من أنباء القري

مِنْ أَنْبَاءِ القُرَى 1- قال تعالى: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ۖ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ)؛ أَيْ: عَامِرٌ وَخَرَابٌ. وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ۛ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ)، وَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ عِدَّةَ قُرَى كَفَرَتْ وَعَصَتْ، قال تعالى: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، وقال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)، وقال تعالى: (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). قَالَ قَتَادَةُ: "مَنْ أَخَذَ مِنَ المَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، أَخَذَ عَلَى سَدُومَ قَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ". فَاللَّبِيبُ يَتَّعِظُ وَيَعْتَبِرُ، وَيَتَفَكَّرُ وَيَتَذَكَّرُ، بِمَا حَلَّ بِتِلْكَ الأُمَمِ. 2- قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَدْخُلُوا بَيْتَ المَقْدِسِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "هِيَ أَرِيحَا". وَبَابُ الحِطَّةِ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ: "بَابُ إِيلِيَاءَ". أَنْ يَدْخُلُوهُ رُكَّعًا، وَأَنْ يَقُولُوا: "حِطَّةٌ"؛ أَيِ: احْطُطْ عَنَّا خَطَايَانَا؛ لِتُغْفَرَ ذُنُوبُهُمْ، وَيُزَادَ المُحْسِنُونَ إِحْسَانًا، لَكِنَّهُمْ بَدَّلُوا لِشَقَائِهِمْ، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حِنْطَةٌ، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَعَثَ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَالَ: وَبَقِيَ الأَبْنَاءُ. 3- قال تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). اجْتَازَ عُزَيْرٌ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى بَيْتِ المَقْدِسِ أَوْ غَيْرِهَا، وَكَانَتْ قَرْيَةً خَرِبَةً، فَاسْتَبْعَدَ عِمْرَانَهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَأَرَاهُ اللهُ قُدْرَتَهُ فِي نَفْسِهِ، حَيْثُ أَمَاتَهُ قَرْنًا ثُمَّ أَحْيَاهُ، وَأَعَادَ خَلْقَ حِمَارِهِ، وَأَرْجَعَ القَرْيَةَ عَامِرَةً بِالسُّكَّانِ، فَسُبْحَانَ مَنْ يُحْيِي خَلْقَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، وَيُعِيدُهُمْ بَعْدَ فَنَائِهِمْ! 4- قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا). حَرَّضَ اللهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى نُصْرَةِ إِخْوَانِهِمُ العَاجِزِينَ عَنِ الهِجْرَةِ لِضَعْفِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ، فَغَلَبَتْهُمْ عَشَائِرُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَقَهَرُوهُمْ وَآذَوْهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَكَانُوا يَدْعُونَ اللهَ بِأَنْ يَسْتَنْقِذَهُمْ مِنْ قَبْضَتِهِمْ، فَحَضَّ اللهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى تَخْلِيصِهِمْ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ. 5- قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). قَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ ... فَعَدَّدَ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا". رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَقَدْ فَتَحَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَكَّةَ، فَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا. 6- قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ). فَالقُرَى المُهْلَكَةُ وَالمُعَذَّبَةُ كَانَ رُؤَسَاؤُهَا وَعُظَمَاؤُهَا مُجْرِمِينَ يَتَحَايَلُونَ عَلَى فِعْلِ المُنْكَرَاتِ، وَيَخْدَعُونَ غَيْرَهُمْ لِيَصُدُّوهُمْ عَنِ الهِدَايَةِ، وَيُنَفِّرُوهُمْ عَنِ الاسْتِقَامَةِ، وَكَمْ مِنْ بَلَدٍ فِيهِ رُمُوزٌ مُتَجَبِّرَةٌ، يُفْسِدُونَ فِيهَا وَلَا يُصْلِحُون، وَمَا إِجْرَامُهُمْ وَإِفْسَادُهُمْ إِلَّا رَاجِعٌ عَلَيْهِمْ؛ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ وَأَوْزَارَ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ. قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا). 7- قال تعالى: (ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ). فَاللهُ جَلَّ وَعَلَا أَقَامَ الحُجَّةَ عَلَى جَمِيعِ القُرَى؛ حَيْثُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الكُتُبَ، وَأَقَامَ الحُجَّةَ، وَأَوْضَحَ المَحَجَّةَ، وَلَا يُهْلِكُ اللهُ بَلَدًا لِوُقُوعِهِ فِي الشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُنْذِرَ أَهْلَهُ، وَيُبَيِّنَ لَهُمُ الحَقَّ مِنَ البَاطِلِ، وَالهُدَى مِنَ الضَّلَالِ. قال تعالى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). 8- قال تعالى: (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ). لَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ قُرًى كَثِيرَةً بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، فَلَمَّا عَايَنُوا أَوَّلَ العَذَابِ دَعَوُا اللهَ مُعْتَرِفِينَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، بِارْتِكَابِهِمُ الشِّرْكَ، وَإِتْيَانِهِمُ المُنْكَرَاتِ، وَاقْتِرَافِهِمُ المُحَرَّمَاتِ. قال تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ). وَقَدْ أَنْذَرَ اللهُ بِهَذِهِ الآيَةِ هَذِهِ الأُمَّةَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ الآيَةِ الدَّلَالَةُ الوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلِهِ: "مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ". 9- قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). هَذِهِ الآيَةُ جَاءَتْ بَعْدَ آيَاتٍ ذَكَرَ اللهُ فِيهَا إِهْلَاكَ قُرًى كَذَّبَتْ رُسُلَهَا، فَأَهْلَكَ اللهُ تِلْكَ المُدُنَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ العَذَابِ؛ أَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، وَقَوْمَ فِرْعَوْنَ فِي البَحْرِ، وَأَهْلَكَ عَادًا بِالرِّيحِ العَقِيمِ، وَأَخَذَتْ ثَمُودَ وَقَوْمَ شُعَيْبٍ الرَّجْفَةُ، وَهِيَ الصَّيْحَةُ، وَقَلَبَ قُرَى قَوْمِ لُوْطٍ، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. فَالتَّكْذِيبُ سَبَبُ التَّعْذِيبِ، وَإِتْيَانُ المَآثِمِ وَالمَحَارِمِ مِنْ عَوَامِلِ شِدَّةِ الحَالِ، وَشَظَفِ العَيْشِ، وَالفَقْرِ، وَالجُوعِ، وَالعَجْزِ عَنِ النَّفَقَاتِ، وَالإِيمَانُ وَالتَّقْوَى سَبَبُ نُزُولِ البَرَكَاتِ، وَخُرُوجِ الخَيْرَاتِ. 10- قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوْطٍ: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)، وقال تعالى: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ). هَذَا شَأْنُ رُؤَسَاءِ الشَّرِّ وَعُشَّاقِ الفَسَادِ؛ يُرِيدُونَ بِيئَةً مَوْبُوءَةً خَرَابًا خَالِيَةً مِنَ القِيَمِ وَالمَبَادِئِ الدِّينِيَّةِ وَالأَخْلَاقِيَّةِ؛ حَتَّى يَرْتَكِبُوا فِيهَا المُنْكَرَاتِ، وَيَنْتَهِكُوا فِيهَا المُحَرَّمَاتِ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُمْ: "إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ". قَالَ قَتَادَةُ: عَابُوهُمْ بِغَيْرِ عَيْبٍ، وَذَمُّوهُمْ بِغَيْرِ ذَمٍّ. 11- قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ). رَسَائِلُ اللهِ وَنُذُرُهُ إِلَى أَهْلِ القُرَى مُتَعَدِّدَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ؛ وَمِنْهَا: ابْتِلَاؤُهُمْ بِشِدَّةِ المَؤُونَةِ، وَضِيقِ المَعِيشَةِ، وَسُوءِ الحَالِ؛ لِيَسْتَكِينُوا إِلَى رَبِّهِمْ، وَيَتُوبُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَيُنِيبُوا إِلَيْهِ، وَيُقْلِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ؛ فَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ، وَيَسْتَيْقِظُوا مِنْ رَقْدَتِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ الحَيَاةِ تَتَقَلَّبُ وَتَتَغَيَّرُ؛ أَتَاهُمُ الرَّخَاءُ وَالنِّعْمَةُ وَالسَّعَةُ فِي المَعِيشَةِ وَاعْتِدَالُ الحَالِ اسْتِدْرَاجًا، حَتَّى إِذَا كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، وَصَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَسُرُّوا بِذَلِكَ: أَخَذَهُمُ اللهُ بِالهَلَاكِ وَالعَذَابِ فَجْأَةً، وَأَتَاهُمْ عَلَى غِرَّةٍ. 12- قال تعالى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ). إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ، وَأَظْهَرُوا المُنْكَرَاتِ، وَأَعْلَنُوا المَعَاصِي؛ فَإِنَّ عُقُوبَةَ اللهِ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، وَاسْتَحَقَّتِ القُرَى بِذَلِكَ الدَّمَارَ وَالخَرَابَ وَالهَلَاكَ وَالعَذَابَ، فَكَيْفَ يَأْمَنُ أَهْلُ القُرَى بِأْسَ اللهِ وَمَكْرَهُ بِهِمْ، إِذْ يَعْصُونَهُ وَهُوَ يُغْدِقُ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ، أَمَا يَخْشَوْنَ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْرَاجًا لِحُلُولِ النِّقَمِ، فَقَدْ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الأُمَمِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. 13- قال تعالى: (تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) فَاللهُ جَلَّ وَعَلَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَنْبَاءِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوْطٍ وَشُعَيْبٍ، وَأَخْبَارِ مَنْ سَارَ عَلَى جَادَّتِهِمْ وَأَخَذَ بِسِيرَتِهِمْ، فَكُلُّهُمْ أُهْلِكُوا وَعُذِّبُوا بِسَبَبِ جَحْدِهِمْ لِبَرَاهِينِنَا، وَتَكْذِيبِهِمْ لِحُجَجِنَا، وَمُعَادَاتِهِمْ لِرُسُلِنَا، فَاحْذَرُوا خَتْمَنَا عَلَى القُلُوبِ وَالأَسْمَاعِ وَالأَبْصَارِ. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ"، قَالَ: كَانَ فِي عِلْمِهِ يَوْمَ أَقَرُّوا لَهُ بِالمِيثَاقِ"؛ أَيْ: نَفَذَ عِلْمُهُ فِيهِمْ، أَيُّهُمُ المُطِيعُ مِنَ العَاصِي، وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِتَكْذِيبِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ. 14- قال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). احْتِيَالُ هَؤُلَاءِ اليَهُودِ عَلَى اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ نَهَاهُمْ عَنِ الصَّيْدِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، فَكَانُوا يَنْصِبُونَ شِبَاكَهُمْ قَبْلَهُ، وَيُخْرِجُونَهَا بَعْدَهُ، فَمَسَخَهُمُ اللهُ عُقُوبَةً. قال تعالى: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا: "أَيْلَةَ"، بَيْنَ مَدْيَنَ وَالطُّورِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَهِيَ عَلَى شَاطِئِ بَحْرِ القُلْزُمِ". يَعْنِي (البَحْرَ الأَحْمَرَ). 15- قال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ). فَكَيْفَ يَأْمَنُ عُقُوبَةَ اللهِ مَنْ يُصِرُّ عَلَى المَعْصِيَةِ؟! رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الأُمَمِ قَبْلَهُمْ، لَمْ يَنْفَعْ قَرْيَةً كَفَرَتْ ثُمَّ آمَنَتْ حِينَ حَضَرَهَا العَذَابُ، فَتُرِكَتْ، إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، لَمَّا فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ العَذَابَ قَدْ دَنَا مِنْهُمْ؛ قَذَفَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ، وَلَبِسُوا المُسُوحَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ بَهِيمَةٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا عَرَفَ اللهُ الصِّدْقَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَالتَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ عَلَى مَا مَضَى مِنْهُمْ، كَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ العَذَابَ بَعْدَ أَنْ تَدَلَّى عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ كَانُوا بِنِيْنَوَى أَرْضِ المَوْصِلِ. 16- قال تعالى: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ۖ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ). فَأَيْنَ المُتَأَمِّلُونَ فِي الدُّوَلِ الذَّاهِبَةِ وَالمَدَائِنِ المُهْلَكَةِ، (مِنْهَا قَائِمٌ): يُرَى أَثَرُ بُنْيَانِهِ، وَمِنْهَا (حَصِيدٌ): خَرَّ بُنْيَانُهُ، وَعَفَى أَثَرُهُ. وَمَنْ قَرَأَ التَّارِيخَ وَاطَّلَعَ عَلَى قَصَصِ الأَنْبِيَاءِ، وَجَدَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرِ، فَاسْأَلْ لِلْعِظَةِ إِنْ صَحَّتِ المَوَاقِعُ جَنُوبَ العِرَاقِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ، وَاسْأَلْ رِمَالَ الأَحْقَافِ بَيْنَ اليَمَنِ وَعُمَانَ عَلَى تُخُومِ الرُّبْعِ الخَالِي عَنْ عَادٍ، وَاسْأَلْ مَدَائِنَ صَالِحٍ بِالعُلَا بَيْنَ المَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَتَبُوكَ عَنْ سُكَّانِ الحِجْرِ مَدِينَةِ ثَمُودَ، وَاسْأَلْ مِنْطَقَةَ البَحْرِ المَيِّتِ وَغَوْرَ الأُرْدُنِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ، وَاسْأَلْ مِصْرَ عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ المُهْلَكِينَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا مَرَّ بِالحِجْرِ، قَالَ: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ؛ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ». 17- قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ). يَعْنِي مُوجِعٌ بِقُوَّةٍ؛ لِشِرْكِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سَخَطِ اللهِ. فَالحَذَرَ الحَذَرَ يَا هَذِهِ الأُمَّةُ مِنْ مُوجِبَاتِ غَضَبِ اللهِ، وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، وَشَدِيدِ عَذَابِهِ. قال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ)؛ فَكَيْفَ تُصِرُّونَ عَلَى ذُنُوبِكُمْ وَمَعَاصِيكُمْ، وَتُعَانِدُونَ وَتُكَابِرُونَ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا حَلَّ بِالقُرَى المُكَذِّبَةِ قَبْلَكُمْ؟ فَأُمَّةٌ مُسِخَتْ قِرَدَةً، وَأُخْرَى خَنَازِيرَ، وَأُخْرَى وَأُخْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا)، وَتِلْكَ هِيَ (المَثُلَاتُ). 18- قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ). إِذَا ظَهَرَتِ المُنْكَرَاتُ وَكَثُرَتْ، اسْتَحَقَّ أَهْلُ القَرْيَةِ العِقَابَ، فَإِنِ اجْتَهَدَ المُصْلِحُونَ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، فَإِنَّ اللهَ لَطِيفٌ بِعِبَادِه. قَالَ القُرْطُبِيُّ: (أَيْ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَهُمْ بِالكُفْرِ وَحْدَهُ حَتَّى يَنْضَافَ إِلَيْهِ الفَسَادُ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِبَخْسِ المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِاللِّوَاطِ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ المَعَاصِي أَقْرَبُ إِلَى عَذَابِ الاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ، وَإِنْ كَانَ عَذَابُ الشِّرْكِ فِي الآخِرَةِ أَصْعَبَ. وَفِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ). انتهى. 19- قال تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ). المَقْصُودُ بِالقَرْيَةِ هُنَا مِصْرُ، وَكَانَتْ عَلَى الشِّرْكِ، وَلَمَّا دَخَلَهَا نَبِيُّ اللهِ يُوسُفُ كَانَ بَرَكَةً عَلَيْهَا، وَرَحْمَةً لِأَهْلِهَا، حَيْثُ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَمَكَّنَ اللهُ لَهُ، وَمَلَّكَهُ أَزِمَّةَ أُمُورِهَا وَخَزَائِنِهَا، فَصَلَحَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ، وَزَادَتِ الخَيْرَاتُ، وَكَثُرَتِ البَرَكَاتُ، وَسُنَّةُ اللهِ التَّمْكِينُ لِأَوْلِيَائِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ). 20- قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ۗ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). فَمِنْ أَسْبَابِ الاعْتِبَارِ وَالاتِّعَاظِ وَحَيَاةِ القُلُوبِ: القِرَاءَةُ فِي تَارِيخِ الأُمَمِ، وَنِهَايَاتِ الدُّوَلِ، وَقَصَصِ الأَنْبِيَاءِ، وَمَا جَرَى لِلْقُرَى الظَّالِمَةِ الَّتِي قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ أَنْبَائِهَا وَأَخْبَارِهَا فِي القُرْآنِ، وَإِهْلَاكُهُ لِأَهْلِهَا، وَتَقْوِيضُهُ لِعُرُوشِهَا. قال تعالى: (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ۖ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ۖ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا). 21- قال تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (4) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ). أَنْذَرَ اللهُ كُفَّارَ مَكَّةَ وَمَنِ اقْتَفَى أَثَرَهُمْ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَقَدْ قُتِلَ رُؤُوسُ الكُفْرِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَطُرِحُوا فِي قَلِيبِهَا. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولَ اللهِ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَهْلَ القَلِيبِ، يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيَّةُ بْنَ خَلَفٍ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ - فَعَدَّدَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي القَلِيبِ - هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا». قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. 22- قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ). المَقْصُودُ بِالقَرْيَةِ هُنَا مَكَّةُ، فَلِقَدَاسَتِهَا الدِّينِيَّةِ عَاشَ أَهْلُهَا وَمَنْ دَخَلَهَا فِي أَمْنٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، فَلَا يُسْفَكُ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُعْتَدَى عَلَى مَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَرْزَاقُهُمْ تَأْتِيهِمْ مِنْ جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، قَدْ يَسَّرَ اللهُ أَسْبَابَهَا، وَلَمَّا لَمْ يَشْكُرْ أَهْلُهَا اللهَ عَلَى نِعَمِهِ، بَلْ قَابَلُوا آلَاءَهُ بِالكُفْرِ وَالفُسُوقِ وَالعِصْيَانِ، عَاقَبَهُمُ اللهُ بِالجُوعِ، وَالفَقْرِ، وَشِدَّةِ الحَالِ، وَالخَوْفِ وَالقَلَقِ، فَأَكَلُوا الجِيَفَ وَالنَّتْنَ، وَخَالَطَ الفَزَعُ قُلُوبَهُمْ خَوْفًا مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَالذُّنُوبُ وَالمَعَاصِي سَبَبُ تَدَهْوُرِ الأُمُورِ وَانْقِلَابِ الحَالِ. 23- قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا). وقال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ). قُرِئَتْ: (أَمَرْنَا)؛ بِتَخْفِيفِ المِيمِ وَفَتْحِهَا، مِنَ الأَمْرِ، وَقُرِئَتْ: (أَمَّرْنَا)؛ بِتَشْدِيدِ المِيمِ، مِنَ الإِمَارَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا)، قَالَ: بِطَاعَةِ اللهِ، فَعَصَوْا. وَقَالَ: (أَمَّرْنَا مُترَفِيهَا): سَلَّطْنَا أَشْرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالعَذَابِ. وَالمَعْنَى أَنَّ انْحِرَافَ الرُّؤَسَاءِ وَالكُبَرَاءِ سَبَبُ انْحِرَافِ جَهَلَةِ النَّاسِ، وَضُعَفَاءِ الإِيمَانِ، وَظُهُورِ الفَسَادِ، وَكَثْرَةِ الخَبَثِ، وَتِلْكَ مِنْ عَوَامِلِ الإِهْلَاكِ وَالتَّدْمِيرِ. 24- قال تعالى: (وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا). فَمَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ إِلَّا زَائِلُونَ؛ إِمَّا بِانْقِضَاءِ أَجَلٍ وَانْتِهَاءِ مُدَّةٍ، أَوْ بِتَعْجِيلِ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَعُقُوبَةٍ شَدِيدَةٍ. قال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ۛ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ)، فَكُلُّهَا - وَهِيَ كَثِيرَةُ - إِمَّا بَائِدَةٌ بِكِتَابٍ، أَوْ مُسْتَأْصَلَةٌ بِعَذَابٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ قَرْيَةٍ فِي الأَرْضِ سَيُصِيبُهَا بَعْضُ هَذَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِمَّا أَنْ يُهْلِكَهَا بِمَوْتٍ، وَإِمَّا أَنْ يُهْلِكَهَا بِعَذَابٍ مُسْتَأْصِلٍ إِذَا تَرَكُوا أَمْرَهُ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ. وَعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي أَهْلِ قَرْيَةٍ أَذِنَ اللهُ فِي هَلَاكِهَا. 25- قال تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا - إلى قوله تعالى- وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا). كَثِيرٌ مِنَ المُكَذِّبِينَ المُعَانِدِينَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، مَعَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ آيَاتِهِ، وَيَرَوْنَ مُعْجِزَاتِهِ، حَتَّى يَنْزِلَ بِهِمُ العَذَابُ، كَمَا نَزَلَ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ المُنْذَرَةِ، وَالقُرَى المُهْلَكَةِ المُسْتَأْصَلَةِ، فَيَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَجْأَةً وَيَرَوْنَ العُقُوبَةَ عِيَانًا، فَالقُرَى السَّابِقَةُ: عَادٌ، وَثَمُودُ، وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَغَيْرُهُمْ؛ أُهْلِكَ أَهْلُهَا لَمَّا كَفَرُوا بِاللهِ وَآيَاتِهِ. قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ). 26- قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالخَضِرِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا). يُقَالُ: إِنَّ القَرْيَةَ "الأَيْلَةُ" ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سِيرِينَ، وَهِيَ مَدِينَةٌ بِالعِرَاقِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ البَصْرَةِ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ. قَالَ قَتَادَةُ تَحْتَ هَذِهِ الآيَةِ: "شَرُّ القُرَى الَّتِي لَا تُضِيفُ الضَّيْفَ، وَلَا تَعْرِفُ لِابْنِ السَّبِيلِ حَقَّهُ". وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: "اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي القَرْيَةِ، فَقِيلَ: هِيَ أَيْلَةُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَهِيَ أَبْخَلُ قَرْيَةٍ وَأَبْعَدُهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: أَنْطَاكِيَةُ، وَقِيلَ: بِجَزِيرَةِ الأَنْدَلُسِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَيُذْكَرُ أَنَّهَا الجَزِيرَةُ الخَضْرَاءُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَاللهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ". انتهى. فَالقُرْآنُ يَدْعُو إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، وَمَعَالِي الآدَابِ، وَقَدْ خَلَّدَ هَذِهِ المَثْلَبَةَ مَا بَقِيَ فِي السُّطُورِ وَالصُّدُورِ. 27- قال تعالى: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ۖ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ). القُرَى الَّتِي أَهْلَكَهَا اللهُ جَاءَتْهُمُ الدَّلَائِلُ وَالبَرَاهِينُ وَالآيَاتُ وَالمُعْجِزَاتُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَمِثْلُهُمْ كُفَّارُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، وَقَدْ شَاهَدُوا مِنَ الآيَاتِ البَاهِرَاتِ، وَالحُجَجِ القَاطِعَاتِ، وَالدَّلَائِلِ البَيِّنَاتِ، فَمَا فَقِهَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَا نَفَعَتْهُمْ عُقُولُهُمْ، فَالآيَاتُ المُعْجِزَاتُ وَالنُّذُرُ المُذَكِّرَاتُ، إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَهْلُ الإِيمَانِ لَا أَهْلُ الكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ. قال تعالى: (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ)، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ). 28- قال تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ). لَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ قُرًى كَثِيرَةً لِشِرْكِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ، حَتَّى إِذَا شَعَرُوا بِالعَذَابِ هَرَبُوا وَلَاتَ حِينَ مَهْرَبٍ، وَاعْتَرَفُوا وَلَاتَ سَاعَةَ اعْتِرَافٍ، فَأَخْمَدَتْهُمْ عُقُوبَةُ اللهِ، فَلَمْ يَعْصِمْهُمْ تَرَفُهُمْ، وَلَمْ تُحَصِّنْهُمْ بُيُوتُهُمْ. قَالَ تَعَالَى عَنِ ابْنِ نُوحٍ أَحَدِ نَمَاذِجِ المُهْلَكِينَ: (قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ). 29- قال تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "فَلَا يَرْجِعُ مِنْهُمْ رَاجِعٌ، وَلَا يَتُوبُ مِنْهُمْ تَائِبٌ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "لَمْ يَكُنْ لِيَرْجِعَ مِنْهُمْ رَاجِعٌ، حَرَامٌ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ". فَاللهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهَلَاكَ وَالعَذَابَ، فَمَنْ أَهْلَكَهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ فَتَوْبَتُهُ بَعْدَ أَنْ عَايَنَ العَذَابَ مَرْدُودَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ). وَكَذَلِكَ لَا عَوْدَةَ لِلْمُهْلَكِينَ إِلَى الحَيَاةِ الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى، فَالعَجَبُ كَيْفَ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِالتَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ العَذَابُ بِهِمْ! 30- قال تعالى: (وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ ۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). فَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ وَيَتَّعِظْ مِنْ قَصَصِ القُرَى المُهْلَكَةِ، وَالأُمَمِ المُعَذَّبَةِ، وَالدُّوَلِ المُسْتَأْصَلَةِ، بِسَبَبِ ذُنُوبِهَا وَعِصْيَانِهَا؛ فَهُوَ مَيِّتُ القَلْبِ، أَعْمَى البَصِيرَةِ، كَيْفَ لَا وَبُيُوتُهُمْ خَالِيَةٌ، وَآبَارُهُمْ خَرَابٌ، وَبُنْيَانُهُمُ المُحَصَّنَةُ دَمَارٌ، لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، فَأُمَّةٌ لَا حَسِيسَ بِهَا وَلَا أَنِيسَ آيَةٌ. 31- قال تعالى: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ ۗ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ۚ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا). لَقَدْ قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا خَبَرَ قَوْمِ لُوطٍ وَإِهْلَاكِهِ لَهُمْ بِالحِجَارَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ القُرْآنِ، تَنْفِيرًا وَتَحْذِيرًا مِنْ جَرِيمَتِهِمُ الشَّنِيعَةِ، وَمِنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَمَعْصِيَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَمْسُ قَرْيَاتٍ، فَأَهْلَكَ اللهُ أَرْبَعَةً، وَبَقِيَتِ الخَامِسَةُ، وَاسْمُهَا صُعْوَةُ، لَمْ تُهْلَكْ صُعْوَةُ، كَانَ أَهْلُهَا لَا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ العَمَلَ، وَكَانَتْ سَدُومُ أَعْظَمَهَا، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي نَصِيحَةً لَهُمْ: يَا سَدُومُ، يَوْمٌ لَكُمْ مِنَ اللهِ، أَنْهَاكُمْ أَنْ تَعَرَّضُوا لِعُقُوبَةِ اللهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا)؛ يَعْنِي هَؤُلَاءِ المُشْرِكِينَ، حَيْثُ يَمُرُّونَ عَلَى تِلْكَ القَرْيَةِ، وَيَعْرِفُونَ إِهْلَاكَ اللهِ لَهُمْ، فَكَيْفَ لَا يَتَّقُونَ انْتِقَامَهُ، وَلَا يَخَافُونَ عَذَابَهُ؟! 32- قال تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ). لَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ قُرًى كَثِيرَةً بِسَبَبِ أَنَّهَا بَطِرَتْ وَأَشِرَتْ وَطَغَتْ، فَبَدَلَ أَنْ تَشْكُرَ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ بِتَوْحِيدِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ؛ لِيَحْفَظَهَا لَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، كَفَرَتْ وَجَحَدَتْ وَتَنَكَّرَتْ وَعَصَتْ، فَأَهْلَكَهَا اللهُ وَدَمَّرَهَا، فَخَلَتْ دِيَارُهُمْ، وَخَرِبَتْ أَبْنِيَتُهُمْ، وَخَلَفَهُمْ فِيهَا القَلِيلُ، فَأَبْدَلَهَا اللهُ قِلَّةً بَعْدَ كَثْرَةٍ، وَذِلَّةً بَعْدَ عِزَّةٍ، وَضَعْفًا بَعْدَ قُوَّةٍ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ المَالِكُ المُتَصَرِّفُ فِي تِلْكَ القُرَى. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "البَطَرُ: أَشَرُ أَهْلِ الغَفْلَةِ وَأَهْلِ البَاطِلِ وَالرُّكُوبِ لِمَعَاصِي اللهِ، وَقَالَ: ذَلِكَ البَطَرُ فِي النِّعْمَةِ". 33- قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ). مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِخَلْقِهِ وَلُطْفِهِ وَحِلْمِهِ بِعِبَادِهِ: أَنَّهُ لَا يُعَاجِلُ بِالعُقُوبَةِ، فَالقُرَى الكَافِرَةُ مَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَهَا عَلَى ظُلْمِهَا حَتَّى يَبْعَثَ فِي مَكَّةَ أُمِّ القُرَى رَسُولَهُ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَشِيرًا وَنَذِيرًا، يُقِيمُ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ، وَيُوضِحُ لَهُمُ المَحَجَّةَ، وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الأَدِلَّةَ وَالبَرَاهِينَ، فَإِنْ أَهْلَكَهَا عَلَى إِصْرَارِهَا فَلِعَدْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُهْلِكْهَا فَبِرَحْمَتِهِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ وَالدُّوَلِ السَّابِقَةِ، فَلَا يُهْلِكُ إِلَّا المُنْذَرِينَ، وَلَا يُهْلِكُ إِلَّا الظَّالِمِينَ العَاصِينَ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ صَنَادِيدَ مَكَّةَ لِظُلْمِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "اللهُ لَمْ يُهْلِكْ قَرْيَةً بِإِيمَانٍ، وَلَكِنَّهُ يُهْلِكُ القُرَى بِظُلْمٍ إِذَا ظَلَمَ أَهْلُهَا، وَلَوْ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ لَمْ يَهْلِكُوا مَعَ مَنْ هَلَكَ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا وَظَلَمُوا، فَبِذَلِكَ أُهْلِكُوا". 34- قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ۖ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). أَهْلَكَ اللهُ أَهْلَ سَدُومَ، قَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ، لِفِسْقِهِمْ بِارْتِكَابِهِمُ الفَاحِشَةَ لَا لِكُفْرِهِمْ وَحْدَهُ، فَقَدْ كَانَتْ تَعْمَلُ الخَبَائِثَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ جَبْرَائِيلَ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَانْتَسَفَ المَدِينَةَ وَمَا فِيهَا بِأَحَدِ جَنَاحَيْهِ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَتَتَبَّعَهُمْ بِالحِجَارَةِ بِكُلِّ أَرْضٍ". وَهَذِهِ الآيَاتُ القُرْآنِيَّةُ، وَآثَارُهُمُ البَاقِيَةُ، وَمَعَالِمُهُمُ المُنْدَرِسَةُ: عِبْرَةٌ وَعِظَةٌ. 35- قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ). مَرْجِعُ أَهْلِ القُرَى إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا. لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ القُرَى المُهْلَكَةَ المُعَذَّبَةَ بِإِنْذَارِهِ وَإِمْهَالِهِ. قال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ۚ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)؛ فَقَوْمُ نُوحٍ أَغْرَقَهُمُ اللهُ بِالطُّوفَانِ، وَعَادٌ أَهْلَكَهُمْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، وَثَمُودُ أَهْلَكَهُمْ بِالرَّجْفَةِ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ سَلَبَهُمُ النِّعْمَةَ، وَأَهْلَكَ مَلِكَهُمُ النَّمْرُودَ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ أَهْلَكَهُمْ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَقَوْمُ لُوطٍ قَلَبَ بِهِمْ أَرْضَهُمْ، فَصَارَ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا، وَكُفَّارُ مَكَّةَ أَهْلَكَهُمْ بِالسَّيْفِ، وَصُوَرُ عَذَابِهِ لِلْمُذْنِبِينَ مُتَنَوِّعَةٌ، قَالَ تَعَالَى: (فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ). 36- قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). هَذِهِ نِهَايَةُ المَعْصِيَةِ وَبَطَرِ المَعِيشَةِ، فَاعْتَبِرُوا وَاتَّعِظُوا، فَلَقَدْ كَانَ بِقَرْيَةِ سَبَأٍ جَنَّتَانِ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَكَانَتِ المَرْأَةُ تُخْرِجُ مِكْتَلَهَا عَلَى رَأْسِهَا فَتَمْشِي بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَيَمْتَلِئُ مِكْتَلُهَا، وَمَا مَسَّتْ بِيَدِهَا، وَكَانَتْ أَرْضُهَا طَيِّبَةً. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "لَمْ يَكُنْ يُرَى فِي قَرْيَتِهِمْ بَعُوضَةٌ قَطُّ، وَلَا ذُبَابٌ، وَلَا بَرْغُوثٌ، وَلَا عَقْرَبٌ، وَلَا حَيَّةٌ"، ثُمَّ قَالَ: "أَذْهَبَ - يَعْنِي السَّيْلَ - تِلْكَ القُرَى وَالجَنَّتَيْنِ". 37- قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ). فَمَعَ وُجُودِ القُرَى المَشْؤُومَةِ يُوجَدُ قُرًى مَيْمُونَةً. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَأَبُو مَالِكٍ: هِيَ قُرًى بِصَنْعَاءَ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ: قُرَى الشَّامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: القُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا: بَيْتُ المَقْدِسِ. وَقَالَ: هِي قُرًى عَرَبِيَّةٌ بَيْنَ المَدِينَةِ وَالشَّامِ. انتهى. فَكَانَتِ الغِبْطَةُ وَالنِّعْمَةُ وَالأَمْنُ وَرَغَدُ العَيْشِ وَالخَيْرَاتُ وَالبَرَكَاتُ وَسَعَةُ الأَرْزَاقِ وَالصِّحَّةُ وَالعَافِيَةُ، وَللهِ فِي عِبَادِهِ شُؤُونٌ، مِنْ تَحَوُّلِ عَافِيَةٍ وَزَوَالِ نِعْمَةٍ وَفَجْأَةِ نِقْمَةٍ، أَوْ زِيَادَةِ نِعْمَةٍ وَسَعَةِ رَحْمَةٍ، فَالخَلْقُ مَا بَيْنَ نِعْمَةٍ أَوْ نِقْمَةٍ بِحَسَبِ صَلَاحِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَفَوْقَ ذَلِكَ: رَحْمَةُ اللهِ أَوْ سَخَطُهُ، وَحِلْمُهُ أَوْ عُقُوبَتُهُ. 38- قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ). قَالَ قَتَادَةُ: "هُمْ جَبَابِرَتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ وَرُءُوسُهُمْ فِي الشَّرِّ". وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ مِنْ سَفَهِ كُبَرَاءِ الأُمَمِ وَأَعْيَانِ الدُّوَلِ أَهْلِ التَّرَفِ. تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، وقال تعالى: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وقال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ)، وقال تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ)، وقال تعالى: (وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، وَقَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ لَهُ: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، وقال تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ)؛ أَلَا يَسْتَحِقُّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمُ العَذَابَ الَّذِي يَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ، وَيَقْطَعُ دَابِرَهُمْ؟! 39- قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ -إلى قوله- إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ). ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّ القَرْيَةَ هِيَ أَنطَاكِيَةُ - مَدِينَةٌ بِالرُّومِ - وَتَرَدَّدَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي ذَلِكَ، وَكَانُوا عَلَى الشِّرْكِ وَفِعْلِ الآثَامِ وَالمَعَاصِي، وَقَدْ أَسْرَفُوا فِي اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ، وَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِ الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ المُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَسْمَعُوا نَصِيحَةَ حَبِيبٍ صَاحِبِ يَاسِين؛ بَلْ قَتَلُوهُ، فَانْتَقَمَ اللهُ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ قَتْلِهِمْ إِيَّاهُ، غَضَبًا مِنْهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَقَتَلُوا وَلِيَّهُ. وَيَذْكُرُ تَعَالَى: أَنَّهُ فِي إِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ لَمْ يُنْزِلْ جُنْدًا مِنَ المَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ، بَلِ الأَمْرُ كَانَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا احْتَاجُوا عَلَى تَعَنُّتِهِمْ وَغُرُورِهِمْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً لَا ثَانِيَ لَهَا، فَهَلَكُوا فِي لَحْظَتِهِمْ. 40- قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). وَمَا هَذِهِ المُكَابَرَةُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ إِلَّا أُنمُوذَجًا لِلْقُرَى الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهَا رِجْزَهُ وَغَضَبَهُ، وَالمَقْصُودُ بِالقَرْيَتَيْنِ هُنَا مَكَّةُ وَالطَّائِفُ. وَتَمَرُّدُ المُهْلَكِينَ، وَتَحَجُّرُ قُلُوبِهِمْ، وَتَجَمُّدُ عُقُولِهِمْ: ظَاهِرٌ فِي القُرْآنِ، فَعَلَى سَبِيلِ المِثَالِ عُتُوُّ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، قال تعالى: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ). 41- قال تعالى: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - إلى قوله - وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). فَالأَحْقَافُ: دِيَارُ عَادٍ، وَهُوَ مَا اسْتَطَالَ مِنَ الرَّمْلِ العَظِيمِ وَاعْوَجَّ، يَقَعُ بَيْنَ عُمَانَ وَعَدَنَ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ عَادًا، وَأَهْلَكَ حِجْرَ ثَمُودَ، وَقُرَى لُوطٍ وَنَحْوَهَا، مِمَّا كَانَ يُجَاوِرُ بِلَادَ الحِجَازِ، وَمَا انْتَفَعُوا بِالآيَاتِ وَلَا بِالنُّذُرِ وَالوَاعِظِينَ. قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ قَرْيَةٌ عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ بَيْنَ مِصْرَ وَالمَدِينَةِ، يُقَالُ لَهَا: "أَيْلَة". 42- قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا). فَالقُرَى الهَالِكَةُ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ كَثِيرَةٌ؛ لِذَا حَذَّرَتْنَا هَذِهِ الآيَةُ مِنْ مُشَابَهَتِهِمْ وَالسَّيْرِ عَلَى جَادَّتِهِمْ، وَلَا نَحْقِرَنَّ مَعْصِيَةً، فَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ تَحْتَ هَذِهِ الآيَةِ عَنْ عُمَرَ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: "قَرْيَةٌ عُذِّبَتْ فِي الطَّلَاقِ". فَلَوْ حَاسَبَ اللهُ العِبَادَ مُحَاسَبَةً دَقِيقَةً عَلَى نِعَمِهِ وَلَمْ يَرْحَمْهُمْ بِرَحْمَتِهِ لَهَلَكُوا، وَالعَجَبُ مِنْ عُتُوِّ أَقْوَامٍ وَقُرًى، حَسْبُكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وقال تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذُوا مَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِهِ ثُمَّ نَكَثُوا. 43- قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)، وقال تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ). ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى إِهْلَاكَهُ لِهَذِهِ الأُمَمِ بِطُغْيَانِهِمْ وَإِسْرَافِهِمْ فِي الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي وَالآثَامِ، أَخْمَدَ عَادًا قَوْمَ هُودٍ بِالرِّيحِ، وَأَخْمَدَ ثَمُودَ قَوْمَ صَالِحٍ بِالصَّيْحَةِ، وَأَغْرَقَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يُهْلِكْ بَعْدَهُمْ أُمَّةً إِهْلَاكًا عَامًّا بِعَذَابٍ، وَقَدْ صَوَّرَ القُرْآنُ لَنَا إِهْلَاكَهُمْ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ لِلْعِبْرَةِ وَالعِظَةِ، فَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُبْقِهِمُ اللهُ عَلَى مَعَاصِيهِمْ، وَلَمْ يَتْرُكْ لِعَادٍ وَثَمُودَ بَقِيَّةً وَخَلَفًا. 44- قال تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)، وقال تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا). أَهْلَكَ اللهُ أُمَمًا وَأَجْيَالًا بَعْدَ نُوحٍ وَقَبْلَ قَوْمِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ، فَلَا وُجُودَ لَهُمْ، فَلَا شَخْصًا يُرَى، وَلَا صَوْتًا يُسْمَعُ، وَأَهْلَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ قَبْلَ نُوحٍ فَكَانُوا عَلَى الإِسْلَامِ. رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: (أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَبِيٌّ كَانَ آدَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ مُكَلَّمٌ. قَالَ: فَكَمْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ؟ قَالَ: عَشَرَةُ قُرُونٍ). قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. 45- قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ)، وقال تعالى: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ۖ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ۖ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ۚ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا)، وقال تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ ۚ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ). فَفِي سِيَرِهِمْ أَحَادِيثُ وَعِبَرٌ، قال تعالى: (كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ۚ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا). وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ مِنَ الْأَرْضِ، بَعْدَ مَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، غَيْرَ الْقَرْيَةِ الَّتِي مُسِخُوا قِرَدَةً، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى". قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَرَفَعَهُ الْبَزَّارُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ. وَالْأَشْبَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَقْفُهُ. 46- قال تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ)؛ يَعْنِي: لُعِنُوا. وَاخْتَلَفُوا فِي أَهْلِ هَذِهِ القِصَّةِ مَنْ هُمْ؟ فَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُمْ أَهْلُ فَارِس، وَعَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا بِاليَمَنِ، وَعَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الحَبَشَةِ، وَقِيلَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "نَاسٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ". وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ قَوْمًا مُؤْمِنِينَ اعْتَزَلُوا النَّاسَ فِي الفَتْرَةِ، وَإِنَّ جَبَّارًا مِنْ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الدُّخُولَ فِي دِينِهِ، فَأَبَوْا، فَخَدَّ أُخْدُودًا، وَأَوْقَدَ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ خَيَّرَهُمْ بَيْنَ الدُّخُولِ فِي دِينِهِ، وَبَيْنَ إِلْقَائِهِمْ فِي النَّارِ، فَاخْتَارُوا إِلْقَاءَهُمْ فِي النَّارِ، عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ دِينِهِمْ، فَأُلْقُوا فِي النَّارِ، فَنَجَّى اللهُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُلْقُوا فِي النَّارِ مِنَ الحَرِيقِ، بِأَنْ قَبَضَ أَرْوَاحَهُمْ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ، وَخَرَجَتِ النَّارُ إِلَى مَنْ عَلَى شَفِيرِ الأُخْدُودِ مِنَ الكُفَّارِ فَأَحْرَقَتْهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: «فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ» فِي الآخِرَةِ، «وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ» فِي الدُّنْيَا. وَقِصَّةُ غُلَامِ الأُخْدُودِ رَوَاهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. 47- قال تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ۙ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)، وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ۛ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ۚ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ). وَالمَقْصُودُ أَنَّ الأَجْيَالَ المُهْلَكَةَ وَالقُرَى المُعَذَّبَةَ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَقَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِ بَعْضِهِمْ وَإِهْلَاكِهِمْ بِظُلْمِهِمْ. وَالأَقْوَامُ السَّابِقَةُ وَالأُمَمُ السَّالِفَةُ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ أَحَدٌ سِوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَكَمْ أَهْلَكَ اللهُ مِنْ قُرًى، وَأَبَادَ مِنْ أُمَمٍ، وَأَسْقَطَ مِنْ دُوَلٍ، فَاسْتَيْقِظُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الإِجْرَامَ يُوجِبُ الانْتِقَامَ، وَالآثَامَ تَجْلِبُ الآلَامَ، وَالعِنَادَ يُهْلِكُ العِبَادَ، وَيُدَمِّرُ البِلَادَ، وَأَخْبَارُ الأُوَلِ عِبْرَةٌ لِلدُّوَلِ. 48- قال تعالى: (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ). قِيلَ لِعَادِ بْنِ إِرَمَ الَّذِي أَهْلَكَ اللهُ ذُرِّيَّتَهُ بِالرِّيحِ: عَادًا الأُولَى؛ لِأَنَّهَا أُهْلِكَتْ قَبْلَ عَادٍ الآخِرَةِ، الَّتِي كَانَتْ أَيَّامَ العَذَابِ تَسْكُنُ بِمَكَّةَ مَعَ إِخْوَانِهِمْ مِنَ العَمَالِقَةِ. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: "إِنَّمَا قِيلَ لِعَادٍ الأُولَى لِأَنَّهَا أَوَّلُ الأُمَمِ هَلَاكًا". وَكَانَ هَلَاكُ عَادٍ الآخِرَةِ بِبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَتَفَانَوْا بِالقَتْلِ، وَلَمْ يُبْقِ اللهُ ثَمُودَ عَلَى ظُلْمِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: "لَمْ يَكُنْ قَبِيلٌ مِنَ النَّاسِ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى مِنْ قَوْمِ نُوحٍ". وَأَمَّا قَرْيَةُ لُوطٍ فَأَهْوَاهَا مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ القُرَظِيُّ: "كَانَتْ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ خَمْسَ قَرْيَاتٍ: "سَدُومُ"، وَهِيَ العُظْمَى، وَ"صَعْبَةُ"، وَ"صُعْوَةُ"، وَ"عِثَرَةُ"، وَ"دُومَا"، احْتَمَلَهَا جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ، ثُمَّ صَعِدَ بِهَا، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَيَسْمَعُونَ نَابِحَةَ كِلَابِهَا، وَأَصْوَاتَ دَجَاجِهَا، ثُمَّ كَفَأَهَا عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ أَتْبَعَهَا اللهُ بِالحِجَارَةِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)، فَأَهْلَكَهَا اللهُ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ المُؤْتَفِكَاتِ". قَالَ مُجَاهِدٌ: "فَلَمْ يُصِبْ قَوْمًا مَا أَصَابَهُمْ، إِنَّ اللهَ طَمَسَ عَلَى أَعْيُنِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَ قَرْيَتَهُمْ، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ". قَالَ السُّدِّيُّ: "ثُمَّ تَتَبَّعَهُمْ فِي القُرَى، فَكَانَ الرَّجُلُ يَتَحَدَّثُ، فَيَأْتِيهِ الحَجَرُ فَيَقْتُلُهُ". قال تعالى: (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)؛ أَيْ: وَمَا هَذِهِ العُقُوبَةُ مِمَّنْ ضَيَّعَ حَقَّ اللهِ بِبَعِيدٍ عَنْهُ. 49- قال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ). فَالطَّامَّةُ أَنَّ أُمَمًا عَدِيدَةً وَقُرًى كَثِيرَةً اخْتَارَتِ الضَّلَالَةَ عَلَى الهِدَايَةِ، وَالشَّقَاوَةَ عَلَى السَّعَادَةِ، وَالمَعْصِيَةَ عَلَى الطَّاعَةِ، مُسِخَتْ عُقُولُهُمْ، وَاسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ النَّاهِينَ لَهُمْ المُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ قِلَّةٌ قَلِيلَةٌ، وَقَدْ نَجَّاهُمُ اللهُ مِنْ رِجْزِهِ وَسَخَطِهِ وَعَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَأَهْلَكَ المُقِيمِينَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، فَالقِيَامُ بِوَاجِبِ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكِرِ نَجَاةٌ، وَالقُعُودُ عَنْهُ هَلَكَةٌ، قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). 50- قال تعالى: (وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ). فَالعِبْرَةَ العِبْرَةَ، وَالعِظَةَ العِظَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ)، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ غَيْضَة. وَكَانَ عَامَّةُ شَجَرِهِمْ هَذَا الدَّوْم. وَكَانَ رَسُولُهُمْ فِيمَا بَلَغَنَا شُعَيْبًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، أُرْسِلَ إِلَى أُمَّتَيْنِ مِنَ النَّاسِ، وَعُذِّبَتَا بِعَذَابَيْنِ شَتَّى. أَمَّا أَهْلُ مَدْيَنَ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الأَيْكَةِ، فَكَانُوا أَهْلَ شَجَرٍ مُتَكَاوِسٍ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الحَرَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، لَا يُظَلِّلُهُمْ مِنْهُ ظِلٌّ، وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَبَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ سَحَابَةً، فَحَلُّوا تَحْتَهَا يَلْتَمِسُونَ الرَّوْحَ فِيهَا، فَجَعَلَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ عَذَابًا، بَعَثَ عَلَيْهِمْ نَارًا فَاضْطَرَمَتْ عَلَيْهِمْ فَأَكَلَتْهُمْ، فَذَلِكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. 51- قال تعالى: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ)، وقال تعالى: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا)، وقال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) فَلَا يَغْتَرَّ - يَا عِبَادَ اللهِ - عَلَى اللهِ أَحَدٌ، فَإِنَّ عُقُوبَةَ اللهِ وَعَذَابَهُ لَا يَرُدُّهُ قُوَّةٌ، وَلَا تَمْنَعُهُ مَكَانَةٌ، وَلَا يُوقِفُهُ حَسَبٌ، وَلَا نَسَبٌ، وَلَا مَالٌ، وَلَا أَوْلَادٌ. 52- قال تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا ..) الآيات. أَفْسَدَ بَنُوا إِسْرَائِيلَ فِي الأَرْضِ بِالذُّنُوبِ الكَثِيرَةِ، وَالآثَامِ الكَبِيرَةِ، وَالعِصْيَانِ وَالطُّغْيَانِ، وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَ وَعُلَمَاءَ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَنْ قَتَلَ عُلَمَاءَهُمْ، وَأَذَلَّ أَشْرَافَهُمْ، وَأَسَرَ كُبَرَاءَهُمْ، وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ، وَتَمَلَّكَ بِلَادَهُمْ، وَاسْتَبَاحَ بَيْضَتَهُمْ، وَسَلَكُوا بَيْنَ دُورِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ لَا يَخَافُونَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ جَالُوتَ وَجُنُودَهُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ بُخْتُنَصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: ظَهَرَ بُخْتُنَصَّرُ عَلَى الشَّامِ، فَخَرَّبَ بَيْتَ المَقْدِسِ وَقَتَلَهُمْ، ثُمَّ أَتَى دِمَشْقَ فَوَجَدَ بِهَا دَمًا يَغْلِي عَلَى كِبًا، فَسَأَلَهُمْ: مَا هَذَا الدَّمُ؟ فَقَالُوا: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذَا، وَكُلَّمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الكِبَا ظَهَرَ. قَالَ: فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ المُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَسَكَنَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ. 53- قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ۙ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا). كَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يُشْرِكُونَ فِي الرَّخَاءِ، وَيُخْلِصُونَ فِي الشِّدَّةِ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُمُ اللهُ وَتَهَدَّدَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَأَنَّ الَّذِي تَخَافُونَ أَنْ يُهْلِكَكُمْ فِي البَحْرِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُهْلِكَكُمْ فِي البَرِّ، أَوْ يَرُدَّكُمْ إِلَى البَحْرِ مَرَّةً ثَانِيَةً فَيُهْلِكَكُمْ فِيهِ، فَاللهُ - جَلَّ وَعَلَا - مَتَى شَاءَ عَاقَبَكُمْ عَلَى ذُنُوبِكُمْ بِالخَسْفِ وَالقَصْفِ، فَبِيَدِهِ أَنْ يُمْطِرَ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ حِجَارَةً، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمُ الرِّيحَ تَحْمِلُ الحَصْبَاءَ، فَيَقْتُلُكُمُ الحَصَى، فَتَهْلِكُونَ فِي البَرِّ، أَوْ يُرْجِعَكُمْ لِلْبَحْرِ وَيُسَيِّرَ عَلَيْكُمُ الرِّيحَ الَّتِي تَكْسِرُ مَرَاكِبَكُمْ وَتُغْرِقُكُمْ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَإِنَّ قُلُوبًا لَا تَعِي هَذَا الوَعِيدَ لَمَيِّتَةٌ، وَإِنَّ عُقُولًا لَا تُدْرِكُ هَذَا التَّهْدِيدَ لَمُتَعَفِّنَةٌ. 54- قال تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ ۖ أَفَلَا يَسْمَعُونَ). آيَاتُ اللهِ فِي المُهْلَكِينَ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ وَاضِحَةٌ بَيِّنَةٌ، ذَكَرَهَا القُرْآنُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، وَكَتَبَ عَنْهُمْ أَهْلُ التَّارِيخِ وَمَنْ أَلَّفَ فِي قَصَصِ الأَنْبِيَاءِ، وَمَنِ اشْتَغَلَ فِي التَّنْقِيبِ عَنِ الآثَارِ. وَبَعْضُ تِلْكَ القُرَى أَثَرُهَا ظَاهِرٌ عَلَى الأَرْضِ، وَمَعَالِمُ بِلَادِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ مَوْجُودَةٌ، فَكُلُّ ذَلِكَ نَاطِقٌ بِسُنَّةِ اللهِ فِي إِهْلَاكِهِ القُرُونَ الخَالِيَةَ، وَالقُرَى المُعَانِدَةَ، أَفَلَا يَعِي ذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَيَتَّعِظُوا وَيَنْـزَجِرُوا عَنْ ظُلْمِهِمْ وَآثَامِهِمْ؟! وَكَذَلِكَ أَهْلُ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَبِرُوا وَيَنْتَهُوا. 55- قال تعالى: (بَلْ مَتَّعْنَا هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ۗ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ). فَالعَجَبُ مِنْ عُقُولِ الظَّالِمِينَ وَعُيُونِ المُفْسِدِينَ أَنَّهَا مُعَطَّلَةٌ عَنِ التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الوَاقِعِ، المَاضِي مِنْهُ وَالحَاضِرُ، فَقَدْ أُبِيدَتْ أُمَمٌ، وَعُذِّبَتْ دُوَلٌ، وَأُهْلِكَتْ قُرًى وَأَقْوَامٌ، وَفُتِحَتْ مَدَائِنُ، وَسَقَطَتْ عُرُوشٌ، كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ وَشُؤْمِ مَعَاصِيهِمْ، فَاللهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ، وَمِنَ العُقُوبَاتِ العَاجِلَةِ وَالأَمْرَاضِ المُسْتَعْصِيَةِ الاغْتِرَارُ بِاسْتِدْرَاجِ اللهِ وَإِمْلَائِهِ لِلْقُرَى، قال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، وَمِنَ الاسْتِدْرَاجِ وَالإِمْلَاءِ سَعَةُ الأَرْزَاقِ وَكَثْرَةُ النِّعَمِ مَعَ الإِقَامَةِ عَلَى الذُّنُوبِ، قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ). 56- قال تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ (208) ذِكْرَىٰ وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ). فَاللهُ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ وَلُطْفِهِ بِبِلَادِهِ، أَنَّهُ لا يُهْلِكُ الظَّالِمِينَ وَيُعَذِّبُ المُذْنِبِينَ إِلَّا بَعْدَ الإِعْذَارِ وَالإِنْذَارِ، وَالإِرْسَالِ وَالإِمْهَالِ، وَبَعْثِ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسْلِ، وَقَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، فَلَمْ يُعَذِّبْ بِالإِشْهَادِ وَالعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى بَنِي آدَمَ يَوْمَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنَ الأَصْلَابِ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَإِلَهُهُمُ الوَاحِدُ، وَلَا بِفِطْرَةِ الإِسْلَامِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَجَعَلَ مَعَ ذَلِكَ آيَاتٍ وَعِبَرًا، وَمَوَاعِظَ شَاهِدَاتٍ بِتَوْحِيدِهِ، وَصَدَّقَ رُسُلَهُ، وَأَهْلَكَ أُمَمًا وَقُرًى بِالعَذَابِ، آيَةٌ يَرَاهَا المُعَاصِرُونَ لَهَا، وَالمَارُّونَ عَلَيْهَا، وَالسَّامِعُونَ بِهَا؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بَعْدَ كُلِّ إِهْلَاكٍ: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ). 57- قال تعالى: (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ). أَخْرَجَ اللهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مِنَ النَّعِيمِ إِلَى الجَحِيمِ، وَمِنْ مَلَاذِّ الدُّنْيَا إِلَى آلَامِ وَأَوْجَاعِ الآخِرَةِ، عِقَابٌ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابٌ فِي الآخِرَةِ، هَذَا جَزَاءُ الظَّالِمِينَ المُذْنِبِينَ العَاصِينَ، خَسِرُوا دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ. وَنَعِيمُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ المُحْسِنِينَ، قال تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)، وقال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). 58- قال تعالى: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ - إلى قوله تعالى - فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فَإِفْسَادُ كُبَرَاءِ وَرُؤَسَاءِ قَرْيَةِ ثَمُودَ، وَانْسِيَاقُ النَّاسِ إِلَى رَأْيِهِمْ وَتَدْبِيرِهِمْ، جَرَّ لَهُمُ الوَيْلَاتِ وَالعُقُوبَاتِ المُهْلِكَاتِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي القُرَى الظَّالِمَةِ العَاصِيَةِ، وَعِقَابُ اللهِ وَعَذَابُهُ أَشْكَالٌ وَأَلْوَانٌ، فَمِنْهُ الحِسِّيُّ وَالمَعْنَوِيُّ، وَمِنْهُ الظَّاهِرُ وَالخَفِيُّ، وَحَالُ المُفْسِدِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ). فَالعُقُوبَةُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنِ القُرْآنِ، وَأَفْسَدَ فِي الأَرْضِ، وَخَرَّبَ فِي البِلَادِ، لَا تُؤْمَنُ، فَإِتْيَانُهَا بَغْتَةٌ، وَنُزُولُهَا فَجْأَةٌ، قال تعالى: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ). 59- قال تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ - إلى قوله تعالى - أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ). وقال تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ). فَاللهُ - جَلَّ وَعَلَا - لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، فَالأُمَمُ المُهْلَكَةُ، وَالقُرَى المُعَذَّبَةُ، وَالأَشْخَاصُ المُعَاقَبُونَ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، فِيهِمْ أَهْلُ قُوَّةٍ وَبَأْسٍ شَدِيدٍ، أَقْوِيَاءُ فِي أَبْدَانِهِمْ وَأَذْهَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ وَثَقَافَتِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ بُيُوتُهُمُ المَنْحُوتَةُ فِي الجِبَالِ، وَأَهْرَامَاتُهُمُ الشَّاهِقَةُ، وَكُنُوزُهُمُ الكَثِيرَةُ، لَا تَزَالُ مَوْجُودَةً عَلَى مَرِّ العُصُورِ وَالدُّهُورِ، لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ، فَالَّذِي يُنَجِّي مِنْ عَذَابِ اللهِ بَعْدَ رَحْمَتِهِ هُوَ الإِيمَانُ بِهِ تَعَالَى، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ. 60- قال تعالى: ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ - إلى قوله تعالى - قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ). لَقَدْ أَنْقَذَ اللهُ نَبِيَّهُ مِنْ نِيرَانِهِمْ، وَأَذَلَّهُمْ، وَأَخْزَاهُمْ، وَأَهْلَكَ مَلِكَهُمُ النَّمْرُودَ الطَّاغِيَةَ مَلِكَ بَابِلَ. قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: هُوَ أَوَّلُ مَلِكٍ تَجَبَّرَ فِي الأَرْضِ، وَهُوَ صَاحِبُ الصَّرْحِ بِبَابِلَ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "الْمَلِكُ الْمَشْهُورُ، الَّذِي يُقَالُ إِنَّهُ مَلَكَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الْغَشْمِ وَالظُّلْمِ". قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: "أَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ البَعُوضِ بِحَيْثُ لَمْ يَرَوْا عَيْنَ الشَّمْسِ، وَسَلَّطَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ، فَأَكَلَتْ لُحُومَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، وَتَرَكَتْهُمْ عِظَامًا بَادِيَةً، وَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي مِنْخَرَيِ المَلِكَ فَمَكَثَتْ فِي مِنْخَرَيْهِ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، عَذَّبَهُ اللهُ بِهَا، فَكَانَ يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِالمَرَازِبِ فِي هَذِهِ المُدَّةِ كُلِّهَا، حَتَّى أَهْلَكَهُ اللهُ بِهَا". 61- قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ ۚ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ). وَإِنِّي لَأَعْجَبُ مِنَ اسْتِئْسَادِ الجَهْلِ وَالاسْتِكْبَارِ مَعَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَالنُّذُرِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "قَالَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يَا سَارَةُ: لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ». وَقَالَ اللهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَنْ قَرْيَةِ لُوطٍ: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ). قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "جَعَلْنَا مَحَلَّتَهُمْ بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً خَبِيثَةً"، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ)، فَالعَجَبُ كَيْفَ فَضَّلُوا الكُفْرَ وَاخْتَارُوهُ عَلَى الإِيمَانِ؟!، فَصَدَقَ اللهُ: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) أَيُعْقَلُ أَنَّ الأَصْنَامَ الصَّمَّاءَ وَالجَمَادَاتِ البَكْمَاءَ شَغِفَتْ قُلُوبَ الجَهَلَةِ أَمْ هُوَ التَّضْلِيلُ وَالاسْتِعْبَادُ وَالاسْتِخْفَافُ بِالعُقُولِ؟ وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ). 62- قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). اللَّبِيبُ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُرْسِلِ الرُّسُلَ وَلَمْ يُنْزِلِ الكُتُبَ عَبَثًا؛ بَلْ لِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَطَاعَتِهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَنَّ المُخَالِفِينَ المُجْرِمِينَ المُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ يَسْتَحِقُّونَ العِقَابَ، وَيَسْتَأْهِلُونَ العَذَابَ، وَأَنَّ الأُمَمَ وَالقُرَى المُهْلَكَةَ كَانَ اسْتِئْصَالُهُمْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ. قال تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). 63- قال تعالى: ( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ). رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: "هُوَ إِلْيَاسُ بْنُ يَاسِينَ، بَعَثَهُ اللهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ حِزْقِيلَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانُوا قَدْ عَبَدُوا صَنَمًا يُقَالُ لَهُ: "بَعْلٌ"، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ. وَكَانَ قَدْ آمَنَ بِهِ مَلِكُهُمْ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ضَلَالَتِهِمْ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَدَعَا اللهَ عَلَيْهِمْ، فَحُبِسَ عَنْهُمُ القَطْرُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَكْشِفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَوَعَدُوهُ الإِيمَانَ بِهِ إِنْ هُمْ أَصَابَهُمُ المَطَرُ، فَدَعَا اللهَ لَهُمْ، فَجَاءَهُمُ الغَيْثُ فَاسْتَمَرُّوا عَلَى أَخْبَثِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، فَسَأَلَ اللهَ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ". فَمَنْ تَأَمَّلَ فِي أَنْبَاءِ القُرْآنِ عَنِ الأُمَمِ المُهْلَكَةِ وَالقُرَى المُعَذَّبَةِ عَلَى كُفْرِهَا؛ عَرَفَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ، أَنْ جَعَلَهُ مُؤْمِنًا مُوَحِّدًا. 64- قال تعالى: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ أَهْلَكْنَاهُمْ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ). هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ؛ أَيْ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ مُسْتَحِقُّونَ العَذَابَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ، إِذْ لَيْسُوا خَيْرًا مِنْ قَوْمِ تُبَّعٍ وَالأُمَمِ المُهْلَكَةِ، وَإِذَا أَهْلَكْنَا أُولَئِكَ لِظُلْمِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ فَكَذَا هَؤُلَاءِ. وَقَدِ اشْتُهِرَ تُبَّعٌ هَذَا، وَإِلَّا فَإِنَّ التَّبَابِعَةَ هُمْ مُلُوكُ اليَمَنِ، وَاحِدُهُمْ تُبَّع، كَمَا يُقَالُ: خَلِيفَةً لِمَنْ أَقَامَ الشَّرِيعَةَ وَعَدَلَ فِي المُسْلِمِينَ، وَكِسْرَى لِمَنْ مَلَكَ الفُرْسَ، وَقَيْصَرَ لِمَنْ مَلَكَ الرُّومَ، وَفِرْعَوْنَ لِمَنْ مَلَكَ مِصْرَ كَافِرًا، وَالنَّجَاشِيَّ لِمَنْ مَلَكَ الحَبَشَةَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ تُبَّعٌ رَجُلًا صَالِحًا. وَقَالَ كَعْبٌ: ذَمَّ اللهُ قَوْمَهُ وَلَمْ يَذُمَّهُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَوْمُ تُبَّعٍ - وَهُمْ سَبَأٌ - فَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ وَخَرَّبَ بِلَادَهُمْ، وَشَرَّدَهُمْ فِي البِلَادِ، وَفَرَّقَهُمْ شَذَرَ مَذَرَ. وَقَالَ: فَإِنَّ تُبَّعًا هَذَا المُشَارَ إِلَيْهِ فِي القُرْآنِ أَسْلَمَ قَوْمُهُ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ عَادُوا بَعْدَهُ إِلَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالنِّيرَانِ، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ. 65- قال تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ). ذَكَّرَ اللهُ القُوِيُّ العَظِيمُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ظَلَمَةَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمُجْرِمِيهَا، بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَهْلَكَ أَشْبَاهَهُمْ مِنَ الأُمَمِ الَّتِي عُذِّبَتْ، وَالقُرَى الَّتِي عُوقِبَتْ، وَالأَقْوَامِ الَّتِي أُبِيدَتْ عَلَى رَغْمِ قُوَّتِهَا وَجَبَرُوتِهَا، قال تعالى: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ قَوْمِ عَادٍ لَيَتَّخِذُ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ حِجَارَةٍ، لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا خَمْسُمِائَةٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَحْمِلُوهَا". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَمَعَ هَذِهِ القُوَّةِ وَالشِّدَّةِ مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ. قال تعالى: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)، فَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يَتَذَكَّرُ؟. 66- قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا). فَاللَّبِيبُ يَنْظُرُ بِطَرْفِهِ، وَيَتَأَمَّلُ بِقَلْبِهِ، وَيَتَفَكَّرُ بِعَقْلِهِ فِي نِهَايَةِ الأُمَمِ وَالقُرَى، وَمَا جَرَّتْ لَهُمْ ذُنُوبُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ، مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَعِقَابٍ عَمِيمٍ، دَمَّرَهُمْ وَأَهْلَكَهُمْ وَاسْتَأْصَلَهُمْ. وَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ مُشْرِكِي مَكَّةَ فَقَالَ: «وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا»؛ أَيْ: أَمْثَالُ هَذِهِ العُقُوبَةِ التَّدْمِيرِيَّةِ الإِبَادِيَّةِ، قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).