كسبت القلوب هو عقاب الآخرة، بدليل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران 3/ 77] ، فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة.
وروى البيهقي والحاكم عن جابر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة، تبوّأ مقعده من النار»
، ولم يذكر الكفارة.
وروى البخاري ومسلم وغيرهما (الجماعة) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين صبر «2» ، وهو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله، وهو عليه غضبان» .
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 11.
(2) اليمين الصبر: التي ألزم بها وأكره عليها، والصبّر: الإكراه.
(7/22)
 
 
ثمّ بيّن الله تعالى نوع المؤاخذة على اليمين المنعقدة فقال: فَكَفَّارَتُهُ الضمير إما عائد على الحنث المفهوم من السياق، أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف، أي فكفارته نكثه. والحانث عليه الكفارة سواء أكان عامدا أم ساهيا وناسيا أم مخطئا، أم نائما ومغمى عليه ومجنونا أم مكرها.
والكفارة على الموسر مخيّر فيها بين ثلاث خصال: إطعام عشرة مساكين لكلّ مسكين في رأي الجمهور مدّ طعام (قمح) والمدّ (675 غم) من النوع المتوسط الغالب أكله على أهل البلد، ليس بالأجود الأعلى، ولا بالأردإ الأدنى، وهو أكلة واحدة خبز ولحم، لقول الحسن البصري ومحمد بن سيرين: يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا ولحما. وقدّره الحنفية بما يجب في صدقة الفطر وهو نصف صاع من برّ، أو صاع من تمر أو شعير أو دقيق، أو قيمة هذه الأشياء (والصاع 2751 غم) . وهو أكلتان مشبعتان: غداء وعشاء، لقول علي رضي الله عنه: يغديهم ويعشيهم.
أَوْ كِسْوَتُهُمْ أي بحسب اختلاف البلاد والأزمنة كالطعام، يعطي لكلّ فقير رداء متوسطا مثل «الجلابية» أو قميصا أو سروالا أو عمامة في رأي الشافعية، ولم يجز الحنفية الكسوة بالسروال والعمامة، لأن أدنى الكسوة عندهم:
ما يستر عامة البدن.
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي عتق نفس، إذ كان الرقيق موجودا، بشرط أن تكون في رأي الجمهور مؤمنة، مثل كفارة القتل الخطأ والظهار، حملا للمطلق على المقيد. ولم يشترط الحنفية كونها مؤمنة فيجزئ إعتاق الكافرة، عملا بإطلاق النّصّ الوارد هنا، ويجب إبقاء موجب اللفظ في كفارة اليمين على إطلاقه، ويعمل بكلّ نصّ على حدة لأن شرط الإيمان في كفارة القتل غير معقول المعنى، فيقتصر على مورد النّص.
(7/23)
 
 
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أي من لم يستطع إطعاما أو كسوة أو عتق رقبة، أو من لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة، فعليه صيام ثلاثة أيام، متتابعة في رأي الحنفية والحنابلة، ولا يشترط التتابع في مذهب المالكية والشافعية.
ودليل الرأي الأول: ما أخرج الحاكم وابن جرير الطبري وغيرهم من طريق صحيح أن أبي بن كعب كان يقرأ هكذا «ثلاثة أيام متتابعات» ، وروي هذا أيضا عن ابن مسعود، وهو ثابت في مصحف الربيع، كما قال سفيان الثوري.
ورواه ابن مردويه عن ابن عباس: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات» .
ورأى الفريق الثاني أن هذه قراءة شاذّة لا يحتجّ بها، وإنما يحتجّ بالمتواتر.
والاستطاعة: أن يكون مالكا ما يزيد على إطعام أهله يوما وليلة، وهذا ما اختاره ابن جرير: أنه الذي يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين.
وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا: من وجد ثلاثة دراهم، لزمه الإطعام وإلا صام.
ولا وقت للكفارة، وإنما يستحبّ تعجيلها، فإن مرض صام عند القدرة، فإن استمرّ العجز يرجى له عفو الله ورحمته. وللوارث أن يتبرع بالكفارة.
ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أي هذه كفارة اليمين الشرعية إذا حلفتم بالله أو بأحد أسمائه أو صفاته وحنثتم. وترك ذكر الحنث المعروف بأن الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف، لا بالحلف نفسه، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند الحنفية، ويجوز بالمال إذا لم يعص الحانث عند الشافعي.
وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي فبرّوا بها ولا تحنثوا. وقيل: وهو ما اختاره القرطبي: احفظوها بأن تكفّروها إذا حنثتم، قال ابن جرير: معناه لا تتركوها
(7/24)
 
 
بغير تكفير. وأراد الأيمان التي يكون الحنث فيها معصية ومخالفة لما حدث القسم عليه.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي مثل ذلك البيان، يبيّن الله لكم أعلام شريعته وأحكام دينه، أي يوضحها ويفسّرها.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ليعدّكم بذلك إلى شكر نعمته فيها يعلمكم ويسهّل عليكم المخرج منه.
ويحرم الحنث في اليمين إذا كانت على فعل واجب أو ترك حرام، ويندب الوفاء ويكره الحنث إذا تمّ الحلف على فعل مندوب أو مباح، ويجب الحنث في اليمين والكفارة إذا حلف على معصية أو حرام،
لما رواه أصحاب الكتب الستة إلّا ابن ماجه عن عبد الرّحمن بن سمرة أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فائت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك»
،
ولحديث عائشة الذي رواه ابن ماجه: «من حلف في قطيعة رحم، أو فيما لا يصلح، فبرّه ألا يتمّ على ذلك»
أي ألا يوفي به، ولكن تجب عليه الكفارة.
وتجب الكفارة بالحنث في اليمين، سواء أكانت في طاعة أم في معصية أم في مباح.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية على حكم يمين اللغو واليمين المنعقدة.
أما يمين اللغو: وهي الجارية على اللسان دون قصد اليمين، فلا كفارة فيها، والحلف بها لا يحرّم شيئا، إذ لا مؤاخذة فيها بنصّ القرآن، وهو دليل الشافعي على أنّ هذه اليمين لا يتعلّق بها تحريم الحلال، وأن تحريم الحلال لغو، كما أن تحليل الحرام لغو، مثل قول القائل: استحللت شرب الخمر.
روي أن عبد الله بن
(7/25)
 
 
رواحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل، فقال:
أعشيتم ضيفي؟ فقالوا: انتظرناك فقال: لا، والله لا آكل الليلة فقال ضيفه: وما أنا بالذي يأكل وقال أيتامه: ونحن لا نأكل فلما رأى ذلك أكل وأكلوا. ثم أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره فقال له: «أطعت الرّحمن وعصيت الشيطان» ، فنزلت الآية.
والأيمان في الشريعة بحسب المحلوف عليه نفيا وإثباتا على أربعة أقسام:
يمينان يكفّران: وهو أن يقول الرّجل: والله لا أفعل فيفعل، أو يقول: والله لأفعلنّ ثم لا يفعل، وهذان لا اختلاف فيهما بين العلماء ويمينان لا يكفّران:
وهو أن يقول الرّجل: والله ما فعلت وقد فعل، أو يقول: والله لقد فعلت وما فعل، وهذان مختلف فيهما بين أهل العلم:
فقال الجمهور: إن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه فعل كذا وكذا وعند نفسه يرى أنه صادق على ما حلف عليه، فلا إثم عليه ولا كفارة عليه. وقال الشافعي: لا إثم عليه وعليه كفّارة.
واتّفق العلماء على أن يمين اللغو لغو فيما إذا قال الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير المنعقد لليمين ولا مريدها. قال الشافعي: وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة.
وأما اليمين المنعقدة: وهي التي تحلف عن عمد وقصد وتصميم، فتوجب الكفارة بالحنث فيها.
وهل اليمين الغموس يمين منعقدة أو لا؟ يرى الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب، فلا تنعقد ولا كفارة فيها، وإنما فيها الإثم
لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه»
وهذا يدلّ على أن الكفارة إنما
(7/26)
 
 
تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله.
وقال الشافعي: هي يمين منعقدة لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى، وفيها الكفارة.
ورجّح القول الأوّل، لأن الأخبار دالّة على أن اليمين التي يحلف بها الرّجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفّرها ما يكفّر اليمين. من هذه الأخبار عدا ما تقدم:
حديث البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابي إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر، قال: «الإشراك بالله» قال: ثم ماذا؟ قال: «عقوق الوالدين» قال: ثم ماذا؟ قال: «اليمين الغموس» قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: «التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب» .
وخرّج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرّم عليه الجنّة» ، فقال رجل:
وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: «وإن كان قضيبا من أراك» .
والمحلوف به: هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى، كالرّحمن والرّحيم والسّميع والعليم والحليم، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا، كعزّته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته لأنها يمين بقديم غير مخلوق، فكان الحالف بها كالحالف بالذات.
وأما الحلف بحقّ الله وعظمة الله، وقدرة الله، وعلم الله، ولعمر الله، وايم الله، ففيه اختلاف، قال مالك: كلها أيمان تجب فيها الكفارة. وقال الشافعي: في: وحقّ الله وجلال الله وعظمة الله، وقدرة الله: يمين إن نوى بها اليمين، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين لأنه يحتمل: وحقّ الله: واجب الله
(7/27)
 
 
وقدرته النافذة، وقال في أمانة الله: ليست بيمين، ولعمر الله وايم الله: إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين.
وقال الحنفية: إذا قال: وعظمة الله وعزّة الله وجلال الله وكبرياء الله وأمانة الله، فحنث، فعليه الكفارة.
والحلف بالقرآن أو المصحف يمين في المذاهب الأربعة لأن الحالف إنما قصد الحلف بالمكتوب فيه: وهو القرآن، فإنه ما بين دفّتي المصحف بإجماع المسلمين.
ولا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته. وقال أحمد بن حنبل: إذا حلف بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم انعقدت يمينه لأنه حلف بما لا يتمّ الإيمان إلا به، فتلزمه الكفارة، كما لو حلف بالله. ويرد عليه بما ثبت
في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت»
وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته.
وروى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف منكم، فقال في حلفه باللات، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه:
تعال أقامرك فليتصدق» .
وقال أبو حنيفة في الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النّبي أو من القرآن، أو أشرك بالله، أو كفر بالله: إنها يمين تلزم فيها الكفارة. ولا تلزم فيما إذا قال: واليهودية والنصرانية والنّبي والكعبة، وإن كانت على صيغة الأيمان.
وأجمع العلماء على أن الحالف إذا قال: أقسم بالله أنها يمين واختلفوا إذا قال:
(7/28)
 
 
«أقسم، أو أشهد ليكونن كذا وكذا» ولم يقل: بالله، فإنها تكون أيمانا عند مالك إذا أراد بالله، وإن لم يرد بالله، لم تكن أيمانا تكفّر.
وقال أبو حنيفة: هي أيمان في الموضعين.
وقال الشافعي: لا تكون أيمانا حتى يذكر اسم الله تعالى.
وإذا قال: أقسمت عليك لتفعلنّ كذا، فإن أراد سؤاله، فلا كفّارة فيه، وليست بيمين، وإن أراد اليمين كان يمينا.
ومن حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة، كقوله: وخلق الله ورزقه وبيته، لا شيء عليه لأنها أيمان غير جائزة، وحلف بغير الله تعالى.
 
أنواع الأيمان بحسب المحلوف عليه:
الأيمان باعتبار المحلوف عليه ثلاثة أنواع:
1- يمين بالله تعالى، كقوله: والله لأفعلنّ كذا، حكمها أنها يمين منعقدة فيها الكفارة عند الحنث.
2- يمين بغير الله تعالى، كالحلف بالمخلوقات نحو الكعبة والملائكة والملوك والآباء، حكمها أنها يمين غير منعقدة، ولا كفارة فيها، بل هي منهي عنها حرام، كما دلّت الأحاديث المتقدمة.
3- يمين في معنى الحلف بالله، يريد بها الحالف تعظيم الخالق، كالحلف بالنذر والحرام والطّلاق والعتاق، مثل: إن فعلت كذا فعليّ صوم شهر، أو الحجّ إلى بيت الله الحرام، أو الطّلاق يلزمني لا أفعل كذا، أو إن فعلته فامرأتي طالق أو عبدي حرّ، أو ما أملكه صدقة أو نحو ذلك، وحكمها الصحيح أنه يجزئه كفارة يمين في جميع ذلك، كما قال تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ،
(7/29)
 
 
وقال صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح عنه: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه»
وهو رأي الشافعي وأحمد. وأوجب مالك وأبو حنيفة تنفيذ المحلوف عليه في حالة اليمين بالمشي إلى مكة، فمن حلف على ذلك فعليه أن يفي به.
والأيمان في مذهب الحنفية مبنية على العرف والعادة، لا على المقاصد والنّيّات، فمن حلف لا يأكل لحما، لا يحنث بأكل السّمك إلا إن نواه لأنه لا يسمّى لحما عرفا. وفي مذهب المالكية والحنابلة: المعتبر هو النّيّة، وفي مذهب الشافعي: المعتبر صيغة اللفظ.
واتّفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوي تكون بحسب نيّة المستحلف
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «اليمين على نيّة المستحلف» .
وقال جمهور العلماء: إذا انعقدت اليمين حلّتها الكفارة أو الاستثناء، بشرط أن يكون متّصلا منطوقا به لفظا
لما روى النسائي وأبو داود عن ابن عمر أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف فاستثنى، فإن شاء مضى، وإن شاء ترك عن غير حنث»
فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه.
ولا خلاف أن الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى إذ هي رخصة من الله تعالى، واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله، فقال الشافعي وأبو حنيفة:
الاستثناء يقع في كلّ يمين كالطّلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى.
وأجاز جمهور الفقهاء تقديم الكفارة على الحنث
لما خرّجه أبو داود عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وإنّي والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا كفّرت عن يميني وأتيت الذي هو خير»
ولأن اليمين سبب الكفارة، لقوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا
(7/30)
 
 
حَلَفْتُمْ
فأضاف الكفارة إلى اليمين، والمعاني تضاف إلى أسبابها، وأيضا فإن الكفارة بدل عن البرّ فيجوز تقديمها قبل الحنث.
إلا أنّ الشافعي قال: تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة، ولا تجزئ بالصّوم، لأن عمل البدن لا يقدم قبل وقته.
وقال الحنيفة: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث بوجه ما
لما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حلف على يمين، ثم رأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير» زاد النسائي: «وليكفّر عن يمينه»
، ولأن الكفارة إنما هي لرفع الإثم، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع، فلا معنى لفعلها قبل الحنث، ومعنى قوله تعالى: إِذا حَلَفْتُمْ أي إذا حلفتم وحنثتم، وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصحّ، اعتبارا بالصّلوات وسائر العبادات.
ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير بالنسبة للموسر، والطعام أفضل للبدء به، وكان هو الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم.
ولا بدّ في رأي الجمهور من تمليك المساكين ما يخرج لهم من الطعام، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرّفوا فيه لأنه أحد نوعي الكفارة، فلم يجز فيها إلا التمليك، كالكسوة.
وقال الحنفية: لو غداهم وعشاهم جاز لأن المقصود من الإطعام هو مجرد الإباحة لا التمليك، والإطعام لغة: هو التمكين من الأخذ، لا التمليك، ولأن المسكنة هي الحاجة، وهو محتاج إلى أكل الطعام دون تملكه.
ولا يجوز أن يطعم غنيّا ولا ذا رحم تلزمه نفقته، ويجزئ في رأي مالك الإطعام لقريب لا تلزمه نفقته، ولكنه مكروه.
(7/31)
 
 
ولا يجوز في مذهب مالك والشافعي دفع الكفارة إلى مسكين واحد.
ولا يجوز عند الحنفية صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، أما إن صرفها إلى مسكين واحد عشرين يوما، جاز لأن المقصود قد حصل.
وأدنى الكسوة في رأي الحنفية: ما يستر جميع البدن، فيعطى لكل مسكين ثوب وإزار، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء.
وتقدر الكسوة في مذهب الحنابلة، بما تجزئ الصلاة فيه.
ويجزئ عند المالكية ما يطلق عليه اسم الكسوة من قميص أو إزار أو رداء أو جبّة أو سراويل أو عمامة.
وتجزئ القيمة عند الحنفية كما تجزئ في الزكاة لأن الغرض سدّ الخلّة (الحاجة) ورفع الحاجة. ولا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة في رأي الجمهور، التزاما للنّص.
وأجاز الحنفية دفع الكفارة والنذور لا الزكاة إلى فقراء أهل الذّمّة لأنّ الذّمي الفقير يتناوله لفظ المسكنة، ويشتمل عليه عموم الآية. ولا يجوز ذلك عند الجمهور، كالزكاة.
واشترط الجمهور إعتاق رقبة مؤمنة كاملة، ليس فيها شرك لغيره لأنها قربة، فلا يكون الكافر محلّا لها كالزّكاة، وأيضا فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيّد في عتق الرّقبة في القتل الخطأ. وأجاز أبو حنيفة عتق الكافرة، لأن مطلق اللفظ يقتضيها.
ومن أخرج مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف، كانت الكفارة عند المالكية باقية عليه، بخلاف مخرج المال في الزّكاة ليدفعه إلى الفقراء.
واختلفوا في الكفارة إذا مات الحالف، فقال الشافعي وأبو ثور: كفارات
(7/32)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
الأيمان تخرج من رأس مال الميت. وقال أبو حنيفة: تكون في الثلث، وكذلك قال مالك: إن أوصى بها.
والمراعاة في اليسار والإعسار وقت التكفير، لا وقت الحنث، فمن حلف وهو موسر، فلم يكفّر حتى أعسر، أو حنث وهو معسر، فلم يكفّر حتى أيسر، اعتبر وقت الكفارة.
والكفارة بصيام ثلاثة أيام للمعسر، لا الموسر، متتابعات عند الحنفية، ولا يشترط التتابع عند الجمهور، وإنما يستحبّ.
ومن أفطر في أيام الصيام ناسيا، فعليه القضاء عند مالك، ولا قضاء عليه عند الجمهور.
 
تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
 
[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 93]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
(7/33)
 
 
البلاغة:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أريد بالاستفهام الأمر، أي انتهوا، وهو من أبلغ ما ينهى به، لما فيه من الحض على الانتهاء. قال أبو السعود في تفسيره (2/ 56) : ولقد أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد، حيث صدّرت الجملة ب إِنَّما وقرنا بالأصنام والأزلام، وسمّيا رجسا من عمل الشيطان، وأمر بالاجتناب عن عينهما، وجعل ذلك سببا للفلاح، ثم ذكر ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية، ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟
إيذانا بأن الأمر في الزجر والتحذير قد بلغ الغاية القصوى.
والتعبير بقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ أبلغ من التعبير بلفظ حرم لأنه يفيد التحريم وزيادة وهو التنفير والإبعاد عنه بالكلية، كما في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ
[الحج 22/ 30] .
 
المفردات اللغوية:
الْخَمْرِ كل شراب مسكر يخامر العقل الْمَيْسِرِ القمار وَالْأَنْصابُ الأصنام وهي حجارة كانت حول الكعبة يذبحون قرابينهم عندها وَالْأَزْلامُ أي قداح الاستقسام: وهي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام، كانوا يستقسمون بها في الجاهلية، تفاؤلا أو تشاؤما رِجْسٌ خبيث مستقذر حسا أو معنى، إما من جهة الطبع أو من جهة العقل، أو من جهة الشرع كالخمر والميسر، أو من كل تلك الاعتبارات كالميتة لأن النفس تعافها طبعا وعقلا، ويعافها الشرع مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من تزيينه فَاجْتَنِبُوهُ أي تجنبوا فعل الرجس. الْعَداوَةَ تجاوز الحق إلى الأذى وَيَصُدَّكُمْ يمنعكم بالاشتغال بهما وَعَنِ الصَّلاةِ خصها بالذكر تعظيما لها فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ عن إتيانها، أي انتهوا. وَاحْذَرُوا المعاصي فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن الطاعة الْبَلاغُ الْمُبِينُ الإبلاغ الواضح طَعِمُوا ذاقوا طعمه وتلذذوا بالأكل أو الشرب، والمراد أكلوا من الخمر والميسر قبل التحريم. إِذا مَا اتَّقَوْا المحرمات ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثبتوا على التقوى والإيمان وَأَحْسَنُوا العمل وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي يثيبهم.
 
سبب النزول:
روى أحمد عن أبي هريرة قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهما، فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية
، فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: إثم كبير،
(7/34)
 
 
وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم من الأيام، أمّ رجل من المهاجرين أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله آية أشد منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء 4/ 43] .
ثم نزلت آية أشد في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. قالوا: انتهينا ربنا، فقال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فراشهم، وكانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان، فأنزل الله:
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إلى آخر الآية.
وروى النسائي والبيهقي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر في وجهه ورأسه ولحيته، فيقول: صنع في هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: والله لو كان أخي بي رؤفا رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية.
فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان، وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية.
وروى ابن جرير عن جماعة قالوا: نزلت هذه الآية (آية تحريم الخمر) بسبب سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه كان لاحى رجلا على شراب لهما، فضربه صاحبه بلحي جمل، ففزر أنفه أو جرحه، فنزلت فيهما.
(7/35)
 
 
وروى ابن جرير أيضا وابن مردويه عن سعد أنه قال: صنع رجل من الأنصار طعاما، فدعانا، فشربنا الخمر حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضل منكم، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل (فك جزور) فضرب به أنف سعد، ففزره، فكان سعد أفزر الأنف، فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. الآية «1» وروى البخاري عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر مناديا ينادي، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر هذا الصوت! قال: فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرّمت، فقال: اذهب فأهرقها- وكان الخمر من الفضيخ «2» - قال: فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم:
قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية.
 
المناسبة:
لما نهى الله تعالى فيما تقدم: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إلى قوله: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وكان من جملة الأمور المستطابة:
الخمر والميسر، بيّن عز وجل أنهما غير داخلين في المحللات، بل في المحرمات «3» .
الحكمة في التدرج بتحريم الخمر: كان العرب في الجاهلية مدمنين الخمر، متعلقين بها أشد التعلق، فلو حرمت عليهم دفعة واحدة، لم يقلع الكثير عنها، وإنما عرّض تعالى بالتحريم في سورة البقرة، ثم في سورة النساء في أوقات الصلاة، فامتنعوا عن شربها نهارا، وشربوها ليلا. روى ابن جرير عن
__________
(1) تفسير الطبري: 7/ 22
(2) الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده، من غير أن تمسه النار، والمفضوخ:
المشدوخ.
(3) تفسير الرازي: 12/ 79
(7/36)
 
 
أبي الميسرة قال: قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة 2/ 219] فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في النساء: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء 4/ 43] وكان منادي النبي صلّى الله عليه وسلّم ينادي إذا حضرت الصلاة:
لا يقربن الصلاة السكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر: انتهينا انتهينا. وفي رواية ابن المنذر عن سعيد بن جبير أن عمر قال: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعدا لك وسحقا، فتركها الناس.
 
التفسير والبيان:
نهى الله تعالى المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر، فقال: يا أيها المؤمنون، إن الخمر وكل شراب مسكر، والقمار بمختلف أنواعه، والأصنام التي تذبح القرابين عندها، والأزلام قداح الاستقسام تفاؤلا وشؤما: قذر سخطه الله وكرهه، وهو من عمل الشيطان أي تحسينه وتزيينه، فاتركوا هذا الرجس، رجاء أن تفوزوا وتفلحوا بتزكية أنفسكم، وسلامة أبدانكم، والتوادّ فيما بينكم.
والخمر: النّيء من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، وهي تطلق في رأي الجمهور على كل شراب مسكر خامر العقل وغطاه، ويرى الحنفية: أن الخمر حرمت، ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط، وما وجد فيه مخامرة العقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرا لأن اللغة في رأيهم لا تثبت من طريق القياس، والحرمة عندهم
(7/37)
 
 
تتعدى إلى المسكر لأنها معلولة بالإسكار، لا لأن المسكر خمر «1» . وهو رأي ابن عمر.
ويرى الجمهور أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه «2» ، فغير ماء العنب حرام بالنص: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وهذا رأي عمر، قال: إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء: من العنب والتمر والعسل والشعير والحنطة، والخمر: ما خامر العقل. وهو رأي ابن عباس أيضا،
وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشر: «إن من الحنطة خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من الزبيب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا»
وقال أيضا فيما رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة: الخمر من هاتين الشجرتين:
النخلة والعنب.
وروى أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ابن عمر: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» .
ورتب الجمهور على رأيهم أن كل المسكرات نجسة بقوله تعالى: رِجْسٌ وأن فيها الحد، وكذلك يرى الحنفية أن المسكر غير المطبوخ وهو السّكر والفضيخ النيء، والباذق: أي النصف المطبوخ، ونقيع الزبيب والتمر غير المطبوخ نجس نجاسة مغلظة كالخمر وهو رأي أبي حنيفة في رواية راجحة عنه لأنه يحرم شرب قليلها وكثيرها، فلا يعفى عنها أكثر من قدر الدرهم، وأما المطبوخ وهو المثلث العنبي أو الطلاء (وهو المطبوخ من ماء العنب إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه) والجمهوري وهو الطلاء الذي يلقى فيه الماء حتى يرق فغير نجس عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وحرّم محمد الأشربة المسكرة كلها وبرأيه يفتي عند الحنفية،
لقول صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن عن جابر: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» .
واتفق
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 2/ 462
(2) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 150
(7/38)
 
 
الحنفية على أنه لا حدّ بشرب الأشربة المسكرة غير الخمر إلا بالإسكار،
لحديث علي فيما رواه العقيلي: «حرمت الخمر بعينها، والسّكر من كل شراب»
إلا أنه حديث معلول، أو موقوف على ابن عباس.
وإذا صار النبيذ (نبيذ التمر والزبيب) مسكرا صار حراما، فإن لم يتخمر ولم يسكر كالخشاف الطبيعي بنقعه في فترة يومين مثلا فهو حلال.
والميسر حرام أيضا، وكل شيء من القمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز،
وورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: «الشطرنج من الميسر»
وكذا النرد إذا كان على مال، فإذا لم يكن الشطرنج أو النرد على مال فإن الجمهور حرموه أيضا لأنه موقع في العداوة والبغضاء، وصادّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وكره الشافعي الشطرنج لما فيه من إضاعة الوقت.
والأنصاب التي هي حجارة حول الكعبة رجس لأنهم كانوا يعظمونها ويذبحون عندها القرابين.
وكذا الأزلام رجس لأنهم كانوا يستقسمون بها، وقد تقدم شرحها في الآية (3) من سورة المائدة.
والرجس: القذر حسا ومعنى، عقلا وشرعا، والخمر وما ذكر بعدها موصوف بهذا الوصف، مما يقتضي التحريم، وتأكد ذلك بالأمر باجتناب الرجس، وبقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي راجين الفلاح بهذا الاجتناب.
وتحريم الخمر والميسر من عدة نواح: صدّرت الجملة بإنما المفيدة للحصر، وقرنا بالأصنام والأزلام وهي شنيعة قبيحة شرعا وعقلا، وسميا رجسا من عمل الشيطان، وذاك غاية القبح، وأمر باجتناب أعيانهما وهو أشد تنفيرا من مجرد النهي أو لفظ التحريم، ثم جعل اجتنابهما سببا للفلاح والفوز، ثم بيّن الله مضار
(7/39)
 
 
الخمر والميسر المعنوية: الشخصية والاجتماعية، فقال: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ ... لذا
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه النسائي عن عثمان بن عفان موقوفا: «الخمر أم الخبائث»
وقال فيما رواه البزار عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: «مدمن الخمر كعابد الوثن»
أي إن الشيطان لا يريد لكم من تعاطي الخمر والميسر إلا الإيقاع في العداوة بأن يعادي بعضكم بعضا بسبب الشراب، والبغضاء بأن يزرع الكراهية والحقد والنفرة من بعضكم، فيتحقق هدفه من التفريق والتشتيت بعد التأليف بالإيمان والجمع بأخوة الإسلام.
ويريد أيضا صرفكم بالسكر المذهب للعقل والاشتغال بالقمار عن ذكر الله الذي تطمئن به القلوب وتسعد به النفوس في الدنيا والآخرة، وعن الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والتي تزكو بها النفوس، وتتطهر القلوب.
فالخمر إذا أذهبت العقل، هانت كرامة الإنسان على غيره، وفقد القدرة على إدراك الخير والبعد عن الشر، هذا فضلا عن أضرار الخمر الصحية في كل أعضاء جهاز الهضم والأعصاب، بل قد يمتد الضرر إلى الأولاد، فينشأ الواحد منهم معتوها ضعيف المدارك، وكثيرا ما أدت الخمر إلى الطلاق وتدمير الأسرة.
والميسر الذي يؤدي إلى الربح بلا عمل ولا تجارة، وخسارة الطرف الآخر يؤجج في النفس نار العداوة والبغضاء، وكثيرا ما تقاتل المتقامران وحدث بينهما السباب والشتم والضرب الشديد.
والخلاصة: للخمر مضار كثيرة: شخصية صحية، واجتماعية بزرع العداوة والبغضاء، ودينية بالصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومالية بتبديد الأموال في الضار غير النافع. وكذا للقمار أضرار نفسية عصبية بإحداث توتر في الأعصاب وقلق واضطراب، واجتماعية ودينية ومالية كالخمر تماما.
وقد نزل قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ كما تقدم في قبيلتين من
(7/40)
 
 
الأنصار شربوا الخمر وانتشوا، فعبث بعضهم ببعض، فلما صحوا، ورأى بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فجعل الرجل يقول: لو كان أخي بي رحيما ما فعل هذا بي، فحدثت بينهم الضغائن، فأنزل الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الآية. ولم يذكر في القرآن تعليل الأحكام الشرعية إلا بإيجاز، أما هنا فإنه فصل في بيان الحكمة أو العلة، فذكر ثلاث حكم، ودل على تحريم الخمر والميسر بأكثر من دلالة ليشير إلى ضررهما وخطرهما.
ثم آكد الله تعالى التحريم وشدد في الوعيد، فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَاحْذَرُوا أي أطيعوا كل ما جاء عن الله والرسول من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من سائر المحرمات، واحذروا ما يصيبكم إذا خالفتم أمرهما من فتنة ووقوع في المهالك في الدنيا، وعذاب في الآخرة إذ لم يحرم الله شيئا إلا لضرره الواضح، كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور 24/ 63] .
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فإن أعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به، فإن رسول الله بلغكم، فانقطعت حجتكم، ومن أنذر فقد أعذر، ولم يعد لكم مطمع في التعلل والاعتذار.
ثم أبان الله تعالى حكم الذين ماتوا قبل تحريم الخمر وهم يشربونها فقال:
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ... أي ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات كمن مات قبل تحريم الخمر والميسر كحمزة، ولا على الأحياء الباقين في الحياة الذين شربوا الخمر وأكلوا الميسر قبل التحريم مثل عبد الله بن مسعود إثم ومؤاخذة إذ ليس للتشريع ولا للقانون أثر رجعي، إذا ما اتقوا الله، وآمنوا بما أنزل من الأحكام، وعملوا الصالحات التي شرعت فيما مضى كالصلاة والصيام وغيرهما، ثم اتقوا ما حرّ