الأُسْرَةُ 1 قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا). قَالَ مُقَاتِلٌ: "ذَلِكَ حَقٌّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَوَلِدِهِ وَأَهْلِهِ وَعَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ". فَدَوْرُ الوَالِدَيْنِ وَأَفْرَادِ الأُسْرَةِ: الأَخْذُ بِالوَسَائِلِ وَالأَسْبَابِ التِي هِيَ مِنْ عَوَامِلِ صَلَاحِ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ بِإِذْنِ اللهِ. 2 عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى مَسْؤُولِيَّةِ كُلٍّ مِنَ الأَبِ وَالأُمِّ وَسَائِرِ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ، وَضَرُورَةِ التَّعَاوُنِ وَالتَّكَاتُفِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. 3 ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَعُ هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي، وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي، وَمَالِي ...). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَبَعْضُ أَهْلِ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَالذَّهَبِيُّ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَهَذَا الذِّكْرُ مِنْ أَنْفَعِ الوَسَائِلِ لِتَحْصِينِ الأُسْرَةِ. 4 قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا). وَثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُرْطٍ مَرْفُوعًا: (أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ صَلُحَتْ صَلُحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَلَهُ شَوَاهِدُ. فَالصَّلَاةُ بِمَثَابَةِ القَلْبِ، عَلَيْهَا مَدَارُ الصَّلَاحِ وَالفَسَادِ، فَلْيَحْرِصِ المُرَبِّي عَلَى أَنْ يُرَبِّيَ أُسْرَتَهُ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ. 5 قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ). الدُّعَاءَ الدُّعَاءَ أَيُّهَا الآبَاءُ، فَإِنَّهُ سِرُّ نَجَاحِ وَفَلَاحِ الأُسْرَةِ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ). 6 قال تعالى: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ). هَذِهِ نُقْطَةُ انْطِلَاقَةِ الأُسْرَةِ لِلْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، فَمَتَى كَانَ الوَالِدَانِ صَالِحَيْنِ صَلُحَتْ حَيَاتُهُمَا، وَكَانَ صَلَاحُهُمَا سَبَبًا لِصَلَاحِ أَوْلَادِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا القُدْوَةُ، وَقَدْ حَفِظَ اللهُ الغُلَامَيْنِ فَكَانَ مِنَ الأَسْرَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا). 7 قال تعالى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ). المُسْلِمُ يَسْأَلُ رَبَّهُ كَثِيرًا أَنْ يَرْزُقَهُ الذُّرِّيَّةَ الصَّالِحَةَ الطَّيِّبَةَ المُبَارَكَةَ، وَأَنْ يُوَفِّقَهُ فِي الزَّوَاجِ الصَّالِحِ، وَيَسْتَمِرُّ فِي دُعَائِهِ بَعْدَ الزَّوَاجِ وَالإِنْجَابِ، فَالإِعْدَادُ وَالإِمْدَادُ مِنَ اللهِ. 8 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِلْبُخَارِيِّ: (وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ). وعَنهْ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ). التَّحْصِينُ مِنْ عَوَامِلِ حِفْظِ الأُسْرَةِ. 9 قال تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ). التَّمَسُّكُ بِالأَدْعِيَةِ وَالأَذْكَارِ وَأَوْرَادِ الصَّبَاحِ وَالمَسَاءِ: سَبَبٌ فِي حِفْظِ الإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَأُسْرَتِهِ، وَالتَّحَصُّنِ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ، فَيُحْفَظُونَ بِإِذْنِ اللهِ فِي النَّوْمِ وَاليَقَظَةِ، مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالهَوَامِّ، وَالسِّحْرِ وَالعَيْنِ وَالأَسْقَامِ، وَالمَشَاكِلِ النَّفْسِيَّةِ وَالصِّحِّيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ عَوَامِلِ رَاحَةِ الأُسْرَةِ. 10 ثَبَتَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ". رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ. مِنْ أَسْبَابِ اسْتِقْرَارِ الأُسْرَةِ وَسَعَادَتِهَا: أَنْ يُؤَدِّيَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهَا الحَقَّ الذِي عَلَيْهِ لِلْآخَرِ، مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ وَأَوْلَادٍ، وَزَوْجٍ وَزَوْجَةٍ، وَزَوْجَاتِ أَوْلَادٍ وَأَزْوَاجِ بَنَاتٍ وَخَدَمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَتَنَاصَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ، وَيَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ. 11 عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ. إِنَّ نَجَاحَ الأُسْرَةِ قَائِمٌ عَلَى اسْتِغْلَالِ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ فِي مَشَارِيعَ عِلْمِيَّةٍ وَمِهْنِيَّةٍ طَمُوحَةٍ، تَنْفَعُ أَفْرَادَ الأُسْرَةِ صِغَارًا وَكِبَارًا، وَتَفْتَقِرُ لِلتَّخْطِيطِ المُشْتَرَكِ وَأَسَالِيبِ التَّعْلِيمِ الحَدِيثَةِ. 12 عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْد دُخُولهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ؛ قَالَ الشَّيْطَانُ لِأَصْحَابِهِ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذكُرِ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِهِ؛ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ وَالعَشَاءَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. الأَذْكَارُ وَالآدَابُ فِي وَظَائِفِ اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، مِثْلَ أَذْكَارِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالضِّيَافَةِ وَالنَّوْمِ وَالخَلَاءِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَعْلِيمُهَا أَفْرَادَ الأُسْرَةِ؛ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَتِهِمْ وَرَاحَتِهِمْ، وَكَفِّ شَرِّ الشَّيَاطِينِ وَأَذَاهُمْ عَنْهُمْ. 13 عَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. اجْتِمَاعُ الأُسْرَةِ عَلَى دَرْسٍ عِلْمِيٍّ أَوْ وَعْظِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ اللهِ؛ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ طُمَأْنِينَةِ قُلُوبِهِمْ، وَسَكِينَةِ نُفُوسِهِمْ، وَحُضُورِ المَلَائِكَةِ فِي مَجْلِسِهِمْ، وَخُرُوجِ الشَّيَاطِينِ عَنْ مَنْزِلِهِمْ. 14 عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ فَاطِمَةَ شَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَا، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَادِمًا، فَقَالَ: (أَلَا أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَانِي؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، تُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَتُسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ عَلِيٌّ لِفَاطِمَةَ: "وَاللهِ لَقَدْ سَنَوْتُ حَتَّى اشْتَكَيْتُ ظَهْرِي، فَقَالَتْ: وَأَنَا وَاللهِ لَقَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَمَسُّكَ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ بِهَذَا الذِّكْرِ يُورِثُهُمَا قُوَّةً وَنَشَاطًا، أَلَا فَلْيُعْلَمْ أَنَّ الفَرَاغَ مَنَاخُ الوَسْوَسَةِ. 15 عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاجِبُ الأَبِ وَالأُمِّ تُجَاهَ الأُسْرَةِ: الاجْتِهَادُ فِي تَنْشِئَتِهَا تَنْشِئَةً إِسْلَامِيَّةً، وَتَطْهِيرُ مَمْلَكَتِهِمْ مِنْ وَسَائِلِ الفَسَادِ وَمَعَاوِلِ الهَدْمِ، وَبَذْلُ مَا فِي وُسْعِهِمْ لِجَلْبِ الخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ. 16 قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ). مَعْرِفَةُ الحُقُوقِ وَالأَدْوَارِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالأَوْلَادِ مِنْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَعَدَمُ الخَلْطِ وَالازْدِوَاجِيَّةِ الجَائِرَةِ، وَفَهْمُ بَعْضِهِمْ طَبِيعَةَ بَعْضٍ؛ مِنْ عَوَامِلِ النَّجَاحِ، فَالوِلَايَةُ - وَهِيَ الرِّعَايَةُ – لِلرَّجُلِ، أَبًا وَزَوْجًا وَأَخًا عَاقِلًا، وَلِلْمَرْأَةِ مِثْلُ الذِي عَلَيْهَا بِالمَعْرُوفِ، وَلِلرَّجُلِ عَلَى المَرْأَةِ دَرَجَةٌ لِفَضْلِ خِلْقَتِهِ، وَخَيْرُ الرِّجَالِ خَيْرُهُمْ لِأَهْلِهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى اعْوِجَاجِ المَرْأَةِ مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ. 17 قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ). مِحْوَرُ سَعَادَةِ الأُسْرَةِ وَتَرَابُطِهَا: إِحْسَانُ العِبَادَةِ وَالمُعَامَلَةِ مَعَ اللهِ، ثُمَّ مَعَ مَنْ تُسَاكِنُهُمْ وَتُجَاوِرُهُمْ وَتُصَاحِبُهُمْ، مِنْ آبَاءٍ وَأَوْلَادٍ، وَأَقْرِبَاءَ وَأَزْوَاجٍ، وَضَرَائِرَ وَرَبَائِبَ، وَحَلَائِلِ أَبْنَاءٍ، وَأَخْتَانٍ وَأَصْهَارٍ، وَأَحْمَاءٍ وَسِلْفَاتٍ، وَكَنَّاتٍ وَخَدَمٍ وَغَيْرِهِمْ. 18 عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا بين أَوْلَادِكُمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَالعَدْلُ بَيْنَ الأَوْلَادِ مِنْ عَوَامِلِ اسْتِقْرَارِ الأُسْرَةِ وَتَرَابُطِهَا وَتَعَاطُفِهَا، وَالجَوْرُ سَبَبُ التَّفَكُّكِ وَالشِّقَاقِ وَالنِّزَاعِ المُقْلِقِ. قَالَ تَعَالَى: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا). 19 ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ). رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ. العَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ قَضِيَّةٌ أَسَاسِيَّةٌ فِي اسْتِقْرَارِ الحَيَاةِ الأُسْرِيَّةِ، وَالمَيْلُ عَامِلٌ رَئِيسٌ فِي إِحْدَاثِ التَّوَتُّرَاتِ وَالشِّجَارِ وَالخُصُومَةِ وَالفُرْقَةِ وَالنِّزَاعِ وَالشَّحْنَاءِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالأَوْلَادِ، خَاصَّةً بَيْنَ أَبْنَاءِ العَلَّاتِ (وَهُمُ الإِخْوَةُ لِأَبٍ)، أَوْ أَبْنَاءِ الأَخْيَافِ (وَهُمْ الإِخْوَةُ لِأُمٍّ). 20 قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). الاخْتِلَافُ دَاخِلَ الأُسْرَةِ يُذْهِبُ الائْتِلَافَ إِذَا كَانَ شَدِيدًا وَطَوِيلًا، وَهُوَ أَحَدُ مَظَاهِرِ فَشَلِ الأُسْرَةِ وَضَعْفِهَا، فَالذِي يَنْبَغِي مِنْ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ هُوَ الاتِّفَاقُ وَتَرْكُ الشِّقَاقِ؛ لِيَتَوَحَّدَ صَفُّهُمْ، وَتَجْتَمِعَ كَلِمَتُهُمْ، وَتَقْوَى شَوْكَتُهُمْ، وَيَلْتَمُّوا وَلَا يَفْتَرِقُوا. 21 قال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ). مَا أَعْظَمَ هَذَا المَنْهَجَ فِي حَيَاةِ الإِنْسَانِ!، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْبَغِي عَلَيْهِ تَطْبِيقُهُ الشَّخْصُ مَعَ أَفْرَادِ أُسْرَتِهِ؛ لِيَكْسِبَهُمْ وَلَا يَخْسَرَهُمْ. 22 قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، تَكشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ؛ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا المَسْجِدِ - يَعْنِي مَسْجِدَ المَدِينَةِ - شَهْرًا، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ؛ مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ رِضًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَقْضِيَهَا لَهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ حُسِّنَ. وَأَوْلَى المَيَادِينِ لِتَطْبِيقِ هَذِهِ الأَخْلَاقِ مَيْدَانُ الأُسْرَةِ، وَالقَرِيبُ أَوْلَى مِنَ الغَرِيبِ، وَفِي كُلٍّ أَجْرٌ. 23 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: (أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَأَوْلَى النَّاسِ بِحُسْنِ خُلُقِكَ وَبِرِّكَ وَإِحْسَانِكَ وَجُودِكَ وَكَرَمِكَ وَحَنَانِكَ وَعَطْفِكَ وَابْتِسَامَتِكَ وَطَلَاقَةِ وَجْهِكَ وَكَلِمَتِكَ الطَّيِّبَةِ: أَفْرَادُ أُسْرَتِكَ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ، وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ حَظُّ أُسْرَتِهِ مِنْهُ: العُسْرُ وَالشِّدَّةُ وَالفَظَاظَةُ وَالغِلْظَةُ وَالعُبُوسَةُ وَالبُخْلُ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ!. 24 قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً). فَتَرْبِيَةُ الأُسْرَةِ، وَتَأْدِيبُ كُلِّ أَفْرَادِهَا عَلَى الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَنْشِئَتُهُمْ تَنْشِئَةً إِسْلَامِيَّةً، يُحَافِظُونَ عَلَى الفَرَائِضِ، وَيَتَزَوَّدُونَ بِالنَّوَافِلِ، وَيَأْخُذُونَ بِقِيَمِ وَمَبَادِئِ الدِّينِ الإِسْلَامِيِّ، وَلَا يَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللهِ، وَلَا يَنْتَهِكُونَ مَحَارِمَهُ، عِنْدَ ذَلِكَ سَتَحْلُو حَيَاتُهُمْ، وَيَطِيبُ عَيْشُهُمْ. 25 قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ). مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، صَاحَبَهُ شَيْطَانٌ رَجِيمٌ، يُضِلُّهُ وَيُغْوِيهِ، وَيُزَيِّنُ لَهُ الشَّرَّ، وَيُحَبِّبُ إِلَيْهِ الفَسَادَ، وَيَصُدُّهُ عَنِ الخَيْرِ، حَتَّى يَصِيرَ شَيْطَانًا مِثْلَهُ، فَهَذَا الإِنْسَانُ كَفِيلٌ بِقَلْبِ حَيَاةِ أُسْرَةٍ بِأَكْمَلِهَا، مِنْ سَعَادَةٍ إِلَى تَعَاسَةٍ، فَكَيْفَ لَوْ أَعْرَضَ كُلُّ فَرْدٍ فِي الأُسْرَةِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ؟ عِنْدَهَا سَيَكُونُ المَنْزِلُ حَظِيرَةَ شَيَاطِينَ مُسْتَأْسِدَةٍ، وَتَكْثُرُ الأَزَمَاتُ النَّفْسِيَّةُ. 26 قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ). فَالقُرْآنُ شِفَاءٌ؛ لِأَنَّهُ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَفِيهِ العِلْمُ الرَّافِعُ لِلْجَهْلِ، وَغَنِيٌّ بِالتَّوْجِيهَاتِ الإِرْشَادِيَّةِ النَّافِعَةِ المُثَبِّتَةِ لِلْفُؤَادِ، الرَّابِطَةِ عَلَى القَلْبِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ لِلرُّقْيَةِ مِنَ السِّحْرِ وَالعَيْنِ وَالجَانِّ وَالأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ، وَفِيهِ الحُلُولُ وَالمُسَكِّنَاتُ لِكُلِّ المَشَاكِلِ الأُسْرِيَّةِ المُتَنَوِّعَةِ. 27 ثَبَتَ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَبَعْضُ أَهْلِ السُّنَنِ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ. فَالسُّنَّةُ مِثْلُ القُرْآنِ الذِي هُوَ (شِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى)، فَالأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فِيهَا حُلُولٌ لِلْمَشَاكِلِ الأُسْرِيَّةِ بِأَنْوَاعِهَا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بِالقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَلَا شَفَاهُ اللهُ. 28 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَالقَنَاعَةُ عُدَّةٌ قَوِيَّةٌ فَعَّالَةٌ، مَنْ نَظَرَ بِعَيْنِهَا لِنَفْسِهِ وَأُسْرَتِهِ فِي جَمِيعِ شُؤُونِ الحَيَاةِ، وَجَدَ الرَّاحَةَ وَالسَّعَادَةَ، وَمِثَالُ النَّظْرَةِ القَنُوعَةِ، مَا ثَبَتَ عَنْ عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَصْبَحَ مِنكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. 29 ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، وَبِمَنْ تَحْرُمُ النَّارُ عَلَيْهِ؟ عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ قَرِيبٍ سَهْلٍ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ المُنْذِرِيُّ وَالبُوصِيرِيُّ. إِنَّ فَهْمَ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ لِهَذَا الحَدِيثِ طَرْدًا وَعَكْسًا، وَعَمَلَهُمْ بِمَبْدَأِ التَّسَامُحِ وَالتَّنَازُلِ وَالتَّغَاضِي؛ يَجْعَلُ الرَّابِطَةَ بَيْنَهُمْ قَوِيَّةً، وَيُسْهِمُ فِي دَوَامِ المَوَدَّةِ، وَاسْتِمْرَارِ العَلَاقَةِ الحَمِيمَةِ. 30 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَوَ لَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَطَاءٍ الخُرَاسَانِيِّ يَرْفَعُهُ: «تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبِ الشَّحْنَاءُ». رَوَاهُ مَالِكٌ فِي المُوَطَّأِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، حَسَّنَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ. فَمِنْ أَسْبَابِ تَرَابُطِ الأُسْرَةِ وَتَآخِيهَا: أَخْذُ أَفْرَادِهَا بِمَبْدَأِ السَّلَامِ وَالمُصَافَحَةِ، وَالتَّوَاصُلِ وَالزِّيَارَاتِ وَتبَادُلِ الهَدَايَا. 31 عَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنْ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: (الْخَيْرُ عَادَةٌ). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: "عَوِّدُوا أَبْنَاءَكُمُ الخَيْرَ؛ فَإِنَّ الخَيْرَ عَادَةٌ". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: "تَعَوَّدُوا الخَيْرَ". فَتَنْشِئَةُ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ عَلَى العَوَائِدِ الحَمِيدَةِ، وَالأَخْلَاقِ الجَمِيلَةِ، الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ: الاحْتِرَامُ وَالتَّقْدِيرُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالتَّعَاوُنُ وَالتَّطَاوُعُ وَالمِزَاحُ، وَسُؤَالُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَتَفَقُّدُ بَعْضِهِمْ أَحْوَالَ بَعْضٍ؛ أَمْرٌ وَاجِبٌ، وَتَرْبِيَةٌ حَمِيدَةٌ، وَقَدْ قِيلَ: وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ فِينَا ،،، عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ 32 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ: (وَتَكْرَهُ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ). فَإِذَا كَانَ هَذَا الخِطَابُ فِي حَقِّ إِخْوَةِ الدِّينِ، فَكَيْفَ بِإِخْوَةِ الدِّينِ وَالرَّحِمِ؟!! فَمِثْلُ هَذِهِ القِيَمِ يَنْبَغِي غَرْسُهَا فِي نُفُوسِ الإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ، وَزَرْعُ جَمِيعِ الأَعْمَالِ القَلْبِيَّةِ الأَخَوِيَّةِ وَمَظَاهِرِ الرُّجُولَةِ فِي نُفُوسِهِمْ. 33 عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (يَا غُلَيِّمُ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟) فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: (احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ، فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ، فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، قَدْ جَفَّ القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللهُ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. خَارِطَةُ حَيَاةٍ، وَمَنْهَجُ عُمْرٍ، لَوْ نُقِشَتْ هَذِهِ الكَلِمَاتُ فِي قُلُوبِ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ فَاسْتَذْكَرُوهَا مَعَ كُلِّ حَدَثٍ! 34 قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا). وقال: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ). الاقْتِصَادُ نِصْفُ المَعِيشَةِ، وَمَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ، وَالإِسْرَافُ ضَعْفُ عَقْلٍ، وَقِلَّةُ تَدْبِيرٍ، وَالبُخْلُ نَقْصُ دِينٍ، ثُمَّ إِنَّ الإِنْفَاقَ سَبَبُ الإِخْلَافِ، وَالبُخْلَ سَبَبُ الإِتْلَافِ، وَإِنَّ مِنْ عَوَامِلِ تَحْسِينِ مُسْتَوَى المَعِيشَةِ وَعْيَ الأُسْرَةِ بِهَذَا، وَفِقْهَهُمْ بِمَهَارَةِ التَّوْفِيرِ وَالادِّخَارِ، وَالتِّجَارَةِ وَالاسْتِثْمَارِ، وَالاسْتِغْنَاءِ عَنِ النَّاسِ. 35 قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ). فَالتَّرْبِيَةُ وَالتَّعْلِيمُ يَرْفَعَانِ مِنْ مُسْتَوَى الإِنْسَانِ، فَلَا تَغْفُلْ أَيُّهَا الوَالِدُ عَنْ مُهِمَّتِكَ فِي تَعْلِيمِ أُسْرَتِكَ مَصَالِحَهُمُ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ، وَتَدَابِيرِ شُؤُونِ حَيَاتِهِمُ العِلْمِيَّةِ وَالمِهْنِيَّةِ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَابْنُ المُلَقِّنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَدِيثٌ ثَابِتٌ. 36 ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كَفَى بِالمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَأَصْلُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. فَالأَبُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ وَمَنْ يَعُولُ بِالمَعْرُوفِ، وَالأُمُّ عَلَيْهَا تَجْهِيزُ مَا تَحْتَاجُهُ الأُسْرَةُ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ فَرَّطَ آبَاءٌ فِي تَأْمِينِ لَوَازِمِ البَيْتِ، وَحَاجَاتِ الأَوْلَادِ، بِسَبَبِ سَفَرِهِمُ المُتَكَرِّرِ، أَوْ سَهَرِهِمْ خَارِجَ البَيْتِ. قَالَ أَحَدُ السَّلَفِ لِطُلَّابِهِ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَوْلَادِي يَحْتَاجُونَ بَقْلَةَ جَزَرٍ مَا قَعَدْتُ مَعَكُمْ. 37 عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَتَكَسُّبُ الرَّجُلِ بِالحَلَالِ لِأُسْرَتِهِ، وَسَدُّ حَاجَتِهِمْ، وَإِغْنَاؤُهُمْ عَنْ سُؤَالِ النَّاسِ؛ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (نِعْمَ المَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرءِ الصَّالحِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ. إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَإِنَّ مِنْ تَفْكِيرِ رَبِّ الأُسْرَةِ الإِيجَابِيِّ إِيقَافَ مَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. 38 قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُنَعَّمِينَ. وَقَالَ تَعَالَى عَنِ المُكَذِّبِينَ: (وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). لَقَدْ ذَمَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ التَّرَفَ وَالمُتْرَفِينَ؛ لِأَنَّ نَتِيجَةَ التَّرَفِ البَطَرُ وَالعُتُوُّ وَالفِسْقُ، وَنِهَايَتَهُ العُقُوبَةُ، فَمَنْ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ فَلْيَرَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُسْرَتِهِ أَثَرَ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ وَالحَمْدَ وَالشُّكْرَ، لَا التَّنَعُّمَ الزَّائِدَ وَلَا التَّمَيُّعَ، وَلَا تَعَدِّيَ حُدُودِ اللهِ، وَتَضْيِيعَ فَرَائِضِهِ، وَانْتِهَاكَ مَحَارِمِهِ. 39 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا؛ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. اجْتِمَاعُ الأُسْرَةِ وَعَدَمُ تَفَرُّقِهَا مِنْ عَوَامِلِ نَجَاحِهَا وَقُوَّتِهَا، وَفِي الحَدِيثِ الثَّابِتِ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ، وَمِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا: (يَدُ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَقْدِيمُ النُّصْحِ لِلْأَبِ وَغَيْرِهِ. 40 قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: (إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ). يَنْبَغِي تَجَنُّبُ الشَّرَاكَةِ بَيْنَ الإِخْوَانِ فِي المُمْتَلَكَاتِ أَوِ المَسْؤُولِيَّاتِ وَالمَهَامِّ قَدْرَ المُسْتَطَاعِ؛ لِأَنَّهَا فِي الغَالِبِ تُسَبِّبُ الخِلَافَ وَالمُنَازَعَةَ الأُسْرِيَّةَ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَاضِحَةَ المَعَالِمِ، مُحْكَمَةَ الضَّوَابِطِ، مَعَ تَعَقُّلٍ وَسَمَاحَةٍ. 41 قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ). الغَيْرَةُ بَيْنَ الأَوْلَادِ وَالحَسَاسِيَةُ بَيْنَهُمْ شَدِيدَةٌ، فَعَلَى الوَالِدَيْنِ الدِّقَّةُ فِي التَّعَامُلِ، حَتَّى لَا يَشْعُرَ أَحَدٌ أَنَّهُ دُونَ أَخِيهِ فِي المَحَبَّةِ أَوِ المُعَامَلَةِ، وَقَدْ يَقَعُ الوَالِدَانِ فِي خَطَأٍ بِتَفْضِيلِ آخِرِ مَوْلُودٍ. 42 قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ... الآيات). فَيَنْبَغِي زِرَاعَةُ التَّقْوَى فِي نُفُوسِ الإِخْوَةِ، وَالسَّعْيُ لِغَرْسِ رُوحِ الأُخُوَّةِ وَالمَوَدَّةِ وَالمَحَبَّةِ وَالأُلْفَةِ وَالتَّضْحِيَةِ فِيهِمْ، لِئَلَّا يُشْعِلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ رُوحَ التَّنَافُسِ المَذْمُومِ، وَالأَنَانِيَةِ وَالطَّمَعِ وَالجَشَعِ، وَحُبَّ الاسْتِحْوَاذِ، فَإِنَّ النَّتَائِجَ مُخْزِيَةٌ، وَقَدْ تَكُونُ نِهَايَةُ ذَلِكَ الجَرِيمَةَ. 43 رَوَى البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "لَا يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ". وَرَوَى مُسْلِمٌ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ. فَالبَغْيُ وَالعُدْوَانُ حَرَامٌ صَغِيرُهُ وَقَلِيلُهُ، وَيَا لَلْأَسَفِ! قَدْ يَقَعُ ذَلِكَ بَيْنَ بَعْضِ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ، فَقَدْ يَصْدُرُ مِنْ زَوْجَةِ الابْنِ مَعَ أُمِّ زَوْجِهَا، وَمِنَ الأُمِّ مَعَ زَوْجَةِ ابْنِهَا، وَمِنَ الأُخْتَ مَعَ زَوْجَةِ أَخِيهَا وَالعَكْس، وَمِنَ امْرَأَةِ الأَبِ مَعَ أَوْلَادِ زَوْجِهَا وَالعَكْس، وَالظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ. قَالَ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ). 44 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ؛ لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ. وَلِمُسْلِمٍ: (لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ). فَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ صَلَاحِ الأُسْرَةِ الدُّعَاءُ لَهَا بِالخَيْرِ، وَمِنْ أَسْبَابِ السُّوءِ الدُّعَاءُ بِالشَّرِّ. 45 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. مَشْرُوعُ صِلَةِ الرَّحِمِ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ مِنَ المَشَارِيعِ النَّاجِحَةِ دُنْيَا وَآخِرَةً، فَلْيَصِلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا - وَإِنْ كُنْتُمْ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ - بِالجُلُوسِ مَعًا، وَانْتِقَاءِ الكَلِمَاتِ الطَّيِّبَاتِ، وَالهَدَايَا، وَالاجْتِمَاعِ الدَّوْرِيِّ، وَالحَذَرِ مِنَ الفُرْقَةِ بِسَبَبِ مَا يَجْرِي بَيْنَ الصِّغَارِ مِنَ التَّضَارُبِ، وَمَا يَكُونُ بَيْنَ النِّسَاءِ مِنَ الحَسَاسِيَةِ. 46 عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: “الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ“. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَوْلَى النَّاسِ لِلْعَمَلِ بِهَذَا الحَدِيثِ الأُسْرَةُ؛ بِأَنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُسَاعِدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي أُمُورِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ؛ فَيَقِفُ الأَخُ مَعَ أَخِيهِ وَأُخْتِهِ، وَالوَلَدُ مَعَ وَالِدِهِ، وَالوَالِدُ مَعَ وَلَدِهِ - وَهَلُمَّ جَرًّا - يَسْنُدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. 47 عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. مَا أَحْوَجَ أَفْرَادَ الأُسْرَةِ إِلَى هَذَا التَّوْجِيهِ وَالإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ، فَالذِي يَنْبَغِي مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا جَسَدًا وَاحِدًا، يُحِسُّ بَعْضُهُمْ بِآلَامِ بَعْضٍ، وَيَشْعُرُ بَعْضُهُمْ بِهُمُومِ بَعْضٍ، فَرِيقًا وَاحِدًا مُتَحَابِّينَ مُتَرَاحِمِينَ مُتَعَاطِفِينَ، قَدْ ضَرَبَ الحَنَانُ بِأَطْنَابِهِ بَيْنَهُمْ.