الْوَرَعُ

المُقَدِّمَةُ

الحَمْدُ للهِ حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مِنْ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَمَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، مَقَامَ الوَرَعِ، قَالَ تَعَالَى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا)؛ أَيْ: ابْتَعِدُوا عَنْ حِمَى الحَرَامِ، وَهُوَ الحَلَالُ المَشْكُوكُ فِيهِ، فَلَا تَدْنُوا مِنْهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.

وَالمَعْنَى: احْذَرُوهُ تَعَالَى أَنْ تُضَيِّعُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ، أَوْ تَنْتَهِكُوا بَعْضًا مِنْ نَهْيِهِ، وَهَذَا هُوَ الوَرَعُ الوَاجِبُ، أَمَّا الوَرَعُ الكَامِلُ، فَهُوَ تَرْكُ مَا يُخْشَى ضَرَرُهُ فِي الآخِرَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الكَفُّ عَنِ المُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ وَالمَكْرُوهَاتِ، وَمَا لَا يَعْنِي؛ فَإن مَنْ أُوقِعَ بِهِنَّ فَهُوَ قَمِنٌ أَنْ يَأْثَمَ، وَمَنِ اجْتَنَبَهُنَّ فَهُوَ أَوْفَرُ لِدِينِهِ.

قَالَ الحَسَنُ: "اتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَالحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ شَيْئًا". وَقَدْ حَسَّنَهُ غَيْرُهُ.

وَفِي لَفْظٍ: (كُنْ وَرِعًا تَكُنْ مِنْ أَعْبَدِ الناسِ)، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ البُوصِيرِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ.

فَالوَرِعُ مَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَكْرَهُ اللهُ بَرْزَخًا لَا يَقْتَحِمُهُ، فَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرَ شَيْخِ الطَّبَرَانِيِّ: الْمِقْدَامِ بْنِ دَاوُدَ، وَقَدْ وُثِّقَ عَلَى ضَعْفٍ فِيهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: كُنَّا نَدَعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ فِي بَابٍ مِنَ الْحَرَامِ.

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: وَقَالَ لِي يَوْمًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُبَاحِ: هَذَا يُنَافِي الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ شَرْطًا فِي النَّجَاةِ. أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: الْوَرَعُ تَرْكُ كُلِّ شُبْهَةٍ، وَتَرْكُ مَالَا يَعْنِيكَ.

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: الْوَرَعُ الْخُرُوجُ مِنْ كُلِّ شُبْهَةِ، وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ.

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَرَعَ كُلَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»؛ فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِي مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ، وَالْفِكْرِ، وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ فِي الْوَرَعِ.

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ خَلَفٍ: الْوَرَعُ فِي الْمَنْطِقِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالزُّهْدُ فِي الرِّيَاسَةِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِأَنَّهُمَا يُبْذَلَانِ فِي طَلَبِ الرِّيَاسَةِ.

وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: الْوَرَعُ أَوَّلُ الزُّهْدِ، كَمَا أَنَّ الْقَنَاعَةَ أَوَّلُ الرِّضَا.

وَسَأَلَ الْحَسَنُ غُلَامًا، فَقَالَ لَهُ: مَا مِلَاكُ الدِّينِ؟ قَالَ: الْوَرَعُ. قَالَ: فَمَا آفَتُهُ؟ قَالَ: الطَّمَعُ. فَعَجِبَ الْحَسَنُ مِنْهُ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْوَرَعِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ مِثْقَالٍ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: جُلَسَاءُ اللَّهِ غَدًا أَهْلُ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ.

وَعَن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ). قَالَ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَزَّارُ، بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْبَزَّارُ، وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ، وَثَّقَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَجَمَاعَةٌ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الْفِقْهُ، وَأَفْضَلُ الدِّينِ الْوَرَعُ). قَالَ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مَعَاجِمِهِ الثَّلَاثَةِ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى، قَالَ الهَيْثَمِيُّ: ضَعَّفُوهُ لِسُوءِ حِفْظِهِ.

وَقَالَ سُفْيَانُ: (عَلَيْكَ بِالوَرَعِ يُخَفِّفِ اللهُ حِسَابَكَ، وَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، وَادْفَعِ الشَّكَّ بِاليَقِينِ يَسْلَمْ لَكَ دِينُكَ).

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

وَفِي "الْمُسْنَدِ"، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَ لَهُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَالصِّيَامَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ كُلَّهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ، وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ، لَا أَزِيدُ وَلَا أَنْقُصُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ).

وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبَرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ». قَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، رُوِّيْنَاهُ فِي "مُسْنَدَيِ" الْإِمَامَيْنِ أَحْمَدَ وَالدَّارِمِيِّ، بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ تَحْتَ بَابِ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ"، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ". قَالَ البُوصِيرِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْوَرَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَرَعٌ فِي الظَّاهِرِ، وَوَرَعٌ فِي الْبَاطِنِ، فَوَرَعُ الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَتَحَرَّكَ إِلَّا لِلَّهِ، وَوَرَعُ الْبَاطِنِ هُوَ أَنْ لَا تُدْخِلَ قَلْبَكَ سِوَاهُ. 

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَولَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ". قَالَ البُوصِيرِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ؛ لِضَعْفِ الْمَاضِي بْنِ مُحَمَّدٍ الغَافِقِيِّ الْمِصْرِيِّ، رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أُبَيٍّ أَيْضًا.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ ضُرَيْبِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنِّي لَأَعْرِفُ كَلِمَةً (وَقَالَ عُثْمَانُ: آيَةً) لَوْ أَخَذَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِهَا لَكَفَتْهُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَّةُ آيَةٍ؟ قَالَ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)".

قَالَ البُوصِيرِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ؛ أَبُو السَّلِيلِ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا ذَرٍّ، قَالَهُ فِي التَّهْذِيبِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ.

 

1

عَنِ النُّعمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّ الحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

المُشْتَبِهُ: مِثْلُ مَا اخْتُلِفَ فِي حِلِّهِ وَحُرْمَتِهِ اخْتِلَافًا مُعْتَبَرًا مِنَ المَكَاسِبِ وَالمَآكِلِ وَغَيْرِهَا.

وَقَدْ فَسَّرَهَا الإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الحَلَالِ وَالحَرَامِ، وَفَسَّرَهَا تَارَةً بِاخْتِلَاطِ الحَلَالِ وَالحَرَامِ.

 

2

وَبِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، عَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ؛ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.

وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَطَ حَلَالٌ بِحَرَامٍ، فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ التَّقْوَى، وَكَمَالِ الوَرَعِ، أَنْ تَدَعَ الحَلَالَ؛ إِذْ لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُ الحَرَامِ إِلَّا بِاجْتِنَابِ الحَلَالِ، وَهَذَا سَبِيلُ المُتَّقِينَ.

 

3

قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: "تَمَامُ التَّقْوَى أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ العَبْدُ، حَتَّى يَتَّقِيَهُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَحَتَّى يَتْرُكَ بَعْضَ مَا يَرَى أَنَّهُ حَلَالٌ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الحَرَامِ". أَخْرَجَهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

التَّقْوَى الوَاجِبَةُ: فِعْلُ الوَاجِبَاتِ، وَتَرْكُ المُحَرَّمَاتِ، وَإِنْ كَانَ المُحَرَّمُ عُودًا مِنْ أَرَاكٍ.

وَأَمَّا تَمَامُ التَّقْوَى: فَتَرْكُ المُشْتَبِهِ، كَالإِتْجَارِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الخِلَافُ المُعْتَدُّ بِهِ بَيْنَ العُلَمَاءِ؛ هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ.

 

 

4

قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)

قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: "إِنَّمَا سُمُّوا المُتَّقِينَ؛ لِأَنَّهُمُ اتَّقَوْا مَا لَا يُتَّقَى".

وَقَالَ الحَسَنُ: "مَا زَالَتِ التَّقْوَى بِالمُتَّقِينَ، حَتَّى تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الحَلَالِ؛ مَخَافَةَ الحَرَامِ".

فَالمُتَّقُونَ هُمْ مَنْ جَعَلُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَذَابِ اللهِ وِقَايَةً، وَذَلِكَ بِفِعْلِ الوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ، وَأَكْمَلُهُمْ تَقْوًى، مَنْ تَرَكَ مَا يُشْتَبَهُ فِي جَوَازِهِ وَحُرْمَتِهِ؛ لِاخْتِلَاطِ حَلَالِهِ بِحَرَامِهِ.

 

5

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَدَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ الحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الحَلَالِ لَا أَخْرِقُهَا".

وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: "لَا يَسْلَمُ لِلرَّجُلِ الحَلَالُ، حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الحَرَامِ حَاجِزًا مِنَ الحَلَالِ".

الحَلَالُ المُختَلِطُ بِالحَرَامِ، تَرْكُهُ لِلاشْتِبَاهِ فِيهِ، مِنْ عَلَامَاتِ التَّقْوَى، وَسِيمَا المُتَّقِينَ.

 

6

قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: "لَا يُصِيبُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ، حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الحَرَامِ حَاجِزًا مِنَ الحَلَالِ، وَحَتَّى يَدَعَ الإِثْمَ وَمَا تَشَابَهَ مِنْهُ". أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ.

حَقِيقَةُ الإِيمَانِ وَحَقِيقَةُ التَّقْوَى، مَقَامٌ رَفِيعٌ وَمَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ، لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ تَوَرَّعَ عَنِ الشُّبُهَاتِ، التِي لَمْ يَتَمَيَّزْ فِيهَا الحَلَالُ مِنَ الحَرَامِ.

 

7

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الطَّيِّبُ هُوَ السَّالِمُ مِنَ الخَبِيثِ؛ يَعْنِي الحَلَالَ الخَالِصَ مِنَ الحَرَامِ، وأَجْوَدَ الطَّيِّبِ وَأَنْقَاهُ، الذِي لَمْ يُخالِطْهُ مُشْتَبَهٌ فِيهِ.

وَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: "لَأَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَمِائَةِ أَلْفٍ، حَتَّى بَلَغَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ".

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "لَرَدُّ دَانِقٍ مِنْ حَرَامٍ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ تُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللهِ".

وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: "تَرْك دَانِقٍ مِمَّا يَكْرَهُ اللهُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ حَجَّةٍ".

8

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا: (فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُواقِعَ مَا اسْتَبَانَ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

مِنَ المَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ: البُعْدُ عَنِ الحَرَامِ وَذَرَائِعِهِ وَوَسَائِلِهِ؛ وَمِنْهَا: الشُّبُهَاتُ، وَمَا اخْتَلَطَ حَلَالُهُ بِحَرَامِهِ.

وَقَالَ سُفْيَانُ فِيمَنْ بَاعَ شَيْئًا مِمَّنْ تُكْرَهُ مُعَامَلَتُهُ لِشُبْهَةِ مَالِهِ، قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ، وَخَالَفَهُ ابْنُ المُبَارَكِ، وَقَالَ: يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ خَاصَّةً، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ.

 

9

ثَبَتَ عَنِ الحَسَنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَالذَّهَبِيُّ.

أَيْ: دَعْ مَا تَشُكُّ فِي حِلِّهِ وَحُرْمَتِهِ، وَهُوَ الشُّبْهَةُ، وَمَا اخْتَلَطَ حَلَالُهُ بِحَرَامِهِ، فَإِنَّ تَرْكَكَ إِيَّاهَا أَتْقَى لِرَبِّكَ، وَأَزْكَى لِنَفْسِكَ.

 

10

خَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ مَرْفُوعًا: (الوَرِعُ الذِي يَقِفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ). وَهَذَا المَعْنَى لَا يُخْتَلَفُ فِي صِحَّتِهِ.

قَالَ العُمَرِيُّ: "إِذَا كَانَ العَبْدُ وَرِعًا، تَرَكَ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ".

وَقَالَ الفُضَيْلُ: "يَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّ الوَرَعَ شَدِيدٌ، وَمَا وَرَدَ عَلَيَّ أَمْرَانِ إِلَّا أَخَذْتُ بِأَشَدِّهِمَا، فَدَعْ مَا يَرِيبُكُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ".

وَقَالَ حَسَّانُ: "مَا شَيْءٌ أَهْوَنَ مِنَ الوَرَعِ، إِذَا رَابَكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ".

 

 

11

قَالَ عُمَرُ: "دَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ؛ يَعْنِي: مَا ارْتَبْتُمْ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقُوا أَنَّهُ رِبًا".

وَعَنْ عَطَاءٍ الخُرَاسَانِيِّ مُرْسَلًا: (إِنَّ المُسْلِمَ الوَرِعَ يَدَعُ الصَّغِيرَةَ؛ مَخَافَةَ الكَبِيرَةِ).

يَعْنِي يَدَعُ الشُّبْهَةَ؛ كَالذِي اخْتُلِفَ فِي حِلِّهِ وَحُرْمَتِهِ، وَيَشْهَدُ لِحَدِيثِ عَطَاءٍ: مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

أَيْ: بِالتَّدَرُّجِ، أَوْ رُبَّمَا اسْتَعْمَلَ الحَرَامَ المُخْتَلِطَ بِالحَلَالِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي.

 

12

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: "مَا تُرِيدُ إِلَى مَا يَرِيبُكَ وَحَوْلَكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ لَا تَرِيبُكَ؟!".

لَقَدْ رَغَّبَ السَّلَفُ فِي تَرْكِ مَا تَشُكُّ فِي حِلِّهِ وَحُرْمَتِهِ، وَالاتِّعَاضِ عَنْهُ بِالحَلَالِ البَيِّنِ، الذِي تَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ أَتَى.

جَاءَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ مِنْهُمْ: عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةِ الدِّينِ.

 

13

عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: إِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ قَلَائِلُ، فَمَا رَابَكَ فَدَعْهُ". رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: "الخَيْرُ طُمَأْنِينَةٌ، وَالشَّرُّ رِيبَةٌ، فَذَرْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ". رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ.

مَعْنَى هَذَا: أَنَّ مَا شَكَكْتَ فِي حِلِّهِ وَحُرْمَتِهِ لِلْخِلَافِ القَوِيِّ فِيهِ، أَوْ لِاخْتِلَاطِ حَلَالِهِ بِحَرَامِهِ؛ فَاتْرُكْهُ وَرَعًا وَتَقْوًى.

قال تعالى: (‏‏‏‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).

 

 

14

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: إِذَا حَسُنَ الإِسْلَامُ، اقْتَضَى تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي كُلِّهُ مِنَ المُحرَّمَاتِ وَالمُشتَبِهَاتِ وَالمَكْرُوهَاتِ، وَفُضُولِ المُبَاحَاتِ التِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَعْنِي المُسْلِمَ إِذَا كَمُلَ إِسْلَامُهُ، وَبَلَغَ إِلَى دَرَجَةِ الإِحْسَانِ.

 

15

قَالَ سُفْيَانُ: «عَلَيْكَ بِالوَرَعِ يُخَفِّفِ اللهُ حِسَابَكَ، وَدَعْ ما يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، وَادْفَعِ الشَّكَّ بِاليَقِينِ يَسْلَمْ لَكَ دِينُكَ». رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

الوَرَعُ عُبُودِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِمَنْ حَالُهُ مُسْتَقِيمَةٌ، فَتَرْكُ مَا خَالَطَهُ الرِّيبَةُ أَهُوَ مِنَ الحَلَالِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ، قُرْبَةٌ إِلَى اللهِ.

مِثَالُ ذَلِكَ: التِّجَارَةُ المُخْتَلَطَةُ، التِي فِي إِبَاحَتِهَا شَكٌّ، عِنْدَمَا يَجْتَنِبُهَا المُسْلِمُ طَرْحًا لِلشَّكِّ، وَأَخْذًا بِاليَقِينِ، فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الوَرَعِ، وَاتِّقَاءِ الشُّبُهَاتِ.

 

16

قَالَ أَبُو يَزِيدَ الفَيْض: سَأَلْتُ مُوسَى بْنَ أَعْيَنَ، عَنْ قَوْلِ اللهِ: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، قَالَ: «تَنَزَّهُوا عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الحَلَالِ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعُوا فِي الحَرَامِ، فَسَمَّاهُمُ اللهُ مُتَّقِينَ».

أَشَارَ - رَحِمَهُ اللهُ - إِلَى التَّقْوَى الكَامِلَةِ، وَهِيَ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ، التِي هِيَ دَرَجَةٌ بَيْنَ الحَلَالِ البَيِّنِ، وَالحَرَامِ البَيِّنِ؛ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الذِي يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا.

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُبَارَكِ، قَالَ: قُلْتُ لِرَاهِبٍ: مَا عَلَامَةُ الوَرَعِ؟، قَالَ: «الهَرَبُ مِنْ مَوَاطِنِ الشُّبْهَةِ».

 

 

17

عَنِ النُّعمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الحَلَالِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الوَرَعَ بِاجْتِنَابِ الشُّبُهَاتِ، وَهِيَ حِمَى المُحرَّمَاتِ، فِي المَكَاسِبِ وَغَيْرِهَا، مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَسَدِّ الذَّرِيعَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الشَّيْطَانِ؛ أَنْ يَسْتَدْرِجَ المُسْلِمَ إِلَى الحَرَامِ.

 

18

قَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ: "إِذَا شَكَكْتَ فِي شَيْءٍ فَاتْرُكْهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "الزُّهْدِ"، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي "الحِلْيَةِ".

أَرَادَ حَسَّانُ المُشتَبَهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ المَشْكُوكُ فِي حِلِّهِ وَحُرْمَتِهِ لِخَفَائِهِ، فَلَا يُدْرَى هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي المَكَاسِبِ فَيَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الأَمْرِ حَرَامًا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ تَبِعَتِهَا، وَإِنْ كَانَ حَلَالًا فَقَدْ أُجِرَ عَلَى تَرْكِهَا بِهَذَا القَصْدِ.

 

19

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ جَاءَتْ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا، فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟، وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ أَبِي إِهَابٍ التَّمِيمِيّ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.

يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ: أَنَّ وُجُودَ قَوْلٍ مُعْتَبَرٍ بِتَحْرِيمِ مَكْسَبٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ؛ لِصِحَّةِ الدَّلِيلِ، أَوْ قُوَّةِ التَّعْلِيلِ؛ يَحْمِلُ المُسْلِمَ عَلَى تَجَنُّبِ ذَلِكَ وَرَعًا؛ لِقُوَّةِ الشُّبْهَةِ.

 

 

20

عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ، فَقَالَ: (لَوْلَا أَنْ تَكُونَ مِنْ صَدَقَةٍ لَأَكَلْتُهَا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: "تَضَوَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا أَسْهَرَكَ؟ قَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ تَمْرَةً سَاقِطَةً فَأَكَلْتُهَا، ثُمَّ ذَكَرْتُ تَمْرًا كَانَ عِنْدَنَا مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَمَا أَدْرِي أَمِنْ ذَلِكَ كَانَتِ التَّمْرَةُ، أَوْ مِنْ تَمْرِ أَهْلِي؟، فَذَلِكَ أَسْهَرَنِي".

دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي الاحْتِيَاطُ لِلدِّينِ، وَالتَّنَزُّهُ عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَهِيَ مَا تَأَرْجَحَتْ بَيْنَ الحَلَالِ وَالحَرَامِ.

 

21

عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي أَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ، لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَهُ؟ قال: فلا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

يَنْبَغِي تَجَنُّبُ مَا اسْتَوَى فِيهِ الشَّكُّ وَالتَّرَدُّدُ؛ أَهُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؛ لِقُوَّةِ الشُّبْهَةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَرْكِ مَا اخْتَلَطَ حَلَالُهُ بِحَرَامِهِ، فَحَصَلَ اللَّبْسُ، وَلَمْ يُمَيِّزْ أَحَدَهُمَا عَنِ الآخَرِ.

 

22

عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّيْدِ، قَالَ: إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ وَجَدتَهُ قَدْ قُتِلَ فَكُلْ، إِلَّا أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي؛ المَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ؟» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَبَهَ الحَلَالُ بِالحَرَامِ حَتَّى اسْتَوَيَا، وَتَنَازَعَ المُبِيحُ وَالحَاظِرُ عَلَى السَّوَاءِ؛ وَجَبَ التَّرْكُ، وَهَذَا مِثَالُ الوَرَعِ الوَاجِبِ، وَمِثَالُ الوَرَعِ المُستَحَبِّ؛ مَا قَالَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَنْ وَرِثَ مَالًا مِنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ يَبِيعُ مِمَّنْ تُكْرَهُ مُعَامَلَتُهُ: أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ مِنْهُ بِمِقْدَارِ الرِّبْحِ، وَيَأْخُذُ البَاقِي.

 

 

23

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ، عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ؛ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي؛ فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى شَبَهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَودَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ، قَالَ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الحَدِيثُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اجْتِنَابِ الشُّبُهَاتِ، وَالاحْتِيَاطِ لِلدِّينِ وَالعِرْضِ، مَعَ الشَّكِّ القَوِيِّ السَّائِغِ، لَا الوَسْوَسَةِ وَنَحْوِهَا.

 

24

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «أَخَذَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: كِخْ كِخْ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِمُسْلِمٍ: "إِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ".

طِفْلٌ صَغِيرٌ يَضْرِبُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – شِدْقَيْهِ؛ لِتَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ، وَيَقُولُ لَهُ: "ارْمِ بِهَا"؛ "أَلْقِهَا يَا بُنَيَّ"؛ وَذَلِكَ لِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ.

فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الذِينَ لَا يَتَوَرَّعُونَ عَنْ أَكْلِ الحَرَامِ، وَلَا يُبَالُونَ بِمَا أَخَذُوا المَالَ؛ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ!.

 

25

ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ.

لَقَدْ تَوَرَّعَ المُتَوَرِّعُونَ عَنْ أَكْلِ الحَرَامِ، وَكَسْبِ الشُّبْهَةِ، وَعَنِ القَاسِمِ، قَالَ: كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يَأْتِيهِ بِكَسْبِهِ، فَنَسِيَ أَنْ يَسْأَلَهُ مِنْ أَيْنَ أَصَبْتَ؟ فَقَالَ الغُلَامُ: تَكَهَّنْتُ لِقَوْمٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ كَذِبَةً، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فِي حَلْقِهِ، فَجَعَلَ يَتَقَيَّأ.

وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ شَرِبَ لَبَنًا فَأَعْجَبَهُ، فَقَالَ لِلذِي سَقَاهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: مَرَرْتُ بِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَهُمْ عَلَى مَاءٍ، فَأَخَذْتُ مِنْ أَلْبَانِهَا، فَأَدْخَلَ عُمَرُ يَدَهُ فَاسْتَقَاءَ.

 

 

26

عَنِ الحَارِثِ - وَلَيْسَ بِالقَوِيِّ -، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي جَوَائِزِ السُّلْطَانِ: "لَا بَأْسَ بِهَا، مَا يُعطِيكُمْ مِنَ الحَلَالِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعطِيكُمْ مِنَ الحَرَامِ".

وَقَدْ فَسَّرَ الإِمَامُ أَحْمَدُ الشُّبْهَةَ تَارَةً بِاخْتِلَاطِ الحَلَالِ وَالحَرَامِ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا مُعامَلَةُ مَنْ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ مُخْتَلِطٌ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ الحَرَامَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا، أَوْ شَيْئًا لَا يُعْرَفُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ الحَلَالَ، جَازَتْ مُعامَلَتُهُ وَالأَكْلُ مِنْ مَالِهِ.

 

27

"أَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الشَّاةِ المَصْلِيَّةِ المَسْمُومَةِ، التِي أَهْدَتْهَا إِلَيْهِ يَهُودِيَّةٌ، وَكَانَ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ يُعامِلُونَ المُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الكِتَابِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَ الحَرَامَ كُلَّهُ".

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَرَخَّصَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ فِي الأَكْلِ مِمَّنْ يُعْلَمُ فِي مَالِهِ حَرَامٌ، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ الحَرَامِ بِعَيْنِهِ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنِ السَّلَفِ، فَصَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ جَارٌ يَأْكُلُ الرِّبَا عَلَانِيَةً، وَلَا يَتَحَرَّجُ مِنْ مَالٍ خَبِيثٍ يَأْخُذُهُ، يَدْعُوهُ إِلَى طَعَامِهِ، قَالَ: أَجِيبُوهُ، فَإِنَّمَا المَهْنأُ لَكُمْ، وَالوِزْرُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.

 

28

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ جَارٌ يَأْكُلُ الرِّبَا عَلَانِيَةً، وَلَا يَتَحَرَّجُ مِنْ مَالٍ خَبِيثٍ يَأْخُذُهُ، يَدْعُوهُ إِلَى طَعَامِهِ، قَالَ: أَجِيبُوهُ، فَإِنَّمَا المَهْنأُ لَكُمْ، وَالوِزْرُ عَلَيْه.

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا أَعْلَمُ لَهُ شَيْئًا إِلَّا خَبِيثًا أَوْ حَرَامًا، فَقَالَ: أَجِيبُوهُ". أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَهَنَّادُ.

وصَحَّحَهُ ابْنُ رَجَبٍ، وَقَالَ: قَدْ صَحَّحَ الإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنَّهُ عَارَضَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الإِثْمُ حَوَازُّ القُلُوبِ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ الحَرَامَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: "يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا، أَوْ شَيْئًا لَا يُعْرَفُ".

 

29

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَيَأتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ، أَمِنْ حَلَالٍ، أَمْ مِنْ حَرَامٍ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

قَالَ وُهَيْبٌ: «لَوْ قُمْتَ مَقَامَ هَذِهِ السَّارِيَةِ مَا نَفَعَكَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا تُدْخِلُ بَطْنَكَ: حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟». وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المَالِ المُشْتَبِهِ حَلَالُهُ بِحَرَامِهِ: إِنْ كَانَ المَالُ كَثِيرًا، أَخْرَجَ مِنْهُ قَدْرَ الحَرَامِ، وَتَصَرَّفَ فِي البَاقِي، وَإِنْ كَانَ المَالُ قَلِيلًا، اجْتَنَبَهُ كُلَّهُ، قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الوَرَعِ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَأَبَاحَ التَّصَرُّفَ فِي القَلِيلِ وَالكَثِيرِ، بَعْدَ إِخْرَاجِ قَدْرِ الحَرَامِ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

 

30

قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)

لَقَدْ خَفَّفَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَا أُمِرْنَا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)

فَالوَرَعُ وَاتِّقَاءُ الشُّبْهَةِ بِحَسَبِ الاسْتِطَاعَةِ مَعَ عُمُومِ البَلْوَى، قَالَ الحَسَنُ: "إِنَّ هَذِهِ المَكَاسِبَ قَدْ فَسَدَتْ، فَخُذُوا مِنْهَا شِبْهَ المُضْطَرِّ".

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي الرَّجُلِ يُقضَى مِنَ الرِّبَا، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. خَرَّجَهُ الخَلَّالُ، قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَمَتَى عَلِمَ أَنَّ عَيْنَ الشَّيْءِ حَرَامٌ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَقَدْ حَكَى الإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ وَغَيْرُهُ. وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهِ شُبْهَةً، فَلَا بَأْسَ بِالأَكْلِ مِنْهُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.

 

31

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ"، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا، يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: "وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الحَرَامُ لَا يَجُوزُ التَّسَاهُلُ فِي قَلِيلِهِ وَلَا صَغِيرِهِ؛ بَلْ يَجِبُ الوَرَعُ عَنْ دَقِيقِهِ وَحَقِيرِهِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ، فَدَقِيقُ الوَرَعِ يَصْلُحُ لِمَنْ حَقَّقَ التَّقْوَى الكَامِلَةَ، سُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ يَشْتَرِي بَقْلًا، وَيَشتَرِطُ الخُوصَةَ التِي تَرْبِطُهُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: أَيْشْ هَذِهِ المَسَائِلُ؟! قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، فنَعَمْ، هَذَا يُشْبِهُ ذَاكَ.

 

 

32

قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)

دَقِيقُ الوَرَعِ مِنَ الخَيْرِ.

أَوْصَى الإِمَامُ أَحْمَدُ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ سَمْنًا، فَجَاءَ بِهِ عَلَى وَرَقَةٍ، فَأَمَرَ بِرَدِّ الوَرَقَةِ إِلَى البَائِعِ. وَكَانَ الإِمَامُ أَحْمَدُ لَا يَسْتَمِدُّ مِنْ مَحَابِرِ أَصْحَابِهِ، وَإِنَّمَا يُخْرِجُ مَعَهُ مَحْبَرَةً يَسْتَمِدُّ مِنْهَا، وَاسْتَأْذَنَهُ رَجُلٌ أَنْ يَكْتُبَ مِنْ مَحْبَرَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ فَهَذَا وَرَعٌ مُظْلِمٌ، وَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْ وَرَعِي وَلَا وَرَعُكَ هَذَا، وَهَذَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ، وَكَانَ يُنكِرُ هَذَا الوَرَعَ الدَّقِيقَ عَلَى مَنْ لَا تُشْبِهُ بَعْضُ أَعْمَالِهِ بَعْضًا فِي الوَرَعِ.

 

33

قَالَ بِشْرُ بْنُ الحَارِثِ: "عَشَرَةٌ لَا يُدْخِلُونَ بُطُونَهُمْ إِلَّا حَلَالًا، وَلَوِ اسْتَفُّوا التُّرَابَ وَالرَّمَادَ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، وَسُلَيْمَانُ الخَوَّاصُ، وَعَلِيُّ بْنُ فُضَيْلٍ، وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاط، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ نَجِيحٌ الخَادِمُ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ قَتَادَةَ المَرْعَشِيُّ، وَدَاوُدُ الطَّائِيُّ، وَوُهَيْبُ بْنُ الوَرْدِ، وَفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ".

يُمَثَّلُ لِدَقِيقِ وَرَعِهِمْ بِمَا جَاءَ عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: "صَحِبْتُ الثَّوْرِيَّ إِلَى مَكَّةَ، فَمَرَرْنَا بِرَجُلٍ، فَاسْتَظْلَلْنَا بِظِلِّهِ، وَشَرِبْنَا مِنْ مَائِهِ، فَسَأَلَهُ سُفْيَانُ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ القَوْمَ يُجْرُونَ عَلَيَّ رِزْقًا لِهَذَا، فَتَقَيَّأَ سُفْيَانُ حَتَّى كَادَتْ نَفْسُهُ تَخْرُجُ، ثُمَّ قَعَدَ فِي الشَّمْسِ".

 

34

قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: «طَلَبُ الحَلَالِ أَشَدُّ مِنْ لِقَاءِ الزَّحْفِ».

المَكَاسِبُ الحَلَالُ بِحَمْدِ اللهِ مُتَوَفِّرَةٌ وَكَثِيرَةٌ جِدًّا، فَهِيَ يَسِيرَةٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهَا اللهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ القَوْمَ ارْتَقَوْا فِي الوَرَعِ مُرْتقًا صَعْبًا، لَقَدْ تَنَزَّهَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ خَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ، لَمْ يَأخُذْهُ.

وَعَنِ الفُضَيْلِ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ شَاةٌ، فَأَكَلَتْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ عَلَفٍ لِبَعْضِ الأُمَرَاءِ، فَلَمْ يَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ.

وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ: أَلَا تَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ لِي دَلْوٌ لَشَرِبْتُ، تَوَرَّعَ عَنِ الدَّلْوِ الذِي وَضَعَهُ السُّلْطَانُ.

وَتَوَرُّعُ السَّلَفِ الدَّقِيقُ فِي كَافَّةِ الأُمُورِ يَفُوتُ الحَصْرَ.

35

عَنْ نُعَيْمٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ كَانَ يَدْفَعُ إِلَى امْرَأَتِهِ طِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ، كَانَتْ تَبِيعُهُ، فَعَلَقَ بِإِصْبَعِهَا مِنْهُ شَيْءٌ، فَمَسَحَتْ بِهِ خِمَارَهَا، فَقَالَ: «بِطِيبِ المُسْلِمِينَ؟ فَانْتَزَعَ خِمَارَهَا، فَجَعَلَهُ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهِ المَاءَ».

وَعَنْ يُونُسَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ أُتِيَ بِغَنَائِمِ مِسْكٍ، فَأَخَذَ بِأَنْفِهِ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، تَأْخُذُ بِأَنْفِكَ لِهَذَا؟! قَالَ: «إِنَّمَا أَكْرَهُ أَنْ أَجِدَ رِيحَهُ دُونَ المُسْلِمِينَ». فَهَذَا وَرَعٌ طُوِيَ بِسَاطُهُ. وَعَنْ أُسَيْدٍ يَرْفَعُهُ: (إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.