المَطْلَب الأوَّلُ: جوازُ الأَنساكِ الثَّلاثَةِيجوزُ الإحرامُ بأيِّ الأنساكِ الثَّلاثةِ شاء: الإفرادِ، أو القِرانِ، أو التمَتُّعِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة: الحَنَفيَّة ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/ 40)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/ 518). ، والمالِكِيَّة ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/ 381)، ويُنظر: ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (2/ 34). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/151)، ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/44). ، والحَنابِلَة ((الفروع)) لابن مفلح (5/ 330)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/260)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/232). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال الماوردي: (لا اختلافَ بين الفقهاءِ في جوازِ الإفرادِ، والتمتُّع، والقِران، وإنَّما اختلفوا في الأفضَلِ) ((الحاوي الكبير)) (4/44).  قال ابنُ عبد البرِّ: (في حديث ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة من الفِقْه: أنَّ التمتُّع جائزٌ، وأنَّ الإفرادَ جائزٌ، وأنَّ القِرانَ جائزٌ، وهذا لا خلاف فيه بين أَهْل العِلْم) ((التمهيد)) (8/205). قال البغوي: (اتفقَتِ الأُمَّة في الحَجِّ والعُمْرَةِ على جوازِ الإفرادِ، والتمتُّع، والقِران) ((شرح السنة)) (7/74).  قال شمس الدين ابن قُدامة: (أجمَعَ أَهْل العِلْم على جوازِ الإحرامِ بأيِّ الأنساكِ الثَّلاثة شاء) ((المغني)) (3/260)، ((الشرح الكبير)) (3/232). قال القرطبي: (لا خلافَ بين العلماءِ في أنَّ التمتَّعَ جائزٌ على ما يأتي تفصيلُه، وأنَّ الإفرادَ جائزٌ، وأنَّ القرآنَ جائزٌ، لأنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَضِيَ كلًّا ولم يُنكرْه في حَجته على أحد من أصحابه، بل أجازَه لهم ورَضِيَه منهم، صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُحْرمًا في حجَّتِه، وفي الأفضل من ذلك، لاختلاف الآثارِ الواردة في ذلك) ((تفسير القرطبي)) (2/387). قال ابنُ قُدامة: (وأجمَع أهلُ العلم على جوازِ الإحرام بأيِّ الأنساك الثلاثةِ شاء، واختَلفوا في أفضلها). ((المغني)) (3/260). قال النووي: (مذهبُنا جواز الثلاثة، وبه قال العلماء وكافة الصحابة والتابعين ومَن بعدهم إلا ما ثبت في الصحيحين عَن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب وعثمانَ بن عفان رضي الله عنهما أنهما كانا يَنْهَيان عن التمتُّع، وعنه جوابان: أحدُهما: أنهما نهيا عنه تنزيهًا، وحملًا للنَّاس على ما هو الأفضلُ عندهما، وهو الإفرادُ، لا أنهما يعتقدان بُطلانَ التمتُّع، هذا مع عِلْمِهما بقول الله تعالى: فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ **البقرة: 196**. والثَّاني: أنهما كانا ينهَيَان عن التمتع الذي فعَلَتْه الصحابة في حَجَّةِ الوداع، وهو فَسْخُ الحَجِّ إلى العُمْرَةِ؛ لأن ذلك كان خاصًّا لهم، وهذا التأويل ضعيفٌ، وإن كان مشهورًا، وسياقُ الأحاديث الصحيحة يقتضي خلافه) ((المجموع)) (7/151). قال ابنُ تيميَّة: (ثبت عن ابنِ عباس وطائفةٍ مِنَ السَّلَف أنَّ التمتُّع واجبٌ، وأنَّ كل من طاف بالبيت وسعى ولم يكن معه هَدْيٌ، فإنَّه يُحِلُّ من إحرامه، سواءٌ قَصَدَ التحلُّل أم لم يقصده، وليس عند هؤلاء لأحدٍ أن يحجَّ إلَّا متمتِّعًا. وهذا مَذْهَبُ ابنِ حَزْمٍ وغيره من أهل الظَّاهر). ((مجموع الفتاوى)) (26/ 94).     . الدليل مِنَ السُّنَّةِ:عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: خرَجْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، فقال: ((مَن أرادَ منكم أن يُهِلَّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ، فلْيَفْعَلْ، ومن أراد أن يُهِلَّ بحَجٍّ فلْيُهِلَّ، ومن أراد أن يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فلْيُهِلَّ)) رواه البخاري (1786)، ومسلم (1211) واللفظ له. قالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: ((فأهَلَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم بحجٍّ، وأهلَّ به ناسٌ معه، وأهلَّ ناسٌ بالعُمْرَةِ والحَجِّ، وأهلَّ ناسٌ بعُمْرَةٍ، وكنتُ فيمَنْ أهَلَّ بالعُمْرَةِ)) رواه مسلم (1211). ، وفي روايةٍ: ((مِنَّا مَن أهَلَّ بالحَجِّ مُفْرِدًا، ومِنَّا مَن قَرَنَ، ومِنَّا مَن تمتَّعَ)) رواه مسلم (1211). .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّها ذكرَتْ إحرامَ الصَّحابَة رَضِيَ اللهُ عنهم مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم على أحدِ هذه الأنساكِ الثلاثَةِ: التَّمتُّعِ، والقِرانِ، والإفْرادِ ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/232). . المَطْلَب الثَّاني: نُسُكُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: النُّسُكُ الذي أحرَمَ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم هو القِرانُ، وهذا مَذْهَبُ أبي حنيفةَ ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/41)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/519). ، وأحمدَ في المنصوصِ عنه قال ابنُ تيميَّة: (قال [أي: الإمام أحمد]: لا أشكُّ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارنًا، والتمتُّعُ أحبُّ إليَّ لأنَّه آخِرُ الأمرينِ). ((مجموع الفتاوى)) (26/34)، ويُنْظَر: ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 466)،. ، وهو قوْلُ أئمَّةِ الحديثِ؛ كإسحاقَ بنِ راهَوَيهِ، وابنِ المُنْذِرِ ((فتح الباري)) لابن حجر (3/429). ، واختارَه ابنُ حزمٍ قال ابنُ حزم: (صحَّ في سائر الأخبارِ من روايةِ البراء, وعائشة وحفصة أمَّيِ المؤمنينَ, وأنس, وغيرهم أنَّه عليه السلام كان قارنًا) ((المحلى)) (7/165)، ويُنْظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (3/429). ، والنَّوَوِيُّ قال النووي: (الصوابُ الذي نعتقده أنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم أحرَمَ أوَّلًا بالحَجِّ مُفْرِدًا، ثم أدخَلَ عليه العُمْرَة، فصار قارنًا) ((المجموع)) (7/159)، ويُنْظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (3/428). ، وابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (أمَّا حجُّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم فالصحيحُ أنَّه كان قارنًا، قَرَنَ بين الحَجِّ والعُمْرَةِ، وساق الهديَ، ولم يَطُفْ بالبيتِ وبين الصَّفا والمروة إلَّا طوافًا واحدًا حين قَدِمَ، لكنَّه طاف طوافَ الإفاضَةِ مع هذين الطَّوافينِ. وهذا الذي ذكرناه هو الصوابُ المحَقَّق عند أهل المعرفة بالأحاديثِ الذين جمعوا طُرُقَها، وعرفوا مَقْصِدَها، وقد جمع أبو محمد بن حزم في حَجَّة الوداع كتابًا جيدًا في هذا الباب). ((مجموع الفتاوى)) (26/80). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القيم: (وإنَّما قلنا: إنَّه أحرَمَ قارنًا، لبضعةٍ وعشرينَ حديثًا صحيحةٍ صريحةٍ في ذلك) ((زاد المعاد)) (2/107). وقال أيضًا: (من تأمَّلَ ألفاظ الصحابة، وجمَعَ الأحاديثَ بعضَها إلى بعضٍ، واعتبر بعضَها ببعضٍ، وفَهِمَ لغة الصحابة، أسفَرَ له صبْحُ الصوابِ، وانقَشَعَتْ عنه ظُلْمة الاختلاف) ((زاد المعاد)) (2/121). ، وابنُ حَجَرٍ قال ابنُ حجر: (الذي تجتمع به الرواياتُ أنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارنًا). ((فتح الباري)) (3/427). وقال أيضًا: (روى القِرانَ عنه جماعةٌ من الصحابة لم يُختَلَفْ عليهم فيه... وأيضًا فإنَّ مَن روى عنه القِرانَ لا يَحْتَمِلُ حديثُه التأويلَ إلَّا بتعسُّفٍ). ((فتح الباري)) (3/429). وقال أيضًا: (فإنَّ روايةَ القِرانِ جاءت عن بضعةَ عَشَرَ صحابيًّا بأسانيدَ جيادٍ؛ بخلاف روايتَيِ الإفرادِ والتمَتُّع، وهذا يقتضي رفعَ الشَّكِّ عن ذلك، والمصيرَ إلى أنَّه كان قارنًا). ((فتح الباري)) (3/429). وقال أيضًا: (الذي يظهرُ لي أنَّ مَن أنكَرَ القِرانَ من الصحابة نفى أن يكون أهَلَّ بهما في أوَّلِ الحال، ولا ينفي أن يكونَ أهَلَّ بالحَجِّ مُفْرِدًا ثم أدخَلَ عليه العُمْرَةَ فيجتَمِع القولان) ((فتح الباري)) (3/430). ، والكمالُ ابنُ الهُمامِ ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/522). ، والشَّوْكانيُّ قال الشَّوْكاني: (اعلمْ أنَّ حَجَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم وإن اختلفتِ الأحاديثُ في بيانِ نَوْعِه فقد تواتر أنَّه حَجَّ قِرانًا وبلغت الأحاديث في ذلك زيادةً على عشرينَ حديثًا من طريقِ سَبعَةَ عَشَرَ صحابيًّا) ((السيل الجرار)) (ص: 346). ، والشِّنْقيطيُّ قال الشِّنْقيطيُّ: (لا شكَّ عند مَن جَمَعَ بين العِلْمِ والإنصاف، أنَّ أحاديثَ القِرانِ أرجَحُ من جهاتٍ متعدِّدة، منها: كثرةُ مَن رواها من الصَّحابة.... ومنها: أن من رُوِيَ عنهم الإفراد، رُوِيَ عنهم القِران أيضًا، ويكفي في أرجَحِيَّة أحاديثِ القِران أنَّ الذين قالوا بأفضَلِيَّة الإفرادِ مُعترفونَ بأنَّ مَن رَوَوُا القِرانَ صادقون في ذلك، وأنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارنًا باتِّفاق الطائفتين، إلَّا أنَّ بعضهم يقولون: إنَّه لم يكنْ قارنًا في أوَّلِ الأمر، وإنما صار قارنًا في آخِرِه، وقد ذكر ابنُ القَيِّمِ رحمه الله في زاد المعاد أنَّ أحاديثَ القِران أرجَحُ من خَمسَةَ عشَرَ وَجْهًا، فلْيَنْظُرْه من أراد الوقوفَ عليها) ((أضواء البيان)) (4/372). وابنُ باز ((فتاوى نور على الدرب)) (17/359). وابنُ عُثيمين ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/76). .الأدلَّة: مِنَ السُّنَّة1- عَن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((أتاني الليلةَ آتٍ مِن ربِّي عزَّ وجَلَّ، فقال: صَلِّ في هذا الوادي المُبارَكِ، وقُلْ: عُمْرَةً في حَجَّةٍ)) رواه البخاري (1534). وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّه أُمِرَ أن يُهِلَّ بعُمْرَةٍ في حَجٍّ، وهذا إهلالُ القِرانِ، فدلَّ على أنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارِنًا ((فتح الباري)) لابن حجر (3/392). .2- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((تمتَّعَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم في حَجَّة الوداع بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، وأهدى فساقَ معه الهَدْيَ من ذي الحُلَيفةِ، وبدأ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم فأهَلَّ بالعُمْرَةِ ثُمَّ أهَلَّ بالحَجِّ)) رواه البخاري (1691) واللفظ له، ومسلم (1227). وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ التمتُّعَ عند الصَّحابَة يتناوَلُ القِرانَ، ويُحْمَل عليه قولُ ابنِ عُمَرَ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم حجَّ مُتَمَتِّعًا ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (26/66)، ((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/112) وما بعدها. . 3- فِعْلُ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما وأنَّه قَرَن الحَجَّ إلى العُمْرَة، وطاف لهما طوافًا واحدًا، ثمَّ قال: ((كذلك فَعَلَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم)) رواه البخاري (1640)، ومسلم (1230). .4- عن حفصَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قلتُ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((ما شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا ولم تَحِلَّ مِن عُمْرَتِك؟ قال: إنِّي قَلَّدْتُ هَدْيي ولَبَّدْتُ رَأْسي، فلا أَحِلُّ حتَّى أَحِلَّ من الحَجِّ)) رواه البخاري (1697)، ومسلم (1229) واللفظ له. .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ الحديثَ فيه دَلالةٌ على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم كان في عُمْرَةٍ معها حجٌّ، فإنَّه لا يحِلُّ من العُمْرَةِ حتَّى يَحِلَّ مِنَ الحَجِّ ((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/101). .5- عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سَمِعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يُلَبِّي بالحَجِّ والعُمْرَةِ جميعًا)) قال بكرٌ: فحَدَّثْتُ بذلك ابنَ عُمَرَ، فقال: ((لبَّى بالحَجِّ وَحْدَه))، فلَقِيتَ أَنَسًا فحَدَّثْتُه بقَوْلِ ابنِ عُمَرَ، فقال أنَسٌ: ما تَعُدُّونَنا إلَّا صِبْيانًا، سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقولُ: ((لَبَّيكَ عُمْرَةً وحَجًّا)) رواه البخاري (4353، 4354)، ومسلم (1232) واللفظ له.. .المَطْلَب الثَّالِثُ: أفضَلُ الأَنْساكِالتمتُّعُ أفضَلُ الأنساكِ الثلاثَةِ لِمَن لم يَسُقِ الهَدْيَ، وهو مَذْهَبُ الحَنابِلَة ((الفروع)) لابن مفلح (5/ 331)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/260)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/232)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/260). ، وأحَدُ قَوْلَيِ الشَّافعي ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/44)، ((المجموع)) للنووي (7/150). ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَفِ منهم: ابن عباس وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وابن الزبير، وعائشة، والحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وسالم، والقاسم، وعكرمة، يشار هاهنا أن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنهما لم يقتصِرْ على اختيارِه، بل ذهب إلى وجوبِه وتَعيُّنه لمن لم يَسُقِ الهديَ، وتبعه على ذلك: ابن القَيِّمِ، والألباني. ((المحلى)) لابن حَزْم (7/101)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/260)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/259). ، واختارَه ابنُ حزمٍ ((المحلى)) لابن حَزْم (7/99، 103 رقم 833). ، والشَّوْكانيُّ قال الشَّوْكاني: (وفي الجملة لم يوجَدْ شيء من الأحاديث ما يدلُّ على أن بعض الأنواع أفضَلُ من بعض غير هذا الحديث- حديث ((لو استقبَلْتُ من أمري ما استَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الهَدْيَ ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً))- قال: فالتمسُّك به متعَيَّنٌ، ولا ينبغي أن يُلتَفَتَ إلى غيره من المرَجِّحات، فإنَّها في مقابِلِه ضائعةٌ) ((نيل الأوطار)) (4/311). وقال في ((السيل الجرار)) (ص: 346): (فمن جعل وجْهَ التفضيل لأحدِ أنواعِ الحَجِّ هو أنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم حَجَّ بنوع كذا، وأنَّ اللهَ سبحانه لا يختار لرَسولِه إلَّا ما كان فاضلًا على غيره فقد كان حجُّه صلَّى الله عليه وسَلَّم قِرانًا، فيكون القِرانُ أفضَلَ أنواع الحَجِّ، ولكنَّه قد ثبت من حديثِ جابرٍ في الصحيحينِ وغَيْرِهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((لو استقبَلْتُ من أمري ما استَدْبَرْتُ ما سُقْتُ الهَدْيَ ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً))، فدلَّ على أنَّ التمتُّعَ أفضَلُ مِنَ القِرانِ). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (التمتُّعُ أفضَلُ في أصحِّ أقوالِ العُلَماءِ في حَقِّ مَن لم يَسُقِ الهَدْيَ، أمَّا مَن ساقَ الهَدْيَ فالقِرانُ له أفضَلُ؛ تأسيًا بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/130). ، وابن عُثيمين ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/77)، ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (24/264). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابقال اللهُ تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196].وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ التمتُّعَ منصوصٌ عليه في كتابِ اللهِ تعالى دون سائِرِ الأَنساكِ ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/261). .ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه حَجَّ مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم عامَ ساق الهَدْيَ معه، وقد أهَلُّوا بالحَجِّ مُفْرَدًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: أحِلُّوا مِن إحرامِكم، فطُوفوا بالبَيْتِ وبَيْنَ الصَّفا والمَرْوَة، وقَصِّروا، وأقيموا حَلالًا حتى إذا كان يومُ التَّرْوِيَة فأهِلُّوا بالحَجِّ، واجعلوا التي قَدَّمْتُم بها مُتعةً، قالوا: كيف نَجْعَلُها متعةً وقد سَمَّيْنا الحَجَّ؟ قال: افْعَلُوا ما آمُرُكم به؛ فإنِّي لولا أنِّي سُقْتُ الهَدْيَ، لفَعَلْتُ مِثْلَ الذي أَمَرْتُكم به، ولكِنْ لا يَحِلُّ مني حرامٌ، حتى يبلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه. ففعلوا)) رواه البخاري (1568)، ومسلم (1216) واللفظ له. .2- عن عائشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((لو استقَبَلْتُ مِن أَمْري ما استَدْبَرْتُ ما سُقْتُ الهَدْيَ، ولَحَلَلْتُ مع النَّاسِ حين حَلُّوا)) رواه البخاري (7229) واللفظ له، ومسلم (1218). .3- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه سُئِلَ عن متعَةِ الحَجِّ، فقال: أهلَّ المهاجرونَ والأنصارُ وأزواجُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم في حَجَّةِ الوداعِ، وأَهْلَلْنا، فلمَّا قَدِمْنا مَكَّةَ، قال رسولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم: اجْعَلوا إهلالَكم بالحَجِّ عُمْرَةً إلَّا مَنْ قَلَّدَ الهَدْيَ)) أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم برقم (1572)، وأخرجه موصولًا الإسماعيلي كما في ((فتح الباري)) لابن حجر (3/434). قال الألباني في ((حجة النبي)) (90): أخرجه البخاري تعليقًا مجزومًا ورواه مسلم خارج صحيحه موصولًا وإسنادُه صحيحٌ، رجالُه رجال الصَّحيحِ. .وَجْهُ الدَّلالَةِ مِنْ هذه النُّصُوصِ مِن وَجْهَينِ:الوجهُ الأوَّلُ: أنَّه قد تواتَرَتِ الأحاديثُ عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، أنَّه أمَرَ أصحابَه في حَجَّةِ الوَداعِ لَمَّا طافوا بالبيتِ وبين الصَّفا والمروة، أن يَحِلُّوا من إحرامِهم ويَجْعَلوها عُمْرَةً، إلَّا مَن ساق الهَدْيَ، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم لا يَنْقُلُهم من الفاضِلِ إلى المفضولِ، بل إنَّما يأمُرُهم بما هو أفضَلُ لهم ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (26/54). . الوجه الثَّاني: أنَّه آخِرُ الأَمرينِ مِن رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، فلولا أنَّ التمتُّعَ هو الأفضَلُ لَمَا تأسَّفَ عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، ولَمَا تَمنَّى أنَّه لم يَسُقِ الهَدْيَ حتى يَحِلَّ مع النَّاسِ مُتَمَتِّعًا ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/259). .4- عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((أُنْزِلَتْ آيةُ المتعَةِ في كتابِ اللهِ، ففَعَلْناها مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، ولم يَنْزِلْ قرآنٌ يُحَرِّمُه، ولم يَنْهَ عنها حتى مات، قال رجل برَأْيِه ما شاءَ)) رواه البخاري (4518) واللفظ له، ومسلم (1226). .5- عن أبي نضرةَ، قال: ((كان ابنُ عبَّاسٍ يأمُرُ بالمتعة، وكان ابنُ الزُّبير ينهى عنها، قال: فذكرْتُ ذلك لجابرِ بنِ عبدِ الله، فقال: على يَدَيَّ دار الحديثُ؛ تَمَتَّعْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، فلمَّا قام عُمَرُ قال: إنَّ الله كان يُحِلُّ لرَسولِه ما شاء بما شاء، وإنَّ القُرآنَ قد نَزَلَ مَنازِلَه، فـ أَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196]، كما أمَرَكم اللهُ)) رواه مسلم (1217). . ثالثًا:أنَّ المتَمَتِّعَ يجتَمِعُ له الحَجُّ والعُمْرَةُ في أشهُرِ الحَجِّ، مع كمالِها وكمالِ أفْعَالها على وَجْهِ اليُسْرِ والسُّهولَةِ، مع زيادةٍ لنُسُكٍ هو الدَّمُ، فكان ذلك هو الأَوْلى ((الذخيرة)) للقرافي (3/286)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/262). .رابعًا:أنَّه أسهَلُ على المكَلَّفِ غالبًا؛ لِمَا فيه من التَّحَلُّلِ بين العُمْرَةِ والحَجِّ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/77). . المَطْلَب الرَّابِع: تَعْيينُ أحَدِ الأنساكِيُسْتَحَبُّ أن يُعيِّنَ ما يُحْرِمُ به من الأَنساكِ عند أوَّلِ إهْلالِه؛ نَصَّ على هذا الجُمْهورُ: المالِكِيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/63)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/221). ، والشَّافِعِيَّة في الأصَحِّ نص عليه الشافعي. ((المجموع)) للنووي (7/227)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/477). ، والحَنابِلَة ((الفروع)) لابن مفلح (5/328)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/230، 232). . الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عَن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((أتاني الليلةَ آتٍ مِن ربِّي عزَّ وجَلَّ، فقال: صَلِّ في هذا الوادي المُبارَكِ، وقل: عُمْرَةً في حَجَّةٍ)) رواه البخاري (1534). .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أن قَوْلَه: ((في)) بمعنى (مع) كأنَّه قال: عُمْرَة معها حَجَّةٌ، فيكون دليلًا على أنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارِنًا ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (9/560). .2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: خرَجْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، فقال: ((مَن أرادَ منكم أن يُهِلَّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ، فلْيَفْعَلْ، ومن أراد أن يُهِلَّ بحَجٍّ فلْيُهِلَّ، ومن أراد أن يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فلْيُهِلَّ)) رواه البخاري (1786)، ومسلم (1211) واللفظ له. ثانيًا: أنَّ التعيينَ هو الأصْلُ في العبادات ((الذخيرة)) للقرافي (3/221). .ثالثًا: أنَّه بتعيينِ النُّسُك يَعْرِفُ المْحْرِمُ ما يدخُلُ عليه، وهو أقرَبُ إلى الإخلاصِ ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/477)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/265). . المَطْلَب الخامس: الإحرامُ المُبْهَمُإذا أحرَمَ ولم يعيِّنْ نُسُكَه فإنَّه ينعَقِدُ إحرامُه، ويَصْرِفُه إلى ما شاءَ مِن أنواعِ النُّسُكِ قبل شُروعِه في أفعالِ النُّسُكِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم(2/346)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/438). ، والمالِكِيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/63)، ((الشرح الكبير)) للشيخ الدردير و((حاشية الدسوقي)) (2/26). ، والشَّافِعِيَّة ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/477)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/265). ، والحَنابِلَة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/533)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/267). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عن جابرِ بن عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((قَدِمَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، بِسعايَتِه، قال له النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: بمَ أهْلَلْتَ يا عليُّ؟ قال: بما أهَلَّ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، قال: فأَهْدِ، وامكُثْ حرامًا كما أنت)) رواه البخاري (4352) واللفظ له، ومسلم (1216). .2- عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((قَدِمْتُ على رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم وهو مُنِيخٌ بالبَطْحاءِ، فقال لي: أحَجَجْتَ؟، فقُلْتُ: نعم، فقال: بمَ أهْلَلْتَ؟، قال: قُلْتُ: لبَّيْكَ بإهلالٍ كإهلالِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، قال: فقد أحسَنْتَ، طُفْ بالبَيْتِ وبالصَّفا والمروة، وأَحِلَّ)) رواه مسلم (1221). .ثانيًا: أنَّه صَحَّ الإهلالُ مُبْهَمًا لتأكُّدِ الإحرامِ، وكَوْنِه لا يَخْرُج منه بمحظوراتِه ((شرح منتهي الإرادات)) للبهوتي (1/533). . ثالثًا: أنَّ هذا مِثْلُ ابتداءِ الإحرامِ بالنِّيَّة مطلقًا، ثم تَعْيِينِه باللَّفْظِ بأيِّ أنواعِ النُّسُكِ شاء ((المغني)) لابن قُدامة (3/267)، ((شرح منتهي الإرادات)) للبهوتي (1/533). . المَطْلَب السادس: مَن لَبَّى بغيرِ ما نوىمن لبَّى بغيرِ ما نوى، كأنْ يَنْوِيَ القِرانَ، ويجري على لسانِه الإفرادُ، ونحو ذلك؛ فإنَّه يكون مُحْرِمًا بما نوى، لا بما جرى على لِسانِه ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/438)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/61)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/478): ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح (3/55). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِعَن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقولُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نوى)) رواه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907). .ثانيًا: مِنَ الإجماعِنقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر قال ابنُ المُنْذِر: (أجمعوا على أنَّه [إذا] أراد أن يُهِلَّ بحجٍّ فأهَلَّ بعُمْرَةٍ، أو أراد أن يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فلبَّى بحجٍّ: أنَّ اللازمَ ما عقد عليه قَلْبَه، لا ما نَطَقَ به لسانُه) ((الإجماع)) (ص: 51)، ويُنْظَر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/265). .ثالثًا: أنَّ الواجِبَ النِّيَّةُ، وعليها الاعتمادُ، واللَّفْظُ لا عبرةَ به، فلم يُؤَثِّرْ، كما لا يُؤَثِّرُ اختلافُ النيَّةِ فيما يُعْتَبَرُ له اللَّفْظُ دون النِّيَّةِ ((المغني)) لابن قُدامة (3/265)، ويُنْظَر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/220). . المَطْلَبُ السابعُ: نسيانُ ما أحرَمَ بهمَنْ أحرَمَ بشيءٍ مُعَيَّنٍ، ثم نَسِيَ ما أحرَمَ به؛ فإنَّه يَلْزَمُه حجٌّ وعُمْرَةٌ، ويَعْمَل عَمَلَ القارِن، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة ((الفتاوى الهندية)) (1/223)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/438). ، والمالِكِيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/65)، ((الشرح الكبير)) للشيخ الدردير و((حاشية الدسوقي)) (2/27). ، والشَّافِعِيَّة ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/478)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/267). . وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّه تلبَّسَ بالإحرامِ يقينًا فلا يتحَلَّلُ إلا بيقينِ الإتيانِ بالمشروعِ فيه ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/478). . ثانيًا: أنَّه أحوَطُ؛ لاشتمالِه على النُّسُكَينِ، فيتحَقَّقُ بالإتيانِ بالنُّسُكينِ الخروجُ عمَّا شَرَعَ فيه، فتَبْرَأُ ذِمَّتُه ((الشرح الكبير)) للشيخ الدردير و((حاشية الدسوقي)) (2/27)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/478). . المَطْلَب الثامن: الإحرامُ بما أحرَمَ به فلانٌ:مَن نوى الإحرامَ بما أحْرَمَ به فلانٌ؛ انعقَدَ إحرامُه بِمِثْلِه، فإن كان لا يَعْلَمُ ما أحرَمَ به؛ فإنَّه يَقَعُ مُطْلَقًا ويَصْرِفُه إلى ما يشاء؛ نصَّ على هذا الجُمْهورُ: المالِكِيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/68). ، والشَّافِعِيَّة ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/477)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/265). ، والحَنابِلَة ((شرح منتهي الإرادات)) للبهوتي (1/533)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/268). .الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:1- عن جابرِ بن عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((قَدِمَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، بِسعايَتِه، قال له النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: بمَ أهْلَلْتَ يا عليُّ؟ قال: بما أهَلَّ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، قال: فأَهْدِ، وامكُثْ حرامًا كما أنت)) رواه البخاري (4352) واللفظ له، ومسلم (1216). .2- عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((قَدِمْتُ على رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم وهو مُنِيخٌ بالبَطْحاءِ، فقال لي: أحَجَجْتَ؟، فقُلْتُ: نعم، فقال: بمَ أهْلَلْتَ؟، قال: قُلْتُ: لبَّيْكَ بإهلالٍ كإهلالِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، قال: فقد أحسَنْتَ، طُفْ بالبَيْتِ وبالصَّفا والمروة، وأَحِلَّ)) رواه البخاري (1724)، ومسلم (1221) واللفظ له. .ثانيًا: وله أن يَصْرِفَه إلى ما شاء؛ لأنَّه إن صَرَفَه إلى عُمْرَةٍ، وكان نُسُكُ فلانٍ عُمْرَةً، فقد أصاب، وإن كان حجًّا مُفْرَدًا أو قِرانًا فله فَسْخُهُما إلى العُمْرَةِ، وإن صَرَفَه إلى القِرانِ، وكان نُسُكُ فلانٍ قرانًا، فقد أصاب، وإن كان عُمْرَةً، فإدخالُ الحَجِّ على العُمْرَةِ جائزٌ قبل الطواف، فيصير قارنًا، وإن كان مُفْرِدًا، لغا إحرامُه بالعُمْرَة، وصَحَّ بالحَجِّ، وسقط فَرْضُه، وإن صَرَفَه إلى الإفرادِ، وكان مُفْرِدًا، فقد أصاب، وإن كان مُتَمَتِّعًا، فقد أدخَلَ الحَجَّ على العُمْرَة، وصار قارنًا في الحُكْم، وفيما بينه وبينَ الله تعالى، وهو يَظُنُّ أنَّه مُفْرِدٌ، وإن كان قارنًا فكذلك ((المغني)) لابن قُدامة (3/ 268، 269). . انظر أيضا: المبحث الثَّاني: الإفرادُ في الحَجِّ. المبحث الثَّالِث: القِرانُ في الحَجِّ. المبحث الرَّابِع: التمتُّعُ في الحَجِّ. المبحث الخامس: الاشتراطُ في الحَجِّ والعُمْرَةِ.

الإفرادُ بالحَجِّ: أن يُحْرِمَ بالحَجِّ مُفْرَدًا، فيقول: «لبيَّكَ اللهُمَّ حَجًّا»، ثم يمضي في عَمَلِ حَجِّه حتى يُتِمَّه، فليس عليه إلَّا طوافٌ واحِدٌ، وهو طوافُ الإفاضةِ أمَّا طوافُ القُدُومِ فلا يجب عليه عند جمهورِ الفقهاء، وأمَّا طوافُ الوَداعِ فإنما يَجِبُ عند الجمهور على غير الحائِضِ إذا صدر من مَكَّةَ بعد فراغِه مِنَ النُّسُك، وسيأتي ذلك مفصَّلًا إن شاء الله تعالى في صِفَة الحَجِّ. ، وليس عليه إلَّا سَعْيٌ واحد، وهو سعيُ الحَجِّ، ولا يَحِلُّ إلَّا يوْمَ النَّحْرِ، وليس عليه دَمٌ قال النووي: (الإفرادُ لا يجبُ فيه دمٌ بالإجماع) ((شرح النووي على مسلم)) (8/136). وقال العراقي: (الإفرادُ لا يجب فيه دمٌ بالإجماع) ((طرح التثريب)) (5/23). وقال ابنُ حجر: (الإفرادُ لا يجب فيه دمٌ بالإجماعِ؛ بخلاف التمتُّع والقِران) ((فتح الباري)) (3/428). ، وإن كان يُسْتَحَبُّ له ذلك ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/382)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/344)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (5/286)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/209)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/88)، وينظر مبحث التطوع في الهدي. . انظر أيضا: المبحث الأوَّل: أحكامُ الأَنساكِ الثَّلاثة. المبحث الثَّالِث: القِرانُ في الحَجِّ. المبحث الرَّابِع: التمتُّعُ في الحَجِّ. المبحث الخامس: الاشتراطُ في الحَجِّ والعُمْرَةِ.

المَطْلَب الأوَّل: تعريفُ القِرانِالقِرانُ: هو أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ والحَجِّ معًا في نُسُكٍ واحدٍ، فيقول: لبَّيْكَ اللهم عُمْرَةً في حَجَّةٍ ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/208). .المَطْلَب الثَّاني: إطلاقُ التمَتُّعِ على القِرانِيُطلَقُ التمتُّعُ على القِرانِ في عُرْفِ السَّلَفِ؛ قرَّرَ ذلك ابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (إنَّما جُعِلَ القِرانُ من باب التمتُّعِ؛ لأنَّ القارِنَ متمَتِّعٌ بترك النَّصَبِ في السَّفَرِ إلى العُمْرَة مرَّةً وإلى الحَجِّ أخرى وتمتَّع بِجَمْعِهما؛ لم يُحْرِمْ لكلِّ واحدةٍ من ميقاته وضَمَّ إلى الحَجِّ، فدخل تحت قولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ **البقرة: 196**، وهذا وجهٌ مِنَ التمتُّعِ لا خلاف بين العلماء في جوازه). ((التمهيد)) (8/354). ، والنَّوَوِيُّ قال النووي: (كذلك يتأوَّلُ قول من قال: كان متمتعًا؛ أي: تمتَّعَ بفِعْلِ العُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ وفِعْلِها مع الحَجِّ؛ لأنَّ لَفْظَ التمتُّعِ يُطْلَق على معانٍ، فانتظمت الأحاديثُ واتَّفقت) ((شرح النووي على مسلم)) (8/137). ، وابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (الذين قالوا تمتَّع- أي الرسول صلَّى الله عليه وسَلَّم- لم تَزَلْ قلوبُهم على غيرِ القِران، فإنَّ القِرانَ كان عندهم داخلًا في مسمَّى التمتُّع بالعُمْرَة إلى الحَجِّ؛ ولهذا وجب عند الأئمَّة على القارنِ الهَدْيُ؛ لقوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ **البقرة: 196**، وذلك أنَّ مقصودَ حقيقة التمتُّعِ أن يأتيَ بالعُمْرَةِ في أشهر الحَجِّ، ويحُجَّ مِن عامِه، فيَتَرَفَّه بسقوطِ أحَدِ السَّفَرين، قد أحَلَّ مِن عُمْرَتِه، ثم أحرَمَ بالحَجِّ، أو أحرم بالحَجِّ مع العُمْرَةِ، أو أدخل الحَجَّ على العُمْرَةِ، فأتى بالعُمْرَة والحَجِّ جميعًا في أشْهُرِ الحَجِّ مِن غَيْرِ سَفَرٍ بينهما، فيَتَرَفَّه بسقوط أحد السَّفَرين، فهذا كلُّه داخِلٌ في مسمَّى التمتُّع) ((مجموع الفتاوى)) (26/81)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/209). ، وابنُ حَجَرٍ قال ابنُ حجر: (حديثُ ابنِ عمرَ المذكورُ ناطِقٌ بأنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارنًا؛ فإنَّه مع قوله فيه: ((تمتَّع رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم)) وَصَفَ فِعْلَ القِرانِ؛ حيث قال: ((بدأ فأهَلَّ بالعُمْرَةِ ثم أهَلَّ بالحَجِّ))، وهذا من صور القِرانِ، وغايته أنَّه سماه تمتُّعًا لأنَّ الإحرامَ عنده بالعُمْرَة في أشهُرِ الحَجِّ كيف كان يسمَّى تمتُّعًا) ((فتح الباري)) (3/495). ، والكَمالُ ابنُ الهمامِ قال الكمال ابن الهمام: (التمتُّعُ بلغة القرآن أعمُّ مِن القِران كما ذكره غير واحدٍ، وإذا كان أعمَّ منه احتمَلَ أن يراد به الفَرْدُ المسمَّى بالقران في الاصطلاحِ الحادث، وهو مُدَّعانا، وأن يرادَ به الفَرْدُ المخصوصُ باسم التمتُّع في ذلك الاصطلاح، فعلينا أن ننظر أوَّلًا في أنَّه أعمُّ في عُرْف الصحابة أو لا، وثانيًا: في ترجيح أيِّ الفَرْدَينِ بالدليل، والأَوَّل يُبَين في ضِمْن الترجيحِ، وثَمَّ دلالاتٌ أُخَرُ على الترجيحِ مُجَرَّدة عن بيانِ عُمومِه عُرفًا) ((فتح القدير)) (2/520، 521). ، والشِّنْقيطيُّ قال الشِّنْقيطيُّ: (اعلم أنَّ الأحاديثَ الواردة بأنَّه كان مُفْردًا، والواردة بأنَّه كان قارنًا، والواردة بأنَّه كان متمَتِّعًا لا يمكن الجمعُ البتَّةَ بينها، إلَّا الواردة منها بالتمَتُّع والواردة بالقِران، فالجمع بينهما واضِحٌ; لأنَّ الصَّحابة كانوا يُطْلِقون اسمَ التمتُّع على القِرانِ، كما هو معروفٌ عنهم، ولا يُمكِنُ النزاع فيه، مع أنَّ أَمْرَه صلَّى الله عليه وسَلَّم أصحابَه بالتمتُّع قد يُطلَق عليه أنَّه تمتُّع; لأنَّ أمْرَه بالشيءِ كَفِعْلِه إيَّاه) ((أضواء البيان)) (4/371). ، وغيرُهم ((تفسير القرطبي)) (2/388)، ((شرح النووي على مسلم)) (8/169)، ((فتح الباري)) لابن حجر(3/423)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/208). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابقال الله عَزَّ وجَلَّ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196].وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ القارِنَ متَمَتِّعٌ بجَمْعِ النُّسُكَينِ في نُسُكٍ واحدٍ، ومتمَتِّعٌ بسُقوطِ أحَدِ السَّفَرينِ عنه، فلم يُحْرِمْ لكلِّ نُسُكٍ مِن ميقاتِه، فيَدْخل بذلك في عمومِ الآيَةِ في مُسَمَّى التمتُّعِ ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/354)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (26/81). .ثانيًا: إطلاقُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم التمَتُّعَ على نُسُكِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، وإنَّما كان نُسُكُه القِرانَ ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/521). :1- عن عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((تمتَّعَ نَبِيُّ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم وتمتَّعْنا معه)) رواه مسلم (1226). . 2- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((تمتَّعَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم في حَجَّةِ الوداعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ)) رواه البخاري (1691)، ومسلم (1227). .3- عن سعيدِ بنِ المسيِّب قال: ((اختلفَ عليٌّ وعثمانُ رَضِيَ اللهُ عنهما وهما بعُسْفانَ في المُتعَة، فقال عليٌّ: ما تريدُ إلَّا أن تنهى عن أمْرٍ فَعَلَه النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم، فلمَّا رأى ذلك عليٌّ أهَلَّ بهما جميعًا)) رواه البخاري (1569)، ومسلم (1223). .ثالثًا: أنَّ كِلا النُّسُكَينِ فيه تمتُّعٌ لغةً; لأنَّ التمتُّعَ مِن المتاعِ أو المُتْعَة، وهو الانتفاعُ أو النَّفْعُ، وكلٌّ مِنَ القارِنِ والمتمَتِّع، انتفَعَ بإسقاطِ أحَدِ السَّفَرينِ، وانتَفَعَ القارِنُ باندراجِ أعمالِ العُمْرَةِ في الحَجِّ ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/127). .المَطْلَب الثَّالِث: صُوَرُ القِرانِ:للقِرانِ ثَلاثُ صُوَرٍ:الصورةُ الأولى: صورةُ القِرانِ الأَصْلِيَّةُ:أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ والحَجِّ معًا، فيَجْمَع بينهما في إحرامِه، فيقول: لبَّيْكَ عُمْرَةً وحجًّا، أو لبَّيْك حجًّا وعُمْرَةً الأفضل أن يُقَدِّمَ العُمْرَةَ في التَّلْبِيَةِ؛ فيقول: (لبَّيْكَ عُمْرَةً وحجًّا)؛ لأنَّ تلبيةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم هكذا، ولأنَّها سابقةٌ على الحَجِّ. ((المجموع)) للنووي (7/171). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ1- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم جاءه جبريلُ- عليه السلام- وقال: ((صَلِّ في هذا الوادي المُبارَكِ، وقل: عُمْرَةً في حَجَّةٍ، أو قال: عُمْرَةً وحَجَّةً)) رواه البخاري (1534). . 2- عن عائشةَ- رَضِيَ اللهُ عنها- قالت: ((فمِنَّا مَن أهَلَّ بعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَن أهَلَّ بحَجة، ومِنَّا مَن أهَلَّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ)) رواه البخاري (4408) واللفظ له، ومسلم (1211). .ثانيًا: مِنَ الإجماعِنَقَلَ الإجْماعَ على جوازِ هذه الصُّورَةِ ابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (...والوجه الثَّاني من وجوه التمتُّعِ بالعُمْرَة إلى الحَجِّ هو: أن يَجْمَعَ الرجُلُ بين العُمْرَةِ والحَجِّ فيُهِلَّ بهما جميعًا في أشهُرِ الحَجِّ... هذا وجْهٌ من التمتُّعِ لا خلافَ بين العُلماءِ في جوازِه) ((التمهيد)) (8/354). والمُباركفوريُّ قال المباركفوري: (الإهلالُ بالحَجِّ والعُمْرَةِ معًا، وهذا متَّفَقٌ على جوازِه) ((مرعاة المفاتيح)) (8/459)، ويُنْظَر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/239)، ويُنْظَر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/38)، ((شرح السنة)) للبغوي (7/74)، وتُنظَرُ الإجماعاتُ المتقَدِّمة عن جوازِ القِرانِ. . الصُّورة الثَّانيةُ: إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَةِ:أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ، ثم يُدخِلَ عليها الحَجَّ.الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((خَرَجْنا مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم لا نذْكُرُ إلَّا الحَجَّ، فلمَّا جِئْنَا سَرِفَ طَمِثْتُ، فدخل عليَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم وأنا أبكي، فقال: ما يُبْكِيكِ؟ قُلْتُ: لوَدِدْتُ- واللهِ- أنِّي لم أحُجَّ العامَ. قال: لعَلَّكِ نَفِسْتِ؟ قُلْتُ: نعم. قال: فإنَّ ذلكِ شَيءٌ كَتَبَه اللهُ على بناتِ آدَمَ، فافْعَلِي ما يفْعَلُ الحاجُّ، غيرَ أن لا تَطُوفي بالبَيْتِ حتَّى تَطْهُري)) رواه البخاري (305) واللفظ له، ومسلم (1211). .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم جوَّز لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها إدخالَ الحَجِّ على العُمْرَةِ ((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/163). . 2- عن نافعٍ: ((أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أراد الحَجَّ عام نزَلَ الحَجَّاجُ بابنِ الزُّبيرِ، فقيل له: إنَّ النَّاسَ كائِنٌ بينهم قتالٌ، وإنَّا نخاف أن يَصُدُّوك، فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] إذًا أصنَعَ كما صَنَعَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، إنِّي أُشْهِدُكم أنِّي قد أوجَبْتُ عُمْرَةً. ثم خرج حتى إذا كان بظَاهِرِ البَيداءِ، قال: ما شأنُ الحَجِّ والعُمْرَةِ إلا واحِدٌ، أُشْهِدُكم أنِّي قد أوجَبْتُ حجًّا مع عُمْرَتي. وأَهْدَى هديًا اشتراه بقُدَيْدٍ ولم يَزِدْ على ذلك، فلم يَنْحَرْ، ولم يَحِلَّ من شيءٍ حَرُمَ منه، ولم يَحْلِقْ ولم يُقَصِّرْ حتى كان يومُ النَّحْرِ، فنَحَرَ وحَلَقَ، ورأى أنْ قد قَضى طوافَ الحَجِّ والعُمْرَةِ بطوافِه الأَوَّل. وقال ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: كذلك فَعَلَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم)) رواه البخاري (1640) واللفظ له، ومسلم (1230). . ثانيًا: مِنَ الإجماعِنَقَلَ الإجْماعَ على جوازِ إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَة قال ابنُ عبدِ البرِّ: (قولُ أبي ثورٍ لا يُدْخِلُ إحرامًا على إحرامٍ كما لا تَدْخُل صلاةٌ على صلاةٍ؛ ينفي دخولَ الحَجِّ على العُمْرَة، وهذا شذوذٌ، وفِعْلُ ابنِ عُمَرَ في إدخاله الحَجَّ على العُمْرَة ومعه على ذلك جمهور العلماء خيرٌ من قولِ أبي ثورٍ الذي لا أصْلَ له إلا القياسُ الفاسِدُ في هذا الموضع؛ واللهُ المستعان) ((التمهيد)) (15/219). وقال النووي: (اتفقَ جمهورُ العلماء علي جوازِ إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَةِ، وشذَّ بعض الناس فمَنَعَه، وقال: لا يدخل إحرامٌ على إحرام، كما لا يدخُلُ صلاةٌ على صلاة) ((المجموع)) (7/162)، ويُنْظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/7). : ابنُ المُنْذِر قال ابنُ المُنْذِر: (أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أَهْل العِلْم، أنَّ لِمَن أهَلَّ بعُمْرَةٍ أن يُدْخِلَ عليها الحَجَّ، ما لم يفتَتِحِ الطَّوافَ بالبَيْتِ) ((الإشراف)) (3/ 300). ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (في هذا الباب أيضًا من الفِقْه... إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَة، وهو شيءٌ لا خلاف فيه بين العلماء ما لم يَطُفِ المُعْتَمِرُ بالبيت، أو يأخُذَ في الطَّواف) ((التمهيد)) (8/229). وقال أيضًا: (العلماءُ مُجْمِعون على أنَّه إذا أَدْخَلَ الحَجَّ على العُمْرَة في أشهُرِ الحَجِّ على ما وَصَفْنا قبل الطَّوافِ بالبيت؛ أنَّه جائزٌ له ذلك، ويكون قارنًا بذلك يَلْزَمُه الذي أنشأ الحَجَّ والعُمْرَة معًا) ((التمهيد)) (15/216). ، وابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَة جائزٌ بالإجماع من غيرِ خَشْيَة الفواتِ، فمع خَشْيَةِ الفواتِ أَوْلى) ((المغني)) (3/421). ، وابنُ أخيه ابنُ أبي عُمَر قال شمس الدين ابن قُدامة: (إذا أدخل الحَجَّ على العُمْرَة قبل طوافها من غير خوفِ الفَواتِ جاز وكان قارنًا بغيرِ خلافٍ، وقد فعل ذلك ابنُ عمر، ورواه عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم) ((الشرح الكبير)) (3/239). ، والقُرطبيُّ قال القرطبي: (أجمع أَهْلُ العِلْم على أنَّ لِمَن أهلَّ بعُمْرَةٍ في أشهر الحَجِّ أن يُدْخِلَ عليها الحَجَّ ما لم يفتَتِحِ الطواف بالبيت، ويكون قارنًا بذلك، يلزَمُه ما يلزم القارنَ الذي أنشأ الحَجَّ والعُمْرَة معًا) ((تفسير القرطبي)) (2/398). ، والرَّمليُّ قال الرمليُّ: (وإن أحرَمَ بعُمْرَةٍ صحيحة في أشهر الحَجِّ ثم أحْرَمَ بحَجٍّ قبل الشُّروعِ في الطَّوافِ كان قارنًا إجماعًا) ((نهاية المحتاج)) (3/323). .مَسْألةٌ: يُشْتَرَطُ في إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَة أن يكون قبل الطَّوافِ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/172)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/323). ، والحَنابِلَة ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح (3/59)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/310). ، وهو قَوْلُ أشهَبَ من المالِكِيَّةِ ((الكافي في فقه أهل المدينة)) (1/384)، ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (15/217). ، واختارَه ابنُ عبدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (العلماءُ مُجْمِعون على أنَّه إذا أدخل الحَجَّ على العُمْرَة في أشهُرِ الحَجِّ على ما وصفنا قبل الطَّواف بالبيت أنَّه جائزٌ له ذلك ويكون قارنًا بذلك؛ يلزمه الذي أنشأ الحَجَّ والعُمْرَة معًا، وقالت طائفة من أصحاب مالك: إنَّ له أن يُدخِلَ الحَجَّ على العُمْرَة وإن كان قد طاف ما لم يركع ركعتَيِ الطَّوافِ، وقال بعضهم: ذلك له بَعَْ الطَّوافِ ما لم يُكْمِلِ السَّعيَ بين الصَّفا والمروة، وهذا كلُّه شذوذٌ عند أَهْل العِلْم، وقال أشهب: من طاف لعُمْرَتِه ولو شوطًا واحدًا لم يكن له إدخالُ الحَجِّ عليها، وهذا هو الصَّوابُ إن شاء الله) ((التمهيد)) (15/216، 217). ؛ وذلك لأنَّه إذا طاف فيكون حينئذٍ قد اشتغَلَ بمعظَمِ أعمالِ العُمْرَةِ، وشُرِعَ في سبَبِ التحَلُّلِ، ففات بذلك إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَةِ ((المجموع)) للنووي (7/172)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/323)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/240)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/100). . الصورة الثَّالِثة:إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّاختلف أَهْلُ العِلْم في حُكْمِ إدخالِ العُمْرَةِ على الحَجِّ، وذلك بأنْ يُحْرِمَ بالحَجِّ مُفْرِدًا، ثمَّ يُدْخِلَ عليها العُمْرَةَ ليكون قارنًا، وذلك على قولينِ:القول الأوّل: لا يصِحُّ إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ، فإن فعل لم يَلْزَمْه، ويتمادى على حَجِّه مفرِدًا، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: المالِكِيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (3/ 49)، ويُنظر: ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/230)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/289). ، والشَّافِعِيَّة- في الأصَحِّ ((المجموع)) للنووي (7/173)، ((نهاية المحتاج)) (3/323). - والحَنابِلَة ((المغني)) لابن قُدامة (3/423)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/310). ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف روي ذلك عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وبه قال مالك وأبو ثور، وإسحاق. ((الإشراف)) (3/300)، ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/230)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/423). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه حَجَّ مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم عام ساقَ الهَدْيَ معه، وقد أهلُّوا بالحَجِّ مُفْرَدًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: أحِلُّوا من إحرامِكم، فطوفوا بالبَيتِ وبَينَ الصَّفا والمروةِ، وقَصِّروا، وأقيموا حَلالًا، حتى إذا كان يومُ التَّرويةِ فأَهِلُّوا بالحَجِّ، واجعلوا التي قَدَّمْتُم بها مُتعةً)) رواه البخاري (1568)، ومسلم (1216) واللفظ له. .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ أَمْرَهم بفَسْخِ الحَجِّ إلى عُمْرَة إنَّما كان بغَرَضِ إعلامِهم بجوازِ العُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ؛ لإبطالِ ما كانوا عليه في الجاهليَّة مِن عَدَمِ الجوازِ، فلو كان يجوزُ إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ لأَمَرَهم بذلك، ولَمَا احتاجَ أن يأمُرَهم بفَسْخِ الحَجِّ ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (23/365). .ثانيًا: أنَّ أفعالَ العُمْرَةِ من الطَّوافِ والسعيِ والحَلْقِ، استُحِقَّتْ بالإحرامِ بالحَجِّ، فلم يبقَ في إدخالِ الإحرامِ بها فائدة، بخلاف العكس من إدخال الحَجِّ على العُمْرَة، فإنَّه يستفيدُ به الوقوفَ والرَّميَ والمَبِيتَ ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/323)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/459). .ثالثًا: أنَّ التداخُلَ على خلافِ الأصلِ، ولا يُصارُ إليه إلَّا بدليلٍ، لاسيما أنَّ فيه إدخالَ الأصغرِ على الأكبرِ، وهو لا يصِحُّ ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/323)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/240). . رابعًا: أنَّ العُمْرَة أضعَفُ من الحَجِّ، فلم يَجُزْ أن تُزاحِمَ ما هو أقوى منها بالدُّخولِ عليها، وجاز للحَجِّ مُزاحَمَتُها؛ لأنَّه أقوى منها ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/38). .القول الثاني: يجوزُ إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ، ويكون قارنًا، وهذا مَذْهَبُ الحَنَفيَّةِ يصِحُّ عند الحَنَفيَّة إدخالُ العُمْرَة على الحَجِّ، ويكون قارنًا بذلك، لكنَّه أخطأ السنَّة، فالسُّنَّة هي الإحرامُ بهما معًا، أو إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَة. ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (3/120)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (3/120). ، وهو قولُ الشَّافعيِّ في القديمُ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/38)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/324). ، واللَّخمي من المالِكِيَّة ((الذخيرة)) للقرافي (3/289). ، وبه قال عطاءٌ، والأوزاعيُّ ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (15/218)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (72/274). ، وقوَّاه ابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (هذا القول دليله قوي) ((الشرح الممتع)) (7/87). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أهَلَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالحَجِّ، ثم جاءه جبريلُ عليه السَّلامُ، وقال: صلِّ في هذا الوادي المُبارَك، وقل: عُمْرَةً في حجَّةٍ، أو عُمْرَةً وحَجَّةً)) رواه البخاري (1534). .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أُمِرَ أن يُدخِلَ العُمْرَةَ على الحَجِّ، وهذا يدلُّ على جوازِ إدخالِ العُمْرَةِ على الحَجِّ ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/460). .2- عن جابرٍ رَضِيَ الله عنه قال: ((لو أنِّي استقبلْتُ من أمري ما استدبَرْتُ، لم أسُقِ الهديَ، وجعلتُها عمرةً. فمن كان منكم ليس معه هَدْيٌ فليُحِلَّ. وليَجْعلْها عُمرةً. فقام سراقةُ بنُ مالكِ بنِ جُعشمٍ، فقال : يا رسولَ اللهِ ! ألِعَامِنا هذا أم لأبدٍ؟ فشبَّك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصابعَه واحدةً في الأخرى. وقال دخلتِ العمرةُ في الحجِّ مرتَين، لا بل لأبدِ أبدٍ)) رواه البخاري (1785)، ومسلم (1218) واللفظ له. .3- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم: ((هذه عمرةٌ استمتَعْنا بها، فمَن لم يكن عنده الهَدْيُ، فليُحِلَّ الحِلَّ كُلَّه؛ فإنَّ العُمرةَ قد دخَلَت في الحَجِّ إلى يومِ القيامةِ)) أخرجه مسلم (1241). .ثالثًا: أنَّه يستفيدُ بذلك أن يأتيَ بنُسُكَينِ بَدَلَ نُسُكٍ واحدٍ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/87). .رابعًا: قياسًا على إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَةِ؛ لأنَّه أحَدُ النُّسُكينِ ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/ 460). .المَطْلَب الرَّابِع: أعمالُ القارِنالفرع الأوَّل: أعمالُ القارِنعَمَلُ القارِنِ والمُفْرِدِ واحِدٌ؛ فالقارِنُ يكفيه إحرامٌ واحِدٌ، وطوافٌ واحِدٌ، وسعيٌ واحِدٌ، ولا يَحِلُّ إلَّا يومَ النَّحْرِ، ويقتَصِرُ على أفعالِ الحَجِّ، وتندرج أفعالُ العُمْرَةِ كلُّها في أفعالِ الحَجِّ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ من: المالِكِيَّة ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/385)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/273). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/171). ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/323). ، والحَنابِلَة ((الفروع)) لابن مفلح (5/344)، ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح (3/60). ، وبه قال أكثَرُ السَّلَفِ منهم: ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما، وجابر بن عبد الله، وعائشة، وعطاء، وطاووس، والحسن، ومجاهد، والماجشون, وإسحاق، وأبو ثور، وابن المُنْذِر وداود. ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/230)، ((تفسير القرطبي)) (2/391)، ((المجموع)) للنووي (8/61)، ((حاشية ابن القَيِّمِ)) (5/347). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عن جابرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((لم يَطُفِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم ولا أصحابُه بين الصَّفا والمروةِ إلَّا طَوافًا واحِدًا)) رواه مسلم (1215). .2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((وأمَّا الذين جمَعوا الحَجّ والعُمْرَة فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا)) رواه البخاري (1556) واللفظ له، ومسلم (1211). .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ الحديثَ نَصٌّ صريحٌ على اكتفاءِ القارِنِ بطوافٍ واحدٍ لحَجِّه وعُمْرَتِه ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/378). .3- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّها أهَلَّت بعُمْرَةٍ، فقَدِمَتْ ولم تَطُفْ بالبيتِ حتى حاضت، فنَسَكَت المناسِكَ كُلَّها، وقد أهلَّتْ بالحَجِّ، فقال لها النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((يَسَعُكِ طوافُكِ لحَجِّكِ وعُمْرَتِكِ)) رواه مسلم (1211). .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ هذا الحديثَ الصَّحيحَ صريحٌ في أنَّ القارِنَ يكفيه لحَجِّه وعُمْرَتِه طوافٌ واحِدٌ وسعيٌ واحدٌ ((فتح الباري)) لابن حجر (3/495)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/375). .4- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((دخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ؛ مَرَّتينِ)) رواه البخاري (1785)، ومسلم (1218) واللفظ له. .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ تصريحَه صلَّى الله عليه وسَلَّم بدُخولِها فيه؛ يدلُّ على دخولِ أعمالِها في أعمالِه حالةَ القِرانِ ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/378)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (9/67). .5- عن نافعٍ: ((أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عبدِ الله، وسالمَ بنَ عبدِ الله، كلَّمَا عبدَ اللهِ حين نزل الحجَّاجُ لقتالِ ابنِ الزُّبيرِ، قالا: لا يضُرُّك ألَّا تحُجَّ العامَ؛ فإنَّا نخشى أن يكونَ بين النَّاسِ قتِالٌ يُحالُ بينك وبين البَيتِ، قال: فإنْ حِيلَ بيني وبينه، فعَلْتُ كما فعل رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا معه، حين حالت كفَّارُ قُريشٍ بينه وبين البيتِ، أُشهِدُكم أنِّي قد أوجبتُ عُمرةً، فانطلق حتى أتى ذا الحُلَيفةِ فلبَّى بالعمرةِ، ثم قال: إنْ خُلِّيَ سبيلي قضيتُ عُمرَتي، وإن حيلَ بيني وبينه فعَلْتُ كما فعلَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا معه، ثم تلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الأحزاب: 21، ثم سار حتى إذا كان بظَهرِ البَيداءِ، قال: ما أمْرُهما إلَّا واحِدٌ، إن حيلَ بيني وبين العُمرةِ حيل بيني وبين الحَجِّ، أُشهِدُكم أنِّي قد أوجَبتُ حَجَّةً مع عمرةٍ، فانطلق حتى ابتاع بقُدَيدٍ هَديًا، ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيتِ وبين الصَّفا والمروةِ، ثم لم يحِلَّ منهما حتى حلَّ منهما بحَجَّةٍ يومَ النَّحرِ)) رواه البخاري (1640)، ومسلم (1230) واللفظ له. .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ في هذه الرِّوايةِ التَّصريحَ مِنِ ابنِ عُمَرَ باكتفاءِ القارِنِ بطوافٍ واحدٍ، وهو الذي طافَه يومَ النَّحْرِ للإفاضةِ، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم كذلك فَعَلَ ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/376)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (9/65). .ثانيًا: مِنَ الآثارِعن سَلَمَةَ بنِ كُهَيلٍ قال: (حلَفَ طاوس: ما طاف أحدٌ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لحَجِّه وعُمْرَتِه إلَّا طوافًا واحدًا) أخرجه عبدالرزاق كما في ((فتح الباري)) لابن حجر (3/579)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (14530) صَحَّح إسناده ابن حجر، والشَّوْكاني في ((نيل الأوطار)) (5/158). .الفرع الثَّاني: وجوبُ الهَدْيِ على القارِنِيجِبُ الهَدْيُ على القارِن قال الشيرازي: (ويجب على القارِنِ دمٌ؛ لأنَّه رُوِيَ ذلك عن ابنِ مَسعودٍ وابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما) ((المهذب)) (1/ 371). وقال ابنُ عبدِ البرِّ: (يتَّفِقان ]أي التمتُّع والقِران[ عند أكثَرِ العلماء في الهدي) ((الاستذكار)) (4/ 93). وقال الشِّنْقيطيُّ: (أجمع من يُعتَدُّ به من أَهْل العِلْم أنَّ القارِنَ يلزَمُه ما يلزم المتمَتِّعَ من الهدي، والصَّوْم عند العجْزِ عن الهَدْيِ، وهذا مذهَبُ عامَّة العلماء؛ منهم الأئمة الأربعة، إلَّا من شذ شذوذًا لا عِبْرَة به، وليس كلُّ خلافٍ جاء معتبرًا إلا خلافًا له وَجْهٌ من النَّظر) ((أضواء البيان)) (5/128) باختصار. وممَّن خالف في ذلك ابنُ حَزْم، فقال: (ولا هَدْيَ على القارنِ- مَكِّيًّا كان أو غيرَ مَكِّيٍّ- حاشا الهديَ الَّذي كان معه عندَ إحرامِه). ((المحلى)) (5/113). ووصَفَ ابنُ حَجَرٍ قولَه بالشُّذوذِ. يُنْظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/7). إذا لم يَكُنْ مِن حاضِرِي المسجِدِ الحرامِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (4/165)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/174). وحاضِرُو المسجِدِ الحرامِ عند الحَنَفيَّةِ هم أهْلُ المواقيتِ ومَنْ دونها إلى مَكَّةَ. يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/154)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/169). ، والمالِكِيَّة ((الكافي)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/384)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/84). وحاضِرو المسجِدِ الحرامِ عند المالِكِيَّة هم أهلُ مَكَّةَ وطُوًى، ويلحق بذلك المناهِلُ التي لا تُقصَر فيها الصلاةُ. يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/292). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/190-191)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/517). وحاضرو المسجد الحرام عند الشَّافِعِيَّة هم مَن مَسْكَنُهم دون مسافةِ القَصْرِ من الحرَمِ. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (7/ 175). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/ 311)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/246). وحاضِرو المسجدِ الحرام عند الحَنابِلَة هم مَن مَسْكَنُهم دون مسافَةِ القَصْرِ من آخِرِ الحَرَمِ. يُنْظَر: ((الإنصاف)) للمرداوي (3/ 312). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابقولُه تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 196].وَجْهُ الدَّلالَةِ:أ- أنَّ القارِنَ متَمَتِّعٌ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فهو داخِلٌ في مسمَّى التمتُّعِ في عُرْفِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ يدلُّ على ذلك ما يلي:1- عن مروان بن الحكم، قال: (شهدت عثمان، وعليا رضي الله عنهما وعثمان «ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي أهل بهما، لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد) رواه البخاري (1563)، واللفظ له، ومسلم (1223). . 2- عن سعيدِ بنِ المسَيِّبِ، قال: ((اختلف عليٌّ وعثمانُ رَضِيَ اللهُ عنهما وهما بعُسْفانَ في المُتعَةِ، فقال عليٌّ: ما تريدُ إلَّا أن تنهى عن أمْرٍ فَعَلَه رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، فلمَّا رأى ذلك عليٌّ، أهلَّ بهما جميعًا)) رواه البخاري (1569)، ومسلم (1223). .3- عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((تمتَّعَ نبيُّ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم وتَمَتَّعْنا معه)) رواه مسلم (1226). . وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّه وَصَفَ نُسُكَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالتمتُّعِ مع كونِه صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارنًا ((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/113). .ب- دلَّ ظاهِرُ الآيةِ على أنَّ من تمتَّعَ فعليه الهَدْي إذا لم يكُنْ مِن حاضِري المسجِدِ؛ فإنْ كان فلا دَمَ ((المجموع)) للنوي (7/169). .ثانيًا: أنَّ الهَدْيَ إذا كان واجبًا على المتمَتِّعِ بنَصِّ القرآنِ والسنَّةِ والإجماعِ، فإنَّ القارِنَ أَوْلى لأمرينِ:الأوَّل: أنَّ فِعْلَ المتَمَتِّع أكثَرُ مِن فِعْلِ القارِنِ، فإذا لَزِمَه الدَّمُ فالقارِنُ أَوْلَى ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/517). .الثَّاني: أنَّه إذا وجب على المُتَمَتِّع لأنَّه جمَعَ بين النُّسُكينِ في وقتِ أحدِهما؛ فلَأَنْ يَجِبَ على القارِنِ- وقد جمَعَ بينهما في إحرامٍ واحِدٍ- أَوْلَى، وقد اندرجَتْ جميعُ أفعالِ العُمْرَةِ في أفعالِ الحَجِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (من معنى التمتُّع أيضًا القِرانُ عند جماعةٍ من الفقهاءِ؛ لأنَّ القارِنَ يتمَتَّعُ بسقوطِ سَفَرِه الثَّاني مِن بَلَدِه، كما صنع المتمتِّعُ في عمرته إذا حجَّ من عامه ولم ينصَرِفْ إلى بلده، فالتمتُّع والقِران يتَّفقان في هذا المعنى) ((الاستذكار)) (4/93)، ((المجموع)) للنووي (7/190)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/517)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/246). . انظر أيضا: المبحث الأوَّل: أحكامُ الأَنساكِ الثَّلاثة. المبحث الثَّاني: الإفرادُ في الحَجِّ. المبحث الرَّابِع: التمتُّعُ في الحَجِّ. المبحث الخامس: الاشتراطُ في الحَجِّ والعُمْرَةِ.

المَطْلَب الأوَّل: تعريفُ التمَتُّعِ التمَتُّعُ هو أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ، ثم يَحِلَّ منها، ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/208). .المَطْلَب الثَّاني: سبَبُ تَسْمِيَةِ النُّسُك بالتمتُّعذكَرَ أَهْلُ العِلْم أسبابًا لتسميةِ نُسُك التمتُّع بهذا الاسم؛ أشهَرُهما سببانِ ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/344)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/293)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/459)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/208). :السببُ الأوَّل: أنَّ المتمَتِّعَ يتمَتَّعُ بإسقاطِ أحَدَ السَّفَرينِ عنه، فشَأْنُ كلِّ واحدٍ من النُّسُكين أن يُحْرِمَ به من الميقاتِ، وأن يَرْحَل إليه مِن قُطْرِه، فإذا تمتَّعَ بالنُّسُكين في سَفْرَةٍ واحدةٍ، فإنَّه يكون قد سقط أحدُهما، فجعل الشَّرعُ الدمَ جابِرًا لِمَا فاته، ولذلك وجب الدَّمُ أيضًا على القارِنِ، وكلٌّ يُوصَف بالتمتُّع في عُرْفِ الصَّحابَة لهذا المعنى، ولذلك أيضًا لم يَجِبِ الدَّمُ على المكِّيِّ مُتَمتِّعًا كان أو قارنًا؛ لأنَّه ليس مِن شأنِه الميقاتُ ولا السَّفَرُ. السبب الثَّاني: أنَّ المتمَتِّعَ يتمتَّعُ بين العُمْرَةِ والحَجِّ بالنِّساءِ والطِّيبِ، وبكلِّ ما لا يجوزُ للمُحْرِم فِعْلُه مِن وَقْتِ حِلِّه في العُمْرَةِ إلى وقت الحَجِّ، وهذا يدلُّ عليه الغايةُ في قَوْلِه تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة: 196]؛ فإنَّ ذلك يدلُّ على أنَّ ثَمَّةَ تمتُّعًا بين العُمْرَةِ والحَجِّ، ويدلُّ عليه أيضًا لفظُ التمتُّعِ؛ فإنَّه في اللغةِ بمعنى التلذُّذِ والانتفاعِ بالشَّيءِ.المَطْلَب الثَّالِث: صُوَرُ التمتُّعِالفرع الأوَّل: الصُّورةُ الأصليَّةُ للتمتُّعِأن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ، ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ بعد فراغِه من العُمْرَةِ.الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ: نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر قال ابنُ المُنْذِر: (أجمعوا على أنَّ من أهلَّ بعُمْرَةٍ في أشهُرِ الحَجِّ مِنْ أهل الآفاقِ من الميقات وقَدِمَ مَكَّةَ ففَرَغَ منها وأقام بها وحَجَّ مِن عامِه؛ أنَّه متمتِّع) ((الإجماع)) (ص: 56). ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (فأمَّا الوجهُ المجتَمَع على أنَّه التمتُّع المرادُ بقول الله عَزَّ وجَلَّ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فهو الرَّجُلُ يُحْرِمُ بعُمْرَةٍ في أشهُرِ الحَجِّ، وهي شوال وذو القَعْدة وعشرٌ من ذي الحِجَّة...) ((التمهيد)) (8/342). ، والقرطبيُّ قال القرطبي: (فأمَّا الوجه المجتَمَع عليه فهو التمتُّع المرادُ بقول اللهِ عزَّ وجلَّ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وذلك أن يُحرِمَ الرجلُ بعُمْرَةٍ في أشهُرِ الحَجِّ... وأن يكون من أهلِ الآفاق، وقَدِمَ مَكَّة ففَرَغَ منها ثم أقام حَلالًا بمَكَّة إلى أن أنشأ الحَجَّ منها في عامه ذلك قبل رُجُوعِه إلى بلده، أو قبل خروجِه إلى ميقاتِ أهْلِ ناحِيَتِه، فإذا فعل ذلك كان متمتعًا، وعليه ما أوجب اللهُ على المتمتع، وذلك ما استيسَرَ من الهَدْيِ، يذبَحُه ويُعطيه للمساكينِ بمنًى أو بمَكَّة، فإن لم يجد صام ثلاثةَ أيَّامٍ، وسبعةٍ إذا رجع إلى بلَدِه- على ما يأتي- وليس له صيامُ يَوْمِ النحر بإجماعٍ من المسلمين.... فهذا إجماعٌ من أَهْل العِلْم قديمًا وحديثًا في المتعة) ((تفسير القرطبي)) (2/391). .الفرع الثَّاني: الصورةُ الطَّارِئَةُ (فَسْخُ الحَجِّ إلى عُمْرَةٍ)أن يُحْرِمَ بالحَجِّ، ثم قبل طوافِه، يفسَخُ حَجَّه إلى عُمْرَةٍ، فإذا فرغ من العُمْرَةِ وحَلَّ منها، أحرَمَ بالحَجِّ قال ابنُ تيميَّة: (فأمَّا الفسخُ بعُمْرَةٍ مجرَّدةٍ فلا يُجَوِّزه أحدٌ من العلماء) ((مجموع الفتاوى)) (26/280).  وقال ابنُ القيم: (فإنَّه لو أراد أن يفسَخَ الحَجَّ إلى عُمْرَةٍ مفردة، لم يَجُزْ بلا نزاعٍ) ((زاد المعاد)) (2/219). ويُنْظَر: ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/215). ، وهذه الصورةُ تَصِحُّ عند الحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/ 415)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/359). ، والظَّاهِريَّةِ فَسْخُ الحَجِّ إلى عُمْرَة واجبٌ عند الظاهريَّة لِمَن لم يَسُقِ الهَدْيَ. ((المحلى)) لابن حَزْم (7/99 رقم 833)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/333). ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف منهم ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنهما والحسن البصري ومجاهد. ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/358)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد(1/333)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (26/49)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/222). ، واختارَه ابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (كثيرٌ مِمَّا تنازعوا فيه قد جاءت السنَّة فيه بالأمرَينِ؛ مثل الحَجِّ، قيل: لا يجوز فَسْخُ الحَجِّ إلى العُمْرَة؛ بل قيل: ولا تجوز المُتعَة, وقيل بل ذلك واجبٌ، والصحيحُ أنَّ كليهما جائزٌ؛ فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أمر الصَّحابة في حَجَّة الوداعِ بالفَسْخِ، وقد كان خَيَّرَهم بين الثلاثةِ، وقد حجَّ الخُلفاءُ بعده ولم يَفْسَخوا) ((مجموع الفتاوى)) (22/336)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/222). ، وابنُ القَيِّمِ مذهب ابن القَيِّمِ هو وجوبُ فَسْخِ الحَجِّ إلى عُمْرَةٍ؛ كمذهب ابن عباس وابن حَزْم، وفي ذلك يقول: (نحن نُشْهِدُ اللهَ علينا أنَّا لو أحرَمْنا بحجٍّ لرأينا فرضًا علينا فسخَه إلى عُمْرَةٍ؛ تفاديًا مِن غَضَبِ رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، واتِّباعًا لأمره، فوالله ما نُسِخَ هذا في حياته ولا بعده، ولا صحَّ حرفٌ واحد يعارضه، ولا خُصَّ به أصحابُه دون من بعدهم، بل أجرى اللهُ سبحانه على لسان سُراقَةَ أن يَسْأَلَه: هل ذلك مختصٌّ بهم؟ فأجاب بأن ذلك كائنٌ لأبَدِ الأَبَدِ. فما ندري ما نُقَدِّم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكَّد الذي غَضِبَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم على من خالَفَه) ((زاد المعاد)) (2/182)، وانظر: ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/224). ، والشِّنْقيطيُّ قال الشِّنْقيطيُّ: (الذي يظهر لنا صوابُه في حديث ((بل للأبد))، وحديث الخصوصيَّة بذلك الرَّكب، هو ما اختاره العلَّامة الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيميَّة رحمه الله، وهو الجمعُ المذكور بين الأحاديث بحَمْلِ الخصوصيَّة المذكورة على الوجوبِ والتحَتُّم، وحمل التأبيد المذكور على المشروعيَّة والجوازِ أو السنَّة، ولا شكَّ أنَّ هذا هو مقتضى الصناعة الأصوليَّة والمصطلحِيَّة؛ كما لا يخفى) ((أضواء البيان)) (4/360). ، وابنُ باز ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/130). ، وابنُ عُثيمين ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/96). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((كانوا يَرَوْنَ العُمْرَةَ في أشهُرِ الحَجِّ مِن أفجَرِ الفُجورِ في الأرضِ، ويجعلون المُحَرَّم صَفَرًا، ويقولون: إذا بَرَأَ الدَّبَر، وعَفا الأَثَر، وانسلَخَ صَفَر؛ حَلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعتَمَر، فقَدِمَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم وأصحابُه صَبيحةَ رابعةٍ مُهِلِّينَ بالحَجِّ، فأمَرَهم أن يجعلوها عُمْرَةً، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الحِلِّ؟ قال: الحِلُّ كُلُّه)) رواه البخاري (1564)، ومسلم (1240) واللفظ له. .2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لأصحابِه: ((اجعلوها عُمْرَةً، فأحَلَّ النَّاسُ إلَّا مَن كان معه الهَدْيُ)) رواه مسلم (1211). .3- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((لو أنِّي استقْبَلْتُ مِن أَمْري ما استَدْبَرْتُ لم أَسُقِ الهَدْيَ، وجَعَلْتُها عُمْرَةً، فمن كان منكم ليس معه هدْيٌ فليُحِلَّ، ولْيَجْعَلْها عُمْرَةً، فقام سُراقَةُ بنُ مالكِ بنِ جَعْشَم، فقال: يا رَسولَ الله، أَلِعامِنا هذا أم لأَبدٍ؟ فشَبَّكَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم أصابِعَه واحدةً في الأُخْرى، وقال: دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ- مَرَّتينِ- لا، بل لأبدٍ أبدٍ)) رواه البخاري (1785)، ومسلم (1218). .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم نصَّ على أنَّ هذه العُمْرَةَ التي وقع السُّؤالُ عنها، وكانت عُمْرَة فَسْخ، هي لأبَدِ الأَبَدِ، لا تختصُّ بقَرْنٍ دون قَرْنٍ ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/218). .ثانيًا: أنَّ فَسْخَ الحَجِّ إلى عُمْرَةٍ ليتمَتَّعَ بها؛ هو من بابِ الانتقالِ مِن الأَدْنى إلى الأَعْلى، وهو جائزٌ، وقد أمَرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم مَن نَذَرَ أن يصلِّيَ ركعتينِ في بيت المَقْدِس أن يُصَلِّيَهما في الحَرَم، فعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، ((أنَّ رجلًا قام يومَ الفتحِ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي نَذَرْتُ لله إن فتَحَ اللهُ عليك مَكَّةَ، أن أصَلِّيَ في بيت المقْدِسِ ركعتينِ، قال: صلِّ هاهنا، ثم أعاد عليه، فقال: صلِّ هاهنا، ثم أعاد عليه، فقال: شأنُكَ إِذَن))  أخرجه أبو داود (3305) واللفظ له، وأحمد (14961)، والدارمي (2339).  صَحَّح إسناده النووي في ((المجموع)) (8/473)، وابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/374)، وصَحَّحه ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (112)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/509)، وقال ابنُ تيميَّة في ((مجموع الفتاوى)) (31/245): ثابت، وقال محمد ابن عبدالهادي في ((المحرر)) (285): رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3305). .المَطْلَب الرَّابِع: شُروطُ المُتَمَتِّعالفرع الأوَّل: ما يُشتَرَط للتمَتُّعِالمسألةُ الأولى: الإحرامُ بالعُمْرَةِ في أشْهُرِ الحَجِّيُشتَرَط للمُتمتِّعِ أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ.الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الإجماعِنقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ حَزْم قال ابنُ حزم: (اتَّفقوا على أنَّ من اعتمر عُمْرَتَه كلَّها مما بين استهلالِ المحرَّم إلى أن يُتِمَّها قبل يوم الفِطْرِ ولم ينوِ بها التمتُّع ثم خرج إلى مَنْزِله أو إلى الميقاتِ وهو من غير أهلِ مَكَّة ثم حجَّ من عامه أنَّه ليس متمَتِّعًا) ((مراتب الإجماع)) (ص: 49). ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (روي عن طاوس في التمتُّع قولان هما أشدُّ شذوذًا مما ذكرنا عن الحسن؛ أحدهما: أنَّ من اعتمر في غيرِ أشْهُرِ الحَجَّ ثم أقام حتى الحَجِّ ثم حجَّ مِن عامِه أنَّه متمتِّع، وهذا لم يَقُلْ به أحدٌ من العلماء فيما عَلِمْتُ غيره، ولا ذهب إليه أحد من فقهاء الأمصار) ((التمهيد)) (8/347). ، وابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (لا نعلم بين أَهْل العِلْم خلافًا في أنَّ من اعتمر في غير أشهُرِ الحَجِّ عُمْرَةً، وحل منها قبل أشهر الحَجِّ، أنَّه لا يكون متمتعًا، إلا قولينِ شاذَّين) ((المغني)) (3/413). ، وابنُ أخيه ابنُ أبي عُمَرَ قال شمس الدين ابن قُدامة: (أجمعوا على أنَّ من اعتمر في غير أشهُرِ الحَجِّ، ثم حجَّ من عامه؛ فليس بمتمتِّع) ((الشرح الكبير)) (3/241). .ثانيًا: أنَّ شُهورَ الحَجِّ أحَقُّ بالحَجِّ من العُمْرَةِ؛ لأنَّ العُمْرَةَ جائزةٌ في السَّنَةِ كُلِّها، والحَجَّ إنَّما موضِعُه شهورٌ معلومةٌ، فإذا جعل أحدٌ العُمْرَةَ في أشهُرِ الحَجِّ ولم يأتِ في ذلك العامِ بِحَجٍّ، فقد جعلها في موضعٍ كان الحَجُّ أَوْلَى به ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/347). . ثالثًا: أنَّه لم يَجْمَع بين النُّسُكين في أشهُرِ الحَجِّ، فلم تحصُلْ صورةُ التمَتُّع، فهو كالمُفْرِد ((المجموع)) للنووي (7/174). .المسألة الثَّانية: أنْ يحُجَّ مِن عامِهأن يُحْرِمَ بالحَجِّ في عامِه، فإنِ اعتَمَرَ في أشهُرِ الحَجِّ فلم يحُجَّ ذلك العامَ، بل حَجَّ في العامِ القابِلِ؛ فليس بمتمَتِّع. الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابقال اللهُ تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة: 196].وَجْهُ الدَّلالَةِ:أن هذا يقتضي الموالاةَ بين العُمْرَةِ والحَجِّ ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/241). .ثانيًا: عن سعيدِ بنِ المسيب قال: ((كان أصحابُ رسولِ اللهِ صلي الله عليه وسلم يَعتَمِرونَ في أشهُرِ الحَجِّ، فإذا لم يحُجُّوا مِن عامِهم ذلك لم يَهْدُوا)) رواه ابن أبي شيبة (13171) واللفظ له، والبيهقي (9051)  حسَّنه النوويُّ في ((المجموع)) (7/174)، وحسَّنَ إسنادَه ابنُ الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (1/361). .ثالثًا: مِنَ الإجماعِنقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ حَزْم قال ابنُ حزم: (اتَّفقوا أن من اعتمر في أشهر الحَجِّ ثم لم يحجَّ من عامه ذلك إلى أنْ حَجَّ عامًا كاملًا؛ أنَّه ليس متمتعًا). ((مراتب الإجماع)) (ص: 49). ، وابنُ قُدامة قال شمس الدين ابن قُدامة: (لا نعلم فيه خلافًا إلَّا قولًا شاذًّا عن الحسن؛ فيمن اعتمر في أشهر الحَجِّ فهو متمتِّعٌ حجَّ أو لم يحُجَّ) ((الشرح الكبير)) (3/241). . رابعًا: أنَّهم إذا أجمعوا على أنَّ مَنِ اعتمَرَ في غيرِ أشْهُرِ الحَجِّ ثم حجَّ مِن عامِه، فليس بمتمَتِّع؛ فهذا أَوْلى؛ لأنَّ التباعُدَ بينهما أكثَرُ ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/241). .المسألة الثَّالِثة: عَدَمُ السَّفَرِيُشتَرَطُ للمتمَتِّع ألَّا يسافِرَ بين العُمْرَةِ والحَجِّ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة ضابِطُه عند الحَنَفيَّة: ألَّا يرجِعَ إلى بلده. ((تبيين الحقائق)) للزيلعي و((حاشية الشلبي)) (2/48)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (3/15). ، والمالِكِيَّة ضابِطُه عند المالِكِيَّة: ألَّا يَرْجِعَ إلى بلده أو أبعَدَ منه. ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/82)، ((الشرح الكبير)) للشيخ الدردير و((حاشية الدسوقي)) (2/29)، ويُنْظَر: ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/346)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/130). ، والشَّافِعِيَّة ضابطه عند الشَّافِعِيَّة ورواية عن أحمد: ألَّا يرجِعَ إلى ميقاته. ((المجموع)) للنووي (7/174)، ((نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج)) (3/327)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/313). ، والحَنابِلَة ضابِطُه عند الحَنابِلَة: ألَّا يسافِرَ بين العُمْرَة والحَجِّ سَفرًا بعيدًا تَقْصُرَ في مِثْلِه الصَّلاة. ((الإنصاف)) للمرداوي (3/312)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/413). ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف في مصنف ابن أبي شيبة: عن عطاءٍ, وطاوس, ومجاهد؛ قالوا: (إن خَرَجَ في أشهُرِ الحَجِّ ثم أقام فهو متمَتِّع). ، وهو قولُ عامَّةِ أَهْلِ العِلْمِ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (فإن اعتمر في أشهر الحَجِّ ثم رجع إلى بلده ومنزله ثم حجَّ مِن عامه ذلك؛ فليس بمتمَتِّع ولا هَدْيَ عليه ولا صيام عند جماعة العلماء أيضًا إلَّا الحسن البصري؛ فإنَّه قال: عليه هَدْيُ حَجٍّ أو لم يحجَّ. قال: لأنَّه كان يقال عُمْرَةٌ في أشهر الحَجّ متعةٌ.... والذي عليه جماعة الفقهاء وعامَّة العلماء ما ذكرتُ لك قبل هذا...وعلى هذا الناسُ) ((التمهيد)) (8/345، 346). وقال الشِّنْقيطيُّ: (الحاصل: أنَّ الأئمَّة الأربعة متَّفقون على أنَّ السَّفَر بعد العُمْرَة، والإحرامَ بالحَجِّ من منتهى ذلك السَّفَرِ؛ مُسقِطٌ لدَمِ التمتُّعِ، إلَّا أنهم مختلفون في قَدْرِ المسافَةِ؛ فمنهم من يقول: لا بدَّ أن يرجع بعد العُمْرَةِ في أشهر الحَجِّ إلى المحِلِّ الذي جاء منه، ثم يُنْشِئ سَفَرًا للحجِّ ويُحْرِمَ من الميقاتِ، وبعضهم يقول: يكفيه أن يَرْجِعَ إلى بَلَدِه أو يسافِرَ مسافةً مساويةً لمسافةِ بلده، وبعضُهم يكفي عنده سَفَرَ مسافةِ القَصَر، وبعضهم يقول: يكفيه أن يَرْجِعَ لإحرامِ الحَجِّ إلى ميقاتِه) ((أضواء البيان)) (5/123). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتاب قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 196].وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّه لا فَرْقَ بين حاضري المسجِدِ الحرامِ في عدم وُجوبِ الدَّمِ عليهم، وبين الآفاقِيِّينَ في وجوبِ الدَّمِ عليهم، إلا أنَّ الآفاقيينَ تَرَفَّهوا بإسقاطِ أحَدِ السَّفَرينِ عنهم، وإذا كان الأمرُ كذلك، فإذا سافروا بين الحَجِّ والعُمْرَةِ فلا يكونون قد ترفَّهوا بتَرْك أحَدِ السَّفَرينِ، فزال عنهم اسمُ التمتُّعِ وسَبَبُه ((المغني)) لابن قُدامة (3/414)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/124). .المسألة الرَّابِعة: نِيَّةُ المُتمَتِّعِ في ابتداءِ العُمْرَةِ أو في أثنائِهااختلف أَهْلُ العِلْم في اشتراطِ نِيَّة المُتَمَتِّع في ابتداءِ العُمْرَةِ أو في أثنائِها على قولين:القول الأوّل: لا تُشتَرَط نيَّةُ التمتُّعِ، وهو مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة لم يذكُرْه الحَنَفيَّة ضمن شروطِ التمتُّع، فدلَّ على عدم اعتبارِه عندهم. يُنْظَر: ((الفتاوى الهندية)) (1/238)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (3/4). ، والمالِكِيَّة ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/558، 559)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/293). ، والشَّافِعِيَّة- في الأصحِّ ((المجموع)) للنووي (7/178)، ويُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (8/210). - واختارَه ابنُ قُدامة مِنَ الحَنابِلَة قال شمس الدين ابن قُدامة: (ذكر القاضي شرطًا سادسًا لوجوب الدمِ، وهو أن ينوِيَ في ابتداءِ العُمْرَة وفي أثنائها أنَّه متمَتِّع، وظاهر النص يدلُّ على أن هذا غيرُ مُشتَرَط؛ فإنَّه لم يذكره، وكذلك الإجماعُ الذي ذكرناه مخالفٌ لهذا القول؛ لأنَّه قد حصل له الترفُّه بترك أحد السَّفَرين، فلَزِمَه الدمُ) ((الشرح الكبير)) (3/244)، ويُنْظَر: ((الإنصاف)) للمرداوي (3/313). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ:قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة: 196].وَجْهُ الدَّلالَةِ:عمومُ الآية، فإنَّه لم يُشتَرَط فيها نيَّةُ التمتُّع، وتخصيصُه بها هو تخصيصٌ للقرآنِ بغير دليلٍ ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/125). .ثانيًا: أنَّه لا يُحتاجُ إلى النيَّةِ؛ لأنَّ الدَّمَ يتعلَّقُ بترك الإحرامِ بالحَجِّ من الميقاتِ، وذلك يوجَدُ من غيرِ نِيَّةٍ ((المجموع)) للنووي (7/174). . القول الثاني: يُشتَرَطُ نيَّةُ التمتُّعِ محلُّ نيَّة التمتُّع عندهم: هو وقتُ الإحرام بالعُمْرَة، وقال بعضُهم: له نيَّة التمتُّع، ما لم يفْرغْ من أعمالِ العُمْرَة؛ كالخلافِ في وقت نية الجَمْعِ بين الصلاتين، فقال بعضهم: ينوي عند ابتداءِ الأُولى منهما، وقال بعضهم: له نيَّتُه ما لم يفرغ من الصلاة الأولى. ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/125). ، وهذا مَذْهَبُ الحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/313)، ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح (3/62). ، ووجهٌ للشافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/174)، ((شرح النووي على مسلم)) (8/210). ، واختارَه ابنُ عُثيمين ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/83). ؛ وذلك لأنَّه جمَعَ بين عبادتينِ في وقتِ إحداهما، فافتقَرَ إلى نيَّة الجمعِ؛ كالجَمْعِ بين الصَّلاتينِ ((المجموع)) للنووي (7/174)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/125). .الفرع الثَّاني: ما لا يُشتَرَط للتمتُّعالمسألة الأولى: كونُ الحَجِّ والعُمْرَةِ عن شخصٍ واحدٍلا يُشتَرَط كونُ الحَجِّ والعُمْرَةِ عن شخصٍ واحدٍ فيصح أن يكون حَجُّه عن شخصٍ، وعُمْرَتُه لآخَرَ. ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة: الحَنَفيَّة لم يَذْكُرْه الحَنَفيَّةُ ضمن شروط التمتُّع. ((حاشية ابن عابدين)) (2/535)، ويُنْظَر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/126). ، والمالِكِيَّة ((الشرح الكبير)) للشيخ الدردير و((حاشية الدسوقي)) (2/30)، ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/126). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/177)، ويُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (8/210). ، والحَنابِلَة ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح (3/62)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/313). . الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابقال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196].وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ ظاهِرَ الآيةِ أنَّه لا يُعتَبَر وقوعُ النُّسُكينِ عن واحدٍ ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/ 414). .ثانيًا: أنَّ مؤدِّيَ النُّسُكينِ شَخْصٌ واحدٌ ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/125). .المسألة الثَّانية: تمَتُّعُ حاضِرِي المسجِدِ الحرامِ لحاضِرِي المسجِدِ الحرامِ التمتُّعُ والقِرانُ، مِثْلُهم مِثْلُ الآفاقيِّ، لكِنْ يَسْقُطُ عنهم الدّمُ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: المالِكِيَّة لكن كره المالِكِيَّةُ القران للمكي، قال مالك في الموازية: أكْرَهُ القرانَ للمَكِّي، فإن فعل فلا هَدْيَ. ((الكافي في فقه أهْلِ المدينة)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/382)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/291). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/169، 171) ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/516). ، والحَنابِلَة ((المبدع شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/61)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/415). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابقال اللهُ تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 196].وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ الآيةَ أثبتَتِ التمتُّعَ لحاضري المسجِدِ الحرامِ، وإنَّما نَفَتْ وُجوبَ الدَّمِ عليهم ((المجموع)) للنووي (7/169). .ثانيًا: أنَّ حقيقةَ التمتُّعِ والقِرانِ موجودةٌ في حاضري المسجِدِ الحرامِ، كالآفاقيِّينَ، ولا فَرْقَ، وإنَّما يقع الخلافُ بينهم في وجوبِ الدَّمِ على الآفاقيِّينَ دون حاضِرِي المسجِدِ الحرام؛ بسبب ما حصل للآفاقِيِّينَ من الترفُّه بسقُوطِ أحَدِ السَّفَرينِ عنهم ((المغني)) لابن قُدامة (3/415). .ثالثًا: أنَّ ما كان من النُّسُك قُرْبةً وطاعةً في حَقِّ غيرِ حاضِرِي المسجدِ الحرامِ، كان قُربةً وطاعةً في حَقِّ حاضِرِي المسجِدِ الحرامِ؛ كالإفرادِ ((المجموع)) للنووي (7/171). . المسألة الثَّالِثة: المقصودُ بحاضِرِي المسجِدِ الحرامِاختلف الفُقَهاءُ في حاضِرِي المسجِدِ الحرامِ الذين لا يجب عليهم دَمُ التمتُّعِ والقِرانِ إلى أقوالٍ؛ منها:القول الأوّل: حاضِرُو المسجِدِ الحرامِ هم أهلُ مَكَّةَ، وأهْلُ الحَرَمِ، ومن كان مِنَ الحَرَمِ دون مسافَةِ القَصْرِ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/174). ((روضة الطالبين)) للنووي (3/46). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/412)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/414). ، واختاره الطَّبريُّ قال ابنُ جرير: (وأولى الأقوالِ في ذلك بالصِّحَّة عندنا قولُ من قال: إنَّ حاضري المسجِدِ الحرامِ مَن هو حوله ممن بينه وبينه من المسافَةِ ما لا تقصُرُ إليه الصلوات) ((تفسير ابن جرير)) (3/112). . وذلك للآتي:أوَّلًا: لأنَّ الشَّارِعَ حَدَّ الحاضِرَ بدون مسافَةِ القَصْرِ، بنفي أحكامِ المسافرينَ عنه، فالاعتبارُ به أَوْلى من الاعتبارِ بالنُّسُك؛ لوجودِ لَفْظِ الحضورِ في الآيَةِ ((المغني)) لابن قُدامة (3/415). .ثانيًا: أنَّ حاضِرَ الشَّيءِ مَن دنا منه، ومَن دونَ مسافَةِ القَصْرِ قريبٌ في حُكْمِ الحاضِرِ؛ بدليل أنَّه إذا قَصَدَه لا يترخَّصُ رُخَصَ السَّفَر، فيكون مِن حاضِرِيه ((المغني)) لابن قُدامة (3/414). .القول الثاني: هُم أهْلُ الحَرَم، وهو قولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَف منهم ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنهما، ومجاهد، وطاووس، ينظر ((تفسير الطبري)) (3/110، 111)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/414). وقَدَّمَه صاحِبُ الفُروعِ ((الفروع)) لابن مفلح (5/349). واستظهَرَه ابنُ حَجَرٍ ((فتح الباري)) لابن حجر (3/434). ، وأفتت به اللَّجْنَة الدَّائِمَة ونص الفتوى: (اختلف أَهْل العِلْم في المعنى بـ: حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ **البقرة: 196** والراجح أنهم أهلُ الحرم) ((فتاوى اللَّجْنَة الدَّائِمَة- المجموعة الأولى)) (11/390). واختارَه ابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (الأقرب... أنَّ حاضري المسجِدِ الحرامِ هم أهلُ الحرم؛ وأمَّا من كان مِن غيرِ أهْلِ الحرمِ فليسوا مِن حاضريه؛ بل هم مِن محلٍّ آخر؛ وهذا هو الذي ينضَبِطُ) ((تفسير ابن عُثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/395)، وفي موضع آخرَ قال: (وأقربُ الأقوال أن نقول: إنَّ حاضري المسجِدِ الحرام هم أهلُ مَكَّة، أو أهل الحَرَم، أي: من كان مِن أهْلِ مَكَّة ولو كان في الحِلِّ، أو من كان في الحَرَم ولو كان خارِجَ مَكَّة). ((الشرح الممتع)) (7/89). .الدَّليلُ مِنَ الآثارِ:قال ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 196] هم أهْلُ الحَرَمِ أخرجه الطبري في ((تفسيره)) (3504). .المَطْلَب الخامس: أعمالُ المُتَمَتِّعالفرع الأوَّل: طوافُ المتمَتِّع وسَعْيُهيجبُ على المتمَتِّع طوافان وسَعيانِ، فيبدأ أوَّلًا بعُمْرَةٍ تامَّةٍ: فيطوف ويسعى، ثم يحلِقُ أو يُقَصِّر، ويتحلَّل منها، ثم يُحْرِم بالحَجِّ، ويأتي بطوافٍ للحَجِّ وسَعْيٍ له، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة: الحَنَفيَّة ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (3/6)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (3/6). ، والمالِكِيَّة ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/351)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/344). ، والشَّافِعِيَّة ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/324). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/506). ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف قال ابنُ عبدِ البرِّ: (واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري وأبو ثور على أنَّ المتمتع يطوف لعمرته بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة وعليه بعد (أيضًا) طواف آخر لحجه وسعي بين الصفا والمروة). ((التمهيد)) (8/351). ، وحُكِيَ الإجماعُ على أنَّ المتمتِّعَ عليه طوافان: طوافٌ لِعُمْرَتِه، وطوافٌ لحَجِّه قال ابنُ رشد: (أجمعوا أن من تمتع بالعُمْرَة إلى الحَجّ أن عليه طوافين طوافًا للعُمْرَة لحله منها وطوافًا للحج يوم النحر على ما في حديث عائشة المشهور) ((بداية المجتهد)) (1/344). .الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((فطاف الذين كانوا أهلُّوا بالعُمْرَةِ بالبيتِ وبين الصَّفا والمروة، ثم حَلُّوا، ثم طافوا طوافًا واحدا بعد أن رَجَعوا مِن مِنًى، وأمَّا الذين جمعوا الحَجَّ والعُمْرَةَ فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا)) رواه البخاري (1556) واللفظ له، ومسلم (1211). .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّه يدلُّ على الفَرْقِ بين القارِنِ والمتمَتِّع، وأنَّ القارِنَ يفعَلُ كفِعْلِ المُفرِدِ والمتمَتِّع؛ يطوف لعُمْرَتِه ويطوفُ لحَجِّه ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (9/69). .2- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه سُئِلَ عن متعةِ الحَجِّ، فقال: أهَلَّ المهاجرونَ والأنصارُ وأزواجُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم في حَجَّةِ الوداع وأهْلَلْنا، فلمَّا قَدِمْنا مَكَّةَ، قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: اجعلوا إهلالَكم بالحَجِّ عُمْرَةً إلَّا من قلَّدَ الهَدْيَ، فطُفْنا بالبَيت وبالصَّفا والمروة، وأتينا النِّساءَ، ولَبِسْنا الثِّيابَ، وقال: من قَلَّدَ الهديَ فإنَّه لا يَحِلُّ له حتى يبلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه، ثم أمَرَنا عَشِيَّةَ التَّروِيَة أن نُهِلَّ بالحَجِّ، فإذا فَرَغْنا من المناسِكِ جِئْنا فطُفْنا بالبَيتِ وبالصَّفا والمروةِ، فقد تمَّ حَجُّنا وعلينا الهَدْيُ)) رواه البخاري (1572). .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ الحديثَ صَريحٌ في أنَّ طوافَ المتمَتِّع وسَعْيَه مرَّتان: مرَّةٌ لعُمْرَتِه، ومَرَّةٌ لحَجِّه ((حاشية ابن القَيِّمِ)) (5/347)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (9/69). . الفرع الثَّاني: الهَدْيُيجب على المتَمَتِّع دمُ نُسُكٍ إذا لم يكُنْ مِن حاضِرِي المسجِدِ الحرامِ، فمَنْ لم يجِدْ فلْيَصُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وسبعةً إذا رَجَعَ.الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابقولُه تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 196].ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((تمتَّعَ النَّاسُ مع رسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم بالعُمْرَة إلى الحَجِّ... فلمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال للنَّاسِ:... مَن لم يكُنْ منكم أهدى فلْيَطُفْ بالبيتِ وبالصَّفا والمروةِ, وليُقَصِّر, وليحلل ثمَّ لْيُهِلَّ بالحَجِّ وليَهْدي, فمَنْ لم يجِدْ هديا فلْيَصُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وسبعةً إذا رجَعَ إلى أهْلِه)) رواه البخاري (1691)، ومسلم (1227) واللفظ له. .ثالثًا: مِنَ الآثارِعن أبي حمزةَ قال: ((سألتُ ابنَ عبَّاسٍ عن المتعَةِ، فأمرني بها، وسألْتُه عن الهَدْيِ: فقال: فيها جَزورٌ، أو بقرةٌ، أو شاة، أو شِرْكٌ في دَمٍ)) رواه البخاري (1688) واللفظ له، ومسلم (1242). . رابعًا: مِنَ الإجماعِنقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنْذِر قال ابنُ المُنْذِر: (أجمع أَهْلُ العِلْم على أنَّ من أهَلَّ بعُمْرَةٍ في أشهُرِ الحَجِّ مِنَ الآفاقِ من الميقات، وقَدِمَ مَكَّة ففرغ منها، وأقام بها فحَجَّ من عامه، أنَّه متمتِّعٌ، وعليه الهدْيُ إن وجد، وإلا فالصيام) ((الإشراف)) (3/ 296). ، وابنُ رُشْدٍ ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/376). ، والقرطبيُّ ((تفسير القرطبي)) (2/390،391). ، وابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (لا خلاف بين أَهْل العِلْم، في أنَّ دَمَ المتعةِ لا يجب على حاضري المسجِدِ الحرام) ((المغني)) (3/414)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/242). وابنُ مُفْلِحٍ قال ابنُ مفلح: (يلزم المتمتِّعَ دمٌ بالإجماع) ((الفروع)) (5/347). . والشَّوْكانيُّ قال الشَّوْكاني: (وقع الإجماعُ على وجوب الهَدْي على المتمتِّع). ((السيل الجرار)) (ص: 337). .خامسًا: أنَّ حاضِرَ المسجِدِ الحرامِ ميقاتُه مَكَّة، ولا يحصُلُ له الترفُّه بتَرْكِ أحَدِ السَّفَرينِ، فهو أحرم من ميقاتِه، فأشبَهَ المُفْرِدَ ((الشرح الكبير)) لشمس الدين لابن قُدامة (3/242). .المطلب السادس: إجزاء التمتُّعِ عن الحَجِّ والعُمرةِ   يُجزِئُ التمتُّعُ في الحجِّ عن الحجِّ والعُمرةِ.الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ:    نقلَ الإجماعَ على ذلك ابن قُدامة [917] قال ابنُ قُدامة: (وتُجزئ عُمرة المتمتِّع، وعُمرةُ القارن، والعُمرة من أدْنى الحلِّ، عن العُمرة الواجبة، ولا نعلم في إجزاءِ عُمرة التمتُّع خلافًا، كذلك قال ابنُ عمر، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، ولا نعلم عن غيرِهم خلافَهم). ((المغني)) (3/219). وقال: (ولا خلافَ في إجزاء التمتُّعِ عن الحجِّ والعمرةِ جميعًا). ((المغني)) (3/261). ونقَل عنه ابنُ حجر ذلك، فقال: (وقال ابنُ قُدامة: يترجَّح التمتع بأنَّ الذي يُفرد إن اعتمَر بعدها، فهي عُمرةٌ مُختلَف في إجزائها عن حَجَّةِ [كذا، والمناسب للسِّياق: عُمرةِ] الإسلام، بخِلاف عُمرة التمتُّع فهي مُجزئةٌ بلا خِلاف). ((فتح الباري)) (3/429). ، وابن تيميَّة [918] قال ابنُ تيميَّة: (وعُمرتُه تُجزئه عن عُمرةِ الإسلام بالاتِّفاق بخلاف عمرة القارن، فإن فيها اختلافًا). ((شرح عمدة الفقه لابن تيميَّة)) (2/543). وبرهانُ الدِّين بن مفلح [919] قال بُرهان الدِّين ابنُ مفلح: («وتُجزئ عُمرةُ القارن، والعمرةُ من التَّنعيم عن عُمرةِ الإسلام في أصحِّ الرِّوايتين»، أما عُمرةُ المتمتِّع فتُجزئ عنها بغير خِلافٍ نعلمه). ((المبدع شرح المقنع)) (3/186). . انظر أيضا: المبحث الأوَّل: أحكامُ الأَنساكِ الثَّلاثة. المبحث الثَّاني: الإفرادُ في الحَجِّ. المبحث الثَّالِث: القِرانُ في الحَجِّ. المبحث الخامس: الاشتراطُ في الحَجِّ والعُمْرَةِ.

المَطْلَب الأوَّل: حُكْمُ الاشتراطِ في الحَجِّ والعُمْرَة وفائدته الفرع الأول: حُكْمُ الاشتراطِ في الحَجِّ والعُمْرَةيصحُّ الاشتراطُ لا تلزَمُ صيغةٌ معيَّنة في الاشتراطِ؛ فله أن يُهِلَّ بالحَجِّ أو العُمْرَةِ، ثم يقول: إنْ حَبَسَني حابسٌ فمَحَلِّي حيث حَبَسْتَني، أو يقول: اللهمَّ مَحَلِّي حيث حَبَسْتَني، قال ابنُ قُدامة: (وغيرُ هذا اللَّفظ مما يؤدِّي معناه، يقومُ مقامَه؛ لأنَّ المقصودَ المعنى، والعبارةُ إنما تُعتَبَر لتأدية المعنى) ((المغني)) (3/266).  وقال ابنُ عُثيمين: (لا يلزَمُه أن يأتيَ بالصيغةِ الواردة؛ لأنَّ هذا مما لا يُتعَبَّد بلفظه، والشيءُ الذي لا يُتعَبَّد بلفظه يُكتَفى فيه بالمعنى) ((مجموع فتاوى ابن عُثيمين)) (22/26). وانظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/266). في الحَجِّ والعُمْرَة، وهذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (8/310)، وعندهم جائزٌ، قال الشافعي: (لو ثبت حديثُ عُروةَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم في الاستثناءِ لم أَعْدُه إلى غيره؛ لأنَّه لا يَحِلُّ عندي خلافُ ما ثَبَتَ عن رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم... وهذا ممَّا أستخيرُ اللهَ تعالى فيه) ((الأم)) (2/172). قال البيهقيُّ: (قد ثبت هذا الحديثُ من أوجهٍ عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم) ((السنن الكبرى)) (5/221)، ويُنْظَر: ((المجموع)) للنووي (8/310). ، والحَنابِلَة وعندهم مُستحَبٌّ مطلقًا. ((الإنصاف)) للمرداوي (3/ 307)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/265). ، والظَّاهِريَّة وعندهم واجب، قال ابنُ حزم: (ونُحِبُّ له في كلِّ ما ذكرنا أن يشتَرِطَ فيقول عند إهلاله: (اللهمَّ، إنَّ محلي حيث تحبسني), فإن قال ذلك فأصابه أمرٌ ما يَعوُقُه عن تمامِ ما خرج له من حجٍّ أو عُمْرَة؛ أحَلَّ، ولا شيءَ عليه; لا هَدْيٌ، ولا قضاءٌ إلَّا إن كان لم يحُجَّ قط، ولا اعتَمَرَ؛ فعليه أن يحجَّ حَجَّةَ الإسلامِ وعُمْرَتَه) ((المحلى)) (7/99). وقال أيضًا: (هذه آثارٌ متظاهِرَةٌ متواترة لا يَسَعُ أحدًا الخروجُ عنها) ((المحلى)) (7/113). وقال أيضًا: (وهو قول... أبي سليمان) ((المحلى)) (7/114). ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف وممن رُوي عنه أنَّه رأى الاشتراطَ عند الإحرام: عمر، وعثمان, وعلي، وابن مسعود، وعائشة، وعمار بن ياسر، وذهب إليه عبيدة السلماني، وعلقمة، والأسود، وشريح، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي, وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار، وعكرمة. ((المحلى)) لابن حَزْم (7/114)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/265، 266). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((دخل النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم على ضباعة بنت الزبير، فقالت: يا رَسولَ الله إني أريد الحَجّ وأنا شاكية؟ فقال النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني)) رواه البخاري (5089)، ومسلم (1207) واللفظ له. .ثانيًا: مِنَ الآثارِ1- عن سُوَيدِ بْنِ غَفَلةَ، قال: ((قال لي عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: يا أبا أُمَيَّةَ حُجَّ واشتَرِطْ؛ فإنَّ لك ما اشترَطْتَ، ولله عليك ما اشتَرَطْتَ)) رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح ((المجموع)) (8/309). . 2- عن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((حُجَّ واشتَرِطْ، وقل: اللهمَّ، الحَجَّ أرَدْتُ، وله عَمَدْتُ، فإنْ تَيَسَّرَ وإلَّا فعُمْرَةٌ)) رواه البيهقي (10412) حسن إسناده النووي في ((المجموع)) (8/309). .3- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت لعُروةَ: ((هل تَسْتَثني إذا حَجَجْتَ؟ فقال: ماذا أقولُ؟ قالت: قل: اللهمَّ، الحَجَّ أردْتُ، وله عَمَدْتُ، فإن يَسَّرْتَه فهو الحَجُّ، وإنْ حَبَسَني حابسٌ، فهو عُمْرَةٌ)) رواه الشافعي في ((مسنده)) (816)، والبيهقي (10414)  صحح إسناده على شرط البخاري ومسلم النووي في ((المجموع)) (8/309). .ثالثًا: أنَّه لو نذَرَ صَوْمَ يومٍ أو أيَّامٍ بِشَرْطِ أن يخرُجَ منه بعُذْرٍ؛ صَحَّ الشَّرْطُ، وجاز الخروجُ منه بذلك العُذْرِ بلا خلافٍ، فكذا الاشتراطُ في النُّسُكِ ((المجموع)) للنووي (8/318). .رابعًا: أنَّ للشَّرْطِ تأثيرًا في العباداتِ؛ بدليلِ قَولِه: إنْ شَفى اللهُ مريضي صُمْتُ شَهْرًا ونَحْوه ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/529). .الفرع الثاني: فائدة الاشتراطفائدةُ الاشتراطِ: أنَّه إذا حُبِسَ عن النُّسُك بعُذْرٍ؛ فإنَّه يَحِلُّ منه، وليس عليه هَدْيٌ ولا صَوْمٌ، ولا قضاءٌ، ولا غيره، وهذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (8/311)، ((نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج)) للرملي (3/364). ، والحَنابِلَة قال المرداوي: (الاشتراطُ يفيدُ شيئين: أحدُهما: إذا عاقه عَدُوٌّ أو مَرَض، أو ذَهابُ نَفقةٍ، أو نحوه؛ جاز له التحلُّل. الثَّاني: لا شيءَ عليه بالتحلُّلِ). ((الإنصاف)) (3/307)، ويُنْظَر: ((الإقناع)) للحجاوي (1/401). ، واختارَه ابنُ حزمٍ ((المحلى)) لابن حَزْم (7/99رقم 833). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القيِّمِ: (قد شرع اللهُ لعباده التعليقَ بالشُّروط في كل موضعٍ يَحتاجُ إليه العبدُ حتى بينه وبين ربِّه، كما قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم لضباعة بنت الزبير وقد شكت إليه وقت الإحرام، فقال: "حُجِّي واشتَرِطي على ربِّك، فقولي: إنْ حَبَسني حابس فمحلي حيث حبَسْتَني؛ فإنَّ لكِ ما اشترطْتِ على ربِّكِ" فهذا شرطٌ مع الله في العبادة، وقد شرعه على لسانِ رسوله؛ لحاجة الأُمَّة إليه، ويفيد شيئين: جوازَ التحلُّلِ، وسُقوطَ الهَدْيِ) ((إعلام الموقعين)) (3/426). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (أمَّا فائدةُ الاشتراطِ فإنَّ فائدته أنَّ الإنسانَ إذا حصل له ما يمنعُ من إتمام نُسُكه تحلَّلَ بدون شيءٍ، يعنى تحلَّلَ وليس عليه فديةٌ ولا قضاءٌ) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (22/28). وقال أيضًا: (فائدَتُه أنَّه إذا وُجِدَ المانعُ حَلَّ من إحرامِه مجَّانًا، ومعنى قولنا: «مجَّانًا» أي بلا هَدْيٍ؛ لأنَّ من أُحْصِرَ عن إتمامِ النُّسُكِ فإنَّه يلزَمُه هَدْيٌ؛ لقوله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ **البقرة: 196**، فإذا كان قد اشترَطَ ووُجِدَ ما يمنعُه من إتمام النُّسُك، قلنا له: حِلَّ بلا شيءٍ، مجَّانًا، ولو لم يَشْتَرِطْ لم يَحِلَّ إلَّا إذا أُحْصِرَ بعَدُوٍّ على رأيِ كثيرٍ من العلماء، فإنْ حُصِرَ بمَرَضٍ، أو حادِث، أو ذَهاب نَفقةٍ، أو ما أشبه ذلك؛ فإنَّه يبقى مُحْرِمًا ولا يَحِلُّ، لكِنْ إن فاته الوقوفُ، فله أن يتحلَّلَ بعُمْرَةٍ، ثم يحُجَّ من العامِ القادِمِ) ((الشرح الممتع)) (7/73). ؛ وذلك لأنَّ للشَّرْطِ تأثيرًا في العبادات، وإنما لم يَلْزَمْه هديٌ ولا قضاءٌ؛ لأنَّه إذا شرَط شرطًا كان إحرامُه الذي فَعَلَه إلى حينِ وُجودِ الشَّرْطِ، فصار بمنزلة مَن أكمَلَ أفعالَ الحَجِّ ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/529). .المَطْلَب الثَّاني: متى يُشرَعُ الاشتراطُ؟ يُشْرَعُ الاشتراطُ إذا خاف المانِعَ من إتمامِ النُّسُكِ، وهذا اختيارُ ابنِ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (يُستحَبُّ للمحرم الاشتراط إن كان خائفًا، وإلَّا فلا؛ جمعًا بين الأخبارِ) ((الفتاوى الكبرى)) (5/382). وقال أيضًا: (إن اشترط على ربِّه؛ خوفًا من العارض، فقال: وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستَني، كان حَسَنًا. فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أمر ابنةَ عَمِّه ضباعة بنتَ الزبير بن عبد المطلب أن تشترِطَ على ربِّها لَمَّا كانت شاكيةً، فخاف أن يَصُدَّها المرضُ عن البيت، ولم يكن يأمُرُ بذلك كلَّ مَن حَجَّ) ((مجموع الفتاوى)) (26/105). ، وابنِ القَيِّمِ قال ابنُ القيم: (قد شرع اللهُ لعباده التعليقَ بالشُّروط في كل موضعٍ يَحتاجُ إليه العبدُ حتى بينه وبين ربِّه، كما قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم لضباعة بنت الزبير وقد شكت إليه وقت الإحرام، فقال: "حُجِّي واشتَرِطي على ربِّك، فقولي: إنْ حَبَسني حابس فمحلي حيث حبَسْتَني؛ فإنَّ لكِ ما اشترطْتِ على ربِّكِ" فهذا شرطٌ مع الله في العبادة، وقد شرعه على لسانِ رسوله؛ لحاجة الأُمَّة إليه، ويفيد شيئين: جوازَ التحلُّلِ، وسُقوطَ الهَدْيِ) ((إعلام الموقعين)) (3/426). ، وابنِ باز قال ابنُ باز: (إنْ خاف المُحْرِم ألَّا يتمكَّنَ مِن أداءِ نُسُكه؛ لكونه مريضًا أو خائفًا من عَدُوٍّ ونحوه؛ استُحِبَّ له أن يقول عند إحرامِه: فإنْ حَبَسَني حابسٌ فمَحلِّي حيث حبسْتَني). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/49). ، وابنِ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (سُنَّةٌ لِمَن كان يخافُ المانِعَ من إتمام النُّسُك، غيرُ سُنَّةٍ لِمَن لم يَخَفْ، وهذا القولُ هو الصحيح، وهو الذي تجتمِعُ به الأدلَّة؛ فإنَّ الرسولَ صلَّى الله عليه وسَلَّم أحرم بعُمَرِه كُلِّها، حتى في الحُدَيْبِيَة أحرَمَ ولم يَقُلْ: إن حبسني حابسٌ، وحُبِسَ، وكذلك في عُمْرَةِ القضاء، وعُمْرَةِ الجِعْرَانةِ، وحَجَّةِ الوداع، ولم يُنقَل عنه أنَّه قال: وإنْ حَبَسني حابسٌ، ولا أمَرَ به أصحابَه أمرًا مُطلقًا، بل أمر به من جاءت تَسْتفتي؛ لأنَّها مريضةٌ تخشى أن يشتَدَّ بها المرضُ فلا تُكْمِلَ النُّسُكَ، فمَن خاف مِن مانعٍ يَمْنَعُه مِن إتمامِ النُّسُك، قُلْنَا له: اشتَرِطْ؛ استرشادًا بأمْرِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، ومَن لم يَخَفْ قُلْنَا له: السُّنَّة ألَّا تَشْتَرِط) ((الشرح الممتع)) (7/72). وقال أيضًا: (إذا اشترط شخصٌ بدون احتمالِ المانِعِ على القول بأنَّه لا يُسَنُّ الاشتراطُ إلَّا إذا كان يَخشى المانِعَ، فهل ينفَعُه هذا الاشتراطُ؟ فالجواب: على قولين: القول الأول: ينفَعُه؛ لأنَّ هذا وإن ورد على سببٍ، فالعبرةُ بِعُمومِه. القول الثاني: لا ينفَعُه؛ لأنَّه اشتراطٌ غيرٌ مشروعٍ، وغيرُ المشروعِ غيرُ متبوعٍ، فلا ينفَعُ، وهذا عندي أقرَبُ؛ لأننا إذا قلنا: بأنَّه لا يُستَحَبُّ الاشتراط فإنَّه لا يكون مشروعًا، وغيرُ المشروعِ غيرُ مَتبوعٍ، ولا يترتَّبُ عليه شيءٌ، وإذا قلنا: إنَّه يترتَّبُ عليه حُكْمٌ، وهو غيرُ مشروعٍ، صار في هذا نوعٌ من المضادَّةِ للأحكامِ الشرعيَّة) ((الشرح الممتع)) (7/75). .الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((دخلَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم على ضُباعةَ بنتِ الزُّبيرِ، فقالت: يا رَسولَ الله، إنِّي أريد الحَجَّ وأنا شاكيةٌ؟ فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: حُجِّي واشترطي أنَّ مَحَلِّي حيثُ حبَسْتَني)) رواه البخاري (5089)، ومسلم (1207) .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّه إنما أشار إليها بالاشتراطِ لَمَّا رآها شاكيةً، تخافُ المانِعَ من إتمامِ النُّسُكِ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (26/105)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/72). .ثانيًا: أنَّ الرسولَ صلَّى الله عليه وسَلَّم أحرَمَ بِعُمَرِهِ كلِّها، حتى في الحُدَيْبِيَةِ أحرَمَ، ولم يَقُلْ: إن حبسَني حابسٌ، وكذلك في عُمْرَةِ القضاءِ، وعُمْرَة الجِعْرَانةِ، وحَجَّةِ الوداع، ولم يُنقَل عنه أنَّه قال: وإنْ حَبَسَني حابِسٌ، ولا أَمَرَ به أصحابَه أمرًا مُطْلقًا، بل أَمَرَ به مَن جاءَت تستفتي؛ لأنَّها مريضةٌ تخشى أن يشتَدَّ بها المرضُ، فلا تُكْمِلَ النُّسُكَ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة(26/105). .فرع أول: تعليقُ التحلُّلِ بمرضٍ ونحوِهإن قال: إنْ مَرِضْتُ ونحوه فأنا حلالٌ، فمتى وُجِدَ الشَّرْطُ حَلَّ بوجودِه، أمَّا إن قال: فلي أن أَحِلَّ، أو محلِّي حيثُ حَبَسْتَني؛ فهو مُخَيَّر بين البقاءِ على إحرامِه وبين التحلُّلِ، وهذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة في الأصحِّ ((المجموع)) للنووي (8/315). ، والحَنابِلَة ((الإقناع)) للحجاوي (1/401)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين بن قُدامة (3/529). ، وقرَّرَه ابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (إذا قال: فمحلِّي حيث حبستني، حلَّ بمجَرَّد وجودِ المانع؛ لأنَّه علَّقَ الحِلَّ على شرطٍ فوُجِدَ الشرطُ، فإذا وُجِدَ الشرطُ وُجِدَ المشروط، وأمَّا إذا قال: إن حبسني حابسٌ فلي أن أَحِلَّ، فإنَّه إذا وجد المانِعُ فهو بالخيار إن شاء أحلَّ، وإن شاء استمَرَّ) ((الشرح الممتع)) (7/74). ؛ وذلك لأنَّه في الحالِ الأُولى علَّقَ الحِلَّ على شَرْطٍ فوُجِدَ الشَّرْطُ، فإذا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ المشروطُ، وأمَّا في الثَّانية فإنَّه إذا وُجِدَ المانعُ، فهو بالخيارِ؛ إن شاء أحَلَّ، وإن شاء استمَرَّ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/74). .فرع ثاني: تعليقُ التحلُّلِ بمشيئتِهلا يصِحُّ أن يُقالَ: لي أنْ أَحِلَّ متى شِئْتُ قال ابنُ عُثيمين: (لو أنَّ رجلًا دخل في الإحرام، وقال: لبيك اللهمَّ عُمْرَة، ولي أنْ أَحِلَّ متى شئتُ، فهل يَصِحُّ هذا الشرط؟ الجواب: لا يصِحُّ؛ لأنَّه ينافي مقتضى الإحرامِ، ومقتضى الإحرامِ وجوبُ المُضِيِّ، وأنَّك غيرُ مُخَيّر، فلسْتَ أنت الذي تُرَتِّبُ أحكامَ الشرع، المُرَتِّبُ لأحكامِ الشرَّعِ هو اللهُ عَزَّ وجَلَّ، ورسولُه صلَّى الله عليه وسَلَّم) ((الشرح الممتع)) (7/75). ؛ نَصَّ على هذا فُقَهاءُ الشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (8/317). ، والحَنابِلَة قال ابنُ قُدامة: (جملة ذلك أنَّ التحلُّلَ من الحَجِّ لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء؛ كمالِ أفعالِه، أو التَّحلُّلِ عند الحَصْرِ، أو بالعُذْرِ إذا شَرَط، وما عدا هذا فليس له أن يتحَلَّل به. فإن نوى التحلُّل لم يَحِلَّ، ولا يَفْسُدُ الإحرامُ بِرَفْضِه؛ لأنَّه عبادةٌ لا يُخْرَج منها بالفسادِ، فلا يخرج منها برَفْضِها، بخلاف سائرِ العبادات، ويكون الإحرامُ باقيًا في حَقِّه، تلزمه أحكامُه، ويلزَمُه جزاءُ كُلِّ جناية جناها عليه) ((المغني)) (3/332، 333). . وذلك لأنَّه ينافي مُقْتَضى الإحرامِ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/75). . انظر أيضا: المبحث الأوَّل: أحكامُ الأَنساكِ الثَّلاثة. المبحث الثَّاني: الإفرادُ في الحَجِّ. المبحث الثَّالِث: القِرانُ في الحَجِّ. المبحث الرَّابِع: التمتُّعُ في الحَجِّ.