التفسير المنير للزحيلي 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب : التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج
المؤلف : د وهبة بن مصطفى الزحيلي
 (/)
 
 
[الجزء الاول]
بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتور وهبة بن مصطفى الزحيلي
__________
(1) لم أجرؤ على هذا التفسير إلا بعد أن كتبت كتابين شاملين في موضوعيهما أو موسوعتين:
الأول: (أصول الفقه الإسلامي) في مجلدين، والثاني: (الفقه الإسلامي وأدلته) في مختلف المذاهب- ثمانية مجلدات، وأمضيت في التدريس الجامعي ما يزيد عن ثلاثين عاما، وعملت في الحديث النّبوي تحقيقا وتخريجا وبيانا بالاشتراك لكتاب (تحفة الفقهاء) للسمرقندي، و (المصطفى من أحاديث المصطفى) زهاء (1400 حديث) . بالإضافة لمؤلفات وبحوث موسوعية تربو عن الثلاثين.
(1/11)
 
 
بعض المعارف الضرورية المتعلقة بالقرآن
أولا- تعريف القرآن وكيفية نزوله وطريقة جمعه:
القرآن المجيد الذي اقتضت حكمة الله ألا يبقى في الوجود أثر ثابت للوحي الإلهي سواه، بعد أن اندثرت أو زالت أو اختلطت الكتب السماوية السابقة بغيرها من العلوم التي وضعها البشر: هو منار الهداية، ودستور التشريع، ومصدر الأنظمة الربانية للحياة، وطريق معرفة الحلال والحرام، وينبوع الحكمة والحق والعدل، ومعين الآداب والأخلاق التي لا بدّ منها لتصحيح مسيرة الناس، وتقويم السلوك الإنساني، قال الله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 6/ 38] ، وقال عزّ وجلّ أيضا: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل 16/ 89] .
وقد عرّفه علماء أصول الفقه، لا بسبب الجهل به أو عدم معرفة الناس به، وإنما لضبط ما يتعبد به وما تجوز الصلاة به، وما لا تجوز، ولتبيان أحكام الشرع الإلهي من حلال وحرام، وما يصلح حجة في استنباط الأحكام، وما يكفر جاحده وما لا يكفر، فقالوا عنه:
 
القرآن:
هو كلام الله المعجز «1» ، المنزّل على النّبي محمد صلّى الله عليه وسلم، باللفظ العربي، المكتوب في المصاحف، المتعبّد بتلاوته «2» ، المنقول بالتواتر «3» ، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس.
__________
(1) أي الذي عجزت الإنس والجن عن الإتيان بمثل أقصر سورة من سوره.
(2) أي أنه لا تصح الصلاة إلا بتلاوة شيء منه، كما أن مجرد تلاوته عبادة يثاب عليها المسلم.
(3) التواتر: هو ما ينقله جمع عظيم عن جمع غفير يؤمن في العادة تواطؤهم على الكذب.
(1/13)
 
 
وبناء عليه: لا تسمى ترجمة القرآن قرآنا، وإنما هي تفسير، كما لا تسمى القراءة الشاذة (وهي التي لم تنقل بالتواتر وإنما بالآحاد) قرآنا، مثل قراءة ابن مسعود في فيئة الإيلاء «1» : «فإن فاءوا- فيهن- فإن الله غفور رحيم» [البقرة 2/ 226] وقراءته أيضا في نفقة الولد: «وعلى الوارث- ذي الرحم المحرم- مثل ذلك» [البقرة 2/ 233] ، وقراءته في كفارة يمين المعسر: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام- متتابعات-» [المائدة 5/ 89] .
 
أسماء القرآن:
للقرآن أسماء: هي القرآن، والكتاب، والمصحف، والنور، والفرقان «2» .
وسمّي قرآنا، لأنه التنزيل المتلو المقروء، وقال أبو عبيدة: سمّي القرآن، لأنه يجمع السّور، فيضمها. قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة 75/ 17] أي جمعه وقراءته، ومن المعلوم أن القرآن نزل تدريجيا شيئا بعد شيء، فلما جمع بعضه إلى بعض سمّي قرآنا.
وسمّي كتابا من الكتب أي الجمع، لأنه يجمع أنواعا من القصص والآيات والأحكام والأخبار على نحو مخصوص.
وسمّي مصحفا من أصحف أي جمع فيه الصحف، والصحف جمع الصحيفة:
وهي قطعة من جلد أو ورق يكتب فيه. وروي أن أبا بكر الصديق استشار الناس بعد جمع القرآن في اسمه، فسمّاه مصحفا.
وسمّي نورا، لأنه يكشف الحقائق، ويبين الغوامض من حلال وحرام
__________
(1) الإيلاء: الحلف على ترك وطء (جماع) المرأة. وفاء الرجل إلى امرأته: عاد إلى الاستمتاع بها بعد يمينه بالامتناع عن ذلك.
(2) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة النظام- نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري بهامش تفسير الطبري: 1/ 25، تفسير الرازي: 2/ 14.
(1/14)
 
 
وغيبيات لا يستطيع العقل إدراكها، ببيان قاطع وبرهان ساطع، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء 4/ 174] .
وسمّي فرقانا لأنه فرّق بين الحقّ والباطل، والإيمان والكفر، والخير والشّر، قال الله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان 25/ 1] .
 
كيفية نزول القرآن:
لم ينزل القرآن جملة واحدة، كما نزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام، لئلا يثقل كاهل المكلفين بأحكامه، وإنما نزل على قلب النّبي الكريم صلّى الله عليه وسلم بالوحي بواسطة جبريل عليه السّلام، منجّما أي مفرقا على وفق مقتضيات الظروف والحوادث والأحوال، أو جوابا للوقائع والمناسبات أو الأسئلة والاستفسارات.
فمن الأول: قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة 2/ 221] ، نزلت في شأن مرثد الغنوي الذي أرسله النّبي صلّى الله عليه وسلم إلى مكة، ليحمل منها المستضعفين المسلمين، فأرادت امرأة مشركة اسمها (عناق) وكانت ذات مال وجمال، أن تتزوجه، فقبل بشرط موافقة النّبي صلّى الله عليه وسلم، فلما سأله نزلت الآية، ونزل معها آية وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة 2/ 221] .
ومن الثاني: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [البقرة 2/ 220] ، ووَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة 2/ 222] ، ووَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ [النساء 4/ 127] ، ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الأنفال 8/ 1] .
وقد بدأ نزوله في رمضان في ليلة القدر، قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ
(1/15)
 
 
[البقرة 2/ 185] ، وقال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان 44/ 3] ، وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ...
[القدر 98/ 1] . واستمر نزول القرآن في مدى ثلاث وعشرين سنة إما في مكة وإما في المدينة وإما في الطريق بينهما أو في غيره من الأماكن.
وكان نزوله إما سورة كاملة كالفاتحة والمدثر والأنعام، أو عشر آيات مثل قصة الإفك في سورة النور، وأول سورة المؤمنين، أو خمس آيات، وهو كثير، أو بعض آية، مثل: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء 4/ 95] بعد قوله تعالى:
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء 4/ 95] ومثل قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، إِنْ شاءَ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة 9/ 28] ، فإنه نزل بعد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة 9/ 28] .
وتعددت حكمة إنزال القرآن منجما، بسبب المنهج الإلهي الذي رسم به طريق الإنزال، كما قال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء 17/ 106] .
من هاتيك الحكم: تثبيت قلب النّبي صلّى الله عليه وسلم وتقوية فؤاده ليحفظه ويعيه، لأنه كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب، قال الله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان 25/ 32] .
ومنها: مراعاة مقتضيات التدرّج في التشريع، وتربية الجماعة، ونقلها على مراحل من حالة إلى حالة أحسن من سابقتها، وإسبال الرحمة الإلهية على العباد، فإنّهم كانوا في الجاهلية في إباحية مطلقة، فلو نزّل عليهم القرآن دفعة واحدة، لعسر عليهم التكليف، فنفروا من التطبيق للأوامر والنواهي.
(1/16)
 
 
أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا» «1» .
ومنها: ربط نشاط الجماعة بالوحي الإلهي: إذ إن اتصال الوحي بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم يساعده على الصبر والمصابرة، وتحمل المشاق والمصاعب وأنواع الأذى التي كابدها من المشركين، كما أنه وسيلة لتقوية العقيدة في نفوس الذين أسلموا، فإذا نزل الوحي علاجا لمشكلة، تأكد صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، وإذا أحجم النّبي عن جواب مسألة، ثم جاءه الوحي، أيقن المؤمنون بصدق الإيمان واطمأنوا إلى سلامة العقيدة، وأمان الدّرب الذي سلكوه، وزادت ثقتهم بالغايات والوعود المنتظرة التي وعدهم الله بها: إما بالنصر على الأعداء أو المشركين في الدنيا، وإما بالفوز بالجنة والرضا الإلهي، وتعذيب الكفار في نار جهنم.
 
المكي والمدني من القرآن:
كان للوحي القرآني صبغتان أو لونان جعلت منه نوعين هما: المكي والمدني، وانقسمت بالتالي سور القرآن إلى مكية ومدنية.
أما المكي: فهو ما نزل في مدى ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة- هجرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة- سواء نزل في مكة أو في الطائف أو في أي مكان
__________
(1) هذا وقد ذكر الزمخشري في الكشاف: 1/ 185 وما بعدها أسباب تفصيل القرآن وتقطيعه سورا، منها أن تنوع البيان للجنس الواحد أحسن وأجمل وأفخم من أن يكون بيانا واحدا.
ومنها إثارة النشاط والحث على الدرس والتحصيل من القرآن خلافا لو استمر الكتاب جملة واحدة، ومنها اعتزاز الحافظ بطائفة مستقلة من القرآن بعد حفظها، ومنها أن التفصيل بمشاهد عديدة سبب لدعم المعاني، وتأكد المراد واجتذاب الأنظار.
(1/17)
 
 
آخر، مثل سورة (ق) و (هود) و (يوسف) . وأما المدني: فهو ما نزل في مدى عشر سنوات بعد الهجرة، سواء نزل في المدينة أو في الأسفار والمعارك الحربية أو في مكة عام الفتح، مثل سورة (البقرة) و (آل عمران) .
ويغلب على التشريع المكي إصلاح العقيدة والأخلاق، والتنديد بالشرك والوثنية، وإقرار عقيدة التوحيد، وتصفية آثار الجهل من قتل وزنا ووأد بنات، والتأدّب بآداب الإسلام وأخلاقه، مثل العدل، والوفاء بالعهد، والإحسان، والتعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، وفعل الخيرات وترك المنكرات، وإعمال العقل والفكر، ونقض أوهام التقليد الأعمى، وتحرير الإنسان، والاعتبار بقصص الأنبياء مع أقوامهم. وقد اقتضى ذلك جعل الآيات المكية قصيرة تزخر بالرهبة والزجر والوعيد، وتبعث على الخشية، وتشعر بمعنى الجلال.
وأما التشريع المدني فيغلب عليه تقرير الأنظمة والأحكام المفصلة للعبادات، والمعاملات المدنية والعقوبات، ومتطلبات الحياة الجديدة في إقامة صرح المجتمع الإسلامي في المدينة، وتنظيم شؤون السياسة والحكم، وترسيخ قاعدتي الشورى والعدل في إصدار الأحكام، وتنظيم العلاقات بين المسلمين وغيرهم في داخل المدينة وخارجها، وقت السلم والحرب، بتشريع الجهاد لوجود مسوغاته من إيذاء وعدوان وتشريد وطرد وتهجير، ثم وضع أنظمة المعاهدات لإقرار الأمن وتوطيد دعائم السلم، وقد اقتضى ذلك كون الآيات المدنية طويلة هادئة، ذات أبعاد وغايات دائمة غير وقتية، تستدعيها عوامل الاستقرار والاطمئنان وبناء الدولة على أمتن الأسس وأقوى الدعائم.
 
فائدة العلم بأسباب النزول:
إن معرفة أسباب نزول الآيات بحسب الوقائع والمناسبات لها فوائد كثيرة وأهمية بالغة في تفسير القرآن وفهمه على الوجه الصحيح، لأن أسباب النزول
(1/18)
 
 
قرائن معبرة توضح غاية الحكم، وتبين سبب التشريع، وتعرف أسراره ومراميه، وتساعد على فهم القرآن فهما دقيقا شاملا، حتى وإن كانت العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. ونرى في عالمنا. القانوني اليوم ما يسمى بالمذكّرات التوضيحية للقوانين والأنظمة والأحكام، يبين فيها أسباب إصدارها، وأهدافها. ويؤكد ذلك أن كل نظام يظل في مستوى الأمور النظرية غير المقنعة كثيرا للناس، ما لم يقترن بالمتطلبات الواقعية، أو يرتبط بالحياة العملية.
وكل ما سبق يشير إلى أن شريعة القرآن ليست فوق مستوى الأحداث، أو أنها سامية مثالية لا تقبل التطبيق، وإنما هي متعاصرة مع كل زمن، متفاعلة مع الواقع، تصف العلاج الحاسم لكل داء عضال من أمراض المجتمع، وشذوذات الأفراد وانحرافاتهم.
 
أول القرآن وآخره نزولا:
كان أول ما نزل من القرآن الكريم قول الله تعالى من سورة العلق: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق 97/ 1- 5] ، وذلك يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، سنة إحدى وأربعين من ميلاده صلّى الله عليه وسلّم، في غار حراء، حين بدأ الوحي، بواسطة جبريل الأمين عليه السّلام.
وكان آخر ما نزل من القرآن في أرجح الأقوال، قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة 2/ 281] ، وذلك قبل وفاته صلّى الله عليه وسلّم بتسع ليال بعد ما فرغ من حجّة الوداع، أخرجه كثيرون عن ابن عباس رضي الله عنهما.
أما ما قيل وروي عن السّديّ: إن آخر ما نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ... [المائدة 5/ 3] ،
(1/19)
 
 
فغير مسلّم به، لأنّ هذه الآية نزلت باتفاق العلماء يوم عرفة من حجة الوداع قبل نزول سورة النصر، وآية البقرة السابقة.
 
جمع القرآن:
لم يكن ترتيب القرآن الكريم في آياته وسوره بالنحو التوقيفي في واقعه الموجود في المصاحف الحالية والغابرة متفقا مع أحوال نزول الوحي به، فقد نزل بحسب الوقائع والمناسبات، إما سورة كاملة أو بعض آيات، أو بعض آية، كما عرفنا، ثم جمع ثلاث مرات.
 
الجمع الأول في عهد النبوة:
حدث الجمع الأول في عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم بحفظه الثابت الراسخ كالنقش في الحجر في صدره عليه الصلاة والسلام، تحقيقا لوعد الله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[القيامة 75/ 16- 19] ، وقد عرضه النّبي صلّى الله عليه وسلّم مرات على جبريل عليه السّلام، مرة في كل رمضان، وعرضه عليه مرتين في آخر رمضان قبل الوفاة، ثم قرأه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الناس على نحو هذه العرضات، ثم كتبه الصحابة عنه، وكان كتّاب الوحي خمسا وعشرين كاتبا، والتحقيق أنهم كانوا زهاء ستين، وأشهرهم الخلفاء الأربعة، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وأخوه يزيد، والمغيرة بن شعبة، والزبير بن العوام، وخالد بن الوليد، وحفظه أيضا عدد من الصحابة في صدورهم حبّا به، واعتمادا على قوة حافظتهم وذاكرتهم التي اشتهروا بها، حتى إن حروب المرتدين قتل فيها سبعون من القراء، وقد عدّ أبو عبيد في كتاب (القراءات) بعض الحفاظ، فذكر من المهاجرين: الخلفاء الراشدين الأربعة، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن
(1/20)
 
 
أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، وأبا هريرة، وعبد الله بن السائب، والعبادلة الأربعة (ابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو، وابن الزبير) ، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة.
وذكر من الأنصار: عبادة بن الصامت، ومعاذا أبا حليمة، ومجمّع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلّد.
وكان من أشهر الحفاظ: عثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري.
 
الجمع الثاني في عهد أبي بكر:
لم يجمع القرآن في مصحف واحد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لاحتمال نزول وحي جديد ما دام النّبي صلّى الله عليه وسلّم حيّا، ولكن كانت كل آيات القرآن مكتوبة في الرقاع والعظام والحجارة وجريد النخل. ثم استحّر القتل في القراء في وقعة اليمامة في عهد أبي بكر، كما روى البخاري في فضائل القرآن في الجزء السادس، فارتأى عمر بن الخطاب جمع القرآن، ووافقه أبو بكر، وكلّف زيد بن ثابت بهذه المهمة، وقال أبو بكر لزيد: «إنك شاب عاقل لانتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتتبع القرآن فاجمعه» ، ففعل زيد ما أمر به وقال: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف «1» ، وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة- أي مكتوبة- مع خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع غيره: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة 9/ 128] ، حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر» «2» .
__________
(1) العسب: جمع عسيب: وهو جريدة من النخل كشط خوصها. واللّخاف: حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة.
(2) صحيح البخاري: 6/ 314- 315.
(1/21)
 
 
يتبين من هذا أن طريقة الجمع اعتمدت على أمرين معا: هما المكتوب في الرقاع والعظام ونحوها، وحفظ الصحابة للقرآن في صدورهم. واقتصر الجمع في عهد أبي بكر على أنه جمع القرآن في صحف خاصة، بعد أن كان متفرقا في صحف عديدة، ولم يكتف زيد بحفظه القرآن، وإنما اعتمد أيضا على حفظ غيره من الصحابة وهم العدد الكثير الذي يحصل به التواتر، أي اليقين المستفاد من نقل الجمع الكثير الذي يؤمن في العادة تواطؤهم على الكذب.
 
الجمع الثالث- في عهد عثمان بنسخ المصاحف على خط واحد:
اقتصر دور عثمان بن عفان رضي الله عنه على كتابة ست نسخ من المصاحف على حرف واحد وطريقة واحدة، ووزعها في الأمصار الإسلامية، فأرسل ثلاثة منها إلى الكوفة ودمشق والبصرة، وأرسل اثنين إلى مكة والبحرين، أو إلى مصر والجزيرة، وأبقى لديه مصحفا بالمدينة. وأمر بإحراق المصاحف الأخرى المخالفة في العراق والشام فقط. وظل المصحف الشامي محفوظا بجامع دمشق (الجامع الأموي) عند الركن، شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد رآه ابن كثير كما ذكر في كتابه (فضائل القرآن) في آخر تفسيره، إلى أن أصابه الحريق الكبير الذي أصاب المسجد الأموي سنة 1310 هـ، ورآه قبل الحريق كبار علماء دمشق المعاصرين.
وسبب هذا الجمع يظهر فيما رواه لنا البخاري في فضائل القرآن في الجزء السادس عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان:
يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة، قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
(1/22)
 
 
فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة:
إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم.
ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرّق «1» .
وأصبح المصحف العثماني أساسا في نشر وطبع المصاحف المتداولة الآن في العالم، فبعد أن كان الناس يقرءون بقراءات مختلفة، إلى وقت عثمان، جمع عثمان الناس على مصحف واحد، وحرف واحد، وجعله إماما، ولهذا نسب إليه، ولقّب بأنه جامع القرآن.
والخلاصة: إن جمع القرآن في عهد أبي بكر كان جمعا له في نسخة واحدة موثوقة، وجمع القرآن في عهد عثمان كان نسخا من صحف حفصة، لمصاحف ستة بحرف واحد. وكان هذا الحرف ملائما للأحرف السبعة التي نزل بها القرآن.
وأصبح لقراءة رسم المصحف طريقان: موافقة للرسم المكتوب حقيقة، وموافقة للرسم احتمالا أو تقديرا.
ولا خلاف بين العلماء في أن ترتيب آيات السور توقيفي منقول ثابت عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، كما أن ترتيب السور أيضا توقيفي على الراجح. أما دليل ترتيب
__________
(1) صحيح البخاري: 6/ 315- 316.
(1/23)
 
 
الآيات
فقول عثمان بن العاص رضي الله عنه: «كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ شخص ببصره ثم صوّبه، ثم قال: «أتاني جبريل، فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [النحل 16/ 90] » .
وأما دليل ترتيب السور فهو حضور بعض الصحابة كابن مسعود ممن حفظوا القرآن عن ظهر قلب، مدارسة القرآن بين جبريل عليه السّلام والنّبي صلّى الله عليه وسلّم، وشهدوا بأنها كانت على وفق هذا الترتيب المعهود في السور وفي الآيات.
وأركان قرآنية الآية أو الكلمة أو القراءة المقبولة ثلاثة: الموافقة للرسم العثماني ولو احتمالا، التوافق مع قواعد النحو العربي ولو بوجه، النقل المتواتر بواسطة جمع عن جمع عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ما يعرف بصحة السند.
 
ثانيا- طريقة كتابة القرآن والرسم العثماني:
الرسم: طريقة كتابة الكلمة بحروف هجائها بتقدير الابتداء بها، والوقوف عليها.
والمصحف: هو المصحف العثماني الإمام الذي أمر بكتابته سيدنا عثمان رضي الله عنه، والذي أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم «1» .
والرسم العثماني: هو الطريقة التي كتبت بها المصاحف الستة في عهد عثمان رضي الله عنه. وهو الرسم المتداول المعمول به بعد البدء بطباعة القرآن في البندقية سنة 1530 م، وما تلاها من طبعة إسلامية خالصة للقرآن في سانت بترسبوغ، في روسيا، سنة 1787 م، ثم في الآستانة سنة 1877 م.
__________
(1) المصاحف للسجستاني: ص 50
(1/24)
 
 
وللعلماء رأيان في طريقة كتابة القرآن أو الإملاء «1» :
1- رأي جمهور العلماء ومنهم الإمامان مالك وأحمد: أنه يجب كتابة القرآن كما وردت برسمها العثماني في المصحف الإمام، ويحرم مخالفة خط عثمان في جميع أشكاله في كتابة المصاحف، لأن هذا الرسم يدلّ على القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة.
2- رأي بعض العلماء (وهم أبو بكر الباقلاني وعز الدين بن عبد السلام وابن خالدون) : أنه تجوز كتابة المصاحف بالطرق أو الرسوم الإملائية المعروفة للناس، لأنّه لم يرد نص في الرسم، وإن ما في الرسم من زيادات أو حذوف لم يكن توقيفا أوحى الله به على رسوله، ولو كان كذلك لآمنا به وحرصنا عليه، وإذا كتب المصحف بالإملاء الحديث أمكن قراءته صحيحا وحفظه صحيحا.
وقد رأت لجنة الفتوى بالأزهر وغيرها من علماء العصر «2» الوقوف عند المأثور من كتابة المصحف، احتياطا لبقاء القرآن على أصله لفظا وكتابة، وحفاظا على طريقة كتابته في العصور الإسلامية السابقة، دون أن ينقل عن أحد من أئمة الاجتهاد تغيير هجاء المصحف عما رسم به أولا، ولمعرفة القراءة المقبولة والمردودة، فلا يفتح فيه باب الاستحسان الذي يعرض القرآن للتغيير والتحريف، أو للتلاعب به، أو البعث بآياته من ناحية الكتابة. لكن لا مانع في رأي جماهير العلماء من كتابة القرآن بطرق الإملاء الحديثة في مجال الدرس والتعليم، أو عند الاستشهاد بآية أو أكثر في بعض المؤلفات الحديثة، أو في كتب وزارة التربية والتعليم، أو أثناء عرضه على شاشة التلفاز.
__________
(1) تلخيص الفوائد لابن القاصّ: ص 56 وما بعدها، الإتقان للسيوطي: 2/ 166، البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 379، 387، مقدمة ابن خالدون: ص 419. [.....]
(2) مجلة الرسالة: العدد 216، سنة 1937، ومجلة المقتطف تموز سنة 1933
(1/25)
 
 
ثالثا- الأحرف السبعة والقراءات السبع:
روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه» «1»
 
أي سبعة أوجه، وهو سبع لغات ولهجات من لغات العرب ولهجاتهم، يجوز أن يقرأ بكل لغة منها، وليس المراد: أن كل كلمة منه تقرأ على سبعة أوجه وإنما لا يخرج عنها، فإما أن تكون بلغة قريش، وهو الغالب، وإما أن تكون بلغة قبيلة أخرى، لأنها أفصح، وتلك اللغات التي كانت مشهورة شائعة عذبة اللفظ هي: لغة قريش، وهذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر. وهذا هو الأشهر والراجح.
وفي رأي آخر: المراد بالسبعة: أوجه القراءات القرآنية، فاللفظ القرآني الواحد مهما يتعدد أداؤه وتتنوع قراءته لا يخرج التغاير فيه عن الوجوه السبعة الآتية وهي «2» :
1- الاختلاف في إعراب الكلمة أو في حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب ولا يغير معناها، أو يغير معناها، مثل (فتلقى آدم) قرئ (آدم) .
2- الاختلاف في الحروف، إما بتغير المعنى مثل (يعلمون وتعلمون) ، وإما بتغير الصورة دون المعنى مثل (الصراط) و (السراط) .
3- اختلاف أوزان الأسماء في إفرادها وتثنيتها وجمعها وتذكيرها وتأنيثها، مثل (أماناتهم) و (أمانتهم) .
__________
(1) أخرجه الجماعة: البخاري ومسلم ومالك في الموطأ والترمذي وأبو داود والنسائي (جامع الأصول: 3/ 31) .
(2) تفسير القرطبي: 1/ 42- 47، تفسير الطبري: 1/ 23 وما بعدها، تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: ص 28 وما بعدها، تاريخ الفقه الإسلامي للسايس: ص 20 وما بعدها، مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي صالح: ص 101- 116
(1/26)
 
 
4- الاختلاف بإبدال كلمة بكلمة يغلب أن تكون إحداهما مرادفة للأخرى مثل (كالعهن المنفوش) أو (كالصوف المنفوش) وقد يكون بإبدال حرف بآخر مثل (ننشزها) و (ننشرها) .
5- الاختلاف بالتقديم والتأخير، مثل (فيقتلون ويقتلون) قرئ (فيقتلون ويقتلون) .
6- الاختلاف بالزيادة والنقص، مثل (وما خلق الذكر والأنثى) قرئ (والذكر والأنثى) .
7- اختلاف اللهجات في الفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والهمز والتسهيل، وكسر حروف المضارعة، وقلب بعض الحروف، وإشباع ميم الذكور، وإشمام بعض الحركات، مثل (وهل أتاك حديث موسى) و (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) قرئ بإمالة: (أتى) ، (وموسى) ، (وبلى) وقوله تعالى: (خبيرا بصيرا) بترقيق الراءين، و (الصلاة) و (الطلاق) بتفخيم اللامين. وقوله تعالى: (قد أفلح) بترك الهمزة ونقل حركتها من أول الكلمة الثانية إلى آخر الكلمة الأولى، وهو ما يسمى (تسهيل الهمزة) . وقوله تعالى: (لقوم يعلمون، نحن نعلم، وتسود وجوه، ألم أعهد) بكسر حروف المضارعة في جميع هذه الأفعال. وقوله تعالى: (حتى حين) قرأه الهذليون (عتى عين) بقلب الحاء عينا. وقوله تعالى: (عليهم دائرة السّوء) بإشباع ميم جمع الذكور. وقوله تعالى: (وغيض الماء) بإشباع ضمة الغين مع الكسر.
والخلاصة: إن الأحرف السبعة: هي اللغات السبع التي اشتملت عليها لغة مضر في القبائل العربية، وليست هي القراءات السبع أو العشر المتواترة المشهورة، فهذه القراءات التي انتشرت كثيرا في عصر التابعين ثم اشتهرت في القرن الرابع بعد ظهور كتاب في القراءات للإمام المقرئ ابن مجاهد، تعتمد على غير
(1/27)
 
 
الأصل الذي يتعلق بالأحرف السبعة، وتتفرع من حرف واحد من الأحرف السبعة، كما أبان القرطبي.
ثم إن الكلام على الأحرف السبعة أصبح تاريخيا، فقد كانت تلك الأحرف السبعة توسعة في النطق بها على الناس في وقت خاص للضرورة، لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم، لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم، ثم زال حكم تلك الضرورة، وارتفع حكم تلك الأحرف السبعة، وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد، ولم يكتب القرآن إلا بحرف واحد منذ عهد عثمان، مما قد تختلف فيه كتابة الحروف، وهو حرف قريش الذي نزل به القرآن، كما أوضح الطحاوي وابن عبد البر وابن حجر وغيرهم «1» .
 
رابعا- القرآن كلام الله وأدلة الإثبات بوجوه الإعجاز:
إن القرآن العظيم المسموع والمكتوب: هو كلام الله القديم العزيز العليم، ليس شيء منه كلاما لغيره من المخلوقين، لا جبريل، ولا محمّد ولا غيرهما، والناس يقرءونه بأصواتهم «2» . قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء 26/ 192- 195] وقال عز وجل: قُلْ: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُدىً، وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل 16/ 102] .
والدليل على أن القرآن كلام الله: هو عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه، وهذا هو المراد بإعجاز القرآن: أي عجز البشر عن الإتيان بمثله، في بلاغته، أو تشريعه أو مغيباته. قال الله تعالى مستثيرا العرب المعروفين بأنهم أساطين البيان وفرسان الفصاحة والبلاغة، ومتحديا لهم بأن يأتوا
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/ 42- 43، فتح الباري: 9/ 24- 25، شرح مسلم للنووي: 6/ 100
(2) فتاوى ابن تيمية: 12/ 117- 161، 172
(1/28)
 
 
بمثل القرآن في نظمه ومعانيه وبيانه المشرق البديع الفريد ولو بمثل سورة منه:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وَلَنْ تَفْعَلُوا، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ، أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة 2/ 23- 24] .
وتتكرر آي القرآن في مناسبات مختلفة مطالبة بمجاراة القرآن وتحدي العرب الذين عارضوا الدعوة الإسلامية، ولم يؤمنوا بالقرآن، ولم يقرّوا بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، فقال تعالى: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي معينا [الإسراء 17/ 88] . وإذ عجزوا عن الإتيان بالمثيل، فليأتوا بعشر سور مثله، فقال سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ، وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود 11/ 13- 14] .
ثم أكد الحق سبحانه التحدي أو المعارضة بمثل سورة من القرآن بعد العجز عن المثل الكامل أو عن عشر سور منه، فقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس 10/ 38] .
قال الطبري «1» : إن الله تعالى ذكره جمع لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم ولأمته، بما أنزل إليه من كتابه معاني لم يجمعهن بكتاب أنزله إلى نبي قبله، ولا لأمة من الأمم قبلهم، وذلك أن كل كتاب أنزله جلّ ذكره على نبي من أنبيائه قبله، فإنما أنزله ببعض المعاني التي يحوي جميعها كتابه الذي أنزله إلى نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، كالتوراة
__________
(1) تفسير الطبري: 1/ 65- 66
(1/29)
 
 
التي هي مواعظ وتفصيل، والزبور الذي هو تمحيد وتمجيد، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير، لا معجزة في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق.
والكتاب الذي أنزل على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم يحوي معاني ذلك كله، ويزيد عليه كثيرا من المعاني التي سائر الكتب، غيره منها خال. ومن أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب: نظمه العجيب، ووصفه الغريب، وتأليفه البديع الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الخطباء، وكلّت عن وصف شكل بعضه البلغاء، وتحيرت في تأليفه الشعراء، وتبلدت قصورا عن أن تأتي بمثله لديه أفهام الفهماء، فلم يجدوا له إلا التسليم والإقرار بأنه من عند الله الواحد القهار، مع ما يحوي مع ذلك من المعاني التي هي ترغيب وترهيب، وأمر وزجر، وقصص وجدل ومثل، وما أشبه ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء.
 
ومظاهر الإعجاز أو أوجه الإعجاز كثيرة:
منها ما يخص العرب في روعة بيانه وبلاغة أسلوبه وجزالة ألفاظه أو نظمه، سواء في اختيار الكلمة القرآنية أو الجملة والتركيب ونظم الكلام، ومنها ما يشمل العرب وغيرهم من عقلاء الناس بالإخبار عن المغيبات في المستقبل، وعن الماضي البعيد من عهد آدم عليه السّلام إلى مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم، وبالتشريع المحكم الشامل لكل شؤون الحياة العامة والخاصة. وأكتفي هنا بإيجاز مظاهر الإعجاز وهي عشرة كما ذكر القرطبي «1» :
أ- النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيره، لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/ 73- 75، وانظر دلائل الإعجاز في علم المعاني، للإمام عبد القاهر الجرجاني: ص 294 وما بعدها، إعجاز القرآن للباقلاني: ص 33- 47، إعجاز القرآن للرافعي: ص 238- 290، تفسير المنار: 1/ 198- 215
(1/30)
 
 
2- الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.
3- الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال، وتأمل ذلك في سورة ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وقوله سبحانه: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى آخر سورة الزمر، وكذلك قوله سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إلى آخر سورة [إبراهيم 14/ 42] .
4- التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي، حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.
5- الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله على قلب النّبي الأمي صلّى الله عليه وسلم، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدوه به من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم النبي صلّى الله عليه وسلم- وهو أمي من أمة أمية، ليس لها بذلك علم، بما عرفوا من الكتب السالفة، فتحققوا صدقه.
6- الوفاء بالوعد، المدرك بالحس في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم: إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله عليه السّلام، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه. وإلى وعد مقيد بشرطه، كقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق 65/ 3] ووَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن 64/ 11] ووَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق 65/ 2] وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال 8/ 65] وشبه ذلك.
7- الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي، ولا يقدر عليه البشر، ولا سبيل لهم إليه، من ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
(1/31)
 
 
بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
[التوبة 9/ 33] ، ففعل ذلك. ومنه قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمران 3/ 12] . ومنه قوله تعالى:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ، إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح 48/ 27] . ومنه قوله تعالى: الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ، سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ
[الروم 30/ 1- 3] .
فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين، أو من أوقفه عليها رب العالمين، وقد عجز الزمان عن إبطال شيء منها، سواء في الخلق والإيجاد أم في بيان أخبار الأمم، أم في وضع التشريع السوي لكل الأمم، أم في توضيح كثير من المسائل العلمية والتاريخية، مثل وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر 15/ 22] وآية أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً [الأنبياء 21/ 30] ، وآية وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذاريات 51/ 49] وآية وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ [الحجر 15/ 19] وآية إثبات كروية الأرض: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر 39/ 5] والتكوير: اللف على الجسم المستدير. واختلاف مطالع الشمس في آية وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها إلى قوله وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس 36/ 38- 40] .
8- ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام، في الحلال والحرام، وفي سائر الأحكام، فهو يشتمل على العلوم الإلهية، وأصول العقائد الدينية وأحكام العبادات، وقوانين الفضائل والآداب، وقواعد التشريع السياسي والمدني والاجتماعي الموافقة لكل زمان ومكان.
9- الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.
10- التناسب في جميع ما تضمنه القرآن ظاهرا وباطنا، من غير اختلاف،
(1/32)
 
 
قال الله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء 4/ 82] .
يظهر من بيان هذه الأوجه في إعجاز القرآن أنها تشمل الأسلوب والمعنى.
أما خصائص الأسلوب فهي أربعة:
الأولى- النسق البديع والنظم الغريب، والوزن العجيب المتميز عن جميع كلام العرب، شعرا ونثرا وخطابة.
الثانية- السمو المتناهي في جمال اللفظ، ورقة الصياغة، وروعة التعبير.
الثالثة- التآلف الصوتي في نظم الحروف ورصفها، وترتيبها، وصياغتها، وإيحاءاتها، بحيث تصلح خطابا لكل الناس على اختلاف المستويات الفكرية والثقافية، مع تسهيل سبيلها وحفظها لمن أراد، قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر 54/ 17] .
الرابعة- تناسب اللفظ والمعنى، وجزالة اللفظ وإيفاء المعنى، ومناسبة التعبير للمقصود، والإيجاز والقصد دون أي تزيّد، وترسيخ المعاني بصور فنية محسوسة تكاد تلمسها، وتتفاعل معها، بالرغم من تكرارها بصورة جذابة فريدة.
 
وأما خصائص المعنى فهي أربعة أيضا:
الأولى- التوافق مع العقل والمنطق والعلم والعاطفة.
الثانية- قوة الإقناع، واجتذاب النفس، وتحقيق الغاية بنحو حاسم قاطع.
الثالثة- المصداقية والتطابق مع أحداث التاريخ، والواقع المشاهد، وسلامته على طوله من التعارض والتناقض والاختلاف، خلافا لجميع كلام البشر.
(1/33)
 
 
الرابعة- انطباق المعاني القرآنية على مكتشفات العلوم والنظريات الثابتة.
ويجمع هذه الخصائص آيات ثلاث في وصف القرآن، وهي قوله تعالى: الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود 11/ 1] وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41/ 41- 42] وقوله عز وجل: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر 59/ 21] .
وسيظل القرآن الكريم ناطقا بالمعجزات في كل عصر، فهو- كما قال الرافعي «1» - كتاب كل عصر، وله في كل دهر دليل من الدهر على الإعجاز، وهو معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني، ومعجز كذلك في حقائقه، وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء، فهي باقية ما بقيت.
 
خامسا- عربية القرآن وترجمته إلى اللغات الأخرى:
القرآن كله عربي «2» ، نزل بلسان العرب، وما من لفظ فيه إلا وهو عربي أصلا، أو معرّب خاضع لموازين اللغة العربية وقوالبها ومقاييسها ... وقد زعم بعض الناس أن القرآن ليس عربيا خالصا، لاشتماله على بعض كلمات من أصل أعجمي (غير عربي) ، مثل (سندس) و (إستبرق) وأنكر بعض العرب ألفاظ (قسورة) و (كبّارا) ، و (عجاب)
فدخل شيخ طاعن في السن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: قم، ثم قال له: اقعد، كرر ذلك
__________
(1) إعجاز القرآن: ص 173، 175
(2) تفسير الطبري: 1/ 25
(1/34)
 
 
مرات، فقال الشيخ: أتهز أبي، يا ابن (قسورة) ، وأنا رجل (كبارا) ، إن هذا الشيء (عجاب) ! فسألوه، هل هذا في اللغة العربية؟ فقال: نعم.
وكان الإمام الشافعي رحمه الله أول من رد بكلامه الفصيح، وحجته القوية على هذا الزعم، مبينا أنه ليس في كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، مفندا حجج هؤلاء الزاعمين وأهمها ثنتان:
الأولى- أن في القرآن خاصا يجهل بعضه بعض العرب.
والثانية- أن في القرآن ما ينطق به غير العرب.
ورد على الحجة الأولى: بأن جهل بعض العرب ببعض القرآن ليس دليلا على عجمة بعض القرآن، بل هو دليل على جهل هؤلاء ببعض لغتهم، فليس لأحد أن يدعي الإحاطة بكل ألفاظ اللسان العربي، لأنه أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها لفظا، ولا يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي.
ثم رد على الحجة الثانية: بأن بعض الأعاجم قد تعلم بعض الألفاظ العربية، وسرت إلى لغاتهم، ويحتمل أن يوافق لسان العجم أو بعض الألسنة قليلا من لسان العرب، وقد يكون بعض الألفاظ العربية من أصل أعجمي، لكن هذا القليل النادر من أصل غير عربي قد سرى قديما إلى العرب، فعرّبوه، وأنزلوه على طبيعة لغتهم، وجعلوه صادرا من لسانهم، بحسب حروفهم ومخارج تلك الحروف وصفاتها في لغة العرب، وذلك مثل الألفاظ المرتجلة والأوزان المبتدأة لها، وإن كانت في الأصل تقليدا في تغمتها للغات الأخرى «1» .
وتضافرت الآيات القرآنية بالتصريح بأن القرآن كله عربي، جملة
__________
(1) الرسالة للإمام الشافعي: ص 41- 50، ف 133- 170، وانظر المستصفى للغزالي: 1/ 68، وروضة الناظر: 1/ 184
(1/35)
 
 
وتفصيلا، وأنه نزل بلسان العرب قوم النّبي صلّى الله عليه وسلم، منها قوله تعالى: الر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف 12/ 1- 2] ومنها قوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء 26/ 192- 195] ومنها: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا [الرعد 13/ 37] ومنها: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا، لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى 42/ 7] ومنها: حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف 43/ 1- 3] ومنها: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر 39/ 28] .
ورتب الشافعي على عربية القرآن حكما مهما جدا، فقال: فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد، وغير ذلك.
وكان من مزية عربية القرآن وفضله على العرب أمران عظيمان هما:
الأول- إن تعلم القرآن والنطق به على أصوله يقوّم اللسان، ويفصّح المنطق، ويصحح الكلام، ويساعد على فهم لغة العرب، فليس هناك شيء يشبه القرآن في تقويم الألسنة، حين تتأثر باللهجات العامية المختلفة.
الثاني- كان للقرآن الفضل الأكبر في الحفاظ على اللغة العربية، في مسيرة القرون الأربعة عشر الغابرة، بما اشتملت عليه من فترات ضعف وتخلف وتسلط المستعمرين الأوربيين على بلاد العرب، بل إن القرآن عامل أساسي في توحيد العرب، وباعث قوي ساعد في انتفاضة العرب ضد المحتل الغاصب والمستعمر البغيض، مما أعاد الصحوة الإسلامية إلى أوطان العرب والإسلام، وربط بين
(1/36)
 
 
المسلمين برباط الإيمان والعاطفة القوية الصادقة، لا سيما في أوقات المحنة والحروب ضد المحتلين.
 
ترجمة القرآن:
يحرم ولا يصح شرعا ترجمة نظم القرآن الكريم، لأن ذلك متعذر غير ممكن، بسبب اختلاف طبيعة اللغة العربية التي نزل بها القرآن عن سائر اللغات الأخرى، ففي العربية المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والصور الفنية التي لا يمكن صبها بألفاظها في قوالب لغة أخرى، ولو حدث ذلك لفسد المعنى، واختل التركيب، وحدثت العجائب في فهم المعاني والأحكام، وذهبت قدسية القرآن، وزالت عظمته وروعته، وتبددت بلاغته وفصاحته التي هي سبب إعجازه.
لكن يجوز شرعا ترجمه معاني القرآن أو تفسيره، على أنه ليس هو القرآن، فلا تعد ترجمة القرآن قرآنا، مهما كانت الترجمة دقيقة، ولا يصح الاعتماد عليها في استنباط الأحكام الشرعية، لأن فهم المراد من الآيات يحتمل الخطأ، وترجمتها إلى لغة أخرى يحتمل الخطأ أيضا، ولا يصح الاعتماد على الترجمة مع وجود هذين الاحتمالين «1» .
ولا تصح الصلاة بالترجمة «2» ، ولا يتعبد بتلاوتها، لأن القرآن اسم للنظم والمعنى، والنظم: هو عبارات القرآن في المصاحف. والمعنى: هو ما تدل عليه العبارات، ولا تعرف أحكام الشرع الثابتة بالقرآن إلا بمعرفة النظم والمعنى.
__________
(1) وهذا هو الحادث الآن، فقد ترجم القرآن الكريم إلى زهاء خمسين لغة، وكلها ترجمات ناقصة، أو مشوهة، وغير موثوقة، وحبذا لو صدرت ترجمة من ثقات العلماء المسلمين.
(2) تفسير الرازي: 1/ 209
(1/37)
 
 
سادسا- الحروف التي في أوائل السور- الحروف المقطعة:
بدأ الحق سبحانه وتعالى بعض السور المكية أو المدنية القرآنية ببعض حروف التهجي أو الحروف المقطعة، منها البسيط المؤلف من حرف واحد، وذلك في سور ثلاث: صاد وقاف والقلم، إذ افتتحت الأولى بحرف: أَحْرَصَ والثانية بحرف: بَرْقٌ، والثالثة بحرف: ن.
ومنها فواتح عشر سور مؤلفة من حرفين، سبع منها متماثلة تسمى:
الحواميم، لابتدائها بحرفي: لَحْمَ، وهي سور: غافر، وفصلت، والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف، وتتمة العشر: هي سور: طه، وطس، ويس.
ومنها فواتح ثلاث عشرة سورة مركبة من ثلاثة أحرف، ست منها بدئت بالم وهي سور: البقرة، وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة. وخمس منها بلفظ الر: وهي سور: يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر. واثنتان منها بدئت بطسم، وهما سورتا الشعراء والقصص.
ومنها سورتان افتتحتا بأربعة أحرف، وهما سورة الأعراف وفاتحتها المص وسورة الرعد وفاتحتها المر.
ومنها سورة واحدة افتتحت بخمسة حروف هي سورة مريم ومستهلها:
كهيعص. فصارت مجموعة الفواتح القرآنية تسعا وعشرين، وهي على ثلاثة عشر شكلا، وحروفها أربعة عشر، وهي نصف الحروف الهجائية «1» وقد اختلف أهل التأويل المفسرون في بيان المقصود من فواتح السور «2» ،
__________
(1) مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي الصالح: ص 234 وما بعدها.
(2) تفسير القرطبي: 1/ 154 وما بعدها. [.....]
(1/38)
 
 
فقال جماعة: هي سرّ الله في القرآن، ولله في كل كتاب سر، وهي مما استأثر الله بعلمه، فهو من المتشابه الذي نؤمن به، على أنه من عند الله، دون تأويل ولا تعليل، لكنه أمر مفهوم عند النّبي صلّى الله عليه وسلم.
وقال جماعة: لا بد أن يكون لذكره معنى وجيه، والظاهر أنه إيماء إلى إقامة الحجة على العرب وتثبيته في أسماعهم وآذانهم، بعد أن تحداهم القرآن على أن يأتوا بمثله، علما بأن القرآن مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم.
فكأنه يقول لهم: كيف تعجزون عن الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه؟ مع أنه كلام عربي، مكون من حروف هجائية، ينطق بها كل عربي: أمي أو متعلم، وهم أساطين البيان وفرسان الفصاحة والبلاغة، ويعتمدون على هذه الحروف في الكلام: نثره وشعره وخطابته وكتابته، وهم يكتبون بهذه الحروف، ومع هذا فقد عجزوا عن مجاراة القرآن الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وسلم، فقامت الحجة عليهم أنه كلام الله، لا كلام بشر، فيجب الإيمان به، وتكون الفواتح الهجائية تقريعا لهم وإثباتا لعجزهم أن يأتوا بمثله.
لكنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن، كانوا مكابرين معاندين في عدم الإيمان به، وقالوا ببلاهة وسخف، وسطحية وسذاجة عن محمد والقرآن: محمد ساحر، شاعر، مجنون، والقرآن: أساطير الأولين. وذلك كله آية الإفلاس، ومظهر الضعف، وفقد الحجة، وكذب المعارضة والممانعة، وكفر المقلّدة، والعكوف على التقاليد العتيقة البالية، والعقائد الوثنية الموروثة الخرقاء.
والرأي الثاني هو رأي جماهير المفسرين والمحققين من العلماء، وهو المعقول المقتضي فتح الأسماع، واستماع القرآن، والإقرار بأنه كلام الله تعالى.
 
سابعا- التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية في القرآن:
إن القرآن الكريم الذي نزل بلسان العرب، لم يخرج عن طبيعة اللغة العربية
(1/39)
 
 
في استعمال اللفظ بطريق الحقيقة تارة (وهي استعمال اللفظ فيما وضع له من المعنى في اصطلاح التخاطب) واستعماله بطريق المجاز (استعمال الكلمة في معنى آخر غير ما وضعت له، لعلاقة بين المعنى الأصلي للكلمة، والمعنى الآخر الذي استعملت فيه) ، واستخدام التشبيه (وهو أن شيئا أو أشياء شاركت غيرها في صفة أو أكثر بأداة هي الكاف ونحوها، ملفوظة أو ملحوظة) والاعتماد على الاستعارة (وهي تشبيه بليغ حذف أحد طرفيه، وعلاقته دائما المشابهة) «1» .
 
أما التشبيه:
فكثير في القرآن، سواء أكان بحسب وجه الشبه مفردا أم مركبا، فمن التشبيه المفرد أو غير التمثيل (وهو ما لا يكون وجه الشبه فيه منتزعا من متعدد، بل من مفرد، مثل زيد أسد، انتزع وجه الشبه من مفرد، وهو أن زيدا أشبه الأسد من جهة الشجاعة) : قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 3/ 59] .
ومن التشبيه المركب أو تشبيه التمثيل (وهو ما كان وجه الشبه منتزعا فيه من متعدد، أو هو كما قال السيوطي في الإتقان: أن ينتزع وجه الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض) قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة 62/ 5] فالتشبيه مركب من أحوال الحمار، وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع، مع تحمل التعب في استصحابه. وقوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها، وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها، أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً، فَجَعَلْناها حَصِيداً، كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس 10/ 24] فيه عشر جمل، وقع التركيب من مجموعها، بحيث لو سقط منها شيء، اختل التشبيه، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا في سرعة
__________
(1) انظر مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي الصالح: ص 322- 333
(1/40)
 
 
تقضيها، وانقراض نعيمها، واغترار الناس بها، بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العشب، وزين بزخرفها وجه الأرض، كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها، وظنوا أنها مسلمة من الجوائح، أتاها بأس الله فجأة، فكأنّها لم تكن بالأمس.
 
وأما الاستعارة
التي هي من المجاز اللغوي أي في الكلمة الواحدة لا كالمجاز العقلي فكثيرة أيضا «1» ، مثل قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير 81/ 18] . أستعير خروج النفس شيئا فشيئا لخروج النور من المشرق عند ظهور الفجر قليلا، ومثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ... [النساء 4/ 10] شبه مال الأيتام بالنار، بجامع أن أكله يؤذي، كما تؤذي النار. ومثل قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم 14/ 1] أي لتخرج الناس من جهالاتهم وضلالاتهم إلى الدين القيم والعقيدة الحقة والعلم والأخلاق، شبه الجهالة والضلالة والعداوة بالظلام، في أن الإنسان لا يهتدي إلى الطريق الواضح في كل منهما، وشبه الدين القيم بالنور في أن الإنسان يهتدي إلى الطريق الواضح في كل منهما.
 
وأما المجاز:
فأنكر جماعة من العلماء وجوده في القرآن (منهم الظاهرية، وبعض الشافعية كأبي حامد الاسفراييني وابن القاصّ، وبعض المالكية كابن خويز منداد البصري، وابن تيمية) وشبهتهم أن المجاز أخو الكذب، والقرآن منزه عنه، وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله، فالجدار لا يريد في قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف 18/ 77] .
والقرية لا تسأل في قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف 12/ 82] «2» .
__________
(1) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: ص 102 وما بعدها.
(2) المرجع السابق: ص 99
(1/41)
 
 
لكن الذين تذوقوا جمال الأسلوب القرآني، يرون أن هذه الشبهة باطلة، ولو سقط المجاز من القرآن لسقط منه شطر الحسن، مثل قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء 17/ 29] دلت القرينة على أن المعنى الحقيقي غير مراد، وأن الآية تنهى عن كل من التبذير والبخل.
 
والكناية:
«وهي لفظ أريد به لازم معناه» كثيرة أيضا في القرآن، لأنها من أبلغ الأساليب في الرمز والإيمان، فالله تعالى رمز إلى الغاية من المعاشرة الزوجية، وهي التناسل، بلفظ (الحرث) في قوله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة 2/ 223] ، ووصف الله العلاقة بين الزوجين، بما فيها من مخالطة وملابسة، بأنها لباس من كل منهما للآخر، في قوله: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة 2/ 187] ورمز إلى الجماع بقوله سبحانه:
أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء 4/ 43] وقوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة 2/ 187] . وكنى عن عفة النفس وطهارة الذيل بقوله تعالى:
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر 74/ 4] .
 
والتعريض:
«وهو أن تذكر اللفظ وتستعمله في معناه، وتلوّح به إلى ما ليس من معناه، لا حقيقة ولا مجازا» مستعمل أيضا في القرآن، مثاله:
وَقالُوا: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، قُلْ: نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [التوبة 9/ 81] ليس المراد به ظاهر الكلام وهو ازدياد حر جهنم، وكونه أشد من حر الدنيا، ولكن الغرض الحقيقي هو التعريض بهؤلاء المتخلفين عن القتال، المعتذرين بشدة الحر، بأنهم سيردون جهنم، ويجدون حرها الذي لا يوصف. ومنه قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء 21/ 63] نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتخذة آلهة، لما يعلمون إذا نظروا بعقولهم، من عجز كبيرها عن ذلك الفعل، والإله لا يكون عاجزا.
(1/42)
 
 
فوائد:
القرآن ثلاثون جزءا 30 عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة 114 عدد آي القرآن 6236 على طريقة الكوفيين.
الأمر 1000 النهي 1000 الوعد 1000 الوعيد 1000 القصص والأخبار 1000 العبر والأمثال 1000 الحرام والحلال 500 الدعاء 100 الناسخ والمنسوخ 66
(1/43)
 
 
الاستعاذة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
1- معناها:
أستجير بجناب الله وأعتصم به من شر الشيطان الملعون المذموم أن يغويني ويضلني أو يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به أو يحضني على ما نهيت عنه، فإنه لا يكفه ويمنعه إلا رب العالمين. والشيطان:
واحد الشياطين، وسمي بذلك لبعده عن الحق وتمرده. والرجيم: أي المبعد من الخير، المهان، المرمي باللعن والسب.
 
2- أمر الله سبحانه بالاستعاذة
عند أول كل تلاوة للقرآن، بقوله تعالى:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل 16/ 98] أي إذا أردت أن تقرأ، فتعوذ، وقوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ. وَقُلْ: رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون 23/ 96- 98] وهذا يوحي إلى أن القرآن جعل دفع السيئة بالحسنة علاجا لشيطان الإنس، والاستعاذة علاجا لشيطان الجن.
وتطبيقا لهذا الأمر في السنة
ورد عن أبي سعيد الخدري عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه كان إذا قام إلى الصلاة استفتح، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزة ونفخه ونفثه» «1»
 
وقال ابن المنذر: «جاء عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن مسعود- أنه كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .
وهذا اللفظ هو الذي عليه جمهور العلماء في التعوذ: لأنه لفظ كتاب الله.
 
3-
الاستعاذة مندوبة في رأي جمهور العلماء في كل قراءة في غير الصلاة.
__________
(1) أخرجه أحمد والترمذي (نيل الأوطار: 2/ 196 وما بعدها) .
(1/44)
 
 
أما في الصلاة، فقال المالكية: يكره التعوذ والبسملة قبل الفاتحة والسورة، إلا في قيام رمضان،
لحديث أنس: «أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» «1»
 
وقال الحنفية: يتعوذ في الركعة الأولى فقط.
ورأي الشافعية والحنابلة: أنه يسن التعوذ سرا في أول كل ركعة قبل القراءة.
 
4-
أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن، ولا آية منه.
__________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم.
(1/45)
 
 
البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
1- معناها:
أبدأ بتسمية الله وذكره وتسبيحه قبل كل شيء، مستعينا به في جميع أموري، فإنه الرب المعبود بحق، واسع الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء، المنعم بجلائل النعم ودقائقها، المتفضل بدوام الفضل والرحمة والإحسان.
 
2- حكمتها:
ابتدأ الله تعالى بالبسملة سورة الفاتحة وكل سور القرآن، ما عدا سورة التوبة، تنبيها على أن ما في كل سورة حق، ووعد صادق للعباد، فهو سبحانه يفي لهم بجميع ما تضمنت السورة من وعد ولطف وبر، وإرشادا إلى استحباب البدء بالبسملة في كل الأعمال، التماسا لمعونة الله وتوفيقه، ومخالفة لغير المؤمنين الذين يستفتحون أعمالهم بأسماء آلهتهم أو زعمائهم.
قال بعض العلماء: إن «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» تضمنت جميع الشرع، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات «1» .
 
3- هل هي آية من السورة؟
اختلف العلماء في البسملة، أهي آية من الفاتحة وغيرها من السور أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
فقال المالكية والحنفية: ليست البسملة بآية من الفاتحة ولا غيرها، إلا من سورة النمل في أثنائها،
لحديث أنس رضي الله عنه قال: «صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلم أسمع أحدا منهم،
__________
(1) وأما
حديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع» فهو ضعيف، رواه عبد القادر الرهاوي في الأربعين عن أبي هريرة.
(1/46)
 
 
يقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «1»
 
أي أن أهل المدينة كانوا لا يقرءون البسملة في صلاتهم في مسجد المدينة، إلا أن الحنفية قالوا: يقرأ المنفرد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مع الفاتحة، في كل ركعة سرا، فهي قرآن، لكنها ليست بعض السورة، وإنما هي للفصل بين السور. وقال المالكية: لا يقرؤها في الصلاة المكتوبة، جهرا كانت أو سرا، لا في الفاتحة، ولا في غيرها من السور، ويجوز قراءتها في النافلة. وقال القرطبي: الصحيح من هذه الأقوال قول مالك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد، وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه «2» ، لكن هذا غير ظاهر، لأنه ليس بلازم تواتر كل آية.
وقال عبد الله بن المبارك: إنها آية من كل سورة،
لما رواه مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «نزلت علي آنفا سورة» فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر 109/ 1- 3-] .
وقال الشافعية والحنابلة: البسملة آية من الفاتحة، يجب قراءتها في الصلاة، إلا أن الحنابلة قالوا كالحنفية: يقرأ بها سرا، ولا يجهر بها. وقال الشافعية: يسرّ بها في الصلاة السرية، ويجهر بها في الصلاة الجهرية، كما يجهر في سائر الفاتحة.
ودليلهم على كونها آية في الفاتحة:
ما رواه الدارقطني عن أبي هريرة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قرأتم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فاقرؤوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أحد آياتها»
وإسناده صحيح.
__________
(1) رواه مسلم وأحمد.
(2) تفسير القرطبي: 1/ 93
(1/47)
 
 
ودليل الجهر بها لدى الشافعية:
ما روى ابن عباس رضي الله عنهما «أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم جهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «1»
 
ولأنها تقرأ على أنها آية من القرآن، بدليل أنها تقرأ بعد التعوذ، فكان سنتها الجهر كسائر الفاتحة.
وتردد قول الشافعي في كون البسملة آية في سائر السور، فمرة قال: هي آية من كل سورة، ومرة قال: ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها، والأصح أنها آية من كل سورة كالفاتحة، بدليل اتفاق الصحابة على كتبها في أوائل كل سورة، ما عدا سورة براءة، مع العلم بأنهم كانوا لا يكتبون في المصاحف ما ليس من القرآن. وبغض النظر عن الخلاف الفقهي السابق، اتفقت الأمة على أن البسملة آية في سورة النمل، وعلى جواز كتب البسملة في أول كل كتاب من كتب العلم والرسائل، فإن كان الكتاب ديوان شعر فمنعه الشعبي والزهري، وأجازه سعيد بن جبير وأكثر المتأخرين «2» .
 
فضل البسملة:
قال علي كرم الله وجهه في قوله «بسم الله» : إنه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء. وأما «الرحمن» فهو عون لكل من آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما «الرحيم» فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
ملاحظة: أثبتّ النص القرآني برسم المصحف العثماني، فمثلا: «وأولوا» و «يتلوا» فيهما ألف، و «الصلوة» و «يريكم» هكذا، أما في الإملاء الحديثة فلا تكتب الألف في الكلمتين، وتكتب «الصلاة» و «يراكم» اليوم هكذا، وأما في شرحي أو تفسيري فأتقيد بالقواعد الجديدة.
كذلك لا أعرب بعض الكلمات المعروفة، مثل أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ [المرسلات 17- 18] لم أعرب «نتبعهم» التي هي فعل مضارع مرفوع، لأنه كلام مستأنف، وليس مجزوما مثل «نهلك» .
__________
(1) تكتب «بسم الله» بغير ألف، استغناء عنها بباء الإلصاق، في اللفظ والخط، لكثرة الاستعمال، بخلاف قوله تعالى: «اقرأ باسم ربك» فإنها لم تحذف لقلة الاستعمال.
(2) تفسير القرطبي: 1/ 97
(1/48)
 
 
أمل ودعاء وغاية
اللهم اجعل كل ما تعلّمته- حفظته أو نسيته، وعلّمته، طوال حياتي، وكتبته أو ألّفته «1» من فيض فضلك، ومن حركة القلم الذي أكتب به، وومضة الفكر وإشعاعاته، وإجهاد العقل ونتاجه، وعناء النفس ليل نهار، ونور البصيرة والبصر، وإصغاء السمع، ووعي القلب ... ذخرا لي عندك، مخلصا لك فيه عملي، ومن أجل إعلاء كلمتك ونشر دينك، وتيسير العلم لأهله على وفق أذواق العصر والمعاصرين، وبقصد مرضاتك ووجهك الكريم، مبعدا عني بعد المشرقين كل ما يشوب ذلك من رياء أو سمعة أو شهرة، تفيض به علي من جودك وإحسانك، واحتسابا للأجر والثواب الواسع من لدنك وجنابك، فتقبّل مني يا كريم قليلي في كثيرك، ويسيري في سعتك، فإني في عصر لم أتمكن فيه من القيام بجهاد مثلما قام به السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأجزل به الأجر والنفع المنشود في حياتي وبعد مماتي، وحتى يوم العرض الأكبر عليك، وثقّل به ميزان حسابي، وحقق لي بفضلك ورحمتك النجاة يوم المعاد، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، يا أكرم مسئول، والحمد لله رب العالمين.
أ- د: وهبة مصطفى الزحيلي
__________
(1) التي منها أكثر من عشرين بحثا (للموسوعة الفقهية في الكويت، ولمؤسسة آل البيت في الأردن، ولمجمع الفقه الإسلامي في جدة- موسوعة الفقه- وللموسوعة العربية السورية) ، ومنها الموسوعات العلمية الثلاث: أصول الفقه الإسلامي في مجلدين، والفقه الإسلامي وأدلته في ثمانية مجلدات، وهذا التفسير الذي ركزت فيه على فقه الحياة الأكبر في القرآن الكريم، ومؤلفات أخرى.
(1/49)
 
 
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ
الأنفال 8/ 24
 
التّفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج
في آخر الكتاب فهرسة ألفبائية شاملة
 
الأستاذ الدكتور وهبة الزّحيلي
رئيس قسم الفقه الاسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق
 
الجزء الأول
(1/51)
 
 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع نزلت بعد المدّثّر
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
 
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة معاني القرآن العظيم، واشتملت على أصول الدين وفروعه، وتناولت العقيدة، والعبادة، والتشريع، والإيمان بالبعث وبصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء، والإرشاد إلى طلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم، وتجنب طريق المنحرفين عن هداية الله تعالى.
 
أسماؤها:
للفاتحة اثنا عشر اسما ذكرها القرطبي، وهي الصلاة،
للحديث القدسي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين»
«1» ، وسورة الحمد، لأن فيها ذكر
__________
(1) رواه مسلم ومالك في الموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
(1/53)
 
 
الحمد، وفاتحة الكتاب، لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا وكتابة، وتفتتح بها الصلوات، وأم الكتاب في رأي الجمهور، وأم القرآن في رأي الجمهور،
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله: أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسبع المثاني» «1»
 
، والمثاني، لأنها تثنى في كل ركعة، والقرآن العظيم، لتضمنها جميع علوم القرآن ومقاصده الأساسية، والشفاء
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم» «2» ،
والرّقية،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لمن رقى بها سيد الحي: «ما أدراك أنها رقية» «3»
 
، والأساس، لقول ابن عباس: « ... وأساس الكتب: القرآن، وأساس القرآن:
الفاتحة، وأساس الفاتحة: بسم الله الرّحمن الرّحيم» ، والوافية: لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال، فلو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز عند الجمهور، والكافية، لأنها تكفي عن سواها، ولا يكفي سواها عنها. هذه هي أسماء سورة الفاتحة، وأشهرها ثلاث: الفاتحة، وأم الكتاب، والسبع المثاني. والسورة:
طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات، فأكثر، لها اسم يعرف بطريق الرواية الثابتة.
 
فضلها:
ثبت في الأحاديث الصحيحة فضل الفاتحة، منها
قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي- كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي- مقسومة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل» «4» .
__________
(1) رواه الترمذي عن أبي هريرة.
(2) رواه الدارمي عن عبد الملك بن عمير، بلفظ: «في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء» [.....]
(3) أخرجه الأئمة عن أبي سعيد الخدري.
(4)
رواه الترمذي عن أبي بن كعب، ورواه أيضا عنه الإمام أحمد في المسند بلفظ: «والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» .
(1/54)
 
 
ومنها
أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي سعيد بن المعلّى: «لأعلّمنك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته» «1» .
وهذان الحديثان يشيران إلى قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر 15/ 87] لأنها سبع آيات تثنى في الصلاة، أي تعاد.
 
الإعراب:
الباء من بِسْمِ اللَّهِ زائدة بمعنى الإلصاق، والراجح أنها بمعنى الاستعانة، والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف عند البصريين، وتقديره: ابتدائي بسم الله، أي كائن باسم الله، أو في موضع نصب بفعل مقدر عند الكوفيين، وتقديره: ابتدأت بسم الله.
والْحَمْدُ لِلَّهِ مبتدأ وخبر، ورَبِّ الْعالَمِينَ صفة الله.
ومالِكِ مجرور على البدل، لا على الصفة: لأنه نكرة، بسبب أنه اسم فاعل لا يكتسب التعريف من المضاف إليه، إذا كان للحال أو الاستقبال. ويَوْمِ الدِّينِ ظرف زمان.
وإِيَّاكَ ضمير منصوب منفصل، والعامل فيه نَعْبُدُ والكاف للخطاب.
واهْدِنَا سؤال وطلب، فعل أمر يتعدى إلى مفعولين.
وصِراطَ الَّذِينَ بدل من الصراط الأول. والَّذِينَ اسم موصول. وغَيْرِ مجرور على البدل من ضمير عَلَيْهِمْ: وهذا ضعيف، أو من الَّذِينَ أو مجرور على الوصف للذين. ولَا في وَلَا الضَّالِّينَ زائدة للتوكيد عند البصريين، وبمعنى «غير» عند الكوفيين. وأما «آمين» فدعاء، وليس من القرآن، وهو اسم فعل ومعناه: اللهم استجب.
 
البلاغة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ جملة خبرية لفظا، إنشائية معنى، أي قولوا: الحمد لله، وهي مفيدة قصر الحمد عليه تعالى.
وإِيَّاكَ نَعْبُدُ ... فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وتقديم المفعول يفيد القصر، أي لا نعبد سواك.
__________
(1) خرّجه البخاري.
(1/55)
 
 
واهْدِنَا الصِّراطَ أي ثبتنا عليه، فالمراد به دوام الطلب واستمراره.
وغَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فيه حذف، تقديره: غير صراط المغضوب عليهم.
 
المفردات اللغوية:
الْحَمْدُ الثناء بالجميل على الفعل الاختياري، وهو أعم من الشكر، لأن الشكر يكون مقابل النعمة. اللَّهِ: علم على الذات العلية المقدسة، ومعناه: المعبود بحق، وقيل: إنه اسم الله الأعظم، ولم يتسمّ به غيره. أما «الإله» فهو المعبود بحق أو باطل، يطلق على الله تعالى وعلى غيره. رَبِّ الرب: المالك والسيد المعبود والمصلح والمدبر والجابر والقائم، فيه معنى الربوبية والتربية والعناية بالمخلوقات. الْعالَمِينَ جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، وهو أنواع كعالم الإنسان والحيوان والنبات والذر والجن. ولفظ العالم: اسم جنس لا واحد له من لفظه، مثل رهط وقوم.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ صفتان لله مشتقتان من الرحمة، لوحظ في كل منهما معنى معين، فالرحمن: صيغة مبالغة بمعنى: عظيم الرحمة، وهو اسم عام في جميع أنواع الرحمة، وأكثر العلماء على أن الرَّحْمنِ اسم مختص بالله عزّ وجلّ، ولا يجوز أن يسمى به غيره. والرَّحِيمِ بمعنى دائم الرحمة. ولما كان في اتصافه تعالى ب رَبِّ الْعالَمِينَ ترهيب، قرنه بالرحمن الرحيم.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي مالك يوم الحساب والمكافأة والجزاء على الأعمال، والأمر كله في قبضته يوم القيامة، ومن عرف أن الله ملك يوم الدين، فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ نخصك بالعبادة ولا نعبد غيرك، ومعناه نطيع، والعبادة: الطاعة والتذلل وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي نطلب العون والتأييد والتوفيق، ونخصك بطلب المعونة، فأنت مصدر العون والفضل والإحسان، ولا يملك القدرة على عوننا أحد. وقد جاء الفعلان «نعبد ونستعين» بصيغة الجمع، لا بصيغة المفرد «إياك أعبد وإياك أستعين» للاعتراف بقصور العبد وحده عن الوقوف أمام الله، فكأنه يقول: لا يليق بي الوقوف وحدي وبمفردي في مناجاتك، وأخجل من تقصيري وذنوبي، بل أنضم إلى سائر المؤمنين، وأتوارى بينهم، فتقبل دعائي معهم، فنحن جميعا نعبدك ونستعين بك.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ عرفنا ووفقنا ودلنا على الطريق الموصل إلى الحق، وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك. والصراط المستقيم: الطريق المعتدل: طريق الإسلام الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وختمت برسالاتهم رسالة خاتم النبيين، وهو جملة ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة، من عقائد وأحكام وآداب وتشريع ديني، كالعلم الصحيح بالله والنبوة وأحوال الاجتماع.
(1/56)
 
 
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي طريق من أنعمت عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين السابقين، وحسن أولئك رفيقا. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ أي لا تجعلنا مع أولئك الحائدين عن طريق الاستقامة، المبعدين عن رحمة الله، المعاقبين أشد العقاب، لأنهم عرفوا الحق وتركوه، وضلوا الطريق. ويرى الجمهور أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى. والحق: أن المغضوب عليهم: هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده، فرفضوه ونبذوه. والضالون: هم الذين لم يعرفوا الحق، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهم الذين لم تبلغهم رسالة أو بلغتهم بنحو ناقص..
 
التأمين:
«آمين» دعاء، أي تقبل منا واستجب دعاءنا، وهي ليست من القرآن، ولم تكن قبلنا إلا لموسى وهارون عليهما السّلام، ويسن ختم الفاتحة بها، بعد سكتة على نون وَلَا الضَّالِّينَ ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن. ودليل سنيتها
ما رواه مالك والجماعة (أحمد والأئمة الستة) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه» .
 
آراء العلماء في الجهر والإسرار بالتأمين:
للعلماء رأيان: قال الحنفية، والمالكية في الراجح: الإخفاء أو الإسرار بآمين أولى من الجهر بها، لأنه دعاء، وقد قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف 7/ 55] وقال ابن مسعود: «أربع يخفيهن الإمام: التعوذ، والتسمية، والتأمين، والتحميد» أي قول: ربنا لك الحمد.
ورأى الشافعية والحنابلة: أن التأمين سرا في الصلاة السرية، وجهرا فيما يجهر فيه بالقراءة، ويؤمن المأموم مع تأمين إمامه،
لحديث أبي هريرة المتقدم:
«إذا أمّن الإمام فأمنوا ... »
ودليلهم على هذا التفصيل:
حديث أبي هريرة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: آمين، حتى يسمع من يليه من الصف الأول» «1»
 
وحديث وائل بن حجر: «سمعت
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه، وقال: حتى يسمعها أهل الصف الأول، فيرتج بها المسجد.
(1/57)
 
 
النّبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقال: آمين، يمدّ بها صوته» «1» .
 
التفسير والبيان:
أرشدنا الله تعالى إلى أن نبدأ كل أعمالنا وأقوالنا بالبسملة، فهي مطلوبة لذاتها، محققة للاستعانة باسمه العظيم. وعلمنا سبحانه كيف نحمده على إحسانه ونعمه، فهو صاحب الثناء بحق، فالحمد كله لله دون سواه، لأنه مالك الملك ورب العوالم والموجودات كلها، أوجدها ورباها وعني بها، وهو صاحب الرحمة الشاملة الدائمة، ومالك يوم الجزاء والحساب ليقيم العدل المطلق بين العباد، ويحقق للمحسن ثوابه، وللمسيء عقابه. فهذه الصفات تقتضينا أن نخص الله بالعبادة وطلب المعونة، والخضوع التام له، فلا نستعين إلا به، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، لأنه المستحق لكل تعظيم، والمستقل بإيجاد النفع ودفع الضر.
وقد تعصف الأهواء بالنفوس، وتزيغ بالعقول، فلا غاصم من التردي في الشهوات ومتاهات الانحراف إلا الله، لذا أرشدنا الحق سبحانه إلى طلب الهداية والتوفيق منه، حتى نسير على منهج الحق والعدل، ونلتزم طريق الاستقامة والنجاة، وهو طريق الإسلام القديم المستمر الذي أنعم الله به على النبيين والصديقين والصالحين. وهذا شأن العبد العابد الناسك العاقل العارف حقيقة نفسه ومصيره في المستقبل، لا شأن الكافر الجاحد الضال المنحرف، الذي أعرض عن طريق الاستقامة عنادا، أو ميلا مع الأهواء، أو جهلا وضلالا، وما أكثر الضالين عن طريق الهداية، المتنكبين منهج الاستقامة، الذين استحقوا الغضب والسخط الإلهي!
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
(1/58)
 
 
فاللهم أدم علينا البقاء في طريق الهداية، وتقبل ثناءنا ودعاءنا واحفظنا من الغواية والضلال.
وبه تبين أن الناس فريقان: فريق الهدى، وفريق الضلال «1» . وقد منح الله تعالى للإنسان خمس هدايات يتوصل بها إلى سعادته «2» .
1- هداية الإلهام الفطري: وتكون للطفل منذ ولادته، فهو يحس بالحاجة إلى الطعام والشراب، فيصرخ طالبا له إن غفل عنه والداه.
2- هداية الحواس: وهي متممة للهداية الأولى، وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان، بل هما في البداية أكمل في الحيوان من الإنسان، إذ إلهام الحيوان يكمل بعد ولادته بقليل، ويكتمل في الإنسان تدريجيا.
3- هداية العقل: وهي أسمى من الهدايتين السابقتين، فالإنسان خلق مدنيا بالطبع ليعيش مع غيره، ولا يكفي الحس الظاهر للحياة الاجتماعية، فلا بد له من العقل الذي يوجهه إلى مسالك الحياة، ويعصمه من الخطأ والانحراف، ويصحح له أغلاط الحواس، والانزلاق في تيارات الهوى.
4- هداية الدين: وهي الهداية التي لا تخطئ، والمصدر الذي لا يضل، فقد يخطئ العقل، وتنجرف النفس مع اللذات والشهوات، حتى توردها موارد الهلاك، فيحتاج الإنسان إلى مقوّم مرشد هاد لا يتأثر بالأهواء، فتسعفه هداية الدين لإرشاده إلى الطريق الأقوم، إما بعد الوقوع في الخطأ أو قبله، وتظل هذه الهداية هي الحارس الأمين الذي يفيء إليها الإنسان للتزود بمفاتيح الخير، والتسلح بمغلاق الشر، فيأمن العثور، ويضمن النجاة، وتعرّفه بحدود ما يجب
__________
(1) الضلال: العدول عن الطريق المستقيم، ويضاده الهداية.
(2) تفسير المنار: 1/ 62، تفسير المراغي: 1/ 35.
(1/59)
 
 
عليه لسلطان الله الذي يخضع له في أعماق نفسه، ويحس بالحاجة الملحة لصاحب ذلك السلطان، الذي خلقه وسواه، وأنعم عليه نعما ظاهرة وباطنة، لا تعد ولا تحصى. فصارت هذه الهداية أشد ما يحتاج إليها الإنسان، لتحقيق سعادته.
وقد أشار القرآن إلى تلك الهدايات في آيات كثيرة، منها وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 90/ 10] أي بينا له طريقي الخير والشر، والسعادة والشقاء.
ومنها قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ، فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت 41/ 17] أي أرشدناهم إلى طريق الخير والشر، فاختاروا الثاني.
5- هداية المعونة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة: وهي أخص من هداية الدين، وهي التي أمرنا الله بدوام طلبها في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي دلنا دلالة، تصحبها من لدنك معونة غيبية، تحفظنا بها من الضلال والخطأ.
وهذه الهداية خاصة به سبحانه، لم يمنحها أحدا من خلقه، بل نفاها عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 28/ 56] ، وقوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة 2/ 272] ، وأثبتها لنفسه في قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام 6/ 90] .
أما الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق، فأثبتها الله للنّبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله:
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى 42/ 52] .
والخلاصة: الهداية في القرآن نوعان: هداية عامة: وهي الدلالة إلى مصالح العبد في معاده، وهذه تشمل الأنواع الأربعة السابقة، وهداية خاصة: وهي الإعانة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة، مع الدلالة، وهي النوع الخامس.
(1/60)
 
 
والإضلال نوعان «1» :
أحدهما- أن يكون سببه الضلال: إما بأن يضل عنك الشيء كقولك:
أضللت البعير، أي ضلّ عني، وإما أن تحكم بضلاله. والضلال في هذين سبب الإضلال.
والثاني- أن يكون الإضلال سببا للضلال: وهو أن يزين للإنسان الباطل ليضلّ.
وإضلال الله تعالى للإنسان على أحد وجهين: إما الحكم عليه بالضلال، أو التّمكين من البقاء في الضلال.
والأول- سببه الضلال: وهو أن يضل الإنسان، فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا، ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار في الآخرة، وذلك إضلال هو حق وعدل، لأن الحكم على الضال بضلاله والعدول به عن طريق الجنة إلى النار عدل وحق.
والثاني- سببه اختيار الإنسان: وهو أن يختار الإنسان طريق الانحراف، فيمده الله في ضلاله، ويمكّنه من البقاء في طغيانه، ويخلق له القدرة على الاستمرار في كفره وفساده، لذا نسب الله الإضلال للكافر والفاسق، دون المؤمن، بل نفى عن نفسه إضلال المؤمن، فقال: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التو