المطلب الأوَّل: حُكم إزالة النَّجاسةِ بالماءاختلف أهلُ العِلمِ في اشتراطِ إزالةِ النَّجاسةِ بالماءِ؛ على قولين:القول الأوّل: يُشتَرَطُ الماءُ لإزالةِ النَّجاسةِ يُستثنَى من ذلك ما ورد فيه نصٌّ بجوازِ استخدامِ غَيرِ الماءِ لإزالَتِها، كالخارِجِ مِنَ السَّبيلينِ، أو جلودِ المَيتاتِ، وغير ذلك- فقد سبَق الكلام عليها. ينظر: ((الشرح الممتع)) (1/429-432). ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: المالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/234)، وينظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/83). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (1/95)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/85). ، والحنابلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/181)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/14). ، وبه قال زُفرُ ومحمَّد بن الحسَن من الحنفيَّة ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/83)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/233). .الأدلَّة:أوَّلًا: من الكتاب1- قول الله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقاء: 48].2- وقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11].وجهُ الدَّلالةِ مِن الآيتينِ: أنَّه سُبحانه وتعالى امتنَّ على عبادِه بأنْ جَعَلَه لهم طَهورًا ومُطِهِّرًا، فلو حصَلَ التطهيرُ بِغَيرِه لم يحصلِ الامتنانُ ((المجموع)) للنووي (1/96). .ثانيًا: مِن السُّنَّةِ1- عن أسماءَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((جاءتِ امرأةٌ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: أرأيتَ إحدانا تحيضُ في الثَّوبِ، كيف تصنَعُ؟ قال: تَحُتُّه، ثم تَقرُصُه بالماءِ القَرصُ: الدَّلْكُ بأطرافِ الأصابعِ والأظفارِ، مع صبِّ الماءِ عليه، حتَّى يذهَبَ أثَرُه، والتَّقريصُ مِثلُه. ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/40)، ((المجموع)) للنووي (1/92). ، وتَنضَحُه، وتصلِّي فيه)) رواه البخاري (227) واللفظ له، ومسلم (291) . وجه الدَّلالة: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد عيَّنَ لها الماءَ دون غَيرِه مِن المائعاتِ، فدلَّ على اشتراطِه لإزالةِ الدَّم، وكذا جميعُ النَّجاساتِ؛ إذ لا فَرْقَ بينَ الدَّمِ وغَيرِه ((إرشاد الساري شرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (1/295). .2- عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ أعرابيًّا بال في المسجِدِ، فقام إليه بعضُ القَومِ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعُوه ولا تُزْرِمُوه، قال: فلمَّا فرَغَ دعَا بدَلوٍ مِن ماءٍ، فصبَّه عليه)) رواه البخاري (6025)، ومسلم (284) واللفظ له. .وجه الدَّلالة: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يترُكْه للشَّمسِ حتى تُطهِّرَه، فدلَّ على أنَّه لا بدَّ مِن الماءِ ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/424). . ثالثًا: أنَّه لم يُنقَلْ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إزالةُ النَّجاسةِ بِغَيرِ الماء، ونُقِلَ إزالَتُها بالماء، ولم يثبُتْ دليلٌ صريحٌ في إزالَتِها بِغَيرِه، فوجب اختصاصُه؛ إذ لو جاز بِغَيرِه لبيَّنه مرَّةً فأكثَرَ؛ ليُعلَمَ جوازُه، كما فعل في غَيرِه ((المجموع)) للنووي (1/96). .رابعًا: القياسُ على تعيُّنِ الماءِ في رفعِ الحدَثِ، وحُكمُ النَّجاسةِ أغلظُ مِن حُكمِ الحدَثِ، بدليلِ أنَّه جاءت الرُّخصةُ بالتيمُّمِ عَن الحدَثِ دُونَ النَّجاسةِ، فإذا لم يَجُزِ الوُضوءُ بِغَيرِ الماءِ؛ فالنَّجاسةُ التي هي أغلَظُ أَوْلى بعَدَمِ الجَوازِ ((المجموع)) للنووي (1/96). .خامسًا: أنَّ للماءِ قوَّةَ إحالةٍ للأنجاسِ والأدناسِ، وقوَّةً على قَلعِها مِن الثِّيابِ والأبدانِ ليست لغيره؛ ولذلك اعتمَدَه النَّاس في تَنظيفِ الأبدانِ والثِّيابِ ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/84). .القول الثاني: لا يُشتَرَطُ الماءُ لإزالةِ النَّجاسةِ، وهذا مَذهَبُ الحنفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/233)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/83). ، وروايةٌ عن أحمد ((المغني)) لابن قدامة (1/9)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/223). ، وهو قَولُ داودَ الظَّاهريِّ ((الإنصاف)) للمرداوي (1/223). ، واختاره ابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (الرَّاجح في هذه المسألة: أنَّ النَّجاسة متى زالت بأيِّ وجهٍ كان، زال حُكمُها؛ فإنَّ الحُكمَ إذا ثبت بعلَّةٍ، زال بزَوالِها). ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (21/475). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عثيمين: (والصَّواب: أنَّه إذا زالت النَّجاسةُ بأيِّ مزيلٍ كان، طهُرَ محلُّها). ((الشرح الممتع)) (1/30). . الأدلَّة:أولًا: مِن السُّنَّةِ1- عن سلمانَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قيل له: ((قد علَّمكم نبيُّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كلَّ شيءٍ حتى الخِراءةَ، فقال: أجَلْ، لقدْ نهانا أن نستقبلَ القِبلةَ لغائطٍ أو بولٍ، أو أن نستنجيَ باليمينِ، أو أن نستنجيَ بأقلَّ مِن ثلاثةِ أحجارٍ، أو أن نستنجيَ برجيعٍ أو بعَظمٍ)) رواه مسلم (262). .وجه الدَّلالة: أنَّ الاستنجاءَ بالأحجارِ مُجزئٌ عن الماءِ؛ ممَّا يدلُّ على أنَّه متى زالت النَّجاسةُ بأيِّ مُزيلٍ كان، فقد طهُرَ المحلُّ ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/130، 131). .2- عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا جاء أحدُكم إلى المسجِدِ، فلْينظُرْ؛ فإنْ رأى في نَعلَيه قَذَرًا أو أذًى، فلْيَمسحْه وليُصَلِّ فيهما)) رواه أبو داود (650) واللفظ له، وأحمد (11895)، حسَّنه النوويُّ في ((المجموع)) (1/95)، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/112): على شرْط مسلم، لكن رواه أبو داود مرسلًا، وصحَّحه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/91)، وابن باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (9/357) والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (650)، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند)) (422) وقال: على شرطِ مُسلمٍ. .3- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((ما كان لإحدانا إلَّا ثوبٌ واحِدٌ تَحيض فيه، فإذا أصابَه شيءٌ من دَمٍ، قالت برِيقِها، فقَصَعَتْه قَصَعَته؛ أي: فرَكَتْه بظفرها. ((فتح الباري)) لابن حجر (1/174). بظُفرِها)) رواه البخاري (312) .ثانيًا: أنَّ النَّجاسةَ عينٌ خبيثةٌ، نجاستُها بذاتِها، فإذا زالتْ عاد الشيءُ إلى طهارَتِه ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/425). .ثالثًا: أنَّ إزالة النَّجاسةِ ليست مِن بابِ المأمور، بل من باب اجتنابِ المحظورِ، فإذا حصل بأيِّ سببٍ كان، فقد ثبَت الحُكمُ؛ ولهذا لا يُشتَرَط لإزالة النَّجاسة نيَّةٌ ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/425). . المطلب الثَّاني: تطهير الماء المتنجِّسمتى زال تغيُّرُ الماءِ النَّجِسِ، بأيِّ وسيلةٍ كانت، ولو بالطُّرُقِ الحَديثةِ، فقد طهُرَ تقدَّم الكلام عليه في باب المياه. .المطلب الثَّالث: تَكرار الغَسل في إزالة النَّجاسةلا يُشترَطُ العدَدُ في غَسلِ النَّجاسةِ يستثنى من ذلك اشتراطُ العَدَد فيما ورد فيه نصٌّ خاصٌّ، كغَسلِ ما وَلَغ فيه الكَلبُ سبْعَ مراتٍ، إحداهُنَّ بالتراب، وكعَدَم الاستنجاءِ بأقلَّ من ثلاثةِ أحجار، وغَسلِ اليَدِ ثلاثًا إذا استيقَظَ مِن النَّوم قبلَ أن يُدخِلَها في الإناء. ؛ فمتى ما زالت النَّجاسةُ، زال حُكمُها، ويطهُرُ بها المحلُّ؛ فإنْ لم تَزُلِ النَّجاسةُ بغَسلةٍ زاد ثانيةً وثالثةً، وهكذا حتَّى يطهُرَ المحلُّ؛ وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: الحنفيَّة النَّجاسة عند الحنفيَّة ضربان: مرئيَّة، وغير مرئيَّة؛ فما كان منها مرئيًّا، فطهارتُه زوالُ عَينِها، وإنْ كان من مرَّة واحدةٍ، وما ليس بمرئيٍّ، فطهارتُه أن يُغسَلَ حتَّى يغلبَ على الظنِّ أنَّه قد طَهرَ، وقدَّروه بالثَّلاث؛ لأنَّ غالِبَ الظنِّ يحصل عنده، فأُقيم السَّبَب الظَّاهِرُ مَقامَه. ((الهداية شرح البداية)) للميرغيناني (1/37)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/249). ، والمالكيَّة ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (1/83)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/114)، ((المدوَّنة الكبرى)) لسحنون (10/69). ، والشَّافعيَّة ((روضة الطالبين)) للنووي (1/31، 32)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/83). ، وروايةٌ عن أحمد قال المرداويُّ: (قال ابن تميم: قال شيخُنا: ظاهِرُ كلامِ أحمد في روايةِ عبد الله: أنَّ العَدَد لا يَجِبُ في غير الآنية). ((الإنصاف)) (1/310). .الأدلَّة مِن السُّنَّةِ:1- عن أسماءَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((جاءتِ امرأةٌ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: أرأيتَ إحدانا تَحيضُ في الثَّوبِ؛ كيف تصنَعُ؟ قال: تحُتُّهُ، ثم تَقرُصُه بالماءِ وتَنضَحُه، وتُصلِّي فيه)) رواه البخاري (227) واللفظ له، ومسلم (291). .2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((جاءت فاطمةُ ابنةُ أبي حُبَيشٍ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رسولَ الله، إنِّي امرأةٌ أُستَحاضُ فلا أطهُرُ؛ أفأدَعُ الصَّلاةَ؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا، إنَّما ذلكِ عِرقٌ وليس بحَيضٍ، فإذا أقبلتْ حَيضتُكِ فدَعِي الصَّلاةَ، وإذا أدبَرتْ فاغسِلي عنك الدَّمَ، ثم صلِّي)) رواه البخاري (228) واللفظ له، ومسلم (333). .3- عن أمِّ قيس بنت مِحصَن رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((سألتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن دَم الحَيضِ يكونُ في الثَّوبِ؟ قال: حُكِّيه بضِلَعٍ (بِضِلَعٍ) أي: بِعُودٍ، والأصلُ فيه ضِلَعُ الحيوانِ، فسُمِّيَ به العُودُ الذي يُشبِهُه. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 96). ، واغسِليه بماءٍ وسِدرٍ)) رواه أبو داود (363)، والنَّسائي (292)، وابن ماجه (628)، وأحمد (6/355) (27043)، قال ابن القطَّان في ((الوهم والإيهام)) (5/280): غاية في الصحة، وصحَّحه ابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (1/516)، وحسَّن إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/399)، وقال الصنعانيُّ في ((سبل السلام)) (1/60): في غاية الصِّحَّة. وصحَّحه الشوكاني في ((السيل الجرار)) (1/46)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (363)، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند)) (1676) وقال: رجاله ثقات. .وجه الدَّلالة من الأحاديث: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَذكُر عددًا في غَسلِ نَجاسةِ دَمِ الحَيضِ، والمَقامُ مَقامُ بَيانٍ؛ لأنَّه جوابٌ عن سؤالٍ، فلو كان هناك عدَدٌ مُعتبَرٌ، لبيَّنه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/421). . ثانيًا: أنَّ النَّجاسةَ عينٌ خبيثةٌ، متى زالتْ زال حُكمُها؛ فلا معنى لاشتراطِ العَدد ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/422). . المطلب الرَّابع: تطهير ما وَلَغ فيه الكلبيُغسَلُ الإناءُ ونَحوُه مِن وُلوغِ الولغ: أن يشرَب بأطراف لسانه، أو يُدخِل لسانه فيه فيحرِّكه. ((النهاية)) لابن الأثير (5/226)، وينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/274-275)، ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي (ص: 790). الكَلبِ سَبعَ مرَّاتٍ، أُولاهنَّ بالتُّرابِ [1223] تقدَّم تفصيل ذلك في التطهُّر من نجاسةِ الكَلبِ. .المطلب الخامس: تطهيرُ المائعات يمكِنُ تَطهيرُ المائعاتِ المتنجِّسةِ، وهو مذهَبُ الحنفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/82)، ((حاشية ابن عابدين)) (1/185، 196). ، وبعضِ المالكيَّة ((الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي)) (1/59)، وينظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/489). ، ووجهٌ للشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/599). ، وروايةٌ عند الحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/321). ، وهو مَذهَبُ الظاهريَّة قال ابن حزم: (والمفرِّقُ بين الماءِ وسائِرِ المائعاتِ في ذلك مُبطِلٌ مُتحكِّمٌ، قائلٌ بلا برهانٍ، وهذا باطِلٌ) ((المحلى)) (1/159)، وينظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/489). ، وبه قال طائفةٌ مِن السَّلَف قال ابنُ تيميَّة: (وهو قَولُ طائفةٍ من السَّلف والخلف، كابن مسعود وابن عبَّاس، والزُّهري وأبي ثور، وغيرهم) ((مجموع الفتاوى)) (21/489). ، وهو اختيارُ ابنِ العربيِّ ((عارضة الأحوذي)) لابن العربي (7/302). ، وابنِ تيميَّة ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/512-518). ، وابنِ عُثيمين قال ابن عثيمين: (فالصَّواب: أنَّ جميعَ المائعاتِ يُمكِنُ أن تُطهَّرَ، حتَّى اللَّبَن، حتَّى المَرَق يمكن أن يُطهَّر؛ لأنَّ الحُكمَ يَدورُ مع علَّته وجودًا وعدمًا، فإذا زالت النَّجاسةُ- طَعمُها وريحُها ولَونُها- ولم يبقَ شيءٌ؛ فهو طَهورٌ. ((الموقع الرسمي لابن عثيمين – من أشرطة شرح كتاب الكافي لابن قدامة)). . الأدلَّة:أولًا: مِن السُّنَّةِعن مَيمونةَ بنتِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِل عن فأرةٍ سَقَطَت في سَمنٍ، فقال: ((ألْقُوها، وما حَولَها فاطْرَحوه، وكُلوا سَمنَكم)) رواه البخاري (235). . وجه الدَّلالة:أنَّه حَكَمَ بإمكانيَّةِ تَطهيرِها، ولم يفرِّقْ بين الجامِدِ والمائِعِ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/490). .ثانيًا: أنَّه كما يُمكِنُ تَطهيرُ الماءِ، فإنَّه يُمكِنُ تَطهيرُ المائعاتِ، ولا فَرقَ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/490). .ثالثًا: أنَّ المائعاتِ أَولى بعَدَمِ التنجُّسِ مِن الماء؛ لأنَّها طعامٌ وإدامٌ؛ فإتلافُها فيه فسادٌ؛ ولأنَّها أشدُّ إحالةً للنَّجاسةِ مِن الماءِ، أو مبايَنةً لها من الماءِ ((المحلى)) لابن حزم (1/157). .رابعًا: أنَّ في تَنجيسِ المائعاتِ حرَجًا ومشقَّة، فهنالك القناطيرُ المُقنطَرة من الدُّهونِ التي تكونُ في معاصِرِ الزَّيتونِ وغَيرِها؛ ففي تَنجِيسِها بوقوعِ قليلِ النَّجاسةِ فيها؛ حرجٌ شديدٌ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/496). .المطلب السَّادس: ما يُعفى عنه من النَّجاساتالفرع الأوَّل: أثَرُ النَّجاسة يجِبُ إزالةُ عَينِ النَّجاسة، ويُعفى عن اللَّونِ والرَّائحةِ إذا عُجِز عن إزالَتِهما، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ: الحنفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/249)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/209). ، والمالكيَّة ((الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي)) (1/80)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/115). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/593) وما بعدها، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/85). ، والحنابلة ((الفروع)) لابن مفلح (1/322)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/183). . الأدلَّة:أولًا: مِن السُّنَّةِعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((ما كان لإحدانا إلَّا ثوبٌ واحدٌ تحيضُ فيه، فإذا أصابَه شيءٌ من دَمٍ، قالت برِيقها، فقَصَعَتْه بظُفْرِها)) رواه البخاري (312). .وجه الدَّلالة:أن قولها (فإذا أصابَه شيءٌ من دَمٍ، قالت برِيقها) دل على أنه لا يشترط ذَهاب اللَّونِ والرَّائحةِ إذا تعسرت إزالَتهما لأن الرِّيقَ لا يُذهِب لونَ النَّجاسةِ ولا رائحتها بمفرده.ثانيًا: أنَّ الحَرَجَ مدفوعٌ، وفي إزالةِ أثر النَّجاسةِ مِن اللونِ والرَّائحة عُسرٌ ومشقَّةٌ، لا يأتي بِمثلِها الشَّارِعُ.الفرع الثَّاني: يَسيرُ النَّجاساتِيُعفى عن يَسيرِ النِّجاساتِ كلِّها، وهذا مَذهَبُ الحنفيَّة لكن المغلَّظة إنَّما يُعفى عن يَسيرِها عندَهم إذا لم تَزِد عن الدِّرهم. ((حاشية ابن عابدين)) (1/316)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/212)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/88). ، وقولٌ للحَنابلةِ ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّة (5/313-314). ، وهو قَولُ بَعضِ السَّلَفِ ((شرح السُّنة)) للبغوي (2/159)، ((المبسوط)) للسَّرخسي (1/107). ، واختاره ابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (يُعفى عن يسير النَّجاسة، حتَّى بَعْر فأرةٍ ونحوها في الأطعمةِ، وغَيرِها، وهو قولٌ في مذهب أحمد، ولو تحقَّقت نجاسةُ طِينِ الشَّارع عُفِيَ عن يسيره؛ لمشقَّةِ التحرُّز عنه، ذكره أصحابنا، وما تطايَرَ مِن غبار السِّرجين ونحوه، ولم يمكن التحرُّزُ عنه، عُفِي عنه، وإذا قلنا: يُعفى عن يسير النَّبيذِ المختَلف فيه؛ لأجْل الخلافِ فيه، فالخلافُ في الكَلبِ أظهرُ وأقوى، فعلى إحدى الرِّوايتين يُعفى عن يسيرِ نجاسَتِه، وإذا أَكلَت الهِرَّة فأرةً ونحوها، فإذا طال الفَصلُ طهُر فمُها بِريقِها؛ لأجْل الحاجةِ، وهذا أقوى الأقوالِ، واختاره طائفةٌ من أصحابِ أحمد، وأبي حنيفة، وكذلك أفواه الأطفالِ، والبهائِمِ، والله أعلم). ((الفتاوى الكبرى)) (5/313-314)، وينظر: ((مجموع الفتاوى)) (21/213)، ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 399). ، وابنُ عُثيمين قال ابن عثيمين: (والصَّحيحُ: ما ذهب إليه أبو حنيفةَ، وشيخُ الإسلام؛ لأنَّنا إذا حَكَمنا بأنَّ هذه نَجِسةٌ، فإمَّا أن نقول: إنَّه لا يُعفى عن يسيرِها كالبَولِ والغائط؛ كما قال بعضُ العلماء، وإمَّا أن نقولَ بالعَفوِ عن يَسيرِ جَميعِ النَّجاساتِ، ومن فرَّق فعليه الدليلُ؛ فإن قيل: إنَّ الدَّليلَ فِعلُ الصَّحابة؛ حيث كانوا يصلُّون بثيابِهم، وهي ملوَّثةٌ بالدَّمِ من جراحاتِهم، فنقول: إنَّه دليلٌ على ما هو أعظمُ من ذلك، وهو طهارةُ الدَّمِ. ومِن يَسيرِ النَّجاساتِ التي يُعفى عنها لمشقَّةِ التحرُّزِ منه: يسيرُ سلَس البَولِ لِمَن ابتُلِيَ به، وتحفَّظَ تحفظا ًكثيرًا قدْرَ استطاعَتِه). ((الشرح الممتع)) (1/447). . وذلك للآتي:أوَّلًا: رفعًا للحَرَجِ الواقِعِ مِن عُسرِ ومشقَّةِ التحرُّزِ مِن يَسيرِ النَّجاسات ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/80)، ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (1/202). . ثانيًا: أنَّ الإنسانَ لا يَسلَمُ منه غالبًا؛ فعُفِيَ عنه، كأثَرِ الاستجمارِ ((المبسوط)) للسرخسي (1/107) . ثالثًا: أنَّها نجاسةٌ يَسيرةٌ؛ فوجَب أن يُعفى عنها قياسًا على أثَرِ الاستنجاءِ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/242). . مسألة: ضابِطُ اليَسيرِ الذي يُعفى عنه من النَّجاساتِضابِطُ اليَسيرِ الذي يُعفى عنه من النَّجاساتِ؛ هو العُرْفُ، وهو ما يَعدُّهُ أوساطُ النَّاسِ يسيرًا، غيرَ فاحشٍ قال ابنُ عثيمين: (المعتبَرُ ما اعتبره أوساط النَّاس؛ فما اعتبروه كثيرًا فهو كثيرٌ، وما اعتبروه قليلًا فهو قليلٌ). ((الشرح الممتع)) (1/272). ، وهذا مَذهَبُ الشَّافعيَّة ((روضة الطالبين)) للنووي (1/43)، وينظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/295). ، والحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/198)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/59). ، وهو قَولُ ابنِ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (وحدُّ اليَسيرِ ما لا يَفحُشُ في النَّظر في عُرفِ النَّاسِ وعادتهم؛ إذ ليس له حدٌّ في اللُّغةِ ولا في الشَّرعِ). ((شرح عمدة الفقه لابن تيميَّة- من كتاب الصلاة)) (ص: 346). ، وابنِ عُثيمين قال ابن عثيمين: (المرجِعُ في اليَسيرِ والكَثيرِ إلى العُرفِ). ((الشرح الممتع)) (3/357). وقال ابن عثيمين أيضًا: (... وأمَّا ما خَرجَ من غير السَّبيلينِ، مثل الخارِجِ من الأنف، أو من الفَمِ، أو من جُرحٍ في يده أو رِجله؛ فهذا الغالِبُ أنَّه يسيرٌ ولا يضرُّ، وحَدُّه هو العُرفُ؛ أي: ما جَرَت العادةُ بأنَّه يسيرٌ). ((لقاء الباب المفتوح)) (1/58). ، واللَّجنة الدَّائمة ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الثانية)) (5/153). ؛ وذلك لإطلاقِه في الشَّرعِ، فلم يرِد مقدارٌ مُعَيَّنٌ في الشَّرعِ يصحُّ الرُّجوعُ إليه؛ ولذا يُرجَعُ للعُرفِ ((المنثور في القواعد الفقهية)) للزركشي (2/362). . انظر أيضا: المبحث الثَّاني: الاستحالة.

المطلب الأوَّل: تعريفُ الاستحالةالاستحالةُ لغةً: تُطلَقُ على تغيُّرِ الشَّيءِ عن طَبعِه ووَصفِه ((المصباح المنير)) للفيومي (1/157)، ((لسان العرب)) لابن منظور (11/188). .الاستحالة اصطلاحًا: تَحوُّلُ العَينِ النَّجسةِ بنَفْسِها أو بواسطةٍ ((الفقه الإسلامي وأدلته)) للزحيلي (1/250). ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (3/213). .المطلب الثَّاني: طهارةُ العَينِ النَّجسةِ بالاستحالةإذا استحالت العَينُ النَّجسةُ إلى عينٍ أخرى من أمثلة ذلك: الرَّوْثُ إذا صار بالإحراقِ رمادًا، والزَّيتُ المتنجِّس بجعلِه صابونًا، وطينُ البالوعةِ إذا جَفَّ وذهَب أثره، والنَّجاسةُ إذا دُفِنت في الأرضِ وذهب أثرُها بمرورِ الزَّمانِ. ((الفقه الإسلامي وأدلته)) للزحيلي (1/250). طهُرَت بالاستحالةِ؛ وهذا مَذهَبُ الحنفيَّة ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/220)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/200). ، والمالكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (1/97)، وينظر: ((الذخيرة)) للقرافي (1/188). ، وروايةٌ عن أحمد ((الإنصاف)) للمرداوي (1/318). ، وهو اختيارُ ابنِ حَزمٍ قال ابن حزم: (الحرام إذا بطَلت صفاتُه التي بها سُمِّي بذلك الاسم ِالذي به نُصَّ على تَحريمِه؛ فقد بطَل ذلك الاسمُ عنه، وإذا بطَل ذلك الاسمُ سقط التَّحريم؛ لأنَّه إنَّما حُرِّمَ ما يُسمَّى بذلك الاسمِ، كالخَمرِ والدَّمِ والمَيتةِ، فإذا استحال الدَّمُ لَحمًا، أو الخَمرُ خلًّا، أو الميتةُ بالتغذِّي أجزاءً في الحيوانِ الآكِلِ لها من الدَّجاج وغيره، فقد سقَطَ التَّحريمُ، وبالله تعالى التوفيق. ومَن خالف هذا لَزِمَه أن يحرِّم اللَّبَنَ؛ لأنَّه دمٌ استحال لبنًا، وأن يُحرِّمَ التَّمرَ والزَّرع المسقيَّ بالعَذِرةِ والبَولِ، ولزِمه أن يُبيحَ العَذِرة والبَولَ؛ لأنَّهما طعامٌ وماءٌ حلالانِ استحالَا إلى اسمٍ مَنصوصٍ على تحريمِ المسمَّى به). ((المحلى)) (6/100). ، وابنِ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (وقول القائل: إنَّها تَطهُر بالاستحالةِ أصحُّ؛ فإنَّ النَّجاسةَ إذا صارت مِلحًا أو رَمادًا، فقد تبدَّلت الحقيقةُ، وتبدَّلَ الاسمُ والصِّفةُ، فالنُّصوصُ المُتناولة لتحريمِ المَيتةِ والدَّمِ ولَحمِ الخِنزير، لا تتناوَلُ المِلح والرَّمادَ والتُّرابَ، لا لفظًا ولا معنًى). ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (20/522). ، وابنِ القيِّم قال ابن القيِّم: (وعلى هذا الأصلِ؛ فطهارةُ الخَمرِ بالاستحالةِ على وَفقِ القِياسِ، فإنَّها نجِسةٌ لوصفِ الخَبَث، فإذا زال الموجِبُ زال الموجَبُ، وهذا أصلُ الشريعةِ في مصادرِها وموارِدِها، بل وأصلُ الثَّوابِ والعِقابِ؛ وعلى هذا فالقِياسُ الصَّحيحُ تعديةُ ذلك إلى سائِرِ النَّجاساتِ إذا استحالت). ((أعلام الموقعين)) (2/14)، وينظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/30-31)، ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (22/299). ، وبه أفتت اللَّجنةُ الدَّائمة ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (22/299). ، وهو قول أكثر العُلَماءِ قال ابن تيميَّة: (وأكثرُ عُلَماءِ المسلمين يقولون: إنَّ النَّجاسةَ تَطهُرُ بالاستحالةِ، وهو مذهَبُ أبي حنيفةَ وأهلِ الظَّاهِرِ، وأحدِ القَولينِ في مذهَبِ مالكٍ وأحمد) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/299). .وذلك للآتي:أوَّلًا: القياسُ على ما أجمَعوا عليه من أنَّ الخَمرةَ إذا استحالتْ بنفْسِها وصارتْ خلًّا، كانت طاهرةً؛ فكذلك سائِرُ النَّجاساتِ إذا انقلَبَت إلى عينٍ طاهرةٍ، صار لها حُكمُ الطَّاهراتِ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/502). .ثانيًا: أنَّ المعنى الذي لأجْله كانت تلك العَينُ نَجسةً، معدومٌ في العَينِ التي استحالَت إليها؛ فلا معنى لبقاءِ الاسمِ عليه، فالشَّرعُ رتَّبَ وَصفَ النَّجاسةِ على تلك الحقيقةِ، فينتفي بانتفائِها ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (20/522، 21/610)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّة (1/415، 5/313). .المطلب الثَّالث: حُكم الخَمرِ إذا استحالَت إلى خَلٍّالفرع الأوَّل: حُكمُ الخَمرِ إذا انقلَبَت خلًّا بنَفسِهاتطهُرُ الخَمرُ- عند مَن يقول بنَجاسَتِها- إذا انقلَبَت خَلًّا بنَفسِها، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (10/106)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/48). ، والمالكيَّة ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (1/52)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/88)، ((الذخيرة)) للقرافي (4/118). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/578)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/81). ، والحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/230)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/173). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (احتجُّوا بالإجماعِ على أنَّ الخَمرَ إذا تخلَّلَت من ذاتها، طهُرَت وطابَت) ((الاستذكار)) (1/172). وقال ابن قدامة: (فأمَّا إذا انقلَبَت بنَفسِها, فإنَّها تطهُرُ وتحِلُّ, في قَولِ جَميعِهم). ((المغني)) (9/173). وقال النوويُّ: (أجمعوا أنَّها إذا انقلَبَت بنَفسِها خلًّا طهُرتْ، وقد حُكي عن سحنون المالكيِّ أنَّها لا تطهُرُ؛ فإنْ صحَّ عنه فهو محجوجٌ بإجماعِ مَن قَبلَه) ((شرح مسلم)) (13/152). وقال ابن تيميَّة: (لو انقلبت الخمرةُ خلًّا بغَيرِ قَصدِ آدميٍّ؛ فإنَّها طاهرةٌ حلالٌ باتِّفاقِ الأئمَّة). ((مجموع الفتاوى)) (21/525). لكنَّ للحنابلة قولًا بعَدَمِ طَهارَتِها؛ قال المرداويُّ: (الصَّحيحُ مِنَ المذهب: أنَّ الخَمرةَ إذا انقلبَت بنَفسِها، تطهُرُ مطلقًا؛ نصَّ عليه، وعليه الجمهور، وجزم به كثيرٌ منهم، وحكَى القاضي في التعليق: أنَّ نبيذَ التَّمرِ لا يطهُر إذا انقلَبَ بنَفسِه؛ لأنَّ فيه ماءً، وقيل: لا تطهُرُ الخمرة مطلقًا) ((الإنصاف)) (1/230)، وكذا سحنون المالكي. ((شرح النووي على مسلم)) (13/152). وقال النوويُّ: (أما إذا انقلبت بنفسها خلًّا، فتطهُرُ عند جمهور العلماء، ونقل القاضي عبد الوهاب المالكيُّ فيه الإجماعَ، وحكى غيرُه عن سحنون المالكيِّ أنَّها لا تطهُرُ) ((المجموع)) (2/578). . وذلك لأنَّها إذا انقلَبَت بنَفسِها، فقد زالت عِلَّةُ تَحريمِها، من غيرِ عِلَّةِ خَلَّفَتْها، فطَهُرَت، كالماءِ إذا زال تغيُّرُه بمُكثِه ((المغني)) لابن قدامة (9/173). . الفرع الثَّاني: حُكمُ الخَمرِ إذا خُلِّلَت عن قَصدٍالمسألة الأولى: حُكم الخَمر إذا خُلِّلت بعلاجٍلا تَطهُرُ الخَمر- عند مَن يقولُ بنَجاسَتِها- إذا خُلِّلت بعلاجٍ (أي بإضافةِ شَيءٍ إليها)، ولا يجوزُ استخدامُها، وهذا مَذهَبُ الشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/576)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/81). ، والحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/230)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/172). ، وهو الأشهَرُ عن مالكٍ قال ابن عبدِ البَرِّ: (قيل لا يأكُلُها إلَّا أن تعودَ خلًّا بغيرِ صَنيعِ آدميٍّ، وهو الأشهرُ عن مالك) ((الكافي في فقه أهل المدينة)) (1/443). وقال ابن بطَّال: (اختَلف قولُ مالك في ذلك أيضًا، فرَوى عنه ابنُ وهب وابن القاسم: أنَّه لا يَحِلُّ لمُسلمٍ أن يخلِّل الخَمرَ، ولكن يُهريقُها، فإن صارت خلًّا بغيرِ علاجٍ، فهي حلالٌ) ((شرح صحيح البخاري لابن بطال)) (6/348). ، وقولٌ لبعضِ السَّلَفِ قال ابن قُدامة: (الخَمرةُ إذا أُفسِدَت، فصُيِّرت خلًّا، لم تزُلْ عن تَحريمِها، وإنْ قلَب اللهُ عَينَها فصارت خلًّا، فهي حلالٌ؛ رُوي هذا عن عُمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عنه، وبه قال الزهريُّ، ونحوه قول مالك) ((المغني)) (9/172). ، اختاره ابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (أمَّا التخليلُ ففيه نزاعٌ؛ قيل: يجوز تخليلُها كما يُحكَى عن أبي حنيفةَ. وقيل: لا يجوزُ؛ لكن إذا خُلِّلَت طَهُرَت كما يُحكَى عن مالكٍ، وقيل: يجوزُ بنَقلِها من الشَّمسِ إلى الظلِّ، وكشْفِ الغِطاء عنها، ونحو ذلك؛ دون أن يُلقَى فيها شيءٌ، كما هو وجه في مذهب الشافعيِّ وأحمد. وقيل: لا يجوزُ بحال، كما يقولُه مَن يقولُه مِن أصحاب الشافعيِّ وأحمدَ، وهذا هو الصَّحيحُ) ((مجموع الفتاوى)) (21/483). وقال أيضًا: (فهذا يُشبِهُ مِن بَعضِ الوُجوهِ ما لو خَلَّلَ الخَمرَ بنَقلِها من موضعٍ إلى موضعٍ مِن غيرِ أن يُلقِيَ فيها شيئًا؛ فإنَّ التَّخليلَ لَمَّا حصل بفعلٍ محرَّمٍ، اختُلف فيه، والصَّحيحُ أنَّها لا تَطهُرُ، وإنْ كانت لو تخلَّلَت بفِعل اللهِ حلَّت) ((الفتاوى الكبرى)) (6/183). ، وابنُ القَيِّم قال ابن القيِّم: (إذا كان له عصيرٌ فخاف أن يتخمَّرَ؛ فلا يجوز له بعد ذلك أن يتَّخِذَه خلًّا؛ فالحِيلة: أن يُلقَى فيه أولًا ما يمنَعُ تخمُّره، فإن لم يفعل حتى تخمَّرَ، وجَب عليه إراقَتُه، ولم يجُزْ له حبسُه حتى يتخلَّلَ، فإن فعل لم يطهُرْ؛ لأنَّ حبسَه معصيةٌ، وعَوْدَه خلًّا نعمةٌ، فلا تُستباحُ بالمعصيةِ) ((إغاثة اللهفان)) (2/11). ، وبه أفتَت اللَّجنةُ الدَّائمةُ جاء في فتاوى اللَّجنة الدَّائمة برئاسة ابن باز: (إذا حُوِّلَتِ الخمرة إلى خلٍّ بَقِيَت على تحريمِها، ولا تنقُلُها الإزالة عن حُكمِها؛ لَمَا في صحيحِ مُسلمٍ عن أنس رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عن الخمر تُتَّخذ خلًّا، فقال: لا))، أمَّا إذا تخلَّلت بنَفسِها من دون عملِ أحدٍ؛ فإنَّها تطهُرُ بذلك وتُباحُ) ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (22/109). ، وبه قال أكثَرُ أهلِ العِلمِ قال النوويُّ: (أمَّا حُكمُ المسألةِ؛ فالتَّخليلُ عندنا وعند الأكثرينَ حرامٌ، فلو فَعَله فصار خلًّا، لم يَطهُرْ) ((المجموع)) (2/576). .الأدلَّة:أولًا: مِن السُّنَّةِعن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عَن الخَمرِ تُتَّخَذُ خلًّا؟ فقال: لا)) رواه مسلم (1983). .ثانيًا: أنَّ الشَّيءَ المَطروحَ في الخَمرِ يتنجَّسُ بملاقاتِها، فيُنجِّسُها بِدَورِه بعد انقلابِها خلًّا ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (5/27). .المسألة الثَّانية: حُكمُ الخَمرِ إذا خُلِّلَت بنَقلِهااختَلف أهلُ العِلمِ في الخَمرِ إذا خُلِّلَت بنَقلِها، كما لو نُقِلَت من الظِّلِّ إلى الشَّمسِ، أو العكس؛ هل تطهُرُ أم لا؟ وذلك على أقوالٍ، أقواها قولانِ:القول الأوّل: إذا خُلِّلَت الخَمرُ بنَقلِها مِنَ الظلِّ إلى الشَّمسِ، أو العكس، فإنَّها تطهُرُ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: الحنفيَّة ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (10/106)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/48). ، والمالكيَّة ((شرح التلقين)) للمازري (2/3/359)، ((الذخيرة)) للقرافي (4/118). ، وهو الأصحُّ عند الشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/576)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/81). . وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّ الشِّدَّة المُطْرِبةَ في الخَمرِ قد زالَت مِن غَيرِ نجاسةٍ تَخلُفُها ((البيان)) لابن أبي الخير العمراني (1/428). .ثانيًا: أنَّ علَّةَ التَّحريمِ قد زالت، فتكونُ كما لو تخلَّلَت بنَفسِها ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (1/294). .القول الثاني: إذا خُلِّلَت الخَمرُ بنَقلِها مِنَ الظِّلِّ إلى الشَّمسِ أو العكس، فإنَّها لا تطهُرُ، وهو مذهَبُ الحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/230). ، وقولُ ابنِ تَيميَّة قال ابن تيميَّة: (أمَّا التَّخليل ففيه نزاع، قيل: يجوز تخليلها، كما يُحكى عن أبي حنيفة. وقيل: لا يجوز؛ لكن إذا خُلِّلت طهُرت، كما يُحكَى عن مالك. وقيل: يجوز بنقلها من الشَّمس إلى الظِّلِّ، وكشْف الغطاء عنها، ونحو ذلك؛ دون أن يُلقَى فيها شيء، كما هو وجه في مذهب الشافعيِّ وأحمد. وقيل: لا يجوز بحال، كما يقوله مَن يقوله من أصحاب الشافعيِّ وأحمد، وهذا هو الصَّحيح) ((مجموع الفتاوى)) (21/483). وقال أيضًا: (فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لو خَلَّل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع من غير أن يُلقي فيها شيئًا، فإنَّ التخليل لمَّا حصل بفعل محرَّم اختُلف فيه، والصَّحيح أنَّها لا تطهر، وإنْ كانت لو تخلَّلت بفعل الله حلَّت) ((الفتاوى الكبرى)) (6/183). ؛ وذلك لأنَّ للآدَميِّ في تخليلِها فِعلًا، كما لو وضع فيها شيئًا فتخلَّلَت ((الشرح الكبير)) لشمس الدِّين ابن قدامة (1/294). . انظر أيضا: المبحث الأوَّل: إزالة النَّجاسةِ بالماء.