التفسير القيم تفسير القرآن الكريم لابن القيم

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: تفسير القرآن الكريم (ابن القيم)
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)
 
 
 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
سورة الفاتحة
 
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال وتضمنتها أكمل تضمن.
فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء، مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارها عليها. وهي: «الله، والرب، والرحمن «1» » وبنيت السورة على الإلهية والربوبيّة والرحمة. ف إِيَّاكَ نَعْبُدُ مبنى على الإلهية. وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ على الربوبيّة وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة. والحمد يتضمن الأمور الثلاثة: فهو المحمود في إلهيته، وربوبيته، ورحمته. والثناء والمجد كمالان لجده.
وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها. وتفرّد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل. وكل هذا تحت قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.
وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة:
__________
(1) قال الخطابي: الرحمن ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم وعمت المؤمن والكافر والرحيم خاص بالمؤمنين ولا يجوز إطلاق اسم الرحمن على غير الله تعالى بخلاف الرحيم فإنه يطلق على المخلوق أيضا.
(1/11)
 
 
أحدها: كونه رب العالمين. فلا يليق به أن يترك عباده سدى هملا، لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما. فهذا هضم للربوبية، ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به. وما قدره حق قدره من نسبه إليه.
الثاني: أخذها من اسم «الله» وهو المألوه المعبود. ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله.
الموضع الثالث: من اسمه «الرحمن» فإن رحمته تمنع إهمال عباده، وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم. فمن أعطى اسم «الرحمن» حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل، وإنزال الكتب، أعظم من تضمنه علم إنزال الغيث «1» وإنبات الكلأ «2» ، وإخراج الحب. فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح، لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب «3» . وأدرك منه أولو الألباب أمرا وراء ذلك.
الموضع الرابع: من ذكر «يوم الدين» فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه بأعمالهم، فيثيبهم على الخيرات، ويعاقبهم على المعاصي والسيئات وما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه. والحجة إنما قامت برسله وكتبه.
وبهم استحق الثواب والعقاب. وبهم قام سوق يوم الدين. وسيق الأبرار إلى النعيم. والفجار إلى الجحيم.
الموضع الخامس: من قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ فإن ما يعبد به تعالى لا يكون إلا على ما يحبه ويرضاه. وعبادته: هي شكره وحبه وخشيته، فطري ومعقول للعقول السليمة. لكن طريق التعبد وما يعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله. وفي هذا بيان أن إرسال الرسل أمر مستقر في العقول، يستحيل
__________
(1) المطر.
(2) العشب رطبا كان أو يابسا.
(3) يقال: دب يدب بالكسر دبا ودبيبا، وكل ماش على الأرض دابة.
(1/12)
 
 
تعطيل العالم عنه، كما يستحيل تعطيله عن الصانع. فمن أنكر الرسول فقد أنكر المرسل. ولم يؤمن به، ولهذا جعل سبحانه الكفر برسله كفرا به.
الموضع السادس: من قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فالهداية:
هي البيان والدلالة، ثم التوفيق والإلهام، وهو بعد البيان والدلالة. ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل. فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق. وجعل الإيمان في القلب وتحبيبه إلى، وتزيينه في قلبه، وجعله مؤثرا له، راضيا به، راغبا فيه. هما هدايتان مستقلتان، لا يحصل الفلاح إلا بهما. وهما متضمنتان تعريف ما لم نعلمه من الحق تفصيلا وإجمالا، وإلهامنا له، وجعلنا مريدين لاتباعه ظاهرا وباطنا. ثم خلق القدرة لنا على القيام لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم. ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة.
ومن هاهنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة، وبطلان قول من يقول: إذا كنا مهتدين، فكيف نسأل الهداية؟ فإن المجهول لنا، من الحق أضعاف المعلوم. وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك. وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله، فأمر يفوته الحصر. ونحن محتاجون إلى الهداية التامة.
فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام.
وللهداية مرتبة أخرى- وهي آخر مراتبها- وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة. وهو الصراط الموصل إليها. فمن هدى في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى جنته ودار ثوابه. وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم. وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط. فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطّرف،
(1/13)
 
 
ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشدّ الركاب، ومنهم من يسعى سعيا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يحبو حبوا، ومنهم المخدوش المسلّم، ومنهم المكردس في الناس. فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا، حذو القذّة بالقذة جزاء وفاقا هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير، والسلامة من كل شر.
الموضع السابع: من معرفة نفس المسؤول، وهو الصراط المستقيم.
ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعيّنه طريقا للمقصود. ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة.
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم. فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه. فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه، لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين. وكلما تعوج طال وبعد. واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته. وإضافته إلى المنعم عليهم، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقا.
والصراط: تارة يضاف إلى الله، إذ هو الذي شرعه ونصبه، كقوله تعالى: 6: 153 وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً وقوله: 42: 52 وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: صِراطِ اللَّهِ وتارة يضاف إلى العباد، كما في الفاتحة لكونهم أهل سلوكه. وهو المنسوب لهم. وهم المارون عليه.
الموضع الثامن: من ذكر المنعم عليهم، وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى الأقسام الثلاثة. لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق، أو جاهلا به. والعالم بالحق
(1/14)
 
 
إما أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفا له. فهذه أقسام المكلفين. لا يخرجون عنها البتة. فالعالم بالحق العامل به: هو المنعم عليه. وهو الذي زكّى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح. وهو المفلح 91: 9 قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها والعالم به المتبع هواه هو. المغضوب عليه. والجاهل بالحق: هو الضال. والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل. والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل. فكل منهما ضال مغضوب عليه، ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به. ومن هاهنا كان اليهود أحقّ به. وهو متغلظ في حقهم. كقوله تعالى في حقهم 2: 90 بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ قال تعالى: 5: 60 قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ. والجاهل بالحق: أحق باسم الضلال. ومن هنا وصفت النصارى به في قوله تعالى: 5: 77 قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ فالأولى: في سياق الخطاب مع اليهود.
والثانية: في سياقه مع النصارى.
وفي الترمذي وصحيح ابن حبّان: من حديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اليهود مغضوب عليهم.
والنصارى ضالون» «1» .
ففي ذكر المنعم عليهم- وهم من عرف الحق واتبعه- والمغضوب عليهم- وهم من عرفه واتبع هواه- والضالين- وهم من جهله-: ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة. لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود. وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة. وأضاف النعمة إليه، وحذف فاعل الغضب لوجوه.
__________
(1)
أخرجه الترمذي برقم 2954 بلفظ: «واليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال» .
(1/15)
 
 
منها: أن النعمة هي الخير والفصل. والغضب من باب الانتقام والعدل. والرحمة تغلب الغضب، فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين، وأسبقهما وأقواهما. وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه.
وحذف الفاعل في مقابلتهما، كقول مؤمني الجن 72: 10 وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ومنه قوله الخضر في شأن الجدار واليتيمين 18: 82 فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما وقال في خرق السفينة 18: 79 فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها ثم قال بعد ذلك وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي وتأمل قوله تعالى: 2: 187 أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ وقوله: 5: 4 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وقوله: 4: 24 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ- ثم قال- وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ.
وفي تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم. وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر. فكل الخلق في نعمه. وهذا فصل النزاع في مسألة: هل لله على الكافر من نعمة أم لا؟.
فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان. ومطلق النعمة يكون للمؤمن والكافر، كما قال تعالى: 14: 34 وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.
والنعمة من جنس الإحسان، بل هي الإحسان. والرب تعالى إحسانه على البر والفاجر. والمؤمن والكافر. وأما الإحسان المطلق فللذين اتقوا والذين هم محسنون.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم: 16: 53 وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ فأضيف إليه ما هو منفرد به. وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقا ومجرى للنعمة. وأما الغضب على أعدائه فلا يختص به
(1/16)
 
 
تعالى، بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه يغضبون لغضبه. فكان في طلبة المغضوب عليهم» بموافقة أوليائه له: من الدلالة على تفرده بالإنعام، وأن النعمة المطلقة منه وحده، هو المنفرد بها- ما ليس في لفظه «المنعم عليهم» .
الوجه الثالث: أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره، وتصغير شأنه، ما ليس في ذكر فاعل النعمة، من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره، ورفع قدره: ما ليس في حذفه. فإذا رأيت من قد أكرمه ملك وشرفه، ورفع قدره، فقلت: هذا الذي أكرمه السلطان، وخلع عليه وأعطاه ما تمناه. كان أبلغ في الثناء والتعظيم من قولك: هذا الذي أكرم وخلع عليه وشرف وأعطي.
وتأمل سرا بديعا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره. فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح. وهي الهدى ودين الحق. ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء. فهذا تمام النعمة. ولفظ «أنعمت عليهم» يتضمن الأمرين. وذكر غضبه على المغضوب عليهم يتضمن أيضا أمرين: الجزاء بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان، والسبب الذي استحقوا به غضبه سبحانه. فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال. فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم. وذكر الضالين مستلزم لغضبه عليهم وعقابه لهم. فإن من ضل استحق العقوبة التي هي موجب ضلالة وغضب الله عليه.
فاستلزم وصف كل واحد من الطوائف الثلاث للسبب والجزاء أبين استلزام، واقتضاه أكمل اقتضاء، في غاية الإيجاز والبيان والفصاحة، مع ذكر الفاعل في أهل السعادة، وحذفه في أهل الغضب. وإسناد الفعل إلى السبب في أهل الضلال.
وتأمل المقابلة بين الهداية والنعمة، والغضب والضلال. فذكر
(1/17)
 
 
المغضوب عليهم والضالين في مقابلة المهتدين المنعم عليهم. وهذا كثير في القرآن: يقرن بين الضلال والشقاء، وبين الهدى والفلاح. فالثاني كقوله:
2: 5 أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقوله:
6: 82 أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ والأول كقوله تعالى: 54:
47 إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وقوله: 2: 7 خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وقد جمع سبحانه بين الأمور الأربعة في قوله: 20: 124 فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى فهذا الهدى والسعادة. ثم قال:
20: 125 مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى. قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى، وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ قالَ: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى
فذكر الضلال والشقاء.
فالهدى والسعادة متلازمان. والضلال والشقاء متلازمان.
 
فصل
وذكر الصراط المستقيم منفردا، معرفا تعريفين: تعريفا باللام، وتعريفا بالإضافة. وذلك يفيد تعيّنه واختصاصه، وأنه صراط واحد. وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها، كقوله: 6:
153 وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فوحّد لفظ الصراط وسبيله. وجمع السبل المخالفة له.
وقال ابن مسعود: «خطّ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطّا، وقال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره، وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «1» »
وهذا لأن
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم 2454 وقال: خطا مربعا، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 318.
(1/18)
 
 
الطريق الموصل إلى الله واحد. وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه. لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق. ولو أتى الناس من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد. فإنه متصل بالله، موصل إلى الله، قال الله تعالى:
15: 41 هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قال الحسن معناه: صراط إليّ مستقيم. وهذا يحتمل أمرين: أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض، فقامت أداة «على» مقام «إلى» والثاني: أنه أراد التفسير على المعنى. وهو الأشبه بطريق السلف. أي صراط موصل إلي وقال مجاهد «1» : الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا يعرّج على شيء.
وهذا مثل قول الحسن وأبين منه. وهو من أصح ما قيل في الآية. وقيل:
«على» فيه للوجوب، أي عليّ بيانه والدلالة عليه. والقولان نظير القولين في آية النحل. وهي: 16: 9 وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر: أن السبيل القاصد- وهو المستقيم المعتدل- يرجع إلى الله، ويوصل إليه قال طفيل الغنوي:
مضوا سلفا، قصد السبيل عليهم ... وصرف المنايا بالرجال تقلب
أي ممرنا عليهم، وإليهم وصولنا. وقال الآخر:
فهن المنايا: أيّ واد سلكته ... عليها طريقي، أو عليّ طريقها
فإن قيل: لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة «إلى» التي هي للانتهاء، لا أداة «على» التي هي للوجوب. ألا ترى أنه لما أراد الوصول
__________
(1) هو الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر الحبر المكي، قال حصيف: كان أعلمهم بالتفسير،
قال الأعمش: كنت إذا رأيت مجاهدا تراه مغموما، فقيل له في ذلك فقال:
أخذ عبد الله يعني ابن عباس بيدي ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي وقال لي: «يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»
مات مجاهد بمكة وهو ساجد سنة ثلاث ومائة وهو ابن ثلاث وثمانين سنة. (انظر شذرات الذهب) .
(1/19)
 
 
قال: 88: 25، 26 إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ وقال:
30: 23 إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ 6: 108 ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ وقال.
لما أراد الوجوب 88: 26 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ 75: 17 إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
6: 38 وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها ونظائر ذلك؟.
قيل: في أداة «على» سر لطيف. وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى. وهو حق. كما قال في حق المؤمنين: 2: 5 أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وقال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: 27: 79 فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ والله عز وجل هو الحق، وصراطه حق، ودينه حق. فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى. فكان في أداة «على» على هذا المعنى ما ليس في أداة «إلى» فتأمله، فإنه سريع بديع.
فإن قلت: فما الفائدة في ذكر «على» في ذلك أيضا. وكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق، وعلى الهدى؟.
قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى، مع ثباته عليه واستقامته إليه. فكان في الإتيان بأداة «على» ما يدل على علوه وثبوته واستقامته. وهذا بخلاف الضلال والرّيب. فإنه يؤتي فيه بأداة «في» الدالة على انغماس صاحبه، وانقماعه «1» وتدسسه فيه، كقوله تعالى: 9: 45 فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وقوله: 6: 39 وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ وقوله: 23: 25 فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ وقوله: 42: 14 إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ وتأمل قوله تعالى:
34: 24 وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فإن طريق الحق تأخذ
__________
(1) قمع: المقمعة بالكسر واحد المقامع من حديد كالحجن يضرب بها على رأس الفيل، وقمعه ضربه بها، وقمعه وأقمعه أي قهره وأذله فانقمع.
(1/20)
 
 
علوا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلا، هاوية بسالكها في أسفل سافلين.
وفي قوله تعالى: 15: 41 قالَ: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قول ثالث. وهو قول الكسائي: إنه على التهديد والوعيد نظير قوله: 89: 14 إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ كما يقال: طريقك علي، وممرك علي، لمن تريد إعلامه بأنه غير فائت لك، ولا معجز. والسياق يأبى هذا، ولا يناسبه لمن تأمله. فإنه قاله مجيبا لإبليس الذي قال: 15: 39 لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم، ولا طريق لي عليهم. فقرر الله عز وجل ذلك أتم التقرير. وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم. فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط، لأنه صراط علي. ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط، ولا الحوم حول ساحته، فإنه محروس محفوظ بالله. فلا يصل عدو الله إلى أهله.
فليتأمل العارف هذا الموضع حق التأمل، ولينظر إلى هذا المعنى ويوازن بينه وبين القولين الآخرين، أيهما أليق بالآيتين، وأقرب إلى مقصود القرآن وأقوال السلف.
وأما تشبيه الكسائي له بقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فلا يخفى الفرق بينهما سياقا ودلالة. فتأمله، ولا يقال في التهديد: هذا طريق مستقيم علي، لمن لا يسلكه. وليست سبيل المهدّد مستقيمة. فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله فلا يستقيم هذا القول البتة.
وأما من فسره بالوجوب، أي عليّ بيان استقامته والدلالة عليه. فالمعنى صحيح. لكن في كونه هو المراد بالآية نظر. لأنه حذف في غير موضع الدلالة. ولم يؤلف الحذف المذكور، ليكون مدلولا عليه إذا حذف. بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة. فإنه حذف مألوف معروف. حتى إنه لا يذكر
(1/21)
 
 
البتة. فإذا قلت: له درهم علي. كان الحذف معروفا مألوفا. فلو أردت عليّ نقده، أو عليّ وزنه وحفظه، ونحو ذلك، وحذفت. لم يسغ. وهو نظير:
عليّ بيانه. المقدر في الآية، مع أن الذي قاله السلف أليق بالسياق. وأجلّ المعنيين وأكبرهما.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رضي الله عنه يقول: وهما نظير قوله تعالى: 92: 12، 13 إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى قال: فهذه ثلاثة مواضع في القرآن في هذا المعنى.
قلت: وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلا معنى الوجوب، أي علينا بيان الهدى من الضلال. ومنهم من لم يذكر في سورة النحل إلا في هذا المعنى كالبغوي. وذكر في الحجر الأقوال الثلاثة.
وذكر الواحدي في بسيطة المعنيين في سورة النحل. واختار شيخنا قول مجاهد والحسن في السور الثلاث.
 
فصل
والصراط المستقيم، هو صراط الله. وهو يخبر أن الصراط عليه سبحانه، كما ذكرنا. ويخبر أنه سبحانه على الصراط المستقيم، وهذا في موضعين من القرآن: في هود والنحل، قال في هود: 11: 56 ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وقال في النحل:
16: 76 وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا: رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع. ولا تنطق ولا تعقل، وهي كلّ على عابدها يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده ويضعه ويقيمه ويخدمه. فكيف يسوونه في العبادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد. وهو قادر متكلم، غني. وهو على صراط مستقيم في
(1/22)
 
 
قوله وفعله. فقوله صدق ورشد ونصح وهدى. وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة. هذا أصح الأقوال في الآية. وهو الذي لم يذكر كثير من المفسرين غيره. ومن ذكر غير قدمه على الأقوال. ثم حكاها بعده، كما فعل البغوي. فإنه جزم به، وجعله تفسير الآية. ثم قال:
قال الكلبي: يدلكم على صراط مستقيم.
قلت: ودلالته لنا على الصراط هي من موجب كونه سبحانه على الصراط المستقيم. فإن دلالته بفعله وقوله، وهو على الصراط المستقيم في أفعاله وأقواله. فلا يناقض قول من قال: إنه سبحانه على الصراط المستقيم.
قال: وقيل: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر بالعدل. وهو على صراط مستقيم.
قلت: وهذا حق لا يناقض القول الأول. فالله على الصراط المستقيم، ورسوله عليه. فإنه لا يأمر ولا يفعل إلا مقتضاه وموجبه. وعلى هذا يكون المثل مضروبا لإمام الكفار وهاديهم، وهو الصنم الذي هو أبكم، لا يقدر على هدى ولا خير. وإمام الأبرار، وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي يأمر بالعدل. وهو على صراط مستقيم.
وعلى القول الأول: يكون مضروبا لمعبود الكفار ومعبود الأبرار.
والقولان متلازمان. فبعضهم ذكر هذا. وبعضهم ذكر هذا وكلاهما مراد من الآية. قال: وقيل: كلاهما للمؤمن والكافر. يرويه عطية عن ابن عباس.
وقال عطاء: الأبكم أبيّ بن خلف، ومن يأمر بالعدل: حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون «1» .
__________
(1) هو عثمان بن مظعون القرشي الجمحي، وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة بعد رجوه من بدر، وقبّله النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ميت وكان يزوره ودفن إلى جنبه ولده إبراهيم وكان
(1/23)
 
 
قلت: والآية تحتمله. ولا يناقض القولين قبله، فإن الله على صراط مستقيم، ورسوله وأتباع رسوله. وضد ذلك معبود الكفار وهاديهم، والكافر التابع والمتبوع والمعبود. فيكون بعض السلف ذكر أعلى الأنواع. وبعضهم ذكر الهادي. وبعضهم المستجيب القابل. وتكون الآية: متناولة لذلك كله. ولذلك نظائر كثيرة في القرآن.
وأما آية هود: فصريحة لا تحتمل إلا معنى واحدا. وهو أن الله سبحانه على صراط مستقيم. وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم- فإن أقواله كلها صدق ورشد وهدى وعدل وحكمة: 6: 115 وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا وأفعاله كلها مصالح وحكم، ورحمة وعدل وخير.
فالشر لا يدخل في أفعاله ولا أقواله البتة، لخروج الشر عن الصراط المستقيم. فكيف يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم أو أقواله؟
وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله.
وفي دعائه عليه الصلاة والسلام: «لبيك وسعديك، والخير كله بيديك والشر ليس إليك «1» »
ولا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله: والشر لا يتقرب به إليك، أو لا يصعد إليك. فإن المعنى أجل من ذلك، وأكبر وأعظم قدرا. فإن من أسماؤه كلها حسنى. وأوصافه كلها كمال، وأفعاله كلها حكم، وأقواله كلها صدق وعدل: يستحيل دخول الشر في أسمائه أو أوصافه، أو أفعاله أو أقواله. فطابق بين هذا المعنى وبين قوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وتأمل كيف ذكر هذا عقيب قوله: 11: 56
__________
ممن حرم الخمر على نفسه قبل تحريمها وكان عابدا مجتهدا، وسمع لبيد بن ربيعة ينشد:
«ألا كل شيء ما خلا الله باطل» فقال: صدقت، فلما قال: «وكل نعيم لا محالة زائل» قال: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، توفي في السنة الثانية للهجرة. (انظر شذرات الذهب) .
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك عن انس 2/ 363.
(1/24)
 
 
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ أي هو ربي، فلا يسلمني ولا يضيعني، وهو ربكم فلا يسلطكم عليّ ولا يمنعكم مني! فإن نواصيكم بيده، لا تفعلون شيئا بدون مشيئته. فإن ناصية كل دابة بيده، لا يمكنها أن تتحرك إلا بإذنه. فهو المتصرف فيها. ومع هذا في تصرفه فيها وتحريكه لها، ونفوذ قضائه وقدره فيها: على صراط مستقيم، لا يفعل ما يفعل من ذلك إلا بحكمة وعدل ومصلحة، ولو سلطكم علي فله من الحكمة في ذلك ما له الحمد عليه. لأنه تسليط من هو على صراط مستقيم. لا يظلم ولا يفعل شيئا عبثا بغير حكمة.
فهكذا تكون المعرفة بالله، لا معرفة القدرية المجوسية، والقدرية الجبرية، نفاة الحكم والمصالح والتعليل. والله الموفق سبحانه.
 
فصل
ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه، مريد لسلوك طريق مرافقه فيها غاية العزة. والنفوس مجبولة على وحشة التفرق، وعلى الأنس بالرفيق، نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم مع الذين أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ. وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له. وهم الذين أنعم الله عليهم، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه. وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم. فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له. فإنهم هم الأقلّون قدرا، وإن كانوا الأكثرين عددا، كما قال بعض السلف: عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين. وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين. وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم. وغض الطرف عمن سواهم. فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا. وإذا صاحوا بك في طريق سيرك، فلا تلتفت إليهم. فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك. وقد ضربت لك مثلين، فليكونا منك على بال.
(1/25)
 
 
المثل الأول: رجل خرج من بيته إلى الصلاة، لا يريد غيرها. فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس، فألقى عليه كلاما يؤذيه. فوقف ورد عليه، وتماسكا. فربما كان شيطان الإنس أقوى منه، فقهره، ومنعه عن الوصول إلى المسجد، حتى فاتته الصلاة. وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس، ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول، وكمال إدراك الجماعة. فإن التفت إليه أطمعه في نفسه. وربما فترت عزيمته. فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز «1» بقدر التفاته أو أكثر، فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده، وخاف فوت الصلاة أو الوقت: لم يبلغ عدوه منه ما شاء.
المثل الثاني: الظبي أشد سعيا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه، فيدركه الكلب فيأخذه.
والقصد: أن في ذكر هذا الرفيق: ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم.
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت
«اللهم اهدني فيمن هديت»
أي أدخلني في هذه الزمرة، واجعلني رفيقا لهم ومعهم.
والفائدة الثانية: أنه توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية أي قد أنعمت بالهداية على من هديت، وكان ذلك نعمة منك.
فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة، واجعلني واحدا من هؤلاء المنعم عليهم.
فهو توسل إلى الله بإحسانه.
والفائدة الثالثة: كما يقول السائل للكريم: تصدق عليّ في جملة من تصدقت عليهم، وعلمني في جملة من علمته. وأحسن إلي في جملة من شملته بإحسانك.
__________
(1) جمز الإنسان والبعير وغيره يجمز جمزا وجمزي وهو عدو دون الحضر وفوق العنيد، وبعير جماز وناقة جمازة. يقال: حمار جمّاز: وثاب، وجمزي: سريع.
(1/26)
 
 
فصل
ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجلّ المطالب ونيله أشرف المواهب: علّم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه، وتمجيده ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم. توسل إليه بأسمائه وصفاته. وتوسل إليه بعبوديته. وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء. ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه، والإمام أحمد والترمذي. أحدهما:
حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: «سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلا يدعو، ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
فقال: والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»
قال الترمذي: حديث صحيح «1» . فهذا توسل إلى الله بتوحيده، وشهادة الداعي له بالوحدانية. وثبوت صفاته المدلول عليها باسم «الصمد» وهو كما قال ابن عباس «العالم الذي كمل علمه، القادر الذي كلمت قدرته» وفي رواية عنه «هو السيد الذي قد كمل فيه جميع أنواع السؤدد» وقال أبو وائل: «هو السيد الذي انتهى سؤدده» وقال سعيد بن جبير «2» : «هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأعماله» وبنفي التمثيل والتشبيه عنه بقوله «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة والتوسل بالإيمان بذلك، والشهادة به هو الاسم الأعظم.
والثاني:
حديث أنس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع رجلا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنّان، بديع السموات
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم 3475.
(2) هو سعيد بن جبير الوالبي مولاهم الكوفي المقرئ المفسر الفقيه المحدث أحد الأعلام، قتله الحجاج سنة خمس وتسعين وله نحو من خمسين سنة. [.....]
(1/27)
 
 
والأرض، ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم» «1»
فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين، وهما التوسل بالحمد والثناء عليه، وتمجيده، والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده. ثم جاء سؤال أهم المطالب، وأنجح الرغائب، وهو الهداية، بعد الوسيلتين. فالداعي به حقيق بالإجابة.
ونظير هذا: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يدعو به إذا قام يصلّي من الليل.
رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس: «اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت. فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت» «2»
فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له. ثم سأله المغفرة.
 
فصل
في اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
التوحيد نوعان: نوع في العلم والإعتقاد. ونوع في الإرادة والقصد.
ويسمى الأول: التوحيد العلمي. والثاني: التوحيد القصدي الارادي.
لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة. والثاني بالقصد والإرادة. وهذا الثاني أيضا نوعان: توحيد في الربوبية، وتوحيد في الإلهية. فهذه ثلاثة أنواع.
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 504.
(2) أخرجه الترمذي برقم 3418.
(1/28)
 
 
فأما توحيد العلم: فمداره على إثبات صفات الكمال، وعلى نفي التشبيه والمثال. والتنزيه عن العيوب والنقائص. وقد دل على هذا شيئان:
مجمل، ومفصل.
أما المجمل: فإثبات الحمد له سبحانه. وأما المفصل: فذكر صفة الإلهية والربوبية، والرحمة والملك. وعلى هذا الأربع مدار الأسماء والصفات. فأما تضمن الحمد لذلك: فإن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله، ونعوت جلاله، مع محبته والرضا عنه والخضوع له، فلا يكون حامدا من جحد صفات المحمود، ولا من أعرض عن محبته والخضوع له. وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل، وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها. ولهذا كان الحمد كله لله حمدا لا يحصيه سواه، لكمال صفاته وكثرتها. ولأجل هذا لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه، لما له من صفات الكمال، ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه. ولهذا ذم الله تعالي آلهة الكفار، وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها. فعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر، ولا تتكلم ولا تهدى، ولا تنفع ولا تضر. وهذه صفة إله الجهمية، التي عاب بها الأصنام، نسبوها إليه، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. فقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجّته لأبيه: 19: 42 يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
فلو كان إله إبراهيم بهذه الصفة والمثابة لقال له آزر: وأنت إلهك بهذه المثابة، فكيف تنكر عليّ؟
لكن كان مع شركه أعرف بالله من الجهمية. وكذلك كفار قريش كانوا مع شركهم مقرين بصفات الصانع سبحانه وعلوه على خلقه، وقال تعالى:
7: 148 وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا؟ اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ فلو كان إله الخلق سبحانه كذلك لم يكن في هذا إنكار عليهم، واستدلال على بطلان الإلهية بذلك.
(1/29)
 
 
فإن قيل: فالله تعالى لا يكلم عباده.
قيل: بلى، قد كلمهم، فمنهم من كلمه الله من وراء حجاب، منه إليه بلا واسطة، كموسى. ومنهم من كلمه الله على لسان رسوله الملكي.
وهم الأنبياء. وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله. فأنزل عليهم كلامه الذي بلغته رسله عنه. وقالوا لهم: هذا كلام الله الذي تكلم به وأمرنا بتبليغه إليكم. ومن هاهنا قال السلف: من أنكر كون الله متكلما فقد أنكر رسالة الرسل كلهم. لأن حقيقتها تبليغ كلامه الذي تكلم به إلى عباده، فإذا انتفى كلامه انتفت الرسالة وقال تعالى في سورة طه عن السامري 20: 88 فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى، فَنَسِيَ. أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً؟ ورجع القول: هو التكلم والتكليم. قال تعالى: 16: 76 ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فجعل نفي صفات الكلام موجبا لبطلان الإلهية. وهذا أمر معقول بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية: أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلها، ولا مدبرا، ولا ربّا، بل هو مذموم معيب ناقص، ليس له الحمد لا في الأولى، ولا في الآخرة. وإنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفات الكمال، ونعوت الجلال، التي لأجلها استحق الحمد. ولهذا سمي السلف كتبهم التي صنفوها في السنة وإثبات صفات الرب وعلوه على خلقه، وكلامه وتكليمه: توحيدا. لأن نفي ذلك وإنكاره والكفر به إنكار للصانع، وجحد له، وإنما توحيده: إثبات صفات كماله، وتنزيهه عن الشبيه والنقائص.
فجعل المعطلة جحد الصفات وتعطيل الصانع عنها توحيدا، وجعلوا إثباتها لله تشبيها وتجسيما وتركيبا. فسموا الباطل باسم الحق، ترغيبا فيه، وزخرفا ينفقونه به. وسموا الحق باسم الباطل تنفيرا عنه، والناس أكثرهم مع ظاهر السّكّة، ليس لهم نقد النقاد: 18: 17 مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ
(1/30)
 
 
الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً
والمحمود لا يحمد على العدم والسكوت البتة، إلا إذا كانت سلب عيوب ونقائص تتضمن إثبات أضدادها من الكمالات الثبوتية، وإلا فالسلب المحض لا حمد فيه ولا كمال.
كمال.
وكذلك حمده لنفسه على عدم اتخاذ الولد المتضمن لكمال صمديته وغناه وملكه، وتعبد كل شيء له، فاتخاذ الولد ينافي ذلك، كما قال تعالى: 10: 68 قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، سُبْحانَهُ، هُوَ الْغَنِيُّ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
وحمد نفسه على عدم الشريك، المتضمن تفرده بالربوبية والإلهية، وتوحده بصفات الكمال التي لا يوصف بها غيره، فيكون شريكا له. فلو عدمها لكان كل موجود أكمل منه. لأن الموجود أكمل من المعدوم. ولهذا لا يحمد نفسه سبحانه بعدم إلا إذ كان متضمنا ثبوت كمال. كما حمد نفسه بكونه لا يموت لتضمنه كمال حياته، وحمد نفسه بكونه لا تأخذه سنة ولا نوم، لتضمن ذلك قيوميته وحمد نفسه بأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، لكمال علمه وإحاطته. وحمد نفسه بأنه لا يظلم أحدا، لكمال عدله وإحسانه.
وحمد نفسه بأنه لا تدركه الأبصار، لكمال عظمته، يرى ولا يدرك، كما أنه يعلم ولا يحاط به علما. وإلا فمجرد نفي الرؤية ليس بكمال. لأن العدم لا يرى، فليس في كون الشيء لا يرى كمال البتة. وإنما الكمال في كونه لا يحاط به رؤية ولا إدراكا، لعظمته في نفسه، وتعاليه عن إدراك المخلوق له. وكذلك حمد نفسه بعدم الغفلة والنسيان، لكمال علمه.
فكل سلب في القرآن حمد به نفسه فلمضادته لثبوت ضده، ولتضمنه كمال ثبوت ضده. فعلمت أن حقيقة الحمد تابعة لثبوت أوصاف الكمال، وأن نفيها نفي لحمده، ونفي الحمد مستلزم لثبوت ضده.
(1/31)
 
 
فصل
فهذا دلالة الحمد على توحيد الأسماء والصفات. وأما دلالة الأسماء الخمسة عليها، وهي: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والملك: فمبني على أصلين:
أحدهما: أن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله. فهي مشتقة من الصفات. فهي أسماء، وهي أوصاف. وبذلك كانت حسنى، إذ لو كانت ألفاظا لا معاني فيها لم تكن حسنى، ولا كانت دالة على مدح ولا كمال. ولساغ وقوع أسماء الانتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان، وبالعكس، فيقال: اللهم إني ظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت المنتقم.
واللهم أعطني، فإنك أنت الضار المانع، ونحو ذلك. ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها. قال تعالى: 7: 180 وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ، سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ولأنها لو لم تدل على معان وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها، لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها، وأثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله، كقوله تعالى:
51: 58 إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فعلم أن القويّ من أسمائه، ومعناه الموصوف بالقوة وكذلك قوله: 35: 10 فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً فالعزيز من له العزة، فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قويا ولا عزيزا. وكذلك قوله: 4: 166 أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ 11: 14 فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ 2: 255 وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»
فأثبت المصدر الذي اشتق منه اسمه «البصير»
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات»
وفي الصحيح
(1/32)
 
 
حديث الإستخارة: «اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك»
فهو قادر بقدرة. وقال تعالى لموسى: 7: 144 إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فهو متكلم بكلام. وهو العظيم الذي له العظمة، كما
في الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي»
وهو الحكيم الذي له الحكم 40: 12 فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ وأجمع المسلمون أنه لو حلف بحياة الله أو سمعه أو بصره أو قوته أو عزته أو عظمته انعقدت يمينه، وكانت مكفرة. لأن هذه صفات كماله التي اشتقت منها أسماؤه.
وأيضا لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها. فلا يقال: يسمع ويرى ويعلم ويقدر ويريد، فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها، فإذا انتفى أصل الصفة استحال ثبوت حكمها.
وأيضا فلو لم تكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام المحضة، التي لم توضع لمسماها معنى قام به. فكانت كلها سواء، ولم يكن فرق بين مدلولاتها. وهذا مكابرة صريحة، وبهت بيّن. فإن من جعل معنى اسم «القدير» هو معنى اسم «السميع، البصير» ومعنى اسم «التواب» هو معنى اسم «المنتقم» ومعنى اسم «المعطي» هو معنى اسم «المانع» فقد كابر العقل واللغة والفطرة.
فنفي معاني أسمائه من أعظم الإلحاد فيها. والإلحاد فيها أنواع، هذا أحدها.
الثاني: تسمية الأوثان بها كما يسمونها آلهة. وقال ابن عباس ومجاهد «عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه، فسموا بها أوثانهم، فزادوا ونقصوا. فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز ومناة من المنان» وروى عن ابن عباس يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ «يكذبون عليه» وهذا تفسير بالمعنى. وحقيقة الإلحاد فيها: العدول بها
(1/33)
 
 
عن الصواب فيها، وإدخال ما ليس من معانيها فيها، وإخراج حقائق معانيها عنها. هذا حقيقة الإلحاد. ومن فعل ذلك فقد كذب على الله. ففسر ابن عباس الإلحاد بالكذب، أو هو غاية الملحد في أسمائه تعالى، فإنه إذا أدخل في معانيها ما ليس منها، وخرج بها عن حقائقها أو بعضها، فقد عدل بها عن الصواب والحق، وهو حقيقة الإلحاد. فالإلحاد: إما بجحدها وإنكارها، وإما بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب، وإخراجها عن الحق بالتأويلات الباطلة، وإما بجعلها أسماء لهذه المخلوقات المصنوعات، كإلحاد أهل الاتحاد. فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون، محمودها ومذمومها، حتى قال زعيمهم «1» : وهو المسمى بكل اسم ممدوح عقلا وشرعا وعرفا، وبكل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا، تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا.
 
فصل
الأصل الثاني: أن الإسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة. فإنه يدل دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم. فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن، وكذلك على الذات المجردة عن الصفة. ويدل على الصفة الأخرى باللزوم. فإن اسم «السميع» يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة وعلى الذات وحدها، وعلى السمع وحده بالتضمن. ويدل على اسم الحي وصفة الحياة بالالتزام. وكذلك سائر أسمائه وصفاته. ولكن يتفاوت الناس في معرفة اللزوم وعدمه. ومن هاهنا يقع اختلافهم في كثير من الأسماء والصفات والأحكام. فإن من علم أن الفعل الاختياري لازم للحياة، وأن السمع والبصر لازم للحياة الكاملة، وأن سائر الكمال من لوازم الحياة الكاملة. أثبت من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ما
__________
(1) هو ابو سعيد الخراز.
(1/34)
 
 
ينكره من لم يعرف لزوم ذلك، ولا عرف حقيقة الحياة ولوازمها، وكذلك سائر صفاته. فإن اسم «العظيم» له لوازم ينكرها من لم يعرف عظمة الله ولوازمها. وكذلك اسم «العلي» واسم «الحكيم» وسائر أسمائه. فإن من لوازم اسم «العلي» العلو المطلق، بكل اعتبار. فله العلو المطلق من جميع الوجوه: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات. فمن جحد علو الذات فقد جحد لوازم اسمه «العلي» .
وكذلك اسمه «الظاهر» من لوازمه: ألا يكون فوقه شيء، كما
في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء»
بل هو سبحانه فوق كل شيء، فمن جحد فوقيته سبحانه فقد جحد لوازم اسمه «الظاهر» ولا يصح أن يكون الظاهر هو من له فوقية فقط، كما يقال: الذهب فوق الفضة، والجوهر فوق الزجاج. لأن هذه الفوقية لا تتعلق بالظهور، بل قد يكون المفوّق أظهر من الفائق فيها. ولا يصح أن يكون ظهور القهر والغلبة فقط، وإن كان سبحانه ظاهرا بالقهر والغلبة، لمقابلة الاسم ب «الباطن» . وهو الذي ليس دونه شيء، كما قابل «الأول» الذي ليس قبله شيء، ب «الآخر» الذي ليس بعده شيء.
وكذلك اسم «الحكيم» من لوازمه ثبوت الغايات المحمودة المقصودة له بأفعاله ووضعه الأشياء في مواضعها، وإيقاعها على أحسن الوجوه. فإنكار ذلك إنكار لهذا الإسم ولوازمه. وكذلك سائر أسمائه الحسنى.
 
فصل
إذا تقرر هذان الأصلان: فاسم «الله» دال على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العليا بالدلالات الثلاث، فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له، مع نفي أضدادها عنه. وصفات الإلهية: هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال، وعن العيوب والنقائص
(1/35)
 
 
ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم، كقوله تعالى: 7: 180 وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ويقال: الرحمن والرحيم، والقدوس والسلام، والعزيز والحكيم: من أسماء الله. ولا يقال: الله، من أسماء الرحمن ولا من أسماء العزيز، ونحو ذلك.
فعلم أن اسمه «الله» مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال. والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم «الله» واسم «الله» دال على كونه مألوها معبودا، تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا، وفزعا إليه في الحوائج والنوائب. وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك. والحمد وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله. إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ولا سميع ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله.
فصفات الجلال والجمال أخص باسم «الله» وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع، والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة وكمال القوة، وتدبير أمر الخليقة أخص باسم «الرب» .
وصفات الإحسان والجود والبر، والحنان والمنة والرأفة واللطف، أخص باسم «الرحمن» وكرر إيذانا بثبوت الوصف، وحصول أثره، وتعلقه بمتعلقاته.
فالرحمن: الذي الرحمة وصفه. والرحيم: الراحم لعباده. ولهذا يقول تعالى: 33: 43 وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً 9: 117 إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ولم يجيء رحمان بعباده، ولا رحمان بالمؤمنين، مع ما في اسم «الرحمن» الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف، وثبوت جميع معناه الموصوف به.
ألا ترى أنهم يقولون: غضبان: للممتلئ غضبا، وندمان وحيران
(1/36)
 
 
وسكران ولهفان لمن ملئ بذلك؟ فبناء فعلان للسعة والشمول. ولهذا يقرن استواؤه على العرش بهذا الإسم كثيرا كقوله تعالى: 20: 5 الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى 25: 59 ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فاستوى على عرشه باسم الرحمن، لأن العرش محيط بالمخلوقات، قد وسعها.
والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم، كما قال تعالى: 7: 156 وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات. فلذلك وسعت رحمته كل شيء.
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده موضوع على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي»
وفي لفظ «فهو وضع عنده على العرش» .
فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة، ووضعه عنده على العرش، وطابق بين ذلك وبين قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وقوله: 26: 156 ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم.
وصفات العدل، والقبض والبسط. والخفض والرفع. والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال، والقهر والحكم، ونحوها: أخص باسم «الملك» وخصه بيوم الدين، وهو الجزاء بالعدل، لتفرده بالحكم فيه وحده، ولأنه اليوم الحق، وما قبله كساعة. ولأنه الغاية، وأيام الدنيا مراحل إليه.
 
فصل
وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة. وهي: «الله، والرب، والرحمن» كيف نشأ عنها الخلق، والأمر، والثواب، والعقاب؟
(1/37)
 
 
وكيف جمعت الخلق وفرقتهم؟ فلها الجمع والفرق.
فاسم «الرب» له الجمع الجامع لجميع المخلوقات. فهو رب كل شيء وخلقه، والقادر عليه لا يخرج شيء عن ربوبيته. وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته، وتحت قهره. فاجتمعوا بصفة الربوبية، وافترقوا بصفة الإلهية، فألّهه وحده السعداء، وأقروا له طوعا بأنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا تنبغي الغبادة والتوكل، والرجاء والخوف، والحب والإنابة والإخبات والخشية، والتذلل والخضوع إلا له.
وهاهنا افترق الناس وصاروا فريقين: فريقا مشركين في السعير، وفريقا موحدين في الجنة.
فالإلهية هي التي فرقتهم، كما أن الربوبية هي التي جمعتهم فالدين والشرع، والأمر والنهي، مظهره وقيامه: من صفة الإلهية، والخلق والإيجاد والتدبير والفعل: من صفة الربوبية. والجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار: من صفة الملك. وهو ملك يوم الدين. فأمرهم بإلهيته، وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم بربوبيته. وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله. وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى.
وأما الرحمة فهي التعلق والسبب الذي بين الله وبين عباده. فالتأليه منهم له، والربوبية منه لهم. والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبها هداهم، وبها أسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم. فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة.
واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته، ف الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى مطابق لقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها، فوسع كل شيء برحمته وربوبيته، مع أن في كونه ربا
(1/38)
 
 
للعالمين ما يدل على علوه على خلقه، وكونه فوق كل شيء، كما يأتي بيانه إن شاء الله.
 
فصل
في ذكر هذه الأسماء بعد الحمد، وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها: ما يدل على أنه محمود في إلهيته، محمود في ربوبيته، محمود في رحمانيته، محمود في ملكه، وأنه إله محمود، رب محمود، ورحمان محمود، وملك محمود. فله بذلك جميع أقسام الكمال: كمال من هذا الإسم بمفرده، وكمال من الآخر بمفرده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر.
مثال ذلك: قوله تعالى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فالغنى صفة كمال. والحمد صفة كمال، واقتران غناه بحمده كمال أيضا، وعلمه كمال، وحكمته كمال، واقتران العلم بالحكمة كمال أيضا. وقدرته كمال. ومغفرته كمال، واقتران القدرة بالمغفرة كمال، وكذلك العفو بعد القدرة 4: 14 فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً واقتران العلم بالحلم 4: 11 وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
وحملة العرش أربعة: اثنان يقولان: «سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك» واثنان يقولان: «سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك» فما كل من قدر عفا، ولا كل من عفا يعفو عن قدرة، ولا كل من علم يكون حليما، ولا كل حليم عالم. فما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم. ومن عفو إلى قدرة، ومن ملك إلى حمد، ومن عزة إلى رحمة: 26: 9 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ومن هاهنا كان قول المسيح عليه السلام: 5: 121 إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أحسن من أن يقول: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم. أي إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن
(1/39)
 
 
عزة. وهي كمال القدرة، وعن حكمة، وهي كمال العلم. فمن غفر عن عجز وجهل بجرم الجاني [لا يكون قادرا حكيما عليما. فلا يكون ذلك إلا عجزا] فأنت لا تغفر إلا عن قدرة تامة وعلم تام وحكمة تضع بها الأشياء مواضعها فهذا. أحسن من ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع، الدال ذكره على التعريض بطلب المغفرة في غير حينها وقد فاتت. فإنه لو قال: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم. كان في هذا من الاستعطاف والتعريض بطلب المغفرة لمن لا يستحقها ما نزه عنه منصب المسيح عليه السلام، لا سيما والموقف موقف عظمة وجلال، وموقف انتقام ممن جعل لله ولدا، أو اتخذ إلها من دونه. فذكر العزة والحكمة فيه أليق من ذكر الرحمة والمغفرة.
وهذا بخلاف قول الخليل عليه السلام: 14: 35 و 36 وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ. فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولم يقل: فإنك عزيز حكيم. لأن المقام مقام استعطاف وتعريض بالدعاء، أي إن تغفر له وترحمه، بأن توفقه للرجوع من الشرك إلى التوحيد، ومن المعصية إلى الطاعة كما
في الحديث: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» .
وفي هذا أظهر الدلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف ومعان قامت به، وأن كل اسم يناسب ما ذكر معه، واقترن به، من فعله وأمره. والله الموفق للصواب.
 
فصل
في مراتب الهداية الخاصة والعامة وهي عشر مراتب المرتبة الأولى: مرتبة تكليم الله عز وجل لعبده يقظة بلا واسطة، بل منه إليه. وهذه أعلى مراتبها، كما كلم موسى بن عمران صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه. قال الله تعالى: 4: 164 وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً
(1/40)
 
 
فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من بعده، ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه كلمه. وهذا يدل على أن التكليم الذي حصل له أخص من مطلق الوحي الذي ذكر في أول الآية. ثم أكده بالمصدر الحقيقي الذي هو مصدر «كلم» وهو «تكليم» رفعا لما توهمه المعطلة والجهمية والمعتزلة وغيرهم من أنه إلهام، أو إشارة، أو تعريف للمعنى النفسي بشيء غير التكليم. فأكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم المجاز. قال الفراء: العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل. ولكن ما تحققه بالمصدر، فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام، كالإرادة يقال: فلان أراد إرادة، يريدون حقيقة إرادة. ويقال: أراد الجدار، ولا يقال: إرادة. لأنه مجاز غير حقيقة. هذا كلامه. وقال تعالى: 7: 143 وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ وهذا التكليم غير التكليم الأول الذي أرسله به إلى فرعون. وفي هذا التكليم الثاني سأل النظر، لا في الأول، وفيه أعطى الألواح. وكان عن مواعدة من الله له. والتكليم الأول لم يكن عن مواعدة. وفيه قال الله له: 7: 144 يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي أي بتكلمي لك بإجماع السلف.
وقد أخبر سبحانه في كتابه أنه ناداه وناجاه. فالنداء من بعد والنجاء من قرب. تقول العرب: إذا كبرت الحلقة فهو نداء أو نجاء وقال له أبوه آدم في محاجته «أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده» . وكذلك يقول له أهل الموقف إذا طلبوا منه الشفاعة إلى ربه. وكذلك في حديث الإسراء في رؤية موسى في السماء السادسة أو السابعة، على اختلاف الرواية. قال «وذلك بتفضيله بكلام الله» ولو كان التكليم الذي حصل له من جنس ما حصل لغيره من الأنبياء لم يكن هذا التخصيص به في هذه الأحاديث معنى. ولا كان يسمى «كليم الرحمن» وقال تعالى: 42:
51 وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، أَوْ يُرْسِلَ
(1/41)
 
 
رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ
ففرق بين تكليم الوحي، والتكليم بإرسال الرسول، والتكليم من وراء حجاب.
 
فصل
المرتبة الثانية: مرتبة الوحي المختص بالأنبياء. قال الله تعالى:
4: 163 إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وقال:
42: 51 وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ- الآية فجعل الوحي في هذه الآية قسما من أقسام التكليم وجعله في آية النساء قسيما للتكليم، وذلك باعتبارين: فإنه قسيم التكليم الخاص الذي بلا واسطة، وقسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة، والوحي في اللغة: هو الإعلام السريع الخفي، ويقال في فعله: وحى،
وأوحى- قال رؤية ... وحى لها فاستقرت
وهو أقسام، كما سنذكره.
فصل
المرتبة الثالثة: إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري. فيوحي إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه.
فهذه المراتب الثلاث خاصة بالأنبياء، لا تكون لغيرهم، ثم هذا الرسول الملكي قد يتمثل للرسول البشري رجلا، يراه عيانا ويخاطبه، وقد يراه على صورته التي خلق عليها، وقد يدخل فيه الملك، ويوحي إليه ما يوحيه، ثم يفصم عنه، أي يقلع. والثلاثة حصلت لنبينا صلّى الله عليه وسلّم.
فصل
المرتبة الرابعة: مرتبة التحديث. وهذه دون مرتبة الوحي الخاص، وتكون دون مرتبة الصديقين، كما كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه كان في الأمم قبلكم محدّثون، فإن يكن في هذه
(1/42)
 
 
الأمة فعمر بن الخطاب» .
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله يقول: جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا، وعلق وجودهم في هذه الأمة بإن الشرطية، مع أنها أفضل الأمم لاحتياج الأمم قبلنا إليهم، واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته، فلم يحوج الله الأمة بعده إلى محدث ولا ملهم، ولا صاحب كشف ولا منام فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها لا لنقصها.
والمحدّث هو الذي يحدّث في سره وقلبه بالشيء، فيكون كما يحدث به.
قال شيخنا: والصديق أكمل من المحدث. لأنه استغنى بكمال صديقيته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف، فإنه قد سلم قلبه كله وسره وظاهره وباطنه للرسول فاستغنى به عما منه.
قال: وكان هذا المحدث يعرض ما يحدث به على ما جاء به الرسول.
فإن وافقه قبله، وإلا رده، فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث.
قال: وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات: حدثني قلبي عن ربي: فصحيح أن قلبه حدثه، ولكن عن من؟ عن شيطانه، أو عن ربه؟ فإذا قال: حدثني قلبي عن ربي كان مسندا الحديث إلى من لم يعلم أنه حدثه به، وذلك كذب، قال: ومحدث الأمة لم يكن يقول ذلك، ولا تفوّه به يوما من الدهر، وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك. بل كتب كاتبه يوما «هذا ما أرى الله أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب. فقال: لا. امحه واكتب: هذا ما رأى عمر بن الخطاب. فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر، والله ورسوله منه بريء» وقال في الكلالة «أقول فيها برأيي.
فإن يكن صوابا فمن الله. وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان» فهذا قول المحدث بشهادة الرسول وأنت ترى الاتحادي والحلولي والإباحي الشطاح، والسماعي: مجاهر بالقحة والفرية. يقول: حدثني قلبي عن ربي، فانظر إلى ما
(1/43)
 
 
بين القائلين والمرتبتين والقولين والحالين. وأعط كل ذي حق حقه، ولا تجعل الزغل والخالص شيئا واحدا.
 
فصل
المرتبة الخامسة: مرتبة الإفهام. قال الله تعالى: 21: 78، 79 وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ، إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ، وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً فذكر هذين النبيين الكريمين: فأثنى عليهما بالعلم والحكم. وخص سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعينة،
وقال علي بن أبي طالب، وقد سئل: «هل خصكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء دون الناس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النّسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه، وما في هذه الصحيفة. وكان فيها العقل، وهو الديات وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر»
وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري «1» رضي الله عنهما: «والفهم فيما أدلى إليك» فالفهم نعمة من الله على عبده، ونور يقذفه الله في قلبه.
يعرف به، ويدرك ما لا يدركه غيره ولا يعرفه، فيفهم من النص ما لا يفهمه غيره، مع استوائهما في حفظه. وفهم أصل معناه.
فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية، ومنشور الولاية النبوية، وفيه تفاوتت مراتب العلماء، حتى عدّ ألف بواحد، فانظر إلى فهم ابن عباس وقد
__________
(1) هو ابو موسى الأشعري اليمني المقرئ الأمير نسب إلى الأشعر أخي حميد بن سبأ وكان من أهل السابقة والسبق في الإسلام وهاجر من بلده زبيد في نحو إثنين وخمسين رجلا ورجع فركب البحر فألقتهم الريح إلى النجاشي فوقف مع جعفر وأصحابه حتى قدم معهم في سفينته وجعفر وأصحابه في سفينة، وأسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسفينتهم ولمن جاء معهم ولم يسهم لمن غاب غيرهم واستعمله النبي صلّى الله عليه وسلّم على عدن واستعمله عمر على الكوفة والبصرة وفتحت على يده عدة أمصار، توفي سنة أربع وأربعين للهجرة (انظر شذرات الذهب) .
(1/44)
 
 
سأله عمر: ومن حضر من أهل بدر وغيرهم عن سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وما خص به ابن عباس من فهمه منها: أنها نعي الله سبحانه نبيه إلى نفسه، وإعلامه بحضور أجله، وموافقة عمر له على ذلك، وخفائه عن غيرهما من الصحابة وابن عباس إذ ذاك أحدثهم سنا، وأين تجد هذه السورة الإعلام بأجله، لولا الفهم الخاص؟ ويدق هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس، فيحتاج مع النص إلى غيره. ولا يقع الاستغناء بالنصوص في حقه، وأما في حق صاحب الفهم فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها.
 
فصل
المرتبة السادسة: مرتبة البيان العام. وهو تبيين الحق وتمييزه من الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه. بحيث يصير مشهودا للقلب، كشهود العين للمرئيات وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه، التي لا يعذب أحدا ولا يضله، إلا بعد وصوله إليها. قال الله تعالى 9: 115 وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ فهذا الإضلال عقوبة منه لهم، حين بين لهم فلم يقبلوا ما بينه لهم ولم يعملوا. فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى، وما أضل الله سبحانه أحدا قط إلا من بعد هذا البيان.
وإذا عرفت هذا عرفت سر القدر، وزالت عنك شكوك كثيرة وشبهات في هذا الباب وعلمت حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده، والقرآن يصرح بهذا في غير موضع، كقوله: 61: 5 فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ 4: 155 وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فالأول: كفر عناد، والثاني: كفر طبع، وقوله: 6: 110 وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه وتحققوه. بأن قلّب
(1/45)
 
 
أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا به.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه موضع عظيم. قال تعالى:
41: 17 وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فهذا هدى بعد البيان والدلالة وهو شرط لا موجب. فإنه إن لم يقترن به هدى آخر بعده، لم يحصل به كمال الاهتداء وهو هدى التوفيق والإلهام وهذا البيان نوعان: بيان بالآيات المسموعة المتلوة، وبيان بالآيات المشهودة المرئية. وكلاهما أدلة وآيات على توحيد الله وأسمائه وصفاته وكماله، وصدق ما أخبرت به عنه، ولهذا يدعو عباده بآياته المتلوة إلى التفكر في آياته المشهودة عليهم، ويحضهم على التفكر في هذه وهذه.
وهذا البيان هو الذي بعثت به الرسل وجعل إليهم وإلى العلماء بعدهم، وبعد ذلك يضل الله من يشاء. قال الله تعالى: 14: 4 وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالرسل تبين والله هو الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء بعزته وحكمته.
 
فصل
المرتبة السابعة: البيان الخاص، وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة، وهو بيان تقارنه العناية والتوفيق والاجتباء، وقطع أسباب الخذلان وموادها عن القلب فلا تتخلف عنه الهداية البتة. قال تعالى في هذه المرتبة: 16: 37 إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وقال: 28: 56 إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فالبيان الأول شرط. وهذا موجب.
فصل
المرتبة الثامنة: مرتبة الإسماع. قال الله تعالى: 8: 23 وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ
(1/46)
 
 
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ
قال تعالى:
35: 22 وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ فإن ذلك حاصل لهم، وبه قامت الحجة عليهم، لكن ذاك إسماع الآذان، وهذا إسماع القلوب. فإن الكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الأذن والقلب وتعلق بهما. فسماع لفظه حظ الأذن، وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب. فإنه سبحانه نفى عن الكفار سماع المقصود والمراد الذي هو حظ القلب. وأثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن في قوله 21:
2: 3 ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه، أو تمكنه منها، وأما مقصود السماع وثمرته، والمطلوب منه: فلا يحصل مع لهو القلب وغفلته وإعراضه، بل يخرج السامع قائلا للحاضر معه: 47: 16ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ.
والفرق بين هذه المرتبة ومرتبة الإفهام: أن هذه المرتبة إنما تحصل بواسطة الأذن. ومرتبة الإفهام أعم، فهي أخص من مرتبة الفهم من هذا الوجه، ومرتبة الفهم أخص من وجه آخر، وهي أنها تتعلق بالمعنى المراد ولوازمه متعلقاته وإشاراته، ومرتبة السماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب. ويترتب على هذا السماع سماع القبول.
فهو إذن ثلاث مراتب: سماع الأذن، وسماع القلب، وسماع القبول والإجابة.
 
فصل
المرتبة التاسعة: مرتبة الإلهام. قال تعالى: 91: 7، 8 وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لحصين بن الخزاعي
(1/47)
 
 
لمّا أسلم «قل: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي» .
«1»
وقد جعل صاحب المنازل والإلهام هو مقام المحدثين. قال: وهو فوق مقام الفراسة لأن الفراسة ربما وقعت نادرة. واستصعبت على صاحبها وقتا أو استعصت عليه، والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد.
قلت: التحديث أخص من الإلهام: فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم فكل مؤمن فقد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان، فأما التحديث:
فالنبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيه: «إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر»
يعني من المحدثين. فالتحديث إلهام خاص. وهو الوحي إلى غير الأنبياء إما من المكلفين، كقوله تعالى: 28: 7 وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وقوله: 5: 111 وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي وإما من غير المكلفين كقوله تعالى: 16: 69 وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ فهذا كله وحي إلهام.
وأما جعله فوق مقام الفراسة فقد احتج عليه بأن الفراسة: ربما وقعت نادرة كما تقدم. والنادر لا حكم له وربما استعصت على صاحبها واستصعبت عليه فلم تطاوعه، والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد، يعني في مقام القرب والحضور.
والتحقيق في هذا: أن كل واحد من الفراسة والإلهام ينقسم إلى عام وخاص كل واحد منهما فوق عام الآخر، وعام كل واحد قد يقع كثيرا، وخاصة قد يقع نادرا، ولكن الفرق الصحيح: أن الفراسة قد تتعلق بنوع كسب وتحصيل، وأما الإلهام فموهبة مجردة، لا تنال بكسب البتة.
[ثم ذكر فصولا أربعة تكلم فيها عن درجات الإلهام الثلاثة. ثم قال] .
__________
(1) أخرجه البخاري باب التاريخ عن أبي هريرة 4/ 1/ 2 بلفظ: رؤيا الرجل الصالح ...
(1/48)
 
 
فصل
المرتبة العاشرة: من مراتب الهداية. الرؤيا الصادقة: وهي من أجزاء النبوة كما
ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» .
وقد قيل في سبب هذا سبب التخصيص المذكور: إن أول أول مبتدأ الوحي كان هو الرؤيا الصادقة، وذلك نصف سنة. ثم انتقل إلى وحي اليقظة مدة ثلاث وعشرين سنة، من حين بعث إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه، فنسبة مدة الوحي في المنام من ذلك جزء من ستة وأربعين جزءا.
وهذا حسن لولا ما جاء
في الرواية الأخرى الصحيحة «أنها جزء من سبعين جزءا» .
[ثم ذكر كلاما في الرؤيا، ثم قال] .
فصل
في بيان اشتمال الفاتحة على الشفاءين:
شفاء القلوب، وشفاء الأبدان فأما اشتمالها على شفاء القلوب: فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال. فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم. وفساد القصد.
ويترتب عليها داءان قاتلان، وهما الضلال والغضب، فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب ينتجه فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها، فهداية الصراط المستقيم: تتضمن الشفاء من مرض الضلال، ولذلك كان سؤال هذه الهداية: أفرض دعاء على كل عبد،
(1/49)
 
 
وأوجبه عليه كل يوم وليلة. في كل صلاة، لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة، ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه.
والتحقق ب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ علما ومعرفة وعملا وحالا:
يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد، فإن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل. فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية، وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسدا، وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبة غير الله وعبوديته، من المشركين ومتبعي الشهوات، الذين لا غاية لهم وراءها، وأصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رئاستهم بأي طريق كان من حق أو باطل. فإذا جاء الحق معارضا في طريق رئاستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم. فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل. فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق، وحادوا عنه إلى طريق أخرى، وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان، فإذا لم يجدوا منه بدا أعطوه السكة والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ، وإن جاء الحق ناصرا لهم وكان لهم صالوا وجالوا، وأتوا إليه مذعنين، لا لأنه حق، بل لموافقته غرضهم وأهواءهم وانتصارهم به: 24: 48: 49: 50 وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، أَمِ ارْتابُوا؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
والمقصود: أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم، وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها، واضمحلت وفنيت حصلوا على أعظم الخسران والحسرات. وهم أعظم الناس ندامة وتحسرا، إذا حق الحق وبطل الباطل، وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم، وتيقنوا انقطاعهم عن ركب الفلاح والسعادة. وهذا يظهر كثيرا في الدنيا، ويظهر أقوى من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على الله، ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ، وينكشف كل الانكشاف يوم اللقاء، إذا حققت الحقائق. وفاز المحقون وخسر المبطلون، وعلموا
(1/50)
 
 
أنهم كانوا كاذبين، وكانوا مخدوعين مغروين، فيا له هناك من علم لا ينفع عالمه، ويقين لا ينجى مستيقنه.
وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى، ولمن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له وإليه، بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه، وهي من أعظم القواطع عنه. فحاله أيضا كحال هذا، وكلاهما فاسد القصد، ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .
فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء:
[1] عبودية الله لا غيره.
[2] بأمره وشرعه.
[3] لا بالهوى.
[4] ولا بآراء الرجال وأوضاعهم، ورسومهم، وأفكارهم.
[5] بالاستعانة على عبوديته به.
[6] لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره.
فهذه هي أجزاء إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإذا ركبها الطبيب اللطيف، العالم بالمرض، واستعملها المريض، حصل بها الشفاء التام، وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو إثنين أو أكثر.
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما تراميا به إلى التلف ولا بد: وهما الرياء، والكبر، فدواء الرياء ب إِيَّاكَ نَعْبُدُ ودواء الكبر ب إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه- يقول إِيَّاكَ نَعْبُدُ تدفع الرياء وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ تدفع الكبرياء.
فإذا عوفي من مرض الرياء ب إِيَّاكَ نَعْبُدُ ومن مرض الكبر والعجب
(1/51)
 
 
ب إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ومن مرض الضلال والجهل ب اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل «1» في أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، وهم أهل فساد القصد، الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه، والضالين. وهم أهل فساد العلم، الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
وحق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين أن يستشفى بها من كل مرض، ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين، كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى، كما سنبينه. فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت الله وكلامه، وفهمت عنه فهما خاصا، اختصها به، من معاني هذه السورة.
وسنبين إن شاء الله تعالى تضمنها للرد على جميع أهل البدع بأوضح البيان وأحسن الطرق.
[ثم ذكر فصلين في الرقية بالفاتحة وتأثيرها مستشهدا بحديث أبي سعيد وببعض تحليلات نفسية، وبتجاربه. ثم قال] .
فصل
في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين عن أهل الملل والنحل، والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة.
وهذا يعلم بطريقين، مجمل ومفصل:
أما المجمل: فهو أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق،
__________
(1) رفل في ثيابه أطالها وجرها متبخترا من باب نصر.
(1/52)
 
 
وإيثاره، وتقديمه على غيره، ومحبته والانقياد له، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه بحسب الإمكان.
والحق: هو ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وفي حقائق الإيمان، التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى.
وكل ذلك مسلم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم، فكل علم أو عمل أو حقيقة، أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته، وعليه السكة المحمدية، بحيث يكون من ضرب المدينة، فهو من الصراط المستقيم، وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال فما ثمّ خروج عن هذه الطرق الثلاث: طريق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به، وطريق أهل الغضب، وهي طريق من عرف الحق وعانده، وطريق أهل الضلال، وهي طريق من أضله الله عنه. ولهذا قال عبد الله بن عباس وجابر ابن عبد الله رضي الله عنهم: «الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ: هو الإسلام» وقال عبد الله بن مسعود
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: «هو القرآن»
وفيه حديث مرفوع في الترمذي وغيره، وقال سهل بن عبد الله: «طريق السنة والجماعة» . وقال بكر بن عبد الله المزني «1» : «طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
ولا ريب أنه ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه علما وعملا وهو معرفة الحق وتقديمه، وإيثاره على غيره. فهو الصراط المستقيم.
وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له.
بهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ما خالفه فباطل، وهو من صراط الأمتين: الأمة الغضبية، وأمة أهل الضلال.
__________
(1) هو أبو عبد الله بكر بن عبد الله المربي البصري الفقيه روي عن المغيرة بن شعبة وجماعة توفي سنة ست أو ثمان ومائة للهجرة.
(1/53)
 
 
فصل
وأما المفصل: فمعرفة المذاهب الباطلة، واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها. فنقول:
الناس قسمان: مقر بالحق تعالى، وجاحد له، فتضمنت الفاتحة إثبات الخالق تعالى والرد على من جحده بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين وتأمل حال العالم كله علويه وسفليه بجميع أجزائه تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه، فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده، لا فرق بينهما، بل دلالة الخالق على المخلوق، والفعال على الفعل، والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزاكية المشرقة العلوية، والفطر الصحيحة: أظهر من العكس.
فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه، إذا استدل الناس بصنعه وأفعاله عليه، ولا ريب أنهما طريقان صحيحان، كل منهما حق والقرآن مشتمل عليهما.
فأما الاستدلال بالصنعة فكثير، وأما الاستدلال بالصانع فله شأن. وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم: 14: 10 أَفِي اللَّهِ شَكٌّ؟ أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية- قدس الله روحه- يقول:
كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى الدليل
ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار،
(1/54)
 
 
ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما.
وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد: القائلين بوحدة الوجود، وأنه ما ثم وجود قديم خالق ووجود حادث مخلوق، بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله، وهو حقيقة وجود هذا العالم، فليس عند القوم رب وعبد، ولا مالك ومملوك، ولا راحم ومرحوم، ولا عابد ومعبود، ولا مستعين ومستعان به، ولا هاد ولا مهدي ولا منعم ولا منعم عليه، ولا غضبان ومغضوب عليه، بل الرب هو نفس العبد وحقيقته، والمالك هو عين المملوك، والراحم هو عين المرحوم، والعابد هو نفس المعبود. وإنما التغاير أمر اعتباري بحسب مظاهر الذات وتجلياتها. فتظهر تارة في صورة معبود، كما ظهرت في صورة فرعون، وفي صورة عبد، كما ظهرت في صورة العبيد، وفي صورة هاد، كما في صورة الأنبياء والرسل والعلماء، والكل من عين واحد، بل هو العين الواحدة، فحقيقة العابد ووجوده، أو إنّيته هي حقيقة المعبود ووجوده وإنيته والفاتحة من أولها إلى آخرها تبين بطلان قول هؤلاء الملاحدة وضلالهم..
 
فصل
والمقرّون بالرب سبحانه وتعالى: أنه صانع العالم نوعان:
نوع ينفي مباينته لخلقه، ويقولون: لا مباين ولا محايث، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن يساره، ولا خلفه ولا أمامه، ولا فيه ولا بائن عنه.
فتضمنت الفاتحة للرد على هؤلاء من وجهين:
أحدهما