يُباحُ أكْلُ المُحَرَّمِ إذا أُكرِهَ المسلمُ على أكْلِه [586] على خلافٍ بيْن العلماءِ في صِفَةِ الإكراهِ، فمِنهم مَن حَدَّه بالإكراهِ الَّذي يَخافُ المُكرَهُ فيه مِنَ القتلِ، ومِنهم مَن حَدَّه بالسَّجنِ والضَّربِ وقطْعِ العُضوِ. يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/176)، ((النوادر والزيادات)) لابن أبي زيد القَيرواني (10/247)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/370).   ، وذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّةِ [587] ((تبيين الحقائق)) للزَّيلَعي (5/181)، ((البحر الرائق)) لابن نُجَيم (8/80). ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/176).   ، والمالكيَّةِ [588] ((شرح الزُّرْقاني على مختصر خليل)) (4/155). ويُنظر: ((النوادر والزيادات)) لابن أبي زيد القَيرواني (10/247).   ، والشَّافعيَّةِ [589] ((روضة الطالبين)) للنَّووي (9/142)، ((نهاية المحتاج)) للرَّمْلي (8/159)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/306).   ، والحنابلةِ [590] ((الفروع)) لمحمد بن مُفلِح (10/97)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مُفلِح (9/92).   . الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكتاب1- قولُه تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل: 106].وجهُ الدَّلالةِ: أنَّه إذا جازَ للمُكرَهِ المُضطَرِّ أنْ يَنطِقَ بكلمةِ الكفرِ وقلْبُه مُطمئِنٌّ بالإيمانِ؛ جازَ له أكْلُ المَيْتةِ وغيرِها مِنَ المُحرَّماتِ بالإكراهِ مِن بابِ أَوْلى [591] ((أضواء البيان)) للشِّنقيطي (1/62).   .2- قولُه تعالى: رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة: 286]، وثَبَت فيما يَرويهِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ربِّه أنَّ اللهَ تعالى قال: قد فَعَلْتُ [592] رواه مسلم (126).   .وجهُ الدَّلالةِ:أنَّ تكليفَ المُكرَهِ على فِعْلِ مَحظورٍ بأنْ يَترُكَ ما أُكرِهَ عليه مِنَ المَحظوراتِ هو مِن تكليفِ ما لا يُطاقُ؛ فجَوازُ فِعْلِ ما أُكرِهَ عليه في مِثْلِ هذا قد أَذِنَ به الشَّرعُ ورَفَع التَّكليفَ به [593] قال الشَّوكانيُّ: (أمَّا الإكراهُ بالوعيدِ بالقتلِ أو قطْعِ العَضُدِ فلا شكَّ أنَّ تكليفَ المُكرَهِ بالتَّركِ مِن تكليفِ ما لا يُطاقُ). ((السَّيل الجرَّار)) (ص 812).   .3- قولُه تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام: 119]. 4- قولُه تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 173]. 5- قولُه تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 3].أوجهُ الدَّلالةِ:أ- أنَّ المُكرَهَ مُضطَرٌّ، والمُضطَرُّ لا يَحرُمُ عليه شيْءٌ ممَّا اضطُرَّ إليه مِن طعامٍ أو شَرابٍ [594] قال ابنُ حَزْم: (أمَّا المُكرَهُ؛ فإنَّه مُضطَرٌّ). ((المحلى)) (12/376).   ، وبتحقُّقِ الاضطِرارِ بالإكراهِ يُباحُ تَناوُلُ المُحرَّمِ [595] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/176).   .ب- أنَّ الحُرمةَ لَمَّا زالَتْ بقولِه تعالى: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 173] أُبيحَ له الأكلُ، وصار المُمتنِعُ عن أكْلِ المَيْتةِ كالمُمتنِعِ عنِ الطَّعامِ والشَّرابِ حتَّى مات؛ فيَأثَمُ [596] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/176)، ((الاختيار لتعليل المختار)) للمَوْصلي (2/107).   .ثانيًا: مِنَ السُّنَّةعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ اللهَ وَضَع عن أُمَّتي الخطأَ والنِّسيانَ وما استُكْرِهوا عليه)) [597] أخرَجه ابنُ ماجَهْ (2045) واللَّفظُ له، والطَّبَرانيُّ في ((المعجم الأوسط)) (8273). وحسَّنه النَّوويُّ في ((المجموع)) (6/521)، وابنُ تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (7/685)، وابنُ حَجَرٍ في ((موافقة الخُبر الخَبَر)) (1/510). وقال ابنُ كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/90): (رجالُه على شرْطِ الصَّحيحين، وله شاهدٌ مِنَ القُرآنِ، ومِن طُرُقٍ أُخَرَ). وقال ابنُ المُلقِّن في ((شرح البُخاري)) (25/267): (ثابتٌ على شرْطِ الشَّيخين).   .ثالثًا: أنَّ المُكرَهَ قد يَخافُ مِنَ القتلِ أَعظَمَ ممَّا يَخافُ المُضطَرُّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ، ولأنَّ المُضطَرَّ يَتناوَلُه الإضرارُ لفظًا أو معنًى؛ فإنَّه مُضطَرٌّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ [598] ((الاستقامة)) لابن تيميَّة (2/323).   . انظر أيضا: المبحث الثَّاني: مِقدارُ ما يَأكُلُه المُضطَرُّ. المبحث الثَّالث: تَزوُّدُ المُضطَرِّ.

يُباحُ للمُضطَرِّ أنْ يَأكُلَ مِنَ المَيْتةِ بقَدْرِ ما يَسُدُّ رَمَقَه، ولا يَجوزُ له الشِّبَعُ [599] قال ابنُ قُدامةَ: (ويُباحُ له أكْلُ ما يَسُدُّ الرَّمَقَ، ويَأمَنُ معه الموتَ بالإجماعِ. ويَحرُمُ ما زاد على الشِّبَعِ؛ بالإجماع أيضًا). ((المغني)) (9/415). ورَجَّح النَّوويُّ تفصيلَ الجُوَينيِّ والغَزاليِّ في المسألةِ إلى ثلاثةِ أحوالٍ، فقال: (وذَكَر هو والغَزاليُّ تفصيلًا جاء نقْلُه أنَّه إنْ كان في باديةٍ وخاف إنْ تَرَك الشِّبَعَ أنْ لا يَقْطعَها ويَهْلِكَ؛ وَجَب القطعُ بأنَّه يَشبَعُ. وإنْ كان في بلدٍ وتَوقَّع طعامًا طاهرًا قَبل عَوْدِ الضَّرورةِ؛ وَجَب القطعُ بالاقتِصارِ على سَدِّ الرَّمَقِ. وإنْ كان لا يَظهَرُ حُصولُ طعامٍ طاهرٍ وأَمكَنَ الحاجةُ إلى العَودِ إلى أكْلِ المَيْتةِ مرَّةً بعد أخرى إنْ لم يَجِدِ الطَّاهرَ؛ فهذا محلُّ الخلافِ. وهذا التَّفصيلُ الَّذي ذَكَره الإمامُ والغَزاليُّ تفصيلٌ حسَنٌ، وهو الرَّاجحُ). ((المجموع)) (9/43).   ، وهذا مذهبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ [600] ((شرح مختصر الطَّحاوي)) للجَصَّاص (6/393)، ((المبسوط)) للسَّرَخْسي (5/100).   ، والشَّافعيَّةِ- في الصَّحيحِ عِندَهم- [601] ((المجموع)) للنَّووي (9/43)، ((تحفة المحتاج)) للهَيْتَمي (9/391).   ، والحنابلةِ- في أظهَرِ الرِّوايتين [602] ((المبدع)) لبرهان الدِّينِ ابنِ مُفلِح (9/180)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (3/412). ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (9/415).   -، وبعضِ المالكيَّةِ [603] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير)) (2/116)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرَّبَّاني)) (2/421)، ((مِنَح الجليل)) لعُلَيْش (2/455).   .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكتابقولُه تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 173].وجهُ الدَّلالةِ:أنَّه أَباحَ الأكلَ منها عِندَ الضَّرورةِ، وهو عِندَ الخَوفِ على النَّفْسِ، فإذا تَناوَلَ منها ما أَمسَكَ الرَّمَقَ، فقد زال الخَوفُ في هذه الحالِ؛ فيَعودُ إلى حُكمِ التَّحريمِ؛ لزوالِ الضَّرورةِ المُبيحةِ لها [604] ((شرح مختصر الطَّحاوي)) للجَصَّاص (6/393)، ((تفسير القُرطُبي)) (2/231).   .ثانيًا: أنَّ الإباحةَ شُرعَتْ لحِفْظِ النَّفْسِ، وذلك يوجَدُ فيما دُونَ الشِّبَعِ؛ ولأنَّ خَوفَ التَّلفِ قد زال بسَدِّ الرَّمَقِ [605] ((الإشراف على نُكَت مسائل الخلاف)) للقاضي عبد الوهاب (2/922).   . انظر أيضا: المبحث الأوَّل: الإكراهُ على أكل المحرَّم. المبحث الثَّالث: تَزوُّدُ المُضطَرِّ.

يُباحُ للمُضطَرِّ التَّزوُّدُ مِنَ المَيْتةِ بعد أكْلِه منها [606] قال ابن عُثيمين: (إنْ كان يرجو أنْ يَجِدَ حلالًا عن قُرْبٍ؛ فيَجِبُ أنْ يَقتصِرَ على ما يَسُدُّ رَمَقَه. وإنْ كان لا يرجو ذلك، فله أنْ يَشبَعَ، وأنْ يَتزوَّدَ منها - وأنْ يَحمِلَ معه منها -؛ خشيةَ أنْ لا يَجِدَ حلالًا عن قُرْبٍ). ((تفسير الفاتحة والبقرة)) (3/454).   ، وهذا مذهبُ الجمهورِ: المالكيَّةِ [607] ((كفاية الطالب الرَّبَّاني مع حاشية العدوي)) (2/421).   ، والشَّافعيَّةِ [608] ((روضة الطالبين)) للنَّووي (3/283)، ((المجموع)) للنَّووي (9/43)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهَيْتَمي (9/392).       ، والحنابلةِ في أصحِّ الرِّوايتين [609] ((الإنصاف)) للمَرْداوي (10/279)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (3/412). ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (9/417).   .وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّه لا ضَرَرَ في استِصحابِها، ولا في إعدادِها لدفْعِ ضَرورتِه وقَضاءِ حاجتِه [610] ((المغني)) لابن قُدامة (9/417).   .ثانيًا: أنَّ المُضطَرَّ ليس ممَّن حَرُمَتْ عليه المَيْتةُ، فإذا كانت حلالًا له؛ أَكَل منها ما شاءَ حتَّى يَجِدَ غيرَها فتَحرُمَ عليه [611] ((التاج والإكليل)) للموَّاق (3/233).   . انظر أيضا: المبحث الأوَّل: الإكراهُ على أكل المحرَّم. المبحث الثَّاني: مِقدارُ ما يَأكُلُه المُضطَرُّ.