اختلَفَ أهلُ العِلمِ في ساعة الإجابةِ يومَ الجُمُعة، على أقوالٍ، أقواها قولانِ قال ابن باز: (أرجى الساعات للإجابة، وهو ما بين أن يجلسَ الإمام على المنبر إلى أن تقومَ الصلاة، وما بين صلاة العصرِ إلى غُروبِ الشَّمس) ((فتاوى نور على الدرب)) (13/240- 241). وقال ابنُ عثيمين: ( اختلف العلماء في هذه الساعة على أقوال كثيرة، وأرجاها ساعتان: الساعة الأولى: إذا خرَج الإمامُ لصلاة الجُمُعة،... والساعة الثانية التي تُرجَى فيها إجابة الدعاء: ما بعد صلاة العصر إلى أن تغرُبَ الشمس) ((الموقع الرسمي للشيخ محمد بن صالح العثيمين)). : القول الأوّل: أنَّها من جلوسِ الإمامِ إلى انقضاءِ الصَّلاة، واختارَه ابنُ العربيِّ قال ابنُ العربي: (على أنَّ مسلمًا قد كشف الغطاءَ عن هذا الخفاء، فقال عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّه "سُئل عن الساعة التي في يوم الجمعة، فقال: هي من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة". وهذا نصٌّ جلي، والحمد لله. وفي سنن أبي داود عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نصٌّ في أنها بعد العصر، ولا يصحُّ) ((أحكام القرآن)) (3/174). ، والبَيهقيُّ قال ابنُ حجر: (وبذلك قال البيهقيُّ) ((فتح الباري)) (2/421). ، والقرطبيُّ قال أبو العباسِ القرطبيُّ- بعد أنْ ذكَر الخلاف في وقتها-: (وحديثُ أبي موسى نصٌّ في موضع الخلاف، فلا يُلتفتْ إلى غيره) ((المفهم)) (2/493-494). ، والنوويُّ قال النوويُّ: (الصَّواب ما بين جلوس الإمامِ على المنبر إلى فراغِه من صلاة الجمعة، حكاه عياضٌ وآخرون) ((المجموع)) (4/549). ، وابنُ رجب قال ابن رجب: (هذا القول- أعني: أنَّها بعد زوال الشَّمس إلى انقضاء الصلاة، أو أنَّها ما بين أن تُقامَ الصلاة إلى أن يُفرغ منها- أشبهُ بظاهر قول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يُوافقها عبدٌ مسلم قائمٌ يُصلِّي يسأل اللهَ فيها شيئًا، إلَّا أعطاه إياه))؛ فإنَّه إنْ أريد به صلاة الجمعة كانت من حين إقامتها إلى الفراغ منها، وإنْ أريد به صلاة التطوُّع كانت من زوال الشمس إلى خروج الإمام؛ فإنَّ هذا وقت صلاة تطوُّع، وإنْ أريد بها أعم من ذلك- وهو الأظهر- دخل فيه صلاةُ التطوُّع بعدَ زوال الشمس وصلاةُ الجمعة إلى انقضائها) ((فتح الباري)) (5/520، 521). ، وابنُ عابدين قال ابنُ عابدين: (ثبَت في الصَّحيحين وغيرهما عنه: «فيه ساعة لا يُوافقها عبدٌ مسلم وهو قائمٌ يُصلِّي يسألُ اللهَ تعالى شيئًا إلَّا أعطاه إيَّاه»، وفي هذه الساعة أقوال، أصحُّها أو مِن أصحِّها: أنَّها فيما بين أن يجلسَ الإمام على المنبر إلى أن يَقضي الصلاة، كما هو ثابت في صحيح مسلم) ((حاشية ابن عابدين)) (2/164). . الدَّليلُ مِنَ السُّنَّة:عن أبي بُردَةَ بنِ أبي موسى، أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال له: أسمعتَ أباك يُحدِّثُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شأنِ ساعةِ الجُمُعة شيئًا؟ قال: نعَمْ، سمعتُه يقولُ: سمعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((هي ما بَينَ أن يجلِسَ الإمامُ إلى أنْ تُقضَى الصَّلاةُ)) رواه مسلم (853). .القول الثاني: أنَّها بعدَ العصرِ، وبه قال أكثرُ السَّلفِ قال ابنُ القيِّم: (كان سعيدُ بن جُبَير، إذا صلَّى العصر، لم يُكلِّم أحدًا حتى تغرُب الشمس، وهذا هو قولُ أكثرِ السلف، وعليه أكثرُ الأحاديث. ويليه القول: بأنَّها ساعةُ الصلاة، وبقيَّة الأقوال لا دليلَ عليها) ((زاد المعاد)) (1/394). وقال ابنُ رجب: (وقال عبدُ الله بنُ سَلَامٍ: النَّهار اثنا عشرةَ ساعةً، والساعة التي تُذكر من يوم الجمعة آخِرُ ساعات النهار) ((فتح الباري)) (5/506). وقال ابنُ القيِّم: (وهو قولُ عبد الله بن سلَام، وأبي هُرَيرة) ((زاد المعاد)) (1/389، 390) ، واختاره أحمدُ، وإسحاقُ، وابنُ عبد البَرِّ وكثيرٌ من الأئمَّة قال ابنُ حجر: (حكى الترمذيُّ عن أحمدَ أنَّه قال: أكثرُ الأحاديث على ذلك. وقال ابنُ عبد البر: إنَّه أثبتُ شيءٍ في هذا الباب. ورَوى سعيدُ بن منصور بإسنادٍ صحيحٍ إلى أبي سَلمةَ بن عبدِ الرحمن أنَّ ناسًا من الصحابة اجتمعوا فتَذاكروا ساعةَ الجمعة، ثم افترقوا، فلم يختلفوا أنَّها آخِر ساعةٍ من يومِ الجمعة. ورجَّحه كثيرٌ من الأئمَّة أيضًا، كأحمدَ وإسحاقَ، ومن المالكيَّة الطرطوشيُّ، وحكى العلائيُّ أنَّ شيخه ابنَ الزملكاني شَيخ الشافعيَّة في وقته كان يختاره ويَحكيه عن نصِّ الشافعي) ((فتح الباري)) (2/421- 422). ويُنظر: (كشاف القناع)) للبهوتي (2/44). ، ورجَّحه ابنُ القيِّم قال ابنُ القيِّم: (أرجح هذه الأقوال: قولان تَضمَّنتهما الأحاديث الثابتة، وأحدهما أرجحُ من الآخر؛ الأول: أنَّها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة... والقول الثاني: أنَّها بعد العصر، وهذا أرجحُ القولين، وهو قولُ عبد الله بن سَلَام، وأبي هريرة، والإمام أحمد، وخَلْق) ((زاد المعاد)) (1/389، 390). وقال أيضًا: (وعندي أنَّ ساعةَ الصَّلاةِ ساعةٌ تُرجى فيها الإجابة أيضًا؛ فكلاهما ساعةُ إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخِر ساعة بعدَ العصر؛ فهي ساعة معيَّنة من اليوم لا تتقدَّم ولا تتأخَّر، وأمَّا ساعة الصلاة، فتابعةٌ للصلاة تقدَّمت أو تأخَّرت؛ لأنَّ لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرُّعهم وابتهالهم إلى الله تعالى تأثيرًا في الإجابة، فساعة اجتماعهم ساعةٌ تُرجى في الإجابة، وعلى هذا تتَّفق الأحاديث كلها، ويكون النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد حضَّ أمَّته على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في هاتين الساعتين) ((زاد المعاد)) (1/394). ، والحجاويُّ قال الحجاوي: (ويُكثر الدعاء في يومها رجاءَ إصابة ساعة الإجابة، وأرجاها آخِر ساعةٍ من النهار) ((الإقناع)) (1/197). .الأدلَّة:أولًا: من السُّنَّة1- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يومُ الجُمُعةِ اثنا عَشرَ ساعةً، فيها ساعةٌ لا يُوجَدُ مسلمٌ يسألُ اللهَ فيها شيئًا إلَّا أعْطاه؛ فالْتَمِسوها آخِرَ ساعةٍ بعدَ العصرِ)) رواه أبو داود (1048)، والنسائي (3/99)، والحاكم في ((المستدرك)) (1032) صحَّح إسناده على شرْط مسلم المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/339)، وصحَّح إسنادَه النوويُّ في ((المجموع)) (4/541)، وقال ابنُ رجب في ((فتح الباري)) (5/356): إسناده كلهم ثقات. وصحَّحه العراقي في ((طرح التثريب)) (3/208)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1048)، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (251). .2- عن عبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قلتُ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالسٌ: إنَّا لنَجِدُ في كتاب الله (يعني التوراة) في يومِ الجُمُعة ساعةٌ لا يُوافِقُها عبدٌ مؤمنٌ يُصلِّي، يَسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ شيئًا إلَّا قَضَى اللهُ له حاجتَه؟ قال عبدُ اللهِ: فأشارَ إليَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو بعضَ ساعةٍ. قلت: صدقتَ يا رسولَ الله، أو بعضَ ساعةٍ. قلتُ: أيُّ ساعةٍ هي؟ قال: هي آخِرُ ساعةٍ من ساعاتِ النَّهارِ، قلت: إنَّها ليستْ ساعةَ صلاةٍ، قال: بلى! إنَّ العبدَ المؤمنَ إذا صلَّى، ثم جلَس لا يُجلِسُه إلَّا الصَّلاةُ، فهو في صلاةٍ)) رواه ابن ماجه (1139)، وأحمد (5/451) (23832)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (13/ 168) (405) قال المنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (1/339): إسنادُه على شرْط الصحيح. وصحَّحه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/434) وقال: وجاء من وجهٍ آخَرَ أصرحَ منه في الرفع. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (941): حسنٌ صحيح. وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (575) وقال: رجاله رجالُ الصحيح. .3- عن أبي سَلمةَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خيرُ يومٍ طلَعَتْ فيه الشمسُ يومُ الجُمُعة، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه أُهبِطَ، وفيه تِيبَ عليه، وفيه ماتَ، وفيه تقومُ السَّاعةُ، وما مِن دابَّة إلَّا وهي مُصِيخةٌ مُصِيخَة: أي: مُستَمِعةٌ مُنصِتةٌ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/64)، ((لسان العرب)) لابن منظور (3/35). يومَ الجُمُعة، مِن حِين تُصبِحُ حتى تطلُعَ الشمس؛ شفقًا من الساعةِ، إلَّا الجِنَّ والإنسَ، وفيه ساعةٌ لا يُصادِفُها عبدٌ مسلمٌ وهو يُصلِّي يسأل اللهَ عزَّ وجلَّ حاجةً إلَّا أعطاه إياَّها، قال كعب: ذلك في كلِّ سَنةٍ يومٌ؟ فقلت: بل في كلِّ جُمُعة، قال: فقرأ كعبٌ التوراة، فقال: صدَق رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال أبو هريرة: ثم لقيتُ عبدَ اللهِ بنَ سَلَام، فحدَّثتُه بمَجْلِسي مع كعب، فقال عبد الله بنُ سَلَامِ: وقد علمتُ أيَّةُ ساعةٍ هي. قال أبو هريرة: فقلتُ: أخبِرْني بها، فقال عبدُ الله بنُ سَلَامٍ: هي آخِرُ ساعةٍ من يوم الجُمُعة، فقلت: كيف هي آخر ساعة من يوم الجُمُعة، وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا يُصادِفُها عبدٌ مسلمٌ وهو يُصلِّي، وتِلك الساعةُ لا يُصلَّى فيها؟ فقال عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ: ألمْ يقُلْ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن جَلَس مجلسًا ينتظرُ الصَّلاةَ، فهو في صلاةٍ حتى يُصلِّي؟ قال: فقلتُ: بلى! فقال: هو ذاك)) [6156] رواه أبو داود (1046)، والترمذي (491)، والنسائي (3/113). صحَّحه ابن القيِّم في ((جلاء الأفهام)) (157)، وقال الهيثمي في ((موارد الظمآن)) (1/444): في الصَّحيح بعضه. وصحَّحه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/432)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1046). .ثانيًا: مِن الآثار عن أبي سَلمةَ بنِ عَبدِ الرحمنِ أنَّ ناسًا من الصَّحابةِ اجتمَعوا فتذاكروا ساعةَ الجُمُعة، ثم افترَقوا فلم يختلفوا أنَّها آخِرُ ساعةٍ من يومِ الجُمُعةِ أخرجه سعيد بن منصور، كما في ((فتح الباري)) لابن حجر (2/421). صحَّح إسنادَه ابنُ حجر، والصَّنعاني في ((سبل السلام)) (2/88). . انظر أيضا: المَطلَبُ الأوَّل: الدُّعاءُ يومَ الجُمُعةِ.