التفسير المنير للزحيلي 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب : التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج
المؤلف : د وهبة بن مصطفى الزحيلي
 
سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم، وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظّنّة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة. وردّ العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه، وردوا الأحاديث الواردة فيها، وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها.
وأجيبوا بالآثار والسنة، قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء:
يونس وزكريا ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» «1»
 
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه.
ودلت الآية أيضا على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدّة،
وقد قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم في ابنة حمزة- واسمها أمة الله- لجعفر، وكانت عنده خالتها، وقال فيما رواه الترمذي والشيخان عن البراء: «الخالة بمنزلة الأم»
وكان زكريا قد قال لأحبار بيت المقدس: ادفعوها لي فإن خالتها تحتي، فأبوا واقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة فقرعهم زكريا، فكفلها.
وكيف تمت القرعة؟ لما نذرت امرأة عمران والدة مريم ما في بطنها لخدمة الهيكل، جاءت بها إلى خدام الهيكل، فكل واحد منهم أراد أن يكفلها وألقوا قرعة على ذلك، فكانت مريم نصيب زكريا، فقام بأمرها كما قال تعالى:
وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا.
قال بعض العلماء: الحكمة في أنّ الله لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إلا (مريم) :
هي الإشارة من طرف خفي إلى رد ما قاله النصارى من أنها زوجته، فإن العظيم يأنف من ذكر اسم زوجته بين الناس، ولينسب إليها عيسى باعتبار عدم وجود أب له، ولهذا قال في الآية التالية: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.
__________
(1) حديث صحيح رواه أحمد والشيخان والنسائي.
(3/227)
 
 
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
قصة عيسى عليه السلام
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 51]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
 
الإعراب:
إِذْ ظرف زمان ماض، وهو بدل من قوله: إِذْ يَخْتَصِمُونَ في الآية السابقة.
اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى اسمه المسيح: جملة اسمية في موضع صفة لكلمة. وعِيسَى:
بدل من المسيح.
(3/228)
 
 
ابْنُ مَرْيَمَ إما بدل من عِيسَى أو خبر مبتدأ محذوف وتقديره: هو ابن مريم، ولا يجوز أن يكون وصفا لعيسى لأن اسمه عيسى فقط، وليس اسمه: عيسى بن مريم. وإذا كان كذلك وجب إثبات الألف في الخط من قوله: ابن مريم لأن الألف من ابْنُ إنما تسقط إذا وقعت وصفا بين علمين، ولا يجوز أن يكون هاهنا وصفا، فوجب أن تثبت.
وَجِيهاً وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ: كل ذلك أحوال من عيسى.
أَنِّي أَخْلُقُ فيه ثلاثة أوجه: الجر بدلا من بِآيَةٍ والرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره:
هو أني أخلق، والنصب بدلا من «أن» في قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ وهي في موضع نصب، وتقديره: جئتكم بأني قد جئتكم، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به. كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ الكاف في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف وتقديره: خلقا مثل هيئة الطير. وهاء فِيهِ إما أن تعود على الهيئة وهي الصورة بمعنى المهيأ، أو تعود على المخلوق لدلالة: أخلق عليه، أو تعود على الكاف في: كهيئة الطير لأنها بمعنى «مثل» .
وَمُصَدِّقاً منصوب على الحال من تاء جِئْتُكُمْ أي جئتكم مصدقا.
 
البلاغة:
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ كناية عن الجماع، مثل الكناية عنه بالحرث واللباس والمباشرة.
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ يوجد طباق بين لفظي لِأُحِلَّ وحُرِّمَ.
 
المفردات اللغوية:
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ المراد بها عيسى، وسمي بالكلمة لأنه وجد بكلمة كُنْ فَيَكُونُ.
الْمَسِيحُ لفظ معرب من العبرانية، وأصله: مشيحا لأنه مسح بالبركة أو بالدهن الذي يمسح به الأنبياء، وهو دهن طيب الرائحة. وعيسى: معرب يسوع بالعبرانية.
وَجِيهاً ذا جاه وكرامة في الدارين فِي الدُّنْيا بالنبوة وَالْآخِرَةِ بالشفاعة والدرجات العلا وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله فِي الْمَهْدِ مقر الصبي حين الرضاع وَكَهْلًا الكهل: الرجل التام السوي، وهو من بلغ الأربعين فأكثر قَضى أراد شيئا الْكِتابَ الكتابة والخط وَالْحِكْمَةَ العلم النافع وهو الذي يبصّر الإنسان بفقه الأحكام وسر التشريع.
وَالتَّوْراةَ كتاب موسى وَالْإِنْجِيلَ كتاب عيسى الذي أوحي إليه به.
(3/229)
 
 
أَنِّي أَخْلُقُ أصور، والخلق: التصوير والتكوين على مقدار معين، لا الإنشاء والاختراع كَهَيْئَةِ مثل صورة الطير الْأَكْمَهَ: من ولد أعمى الْأَبْرَصَ: الذي به برص أي بياض في الجلد يتطير به بِإِذْنِ اللَّهِ بإرادته.
 
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة زكريا ويحيى أقارب عيسى، وذكر قصة أمه، ناسب أن يذكر قصة عيسى وكيفية ولادته.
 
التفسير والبيان:
اذكر يا محمد لقومك وقت أن قال جبريل من الملائكة: إن الله يبشرك يا مريم بعيسى الموصوف بالكلمة على معنى: نبشرك بمكون منه أو بموجود من الله، إيذانا بأنه خلق خلقا غير عادي، استحق أن يوصف بهذه الصفة، وإن كان في الواقع أن جميع الكائنات وجدت بكلمة الله كما ذكر عقب خلق عيسى بقوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ وذكر في مكان آخر:
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس 36/ 82] لكن في العرف تنسب الأشياء الأخرى إلى الأسباب العادية، وأطلق اسم الكلمة على عيسى مجازا كما قال تعالى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء 4/ 171] .
والمراد من الملائكة هنا جبريل، لقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا، فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[مريم 19/ 17] وذكر بلفظ الجمع لأنه رئيسهم.
اسمه المسيح الذي جاء لرفع الظلم وهداية الناس وإشاعة الأخوة الصادقة فيما بينهم، وكانت مملكته روحانية لا جسدية. والمسيح: لقب الملك عندهم، فهو من ألقاب المدح. وقال القرطبي: معناه الصدّيق.
وإنما قيل: ابن مريم، مع أن الخطاب لها، إشارة إلى أنه ينسب لها، لولادته من غير أب، وليظل هذا الوصف ثابتا مقررا في الأذهان في كل زمان،
(3/230)
 
 
وردا على من ألّهه، وبيانا لمكانتها وتكريما لها.
وهو ذو وجاهة في الدنيا لما له من مكانة عند أتباعه والمؤمنين، وفي الآخرة بين الناس، ومن المقربين إلى الله يوم القيامة.
ويمتاز أيضا بأنه يكلم الناس وهو رضيع في المهد، وفي حال الكهولة وتمام الرجولة، كلاما متزنا معقولا. وهذا يشير إلى أنه سيكون رجلا سويا. قال ابن عباس: كان كلامه في المهد لحظة بما قصة الله علينا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام. وكانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش.
وهو كذلك من الصالحين الذين أنعم الله عليهم بالنبوة والاستقامة وصلاح الحال. ولما بشرت مريم بعيسى المتصف بما ذكر، قالت متعجبة: كيف يكون لي ولد، وليس لي زوج؟ فأجابها الله: مثل هذا الخلق المتعجب منه وهو خلق الولد بغير أب، يخلق الله ما شاء، فخلق السماء والأرض، وخلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وخلق جميع الموجودات في الأصل من غير سبب ظاهر.
وسبب التعبير في قصة زكريا وابنه يحيى بقوله تعالى: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ وفي قصة خلق عيسى بقوله: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ: هو أن إيجاد يحيى من شيخين عجوزين كإيجاد سائر الناس في العادة، فعبر عنه بالفعل، وأما إيجاد عيسى فهو من أم بلا أب، خلافا للمعتاد في التوالد، بل بمحض القدرة الإلهية، وهو أبلغ من إيجاد يحيى، فناسب التعبير عنه بالخلق والإيجاد والإبداع، لكونه من غير سبب عادي.
ثم أعقبه بما يناسبه ويؤكده فقال: إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، والمراد بالأمر هنا الأمر التكويني، لا الأمر التكليفي في مثل قوله تعالى:
أَقِيمُوا الصَّلاةَ وهذا تبيان لعظمة الله، ونفاذ أمره ومشيئته، وسرعة إنجاز مطلوبه، تقريبا للأذهان، وإلا فالإيجاد أسرع مما هو قائم بين حرفي
(3/231)
 
 
كُنْ. وهو يشبه قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت 41/ 11] .
وهناك خلق آخر أعظم من خلق عيسى وهو خلق آدم من غير أب ولا أم:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 59] .
فهذه الأحوال في الخلق على نحو غير عادي دليل على قدرة الله المطلقة، وإرادة تكميل الكون بعجائب المخلوقات.
ومن أوصاف عيسى: أن الله يعلمه الكتابة والخط، والعلم النافع الذي يبعث النفس إلى تنفيذ الفعل ويرشد إلى أسرار الأحكام، ويعرفه التوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أوحي إليه.
وأنه رسول مرسل إلى بني إسرائيل، مؤيد بآيات تدل على صدق رسالته وهي:
1- أنه يصور من الطين صورة على قدر معين كصورة الطير، لا ينشئ ويخترع من الطين هيئة جديدة، فينفخ فيه، فيكون طيرا بقدرة الله ومشيئته، لا بقدرته وأمره، فإنه مخلوق لا يقدر على هذا.
روي أنهم طالبوه بخلق خفّاش، فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه، فإذا هو يطير، وهم ينظرونه، فإذا غاب عن أعينهم، سقط ميتا، ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق وهو الله تعالى، وليعلم أن الكمال لله. قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم، سقط ميتا، ليتميز من خلق الله.
2، 3- ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله: وتخصيصهما بالذكر لأن مداواتهما أعيت الأطباء، علما بأن الطب كان متقدما في زمن عيسى، فأراهم
(3/232)
 
 
الله المعجزة من جنس الطب. قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالب في مصر على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار، وحيرت كل سحّار، فلما استيقنوا أنها من عند الله العظيم الجبار، انقادوا للإسلام، وصاروا من عباد الله الأبرار. وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه، إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبعث من هو في قبره. وقد أحيا صديقا له اسمه عازر، وابن العجوز، وابن العاشر، فعاشوا وولد لهم، وأحيا سام بن نوح ومات في الحال.
وكذلك محمد صلّى الله عليه وسلّم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتحليق الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عز وجل، فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله، لم يستطيعوا أبدا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وما ذاك إلا أن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبدا.
4- وأخبركم بما تأكلونه، وما تخبئونه وتحفظونه للمستقبل في بيوتكم.
والفرق بين إخبار النبي بالمغيباب وإخبار المنجمين والكهنة: أن النبي يخبر بإعلام الله من غير اعتماد على شيء آخر، أما الكاهن والمنجم فيعتمد على طرق الاحتيال واستخدام بعض الأسباب المؤدية إلى معرفته كالنجوم والجن وبعض الإنس.
إن في ذلك لدليلا قاطعا على صدق رسالتي، إن كنتم مصدقين بآيات الله الباهرة، مقرين بتوحيده وبقدرته الكاملة على كل شيء.
5- وجئتكم مصدقا لما تقدم من التوراة، لا ناسخا لها، ولا مخالفا أحكامها إلا ما خفف الله في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها، كما قال تعالى: وَلِأُحِلَّ
(3/233)
 
 
لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
أي بعض الطيبات التي كانت محرمة على بني إسرائيل بظلمهم، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء 4/ 160] قيل: من ذلك: السمك ولحوم الإبل والشحوم والعمل يوم السبت.
وما عدا ذلك جئت متفقا مع التوراة في أصول الدين كالتوحيد والبعث وفضائل الأخلاق، جاء في الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام: «ما جئت لأنقض الناموس- أي شريعة التوراة- ولكن لأكمله» .
6- وجئتكم بآية بعد آية من ربكم شاهدة على صدقي وصحة رسالتي. كرر ذلك للتأكيد وليبني عليه الأمر بالتقوى. وقد وحد الآية وهي آيات لأنها جنس واحد في الدلالة على رسالته.
فاتقوا الله في المخالفة، وأطيعوا فيما أدعوكم إليه وهو توحيد الإله: إن الله ربي وربكم، فاعبدوه، وهذا هو الطريق السوي الذي اتفقت عليه الرسل قاطبة، وهو المؤدي إلى خيري الدنيا والآخرة، فمن تعدى ذلك فهو في ضلال.
ففي هذا تلخيص لمهمة الرسالة وهي الأمر بالتقوى وإطاعة الله، والإقرار بالتوحيد: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، والاعتراف بالعبودية والخضوع لله، وهو منهج الحق المبين في مريم وابنها.
وهذا موجود في الإنجيل لأن فيه: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم.
والأب: السيد في تلك اللغة، بدليل أنه قال: وأبي وأبيكم، فعلم أنه لم يرد به الأبوة المقتضية للبنوة.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكرت الآيات بشارة الملائكة لمريم عليها السلام بأنه سيوجد منها ولد
(3/234)
 
 
عظيم، له شأن كبير، يكون وجوده بكلمة من الله أي يقول له: كن فيكون، واسمه المسيح مشهور في الدنيا يعرفه المؤمنون، وله وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة وينزله عليه من الكتاب والحكمة، وله وجاهة في الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه أسوة بإخوانه أولي العزم من الرسل عليهم السلام.
ويدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه، وهو صالح القول والعمل.
روى محمد بن إسحاق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تكلم أحد في صغره إلا عيسى وصاحب جريج» .
وروى مسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاث: عيسى، وصبي كان في زمن جريج، وصبي آخر» .
وهذا حصر نسبي في وقت ما، ثم أخبر الله نبيه في وقت آخر بآخرين، ومجموعهم سبعة: شاهد يوسف، وصبي ماشطة امرأة فرعون، وعيسى، ويحيى، وصاحب جريج، وصاحب الجبار، وصبي قصة الأخدود: وهو- كما في مسلم وغيره- أن امرأة جيء بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي يرضع، فتقاعست أن تقع فيها، فقال الغلام: يا أمّه، اصبري، فإنك على الحق.
ودل قوله تعالى: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ على أن أمر الله عظيم لا يعجزه شيء. وأكده بقوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ فلا يتأخر شيئا، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة، كقوله: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر 54/ 50] . أي إنما نأمر مرة واحدة دون تكرار ولا تثنية، فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح البصر.
ودلت الآيات على خصائص عيسى عليه السلام وما أيده الله به من معجزات
(3/235)
 
 
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
خارقة للعادة، وهي كلها من صنع الله مباشرة، ومعناها سنة جديدة بخلاف كل ما نراه يوميا من عظة وعظمة.
وكان عيسى أحد الرسل إلى بني إسرائيل. روي أن الوحي أتاه وهو ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين، ثم رفع إلى السماء.
ولا تختلف دعوة عيسى عن دعوات سائر الأنبياء، كما أوضحت هذه الآيات، فهو يدعو إلى تقوى الله وطاعته فيما جاء به عنه، ويأمر بالتوحيد والاعتراف بالعبودية لله، وذلك هو الصراط المستقيم أي أقرب طريق موصل إلى الله تعالى.
 
عيسى مع قومه المؤمنين والكفار
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 58]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
(3/236)
 
 
الإعراب:
إِذْ قالَ اللَّهُ إذ: تتعلق بفعل مقدر، تقديره: اذكر أني متوفيك ورافعك إليّ وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه وجهان: إما أنه معطوف على ما قبله، وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وما قبله خطاب لعيسى، وإما أنه معطوف على مُتَوَفِّيكَ وكلاهما لعيسى.
مِنَ الْآياتِ حال من الهاء في نَتْلُوهُ وعامله ما في ذلك من معنى الإشارة.
 
البلاغة:
فَلَمَّا أَحَسَّ استعارة، إذ الكفر ليس بمحسوس وإنما يعلم ويفطن به.
وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ من باب المشاكلة. ويوجد جناس اشتقاق بين مَكَرُوا والْماكِرِينَ.
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ فيه التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة، تنويعا للفصاحة.
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب.
 
المفردات اللغوية:
أَحَسَّ علم علما لا شبهة فيه، كعلم ما يدرك بالحواس. واستعمالها في إدراك الأمور المعنوية مجاز مَنْ أَنْصارِي أعواني إِلَى اللَّهِ أي مع الله، فإلى بمعنى مع، أو من أعواني في السبيل إلى الله لأنه دعاهم إلى الله عز وجل، أو من يضم نصرته إلى نصرة الله عز وجل.
قالَ الْحَوارِيُّونَ: واحدهم حواري، وحواري الرجل: صفيّه وناصره، فالحواريون: هم أصحاب عيسى وأنصاره وأصفياؤه. والحور: البياض الخالص، وصفوا به لبياض قلوبهم وصفاء سريرتهم «1» .
ورد في الصحيحين: «لكل نبي حواري، وحواريّ الزبير» .
نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أعوان دينه، وهم أول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلا.
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ منقادون لما تريده منا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق.
__________
(1) وقيل: كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها.
(3/237)
 
 
وَمَكَرُوا المكر: تدبير خفي يفضي بالممكور به إلى ما لم يكن يحتسب، وغلب استعماله في التدبير السيء. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أعلمهم به وأعرفهم بالتدابير، وهو المجازي على المكر.
وكان مكر كفار بني إسرائيل بعيسى: أن وكلوا به من يقتله غيلة، ولكن الله ألقى شبه عيسى على من قصد قتله، فقتلوه، ورفع عيسى إلى السماء.
إِنِّي مُتَوَفِّيكَ التوفي: أخذ الشيء وافيا تاما، ثم استعمل بمعنى الإماتة، كما قال تعالى:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر 39/ 42] فمعنى مُتَوَفِّيكَ قابضك. وَرافِعُكَ إِلَيَّ من الدنيا من غير موت، فإذا كان عيسى حيا حين الرفع كان في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: أني رافعك إليّ ومتوفيك، والواو لا تدل على الترتيب. وقيل: معنى: إني متوفيك:
قابضك ورافعك إلي، أي إلى كرامتي.
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مبعدك، وتطهيره من الذين كفروا: براءته مما كانوا يزمونه به بتهمة أمه بالزنا. وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وهم اليهود، والفوقية بمعنى العلو عليهم بالحجة والسيف. فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يشمل المسيح والمختلفين معه والاختلاف بين أتباعه والكافرين به.
عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي والجزية وَالْآخِرَةِ بالنار ناصِرِينَ مانعين منه وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي يعاقبهم ذلِكَ المذكور من أمر عيسى نَتْلُوهُ نقصه وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ المحكم أي القرآن.
 
سبب النزول: نزول الآية (58) :
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راهبا نجران، فقال أحدهما: من أبو عيسى؟ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يعجل حتى يؤامر ربه، فنزل عليه ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إلى قوله مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
وسيأتي بيان روايات أخرى في بيان سبب نزول آية: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ إلى قوله مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
 
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى معجزات وخصائص عيسى عليه السلام، ذكر هنا
(3/238)
 
 
قصته مع قومه، حيث دعاهم للإيمان، فآمن به بعضهم، وأعرض الآخرون، وما لقيه منهم من إيذاء وعزم على قتله، وإنجائه منهم برفعه إليه، وإنذار الكافرين بالعذاب الشديد، ومجازاة المؤمنين الذين عملوا الصالحات. وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان أن الأدلة وحدها لا تؤدي إلى الإيمان، وإنما لا بد من هداية الله وتوفيقه.
 
التفسير والبيان:
لما شعر عيسى من قومه بني إسرائيل بالتصميم على الكفر، والاستمرار على الضلال، وتحقق من ذلك، أراد التعرف صراحة عن المؤمنين بدعوته، فقال:
من يتبعني إلى الله، ومن ينصرني ملتجئا إلى الله؟ والظاهر أنه يريد: من أنصاري في الدعوة إلى الله،
كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في مراسم الحج قبل أن يهاجر: «من رجل يؤويني حتى أبلّغ كلام ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلّغ كلام ربي؟»
فوجد الأنصار، فآووه ونصروه وهاجر إليهم، فواسوه ومنعوه من الأعداء.
وهكذا عيسى انتدب طائفة من بني إسرائيل لنصرته، فآمنوا به وآزروه ونصروه، كما جاء في آية أخرى: «كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ [الصف 61/ 14] .
قال الحواريون أي الأنصار: نحن أنصار دين الله وجنوده المخلصون المؤيدون دعوتك، آمنا بوجود الله وبوحدانيته إيمانا صادقا، واشهد بأنا مسلمون، أي خاضعون منقادون لأوامره، وجوهر الإسلام متفق عليه بين كل الأديان.
ثم تضرعوا إلى الله قائلين: ربنا آمنا وصدقنا بما أنزلت في كتابك واتبعنا الرسول عيسى ابن مريم، فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لأنبيائك
(3/239)
 
 
بالصدق. وذكر الاتباع في قولهم دليل على صحة الإيمان، لأن الإيمان يقتضي العمل.
ثم أخبر الله تعالى عن مؤامرة جماعة من بني إسرائيل على قتل عيسى، فوشوا به إلى ملك ذلك الزمان، وكان كافرا: أن هنا رجلا يضل الناس، ويصدهم عن طاعة الملك، ويفسد الرعايا، ويفرق بين الأب وابنه، وهذا هو مكرهم بتوكيل من يقتله غيلة، فأبطل الله مكرهم وأفسد تدابيرهم، إذ بعث الملك في طلبه لأخذه وصلبه والتنكيل به، فلما أحاطوا بمنزله، وظنوا أنهم قد ظفروا به، بإلقاء شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل، نجّاه الله تعالى من بينهم، ورفعه إلى السماء.
والله خير المدبرين، وأنفذهم خطة، وأحكمهم وأقواهم صنعا، وأقدرهم على إضرارهم، وإتمام حكمته، وإنفاذ مشيئته، وتركهم في ضلالهم يعمهون:
يعتقدون أنهم قد ظفروا بمطلبهم، وحققوا مأربهم.
وقال أبو حيان: معناه: أي المجازين أهل الخير بالفضل وأهل الجور بالعدل لأنه فاعل حق في ذلك، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب «1» .
ثم ذكر الله رفع عيسى إلى السماء مخاطبا نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم وقائلا: اذكر يا محمد حين قال الله لعيسى: إني موفيك أجلك كاملا، ورافعك إلي، وهذه بشارة له بنجاته من كيدهم وتدبيرهم.
وللمفسرين رأيان في تأويل هذه الآية:
1- إن في الآية تقديما وتأخيرا: والتقدير: إني رافعك إلي ومطهرك من
__________
(1) البحر المحيط: 2/ 472
(3/240)
 
 
الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، أي أنه رفعه إلى السماء حيا بجسمه وروحه، وسينزل في آخر الزمان، فيحكم بشريعة الإسلام، ثم يميته الله. وهذا ما دلت عليه الأحاديث النبوية الصحيحة،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» .
2- التوفي: الإماتة العادية، والرفع: رفع الروح والمكانة، لا المكان، كما قال تعالى في شأن إدريس عليه السلام: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم 19/ 57] وقال في شأن المؤمنين: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر 54/ 55] ويكون المعنى: إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان علي رفيع.
ويؤيد التأويل الأول أكثر العلماء، وقال بعضهم وهو الربيع بن أنس:
المراد بالوفاة هاهنا: النوم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام 6/ 60] وقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر 39/ 42]
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا قام من النوم: «الحمد لله الذي أحيانا، بعد ما أماتنا» .
وقال القرطبي: والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس.
وذكر الله تعالى قصة صلب عيسى ورفعه في آيات أخرى هي: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ، وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ، وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ، وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [النساء 4/ 156- 159] . والضمير في قوله قَبْلَ مَوْتِهِ عائد على عيسى عليه السلام، أي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن
(3/241)
 
 
بعيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم لأنه يضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام.
ثم أبان الله تعالى بعض وجوه أخرى من إكرام عيسى عليه السلام، فقال:
وجاعل الذين آمنوا بأنه عبد الله ورسوله، وصدقوه في قوله، واتبعوا دينه فوق الذين كفروا أي أعلى منهم، وهي إما فوقية روحانية: وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق، والبعد عن الباطل، وإما فوقية دنيوية وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم، وليس ذلك أمرا مطردا دائما في كل وقت، مما يرجح كون الفوقية روحانية ومعنوية وأدبية.
هذه الفوقية في صحة العقيدة وسمو الآداب والأخلاق وقوة الحجة وعلو القدر تدوم لأهل الإيمان إلى يوم القيامة.
ثم مصيركم جميعا إلى يوم البعث، فأحكم بينكم فيما اختلفتم فيه من أمور الدين.
ثم بيّن الله جزاء المحق والمبطل: فأما الذين كفروا بعيسى وكذبوه وهم اليهود فلهم عذاب في الدنيا بذنوبهم بالإذلال والقتل والأسر وتسليط الأمم عليهم، وعذاب في الآخرة بنار جهنم، وما لهم في الآخرة من نصير ولا معين.
وأما الذين آمنوا بعيسى وصدقوا بنبوته وبما جاء به من عند الله، وعملوا صالحا بتنفيذ الأوامر وترك النواهي، فيعطيهم الله أجورهم كاملة غير منقوصة.
ثم أكد تعالى جزاء الكافرين فقال: والله لا يحب الظالمين أي يعاقبهم ويجازيهم بما يستحقون، أو لا يريد ظلم الظالمين.
هذه الأخبار عن عيسى نتلوها عليك يا محمد، وهي من الأدلة الواضحة الدالة على صدق نبوتك، وهي من القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبرة والحكمة
(3/242)
 
 
والعظة في الأخبار والأحكام، فيهتدي المؤمنون بها إلى الحق ومعرفة سر الشريعة وجوهر الدين. وشبيه ذلك قوله تعالى: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ، إِذا قَضى أَمْراً، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [مريم 19/ 34- 35] .
 
فقه الحياة أو الأحكام:
أصحاب الدعوات الإصلاحية وعلى رأسهم الأنبياء يتعرضون بسبب دعوتهم إلى مختلف أنواع الأذى والطرد ومحاولة الاغتيال. ولكن اقتضت الحكمة الإلهية ألا ينضب الخير والفلاح بين الناس، فيهيّئ أناسا يؤازرون المصلحين، ويحتاج القائد إلى أن يتعرف على أتباعه وأنصاره المخلصين، كما فعل عيسى عليه السلام بالتعرف على الحواريين، ليعتمد عليهم وقت الشدة والأزمة، ويساعدونه في تحمل عبء الدعوة إلى الله، وهذا هو المراد بقوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ.
ولما أخرج بنو إسرائيل عيسى وأمه من بين أظهرهم، عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فهموا بقتله، وتواطؤوا على الفتك به، فذلك مكرهم. ومكر الله في رأي الفراء: استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون، وفي رأي الزجاج: مكر الله: مجازاتهم على مكرهم، فسمى الجزاء باسم الابتداء، كقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَهُوَ خادِعُهُمْ
وهذا على طريق المشاكلة، وهو الرأي المشهور بين العلماء: رأي الجمهور.
والصحيح لدى المحققين من العلماء أن الله رفع عيسى عليه السلام إلى السماء من غير وفاة ولا نوم. وسينزل في آخر الزمان.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركنّ القلاص «1» ،
__________
(1) القلاص: جمع قلوص وهي الناقة الشابة.
(3/243)
 
 
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعونّ إلى المال، فلا يقبله أحد» .
وأما تطهيره من الذين كفروا: فهو إنجاؤه مما كانوا يرمونه به، أو يرومونه منه، ويريدونه به من الشر.
وأما قوله وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ففيه رأيان: قال الضحاك ومحمد بن أبان: المراد الحواريون. وقال آخرون:
الخطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والفوقية: بالحجة وإقامة البرهان، وقيل: بالعز والغلبة.
والتفوق بالحجة على صحة دين الإسلام بالمعنى العام الذي يتفق عليه جميع الأنبياء وأتباع عيسى وموسى وغيرهم من أتباع محمد صلوات الله وسلامه عليهم: هو الأولى، مثل آية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.. [النور 24/ 55] .
وجزاء الكافرين: النار في الآخرة، والقتل والصلب والسبي والإذلال في الدنيا. وجزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات: السعادة والاطمئنان في الدنيا، والجنة في الآخرة، فهي سعادة في الدارين.
 
الرّدّ على من زعم ألوهية عيسى والمباهلة
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 59 الى 63]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
(3/244)
 
 
الإعراب:
خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسّرة للمثل، وهي موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل:
ما المثل؟ فقال: خلقه من تراب، أي المثل خلقه من تراب. ولا يجوز أن يكون وصفا لآدم لأن آدم معرفة، والجملة لا تكون إلا نكرة، والمعرفة لا توصف بالنكرة. ولا يجوز أيضا أن يكون حالا لأن خَلَقَهُ فعل ماض، والفعل الماضي لا يكون حالا.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الحق: خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا الحقّ من ربّك، أو هو الحقّ، أي أمر عيسى.
وَما مِنْ إِلهٍ من: زائدة للتوكيد.
 
البلاغة:
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أتى بوصف الربوبية وأضافه إلى الرّسول عليه الصلاة والسلام لتشريفه.
فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ هذا من باب الإثارة والإلهاب، لزيادة التّثبيت.
 
المفردات اللغوية:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى المثل: الشأن الغريب والحال المدهشة. عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ أي كشأنه في خلقه من غير أم ولا أب، وهو من تشبيه الغريب بالأغرب، ليكون أوقع في النفس وأقطع لقول الخصم.
والمراد أنّ شبه عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سبق، كشأن آدم في ذلك، ثم فسّر هذا المثل بقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي خلق قالبه وقدر أوضاعه وكون جسمه من تراب ميّت أصابه الماء، فكان طينا لازبا لزجا. ثم قال له: كن بشرا، فكان، وكذلك عيسى قال له:
كن من غير أب فكان.
فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين فيه، الامتراء: الشّك. فَمَنْ حَاجَّكَ جادلك من النصارى. ثُمَّ نَبْتَهِلْ نتضرّع في الدّعاء، وابتهل القوم: تلاعنوا، والبهلة: اللعنة. فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ بأن نقول: اللهمّ العن الكاذب في شأن عيسى.
وقد دعا صلّى الله عليه وسلّم وفد نجران لذلك، لما حاجوه به، فقالوا: حتى ننظر في أمرنا، ثم نأتيك، فقال ذو رأيهم- مستشارهم، واسمه «العاقب» : «لقد عرفتم نبوّته، وأنه ما باهل قوم نبيّا إلا هلكوا» ، فودّعوا الرجل وانصرفوا، فأتوا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد خرج، ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي، وقال لهم: إذا دعوت، فأمّنوا، فأبوا أن يلاعنوا وصالحوه على الجزية. رواه نعيم.
(3/245)
 
 
الْقَصَصُ الخبر. الْحَقُّ الذي لا شكّ فيه. الْعَزِيزُ أي ذو العزّة الذي لا يغالبه أحد في ملكه. الْحَكِيمُ ذو الحكمة الذي لا يساميه أحد في صنعه.
 
سبب النزول:
قال المفسّرون: إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: وما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد، قال: أجل، إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية «1» .
 
المناسبة:
ذكر الله تعالى سابقا قصة عيسى وأمه، وإيمان بعض قومه به، وكفر بعض آخر، وهنا ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه «كلمة الله وروح الله» : أنّ الله حلّ في أمه، وأن كلمة الله تجسّدت فيه، فصار إنسانا وإلها ذا طبيعة مزدوجة، فردّ الله عليهم بأن خلق آدم أعجب من خلق عيسى.
 
التفسير والبيان:
إن صفة عيسى في قدرة الله حيث خلقه من غير أب كمثل آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم، بل خلقه من تراب، وقدره جسدا من طين، ثم قال له:
كن فيكون أي أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه. شبّه الغريب بالأغرب منه، والتشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم، لا على أنه خلق من تراب، والشيء قد يشبّه بالشيء لاتّفاقهما في وصف واحد، وإن اختلفا في أمور أخرى.
فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى،
__________
(1) البحر المحيط: 2/ 477
(3/246)
 
 
وإن جاز ادّعاء النبوّة في عيسى، لكونه مخلوقا من غير أب، فجواز ادعائها في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتّفاق أن ذلك باطل، فدعوى النبوّة في عيسى أشدّ بطلانا.
ولكن الله تعالى أراد أن يظهر قدرته للناس حين خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية البشر من ذكر وأنثى. ولهذا قال تعالى في سورة مريم: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [21] ، وقال هنا: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.
هذا الذي أخبرتك به من شأن عيسى ومريم هو القول الحق، لا ما اعتقده النصاري في المسيح من أنه إله، ولا ما زعمه اليهود من رمي مريم بيوسف النّجار.
فلا تشكنّ في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به. وهذا النهي يثير في النّبي وأمّته ضرورة الاعتصام باليقين واطمئنان النفس إلى الخبر الإلهي. أي واظب على يقينك وطمأنينة نفسك إلى الحقّ والبعد عن الشّك فيه، أو أن الخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن شاكّا في أمر عيسى عليه السّلام.
فمن جادلك في شأن عيسى عليه السّلام بعد معرفة الحقّ واليقين فادعهم إلى المباهلة أي الملاعنة: بأن نتباهل وندعو الله أن يلعن الكاذب ويطرده من رحمته. وهذه الآية تسمى آية المباهلة.
وقد ثبت أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم دعا نصارى نجران للمباهلة، فأبوا.
جاء في سيرة ابن إسحاق: أنه قدم سنة تسع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد نصارى نجران ستون راكبا: فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم، منهم: «العاقب» واسمه عبد المسيح، وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه. ومنهم السيّد وهو الأيهم، وكان عالمهم، ومنهم أبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وكان أسقفهم. فدخلوا بعد العصر
(3/247)
 
 
مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصلوا صلاتهم إلى المشرق، ثمّ كلّموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا عن عيسى: هو الله، هو ولد الله، هو ثالث ثلاثة، فنزل القرآن للرّدّ عليهم.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه: أنه جاء العاقب والسيّد صاحب نجران إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيّا، فلاعناه، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. فقال: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال: لأبعثنّ معكم رجلا أمينا حق أمين، قم يا أبا عبيدة بن الجرّاح، فلما قام قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا أمين هذه الأمّة.
وروي أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما: الحسن والحسين، وخرج بهم وقال: إن أنا دعوت، فأمّنوا أنتم.
وبعد أن رفضوا المباهلة صالحوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم على الجزية: وهي دفع ألف حلّة في صفر، وألف في رجب ودراهم.
وهذا يدلّ على قوة اليقين والثّقة بما يقول، وعلى أن امتناعهم عن المباهلة فيه تقرير للخطر وكونهم على غير بيّنة فيما يعلنون، فما أمكنهم الإقدام على المباهلة.
إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو القصص الحق الذي لا مرية فيه ولا جدال، لا ما يدّعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله، ولا ما يدّعيه اليهود من كونه ابن زنا. وسمّيت قصصا لأن المعاني تتابع فيها.
وليس هناك إله إلا الله العزيز الذي لا يغلبه أحد، الحكيم: ذو الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه الصحيح المناسب له.
فإن أعرضوا بعد هذا عن اتّباعك وتصديقك، ولم يعلنوا وحدانية الله، ولم يجيبوا
(3/248)
 
 
إلى المباهلة، فإن الله عليم (واسع العلم) بحال المفسدين، وسيجازيهم على أعمالهم شرّ الجزاء. وكلّ من عدل عن الحقّ إلى الباطل فهو المفسد، والله قادر عليه لا يفوته شيء.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
إن عجائب الخلق وخلق الكائنات وأمر الخليقة تدلّ على وجود الخالق وهو الله تعالى، كما قال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ، قَوْلُهُ الْحَقُّ [الأنعام 6/ 73] . ومن خلقه تعالى: خلق الناس على وفق قوانين عادية، أو على غير العادة، مثل خلق آدم، وحواء، وعيسى. وعقد الشّبه بين آدم وعيسى هو في أنهما خلقا من غير أب، وذلك للرّدّ على وفد نجران الذين أنكروا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم قوله: إن عيسى عبد الله وكلمته، فقالوا: أرنا عبدا خلق من غير أب؟!
فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم: آدم، من كان أبوه؟ أعجبتم من عيسى ليس له أب؟ فآدم عليه السّلام ليس له أب ولا أم.
وآية المباهلة حدّ فاصل في الجدال لأن اللعنة محقّقة فيها على الكاذب.
وهذه الآية من أعلام نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه دعاهم إلى المباهلة، فأبوا ورضوا بالجزية، بعد أن أعلمهم كبيرهم: العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا، فإن محمدا نبيّ مرسل، ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى فتركوا المباهلة، وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حلّة في صفر، وألف حلّة في رجب، فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذلك بدلا من الإسلام.
ودلّ قوله تعالى: نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحسن: «إنّ ابني هذا سيّد» «1»
 
على خصوصية تسمية الحسن والحسين: ابني النّبي صلّى الله عليه وسلّم دون غيرهما،
لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي» «2» .
__________
(1) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي بكرة.
(2) رواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن عمر.
(3/249)
 
 
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
الدّعوة إلى توحيد الله وعبادته وملّة إبراهيم
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 64 الى 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
 
الإعراب:
سَواءٍ صفة لكلمة، أي كلمة مستوية. أَلَّا نَعْبُدَ بدل مجرور من كلمة. ويجوز رفعه خبرا لمبتدأ محذوف وتقديره: هي ألا نعبد إلا الله، أو جعله مبتدأ، أي بيننا وبينكم ترك عبادة غير الله. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها للتنبيه، وأنتم: مبتدأ، وهؤلاء: خبره. حاجَجْتُمْ جملة مستأنفة مبيّنة للجملة الأولى أي أنتم هؤلاء أنكم جادلتم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ: خبر إن. وَهذَا عطف عليه. النَّبِيُّ صفة لهذا أو بدل منه أو عطف بيان.
 
البلاغة:
كَلِمَةٍ مجاز إذ أطلق الواحد على الجمع. أَرْباباً فيه تشبيه طاعتهم لرؤساء الدّين في أمر التحليل بالرّب المستحق وحده للعبادة. أَوْلَى وأَوْلَى فيه جناس اشتقاق.
(3/250)
 
 
المفردات اللغوية:
يا أَهْلَ الْكِتابِ هم اليهود والنصارى. تَعالَوْا أقبلوا. سَواءٍ مستو أمرها بين الفريقين، والسّواء: العدل والوسط الذي لا تختلف فيه الشرائع. أَرْباباً جمع ربّ: وهو السّيّد المربي المطاع فيما يأمر وينهى، ويراد به هنا: ما له حق التشريع من تحريم وتحليل. أما الإله:
فهو المعبود الذي يدعى حين الشدائد ويقصد عند الحاجة لأنه مصدر الفرج.
مُسْلِمُونَ منقادون لله مخلصون له موحدون.
تُحَاجُّونَ تخاصمون وتجادلون. حَنِيفاً مائلا عن العقائد الزائفة الباطلة إلى الدّين الحق القيّم. مُسْلِماً موحّدا مخلصا مطيعا له.
إِنَّ أَوْلَى أحق. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ناصرهم وحافظهم.
 
سبب النزول:
نزول الآيات (65- 67) :
أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيا، فأنزل الله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ الآية» .
 
نزول الآية (68) :
سأل اليهود قائلين: والله يا محمد، لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وإنه كان يهوديا، وما بك إلا الحسد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لكلّ نبيّ ولاة من النّبيين، وإن وليي أبي وخليل ربي، ثم قرأ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهذَا النَّبِيُّ الآية.
(3/251)
 
 
المناسبة:
أقام القرآن الحجة على النصارى في ادّعائهم ألوهية المسيح، ثم دعا هنا اليهود والنصارى إلى أصل الدّين وروحه الذي اتّفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو توحيد الله وعبادته، والاقتداء بإبراهيم أبي الأنبياء عليهم السّلام إذ أن ملّته ملّة الإسلام، ولم يكن يهوديا ولا نصرانيا.
 
التفسير والبيان:
قل يا محمد: يا أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى جميعا، أقبلوا وهلمّوا إلى كلمة عادلة وسطى سواء بين الفريقين اتّفقت عليها جميع الشرائع والرّسل والكتب التي أنزلت إليهم، فأمرت بها الصّحف والكتب الأربعة: التّوراة والزّبور والإنجيل والقرآن، وهي كلمة التّوحيد: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وعبادة الله وتفويض سلطة التشريع والتحليل والتحريم إليه، وعدم الشرك به شيئا، وعدم اتّخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، كالوثن والصليب والصنم والطاغوت والنار.
هذه الآية حوت وحدانية الألوهية في قوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، ووحدانية الرّبوبية في قوله: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وهذه دعوة جميع الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، قال الله تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء 21/ 25] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 16/ 36] .
وكان اليهود موحدين، ولكن مفهوم الإله فيهم أصبح ليس هو الإله الحق، واتبعوا رؤساء الدين فيما يخترعون من أحكام، وكذلك كان النصارى موحدين وما زالوا يدعون الوحدانية، لكنهم انتقلوا من ادعاء نبوة عيسى لله والتثليث إلى
(3/252)
 
 
ادعاء ألوهيته وأن الثلاثة واحد، وهو عيسى، ورفضت فرقة الإصلاح «البروتستانت» فكرة ألوهية عيسى.
روى عدي بن حاتم قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [31] فقلت له: يا رسول الله، لم يكونوا يعبدونهم، فقال: ما كانوا يحللون لكم ويحرّمون، فتأخذون بأقوالهم؟ قال:
نعم، فقال عليه الصّلاة والسّلام: هو ذاك»
، وعلى هذا خوطب أهل الكتاب بهذا الخطاب لأنهم جعلوا أحبارهم في الطاعة لهم كالأرباب.
فإن أعرضوا عن هذه الدعوة أو التحكيم، وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله، فقولوا لهم: إنا مسلمون حقا، منقادون لله، مخلصون له الدّين، لا نعبد أحدا سواه، ولا نطلب النّفع أو دفع الضّرر من غيره، ولا نحلّ إلا ما أحلّه الله، ولا نحرّم إلا ما حرّمه الله.
وهذه الآية هي جوهر رسائل النّبي صلّى الله عليه وسلّم وكتبه إلى ملوك وأمراء العالم من أهل الكتاب وغيرهم، مثل كسرى ملك الفرس الوثنيين، وهرقل ملك الرّوم النصارى، والنّجاشي النّصراني والمقوقس عظيم أقباط مصر وغيرهم. واشتملت كل تلك الكتب على هذه الآية، وهنا أذكر كتابه إلى هرقل،
جاء في صحيح مسلم: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الرّوم. سلام على من اتّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين- أي الشعب من فلاحين وخدم وأتباع وغيرهم، ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» .
(3/253)
 
 
المحاجّة في انتماء إبراهيم:
أيها اليهود والنصارى، لم تتنازعون في إبراهيم الخليل عليه السلام ويدّعي كل منكم أنه كان منكم على دينه؟ كيف تدّعون أيها اليهود أنه كان يهوديا، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانيا، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر؟
فما أنزلت التوراة على موسى، ولا الإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم بأزمان طويلة، قيل: كان بين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة، وبين موسى وعيسى حوالي ألف سنة.
لهذا قال تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ أن المتقدم على الشيء لا يكون تابعا له؟ وألا تعقلون ضعف حجّتكم وانهيارها وبطلان قولكم؟
ثم أشار الله تعالى إلى جهلهم وحماقتهم في دعواهم هذه، فقال: ها أنتم هؤلاء تجادلون وتحاجّون فيما لكم به علم ومعرفة من أمر عيسى «1» عليه السّلام مما نطق به التّوراة والإنجيل، وقد قامت عليكم الحجّة وظهر الغلط، فكيف تحاجّون، وعلى أي أساس تجادلون في شأن إبراهيم عليه السّلام أنه كان يهوديا أو نصرانيا، وليس لكم به علم ولا نزل في شأنه شيء في دينكم وكتبكم، فمن أين أتاكم أنه كان يهوديا أو نصرانيا؟ والله يعلم ما غاب عنكم ولم تشاهدوه، وأنتم لا تعلمون إلا ما عرفتم وعاينتم وشاهدتم أو سمعتم؟
فهذا إنكار من الله عليهم مثل تلك الدّعاوى والمحاجّة في إبراهيم والمحاجّة فيما لا علم لهم به، وأمرهم بردّ ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقيقتها.
__________
(1) وقال القرطبي: يعني في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا يعلمونه من نعته في كتابهم.
(3/254)
 
 
ثم جاء القرار الإلهي الحاسم في شأن إبراهيم، وهو أنه ما كان يهوديا ولا نصرانيا، ولكن كان حنيفا مائلا عن الشرك بالله والوثنية، مسلما منقادا لله مطيعا لأوامره، مجتنبا نواهيه، فأهل دينه الذين هم على منهاجه وشريعته هم أهل الإسلام، فهم الصادقون، وأما اليهود والنصارى فهم الكاذبون.
وما كان أيضا من المشركين الذين يسمون أنفسهم الحنفاء، ويدّعون أنهم على ملّة إبراهيم، وهم قريش ومن تبعهم من العرب.
ثم أكّد تعالى ما سبق بقوله: إن أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته هم المؤمنون بالله وحده لا شريك له، المخلصون له الدّين، وهذا النّبي محمد والذين آمنوا معه، فهم أهل التوحيد المتفقون على وحدانية الله وألوهيته وربوبيته، وهذا هو روح الإسلام، والله ناصر المؤمنين ومؤيدهم، وموفقهم ومتولي أمورهم ومصلح شؤونهم، بإرسال الرّسل إليهم.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
إن إطاعة غير الله تعالى من الأحبار وعلماء الدّين في الأحكام الشرعية بالتحليل والتحريم يجعل الأحبار كالأرباب، وهذا يقتضي تخصيص الطاعة لله تعالى.
وإن ملتقى الأديان هو الانصياع تحت راية التوحيد وهي كلمة «لا إله إلا الله» وعبادته وحده، والاعتماد في التشريع على الله تعالى فهو مصدر الشرائع الحقّ. لذا خاطبهم القرآن بقوله: أجيبوا إلى ما دعيتم إليه، وهو الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، وهي قوله تعالى: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ.
ودلّ قوله تعالى: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ على أنه لا يجوز اتّباع من سوى الله في تحليل شيء أو تحريمه، إلا فيما حلله الله تعالى،
(3/255)
 
 
وهو نظير قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة 9/ 31] ، معناه: أنهم أنزلوهم منزلة ربّهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرّمه الله ولم يحلّه الله.
وفي هذا حجّة على أنّ مسائل الدّين كالعبادات والتّحريم والتّحليل لا يؤخذ فيها إلا بقول النّبي المعصوم، لا بقول إمام ولا فقيه، وإلا كان إشراكا في الرّبوبية، وهذا ما ندّد به القرآن في آيات مثل قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى 42/ 21] ، وقوله: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ: هذا حَلالٌ، وَهذا حَرامٌ [النحل 16/ 116] .
أما المسائل الدّنيوية كالقضاء والسياسة فهذه فوّض أمرها إلى أهل الحلّ والعقد وهم أهل الشورى، فما أمروا به وجب تنفيذه وقبوله.
وإن أعرض أهل الكتاب عما دعوا إليه وهي الكلمة السواء نقول: نحن مسلمون أي متّصفون بدين الإسلام، منقادون لأحكامه، معترفون بما لله علينا في ذلك من النّعم، غير متّخذين أحدا ربّا، لا عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة لأنهم بشر مثلنا، ولا نقبل من الرّهبان شيئا بتحريمهم علينا ما لم يحرّمه الله علينا، فنكون قد اتّخذناهم أربابا.
وأبين آية وحجّة على اليهود والنصارى الذين ادّعوا أن إبراهيم كان على دين كل منهم آية: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ ... فهي تكذبهم بأن اليهودية والنصرانية إنما كانتا من بعده، وذلك قوله: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فكيف يكون إبراهيم منسوبا إلى ملّة حادثة بعده؟ هذا فضلا عن أن اليهودية ملّة محرّفة عن ملّة موسى عليه السلام، والنّصرانية ملّة محرّفة عن شريعة عيسى عليه السلام.
ودلّت آية: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ ... على المنع من الجدال لمن لا علم
(3/256)
 
 
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
له. أما الجدال لمن علم وأيقن، والاحتجاج للحقّ فهو جائز، لقوله تعالى:
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل 16/ 125] ، ومثاله:
ما روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أتاه رجل أنكر ولده فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال:
حمر، قال: هل فيها من أورق «1» ؟ قال: نعم. قال: «فمن أين ذلك؟» قال: لعل عرقا نزعه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وهذا الغلام لعل عرقا نزعه»
ودلّت هذه الآية على وجوب المحاجّة في الدّين وإقامة الحجّة على المبطلين، كما احتجّ الله تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه السلام، وأبطل بها شبهتهم.
وإبراهيم كان على الحنيفية الإسلامية، ولم يكن مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا، وأحقّ الناس بإبراهيم ونصرته: هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره وبعده، وكانوا حنفاء مسلمين مثله غير مشركين، وأيضا هذا النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا معه، فإنهم أهل التوحيد. والله ولي المؤمنين، أي ناصرهم.
أخرج الترمذي عن ابن مسعود أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لكل نبيّ ولاة من النّبيين، وإن وليي أبي وخليل ربّي، ثم قرأ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ» .
 
محاولة بعض أهل الكتاب إضلال المسلمين والتلاعب بالدين والعصبية الدينية
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 74]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
__________
(1) الأورق: الذي لونه بين السواد والغبرة.
(3/257)
 
 
الإعراب:
أَنْ يُؤْتى مفعول به لتؤمنوا، وتقدير الكلام: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم، فتكون لام لِمَنْ على هذا زائدة وهو اختيار السيوطي، ومن في موضع نصب لأنه استثناء منقطع. ويجوز أن تكون اللام غير زائدة، ومتعلّقة بفعل مقدّر دلّ عليه الكلام لأن معناه: لا تقرّوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، فتتعلّق الباء واللام (بتقروا) .
والتأويل عند الزمخشري: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، أي أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم. وجملة قُلْ: إِنَّ الْهُدى..
اعتراضية. وقوله: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على أَنْ يُؤْتى. والضمير في يُحاجُّوكُمْ عائد لكلمة أَحَدٌ لأنه في معنى الجمع.
 
البلاغة:
الْحَقَّ وبِالْباطِلِ بينهما طباق.
يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ فيهما جناس تام.
 
المفردات اللغوية:
وَدَّتْ أحبّت ورغبت. طائِفَةٌ جماعة وهم الأحبار والرؤساء. يُضِلُّونَكُمْ
(3/258)
 
 
يوقعونكم في الضلال بالرّجوع عن دين الإسلام والمخالفة له، والضلال: نوع من الهلاك.
وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن إثم إضلالهم عليهم، والمؤمنون لا يطيعونهم فيه.
بِآياتِ اللَّهِ ما يدلّ على صدق نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو القرآن المشتمل على نعته عليه الصلاة والسلام.
تَلْبِسُونَ تخلطون الحقّ بالباطل، بالتّحريف والتّزوير. وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي نعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه حق.
وَجْهَ النَّهارِ أوله. لَعَلَّهُمْ أي المؤمنين. يَرْجِعُونَ عن دينهم.
وَلا تُؤْمِنُوا تصدقوا.
قُلْ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ الذي هو الإسلام، والخطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والجملة اعتراضية.
إِنَّ أي بأن، وأن: مفعول تؤمنوا. مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الكتاب والحكمة والفضائل.
أَوْ يُحاجُّوكُمْ أي بأن يحاجّوكم وهم المؤمنون، أي يغلبوكم بالحجّة.
الْفَضْلَ الزيادة، والمراد به هنا النّبوة.
 
سبب النزول:
نزول الآية (69) :
نزلت في معاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان حين دعاهم اليهود إلى دينهم.
 
نزول الآية (72) :
روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل الله على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعوا عن دينهم، فأنزل الله فيهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ إلى قوله: واسِعٌ عَلِيمٌ.
(3/259)
 
 
وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي عن أبي مالك قال: كانت اليهود تقول أحبارهم للذين من دونهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم فأنزل الله: قُلْ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ.
 
المناسبة:
ذكر الله تعالى سابقا موقفا لأهل الكتاب وهو الإعراض عن الحق، وذكر هنا موقفا آخر وهو شدّة حرصهم على إضلال المؤمنين.
 
التفسير والبيان:
أحبّت طائفة من الأحبار والرؤساء إيقاع الضلال بين المسلمين، بزرع الشّبهات ومحاولة كسب بعض المسلمين بإدخالهم في دينهم، ولكنهم خائبون، فهم لا يضلون إلا أنفسهم وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم، إذ شغلوها بما لا يجدي، بل بما يضرّ، ويوقعهم في الإثم والمعصية، وما يشعرون بذلك وما يفطنون إلى سوء حالهم، وفي هذا نهاية الذّم والاحتقار لهم. والآية نظير قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً.. [البقرة 2/ 109] .
يا أهل الكتاب (اليهود والنصارى) : لأي سبب تكفرون بالآيات الدّالة على صدق نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنتم تشهدون بصحّتها، بما جاء في كتبكم من نعته والبشارة به.
يا أهل الكتاب لم تخلطون الحقّ الذي جاء به الأنبياء بالباطل الكذب الذي لفّقه أحباركم ورؤساؤكم بتأويلاتهم الفاسدة، وبإلقاء الشّبه، والتّحريف والتّبديل، وأنتم تكتمون شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو مكتوب عندكم في التّوراة والإنجيل وهو البشارة بنبيّ من بني إسماعيل يعلّم الناس الكتاب والحكمة، وأنتم تعلمون أنكم مخطئون مبطلون، وتفعلون ذلك حسدا وعنادا.
(3/260)
 
 
ثمّ ذكر نوعا آخر من مكرهم وكيدهم: وهو أن طائفة منهم كما بان في سبب النزول المتقدم أظهروا الإسلام في أول النّهار فصلّوا مع المسلمين صلاة الصّبح، ثم ارتدّوا عنه في آخره، ليلبسوا على الضعفاء والجهلة من الناس أمر دينهم، فيقولوا: إنما ردّهم إلى دينهم اطّلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عنه. ولم يدروا أن من عرف الحقّ لم يرجع عنه، سأل هرقل أبا سفيان عن شؤون محمد صلّى الله عليه وسلّم: هل يرجع عنه من دخل في دينه؟
فقال أبو سفيان: لا.
ومن تتمة كلام اليهود أن قالوا لبعضهم زعما منهم أنّ النّبوة لا تكون إلا فيهم «1» : أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم، دون المسلمين، لئلا يزيدهم ثباتا على دينهم، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام، أي أن المعنى كتم التصديق بأن للمسلمين من كتاب الله مثل أهل الكتاب. وقال ابن كثير: لا تطمئنوا أو تظهروا سرّكم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين، فيؤمنوا به ويحتجّوا به عليكم، فالمعنى حجب أسرارهم عن المسلمين.
ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجّونكم يوم القيامة بالحق، ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجّة. وقال ابن كثير في تفسير ذلك: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلّموه منكم، ويساووكم فيه، ويمتازوا به عليكم لشدّة الإيمان به، أو يتّخذوه حجّة عليكم بما في أيديكم، فتقوم به عليكم الدّلالة، وتترتب الحجة في الدّنيا والآخرة.
وتخلل ذلك جملة اعتراضية: وهي أن الهدى هدى الله، فمن شاء الله هدايته
__________
(1) قوله: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ: من جملة قول اليهود لأنه معطوف على كلامهم، وهو الظاهر، قال ابن عطية: ولا خلاف في ذلك.
(3/261)
 
 
إلى الإيمان آمن بما أنزله على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم من الآيات البيّنات والدّلائل القاطعات والحجج الواضحات، ولا يؤثر كيدكم وخبثكم وحيلكم وكتمكم شيئا، فسواء أظهرتم الحق، أم كتمتم أيها اليهود ما عندكم من صفة محمد النّبي الأميّ في كتبكم، فلن يغيّر ذلك شيئا من نعمة الهداية الإلهية على أحد من الناس.
ثم ردّ الله على اليهود ردّا قاطعا لزعمهم أنّ النّبوة لا تكون إلّا فيهم فقال: إن الأمور كلها ومنها أمر النّبوة تحت تصرفه، وليس إليكم، وإنما بيد الله وحده، فهو المعطي المانع، يمنّ على من يشاء بالإيمان والعلم، ويضلّ من يشاء فيعمي بصيرته وبصره ويختم على قلبه وسمعه، وهو صاحب الفضل المطلق، والخير كله بيده، يؤتيه من يشاء من عباده، يختصّ برحمته أي بالنّبوة من شاء، ويختصّ المؤمنين بالفضل بما لا يحدّ ولا يوصف، وفضله واسع عظيم، ورحمته وسعت كل شيء، فلا حدّ لها، ولا حصر لآثارها، ولا قصر للنّبوة على بني إسرائيل على حدّ زعمهم، ولا لنسب أو شرف معين.
 
فقه الحياة أو الأحكام:
يحسد اليهود المؤمنين ويبغون إضلالهم، ولكن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم، وهم لا يشعرون. وهكذا يحلم الكفار قديما وحديثا بردّ المسلمين عن دينهم، إلى دين اليهودية أو النصرانية، أو أن يصبحوا من غير دين، ولكنهم خابوا وخسروا، وأثبتوا أنهم ضعاف العقول، سفهاء الأحلام فإن العقيدة الإسلامية في قلب المسلم أثبت من رواسخ الجبال، وهم لا يعلمون بصحّة الإسلام، وواجب عليهم أن يعلموا لأن البراهين ظاهرة والحجج باهرة على وحدانية الله، وعلى صحّة الشريعة ونضارتها وأصالتها ووفائها بالحاجات وسمّوها وتفضيلها على كلّ شرائع العالم قاطبة لأنها شرع الله ودينه.
ومن المستنكر عقلا وعادة أن يخلط أهل الكتاب الحقّ بالباطل، أو يكتموا
(3/262)
 
 
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
الحقّ الأبلج، وهم به عالمون.
ومحاولة التّدليس والخداع في إظهار أناس إيمانهم فترة ما، للتضليل والتشكيك، ثم العودة إلى الكفر هي محاولة صبيانية طائشة، لا يغترّ بها إلا السّذّج أمثالهم لأن التلاعب بالدّين والإيمان ليس من سمة المخلصين، ولأن الإيمان إذا وقر في القلب عن دليل وبرهان، استحال نزعه وسلخه من صاحبه إلا بالموت أو القتل.
والنّبوات ليست قصرا على أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، وإنما يختص الله برحمته من يشاء، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو صاحب السلطان المطلق والأمر المبرم، ينزّل الوحي أو الملائكة على من يشاء من عباده، فليس لليهود أن يقولوا: إن النّبوات محصورة فيهم، أو أن تفوق الحجة عند الله لهم، فهم لا حجّة لهم، والإسلام أصح من معتقداتهم، والمسلمون أصحّ منهم دينا.
وإن الهدى إلى الخير والدلالة إلى الله عزّ وجلّ بيد الله جلّ ثناؤه، يؤتيه أنبياءه، فليس لأهل الكتاب أن ينكروا أن يؤتى أحد مثلما أوتوا، فإن أنكروا يقال لهم: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فالأمور كلها تحت تصرف الله، وهو المعطي المانع، يمنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتّصرف التامّ، ويضلّ من يشاء، فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه، ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجّة التّامة والحكمة البالغة.
 
أداء الأمانة والوفاء بالعهد عند بعض أهل الكتاب
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 77]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)
(3/263)
 
 
الإعراب:
بَلى إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أي بلى عليهم سبيل فيهم. مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ جملة مستأنفة مقررة للجملة التي سدّت مسدها. والضمير في بِعَهْدِهِ راجع إلى مَنْ أَوْفى. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى.
 
البلاغة:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا أشار إليهم بالبعيد لازدياد غلوهم في الشّر والفساد.
لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ مجاز بالحذف أي ليس علينا في أكل الأموال سبيل.
يَشْتَرُونَ فيه استعارة، استعار لفظ الشراء للاستبدال أي يستبدلون.
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ مجاز عن شدّة الغضب والسخط الإلهي.
وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم، تقول: «فلان لا ينظر إلى فلان» أي لا يعتدّ به.
وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يحسن إليهم ولا يثني عليهم، فهو مجاز عن معنى الإحسان.
يوجد جناس اشتقاق بين اتَّقى والْمُتَّقِينَ.
 
المفردات اللغوية:
تَأْمَنْهُ أي تأتمنه، وهو من فعل أمنته. بِقِنْطارٍ المراد العدد الكثير، وقيل: هو المعيار الذي يوزن به، ومقداره عند أهل الشام مائة رطل، والرطل كيلوان ونصف. بِدِينارٍ المراد العدد القليل. فِي الْأُمِّيِّينَ أي العرب. سَبِيلٌ مؤاخذة وذنب أو تبعة. بَلى
(3/264)
 
 
كلمة تقع جوابا عن نفي سابق، لإثباته، أي عليهم فيه سبيل. بِعَهْدِهِ العهد: ما تلتزم الوفاء به لغيرك، وإذا كان الالتزام من جانبين يقال: عاهد فلان غيره عهدا. ويَشْتَرُونَ يستبدلون. بِعَهْدِ اللَّهِ ما أنزله في كتابه من الإيمان بالنّبي وأداء الأمانة. وَأَيْمانِهِمْ جمع يمين: وهي الحلف بالله، والمراد هنا: أيمانهم الكاذبة أو حلفهم بالله تعالى كاذبين. ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا يأخذونه من الدّنيا، أو رشوة، وهو قليل لأن المال الذي يكون سببا في العقاب قليل مهما كثر.
لا خَلاقَ لَهُمْ لا نصيب لهم. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ أي يغضب عليهم. وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ أي يسخط عليهم ولا يرحمهم. وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يثني عليهم ولا يطهرهم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
 
سبب النزول: نزول الآية (77) :
روى الشيخان وغيرهما أن الأشعث قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ألك بيّنة؟ قلت: لا، فقال لليهودي: احلف، فقلت: يا رسول الله، إذن يحلف، فيذهب مالي، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا.
وأخرج البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلا أقام سلعة له في السوق، فحلف بالله، لقد أعطي بها ما لم يعطه، ليوقع فيها رجلا من المسلمين، فنزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ.. الآية.
قال الحافظ ابن حجر في (شرح البخاري) : لا منافاة بين الحديثين، بل يحمل على أن النزول كان لسببين معا.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة: أن الآية نزلت في حييّ بن الأخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة وبدلوه، وحلفوا أنه من عند الله. وقيل: نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق
(3/265)
 
 
وحيي بن أخطب: حرّفوا التّوراة، وبدّلوا صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخذوا الرّشوة على ذلك «1» .
قال الحافظ ابن حجر: والآية محتملة، لكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح.
 
المناسبة:
تتابع الآيات في تبيان أوصاف أهل الكتاب، فمنهم الأمين، ومنهم الخائن، ومنهم المستحل أموال غير اليهود بالباطل بتأويلات واهية، لذا فإن القرآن يحذر المؤمنين من الاغترار بهم.
 
التفسير والبيان:
لقد أنصف القرآن في وصف أهل الكتاب، فمنهم طائفة تؤتمن على الأموال القليلة والكثيرة، والودائع أو الأمانات، مثل عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا، فأدّاها إليه، ومثل السموءل بن عاديا اليهودي المشهور بالوفاء.
ومنهم طائفة أخرى تخون الأمانة، وإن كانت قليلة، ويتعذر استردادها منهم إلا بمتابعة المطالبة والتحصيل، أو باللجوء إلى التقاضي والمحاكمة وإقامة البيّنة عليهم، مثل كعب بن الأشرف أو فنحاص بن عازوراء، استودعه رجل قرشي دينارا، فجحده وخانه.
والذي حمل هذه الطائفة من اليهود على الخيانة: زعمهم أن التوراة تبيح لهم أكل أموال الأميين وهم العرب، قائلين: إنه لا تبعة ولا إثم عليهم في أكل أموال العرب بل وكل ما عدا اليهود، إذ هم شعب الله المختار، فلهم السمو والتفوق
__________
(1) البحر المحيط: 2/ 501 [.....]
(3/266)
 
 
العنصري على غيرهم، وأما من سواهم فلا حرمة له عند الله، فهو مبغوض عنده، محتقر لديه، ولا حق له ولا حرمة، روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان، فلما جاء الإسلام، وأسلم من أسلم من العرب، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد، فنزلت الآية مانعة من ذلك «1» .
وهذا أمر مرفوض في شرعة الله التي لا تفرق في أداء الحقوق بين المؤمن والكافر، ولكنهم اليهود الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويتأوّلون النصوص على وفق أهوائهم. ومن أمثلة ذلك أيضا: ما رواه ابن جرير الطبري: أن جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم الثمن، فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.
فليحذر أتباع شرع مثل فعل اليهود، روى عبد الرزاق وأبو إسحاق أنّ رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة: الدجاجة والشاة، قال ابن عباس: فماذا تقولون؟ قال: نقول: ليس علينا بذلك بأس، قال: هذا كما قال أهل الكتاب: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ إنهم إذا أدّوا الجزية، لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.
وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما قال أهل الكتاب: ليس علينا في الأميين سبيل، قال نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم: «كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البرّ والفاجر»
هذا ردّ عليهم.
وردّ الله عليهم أيضا بأنهم يكذبون على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم، وهم يعلمون كذبهم الصريح فيه لأن التوراة خالية من هذا الحكم الجائر وهو خيانة الأميين.
__________
(1) البحر المحيط: 2/ 500
(3/267)
 
 
بل إن حكم التوراة عكس ذلك، فإنها توجب الوفاء بالعقود، وتأمر بوفاء الأمانات، وقال الله لهم: بلى عليهم في الأميين سبيل العذاب بكذبهم، واستحلالهم أموال العرب، فمن اقترض إلى أجل، أو باع بثمن مؤجل، أو اؤتمن على شيء مثلا، وجب عليه الوفاء به، وأداء الحق لصاحبه في حينه، دون حاجة إلى إلحاح في الطلب أو تقاض، وهكذا فإن كل من أوفى بما عاهد عليه، واتقى الله في ترك الخيانة والغدر، فإن الله يحبه ويرضى عنه لأن الله عهد إلى الناس في كتبه أن يلتزموا الصدق والوفاء بالعهود والعقود.
وليس العهد مقصورا على الوفاء بالعقود والالتزامات وأداء الأمانات وإنما يشمل أيضا عهد الله تعالى: وهو الوفاء بما التزم به المؤمن من تكاليف وأوامر وواجبات شرعية. ولو وفي اليهود بعهودهم لآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو أنصفوا لما فرقوا في وفاء العهد بين اليهودي وغيره.
ثم بيّن الله تعالى جزاء الذين يخونون العهد، ويكتمون ما أنزل الله، ويبدلون بالحق الباطل، ويستبدلون بكلام الله وأوامره عوضا ح