تَنعقِدُ الوصيَّةُ بكلِّ لفظٍ يَدلُّ على معْناها [55] قسَّم بعضُهم اللفظَ إلى صَريحٍ وغيرِ صريحٍ؛ فالصريحُ هو ما اشتَمَلَ على لفظِ الوصيَّةِ، وغيرُ الصريحِ هو ما يُفهَمُ منه الوصيَّةُ لا باللفظِ، ولكنْ بقَرينةٍ تدُلُّ عليه. يُنظر: ((العناية)) للبابَرْتي (10/412)، ((عقد الجواهر الثمينة)) لابن شاس (3/1223)، ((الشرح الكبير للدَّرْدِير وحاشية الدسوقي)) (4/423)، ((الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع)) للشربيني (2/397)، ((حاشية البُجَيْرمي على الخطيب)) (3/347)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (4/345). ، وذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنفيَّةِ [56] ((العناية)) للبابَرْتي (10/412)، ((الفتاوى الهندية)) (6/90). ، والمالكيَّةِ [57] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدَّرْدِير)) (4/423)، ((منح الجليل)) لعُلَيْش (9/506). ، والشَّافعيَّةِ [58] نصَّ الشافعيَّةُ على أنَّ الوصيَّةَ إذا كانت بلَفظِ الكِنايةِ يُشترَطُ فيها النِّيةُ، وهو ما احتَمَلَ الوصيَّةَ وغيرَها، كقولِه: عيَّنتُ له هذا، أو هذا له. ((روضة الطالبين)) للنووي (6/140)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/52)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (6/64). ، والحنابلةِ [59] ((الإقناع)) للحَجَّاوي (3/52)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (4/345). .الأدِلَّةُ:أولًا: مِن السُّنةِعن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: ((ما حقُّ امرئٍ مُسلمٍ له شَيءٌ يُوصِي فيه يَبيتُ ليلتَينِ، إلَّا ووَصيَّتُه مَكتوبةٌ عندَه)) [60] أخرجه البخاري (2738) واللفظُ له، ومسلم (1627). .ثانيًا: أنَّ اللَّفظَ إذا فُهِمَ منه الوصيَّةُ بوَضْعٍ أو قَرينةٍ، يَحصُلُ الاكتِفاءُ به؛ لأنَّ ما لم يكُنْ له حَدٌّ في اللُّغةِ أو في الشَّرعِ، فالمَرجعُ فيه إلى عُرفِ الناسِ [61] ((منح الجليل)) لعُلَيْش (9/506)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (29/16). . انظر أيضا: المطلبُ الثاني: الوصيَّةُ بالإشارةِ. المطلبُ الثالثُ: الوصيَّةُ بالكتابةِ .

تصِحُّ الوصيَّةُ بالكتابةِ إذا وُجِدَ خَطُّه في دَفترِه أو عُرِفَ ببيِّنةٍ أنَّها كِتابتُه، ولا يُشترَطُ الإشهادُ، وهو مَذهبُ الحنابلةِ [84] ((المبدع)) لبرهان الدِّين ابن مفلِح (6/7)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (4/337)، ((مطالب أولي النهى)) للرُّحَيْباني (4/445). ، وهو اختيارُ ابنِ تَيميَّةَ [85] قال ابنُ تَيميَّةَ: (تُنفَّذُ الوصيَّةُ بالخطِّ المعروفِ، وكذا الإقرارُ إذا وُجِد في دَفترِه، وهو مَذهبُ الإمامِ أحمدَ). ((الفتاوى الكبرى)) (5/439). ، وابنِ القيِّمِ [86] قال ابنُ القيِّمِ: (قال القاضي: وثُبوتُ الخطِّ في الوصيَّةِ يَتوقَّفُ على مُعايَنةِ البيِّنةِ أو الحاكمِ لفِعلِ الكتابةِ؛ لأنَّها عمَلٌ، والشُّهادةُ على العملِ طَريقُها الرُّؤيةُ. وقولُ الإمامِ أحمدَ: «إنْ كان قد عُرِفَ خطُّه، وكان مَشهورَ الخطِّ؛ يُنفَّذ ما فيها» يَرُدُّ ما قاله القاضي؛ فإنَّ أحمدَ علَّق الحُكمَ بالمعرفةِ والشُّهرةِ، مِن غير اعتِبارِ لمُعايَنةِ الفِعلِ، وهذا هو الصحيحُ؛ فإنَّ القصْدَ حُصولُ العلمِ بنِسبةِ الخطِّ إلى كاتبِه، فإذا عُرِفَ ذلك وتُيقِّن كان كالعِلمِ بنِسبةِ اللَّفظِ إليه؛ فإنَّ الخطَّ دالٌّ على اللفظِ، واللفظَ دالٌّ على القصْدِ والإرادةِ). ((الطرق الحكمية)) (ص: 175). ، والصَّنعانيِّ [87] قال الصَّنْعانيُّ: (والتحقيقُ أنَّ المعتبَرَ مَعرفةُ الخطِّ، فإذا عُرِفَ خطُّ الموصِي عُمِلَ به، ومِثلُه خطُّ الحاكمِ، وعليه عمَلُ الناسِ قديمًا وحديثًا، وقد كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَبعَثُ الكتبَ يَدْعو فيها العِبادَ إلى اللهِ، وتقومُ عليهم الحُجَّةُ بذلك، ولم يَزَلِ الناسُ يَكتبُ بعضُهم إلى بعضٍ في المهمَّاتِ مِن الدِّينيَّاتِ والدُّنيويَّاتِ، ويَعمَلون بها، وعليه العملُ بالوِجادةِ؛ كلُّ ذلك مِن دون إشهادٍ، والحديثُ دليلٌ على الإيصاءِ بشَيءٍ يتعلَّقُ بالحقوقِ ونحوِها؛ لقوله: «له شَيءٌ يُريدُ أنْ يُوصِيَ»، وأما كَتْبُ الشَّهادتينِ ونحوِهما ممَّا جَرَت به عادةُ الناسِ، فلا يُعرَفُ فيه حديثٌ مَرفوعٌ). ((سُبل السلام)) (3/104). ، والشَّوْكانيِّ [88] قال الشَّوكانيُّ: (قوله: «مكتوبةٌ عندَ رأسِه» استُدِلَّ بهذا على جَوازِ الاعتمادِ على الكِتابةِ والخطِّ، ولو لم يَقترِنْ ذلك بالشَّهادةِ... وقد استَوفَينا الأدلةَ على جَوازِ العملِ بالخطِّ في الاعتِراضاتِ التي كتَبْناها على رِسالةِ الجلالِ في الهلالِ، فليُراجَعْ ذلك؛ فإنَّه مُفيدٌ). ((نيل الأوطار)) (6/44). ، وابنِ عُثيمينَ [89] قال ابنُ عُثيمين: (مِن فوائدِ الآيةِ: العمَلُ بالكِتابةِ، واعتمادُها حُجَّةً شرعيَّةً إذا كانت مِن ثقةٍ مَعروفٍ خَطُّه، ويُؤيِّدُ هذا قولُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «ما حقُّ امرئٍ مُسلمٍ له شَيءٌ يُريدُ أنْ يُوِصيَ فيه يَبيتُ لَيلتينِ، إلَّا وَوصيَّتُه مَكتوبةٌ عندَه»). ((تفسير الفاتحة والبقرة)) (3/417). وقال: (مِن فوائدِ الحديثِ: العمَلُ بالكتابةِ؛ لقولِه: «إلَّا ووَصيَّتُه مَكتوبةٌ عندَه». ومِن فَوائدِه: أنَّ الكتابةَ أبلَغُ في الحفظِ مِن السَّماعِ؛ وَجْهُه: أنَّه لم يقُلْ: إلَّا وقدْ أشهَدَ على وَصيَّتِه، بل قال: «مكتوبةٌ عنده»... قوله: «إلَّا ووَصيَّتُه مَكتوبةٌ»، لو قال قائلٌ: الحديثُ يدُلُّ على مُطلَقِ الكتابةِ، فهل هذا مُرادٌ؟ فالجوابُ: لا؛ المرادُ به الكتابةُ التي تَثبُتُ بها الوصيَّةُ، وما هي الكتابةُ التي ليست بوَصيَّةٍ؟ هي الكتابةُ المعروفةُ، أو الموثَّقةُ مِن طريقٍ يَحصُلُ به التوثيقُ، فلو أنَّ الشخصَ -مثلًا- كتَبَ وَصيَّةً، لكنَّ خطَّه غيرُ مَعروفٍ؛ فهل تُفيدُنا شَيئًا؟ لا؛ فلا بُد أنْ يكونَ خطُّه مَعروفًا أو مُوثَّقًا مِن قِبَلِ جهةٍ يَحصُلُ بها التوثيقُ؛ كالمحكمةِ، أو الإمارةِ، أو إمامِ الحيِّ، المهمُّ لا بُدَّ أنْ تكونَ الوصيَّةُ مَعروفةً أو مُوثَّقةً). ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (4/393). .الأدِلَّةُ:أولًا: مِن السُّنةِ1- عن عبدِ اللهِ بنِ عمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: ((ما حَقُّ امرِئٍ مسلِمٍ له شَيءٌ يُوصِي فيه يَبِيتُ ليلَتَينِ، إلَّا ووَصيَّتُه مكتوبةٌ عندَه)) [90] أخرجه البخاري (2738) واللفظُ له، ومسلم (1627). .وَجْهُ الدَّلالةِ: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لم يَذكُرْ أمرًا زائدًا على الكتابةِ؛ فدلَّ على الاكتِفاءِ بها [91] ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (4/337)، ((سُبل السلام)) للصَّنْعاني (3/103). .2- أنَّه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كتَبَ إلى عُمَّالِه وغَيرِهم [92] أخرجه البخاري (2664)، ومسلم (1868) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ، مُلزِمًا للعملِ بتلك الكتابةِ، وكذلك الخلفاءُ الراشِدون مِن بعْدِه [93] ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (4/337). .ثانيًا: لأنَّ الكتابةَ تُنبِئُ عنِ المقصودِ؛ فهي كاللفظِ [94] ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (4/337). .ثالثًا: أنَّ المعتبَرَ مَعرفةُ الخطِّ، فإذا عُرِفَ خَطُّ الموصِي عُمِلَ به، ومِثلُه خَطُّ الحاكمِ، وعليه عمَلُ الناسِ قديمًا وحديثًا، ويَعمَلون به مِن دونِ إشهادٍ [95] ((سُبل السلام)) للصنعاني (3/104). . انظر أيضا: المَطلبُ الأوَّلُ: الوصيَّةُ باللَّفظِ . المطلبُ الثاني: الوصيَّةُ بالإشارةِ.