العواصم من الفتن

العَوَاصِمُ مِنَ الفِتَنِ ح 1 قال تعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) فَمِنْ أَقْوَى العَوَاصِمِ مِنَ القَوَاصِمِ أَنْ يَتَعَلَّمَ المُسْلِمُ؛ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ وَالحَلَالَ مِنَ الحَرَامِ؛ لِئَلَّا يَنْخَدِعَ بِالدَّعَوَاتِ المُضَلِّلَةِ، فَإِنَّ أَعْدَاءَ الدِّينِ يُغَلِّفُونَ بَاطِلَهُمْ بِغِلَافِ الزَّيْفِ وَالخَدِيعَةِ، وَيُقَدِّمُونَهُ لِلنَّاسِ فِي قَالِبِ المَكْرِ الكُبَارِ، قَالَ تَعَالَى: (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ). ح 2 قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) فَالِالْتِفَافُ حَوْلَ العُلَمَاءِ الثِّقَاتِ العَامِلِينَ الوَرِعِينَ، الَّذِينَ شَابَتْ شَبِيبَتُهُمْ فِي العِلْمِ، مِمَّنِ اشْتُهِرَتْ إِمَامَتُهُمْ، وَشُهِدَ لَهُمْ بِالنَّزَاهَةِ وَالرَّزَانَةِ، وَاسْتِفْتَاؤُهُمْ: مِنَ العَوَاصِمِ، أَمَّا قَاصِمَةُ الظَّهْرِ، فَهِيَ السَّمَاعُ لِكُلِّ نَاعِقٍ، وَالأَخْذُ عَنِ المُتَعَالِمِينَ وَالمُتَهَوِّرِينَ وَالمُتَمَصْلِحِينَ. ح 3 ثَبَتَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: كَانَ أَكْثرُ دُعَائِهِ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَكْثرَ دُعَاءَكَ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ! قَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ، فَتَلَا مُعَاذٌ: «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَلَهُ شَوَاهِدُ. هَذَا الدُّعَاءُ مِنَ العَوَاصِمِ، فَلَا تَفْتُرْ أَنْ تُكْثِرَ مِنْهُ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ مُنْكَسِرٍ، لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ الفِتْنَةَ. ح 4 عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: (كَانَ نَبِيُّ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. هَذَا الدُّعَاءُ مِنْ أَدْعِيَةِ العَوَاصِمِ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ. ح 5 قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) مِنَ العَوَاصِمِ: تَبْيِينُ الحَقِّ وَإِشْهَارُهُ، فَمَنْ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا، فَالوَاجِبُ عَلَيْهِ تَوْضِيحُ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حِيَالَ المُحْدَثَاتِ وَالنَّوَازِلِ، الَّتِي يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى البَيَانِ فِيهَا وَالإِظْهَارِ، بِحَسَبِ القُدْرَةِ وَالاسْتِطَاعَةِ، وَالوَسَائِلُ بِحَمْدِ اللهِ كَثِيرَةٌ، وَالأَسَالِيبُ مُتَنَوِّعَةٌ، أَمَّا الكِتْمَانُ فَإِنَّهُ سَبَبُ الخِذْلَانِ. ح 6 قال تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) مِنَ العَوَاصِمِ: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ عَلَى عِلْمٍ وَبِحِكْمَةٍ، مُبْتَدِئًا بِإِصْلَاحِ نَفْسِكَ، ثُمَّ دَعْوَةِ أَهْلِكَ وَمَنْ حَوْلَكَ، وَالنَّاسِ الَّذِينَ يَصِلُهُمْ صَوْتُكَ وَكِتَابَتُكَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ اليَوْمَ فِي كَفٍّ وَاحِدَةٍ. ح 7 قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فَمِنَ العَوَاصِمِ مِنَ القَوَاصِمِ: القِيَامُ بِوَاجِبِ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، دَاخِلَ بَيْتِكَ وَخَارِجَهُ، وَذَلِكَ حَسَبَ الاسْتِطَاعَةِ، قَالَ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). ح 8 عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (العِبَادَةُ فِي الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَمِنَ العَوَاصِمِ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ: العِبَادَةُ، كَالذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الفِتَنَ يَكْثُرُ فِيهَا المُلْهِيَاتُ وَالمُغْرِيَاتُ وَالصَّوَارِفُ، وَالْتِبَاسُ الحَقِّ بِالبَاطِلِ، وَاشْتِبَاهُ الحَلَالِ بِالحَرَامِ. ح 9 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ, يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا, أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا, يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَمَ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ، فَلَا يَسْتَشْرِفُ لَهَا، وَلَا يَذْهَبُ إِلَى مَوَاطِنِهَا، وَلَا يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لَهَا، وَلَا يُصْغِي لِلشُّبُهَاتِ، وَلَا يَقْرَبُ الشَّهَوَاتِ. ح 10 ثَبَتَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ, يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا, وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا, القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ, وَالقَاِئمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي, وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي, فَكَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ, وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ, وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالحِجَارَةِ, فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ). رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَعَبْدُ الحَقِّ وَابْنُ دَقِيقِ العِيدِ. فَمِنَ العَوَاصِمِ: الانْكِفَافُ عَنْ إِقْحَامِ النَّفْسِ فِي صِرَاعِ الفِتَنِ، وَالوَرَعُ حِينَ تَلْتَبِسُ الأُمُورُ وَتَشْتَبِهُ. ح 11 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَقَوْلُ الخَيْرِ أَوْ عَلَى الأَقَلِّ الصَّمْتُ مِنَ العَوَاصِمِ فِي الفِتَنِ؛ فَإِنَّ الكَلِمَةَ العَشْوَائِيَّةَ شَرَارَةٌ، وَالقِيلَ وَالقَالَ، وَإِلْقَاءَ الكَلَامِ عَلَى عَوَاهِنِهِ بِلَا تَحَفُّظٍ وَلَا تَفْكِيرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ، وَالجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ العِلْمِ؛ فِتْنَةٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ، فَاللِّسَانُ أَشَدُّ مِنَ السِّنَانِ. ح 12 عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: (كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. مِنَ العَوَاصِمِ: التَّعَرُّفُ مِنَ المَصَادِرِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الخَيْرِ مِنَ الشَّرِّ، وَالضَّارِّ مِنَ النَّافِعِ، وَالصَّوَابِ مِنَ الخَطَأِ، وَالحَقِّ مِنَ البَاطِلِ، وَلَا يَكُونُ الإِنْسَانُ إِمَّعَةً وَلَا مُقَلِّدًا لِلْجَهَلَةِ وَالمَفْتُونِينَ. ح 13 عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ ... الحَدِيث). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمِنَ العَوَاصِمِ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ: الثِّقَةُ بِاللهِ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِ، وَعَدَمُ التَّشَاؤُمِ وَالإِحْبَاطِ، فَإِنَّ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فِي صِرَاعٍ دَائِمٍ، وَالأَيَّامَ دُوَلٌ، قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). ح 14 عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِّيْ، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمِنَ العَوَاصِمِ مِنْ مُضِلَّاتِ الفِتَنِ: التَّمَسُّكُ بِالهَدْيِ النَّبَوِيِّ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: (أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ح 15 عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَالحَذَرُ مِنْ دُعَاةِ الشَّرِّ وَالضَّلَالَةِ، وَالامْتِنَاعُ مِنْ إِجَابَتِهِمْ، وَعَدَمُ الاغْتِرَارِ بِوَسَائِلِهِمُ الإِعْلَامِيَّةِ، وَأَسَالِيبِهِمُ التَّمْوِيهِيَّةِ، وَسُؤَالُ العُلَمَاءِ عَمَّا يَلْتَبِسُ عَلَى المُسْلِمُ وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِ؛ عَاصِمٌ بِإِذْنِ اللهِ مِنَ الفِتَنِ. ح 16 عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ - يَعْنِي زَمَانَ ظُهُورِ الشَّرِّ وَدُعَاتِهِ - قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتث وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمِنَ العَوَاصِمِ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ: التَّمَسُّكُ بِحَبْلِ اللهِ المَتِينِ، وَتَرْكُ الخِلَافِ وَالفُرْقَةِ فِي الدِّينِ، وَلُزُومُ الجَمَاعَةِ وَإِمَامِهِمْ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الغَنَمِ القَاصِيَةِ. ح 17 ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: (خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ. أَعْظَمُ العَوَاصِمِ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ: مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَصْحَابُهُ، لَا الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الفَسَادِ. ح 18 رَوَى الإِمَامُ مَالِكٌ بَلَاغًا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ). قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: "وَهَذَا مَحْفُوظٌ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ، شُهْرَةً يَكَادُ يُسْتَغْنَى بِهَا عَنِ الإِسْنَادِ". فَالكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَعْصِمَانِ مِنَ الفِتَنِ، فَفِيهِمَا الهِدَايَةُ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ؛ يَعْنِي أَسْلَمُ وَأَصْلَحُ وَأَصْوَبُ، فَخُذِ الأَدِلَّةَ مِنْ صَرِيحِهِمَا، وَرُدَّ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ إِلَى ظَاهِرِهِمَا. ح 19 قال تعالى: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ). فَمِنَ العَوَاصِمِ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ: الامْتِنَاعُ مِنَ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ المُضِلِّينَ، وَالإِصْغَاءِ لِشُبُهَاتِ المَفْتُونِينَ، وَالحَذَرُ مِنْ تَقْدِيمِ التَّنَازُلَاتِ مُدَارَاةً لَهُمْ. قال تعالى: (وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ). ح 20 عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: «قَالَ عُمَرُ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا، فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلِدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ، قَالَ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، وَلَكِنِ الفِتْنَةُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ البَحْرُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ. فَالِاسْتِعَاذَةُ بِاللهِ عَاصِمَةٌ مِنْ مُضِلَّاتِ الفِتَنِ الخَاصَّةِ، وَمِنَ الفِتَنِ العَامَّةِ، وَفِتَنِ الحَيَاةِ وَالِاحْتِضَارِ وَالمَمَاتِ، فَفِي الحَدِيثِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: (‏اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ). ح 21 قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: سَأَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي: مَا عَلِمْتِ؟ أَوْ مَا رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا، فَعَصَمَهَا اللهُ بِالوَرَعِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَالوَرَعُ، وَحِفْظُ اللِّسَانِ، وَصِيَانَةُ الحَوَاسِّ، وَكَثْرَةُ الطَّاعَةِ: عِصْمَةٌ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ، وَأَتْقَى للهِ، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً، وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا فِي العَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ، وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ح 22 عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: (ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ حُسِّنَ. فَالفِتْنَةُ نَوْعَانِ: فِتْنَةُ ضَرَّاءَ، وَالعَاصِمُ فِيهَا بِإِذْنِ اللهِ الصَّبْرُ، وَفِتْنَةُ سَرَّاءَ، وَالعَاصِمُ فِيهَا بِإِذْنِ اللهِ الشُّكْرُ، وَالهَلَاكُ فِي عَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى فِتْنَةِ الابْتِلَاءِ، وَالغَفْلَةِ وَالانْخِرَاطِ فِي فِتْنَةِ النَّعْمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً). ح 23 قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) فَكُلُّ نِعْمَةٍ عَلَى الإِنْسَانِ - خَاصَّةٍ أَوْ عَامَّةٍ – فِتْنَةٌ، وَالعَاصِمُ فِيهَا مَعْرِفَةُ حَقِّ اللهِ عَلَيْهَا، وَأَدَاءُ وَاجِبِهَا، وَالقِيَامُ بِمَسْؤُولِيَّتِهَا، وَحُسْنُ رِعَايَتِهَا، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ, فَمَنِ اسْتَعَاذَ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ مُضِلَّاتِ الفِتَنِ". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ المُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَنَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. ح 24 قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ) فَمِنَ العَوَاصِمِ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ حَافِظٌ شَرْعَهُ، وَمُعِزٌّ دِينَهُ، وَمُعْلٍ كَلِمَتَهُ، وَمُتِمٌّ أَمْرَهُ، فَلَا دَاعِيَ لِلْقَلَقِ وَالخَوْفِ وَالضَّعْفِ. وَثَبَتَ عَنِ المِقدَادِ يَرْفَعُهُ: (لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ كَلِمَةَ الإِسْلَامِ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ، إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ. ح 25 قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ) فَالثِّقَةُ فِي قِيلِ اللهِ، وَفِي قُوَّةِ الإِسْلَامِ، وَسُرْعَةِ انْتِشَارِه: مِنَ العَوَاصِمِ، فَلَا تُحْبِطَنَّكَ الفِتَنُ. ثَبتَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الكُفْرَ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ، وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. ح 26 عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. فَمِنَ العَوَاصِمِ مِنَ الفِتَنِ: أَنْ تَكُونَ أَمَامَهَا قَوِيًّا فَلَا تَنْهَزِمُ، فَالعَاقِبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي المُسْنَدِ حَدِيثُ: (ِإنَّهُ سَيُفْتَحُ لَكُمْ مَشَارِقُ الأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا)، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا: "لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ح 27 عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنَ الإِسْلَامِ، تَقُولُ: إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ، وَقَدْ رَمَتْهُمُ العَرَبُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَيُبْذَلَنَّ المَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصْلُهُ أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ. فَمِنَ العَوَاصِمِ فِي زَمَنِ الفِتْنَةِ: أَنْ تَتَفاءَلَ بِخيْرٍ، وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ المَسْأَلَةَ مَسْألَةُ وَقْتٍ، مَعَ الثَّبَاتِ عَلَى الدِّيْنِ وَمُحَاوَلَةِ التَّغْيِيرِ. ح 28 رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: (اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ؛ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). فَمِنَ العَوَاصِمِ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ: أَنْ تُقَدِّرَ الوَاقِعَ، فَلَا تَلْهَثَ خَلْفَ المِثَالِيَّةِ، وَتَجْرِيَ وَرَاءَ السَّرَابِ، وَلَكِنْ لَا مَحَلَّ لِلْيَأْسِ، وَقَدْ سُئِلَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ عَنْ وُجُودِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ بَعْدَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: "لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ تَنْفِيسٍ". ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ يُحْمَلُ عَلَى الغَالِبِ، وَفِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ، وَقَدْ يَكُونُ فِي زَمَنِ الشِّدَّةِ مِنَ الخَيْرِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَنِ الرَّخَاءِ. ح 29 قال تعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوْا إِلَى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبْتَةَ الحَسْنَاءَ قَدْ تَخْرُجُ فِي المَنْبَتِ السُّوءِ، وَأَنَّ عُلَمَاءَ وَحُفَّاظًا وَدُعَاةً وَعُبَّادًا وَصَالِحِينَ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ قَدْ جَادَتْ بِهِمْ بُلْدَانٌ أَبْوَابُ الفَسَادِ فِيهَا مُفَتَّحَةٌ عَلَى مِصْرَاعَيْهَا؛ عَصَمَكَ اللهُ بِهَذِهِ المَعْرِفَةِ وَالاجْتِهَادِ فِي التَّرْبِيَةِ مِنْ شُرُورِ الفِتَنِ وَسَيِّئَاتِ الفِكْرِ، فَالمُسْلِمُ لَا يَعْرِفُ اليَأْسَ وَالقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ. ح 30 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ. مِنَ العَوَاصِمِ: اعْتِزَالُ الفِتَنِ عِنْدَ الخَوْفِ عَلَى الدِّينِ، وَالعَجْزِ عَنِ الإِصْلَاحِ، مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ تَضْيِيعُ حُقُوقٍ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الحَالِ: ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: (المُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ المُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. ح 31 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (سَتَكُونُ فِتَنٌ، القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمِنْ جُمْلَةِ العَوَاصِمِ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ: الزُّهْدُ وَالوَرَعُ. لَمَّا اعْتَزَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الفِتْنَةَ جَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ، فَقَالَ لِأَبِيهِ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ، وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ المُلْكَ بَيْنَهُمْ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ، فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ الغَنِيَّ الخَفِيَّ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ح 32 ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِذْ ذَكَرَ الفِتْنَةَ، فَقَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، وَكَانُوا هَكَذَا) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: (اِلْزَمْ بَيْتَكَ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ العَامَّةِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. اقْتَضَى هَذَا الحَدِيثُ عَوَاصِمَ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: (كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ: (اِلْزَمُوا فِيهَا أَجْوَافَ بُيُوتِكُمْ). ح 33 قال تعالى: (وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ)، قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الفِتْنَةُ: الشِّرْكُ. وقال تعالى: (أَلَا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا)، قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الفِتْنَةُ: الإِثْمُ. إِنَّ فِتْنَةَ الكُفْرِ وَفِتْنَةَ المَعْصِيَةِ فِتْنَتَانِ عَظِيمَتَانِ، عَلَيْهِمَا مَدَارُ الفِتَنِ، فَمَا العَاصِمُ مِنْ هَاتَيْنِ القَاصِمَتَيْنِ؟ الجَوَابُ جَمَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَخْصَرِ عِبَارَةٍ، وَأَوْضَحِ إِشَارَةٍ، فَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، قَالَ: (قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ح 34 عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (الرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. جَاءَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ: "فِتَنٌ كَرِيَاحِ الصَّيْفِ، مِنْهَا صِغَارٌ، وَمِنْهَا كِبَارٌ". فَيَا عَبْدَ اللهِ، لَا تَقْرَبْ مَوَاقِعَ الفِتَنِ فَتَنْزَلِقَ فِي حَمْأَتِهَا، لَقَدْ فُتِنَ شَبَابٌ بِالإِلْحَادِ حِينَ دَخَلُوا مَوَاقِعَ المُلْحِدِينَ تَطَفُّلًا وَفُضُولِيَّةً، وَكَمْ مِنْ شَابٍّ وَشَابَّةٍ ابْتُلِيَا بِالمُعَاكَسَاتِ؛ بَلْ بِالزِّنَا، حِينَ دَخَلُوا فِي مُحَادَثَاتٍ عَنْ بُعْدٍ، بِدَايَتُهَا نَزِيهَةٌ. ح 35 عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّمَا مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمِنَ العَوَاصِمِ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ: الجَلِيسُ الصَّالِحُ، وَالصَّدِيقُ الصَّالِحُ، وَالمَجَالِسُ الطَّيِّبَةُ المُبَارَكَةُ، مَجَالِسُ العِلْمِ وَالذِّكْرِ، وَمِنَ المُقْحِمَاتِ فِي الفِتَنِ: الجُلَسَاءُ غَيْرُ الصَّالِحِينَ، وَأَصْدِقَاءُ السُّوءِ، وَمَجَالِسُ البَطَّالِينَ وَالمَفْتُونِينَ. ح 36 قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ) الفِتْنَةُ شَيْءٌ حَتْمٌ؛ لِيَتَبَيَّنَ بِهَا حَالُ الإِنْسَانِ مِنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَاللهُ خَيْرُ عَاصِمٍ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ. ح 37 عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟، أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟، قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِي مَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. مِمَّا يَعْصِمُ مِنَ الفِتَنِ: الصَّبْرُ، وَفِي مِحْنَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَصَبْرِهِ دُرُوسٌ وَعِبَرٌ. ح 38 ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، يَبِيعُ قَوْمٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ، المُتَمَسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ، أَوْ قَالَ عَلَى الشَّوْكِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ». فَاعْتَصِمْ بِدِينِ اللهِ مِنَ الفِتَنِ المُدْلَهِمَّةِ، وَاقْبِضْ عَلَيْهِ قَبْضَ الشَّحِيحِ عَلَى مَالِهِ، وَقَبْضَ الغَرِيقِ عَلَى حَبْلِ النَّجَاةِ؛ فَدِينُ اللهِ سَفِينَةُ الحَيَاةِ وَالنَّجَاةِ. ح 39 عَنْ حُذَيْفَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (تُعْرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ؛ كَالحَصِيرُ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا؛ كَالكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. فَالعَمَلُ عَلَى إِصْلَاحِ القَلْبِ بِالعَوَاصِمِ مِنْ قَوَاصِمِ الفِتَنِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا صَلُحَ صَلُحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَخِلَافُ ذَلِكَ إِذَا فَسَدَ بِالهَوَى وَتَتَبُّعِ الشَّهَوَاتِ.