استقبالُ القِبلةِ شرطٌ في صحَّةِ الصَّلاةِ.الأدلَّة:أوَّلًا: من الكِتابقال الله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144].ثانيًا: من السُّنَّة1- عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه: ((أنَّ رجلًا دخَلَ المسجدَ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالسٌ في ناحيةِ المسجدِ، فصلَّى ثم جاءَ فسَلَّم عليه، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وعَليكَ السَّلامُ، ارجِعْ فصلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ، فرجع فصلَّى، ثم جاء فسَلَّم، فقال: وعَليكَ السَّلامُ، ارجِعْ فصلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ، فقال في الثانية، أو في التي بعدَها: عَلِّمْني يا رسولَ الله، فقال: إذا قُمتَ إلى الصَّلاةِ فأَسْبِغِ الوضوءَ، ثم استقبلِ القِبلةَ فكبَّر...)) [1336] رواه البخاري (6251)، ومسلم (397). .2- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، قال: لَمَّا دخَلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البيتَ، دعا في نواحيه كلِّها، ولم يُصلِّ حتى خرَج منه، فلمَّا خرج ركَع ركعتينِ في قُبُل الكَعبةِ، وقال: ((هذه القِبلةُ)) رواه البخاري (398)، ومسلم (1331). .3- عنِ البَراءِ بن عازبٍ: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أوَّلَ ما قَدِمَ المدينةَ نزَلَ على أجدادِه - أو قال: أخوالِه - من الأنصارِ، وأنَّه صلَّى قِبلَ بيتِ المقدسِ سِتَّةَ عَشرَ شهرًا، أو سَبعةَ عَشرَ شهرًا، وكان يُعجِبُه أن تكونَ قِبلتُه قِبلَ البيتِ، وأنَّه صلَّى أوَّلَ صلاةٍ صلَّاها صلاةَ العصرِ، وصلَّى معه قومٌ، فخرَج رجلٌ ممَّن صلَّى معه، فمرَّ على أهلِ مَسجدٍ وهم راكعون، فقال: أشهدُ باللهِ لقدْ صَليتُ مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قِبلَ مَكَّةَ، فدَاروا كما هم قِبلَ البيتِ...)) [1338] رواه البخاري (40)، ومسلم (525). .ثالثًا: من الإجماعنقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ حزمٍ [1339] قال ابنُ حزمٍ: (لا خلافَ بين أحد من الأمَّة في أنَّ امرأً لو كان بمكَّة بحيث يَقدِر على استقبال الكعبة في صلاته، فصرَف وجهه عامدًا عنها إلى أبعاض المسجد الحرام مِن خارجه أو من داخله، فإنَّ صلاته باطلةٌ، وأنه إنِ استجاز ذلك: كافرٌ) ((المحلى)) (2/257). ، وابنُ عبد البرِّ قال ابنُ عبد البَرِّ: (أجمع العلماء أنَّ القبلة التي أَمر الله نبيَّه وعبادَه بالتوجُّه نحوها في صلاتهم هي الكعبةُ البيت الحرام بمكَّة، وأنَّه فرضٌ على كلِّ مَن شاهدها وعاينها استقبالُها، وأنه إنْ ترك استقبالها وهو معاينٌ لها أو عالم بجهتها فلا صلاةَ له، وعليه إعادة كلِّ ما صلَّى كذلك) ((التمهيد)) (17/54). ، وابنُ رُشدٍ قال ابنُ رُشدٍ: (اتَّفق المسلمون على أنَّ التوجُّهَ نحو البيت شرطٌ من شروط صِحَّة الصلاة؛ لقوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ **البقرة: 149، 150**) ((بداية المجتهد)) (1/111). ، والنوويُّ [1342] قال النوويُّ: (استقبالُ القبلةِ شَرْطٌ لصحَّةِ الصلاة إلَّا في الحالينِ المذكورينِ على تفصيلٍ يأتي فيهما في موضِعِهما، وهذا لا خلافَ بين العلماء فيه من حيثُ الجملةُ، وإنِ اختُلِفَ في تفصيلِه) ((المجموع)) (3/189). . انظر أيضا: المَطلَبُ الثَّاني: استقبالُ عينِ الكَعبةِ. المَطلَب الثَّالث: الاستدلالُ على القِبلةِ. المَطلَب الرابع: الاجتهادُ في تحديدِ القِبلةِ. المَطلَب الخامس: المواضعُ التي يَسقُطُ فيها وجوبُ استقبالِ القِبلةِ.

الفَرعُ الأوَّل: استقبالُ عَينِ الكعبةِ لِمَن يُشاهِدُ البيتَيَجِبُ استقبالُ عينِ الكعبةِ لِمَن يُشاهِدُ البيتَ.الأدلَّة:أوَّلًا: من الكِتابقال اللهُ تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144].ثانيًا: من السُّنَّةعن ابنِ عبَّاسٍ، قال: ((لَمَّا دخَل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البيتَ، دعا في نواحيه كلِّها، ولم يُصلِّ حتى خرَجَ منه، فلمَّا خرَج ركَعَ ركعتينِ في قُبُلِ الكَعبةِ، وقال: هذه القِبلةُ)) [1343] رواه البخاري (398)، ومسلم (1330). .ثالثًا: من الإجماعنقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ حزمٍ [1344] قال ابنُ حزمٍ: (لا خلافَ بين أحد من الأمَّة في أنَّ امرأً لو كان بمكَّة بحيث يَقدِر على استقبال الكعبة في صلاته، فصرَف وجهه عامدًا عنها إلى أبعاض المسجد الحرام مِن خارجه أو من داخله، فإنَّ صلاته باطلةٌ، وأنه إنِ استجاز ذلك: كافرٌ) ((المحلى)) (2/257). ، وابنُ رشدٍ [1345] قال ابنُ رُشدٍ: (إذا أَبصر البيت، فالفرضُ عندهم هو التوجُّه إلى عين البيت، ولا خلافَ في ذلك) ((بداية المجتهد)) (1/118). ، وابنُ قُدامةَ قال ابنُ قُدامة: (إنْ كان معاينًا للكعبة، ففرضُه الصلاةُ إلى عينها، لا نعلم فيه خلافًا) ((المغني)) (1/317). ، وابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (وذلك أنَّهم متَّفقون على أنَّ مَن شاهد الكعبة، فإنه يصلِّي إليها) ((مجموع الفتاوى)) (22/208). .الفَرْعُ الثاني: استقبالُ القِبلةِ لِمَنْ كانَ بمَكَّةَيُشترَطُ لِمَن كان بمكَّةَ وأَمكَنه مشاهدةُ الكعبةِ استقبالُ عَينِها، ومَن لا يُمكِنُه مشاهدتُها لبُعدٍ، أو حيلولةِ شيءٍ دونها، اكتَفَى بالجهةِ، وهو مذهبُ الحنفيَّة ((الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين)) (1/428)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/118)،  ((درر الحكام)) لملَّا خسرو (1/60). ، وقولٌ عند الشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (3/212)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/216)، وينظر: ((البيان)) للعمراني (2/140). ، واختاره الصنعانيُّ قال الصنعانيُّ: (والحديث دليلٌ على أنَّ الواجب استقبالُ الجهة لا العين في حقِّ مَن تعذَّرت عليه العين، وقد ذهب إليه جماعةٌ من العلماء... فالحقُّ أنَّ الجهة كافيةٌ، ولو لِمَن كان في مكَّة وما يليها) ((سبل السلام)) (1/134). ، والشوكانيُّ وقال الشوكانيُّ: (... أنَّ استقبالَ الجهة يكفي مِن الحاضر والغائب، إلَّا إذا كان حال قيامه إلى الصلاة معاينًا للبيت، لم يحُلْ بينه وبينه حائل، إلَّا إذا كان في بعض بيوت مكَّة أو شعابها أو فيما يقرُب منها، وكان بينه وبين البيت حائلٌ حال القيامَ إلى الصلاة، فإنَّه لا يجب عليه أن يَصعَد إلى مكان آخَر يشاهد منه البيت، بل عليه أن يُولِّي وجهه شطرَ المسجد الحرام، وليس عليه غير ذلك، ولم يأتِ دليل يدلُّ على غير هذا) ((السيل الجرار)) (1/106). ، وابنُ باز قال ابن باز: (الواجب استقبالُ الكعبة في كلِّ مكان، فإذا كان يرى الكعبة فعليه أن يستقبلَ عينها في المسجد، وعند البُعد يستقبل الجهة) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (29/214). ، وابنُ عثيمين وقال ابنُ عُثَيمين: (أمَّا إذا كان الإنسان بعيدًا عن الكعبة لا يُمكنه مشاهدتها ولو في مكة، فإنَّ الواجب استقبالُ الجهة، ولا يضرُّ الانحراف اليسير) ((فتاوى أركان الإسلام)) (ص: 303) وقال أيضًا: (قال بعضُ أهلِ العلم: مَن كان في المسجد استقبَلَ عينَ الكعبة، ومَن كان خارج المسجِدِ استقبل المسجد، ومَن كان بعيدًا استقبَلَ مكَّةَ، ومَن كان أبعد استقبَلَ الجِهة، ولكن هذا التفصيلَ ليس عليه دليلٌ، ولكنَّ المهم أنَّ مَن أمكَنَه أن يشاهدَ الكعبةَ وجب عليه استقبالُها، ومن لم يُمْكِنه وجب عليه استقبالُ جِهتها) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/148). .الأدلَّة:أوَّلًا: من الكتاب1- قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُوَجْهُ الدَّلالَةِ:قوله عزَّ وجل: شَطْرَهُ - سواءٌ كان جِهتَه أو نحوَه أو تلقاءَه أو قِبلَه، على اختلاف تفاسيرِ السَّلف للشَّطرِ - يدلُّ على أنَّ استقبالَ الجِهةِ يَكفي مِن الحاضرِ والغائبِ إلَّا إذا كانَ حالَ قيامِه إلى الصَّلاةِ مُعاينًا للبيتِ ينظر: ((السيل الجرار)) للشوكاني (1/106). .2- قوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286].ثانيًا: الحرجُ في إلزامِ حقيقةِ المسامتةِ المُسامَتَة: المقابلَة والمُوازاة. ((المصباح المنير)) للفيومي (1/287). في كلِّ بُقعةٍ يُصلِّي فيها ((درر الحكام)) لملا خسرو (1/60). .الفَرْعُ الثَّالِثُ: استقبالُ القِبلةِ لمَن كان خارجَ مكَّة مَن بَعُدَ عن البيتِ فالفرضُ استقبالُ جِهةِ الكَعبةِ، وهو مذهبُ الجمهور: الحنفيَّة ((الهداية)) للمرغيناني (1/45)، ((البناية)) للعيني (2/144). ، والمالكيَّة ((منح الجليل)) لابن عليش (1/231)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/256). ، والحنابلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/170)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/318)، ((حاشية الروض المربع)) لابن قاسم (1/556)، ((فتح الباري)) لابن رجب (2/292). ، وقولٌ للشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (3/207). ، وقولُ ابنِ حَزمٍ قال ابنُ حزمٍ: (واستقبالُ جِهة الكعبة بالوجه والجسد فرضٌ على المصلِّي) ((المحلى)) (2/257). ، وهو اختيارُ ابنِ باز قال ابن باز: (الواجبُ استقبال الكعبة في كلِّ مكان؛ فإذا كان يرى الكعبة فعليه أن يستقبل عينها في المسجد، وعند البُعد يستقبل الجِهة؛ الله جلَّ وعلا أمَر بهذا وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ **البقرة: 144-150**، فالواجب على جميع المسلمين استقبالُ الكعبة؛ إنْ كانوا بحضورها إلى عينها، وإن كانوا بَعيدِينَ إلى جِهتها) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (29/213). ، وابنِ عُثَيمين قال ابنُ عُثَيمين: (قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأهل المدينة: ((ما بين المشرقِ والمغرب قِبلةٌ))؛ لأنَّ المدينة تقَعُ شمالًا عن مكَّة، فإذا وقع الشمال عن مكة فإنَّ جهة القبلة تكون ما بين المشرق والمغرب، وعلى هذا فلو انحرفتَ ولكنَّك لم تخرج عن مسامتة الجهة، فإنَّ ذلك لا يضرُّ؛ لأنَّ الجهة واسعة، فإذا كان البلد يقع شرقًا عن مكَّة، فنقول: ما بين الشمال والجنوب قِبلة، وإذا كان يقع غربًا نقول: ما بين الشمال والجنوب قبلة، وهذا من تيسير الله؛ لأنَّ إصابة عين الكعبة مع البُعد متعذِّر أو متعسِّر، وإذا كان متعذرًا أو متعسِّرًا، فإنَّ الله قد يسَّر لعباده، وجعل الواجبَ استقبالَ الجهة) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/421). ، وحُكيَ الإجماع على ذلك قال ابنُ عبد البَرِّ: (أجمعوا أنَّ على كل مَن غاب عنها أن يستقبل ناحيتَها وشطرها وتلقاءها) ((التمهيد)) (17/54). . الأدلَّة:أوَّلًا: من الكِتاب1- قال الله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 144].وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ معنى شَطْره، أي: نَحوَه وتلقاءَه ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/207). .2- قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78].وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّه لو كانَ يجِبُ قَصدُ عينِ الكعبةِ لِمَن بَعُدَ عنها؛ لكان حرجًا؛ فإنَّ إصابةَ العينِ شيءٌ لا يُدرَكُ إلَّا بتقريبٍ وتسامُح بطريقِ الهندسةِ واستعمالِ الأرصادِ في ذلِك؛ فكيف بغيرِ ذلِك من طُرقِ الاجتهادِ؟! ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/111). .ثانيًا: من السُّنَّةعن أبي أيُّوبَ رَضِيَ اللهُ عَنْه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا أَتيتُم الغائطَ فلا تَستقبِلوا القِبلةَ ولا تَستدبِرُوها ببولٍ ولا غائطٍ، ولكن شَرِّقوا أو غَرِّبوا)) [1367] رواه البخاري (394)، ومسلم (264). .وَجْهُ الدَّلالَةِ: هذا بيانٌ أنَّ ما سوى التشريقِ والتغريبِ استقبالٌ للقِبلةِ أو استدبارٌ لها، وهو خطابٌ لأهلِ المدينةِ ومَن كانَ مقابلًا وموازيًا لهم مِثل أهلِ الشَّام والعراقِ واليمنِ ونحوِهم ((شرح عمدة الفقه - من كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 538). .ثالثًا: أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهم لَمَّا فتحوا الأمصارَ، بنَوْا مساجد على جِهةِ الكعبةِ، بحيث لا يُطابِقُ ذلك سَمْتَ العينِ على الوجهِ الذي يَعرِفُه أهلُ الحسابِ، وصَلَّوا إليها، وأجمَع المسلمون بعدَهم على الصَّلاةِ إليها قال ابنُ رجب: (ولهذا لَمَّا خالف في ذلك كثيرٌ من الفقهاء المتأخِّرين، واستحبُّوا مراعاةَ العين أو أوجبوه، واستدلُّوا على ذلك بالنجوم ونحوها، رأوا أنَّ كثيرًا من قِبل البلدان منحرفة عن القبلة، فأوجب لهم ذلك الحيرةَ والشكَّ في حال سلف الأمَّة من الصحابة ومن بعدهم، وقد أوجب بعضُهم مراعاةَ ذلك وأمر بهدَم كلِّ قِبلة موضوعة على خلافه، كما ذكَره حربٌ الكرمانيُّ، وهذا يُفضي إلى تضليل سلف الأمَّة، والطعن في صلاتهم، واستحبَّ بعضهم الاستدلالَ بعُروض البلدان وأطوالها، ومراعاة ذلك في الاستقبال، وإنْ لم يوجبوه، كما قاله يحيى بن آدم وغيره. والصَّحيح: ما قاله الإمامُ أحمد: أنَّ ذلك كله غير مستحبٍّ مراعاتُه، وبذلك يُعلم أنَّ مَن أوجب تعلُّم هذه الأدلَّة، وقال: إنَّه فرض عين أو كفاية - ممَّن ينتسب إلى الإمام أحمد - فلا أصلَ لقوله، وإنما تلقَّاه من قواعد قومٍ آخرين تقليدًا لهم) ((فتح الباري)) (2/294، 295). .رابعًا: قدِ اجتمعتِ الأمَّة على صِحَّةِ الصَّفِّ المستطيلِ مع البُعد عن الكعبةِ، مع العِلمِ بأنَّه لا يمكن أنْ يكونَ كلُّ واحدٍ منهم مستقبلًا لعينِها قال ابنُ رجب: (مَن حكى عن الإمام أحمد روايةً بوجوب التقوس لطرفي الصفِّ الطويل، فقد أخطأ، وقال عليه ما لم يقُلْه، بل لو سمِعَه لبادر إلى إنكاره والتبرِّي من قائله، وهو خلافُ عمل المسلمين في جميع الأمصار والأعصار) ((فتح الباري)) (2/296)، وينظر: ((المجموع)) للنووي (3/207)، ((المغني)) لابن قدامة (1/318). .خامسًا: أنَّ إصابةَ العينِ بالاجتهادِ مُتعذِّرة فسَقطَتْ، وأُقيمتِ الجهةُ مقامَها للضرورةِ ((البناية)) للعيني (2/144). .الفَرْعُ الرابع: الانحرافُ اليَسيرُ لا يضرُّ الانحرافُ اليسيرُ لِمَن استقبلَ جِهةَ الكعبةِ، وهو مذهبُ الحنفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (1/430)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/301). ، والحنابلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/171)، وينظر: ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (1/383). ، وهو قول مالكٍ قال ابنُ عبد البَرِّ: «قال أشهب: سُئل مالك عمَّن صلَّى إلى غير قبلة، فقال: إنْ كان انحرف انحرافًا يسيرًا فلا أرى عليه إعادة، وإن كان انحرف انحرافًا شديدًا فأرى عليه الإعادةَ ما كان في الوقت) ((التمهيد)) (17/56). ، واختارَه ابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: «بل لو كان منحرفًا انحرافًا يسيرًا لم يَقدحْ ذلك في الاستقبال. والاسم إنْ كان له حدٌّ في الشرع رجَع إليه، وإلَّا رجَع إلى حدِّه في اللُّغة والعرف، والاستقبال هنا دلَّ عليه الشرع واللغة والعرف. وأمَّا الشارع، فقال: «ما بين المشرقِ والمغربِ قِبلةٌ»، ومعلوم أنَّ مَن كان بالمدينة والشام ونحوهما إذا جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه فهو مستقبلٌ للكعبة ببدنه؛ بحيث يمكن أن يخرجَ من وجهه خطٌّ مستقيم إلى الكعبة ومن صدره وبطنه؛ لكن قد لا يكون ذلك الخطُّ من وسط وجهه وصدره؛ فعُلم أنَّ الاستقبال بالوجه أعمُّ من أن يختصَّ بوسَطه فقط، والله أعلم) ((مجموع الفتاوى)) (22/216). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثَيمين: (الانحراف اليسير عن جِهة القِبلة لا يضرُّ، كما لو انحرف إلى جِهة اليمين أو إلى جِهة الشمال يسيرًا) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/415). وقال أيضًا: (فلو رأينا شخصًا يُصلِّي منحرفًا يسيرًا عن مُسامَتَةِ القِبْلة، فإنَّ ذلك لا يضرُّ) ((الشرح الممتع)) (2/273). ، وبه صدَرتْ فتوى اللَّجنةِ الدَّائمة جاء في فتاوى اللَّجنة الدَّائمة: (الواجب على المصلِّي الذي لا يَرى الكعبة أن يستقبلَ الجهة التي فيها الكعبة، والانحراف اليسير لا يضرُّ) ((فتاوى اللَّجنة الدَّائمة - المجموعة الثانية)) (5/295)، وينظر: ((حاشية ابن عابدين)) (1/430). .وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّ الانحرافَ اليسيرَ لا يُغيِّر من اتِّجاهِ القِبلةِ، والواجبُ استقبالُ جِهةِ الكعبةِ لا عَينِها للبعيدِ عن الكعبةِ ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/414). .ثانيًا: أنَّ الانحرافَ اليسيرَ لا يَسلُبُ اسمَ الاستقبالِ عن البعيدِ عن الكعبةِ ((الشرح الكبير)) للرافعي (3/244). .ثالثًا: أنَّ الانحرافَ اليسير ليس فيه يقينُ خطأٍ، وإنَّما هو اجتهادٌ لم يرجعْ منه إلى يقينٍ، وإنَّما رجَع من دلالةٍ إلى اجتهادِ مِثلها ((التمهيد)) لابن عبد البر (17/57). .رابعًا: أنَّ السَّعةَ في القِبلة لأهلِ الآفاق مبسوطةٌ مسنونةٌ، وهذا معنى قولِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقولِ أصحابِه: ((ما بين المشرقِ والمغربِ قِبلةٌ)) ((التمهيد)) لابن عبد البر (17/58). .خامسًا: أنَّه إخلالٌ بيسيرٍ من الشرائطِ يشقُّ مراعاتُه في الجُملةِ، فعُفِي عنه كيسيرِ النجاسةِ ((شرح عمدة الفقه - من كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 346). . انظر أيضا: المَطلَب الأوَّل: حكمُ استقبالِ القِبلةِ في الصَّلاةِ. المَطلَب الثَّالث: الاستدلالُ على القِبلةِ. المَطلَب الرابع: الاجتهادُ في تحديدِ القِبلةِ. المَطلَب الخامس: المواضعُ التي يَسقُطُ فيها وجوبُ استقبالِ القِبلةِ.

الفَرْعُ الأول: الاستدلال على القبلة بالعِلمِ بالجِهاتِالمسألة الأولى: الاستدلالُ على القِبلةِ بالشَّمسِ والقَمرِ ومواقِعِ النُّجومِيجوزُ الاستدلالُ على القِبلةِ بالشمسِ قال العينيُّ: (أمَّا الشمس: فمَن أَشكلت عليه القِبلة وكان بالمشرق، يجعل الشمس خلفَه في أول النهار، وتلقاءَ وجهه في آخِره، وإنْ كان في المغرب فعلى العكس، وإنْ كان بالشام يجعلها في أول النَّهار على جانبه الأيسر، وفي آخِر النهار على جانبه الأيمن، وإنْ كان باليمن فعلى العكس يجعلُها) ((البناية)) (2/148). ، والقمرِ قال العينيُّ: (أما القمر: فإنه يَطلُع في أول الشهر على يمنةِ المصلِّي، ويختلف مطلعُه في اليمنة، فربما كان مع قُرب شقِّه اليسرى، وربما كان إلى مدائرها أقرب، ويَطلُع في ليلة ثمان وعشرين رفيعًا لحظة، ثم يغيب على يسرةِ المصلِّي...) ((البناية)) (2/148) ، ومواقعِ النُّجومِ ((البناية)) للعيني (2/148). .الأدلَّة:أوَّلًا: من الكِتاب1- قال الله تعالى: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16].وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ الإشارةَ إلى ذلك في سِياقِ الامتنانِ تدلُّ على مشروعيَّةِ الاهتداءِ بها ((الذخيرة)) للقرافي (2/124). .2- قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام: 97].وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ الهدايةَ إنَّما تكونُ للمقاصدِ، والصَّلاةُ من أهمِ المقاصدِ ((الذخيرة)) للقرافي (2/124). .3- هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5].وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ هذا كلَّه تنبيهٌ على وجوهِ تحصيلِ المصالحِ من الكواكبِ، ومن أهمِّ المصالحِ إقامةُ الصَّلاةِ على الوجهِ المشروعِ ((الذخيرة)) للقرافي (2/124). .ثانيًا: من الإجماعنقَلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ عبدِ البَرِّ قال ابنُ عبد البَرِّ: (أجمَعوا أنَّ على مَن غاب عنها، بعُدَ أو قرُب، أن يتوجَّه في صلاته نحوها بما قدَر عليه مِن الاستدلال على جِهتها، من النُّجوم، والجبال، والرِّياح، وغيرها) ((الاستذكار)) (2/455). وقال أيضًا: (وأجمَعوا أنَّ على كلِّ مَن غاب عنها أن يستقبلَ ناحيتها، وشطرها وتلقاءها، وعلى أنَّ على مَن خفِيت عليه ناحيتُها الاستدلالَ عليها بكلِّ ما يمكنه، من النُّجوم، والجبالِ، والرياح، وغير ذلك ممَّا يمكن أن يستدلَّ به على ناحيتها) ((التمهيد)) (17/54). ، والقرطبيُّ يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (2/160). .ثالثًا: أنَّ القاعدةَ: أنَّ كلَّ ما أفضى إلى المطلوبِ فهو مطلوبٌ، وهذه الأمورُ مفضيةٌ إلى إقامةِ الصلواتِ المطلوبةِ؛ فتكونُ مطلوبةً ((الذخيرة)) للقرافي (2/124). .المسألة الثَّانية: الاستدلالُ على القِبلةِ بالرِّياحِ أو الأنهارِأوَّلًا: الاستدلالُ على القِبلةِ بالرِّياحِيجوزُ الاستدلالُ على القِبلةِ بالرِّياحِ، وهو باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة ((البناية)) للعيني (2/148). ، والمالكيَّة [1393] ((التاج والإكليل)) للمواق (1/508)، وينظر: ((الذخيرة)) للقرافي (2/127). ، والشافعيَّة [1394] ((المجموع)) للنووي (3/205)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/146). ، والحنابلة [1395] واعتبر الحنابلة أنَّ الاستدلال بها عسُر إلَّا في الصحاري، وأمَّا بين الجبال والبنيان، فإنَّها تدور، فتختلف وتَبطُل دَلالتُها. ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/309)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/321). ، وحُكِي الإجماعُ على ذلك [1396] قال ابنُ عبد البَرِّ: (أجمَعوا أنَّ على من غاب عنها بَعُد أو قَرُب: أن يَتوجَّه في صلاته نحوها بما قدَر عليه من الاستدلالِ على جِهتها من النجوم والجبال، والرياح، وغيرها) ((الاستذكار)) (2/455). وقال أيضًا: (وأجمعوا أنَّ على كلِّ مَن غابَ عنها أن يستقبلَ ناحيتَها وشطرَها وتلقاءَها، وعلى أنَّ مَن خفيت عليه ناحيتُها الاستدلالَ عليها بكلِّ ما يُمكنه من النجومِ، والجِبال، والرياح، وغير ذلك ممَّا يُمكن أن يستدلَّ به على ناحيتها) ((التمهيد)) (17/54). وقال الجويني: (وذكَر الصيدلانيُّ منها مهابَّ الرياح، وهذا بعيدٌ عندي جدًّا؛ فإنَّ الرَّياح لا معوَّل عليها، والتفافَها في مهابِّها أكثرُ من استِدادها، ثم لا يتأتَّى التمييزُ فيها) ((نهاية المطلب)) (2/93). ؛ وذلك لأنَّ كلَّ ما أَفْضى إلى المطلوبِ فهو مطلوبٌ، والاستدلالُ بالرِّياحِ وغيرِها يُفضِي إلى إقامةِ الصَّلواتِ المطلوبةِ؛ لذا يجوزُ الاستدلالُ بها ((الذخيرة)) للقرافي (2/124). .ثانيًا: الاستدلالُ على القِبلةِ بالأنهارِيجوزُ الاستدلالُ على القِبلةِ بالأنهارِ الكِبار، كدِجلةَ والفراتِ والنِّيلِ؛ نصَّ على هذا الجمهور: الحنفيَّة قال العينيُّ: (أمَّا الأنهار والمياه: فإنها تحُلُّ جاريةً من يمنة المصلِّي إلى يسرته على انحرافٍ قليل يقرُب من كتفه اليمنى، وتنفذ من الماء في اليسرى، كدجلة والفرات، والنهرين وغيرها من الأنهار، أحدها بخراسان، والأخرى: بالشام يُسمَّى العاصي، ويقال لهما: العارض؛ لأنَّهما يخالفان لجريان الماء؛ لأنَّهما يجريان عن يسرة المصلِّي إلى يمينه، ولا اعتبارَ بالأنهار المحدَثة والسَّواقي؛ لأنَّها بحسب الحاجات، ونيل مصر أيضًا يجري إلى الشمال على خلافِ الأنهار) ((البناية)) (2/149) ، والمالكيَّة ((الذخيرة)) للقرافي (2/128)، ((الكافي)) لابن عبد البر (1/198). المالكية نصوا  على أن الاستدلال على القبلة يكون بكل ما يمكن الاستدلال به. ، والحنابلة [1400] ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/310)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/321). ؛ وذلك لأنَّ كلَّ ما أَفْضى إلى المطلوبِ فهو مطلوبٌ ((الذخيرة)) للقرافي (2/124). . الفَرْعُ الثاني: الاستدلالُ على القِبلةِ بالآلاتِ والأجهزةِ الحَديثةِ يجوزُ الاستدلالُ على القِبلةِ بالآلاتِ والأجهزةِ الحديثةِ؛ وهو قولُ: ابنِ عابدين قال ابن عابدين: (ينبغي الاعتمادُ في أوقات الصلاة وفي القِبلة على ما ذَكَره العلماء الثِّقات في كتُب المواقيت، وعلى ما وضعوه لها من الآلات كالربع والإصطرلاب، فإنَّها إنْ لم تُفِدِ اليقين تُفِد غلبةَ الظنِّ للعالِم بها، وغلبةُ الظن كافيةٌ في ذلك) ((حاشية ابن عابدين)) (1/431). ، وابنِ باز قال ابن باز - وقد سُئِل: كيف يُمكن تحديدُ اتجاه القبلة في الليل والنهار؟ فأجاب -: (هذا يختلف باختلافِ عِلم الناس، والناس يختلفون في هذا العِلم، فالذي عنده بُوصلة يعرف عن طريق البوصلة، والذي ما يَعرِف هذا يُمكن أن ينظر إلى الشمس؛ طلوعها وغروبها) ((فتاوى نور على الدرب)) (7/362). ، وابنِ عثيمين قال ابنُ عُثَيمين: (وقد يسَّر الله في زماننا هذا ما يُعرَف به جِهةُ القِبلة بواسطة دلائل القبلة (البوصلة)، فإذا أراد الإنسانُ أن يسافر إلى جِهة ما، فليأخذ معه هذه الآلةَ؛ حتى يكونَ على بصيرة من أمره) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/417). وقال أيضًا: (هذه الدلائلُ أصبحتْ قويةَ الدلالة لقوَّة العِلم ودِقَّته؛ فإذ أصبحت تُشير إلى جهةٍ فإنَّ الصواب غالبًا فيها إنْ لم يكن المؤكَّد) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين) (12/419). .وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّ كلَّ ما أفضى إلى المطلوبِ فهو مطلوبٌ، وهذه الأمورُ مفضيةٌ إلى إقامةِ الصلواتِ المطلوبةِ؛ فتكون مطلوبةً ((الذخيرة)) للقرافي (2/124). .ثانيًا: أنَّ الشارعَ لم يُحدِّدْ أدلَّةَ معرفةِ القِبلة، ولم يمنعْ من الاستعانةِ بما يدلُّ عليها ((فتاوى اللَّجنة الدَّائمة - المجموعة الأولى)) (6/315). .ثالثًا: أنَّ هذه الأجهزةَ والآلاتِ إنْ لم تُفِدِ اليقينَ، فإنَّها تُفيدُ غَلبةَ الظنِّ للعالِم بها، وغلبةُ الظنِّ كافيةٌ في ذلك ((حاشية ابن عابدين)) (1/431). .الفَرْعُ الثَّالِثُ: الاستدلالُ على موضِعِ القِبلةِ بالسُّؤالِ أو الخبرِالمسألة الأولى: الاستدلالُ على القِبلةِ بخبرِ العَدلِمَن اشتبهتْ عليه جهةُ القِبلةِ، وأَخْبَره مَن يُقبلُ خَبرُه بجِهتها، فإنَّه يَلزمُه أنْ يُصلِّيَ بقولِه، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة [1408] ((تبيين الحقائق للزيلعي، مع حاشية الشلبي)) (1/101)، ((البناية)) للعيني (2/149). ، والمالكيَّة ((منح الجليل)) لابن عليش (1/236)، وينظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 41). ، والشافعيَّة [1410] ((المجموع)) للنووي (3/200)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/146). ، والحنابلة [1411] ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/306)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/318). .الأدلَّة:أوَّلًا: من السُّنَّةعن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما، قال: ((بينما الناسُ بقُباءٍ في صلاةِ الصُّبحِ إذ جاءَهم آتٍ فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أُنزِلَ عليه اللَّيلةَ قرآنٌ، وقد أُمِر أن يَستقبلَ الكعبةَ فاستَقْبِلوها، وكانتْ وجوهُهم إلى الشامِ، فاستداروا إلى الكعبةِ)) [1412] رواه البخاري (403)، ومسلم (526). وفي روايةٍ لمسلم (527) من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه: (فمرَّ رجلٌ من بني سَلِمة وهم ركوعٌ في صلاة الفجر وقد صَلَّوا ركعةً، فنادى: ألَا إنَّ القبلة قد حُوِّلت، فمالوا كما هم نحوَ الكعبة). .ثانيًا: أنَّه لا سبيلَ لِمَن غابَ عن موضعِ القبلةِ إلى معرفةِ جِهتها إلَّا بالخبر؛ ولا يُمكن غيرُ ذلك [1413] ((المحلى)) لابن حزم (2/258)، وينظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي، مع ((حاشية الشلبي)) (1/101)، ((المجموع)) للنووي (3/200). .المسألة الثانية: خبَرُ الفاسقِ والكافرِ بجِهةِ القِبلةِ أوَّلًا: الاستدلالُ على القِبلةِ بخبرِ الفاسِقِلا يُقبلُ خبرُ الفاسقِ في تحديدِ جِهةِ القِبلةِ، وهذا باتِّفاقِ المذاهب الفقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة [1414] قال ابن عابدين: (أمَّا غير مقبول الشهادة، كالكافر والفاسق والصبيِّ؛ فلعدم الاعتدادِ بإخباره فيما هو مِن أمور الدِّيانات ما لم يغلبْ على الظنِّ صدقُه) ((حاشية ابن عابدين)) (1/431). ، والمالكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (1/510)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/259). ، والشافعيَّة على المشهور [1416] ((المجموع)) للنووي (3/201)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/146). ، والحنابلة [1417] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/10)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/306). .وذلك للآتي:أوَّلًا: لقِلَّة دِينِه، وتطرُّق التُّهمةِ إليه [1418] ((المغني)) لابن قدامة (1/327). .ثانيًا: أنَّه لا تُقبلُ سائرُ أخبارِه فيما هو من أمورِ الدِّياناتِ [1419] ((حاشية ابن عابدين)) (1/431)، ((المجموع)) للنووي (3/201). .ثانيًا: الاستدلالُ على القِبلةِ بخبرِ الكافرِلا يُقبَلُ خبرُ الكافرِ في تحديدِ جِهةِ القِبلةِ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة [1420] ((الهداية)) للمرغيناني (4/364)، ((الاختيار لتعليل المختار)) لابن مودود الموصلي (4/163). ، والمالكيَّة [1421] ((الشرح الكبير)) للدردير (1/226)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/332). ، والشافعيَّة [1422] ((المجموع)) للنووي (3/200)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/146). ، والحنابلة [1423] ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/306)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/327). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك [1424] قال النوويُّ: (لا يُقبل خبرُ الكافر في القِبلة بلا خِلاف) ((المجموع)) (3/200). وقال العدويُّ: (احترز بـ"المكلَّف" من الصبيِّ والمجنون؛ فإنهما لا يُقلَّدان، وبـ"العارف" من الجاهل الذي لا عِلمَ عنده بالأدلَّة، وبـ"العدل" من الفاسق والكافِر؛ لأنَّ قولَ كلٍّ منهما لا يُلتفت إليه إجماعًا) ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/332). . وذلك للآتي:أوَّلًا: لعدمِ الاعتدادِ بإخبارِه فيما هو من أمورِ الدِّياناتِ ((حاشية ابن عابدين)) (1/431). .ثانيًا: أنَّ الكافرَ ليس بموضعِ أمانةٍ قال ابنُ قُدامة: (ولا يتبع دلالةَ مشرك بحال؛ وذلك لأنَّ الكافر لا يُقبل خبرُه، ولا روايته، ولا شهادته؛ لأنَّه ليس بموضع أمانة؛ ولذلك قال عمرُ رضي الله عنه: لا تأتمنوهم بعدَ إذ خوَّنهم الله عزَّ وجلَّ) ((المغني)) (1/327). .الفرعُ الرَّابع: الاستدلالُ على القِبلةِ بمحاريبِ المُسلمينَ يجبُ اعتمادُ محاريبِ المسلمينَ في الدَّلالةِ على القِبلةِ، ولا يجوزُ معها الاجتهادُ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة [1427] ((حاشية ابن عابدين)) (1/431)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/118). ، والمالكيَّة [1428] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/266)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/295). قال المالكيَّة: المعتبَر في محراب المصر الذي يجوز للمجتهد تقليدُه: أنْ يُعلم أنه إنما نُصِب باجتهاد جمْع من العلماء، سواء كان عامرًا أو خرابًا. ، والشافعيَّة [1429] ((المجموع)) للنووي (3/201)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/145). ، والحنابلة [1430] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/10)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/306). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك [1431] قال النوويُّ: (أمَّا المحراب فيجب اعتمادُه، ولا يجوزُ معه الاجتهاد، ونَقَل صاحب الشامل إجماعَ المسلمين على هذا) ((المجموع)) (3/201). ووقَع خلافٌ في المسألة؛ فقال شمس الدين ابنُ قُدامة: (أمَّا في حقِّ مَن يلزمه قصدُ الجهة، فإنْ كان أعمى أو مَن فرضُه التقليدُ لزِمَه الرجوعُ إلى ذلك، وإن كان مجتهدًا جاز له الرجوعُ لِمَا ذكرنا، كما يجوز له الرجوعُ في الوقت إلى قول المؤذِّن، ولا يلزمه ذلك، بل يجوز له الاجتهاد إنْ شاء، إذا كانت الأدلَّة على القِبلة ظاهرة؛ لأنَّ المخبر والذي نصَب المحاريب إنما يَبني على الأدلَّة، وقد ذكر ابنُ الزاغوني في كتاب الإقناع قال: إذا دخل رجلٌ إلى مسجد قديم مشهور في بلد معروف كبغداد؛ فهل يلزمه الاجتهاد أم يجزئه التوجُّه إلى القبلة؟ فيه روايتان عن أحمد؛ (إحداهما): يلزمه الاجتهاد؛ لأنَّ المجتهد لا يجوز له أن يقلِّدَ في مسائل الفقه. (والثانية): لا يلزمه؛ لأنَّ اتفاقهم عليها مع تكرُّر الأعصار إجماعٌ عليها، ولا يجوز مخالفتها باجتهاده) ((الشرح الكبير)) (1/486). .وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّ المحاريبَ لا تُنصَبُ إلَّا بحضرةِ جماعةٍ من أهلِ المعرفةِ بسَمْت الكواكبِ والأدلَّة؛ فجرَى ذلك مَجرَى الخبرِ [1432] ((المجموع)) للنووي (3/201). .ثانيًا: أنَّ هذه المحاريبَ أنشأتْها قرونٌ من المسلمينَ، أي: جماعات منهم صَلَّوا إلى هذا المحرابِ، ولم يُنقَلْ عن أحدٍ منهم أنَّه طعَنَ فيها، والمسلمون لا يَسكُتونَ على مِثل ذلك إلَّا لصِحَّتِه عندَهم ((فتاوى السبكي)) (1/153)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/145). . انظر أيضا: المَطلَب الأوَّل: حكمُ استقبالِ القِبلةِ في الصَّلاةِ. المَطلَبُ الثَّاني: استقبالُ عينِ الكَعبةِ. المَطلَب الرابع: الاجتهادُ في تحديدِ القِبلةِ. المَطلَب الخامس: المواضعُ التي يَسقُطُ فيها وجوبُ استقبالِ القِبلةِ.

الفرعُ الأوَّل: حُكمُ الاجتهادِ في تحديدِ القِبلةِإذا لم يَعرِفِ الغائبُ عن أرضِ مكَّةَ القِبلةَ، فإنَّه يلزمه الاجتهادُ في تحديدِها قال ابنُ قُدامة: (المجتهدُ في القِبلة هو العالم بأدلَّتها، وإنْ كان جاهلًا بأحكام الشرع، فإنَّ كل مَن علم أدلَّة شيء كان من المجتهدين فيه، وإنْ جِهَل غيره، ولأنَّه يتمكَّن من استقبالها بدليله، فكان مجتهدًا فيها كالفقيه، ولو جهِل الفقيهُ أدلَّتها أو كان أعمى، فهو مقلِّد، وإن عَلِم غيرها) ((المغني)) (1/319). ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة [1435] ((الهداية)) للمرغيناني (1/47)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/271). ، والمالكيَّة [1436] ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/195)، وينظر: ((حاشية الصاوي)) (1/295)، ((إرشاد السالك)) لشهاب الدين المالكي (ص: 14). ، والشافعيَّة [1437] ((المجموع)) للنووي (3/205)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/146). ، والحنابلة [1438] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/12)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/306). .وذلك لأنَّ له طريقًا إلى معرفتِها بالشمسِ والقمرِ، والجبال، والرِّياح؛ ولهذا قال الله تعالى وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16] [1439] ((المجموع)) للنووي (3/205). .الفَرعُ الثَّاني: حُكمُ إمامةِ أَحدِ المُختلفَينِ في القِبلةِ بالآخَرِإنِ اختَلفَ مجتهدانِ في القِبلة، فلا يأتمُّ أحدُهما بالآخَرِ، وذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة [1440] ((الهداية)) للمرغيناني (1/47)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/273). ، والمالكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (1/509)، وينظر: ((شرح التلقين)) للمازري (1/495). ، والشافعيَّة [1442] ((المجموع)) للنووي (3/226)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/147). ، والحنابلة [1443] ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/310) .وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَعتقِدُ خطأَ الآخَرِ [1444] ((الهداية)) للمرغيناني (1/47)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (2/282). .ثانيًا: أنَّ المأمومَ يعتقد أنَّ الإمامَ يترك شرطًا من شرائطِ الصَّلاة للعجزِ عنه، فأَشْبهَ ما لو كان الإمامُ عاريًا أو مُحدِثًا، ونحو ذلك ((شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 570). .ثالثًا: أنَّ صلاتَه اشتملتْ على ترْكِ استقبالِ القِبلة، وكلُّ صلاةٍ تُيقِّنَ أنه تُرِكَ فيها استقبالُ القبلة، فهي باطلةٌ ((شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 571). .رابعًا: أنَّ مِثلَ هذا نادرُ الوقوعِ ولا يلزم العفوُ فيما تعمُّ به البلوى العفوَ عمَّا لا تعمُّ به البلوى ((شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 572). .الفَرْعُ الثَّالث: مَن تَغيَّر اجتهادُه في تحديدِ القِبلةِ أثناءَ الصَّلاةِمَن تغيَّر اجتهادُه في تحديدِ القبلةِ في أثناءِ الصَّلاةِ، فإنَّه يَنحرِفُ إلى الجهةِ الثانيةِ ويُتمُّ صلاتَه، وهو مذهبُ الجمهورِ: الحنفيَّة [1448] ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 92)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/121). ، والشافعيَّة [1449] ((المجموع)) للنووي (3/218، 220)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/147). ، والحنابلة [1450] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/15)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/312). ، واختارَه من المالكيَّة ابنُ عبد البرِّ قال ابنُ عبد البَرِّ: (في حديث هذا الباب دليلٌ على أنَّ مَن صلَّى إلى القبلة عند نفْسه باجتهاده، ثم بان له وهو في الصلاة أنَّه استدبر القِبلة، أو شرَّق أو غرَّب، أنه ينحرف ويَبني) ((التمهيد)) (17/54، 55). .الأدلَّة:أوَّلًا: من السُّنَّةعنِ البَراءِ بن عازبٍ: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أوَّلَ ما قَدِمَ المدينةَ نزَلَ على أجدادِه - أو قال: أخوالِه - من الأنصارِ، وأنَّه صلَّى قِبلَ بيتِ المقدسِ سِتَّةَ عَشرَ شهرًا، أو سَبعةَ عَشرَ شهرًا، وكان يُعجِبُه أن تكونَ قِبلتُه قِبلَ البيتِ، وأنَّه صلَّى أوَّلَ صلاةٍ صلَّاها صلاةَ العصرِ، وصلَّى معه قومٌ، فخرَج رجلٌ ممَّن صلَّى معه، فمرَّ على أهلِ مَسجدٍ وهم راكعون، فقال: أشهدُ باللهِ لقدْ صَليتُ مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قِبلَ مَكَّةَ، فدَاروا كما هم قِبلَ البيتِ)) [1452] رواه البخاري (40)، ومسلم (525). .ثانيًا: أنَّه يجبُ العملُ بالاجتهادِ فيما يُستقبَلُ، أمَّا ما مضى بالاجتهادِ فإنَّه لا يُنقَضُ باجتهادٍ مثلِه [1453] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي، مع ((حاشية الشلبي)) (1/250)، ((المجموع)) للنووي (3/218). .ثالثًا: القياسُ على الحاكمِ إذا حكَمَ باجتهادٍ ثم تغيَّرَ اجتهادُه، فإنَّه لا يُنقَضُ ما حَكَم فيه بالاجتهادِ الأوَّلِ ((المجموع)) للنووي (3/218). .رابعًا: أنَّه ترجَّح في ظنِّه، فصار العملُ به واجبًا ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/312). .خامسًا: أنَّ دليلَ الاجتهادِ بمنزلةِ دليلِ النَّسخِ، وأثَرُ النسخِ يَظهَرُ في المستقبلِ لا في الماضي؛ فكذا الاجتهادُ ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/126). .الفرعُ الرَّابع: مَن شَكَّ في اجتهادِه في تحديدِ القِبلةِ أثناء الصَّلاةِإذا دخَلَ في الصَّلاةِ باجتهادٍ، ثم شكَّ فيه ولم يَترجَّحْ له شيءٌ من الجهاتِ، أتمَّ صلاتَه إلى جِهتِه ولا إعادةَ عليه؛ نصَّ على هذا الجمهور: المالكيَّة ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير)) (1/227)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/260). ، والشافعيَّة [1458] ((المجموع)) للنووي (3/221)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (1/448). ، والحنابلة [1459] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/15)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/312). . وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّ الاجتهادَ ظاهرٌ، والظاهر لا يُزالُ بالشكِّ ((المجموع)) للنووي (3/218). .ثانيًا: أنَّ الشكَّ الطارئَ لا يُساوي غلبةَ الظنِّ التي دخَلَ بها في الصَّلاةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/312). .ثالثًا: أنَّه دخَلَ الصَّلاةَ باجتهادٍ لم يَتبيَّن خطؤُه ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/260). .الفرعُ الخامسُ: الخطأُ في تحديدِ القِبلةِ  المَسألةُ الأولى: ظهورُ الخطأ في القبلةِ بعدَ الفراغِ من الصَّلاةِمَن صَلَّى في غيرِ مَكَّةَ إلى غيرِ القبلة مجتهدًا، ولم يَعلمْ إلَّا بعدَ أنْ سَلَّم أجزأتْه صلاتُه، وهذا مذهبُ الجمهورِ: الحنفيَّة [1463] ((الهداية)) للمرغيناني (1/47)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/272). ، والمالكيَّة [1464] ويعيد في الوقت استحبابًا عند المالكية. ((الكافي)) لابن عبد البر (1/198)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/256)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (17/55). ، والحنابلة [1465]  ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/312)، وينظر: ((المغني)) لابن قُدامة (1/325). ، وهو قولُ الشافعيِّ في القديم [1466] قال النوويُّ: (وإن صلَّى ثم تيقَّن الخطأ، ففيه قولان؛ قال في الأم: يلزمه أنْ يُعيد؛ لأنَّه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء؛ فلم يعتدَّ بما مضى، كالحاكِم إذا حَكَم ثم وجد النصَّ بخلافه، وقال في القديم، والصيام من الجديد: لا يَلزَمُه) ((المجموع)) (3/222). ، ورُوي عن بعضِ السَّلف قال الجصَّاص: (وقال أصحابنا جميعًا، والثوريُّ: إنْ وجَدَ مَن يسأله فعرَّفه جهة القبلة فلم يفعل لم تجز صلاته، وإن لم يَجِد مَن يُعرفه جهتَها فصلَّاها باجتهاده أجزأتْه صلاتُه، سواء صلَّاها مستدبرَ القبلة أو مشرِّقًا أو مغرِّبًا عنها، ورُوي نحو قولنا عن مجاهد، وسعيد بن المسيَّب، وإبراهيم، وعطاء، والشعبيِّ) ((أحكام القرآن)) (1/77). .الأدلَّة:أوَّلًا: من السُّنَّةعن أنسِ بن مالكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُصلِّي نحوَ بيتِ المقدسِ، فنزلت: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 144]، فمرَّ رجلٌ من بني سَلِمَة وهم ركوعٌ في صلاةِ الفجر، وقد صلَّوْا ركعةً، فنادَى: ألَا إنَّ القبلةَ قد حُوِّلتْ، فمالوا كما هم نحوَ القِبلةِ)) [1468] رواه مسلم (527). . وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّهم صلَّوْا ركعةً إلى بيتِ المقدسِ بعدَ نَسخِه ووجوبِ استقبالِ الكعبةِ، ثم عَلِموا في أثناءِ الصَّلاةِ النسخَ، فاستداروا في صلاتِهم وأتمُّوا إلى الكعبةِ، وكانت الركعةُ الأولى إلى غير الكعبةِ بعدَ وجوبِ استقبالِ الكعبةِ، ولم يُؤمَروا بالإعادة، ومثل هذا لا يَخفَى على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1469] ((المجموع)) للنووي (3/243)، ((المغني)) لابن قدامة (1/325). .ثانيًا: أنَّه أتى بما أُمِر، فخرَجَ عن العُهدةِ كالمصيبِ، والتكليفُ مقيَّدٌ بالوُسعِ [1470] ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/273)، ((المغني)) لابن قدامة (1/325). .ثالثًا: أنَّه صلَّى إلى غيرِ الكعبةِ للعُذر، فلمْ تجِبْ عليه الإعادةُ، كالخائفِ يُصلِّي إلى غيرِها ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (1/492)، وينظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (17/58). .رابعًا: أنَّها جهةٌ تجوزُ الصَّلاةُ إليها بالاجتهادِ فأشبهَ إذا لم يتيقَّنِ الخطأَ [1472] ((المجموع)) للنووي (3/222). .خامسًا: أنَّ إيجابَ الإعادةِ إيجابُ فرضٍ، والفرائضُ لا تثبُتُ إلَّا بيقينٍ لا مَدْفعَ له ((التمهيد)) لابن عبد البر (17/58). .المسألة الثانية: الصَّلاة لغيرِ القِبلةِ من غيرِ اجتهادٍمَن صلَّى إلى جهةٍ غير القبلة مِن غيرِ اجتهادٍ، فلا تُجزِئُ صلاتُه، وعليه إعادتُها.الدَّليلُ مِنَ الإِجْماع:نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ عبد البرِّ قال ابنُ عبد البَرِّ: (وأجمَعوا على أنَّه مَن صلَّى إلى غير القِبلة من غير اجتهادٍ حمَلَه على ذلك، أنَّ صلاته غيرُ مجزئةٍ عنه، وعليه إعادتُها إلى القِبلة، كما لو صلَّى بغير طهارة) (التمهيد)) (17/54). ، والنوويُّ قال النوويُّ: (... المصلِّي إلى جِهة بغير اجتهاد، فإنَّه لا تصحُّ صلاتُه بالاتِّفاق) ((المجموع)) (1/204). . انظر أيضا: المَطلَب الأوَّل: حكمُ استقبالِ القِبلةِ في الصَّلاةِ. المَطلَبُ الثَّاني: استقبالُ عينِ الكَعبةِ. المَطلَب الثَّالث: الاستدلالُ على القِبلةِ. المَطلَب الخامس: المواضعُ التي يَسقُطُ فيها وجوبُ استقبالِ القِبلةِ.

الفَرْعُ الأَوَّلُ: مَن عَجَزَ عن مَعرفةِ مَوضعِهامَن تَحرَّى القِبلةَ ولم يتيقَّنْ بشيءٍ، فإنَّه يُصلِّي إلى أيِّ جِهةٍ شاء، وهذا مذهبُ المالكيَّة على المعتمَد [1476] ((الشرح الكبير)) للدردير (1/227)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/259). ، والحنابلة [1477] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/15)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/307). ، وقولٌ للحنفيَّة [1478] قال ابنُ عابدين: (عن فتاوى العتابي: تحرَّى فلم يقعْ تحرِّيه على شيء، قيل: يؤخِّر، وقيل: يُصلِّي إلى أربع جهات، وقيل: يُخيَّر) ((حاشية ابن عابدين)) (1/270). ، واختارَه ابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (ولو اشتبهت عليهم القبلةُ اجتهدوا في الاستدلال عليها، فلو عَمِيت الدلائلُ صلَّوا كيفما أمكنَهم، كما قد رُوي أنَّهم فعلوا ذلك على عهد رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) ((مجموع الفتاوى)) (28/389). .الأدلَّة:أوَّلًا: من الكِتاب1- قال اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286].2- وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16].ثانيًا: القياسُ على مسألةِ فاقدِ الطَّهورينِ - الماء والتراب - فإنَّه يُصلِّي على حسَبِ حالِه ولا يُعيدُ؛ لأنَّه منتهى طاقتِه ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/307). .الفَرْعُ الثَّاني: مَن عجَزَ عن استقبالِ القِبلةِمَن عجَزَ عن استقبالِ القبلةِ، فإنَّه يُصلِّي على حسبِ حالِه، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة [1481] ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/84)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/270). ، والمالكيَّة [1482] ((التاج والإكليل)) للمواق (1/507)، ((الشرح الكبير)) للدردير (1/224). ، والشافعيَّة [1483] ((المجموع)) للنووي (3/243)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/304). ، والحنابلة [1484] ((الإنصاف)) للمرداوي (2/5)، ((كشاف القناع)) للنووي (1/302). .الأدلة من الكتاب:1- قال الله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286].2- وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16].الفَرْعُ الثَّالِثُ: الصَّلاةُ في شِدَّةِ الخوفِتجوزُ الصَّلاةُ في شِدَّةِ الخوفِ إلى غيرِ جِهةِ القبلةِ إذا اضطرَّ إلى تَرْكها، ويُصلِّي حيث أمْكَنَه.الأدلَّة:أوَّلًا: من الكِتابقال الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة: 239].ثانيًا: عن ابنِ عُمرَ رضى الله عنهما، قال: (فإنْ كانَ خوفٌ هو أشدُّ مِن ذلك صَلَّوا رجالًا قيامًا على أقدامهم، أو رُكبانًا مستقبلي القبلةِ أو غيرَ مستقبليها). قال نافعٌ: لا أرَى ابنَ عُمرَ ذَكَر ذلِك إلَّا عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1485] رواه البخاري (4535). .ثالثًا: من الإجماعنقَل الإجماعَ على ذلِك: ابنُ عبدِ البرِّ [1486] وقال ابنُ عبد البَرِّ: (أجمَعوا على أنَّه لا يجوز لأحدٍ، صحيحٍ ولا مريضٍ أن يصلِّي إلى غير القبلة وهو عالمٌ بذلك في الفريضة، إلَّا في الخوف الشَّديد خاصَّةً) ((التمهيد)) (17/75). ، وابنُ بطَّالٍ [1487] وقال ابنُ بطَّال: (أجمَع العلماءُ أنَّه لا يجوز أن يُصلِّيَ أحدٌ فريضةً على الدابَّة من غير عُذر، وأنَّه لا يجوز له ترْكُ القِبلة، إلَّا في شدَّة الخوف، وفي النافلة في السَّفر على الدابَّة) ((شرح صحيح البخاري)) (3/90). وينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (2/575). ، والنوويُّ [1488] وقال النوويُّ: (وفيه دليلٌ على أنَّ المكتوبة لا تجوزُ إلى غير القِبلة، ولا على الدابَّة، وهذا مُجمَع عليه إلَّا في شدَّة الخوف) ((شرح النووي على مسلم)) (5/211). .رابعًا: أنَّه شرْطٌ اضطُرَّ إلى ترْكِه، فصلَّى مع ترْكه كالمريضِ إذا عجَزَ عن القيامِ [1489] ((المجموع)) للنووي (3/230). .خامسًا: أنَّه قد تَحقَّق العُذر، فأشبه حالةَ الاشتباهِ [1490] ((الهداية)) للمرغيناني (1/47). . انظر أيضا: المَطلَب الأوَّل: حكمُ استقبالِ القِبلةِ في الصَّلاةِ. المَطلَبُ الثَّاني: استقبالُ عينِ الكَعبةِ. المَطلَب الثَّالث: الاستدلالُ على القِبلةِ. المَطلَب الرابع: الاجتهادُ في تحديدِ القِبلةِ.

الفَرْعُ الأَوَّلُ: صلاةُ النافلةِ على الراحلةِ في السَّفرِتجوزُ صلاةُ النافلةِ على الراحلةِ في السَّفر، حيثما توجَّهت به.الأدلَّة:أوَّلًا: من الكِتابقال الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115].وَجْهُ الدَّلالَةِ: قال ابنُ عمر وطائفةٌ: نزلت هذه الآيةُ في الصَّلاةِ على الراحلةِ قال ابنُ عبد البَرِّ: (قولُ مَن قال: إنَّها نزلت في الصلاة على الراحلة قولٌ حسن أيضًا تُعضِّده السنَّة في ذلك) ((التمهيد)) (17/73). . ثانيًا: من السُّنَّة1- عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما: ((أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُصلِّي سُبحتَه السُّبحة: صلاة التطوُّع والنافلة، وإنما خُصَّت النافلةُ بالسُّبحة، وإنْ شاركتْها الفريضةُ في معنى التسبيح؛ لأنَّ التسبيحاتِ في الفرائض نوافلُ، فقيل لصلاة النافلة: سبحة؛ لأنَّها نافلة كالتسبيحاتِ والأذكار في أنَّها غيرُ واجبة. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/331)،. حيثما توجَّهتْ به ناقتُه)) رواه البخاري (1105)، ومسلم (700) واللفظ له. .2- عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما، قال: ((كان رسولُ الله يُصلِّي وهو مُقبلٌ من مكَّةَ إلى المدينةِ على راحلتِه حيث كان وجهُه؛ قال: وفيه نزلت: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115])) رواه مسلم (700). .3- عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما، قال: ((كان النبيُّ عليه السلام يُصلِّي في السفرِ على راحلتِه، حيث توجَّهتْ به، يُومِئ إيماءً صلاةَ اللَّيلِ، إلا الفرائض، ويُوتِر على راحلتِه)) رواه البخاري (1000)، ومسلم (700). .4- عن عامرِ بنِ رَبيعةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: ((رأيتُ رسولِ اللهِ يُصلِّي على راحلتِه حيث توجَّهتْ به)) رواه البخاري (1093) واللفظ له، ومسلم (701) بمعناه. .5- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: ((كان رسولُ اللهِ يُصلِّي على راحلتِه حيثُ توجَّهتْ به - أي في جِهة مَقصدِه - فإذا أراد الفريضةَ نزَلَ فاستقبلَ القِبلةَ)) [1497] رواه البخاري (400)، ومسلم (540). .ثالثًا: من الإجماعنقَل الإجماعَ على ذلك: الترمذيُّ قال ابنُ قُدامة: (لا نعلمُ خلافًا بين أهل العِلم في إباحة التطوُّع على الراحلة في السَّفر الطويل. قال الترمذي: هذا عند عامَّة أهل العلم) ((المغني)) (1/315). ، وابنُ عبد البرِّ قال ابنُ عبد البَرِّ: (لا خلافَ بين الفقهاء في جواز صلاة النافلة على الدابَّة حيث توجَّهت براكبها في السفر) ((الاستذكار)) (2/255). وقال أيضًا: (وقد ذَكَر في هذا الحديث وغيره جماعةُ الرواة أنَّ ذلك في التطوُّع دون المكتوبة، وهو أمر مجتمعٌ عليه؛ لأنَّه لا يجوز لمصلِّي الفرض أن يدع القبلة عامدًا بوجه من الوجوه، إلا في شدة الخوف راجلًا أو راكبًا، فإن لم يكن خائفًا شديدَ الخوف هاربًا لم يكُن له أن يصلِّي راكبًا) ((التمهيد)) (17/74). وقال أيضًا: (المحفوظُ في حديث ابن عمر: «أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يصلِّي على راحلته تطوعًا في السفر حيث توجَّهت به، وتلا ابن عمر؛ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ **البقرة: 115**»، وهذا معناه في النافلة بالسُّنة إنْ كان أمنًا، وأما الخوف فتُصلَّى الفريضة على الدابة؛ لقول الله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا **البقرة: 239**، وهذا كله مجتمَعٌ عليه من فُقهاء الأمصار وجمهور العلماء) ((التمهيد)) (20/132)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/315). ، وابنُ قُدامةَ قال ابنُ قُدامة: (لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في إباحة التطوُّع على الراحلة في السَّفر الطويل) ((المغني)) (1/315). ، والنوويُّ قال النوويُّ: (في هذه الأحاديث جوازُ التنفُّل على الراحلة في السَّفر حيث توجَّهت، وهذا جائزٌ بإجماع المسلمين) ((شرح النووي على مسلم)) (5/210). ، وابنُ تَيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (فإنه قد ثبَت في الصحاح أنه كان يتطوَّع على راحلته في السَّفر قبل أيِّ وجه توجَّهت به. وهذا ممَّا اتَّفق العلماء على جوازه، وهو صلاةٌ بلا قيام، ولا استقبال للقِبلة) ((مجموع الفتاوى)) (21/285). ، والعينيُّ قال العينيُّ: (أمَّا التطوُّع على الراحلة فليس فيه خلاف، وأمَّا الوتر فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوزُ الوترُ على الراحلة) ((شرح أبي داود)) (5/92). ، والشوكانيُّ قال الشوكانيُّ: (الحديث يدلُّ على جواز التطوُّع على الراحلة للمسافر قبل جِهة مقصده، وهو إجماعٌ) ((نيل الأوطار)) (2/168). .الفَرْعُ الثَّاني: صلاةُ الفريضةِ على الراحلةِلا تجوزُ صلاةُ الفريضةِ على الراحلةِ من غيرِ عُذرٍ مع اختلافِهم في الأعذار المجيزة لذلك: فالأحنافُ ذكروا من الأعذار: المطر، المرض، الخوف من اللُّصوص ومن السَّبُع، كون الدابة جموحًا، كون المسافِر لا يُمكنه الركوب إذا نزَل. والمالكيَّة نصُّوا على: الخوف، والمرض. والشافعيَّة ذكروا: الخوف من الانقطاع عن الرُّفقة لو نزل للصلاة، أو خاف على نفْسه أو ماله، لكنَّهم أوجبوا عليه الإعادة. والحنابلة ذكروا: الخوف، المطر، الوحل، الثلج، البرد، الخوف من الانقطاع عن الرُّفقة، الخوف من السَّبُع، حصول ضَرَر بالمشي. ، وذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/41)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/5). قال العينيُّ: (وفي "خلاصة الفتاوى": أمَّا صلاة الفرْض على الدابة لعُذر فجائزةٌ، ومن الأعذار: المطرُ؛ عن محمَّد: إذا كان الرجل في السفر فأمطرت السماءُ لم يجِد مكانًا ما يشاء ينزل للصلاة، فإنَّه يقف على الدابة مستقبلَ القبلة ويُصلِّي بالإيماء إذا أمكنه إيقافُ الدابة، فإنْ لم يمكنه يُصلِّي مستدبرَ القبلة، وهذا إذا كان الطينُ بحال يصيب وجهَه، فإن لم تكُن هذه المثابة لكن الأرض نديَّة صلَّى هنالك، ثم قال: وهذا إذا كانت الدابةُ تسير بنفسها، أمَّا إذا سيَّرها صاحبها فلا يجوزُ التطوُّع ولا الفرض. ومن الأعذار: اللصُّ، والمرض، وأمَّا في البادية فتجوز ذلك، كذا ذكر صاحب "الخلاصة". ومن الأعذار: أن تكون الدابة جموحًا، ولو نزَل لا يُمكنه الركوبُ، ومن الأعذار: كون المسافر شيخًا كبيرًا لا يجِد مَن يُركبه إذا نزل، وفيها: الخوفُ من السَّبُع. وفي المحيط: تجوز الصلاة على الدابَّة في هذه الأحوال، ولا تلزمه الإعادةُ بعد زوال العذر) ((البناية)) (2/545). ، والمالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/205)، وينظر: ((المدخل)) لابن الحاج (4/51). قال التنُّوخي: (ومن اضطرَّ إلى الصلاة على الدابة لعدم القُدرة على النزول؛ إمَّا لمرض أو لخوفه، صلَّى الفريضة عليها، فإنْ قدَر على التحوُّل إلى القبلة تحوَّل، وإلَّا سقطت في حقِّه) ((التنبيه على مبادئ التوجيه)) (1/430). ، والشافعيَّة قال النوويُّ: (ولا يجوزُ فِعل الفريضة على الراحلة من غير ضرورة، فإنْ خاف انقطاعًا عن رفقته لو نزَل لها، أو خاف على نفْسه أو ماله، فله أن يُصلِّيَها على الراحلة، وتجب الإعادة) ((روضة الطالبين)) (1/209)، ((فتح العزيز)) للرافعي (3/208). ، والحنابلة قال البُهوتيُّ: ("وتصحُّ صلاة فرض على راحلة واقفة أو سائرة خشيةَ تأذٍّ بوحلٍ أو مطر، ونحوه" كثلج وبرد... "كخائفٍ بنزوله على نفْسه من عدو ونحوه" كسَبُع؛ قال في الاختيارات: تصحُّ صلاة الفرض على الراحلة خشيةَ الانقطاع عن الرفقة، أو حصول ضرر بالمشي) ((كشاف القناع)) (1/502). ويُنظر: ((الإقناع)) للحجاوي (1/178)، ، وحُكي الإجماعُ على ذلك قال ابنُ بطَّال: (أجمع العلماء أنه لا يجوز أنْ يُصلِّي أحد فريضةً على الدابَّة من غير عُذر) ((شرح صحيح البخاري)) (2/90). وحكَى ابن عبد البر، والنووي، الإجماعَ على عدم جوازِ صلاة الفريضة على الراحلة إلَّا في حالة شدَّة الخوف؛ قال ابنُ عبد البَرِّ: (وقد انعقد الإجماعُ على أنَّه لا يجوزُ أن يُصلِّي أحدٌ فريضة على الدابة في غير شدَّة الخوف، فكفى بهذا بيانًا وحجَّةً) ((الاستذكار)) (2/255). وقال النوويُّ: (وفيه دليلٌ على أنَّ المكتوبة لا تجوز إلى غير القبلة ولا على الدابة، وهذا مُجمَع عليه إلَّا في شدَّة الخوف) ((شرح النووي على مسلم)) (5/211). .الأدلَّة:أوَّلًا: من الكِتابقال الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 238-239].وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ معنى الآيةِ: إذا وقَع الخوفُ فليصلِّ الرجلُ على كلِّ جِهةٍ قائمًا أو راكبًا قال ابنُ حجر: (في تفسير الطبري بسند صحيحٍ عن مجاهد: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا: إذا وقع الخوف فليصلِّ الرجلُ على كلِّ جِهة قائمًا أو راكبًا) ((فتح الباري)) (2/432)، ويُنظر: ((الروضة الندية)) لصدِّيق حسن خان (1/149). .ثانيًا: من السُّنَّةعن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما قال: ((كان النبيُّ عليه السلام يُصلِّي في السفرِ على راحلتِه، حيث توجَّهتْ به، يُومِئ إيماءً صلاةَ اللَّيلِ، إلَّا الفرائض، ويُوتِرُ على راحلتِه)) رواه البخاريُّ (1000)، ومسلم (700). .ثالثًا: من الآثار1- عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما قال: (إذا اختَلَطوا - يعني في القِتالِ - فإنَّما هو الذِّكرُ وأشارَ الرأسِ) رواه البخاري (943) مختصرا، والطبريُّ في ((تفسيره)) (5/246)، والبيهقيُّ (3/255) (6235). قال الألبانيُّ في ((أصل صفة الصلاة)) (1/68): أخرجه الطبريُّ بإسنادِ البخاري. . 2- عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما، قال: (فإنْ كان خوفٌ أشدُّ من ذلك صَلَّوْا رِجالًا قِيامًا على أقدامهم، أو رُكبانًا مستقبلي القبلةِ وغيرَ مستقبليها)، وفي روايةٍ لمسلم: أنَّ ابنَ عُمرَ قال: (فإنْ كان خوفٌ أكثرُ من ذلك فصلِّ راكبًا، أو قائمًا، تومئ إيماءً) [1514] رواه البخاري (4535) واللفظ له، ومسلم (839). والرِّواية الثانية: رواها مسلم (839). .الفَرْعُ الثَّالِثُ: الصَّلاةُ على السَّفينةِتجوزُ صلاةُ الفريضةِ على السَّفينةِ في الجملةِ.الأدلَّة:أوَّلًا: من السُّنَّةعن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما قال: ((سُئِل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الصَّلاة في السَّفينة؟ فقال: صَلِّ فيها قائمًا إلَّا أن تخافَ الغرقَ)) [1515] رواه الحاكم (1/409)، والبيهقي (3/155) (5698). حسَّنه البيهقيُّ، وصحَّحه الألبانيُّ على شرْط مسلم في ((أصل صفة الصلاة)) (1/101). .ثانيًا: من الإجماعنقَلَ الإجماعَ على ذلك: النوويُّ قال النوويُّ: (...كالسَّفينة... يصحُّ فيها الفريضةُ بالإجماع) ((شرح النووي على مسلم)) (5/211). ، وابنُ الملقِّن قال ابن الملقِّن: (...السَّفينة... تصحُّ فيها الفريضةُ بالإجماع) ((الإعلام)) (2/485). ، والصنعانيُّ قال الصنعانيُّ: (...السَّفينة... الصلاة تصحُّ فيها إجماعًا) ((سبل السلام)) (1/135). ، والشوكانيُّ قال الشوكانيُّ: (تصحُّ في السَّفينة بالإجماع) ((نيل الأوطار)) (2/166). ووقَع خلافٌ في الصلاة في السَّفينة إذا قدَر على الخروجِ منها؛ قال شمسُ الدِّين ابن قدامة: ("ولا تصحُّ الصلاةُ في السفينة قاعدًا لقادرٍ على القيام"، اختلَف قوله في الصَّلاة في السفينة مع القُدرة على الخروج، على رِوايتين: إحداهما: لا يجوزُ؛ لأنَّها ليستْ حالَ استقرار، أشبه الصلاةَ على الراحلة...) ((الشرح الكبير)) (2/89). .ثالثًا: أنَّ ذلك إنَّما يجوزُ للحاجةِ إلى ركوبِ البحرِ، وتعذُّرِ العدولِ في أوقاتِ الصَّلاةِ عنه قال ابنُ رجب: (إنَّما افتتح هذا الباب بذِكر الصلاة في السَّفينة؛ لأنَّ المصلِّي في السفينة لا يمكنه الصلاةُ على التراب، ولا على وجه الأرض، وإنَّما يُصلي على خشب السفينة، أو ما فوقه من البُسُط أو الحصير أو الأمتعة والأحمال التي فيها. ولهذا المعنى - والله أعلم - رُوي عن مسروق ومحمد بن سيرين: أنَّهما كانَا يحملان معهما في السفينة لبِنةً أو آجُرَّةً يسجدان عليها، والظاهر: أنَّهما فعلَا ذلك لكراهتهما السجودَ على غير أجزاء الأرض، أو أن يكون اختارَا السجود على اللبِنة على الإيماء، كما اختار قومٌ من العلماء للمريض أن يسجُد على وسادة ونحوها ولا يُومئ، ورَوى حمَّاد بن زيد، عن أنس بن سيرين، أنَّ أنس بن مالك صلَّى بهم في سفينة على بُساط. وقال حرب: قلتُ لأحمد في الصلاة في السَّفينة: يسجدون على الأحمال والثِّياب، ونحو ذلك؟ فسهَّل فيه. قال: وقال إسحاقُ: يُصلِّي فيها قائمًا على البسط) ((فتح الباري)) (2/245)، وينظر: ((الشرح الكبير)) للرافعي (3/209). .الفَرْعُ الرابع: الصَّلاةُ في الطَّائِرَةِتجوزُ صلاةُ الفريضةِ على الطائرةِ، مع القيامِ بأركانِها حسَبِ الاستطاعةِ، ويدورُ معها حيثُ دارتْ مِن أجلِ استقبالِ القِبلةِ، وهذا اختيارُ ابنِ باز قال ابن باز: (أمَّا إن كان السفر طويلًا، فإنَّه يُصلي في الطائرة، أو في القطار- والحمد لله- ولا يترك الصلاة حتى يخرجَ الوقتُ؛ يُصلِّيها على حسب طاقته إلى القبلة، ويدور مع القطارِ، ويدور مع الطائرة حيث دارت، ويُصلِّي قائمًا إن استطاع، فإن لم يستطع صلى جالسًا، يدور مع القِبلة مثل صاحب السَّفينة، صاحب الباخرة، كلُّ منهم مأمور بطاقته) ((فتاوى نور على الدرب)) (13/78). وقال أيضًا: (الواجِبُ على المسلِمِ إذا كان في الطائِرَة، أو في الصحراء أن يجتهِدَ في معرفة القبلة بسؤالِ أهْلِ الخبرة، أو بالنَّظَر في علامات القبلة حتى يصليَ إلى القبلة على بصيرةٍ، فإن لم يتيسَّر العلم بذلك اجتهَدَ وتحرى جهةَ القِبلةِ وصلى إليها ويُجْزِئُه ذلك، ولو بان بعد ذلك أنه أخطأَ القبلة؛ لأنه قد اجتهد واتَّقى الله ما استطاع، ولا يجوز له أن يصلِّيَ الفريضة في الطائرة، أو في الصحراء بغير اجتهادٍ، فإن فعل فعليه إعادةُ الصلاة، لكونه لم يتَّقِ الله ما استطاع ولم يجتهِدْ) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (30/188). ، وابنِ عُثَيمين قال ابنُ عُثَيمين: (ولهذا نرى أنَّ الصلاة على الطائرة صحيحةٌ مطلقًا، ولو كان ذلك مع سَعة الوقت، ولكن يجب أن يفعل الواجباتِ من الاستقبالِ، والسجود، والقيام، والقعود) ((الشرح الممتع)) (4/345). وقال أيضًا: (حُكم الصلاة فيما إذا تغيَّر اتجاهُ الطائرة أن يستديرَ المصلِّي في أثناءِ صَلاتِه إلى الاتجاهِ الصَّحيحِ, كما قال ذلك أهلُ العِلْم في السفينة في البحر, أنَّه إذا تغيَّر اتجاهُها فإنَّه يتَّجِه إلى القبلة، ولو أدَّى ذلك إلى الاستدارة عِدَّة مرات, الواجِبُ على قائد الطائرة إذا تغيَّر اتجاهُ الطَّائِرَة أنْ يقول للنَّاسِ قد تغيَّر الاتجاه فانحرِفوا إلى الاتِّجاه الصَّحيحِ, هذا في صلاة الفريضةِ, أمَّا النافلة في السَّفر على راحِلَتِه أينما توجَّهَتْ به, كما في حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (15/416). .الأدلَّة:أوَّلًا: من الكِتابقال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16].ثانيًا: من السُّنَّةعن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتُوا منه ما استطعتُم)) [1523] رواه البخاري (7288) واللفظ له، ومسلم (1337). .ثالثًا: قياسًا على هيئةِ الصَّلاةِ على السَّفينةِ ((فتاوى نور على الدرب)) (13/78)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (15/416). . انظر أيضا: المَطلَب الأوَّل: حكمُ استقبالِ القِبلةِ في الصَّلاةِ. المَطلَبُ الثَّاني: استقبالُ عينِ الكَعبةِ. المَطلَب الثَّالث: الاستدلالُ على القِبلةِ. المَطلَب الرابع: الاجتهادُ في تحديدِ القِبلةِ.

الفَرْعُ الأول: الصَّلاةُ في جوفِ الكعبةِتجوزُ الصَّلاةُ في جوفِ الكعبةِ؛ الفريضةُ والنافلةُ سواءٌ، وهذا مذهبُ الحنفيَّة [1525] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/250)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/121). ، والشافعيَّة [1526]  ((المجموع)) للنووي (3/194)، وينظر: ((الشرح الكبير)) للرافعي (3/220). ، وهو قولٌ للمالكيَّة ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/166). ، وروايةٌ عن الحنابلة [1528] ((الإنصاف)) للمرداوي (1/349). ، واختاره ابنُ حزمٍ قال ابنُ حزمٍ: (مسألة: والصلاة جائزةٌ على ظهر الكعبة، وعلى أبي قُبَيس، وعلى كلِّ سقف بمكَّةَ، وإنْ كان أعلى من الكعبة، وفي جوف الكعبة أينما شئتَ منها، الفريضة والنافلة سواءٌ) ((المحلى)) (2/398). ، وصوَّبه ابنُ عبد البرِّ قال ابنُ عبد البَرِّ: «والصَّواب من القول في هذا الباب عندي قولُ مَن أجاز الصلاة كلَّها في الكعبة إذا استقبل شيئًا منها؛ لأنَّه قد فعَل ما أمر به ولم يأتِ ما نهي عنه؛ لأنَّ استدبارها هاهنا ليس بضدِّ استقبالها؛ لأنَّه ثابتٌ معه في بعضها يثبت مع ضدِّه ومعلوم أنَّ المأمور باستقبال الكعبة لم يُؤمَر باستقبال جميعها، وإنما توجه الخطاب إليه باستقبال بعضها، والمصلِّي في جوفها قد استقبل جهةً منها وقطعةً وناحيةً، فهو مستقبلٌ لها بذلك، وقد ثبت عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه صلَّى فيها ركعتين وهو المبيِّن عن الله مرادَه، وكل موضع يجوزُ فيه صلاةُ النافلة جازتْ فيه صلاةُ الفريضة قياسًا ونظرًا» ((التمهيد)) (15/319 - 320). ، ونُسِب إلى جمهورِ العُلماءِ [1531] قال الكاسانيُّ: (فأمَّا إذا صلَّوا في جوف الكعبة، فالصلاة في جوف الكعبة جائزةٌ عند عامَّة العلماء؛ نافلة كانت أو مكتوبة، وقال مالك: لا يجوز أداءُ المكتوبة في جوف الكعبة) ((بدائع الصنائع)) (1/121). وقال النوويُّ: (يجوزُ عندنا أن يُصلِّي في الكعبة الفرضَ والنفل، وبه قال أبو حنيفة، والثوريُّ، وجمهور العلماء) ((المجموع)) (3/194). ، وهو قولُ ابن باز قال ابن باز: (الصلاة في الكعبة جائزةٌ، بل مشروعة، فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى في الكعبة لَمَّا فتَح مكة، دخَلَها وصلَّى فيها ركعتين، وكبَّر ودعا في نواحيها عليه الصَّلاة والسَّلام، وجعل بينه وبين الجدار القريب منها حين صلَّى ثلاثةَ أذرع عليه الصلاة والسلام، وقال لعائشة في حجَّة الوداع لَمَّا أرادت الصلاة في الكعبة: «صلِّي في الحِجر؛ فإنه من البيت»، لكن ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنه لا يُصلي فيها الفريضة، بل تُصلى في خارجها؛ لأنَّها هي القبلة فتُصلي الفريضة في خارجها، وأما النافلة فلا بأس؛ لأنَّ الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى فيها النافلة، ولم يصلِّ فيها الفريضة. والصواب: أنه لو صلَّى فيها الفريضة أجزأه وصحَّت، لكن الأفضل والأَوْلى: أن تكون الفريضة خارجَ الكعبة؛ خروجًا من الخلاف، وتأسيًا بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه صلَّى بالناس الفريضةَ خارج الكعبة، وتكون الكعبة أمامَ المصلِّي في جميع الجهات الأربع في النافلة والفريضة، وعليه أن يُصلي مع الناس الفريضةَ، ولا يُصلِّي وحده) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (10/422). ، وابنِ عُثَيمين [1533] قال ابنُ عُثَيمين: (فالصَّحيح في هذه المسألة: أنَّ الصلاة في الكعبة صحيحةٌ فرضًا ونَفْلًا) ((الشرح الممتع)) (2/258). . الأدلَّة:أوَّلًا: من الكِتابقال الله تعالى: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125].وَجْهُ الدَّلالَةِ:في قوله: طَهِّرَا بَيْتِيَ دليلٌ على جوازِ الصَّلاة فيه؛ إذ لا معنى لتطهيرِ المكانِ لأجْلِ الصَّلاة، وهي لا تجوزُ في ذلِك المكانِ [1534] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/250). .ثانيًا: من السُّنَّة1- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخَل الكعبةَ وأسامةُ بنُ زيد، وبلالٌ، وعثمانُ بنُ طَلحةَ الحَجَبيُّ فأَغْلقَها عليه، ومكَث فيها، فسألتُ بلالًا حين خرَج: ما صنَعَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: جعَل عمودًا عن يسارِه، وعمودًا عن يمينِه، وثلاثةَ أعمدةٍ وراءَه، وكان البيتُ يومئذٍ على سِتَّة أعمدة، ثم صلَّى)) رواه البخاري (505)، ومسلم (1329). .2- عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُعطيتُ خمسًا لم يُعطهنَّ أحدٌ قبلي: نُصرتُ بالرعبِ مسيرةَ شَهر، وجُعِلتْ لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا؛ فأيُّما رجلٍ مِن أمَّتي أدركَتْه الصَّلاةُ فليصلِّ...)) [1536] رواه البخاري (335)، ومسلم (521). .وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ باطنَ الكعبةِ أطيبُ الأرضِ وأفضلُها؛ فهي أفضلُ المساجدِ وأَوْلاها بصلاةِ الفرضِ والنافلةِ [1537] ((المحلى)) لابن حزم (2/400). .3- عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: ((قلتُ: يا رسولَ الله، أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرض أوَّلُ؟ قال: المسجدُ الحرامُ، قال: قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: المسجدُ الأقصى، قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: أَرْبَعُونَ سَنةً، ثم أينما أدركتْك الصَّلاةُ بعدُ فَصلِّهْ؛ فإنَّ الفضلَ فيه)) رواه البخاري (3366)، ومسلم (520). .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ هذا نصٌّ جليٌّ في أنَّ الكعبةَ مسجدٌ، وما عَلِم أحدٌ مسجدًا تحرُم فيه صلاةُ الفرضِ [1539] ((المحلى)) لابن حزم (2/401). .4- عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عَنْه: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((صلاةٌ في مَسجِدي هذا خيرٌ من ألْفِ صلاةٍ فيما سواه، إلَّا المسجدَ الحرامَ)) [1540] رواه البخاري (1190)، ومسلم (1394). .ثالثًا: أنَّ الواجب استقبالُ شطرِه لا استيعابُه، وقد وُجِد ذلك فيمَن صلَّى فيها [1541] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/250). .رابعًا: أنَّه صلَّى متوجهًا إلى بعضِ أجزاء الكعبة، فتصحُّ صلاتُه، كالنافلةِ، وكما لو توجَّه إليها من خارجٍ ((الشرح الكبير)) للرافعي (3/220). .الفَرْعُ الثاني: الصَّلاةُ على ظَهرِ الكعبةِالصَّلاةُ على ظهرِ الكعبةِ صحيحةٌ، وهو مذهبُ الحنفيَّة [1543] )، إلَّا أنَّهم قالوا: تكره؛ لِمَا فيه من ترك التعظيم. ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/250)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/121). ، والشافعيَّة [1544] إلَّا أنَّهم اشترطوا أن تكون بين يديه سترةٌ متَّصلة بها. ((المجموع)) للنووي (3/197)، وينظر: ((البيان)) للعمراني (2/137). ، وروايةٌ عند الحنابلة [1545] ((الإنصاف)) للمرداوي (1/349). ، وهو قولُ محمَّد بن عبد الحَكمِ من المالكيَّة [1546] ((شرح التلقين)) للمازري (1/485). ومذهبُ الظاهريَّة [1547] نسَبه النوويُّ إلى داود الظاهري، يُنظر: ((المجموع)) للنووي (3/199). وقال ابنُ حزمٍ: (مسألة: والصلاة جائزةٌ على ظهر الكَعبة، وعلى أبي قُبَيس، وعلى كلِّ سقف بمكَّةَ، وإنْ كان أعلى من الكعبة، وفي جوفِ الكعبة أينما شئتَ منها، الفريضةُ والنافلة سواءٌ) ((المحلى)) (2/398). ، واختيارُ ابنِ باز قال ابن باز: (أمَّا سطحُها فلا بأس أن يُصلِّيَها فيه، لكن ينبغي ألَّا يفعلَ ذلك؛ لأنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما فعَل ذلك ولا أصحابُه، ولأنَّ في الصعود على ظهرها خَطرًا؛ ربما سقط، وربما جرَى عليه شيءٌ يسوءُه، فينبغي له ألَّا يصعد إلى سطحها، ولا يُصلي في سطحها، لكن لو صلَّى نافلةً صحَّت إلى أيِّ جهة؛ لأنَّ الاعتمادَ على الهواء لا على الجُدران، فالقبلة هي هواءُ الكعبة، لا محل الكعبة، فلو أنَّه لو قدَّر اللهُ هُدِّمت صحَّتْ صلاةُ النَّاسِ إلى جِهة هوائِها إلى محلِّها، فلو صلَّى فوق السطح صحَّت صلاتُه، ولكنْ لا ينبغي له أن يفعل ذلك؛ لعدم فِعل النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والأخيارِ ذلك) ((الموقع الرسمي لابن باز)). ، وابنِ عُثَيمين [1549]- يُنظر: ((الشرح الممتع)) (2/258). . وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّ القبلةَ هي البُقعة، والهواء إلى عَنانِ السماءِ دون البِناءِ؛ فالبناءُ لا حُرمةَ له لنفْسِه، بدليل أنَّه لو نُقِل إلى عرصةٍ أُخرى وصُلِّي إليه لا يجوز، بل كانتْ حُرمتُه لاتِّصالِه بالعَرْصَةِ المحترمةِ ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/121)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي، مع ((حاشية الشلبي)) (1/250). .ثانيًا: أنَّه مَن صلَّى على جبلِ أبي قُبَيسٍ جازتْ صلاتُه بالإجماعِ ولا بناءَ بين يديه مِن الكَعبةِ [1551] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/121). . انظر أيضا: المَطلَب الأوَّل: حكمُ استقبالِ القِبلةِ في الصَّلاةِ. المَطلَبُ الثَّاني: استقبالُ عينِ الكَعبةِ. المَطلَب الثَّالث: الاستدلالُ على القِبلةِ. المَطلَب الرابع: الاجتهادُ في تحديدِ القِبلةِ.