آدَابُ «الضِّيَافَةِ» وَأَحْكَامُهَا

(1)

قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ)

فَإِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُمَّةٌ وَحْدَهُ، فَهُوَ إِمَامُ هُدًى، يَنْبَغِي التَّأَسِّي بِهِ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَبُو الضِّيفَان.

قَالَ السَّفَّارِينِيُّ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلُ مَنْ بَنَى دَارَ الضِّيَافَةِ، وَأَثْنَى عَلَى ضِيَافَتِهِ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا".

وَإِنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ لَمُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ: (خَيْرُ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَيُهتَدَى بِهَدْيِهِ، وَيُستَنُّ بِسُنَّتِهِ، مَعَ أَضْيَافِهِ وَزُوَّارِهِ.

 

(2)

قال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)

إِكْرَامُ الضَّيْفِ يَدخُلُ فِيهِ كُلُّ مُبَاحٍ يَجلِبُ لَهُ السُّرُورَ، وَيُشْعِرُهُ بِالاحْتِرَامِ وَالتَّقْدِيرِ، وَيُغذِّي بَدَنَهُ وَقَلْبَهُ، وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: "يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (الْمُكْرَمِينَ): أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَسَارَةَ خَدَمَاهُمْ بِأَنْفُسِهِمَا".

لَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ يَرْفَعُهُ: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ مُفلِحٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ.

 

 

(3)

قَالَ تَعَالَى: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ)

مِنْ آدَابِ الإِسْلَامِ: مُبَادَرَةُ الضَّيفِ صَاحِبَ المَنْزِلِ بِالسَّلَامِ وَالاسْتِئْذَانِ.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: (قَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ): الرَّفْعُ أَقْوَى وَأَثْبَتُ مِنَ النَّصْبِ، فَرَدُّهُ أَفضَلُ مِنَ التَّسْلِيمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)، فَالخَلِيلُ اخْتَارَ الأَفْضَلَ.

 

(4)

قَالَ تَعَالَى: (فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)

يُشرَعُ إِطْعَامُ الضَّيْفِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَالجُودُ مِنَ المَوْجُودِ دُونَ تَكَلُّفٍ، وَمِنْ أَدَبِ الخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّهُ انْسَلَّ خِفْيَةً فِي سُرْعَةٍ، وَأَنَّهُ قَدَّمَ مِنْ خِيَارِ مَالِهِ، وَأَنَّهُ اخْتَارَ أَلَذَّ المَأْكُولِ. قَالَ تَعَالَى: (فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ).

فَلَمْ يُحْرِجْ ضَيْفَهُ بِالعَرْضِ عَلَيْهِ، والتَّشَبُّعِ بَيْنَ يَدَيْهِ.

 

(5)

قَالَ تَعَالَى: (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ)

مِنَ الآدَابِ: وَضْعُ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيِ الضَّيْفِ قَرِيبًا مِنْهُ، وَالتَّلَطُّفُ فِي التَّقْدِيمِ بِمَا يَسُرُّهُ، فَلَمْ يَأمُرْهُمْ أَمْرَ تَنْفِيرٍ؛ بَلْ قَالَ: (أَلَا تَأْكُلُونَ).

وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ: قَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنَّا لَا نَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا بِثَمَنٍ، قَالَ: فَإِنَّ لِهَذَا ثَمَنًا. قَالُوا: وَمَا ثَمَنُهُ؟، قَالَ: تَذكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَى أَوَّلِهِ، وَتَحْمَدُونَهُ عَلَى آخِرِهِ".

 

(6)

قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)

أَكْلُ الضَّيْفِ مِمَّا يُقدِّمُهُ المُضِيفُ، مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِ، وَإِزَالَةِ الوَحْشَةِ وَالفَزَعِ عَنْهُ، وَفِي الحَدِيثِ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَليُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ - [أَيْ: يَدْعُو] -، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَليَطْعَمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الحَدِيثِ مَنْ قَالَ: إِنَّ المَدْعُوَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْعَمَ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ.

 

(7)

قَالَ تَعَالَى: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ)

قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الطَّعَامَ لِضِيفَانِهِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَأَتَاهُمْ بِهِ فَقَعَدَ مَعَهُمْ، وَقَامَتْ سَارَةُ تَخْدِمُهُمْ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: "وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ". انتهى.

وَلَا شَكَّ أَنَّ شَرْعَنَا يَخْتَلِفُ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، فَلَا تُباشِرُ المَرْأَةُ خِدْمَةَ الرِّجَالِ غَيْرِ المَحَارِمِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الفِتْنَةِ.

 

 

(8)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: (مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ مُجَاهِدُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)؛ سَمَّاهُمْ مُكْرَمِينَ؛ لِخِدْمَةِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُمْ بِنَفْسِهِ.

وَقَالَ عَبْدُ الوَهَّابِ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عِيَاضٍ: عِنْدِي هَرِيسَةُ، فَامْضِ بِنَا، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا بِهِ وَمَعَهُ القُمْقُمَةُ وَالطَّسْتُ، وَعَلَى عَاتِقِهِ المِنْدِيلُ، فَقُلْتُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ!، لَوْ عَلِمْتُ يَا أَبَا الحَسَنِ أَنَّ الأَمْرَ هَكَذَا، قَالَ: هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّكَ عِنْدَنَا مُكْرَمٌ، وَالمُكرَمُ إِنَّمَا يُخْدَمُ بالنَّفْسِ.

 

(9)

قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ ۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)

مِنَ الآدَابِ: افْتِتَاحُ المَجْلِسِ بِالكَلَامِ السَّارِّ، وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: (يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنفِّرُوا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ذَهَبَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَطَائِفَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ، إِلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ لِلنَّزِيلِ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ.

 

 

(10)

عَنْ صَفِيَّةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قالَتْ: "أَوْلَمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ". أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.

الحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الوَلِيمَةِ بِمَا تَيَسَّرَ، وَإِنْ قَلَّ، وَقَدْ أَهْدَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ مِائَةَ بَدَنَةٍ.

وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ، فَدَعَا لَهُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ نَهَانَا أَنْ يَتَكَلَّفَ أَحَدُنَا لِصَاحِبِهِ؛ لَتَكَلَّفْنَا لَكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

 

(11)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لو دُعِيتُ إلى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

هَذَا مِنْ تَواضُعِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ أُسْوَتُنَا.

مَرَّ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – بِمَسَاكِينَ، وَقَدْ نَشَرُوا كِسَرًا مِنَ الخُبْزِ عَلَى الأَرْضِ، وَهُمْ يَأْكُلُونَ، فَقَالُوا لَهُ: هَلُمَّ إِلَى الغَدَاءِ يَا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –، فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُتَكَبِّرِينَ، وَنَزَلَ مِنْ بَغْلَتِهِ وَأَكَلَ مَعَهُمْ.

 

 

(12)

عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يُدْعَى إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالإِهالَةِ السَّنِخَةِ، فَيُجِيبُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِنَحْوِهِ، وَقَدْ صُحِّحَ، وَيُرْوَى أَنَّ يَهُودِيًّا دَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وذَكَرَهُ".

"الإِهَالَةُ": الوَدَكُ، وَ"السَّنِخَةُ": المُتَغَيِّرَةُ.

وَفِيهِ تَوَاضُعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجَوَازُ إِجَابَةِ دَعْوَةِ الكَافِرِ؛ تَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ، مَا لَمْ تَكُنْ دَعْوَتُهُ تَشْتَمِلُ عَلَى مُحَرَّمٍ أَوْ بِدْعَةٍ.

 

(13)

رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ".

فَالجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ لِوَلِيمَةِ العُرْسِ، وَقَالَ آخَرُونَ بِالوُجُوبِ مُطْلَقًا، وَحَمَلَ آخَرُونَ الأَمْرَ عَلَى الاسْتِحْبَابِ مُطْلَقًا.

وَالوُجُوبُ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَخُصَّهُ بِالدَّعْوَةِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَا يُتَأَذَّى بِحُضُورِهِ مِنْ مُنْكَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ.

 

 

(14)

قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ)

تُسْتَحَبُّ الزِّيَارَةُ فِي اللهِ فِي الوَقْتِ المُنَاسِبِ، وَيَنْبَغِي الاسْتِئْذَانُ عِنْدَ النُّزُولِ عَلَى أَهْلِ البَيْتِ، وَلَا يَتَرَقَّبُ وَقْتَ الوَجْبَةِ؛ لِئَلَّا يُحْرِجَ أَهْلَ البَيْتِ.

قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: أَيْ غَيْرَ مُتَحَيِّنِينَ نُضْجَ الطَّعَامِ وَاسْتِواءَهُ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّطْفِيلِ.

 

(15)

قَالَ تَعَالَى: (وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا)

يُسْتَحَبُّ دَعْوَةُ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالمُحْتَاجِينَ لِلطَّعَامِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الأَغْنِيَاءِ وَالوُجَهَاءِ؛ مَحَبَّةً فِي اللهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ تُدْعَى لَهَا الأَغْنِيَاءُ وَتُتْرَكُ الفُقَرَاءُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 

(16)

قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ)

صَحَّحَ النَّوَوِيُّ وُجُوبَ الأَكْلِ عَلَى مَنْ دُعِيَ، وَرَجَّحَهُ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَهُوَ قَوْلٌ وَجِيهٌ، وَلَكِنْ مَنْ لَهُ عُذْرٌ لَا يَلزَمُهُ الأَكْلُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الطَّعَامِ فَقَدْ حَانَ وَقْتُ الانْصِرَافِ، وَلَوْ كَانَ الحَدِيثُ شَيِّقًا، إِلَّا أَنْ يَرْغَبَ صَاحِبُ البَيْتِ فِي بَقَائِهِمْ، أَوْ بَقَاءِ بَعْضِهِمْ.

 

آدَابُ «الاسْتِئْذَانِ»، وَأَحْكَامُهُ

(17)

قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا)

قَالَ البُخَارِيُّ: بَابُ الاسْتِئْذَانِ وَالتَّسْلِيمِ ثَلَاثًا، عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرُوِيَ فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى: (قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، أَيُؤْذَنُ لِأَبِي مُوسَى - أَوْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ؟ - ثَلَاثًا، فَلَمْ يُكَلَّمْ فَانصَرَفَ).

وَلِلْمُسْتَأذِنِ أَنْ يَزِيدَ إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ.

 

(18)

قَالَ تَعَالَى: (فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ)

إِذَا لَمْ يَجِدِ المَدْعُوُّ أَوِ الزَّائِرُ فِي البَيْتِ أَحَدًا حَرُمَ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِيهِ، وَالانْتِظَارُ دَاخِلَهُ، إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ البَيْتِ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى اللهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ - (لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ) - الدُّخُولَ بِغَيْرِ إِذْنٍ إِلَى البُيُوتِ الَّتِي لَا يَسكُنُهَا أَحَدٌ، إِذَا كَانَ لَهُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، كَالبَيْتِ المُعَدِّ لِلضَّيْفِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانٍ.

 

 

(19)

قَالَ تَعَالَى: (وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ)

إِنْ لَمْ يُؤذَنْ لِلزَّائِرِ بِالدُّخُولِ بِأَيِّ عِبَارَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ فَلَا يَقِفُ عِنْدَ البَابِ، وَالتَّلَطُّفُ فِي العِبَارَةِ، وَلُطْفُ الاعْتِذَارِ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ.

قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ بَعْضُ المُهَاجِرِينَ: لَقَدْ طَلَبْتُ عُمْرِي كُلَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَمَا أَدْرَكْتُهَا: أَنْ أَسْتَأْذِنَ عَلَى بَعْضِ إِخْوَانِي، فَيَقُولَ لِي: "ارْجِعْ"، فَأَرْجِعَ وَأَنَا مُغْتَبِطٌ.

 

(20)

قَالَ تَعَالَى: (وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ)

أَيْ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، إِذَا دَخَلْتُمْ هَذِهِ البُيُوتَ بِطُرُقٍ شَرْعِيَّةٍ، فِي الأَكْلِ مِنْهَا، إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ.

 

(21)

ثَبَتَ عَنْ رِبْعِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - ﷺ - وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - ﷺ - لِخَادِمِهِ: "اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ"، فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ - ﷺ - فَدَخَلَ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ.

 

 

(22)

ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ، لَمْ يَسْتَقْبِلِ البَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الأَيْمَنِ أَوِ الأَيْسَرِ، وَيَقُولُ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ"، وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

فَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذِنِ عَلَى أَهْلِ المَنْزِلِ؛ أَلَّا يَقِفَ مُستَقْبِلَ البَابِ بِوَجْهِهِ؛ لِئَلَّا يَرَى مَعَ فَتْحِ البَابِ دَاخِلَ البَيْتِ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ.

وَثَبَتَ فِي الحَدِيثِ: "هَكَذَا عَنْكَ، أَوْ هَكَذَا، فَإِنَّمَا الاسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

 

(23)

عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - ﷺ - فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ البَابَ، فَقَالَ: "مَنْ ذَا؟"، فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: "أَنَا، أَنَا"، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُصَرِّحَ بِاسْمِهِ، أَوْ يُفْصِحَ بِمَا يُعْرَفُ بِهِ مِنْ لَقَبٍ، أَوْ كُنْيَةٍ مَشْهُورَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

 

(24)

عَنْ زَيْنَبَ - امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ عَبْدُ اللهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ، فَانْتَهَى إِلَى البَابِ، تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَهْجُمَ مِنَّا عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.

وَعَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَتَنَحْنَحَ، أَوْ يُحَرِّكَ نَعْلَيْهِ.

 

 

(25)

قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا)؛ قَالَ: هُوَ الاسْتِئْذَانُ. قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ: الاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَمَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِنَّ، فَلْيَرْجِعْ. أَمَّا الأُولَى: فَلِيُسْمِعَ الحَيَّ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَإِنْ شَاءُوا أَذِنُوا، وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا، وَلَا تَقِفَنَّ عَلَى بَابِ قَوْمٍ رَدُّوكَ عَنْ بَابِهِمْ؛ فَإِنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ، وَلَهُمْ أَشْغَالًا، وَاللهُ أَوْلَى بِالعُذْرِ.

 

(26)

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: كَانَتْ أَبْوَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُقْرَعُ بِالأَظَافِيرِ؛ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ.

فَطَرْقُ البَابِ يَكُونُ بِرِفْقٍ، وَكَذَلِكَ دَقُّ المُنَبِّهِ (الجَرَسِ)، وَالمَقْصُودُ الإِسْمَاعُ مِنْ غَيْرِ إِزْعَاجٍ، فَلَا يَطْرُقُ بِعُنْفٍ، وَلَا يَعْلَقُ بِالجَرَسِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي أَهْلَ الدَّارِ.

 

(27)

عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَدْخُلُ؟ وَلَمْ يُسَلِّمْ، فَقُلْ: لَا، حَتَّى تَأْتِيَ بِالمِفْتَاحِ؛ فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ.

وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَنَظَرَ إِلَى مَا فِي البَيْتِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَمَّا بِعَيْنِكَ فَقَدْ دَخَلْتَ!.

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ مَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنْ قَاعَةِ بَيْتٍ فَقَدْ فَسَقَ).

 

 

(28)

ذَكَرَ الخَطِيبُ فِي جَامِعِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ الوَاسِطِيِّ، قَالَ: قَدِمْتُ البَصْرَةَ، فَأَتَيْتُ مَنْزِلَ شُعْبَةَ، فَدَقَقْتُ عَلَيْهِ البَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: أَنَا؛ فَقَالَ: يَا هَذَا! مَا لِي صَدِيقٌ يُقَالُ لَهُ: أَنَا!

وَعَنْ سَلَّامٍ قَالَ: دَقَقْتُ عَلَى عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ البَابَ، فَقَالَ لِي: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا؛ فَقَالَ: لَا يَعْلَمُ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ.

قَالَ الخَطِيبُ: سَمِعْتُ عَلَيَّ بْنَ المُحْسِنِ القَاضِيَ يَحْكِي عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دُقَّ بَابُهُ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقَالَ الَّذِي عَلَى البَابِ: أَنَا، يَقُولُ الشَّيْخُ: أَنَا هُمْ دَقَّ.

 

(29)

رَوَى أَبُو بَكْرٍ الخَطِيبُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ المَلِكِ، مَوْلَى أُمِّ مِسْكِينِ بِنْتِ عَاصِمٍ، قَالَ: أَرْسَلَتْنِي مَوْلَاتِي إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَجَاءَ مَعِي، فَلَمَّا قَامَ بِالبَابِ قَالَ: أَنْدَرَايِيمْ؟ قَالَتْ: أَنْدَرُونْ.

وَذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: كَانَ الدَّرَاوَرْدِيُّ مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ، نَزَلَ المَدِينَةَ، فَكَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ: أَنْدَرُونْ، فَلَقَّبَهُ أَهْلُ المَدِينَةِ الدَّرَاوَرْدِيَّ.

فَلِكُلِّ قَوْمٍ فِي الاسْتِئْذَانِ عُرْفُهُمْ فِي العِبَارَةِ، مَا لَمْ تَكُنْ مَحْذُورَةً شَرْعًا.

 

(30)

قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)

أَيْ: فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا دَخَلْتَ المَسْجِدَ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَإِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ.

 

(31)

عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَستُرُهُ بِثَوْبٍ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ: (مَنْ هَذِهِ؟ قُلْتُ: أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّرْحِيبِ بِالزَّائِرِ، وَاللَّطَافَةِ لَهُ؛ فَمِنَ الإِكْرَامِ: إِظْهَارُ البِشْرِ، وَطَلَاقَةُ الوَجْهِ، وَالابْتِسَامَةُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

 

(32)

عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (ائْذَنُوا لَهُ، فَلَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَلَانَ لَهُ القَوْلَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ القَوْلَ!. قَالَ: (يَا عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ مَنْ وَدَعَهُ - أَوْ تَرَكَهُ – النَّاسُ؛ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِأَبِي دَاوُدَ: (يَا عَائِشَةُ، إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ الَّذِينَ يُكْرَمُونَ اتِّقَاءَ أَلْسِنَتِهِمْ).

دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ مُجامَلَةِ الزَّائِرِ غَيْرِ المَرْغُوبِ فِيهِ وَمُدَارَاتِهِ.

 

 

آدَابُ «السَّلَامِ وَالتَّحِيَّةِ» وَأَحْكَامُهُمَا

(33)

عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، سَلَّمَ ثَلَاثًا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ هَدْيَهُ فِي السَّلَامِ عَلَى الجَمْعِ الكَثِيرِ، الَّذِينَ لَا يَبْلُغُهُمْ سَلَامٌ وَاحِدٌ، أَوْ هَدْيَهُ فِي إِسْمَاعِ السَّلَامِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، إِنَّ ظَنَّ أَنَّ الأَوَّلَ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الإِسْمَاعُ، كَمَا سَلَّمَ لَمَّا انْتَهَى إِلَى مَنْزِلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ثَلَاثًا، فَلَمَّا لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ رَجَعَ.

 

(34)

عَنْ كَلَدَةَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ أُسَلِّمْ، وَلَمْ أَسْتَأذِنْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارْجِعْ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "السَّلَامُ قَبْلَ الكَلَامِ، لَا تَدْعُوا أَحَدًا إِلَى الطَّعَامِ حَتَّى يُسَلِّمَ". وَهَذَا وَإِنْ كَانَ إِسْنَادُهُ ضَعِيفًا، فَالعَمَلُ عَلَيْهِ.

 

 

(35)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الكَبِيرِ، وَالمَارُّ عَلَى القَاعِدِ، وَالقَلِيلُ عَلَى الكَثِيرِ). وَفِي رِوَايَةٍ: (يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى المَاشِي). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(وَالمَاشِيَانِ أَيُّهُمَا بَدَأَ فَهُوَ أَفْضَلُ). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالبُخَارِيُّ فِي المُفْرَدِ، قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ البَزَّارُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

هَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ السُّنَّةُ الكَامِلَةُ، وَلَوْ سَلَّمَ الكَبِيرُ عَلَى الصَّغِيرِ، دَخَلَ فِي سُنَّةِ: (أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

(36)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ المُسِيءِ صَلَاتَهُ: أَنَّهُ جَاءَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَقَالَ: (ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ)، فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

يُؤْخَذُ مِنْهُ: أَنَّ المُضِيفَ إِذَا ذَهَبَ - وَلَوْ قَرِيبًا دَاخِلَ البَيْتِ - ثُمَّ رَجَعَ إِلَى المَجْلِسِ؛ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ.

 

(37)

عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يُجْزِئُ عَنِ الجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، ويُجْزِئُ عَنِ الجَمَاعَةِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ). رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ؛ فَالسَّلَامُ مِنْ فُرُوضِ الكِفَايَاتِ ابْتِدَاءً وَرَدًّا، وَرَدُّ الجَمِيعِ أَقْرَبُ لِظَاهِرِ الآيَةِ.

 

(38)

ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: (إِذَا لَقِيَ أحَدُكُمْ أخاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُما شَجَرَةٌ، أَوْ جِدَارٌ، أَوْ حَجَرٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ؛ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَمَاشَوْنَ، فَإِذَا اسْتَقبَلَتْهُمْ شَجَرَةٌ أَوْ أَكَمَةٌ، فَتَفَرَّقُوا يَمِينًا وَشِمَالًا، ثُمَّ الْتَقَوْا مِنْ وَرَائِهَا، سَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ". رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، وَالبُخَارِيُّ فِي المُفْرَدِ، وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ المُنذِرِيُّ، وَالهَيثَمِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ.

 

(39)

ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى المَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ؛ فَلَيْسَتِ الأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ.

دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ السَّلَامِ بِدَايَةً وَنِهَايَةً، وَالرَّاجِحُ وُجُوبُ الرَّدِّ فِي الحَالَيْنِ.

 

 

(40)

ثَبَتَ عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ، إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

السُّنَّةُ المُصَافَحَةُ عِنْدَ اللِّقَاءِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ النَّخَعِيُّ: "مِنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ الأَخْذُ بِاليَدِ"، وَأَمَّا المُصَافَحَةُ عِنْدَ الفِرَاقِ فَمَسْكُوتٌ عَنْهَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ دَلِيلٌ مَنْطُوقٌ يَمْنَعُ مِنْهَا.

 

(41)

عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا لَقِيَ المُؤْمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ؛ تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ). قَالَ المُنْذِرِيُّ: "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي "الأَوْسَطِ"، وَرُوَاتُهُ لَا أَعْلَمُ فِيهِمْ مَجْرُوحًا".

دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ التَّصَافُحَ عِنْدَ اللِّقَاءِ مِنَ القُرُبَاتِ، وَمَا دَامَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَهْيٌ عَنْ مُصَافَحَةِ الدَّاخِلِ لِأَهْلِ المَجْلِسِ، فَلَا يَنْبَغِي التَّشْدِيدُ فِي ذَلِكَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا فِي ذِكْرٍ أَوْ شُغُلٍ، أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ.

 

(42)

عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنْ أَرْضِ "الحَبَشَةِ"، خَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَانَقَهُ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيَّ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَقَدْ صُحِّحَ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ "اعْتَنَقَ زَيْدًا وَقَبَّلَهُ". خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.

وَلَمْ يَثْبُتْ فِي المُعَانَقَةِ حَدِيثٌ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ آثَارٌ فِي مُعَانَقَةِ القَادِمِ مِنْ سَفَرٍ.

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَنِقُ القَادِمَ مِنْ سَفَرِهِ".

 

(43)

رَوَى أَبُو دَاوُدَ مُرْسَلًا، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي "الكَبِيرِ"، مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ: "أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّى جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَالْتَزَمَهُ، وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ".

الالْتِزَامُ عِنْدَ لِقَاءِ القَادِمِ مِنْ سَفَرٍ جَائِزٌ، وَالاتِّبَاعُ يَحْصُلُ بِالمُعَانَقَةِ، وَهِيَ مُخالَفَةُ العُنُقَيْنِ.

قَالَ البَغَوِيُّ: "فَأَمَّا المَأْذُونُ فِيهِ، فَعِنْدَ التَّوْدِيعِ، وَعِنْدَ القُدُومِ مِنَ السَّفَرِ، وَطُولُ العَهْدِ بِالصَّاحِبِ، وَشِدَّةُ الحُبِّ فِي اللهِ".

 

(44)

ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: (كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا تَلَاقَوْا تَصَافَحُوا، وَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعانَقُوا). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ، وَقَالَ المُنْذِرِيُّ: رُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ. وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

المُعَانَقَةُ: الأَصْلُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ عِنْدَ القُدُومِ مِنَ السَّفَرِ، وَطُولِ الغَيْبَةِ، وَأَمَّا الانْحِنَاءُ فَلَا يَجُوزُ.

 

(45)

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى سَعْدٍ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ القِيَامُ لِإِنْزَالِهِ لِمَرَضِهِ.

وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: "القِيَامُ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ البِرِّ وَالإِكْرَامِ، كَمَا كَانَ قِيَامُ الأَنْصَارِ لِسَعْدٍ، وَقِيَامُ طَلْحَةَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ".

 

 

(46)

ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا؛ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي جَوَازِ القِيَامِ لِلْقَادِمِ عَلَى أَقْوَالٍ: الجَوَازُ، وَالمَنْعُ، وَالتَّفصِيلُ.

وَثَبَتَ حَدِيثُ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ).

 

(47)

عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: (مَا رَأَيتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا، وَقَالَ الحَسَنُ: حَدِيثًا وَكَلَامًا – وَلَمْ يَذْكُرِ الحَسَنُ السَّمْتَ وَالهَدْيَ وَالدَّلَّ – بِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فَاطِمَةَ، كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا، فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ، وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ القِيَامِ إِلَى القَادِمِ لِإِجْلَاسِهِ وَإِكْرَامِهِ، وَفِيهِ تَقْبِيلُ رَأْسِ أَوْ يَدِ صَاحِبِ الفَضْلِ وَالمَكَانَةِ؛ كَالوَالِدِ وَالعَالِمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

 

 

(48)

عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: (أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي، كَأَنَّ مِشْيَتَها مَشْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَرْحَبًا يَا ابْنَتِي، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

الآبَاءُ وَالأَوْلَادُ وَالأَرْحَامُ أَوْلَى بِالإِكْرَامِ وَالتَّقْدِيرِ، وَفِيهِ التَّرْحِيبُ بِالزَّائِرِ، وَإِجْلَاسُهُ فِي المَكَانِ المُنَاسِبِ.

 

(49)

فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَنْصَرِفُونَ مِنَ الجُمُعَةِ، فَيَمُرُّونَ عَلَى عَجُوزٍ فِي طَرِيقِهِمْ، فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهَا، فَتُقَدِّمُ لَهُمْ طَعَامًا مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ وَالشَّعِيرِ.

فِيهِ اسْتِحْبَابُ إِكْرَامِ الزَّائِرِ، وَتَقْدِيمُ الطَّعَامِ لَهُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ زِيَارَةِ الرِّجَالِ لِكَبِيرَةِ السِّنِّ مِنَ القَوَاعِدِ، وَالسَّلَامِ عَلَيْهَا، وَتَقْدِيمِهَا الطَّعَامَ لِزُوَّارِهَا.

 

(50)

عن سَهْل بن أَبِي حَثْمَة، قال: انطلق عبد الرحمن بن سهل، ومُحَيِّصَة وحُوَيِّصَة ابْنَا مسعود إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «كَبِّر كَبِّر - وهو أَحْدَث القوم - فَسَكَت، فَتَكَلَّمَا». متفق عليه.

يدل على تقديم الأكبر سنًّا، أو الأكثر عِلْمًا، على مَن دُونَه في الكلام، والمكان، ونحو ذلك.

 

 

(51)

قال البخاري:‏ ‏(‏باب خِدْمَة الصِّغَار الكِبَار‏)‏؛ ذكر فيه حديث أنس: ‏"‏كنت قائمًا على الحَيِّ أَسقِيهِم وأنا أَصْغَرُهُم‏"‏.

أما ما رُوِي عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خادم القوم سَيِّدُهُم، وساقيهم آخِرُهُم شُرْبًا"؛ فهو حديث ضعيف.

 

(52)

عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أُرَانِي أَتَسوَّك بِسِواكٍ، فجاءني رَجُلان؛ أحدهما أَكْبَر مِن الآخَر، فناولْتُ السِّواكَ الأَصْغَرَ منهما؛ فقيل لي: كَبِّرْ، فَدَفَعتُهُ إلى الأَكْبرِ منهما. رواه البخاري.

يدل على تقديم الأَكْبَر سِنًّا على مَن دُونَه في العُمر بالمصافحة، والدخول، والخروج، وكذلك - إذا لم يَكُن أَحدُهما عن يمينه، والآخَر عن شماله - في الطعام والشراب.

 

(53)

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سَقَى قال: ابْدَؤُوا بالكبير، أو قال: بالأَكابِر. أخرجه أبو يَعْلَى. قال ابنُ حَجَر: بسند قَوِيّ.

يبدأ بإعطاء الأكبر سِنًّا وفَضْلًا على الأصغر، إذا كانوا يَجلِسون متساوين؛ كأن يَكُونُوا بين يديه، أو عن يساره، أو خَلْفِه ونحو ذلك، وسواء كان شرابًا أو غَيْرَه.

 

 

(54)

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شَرِب لبنًا، وعن يساره أبو بكر - رضي الله عنه -، وعن يمينه أعرابي؛ فقال عمر - رضي الله عنه -، وخاف أن يُعْطِيه الأعرابي: أَعْطِ أبا بكر يا رسول الله عندك، فأعطاه الأعرابي الذي عن يمينه، ثم قال: الأيْمَنَ فالأيْمَنَ. أخرجه البخاري.

إذا جلس بعضهم عن يمين الرئيس، وبعضهم عن يساره، فيُقَدَّم الرئيس، أو الكبير، أو الطالب للماء، ثم هو يُقَدِّم مَن على يمينه، وإن أَدَّى إلى تقديم الصغير على الكبير، والمفضول على الفاضل.

 

(55)

عن سَهْل بن سَعْد - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِي بشراب فَشَرِب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: أتَأْذَن لي أن أُعطِي هؤلاء؟ فقال الغلام: والله يا رسول الله، لا أُوثِر بنصيبي منك أحدًا، قال: فَتَلَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يَدِه". رواه البخاري.

يدل على تقديم الأيمن - وإن كان صغيرًا - على الأيسر - وإن كان كبيرًا - إلا أن يَأْذَن.

 

 

(56)

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أَهْدَت خالتي - أُمُّ حُفَيْد - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَمْنًا ولَبَنًا، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - اللَّبَن فَشَرِب منه، ثم قال لابن عباس وهو عن يمينه: أما إن الشَّرْبَة لك، ولكن أتَأْذَن أن أَسْقِي عَمَّك، فقال ابن عباس: قُلتُ: لا والله، ما أنا بمُؤْثِر على سُؤْرِك أحدًا، قال: فأَخَذْتُه فشَرِبْت ثم أَعْطَيتُه. رواه أحمد وغَيْرُه.

دل على تقديم الشخص مَن على يمينه، فإن كانوا جميعًا على يمينه، فيُقَدِّم مَن يَلِيه، فإن كان أحدهما أَكْبَر، فالأَظْهَر تقديم الأكبر.

 

(57)

عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قُلتُ: يا رسول الله، إن لي جَارَيْنِ، فإلى أَيِّهِما أُهْدِي؟ قال: إلى أَقْربِهِما مِنكِ بابًا. رواه البخاري.

أفاد الحديث أَولَويَّة الأَقْرَب، وتقديمه في البِرّ والإحسان على الأَبْعَد مكانًا أو قَرَابَة.

 

 

(58)

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ)

هذا الخطاب عام في جميع المجالس، فينبغي التوسُّع والتفسُّح بأن يَتوسَّعوا فيما بينهم، وأن يَنْضَم بعضهم إلى بعض، وللجالس أن لا يُفْسِح لمن يَحْصُل منه أَذًى وضَرَر.

 

 

(59)

عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (لا يُقِيمَنَّ أحدكم رَجُلًا مِن مَجلِسِه ثم يَجْلِس فيه، ولكن تَوسَّعوا وتَفسَّحوا وكان ابن عمر إذا قام له رَجُل مِن مَجلِسِه لم يَجلِس فيه). متفق عليه.

النهي للتحريم على الأرجح، وللداخل أن يقول: تَوسَّعوا وتَفسَّحوا.

 

(60)

عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه نَهَى أن يُقام الرَّجُل مِن مَجلِسِه ويَجلِس فيه آخَر، ولكن تَفسَّحوا وتَوسَّعوا». وكان ابن عمر يَكْرَه أن يَقُوم الرَّجُل مِن مَجلِسِه، ثم يَجلِس مكانه. رواه البخاري وغَيْرُه.

الأصل في إقامة الشخص مِن مكانه؛ لِيَجْلِس فيه غَيْرُه دون رِضًى منه: التحريم، والإيثار بالمَجلِس لا بَأْس به.

 

 

(61)

أَخْرَج أبو داود، وقد حُسِّن، عن ابن عمر: "جاء رَجُل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام له رَجُل من مَجلِسِه، فذهب ليَجلِس، فنهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم –".

"وله أيضًا: جاءنا أبو بكرة، فقام له رَجُل من مَجلِسِه، فأبى أن يجلس فيه، وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذا". وأخرجه الحاكم وصححه من هذا الوجه، لكن لفظه مثل لفظ ابن عمر الذي في الصحيح.

فالورع في مثل هذا مطلوب، إلا أن يَبَرّ بيمين القائم من مَجلِسِه.

 

(62)

عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قام أَحَدُكم، وفي رواية: مَن قام مِن مَجلِسِه، ثم رَجَع إليه، فهو أحَقُّ به. رواه مسلم.

هذا حق واجب - على الراجح - ما لم يَطُلِ الفَصْل.

 

(63)

عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يَحِلّ لرَجُل أن يُفَرِّق بين اثنين إلا بإذنهما». رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. ولأبي داود: «لا يَجلِس بين رَجُلَيْن إلا بإذنهما».

لا يَجُوز التفرقة بين اثنين ما دام فيه أَذًى لهما، أو ضرر عليهما، كأن يكون بينهما كلام في مصلحة لهما، اللهم إلا أن يَأْذَنَا.

 

 

(64)

عن جابر بن سَمُرَة - رضي الله عنهما - قال: "كنا إذا أتينا النبي – صلى الله عليه وسلم - جَلَس أَحَدُنا حيث يَنتَهي". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وحَسَّنَه، والنسائي، وقد صُحِّح.

دل على استحباب هذا الأدب الكبير، وهو الجلوس في المكان الذي يَنتَهي إليه بَعْد المصافحة، أو قَبْلَها.

 

(65)

عن هند بن أبي هالة، قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَجلِس ولا يَقُوم إلا على ذِكْر، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث يَنتَهِي به المَجلِس، ويَأمُر بذلك، ويُعطِي كل جلسائه بنصيبه". رواه الطبراني، وفيه من لم يُسَمّ.

وهذا مِن هَدْيِهِ - صلى الله عليه وسلم - الذي يُعْرَف مِن سيرته؛ فيُتَأَسَّى به فيه.

 

(66)

ثبت عن أبي ذَرّ، وأبي هريرة - رضي الله عنهما - قالا: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَجْلِس بين ظَهْرَي أصحابه، فيَجِيء الغريب فلا يَدْرِي أَيّهم هو، حتى يَسْأَل). رواه أبو داود والنسائي. وفي الصحيح: «أَيُّكُم محمد؟».

يدل على استحباب التواضع، ومَن تَوَاضَع لله رَفَعَه.

 

 

(67)

عن أبي مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (لِيَلِنِي منكم أُولُو الأَحلَام وَالنُّهَى، ثم الذين يَلُونَهُم، ثم الذين يَلُونَهُم). رواه مسلم.

يدل على فَضْل القُرْب من العالِم والواعظ والمُرشِد.

قال ابن كثير: وإذا كان هذا أَمْرَه لهم في الصلاة، فبطريق الأَوْلَى أن يَكُون ذلك في غير الصلاة.

 

(68)

عن أنس، أن جَرِير بن عبد الله، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَطَرَح له رِدَاءَه، وأَجْلَسَه عليه، وقال: (إذا أتاكم كريم قَوْمٍ فأَكرِمُوه). رواه الأصبهاني وغَيْرُه، وله شواهد كلها ضعيفة، قَوَّاه مَن قَوَّاه بها، ورواه أبو داود عن الشَّعْبِيّ مُرسَلًا بسند صحيح.

ويستفاد منه: أن لشَرِيف القوم احترامًا وتقديرًا وإكرامًا خاصًّا.

 

(69)

قال تعالى: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)

"الصَّدَقة" تَعُمّ أعمال الخير، و"المعروف": يَعُمّ أعمال البِرّ، و"الإصلاح بين الناس": عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يَقَع التداعي والاختلاف فيه بَيْن المسلمين.

 

 

(70)

عن أبي شُرَيْح الخُزاعِيّ - رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: (مَنْ كان يُؤمِن بالله واليوم الآخِرِ، فَليَقُل خيرًا أو لِيَسْكُتْ). رواه مسلم.

وروى ابن مَرْدَوَيْه عن أم حبيبة تَرْفَعُه: "كلام ابن آدم كله عليه لا له، ما خلا أَمْرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، أو ذِكْرَ الله عز وجل".

قال سفيان: أو ما سمعتَ الله يقول في كتابه: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ...) الآية.

 

(71)

ثَبَت عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (ما مِن قوم يقومون مِن مجلس لا يَذكُرُون الله تعالى فيه، إلا قاموا عن مِثل جِيفَة حمار، وكان لهم حَسْرَة). رواه أبو داود، قال النووي: بإسناد صحيح.

إعمار المجلس بالذِّكْر يُدْخِل في عظيم الوعد، وقليله يُخْرِج من الوعيد.

 

(72)

عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما -، أنهما شَهِدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يَقْعُد قوم يَذْكُرُون الله - عز وجل - إلا حَفَّتْهُم الملائكة، وغَشِيَتْهُم الرحمة، ونَزَلَت عليهم السَّكِينَة، وذَكَرَهُم الله فيمن عنده). رواه مسلم.

التعليم، والموعظة، والتوجيه، والإرشاد الديني؛ داخل في هذا الفضل العظيم، وإن كان ذلك في المَنزِل.

 

 

(73)

عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ما يَمْنَعُني أن أُحَدِّثَكُم إلا كراهية أن أُمِلَّكُم، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَتَخَوَّلُنَا بالموعظة في الأيام؛ كراهية السَّآمَة علينا. متفق عليه.

ويستفاد من مقاصده الرِّفْق بالناس، فلا إفراط ولا تفريط، التوسط حَسَن، فلا يطاع أهل الغفلة، ولا يُقتَدى بمن يَشِحّ بلحظات وَقْتِه في التعارف، ومعرفة الأحوال، والأخبار الحَسَنة، والطُّرَف الجميلة.

 

(74)

ذَكَر الطبراني عن أَبِي مَدِينَة، قال: كان الرَّجُلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا، لم يَتفرَّقا إلا على أن يَقْرَأ أحدهما على الآخر "سورة العصر" إلى آخرها، ثم يُسَلِّم أحدهما على الآخَر.

سورة عظيمة تَحْمِل مقاصد جليلة. قال الشافعي - رحمه الله -: لو تَدبَّر الناس هذه السورة، لوَسِعَتْهُم.

 

(75)

ثَبَت عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن جَلَس في مجلس، فكَثُر فيه لَغَطُه، فقال قَبْل أن يَقُوم مِن مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غُفِر له ما كان في مجلسه ذلك». رواه أبو داود، والترمذي.

لا ينبغي التفريط في هذا الذِّكْر؛ فما أَكْثَر لَغَطَنا، وسماعنا لِلَغَط غَيْرِنا!.

 

(76)

 ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ: «اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا». رواه الترمذي والنسائي وصححه الحاكم والذهبي. فهذه سنة ينبغي الحفاظ عليها.

 

(77)

عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، قال: أَخَذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بلسانه وقال: كُفَّ عليك هذا. قلت: يا نبي الله، وإنا لمُؤاخَذون بما نَتكَلَّم به؟ فقال: ثَكِلَتْك أُمُّك! وهل يَكُبّ الناسَ على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حَصائِدُ ألسنتهم؟!". رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

يَغلِب في كثير من المجالس القيل والقال، فالحَذَرَ الحَذَرَ من آفات اللسان وفَلتَاتِه.

 

 

(78)

عن المِقْدَاد، قال: (رَفَع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه إلى السماء، فقال: اللهم أَطْعِم مَن أَطْعَمَني، وأَسْقِ مَن أَسقَاني، قال: فانطلقت إلى الأَعْنُز، فَعَمَدْت إلى إناء لآل محمد - صلى الله عليه وسلم - ما كانوا يَطْمَعُون أن يَحتَلِبوا فيه، قال: فَحَلَبْت فيه حتى عَلَتْه رَغْوَة، فَجِئْت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقلت: يا رسول الله، اشْرَب، فشَرِب). رواه مسلم.

يُؤخَذ منه الدعاء لمن سعى في تقديم الطعام والشراب، قَبْل الأكل والشرب.

 

(79)

عن عبد الله بن بُسْر، قال: نَزَل رسول الله على أَبِي، فقَرَّبْنا إليه طعامًا ووَطْبَة، فأَكَل منها ثم أُتِي بتَمْر، فكان يَأكُلُه، ويُلقِي النَّوَى بَيْن إِصبَعَيْه، ويَجْمَع السبابة والوسطى، ثم أُتِي بشراب فَشَرِبَه، ثم ناوله الذي عن يمينه، فقال أَبِي - وأَخَذ بلِجَام دَابَّتِه -: ادْعُ الله لنا، فقال: «اللهم بارك لهم في ما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم». رواه مسلم.

يُستَحَبّ للضيف الدعاء بهذا لأهل البيت الذين ضَيَّفوه، وقَدَّموا له الطعام والشراب.

 

(80)

ثَبَت عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى سعد بن عُبَادة، فجاء بخُبْز وزَيْت، فأَكَل، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أَفْطَر عندكم الصائمون، وأَكَل طعامكم الأبرار، وصَلَّتْ عليكم الملائكة). رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصححه النووي، وابن المُلَقِّن، والعراقي.

وفي الحديث: تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمَّتَه الدعاء لمن أطعمهم أو سقاهم، خاصة لمن كان صائمًا، وهذا من آداب الضيافة، وشُكْر المعروف، ومكافأة المُضِيف.

(81)

عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين ومائة، فاشترى شاة فصُنِعَت، وأَمَر بِسَوَاد البطن أن يُشْوَى، قال: وَايْمُ اللهِ، ما من الثلاثين ومائة إلا حَزَّ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُزَّة حُزَّة مِن سَوَاد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاه، وإن كان غائبًا خَبَأ له. رواه مسلم.

من القُرَب: الجود، والإكرام، وتقديم ما تيسر مما لذ وطاب، ومباشرة خدمة الرفقة والأصحاب، وإطعامهم جميعًا، حاضرهم وغائبهم.

 

(82)

عن أَبِي جُحَيْفَة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا آكُل مُتَّكِئًا". رواه البخاري.

الاتكاء خلاف السُّنَّة. واختُلِف في صفته؛ فمنهم من قال: يتمكن في الجلوس للأكل على أي صفة، كالتربع ونحوه، وقيل: يَمِيل على أحد شِقَّيْه معتمدًا على مُتَّكَأ، أو على يده. فالمُتَّكِئ مُطمَئِنّ في جلسته، مما يجعله يأكل كثيرًا بخلاف المُسْتَوْفِز.

 

(83)

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مُقْعِيًا يأكل تَمْرًا". رواه مسلم.

الإقعاء: أن ينصب ساقيه ويجلس بأليتيه على عقبيه وهذه قعدة مسنونة ويجلسها المتواضع المستقل من الأكل فالمتكبر والمستكثر من الأكل لا يقعد مقعيا محتفزا ولا يلزم وجود الكبر فيمن قعد على هيئة غيرها.

 

(84)

ثَبَت عن عبد الله بن بُسْر، قال: أُهْدِيَتْ للنبي - صلى الله عليه وسلم – شاة، فَجَثا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رُكْبَتَيْه يَأْكُل، فقال أعرابي: ما هذه الجِلْسَة؟ فقال: (إن الله جعلني عَبْدًا كريمًا، ولم يجعلني جَبَّارًا عنيدًا). رواه أبو داود، وابن ماجه.

الجَثْو على الرُّكْبَتَيْن، هو القعود على الركبتين، والسَّاقَيْن، وظُهُور القَدَمَيْن، وهذه جِلْسَة نبوية وإن كَرِه المتكبرون.

وقد رَوَى أبو الحَسَن بن المُقْرِي، مِن حديث أَنَس: "كان إذا قعد على الطعام اسْتَوْفَز على رُكْبَتِه اليُسْرَى، وأقام اليُمْنَى" وإسناده ضعيف. وذكر ابن حَجَر أنها مُستحَبَّة.

 

(85)

عن كَعْب بن مالك - رضي الله عنه -، قال: (رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يَأْكُل بثلاث أصابع، فإذا فَرَغ لَعِقَها). رواه مسلم.

الأكل بثلاث أصابع وهي - والله أعلم - الإِبْهَام والمُسَبِّحَة والوُسْطى، سُنَّة في الطعام الذي يَتَأَتَّى على هذه الصفة، وليس الأَكْل بالمِلْعَقَة وإن حُمِلَتْ بالأصابع الثلاث سُنَّة، أو الأَكْل بِأَقَلّ مِن ثلاث، ولا مانع مِن الأَكْل بالخَمْس والراحة، ولكن ينبغي تَجَنُّب الشَّرَه في الأَكْل.

 

 

(86)

ثَبَت عن المِقْدَام، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما مَلَأ آدَمِيّ وِعاءً شَرًّا مِن بَطْن، بِحَسْب ابن آدم أُكُلَات يُقِمْن صُلْبَه، فإن كان لا مَحَالَة، فثُلُث لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنَفَسِه» رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حَسَن.

قال ابن ماسوَيْه الطبيب: "لو اسْتَعْمَل الناس هذه الكلمات، سَلِمُوا من الأمراض".

ولا مانع من الشِّبَع أحيانًا، ففي الصحيح: أن أبا هريرة، قال: (فما زال رسول الله يقول: اشْرَب؛ يعني: لَبَنًا، حتى قُلتُ: لا والذي بَعَثَك بالحق، ما أَجِد له مَسْلَكًا).

 

(87)

عن عمر بن أبي سلمة، قال: «كنت غلامًا في حِجْر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت يَدِي تَطِيش في الصَّحْفَة، فقال لي: يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مِمَّا يَلِيك». متفق عليه.

دل الحديث على تعليم الصغار آداب الطعام، وعلى وجوب التسمية على الطعام عند البدء في الأَكْل، ومِثْلُه الشُّرْب، وعلى وجوب الأَكْل باليمين وَحْدَها، دون مشاركة الشمال، إلا لعُذْر، وعلى الأَكْل من المكان الأقرب إليه، إلا أن يكون الطعام ألوانًا، فله أن يَتَتَبَّعَه مِن غَيْر إيذاء للآكلين.

 

 

(88)

ثَبَت عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أَكَل أَحَدُكُم طعامًا، فَلْيَقُل: بسم الله، فإن نَسِي في أَوَّلِه، فَلْيَقُل: بسم الله على أَوَّلِه وآخِرِه». رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي وَصَحَّحَه.

صيغة التسمية عند الأكل: "بسم الله" مَرَّة واحدة، ومتى ذَكَرَها الناسي أَتَى بها، ومن فوائدها: حلول البركة في الطعام، وحِرْمان الشيطان منه.

 

(89)

عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يَأْكُل أَحَدُكُم بشماله، ولا يَشْرَب بشماله، فإن الشيطان يَأْكُل بشماله، ويَشْرَب بشماله». رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي وصَحَّحَه.

دل الحديث على تحريم الأَكْل أو الشُّرْب بالشمال، إلا لعُذْر مُعتَبَر، كوجود جبيرة عليها، وليس وجود أَثَر الطعام باليد اليُمْنَى مُسَوِّغًا للشرب باليد اليُسْرَى.

 

(90)

عن حذيفة - رضي الله عنه -، قال: (كنا إذا حَضَرْنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم – طعامًا، لم نَضَع أيدينا، حتى يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَيَضَع يده). رواه مسلم.

أفاد الحديث: أن من الآداب المَرْعِيَّة؛ أن يَبْدَأ رئيس المَجْلِس وكبيرهم بالأكل، ثم يَبْدَأ الباقون، والنَّهَم والشراهة على مائدة الطعام مذمومان، وقد قيل:

وَإِنْ مُدَّتِ الأَيْدِي إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ ... بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ القَوْمِ أَعْجَلُ

 

(91)

عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -، قال: (ما عَلِمْت النبي - صلى الله عليه وسلم - أَكَل على سُكْرُجَة قط، ولا خُبْزَ له مُرَقَّق قَطّ، ولا أَكَل على خِوَانٍ قَطّ). قيل لقتادة: فَعَلَامَ كانوا يَأْكُلُون؟ قال: على السُّفَر. رواه البخاري.

وفي حديث أنس عند البخاري: «أَمَر النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالأَنطَاع فَبُسِطَتْ، فَأُلقِيَ عليها التَّمْر، والأَقِطُ، والسَّمْن».

"الخوان": في معنى الطاولة القصيرة.

"السكرجة": إناء للمُخَلَّلات ونحوها للتَّشَهِّي والهَضْم.

يُستَفَاد من الحديث التواضع، والزهد، والاقتصار على ما يَسُدّ الجوع، دون حاجة إلى ما يَفْتَح الشَّهِيّة، أو يُهَضِّم الأَكْل.

ودَلّ على أن الجلوس على الأرض للأَكْل، ووضع الطعام على سُفْرَة فوق الأرض مباشرة سُنَّة نبوية، ويَجُوز الأَكْل على الكراسي والطاولة مِن غَيْر كراهة. والله أعلم.

 

(92)

عن ابن عمر، قال: (نَهَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَأْكُل الرَّجُل وهو مُنبَطِح على وجهه). رواه ابن ماجه، وقد صُحِّح.

الأصل في النَّهْي التحريم، والأَكْل حال الانبطاح والاضطجاع والاتكاء، فيه مُخالَفَة للسُّنَّة، وَضَرَر بالصحة، أَخْرَج ابن أَبِي شَيْبَة من طريق إبراهيم النَّخَعِيّ، قال: كانوا يَكْرَهُون أن يَأكُلُوا تُكَأَةً، مَخَافَةَ أن تَعْظُم بُطُونُهم.

 

 

(93)

عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه نَهَى أن يَشْرَب الرَّجُل قائمًا، قال قتادة: فَقُلْنا: فالأَكْل؟ فقال: ذاك أَشَرّ أو أَخْبَث».

القعود للأَكْل والشُّرْب سُنَّة، ولا بَأْس بالشُّرْب قائمًا للحاجة، وأما الأَكْل قائمًا، فقيل: مكروه، وقيل: خِلَاف الأَوْلَى، وقيل بالجَوَاز؛ لِمَا جاء عن ابن عمر - وأَخْرَجَه الترمذي وصَحَّحَه -، قال: "كنا في عَهْد النبي - صلى الله عليه وسلم - نَأْكُل ونحن نَمْشِي".

وأما قول أنس - رضي الله عنه -: فَمَحَلّ اجتهاد منه.

 

(94)

عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: "ما عاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعامًا قَطُّ، كان إذا اشْتَهَى شَيْئًا أَكَلَه، وإن كَرِهَه تَرَكَه". متفق عليه.

انتِقَاص الطعام لعدم الرغبة فيه مُخالِف للسُّنَّة، ولا مانع من تعليم الطبَّاخ ما يَحْتَاج إلى تعليم.

وذَهَب بَعْضُهم إلى أن العيب إن كان من جهة خِلْقَة الله كُرِه، وإن كان من جهة صَنْعَة الصانع لم يُكْرَه.

وقال النووي: من آداب الطعام المُتَأَكَّدَة أن لا يُعَاب، كَقَوْلِه: مَالِح، حَامِض، قَلِيل المِلْح، غَلِيظ، رَقِيق، غَيْر نَاضِج، ونحو ذلك.

 

 

(95)

ثَبَت عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتِي بِقَصْعَة مِن ثَرِيد، فقال: "كُلُوا مِن جوانبها، ولا تَأْكُلُوا مِن وَسَطِها؛ فإن البَرَكَة تَنْزِل في وَسَطِها". رواه الأربعة، وهذا لفظ النسائي.

دل الحديث على النهي عن الأَكْل مِن وَسَط الطعام؛ حفاظًا على البَرَكَة، سواء كان الآكل وَحْدَه أو مع جماعة.

 

(96)

عن أنس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا طَعِم طعامًا لَعِق أصابعه الثلاث، وقال: إذا وَقَعَتْ لُقْمَة أحدكم فَلْيُمِط عنها الأذى، وَلْيَأْكُلْها، ولا يَدَعْها للشيطان، وأَمَرَنا أن نَسْلُتَ القَصْعَة، وقال: إنكم لا تَدْرُون في أي طعامكم البَرَكَة». رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي وصَحَّحه.

توجيهات وإرشادات نبوية مُستَحَبَّة، يَحْصُل بها الخير والبَرَكَة.

 

(97)

عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أَكَل أحدكم طعامًا فلا يَمْسَح يَدَه حتى يَلعَقَها أو يُلعِقَها». متفق عليه. ورواه أبو داود، وقال فيه: "بالمِنْدِيل".

قال البيهقي: إن قوله: "أو يُلعِقَها" شَكٌّ من الراوي، ثم قال: فإن كانا جميعًا محفوظين، فإنما أراد أن يُلعِقَها صغيرًا، أو مَن يَعْلَم أنه لا يَتَقَذَّر بها. انتهى.

وقد يَكُون من باب التأكيد والتحريض، وفي الحديث: إشارة إلى أنه لا مانع من الأَكْل بالكَفِّ كُلِّه، ولا مِن مَسْح اليد بالمِنْدِيل بعد اللَّعْق.

 

 

(98)

ثَبَت عن أنس - رضي الله عنه -، قال: (أُتِي النبي - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْر عَتِيق، فَجَعَل يُفَتِّشُه يُخْرِج السُّوس منه). رواه أبو داود، وغَيْرُه.

دل على مشروعية تفتيش التمر، الذي يَغْلِب على الظن أن به السُّوس، دون الذي يَغْلِب على الظن خُلُوُّه منه، فقد رَوَى الطبراني عن ابن عمر مرفوعًا: "نهى أن يُفَتَّش التَّمْر عما فيه". حَسَّن إسناده القَارِي، وفيه كلام، والأول أَصَحّ.

 

(99)

عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: "نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَقْرِن الرَّجُل بَيْن التَّمْرَتَيْن جميعًا، حتى يَسْتَأْذِن أصحابه". متفق عليه.

قال ابنُ حَجَر: "الذي تَرَجَّح عندي: أن لا إِدْرَاج فيه؛ يعني ذِكْر الاستئذان".

دل الحديث على أنه لا ينبغي القِرَان بَيْن فَاكِهَتَيْن ونحوها من نوع واحد، مع وجود مَن يشاركه في الأَكْل إلا بإذنه، خاصة مع القِلَّة، لا إن كان يَأْكُل مُنْفَرِدًا.

 

(100)

عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: تَجَشَّأ رَجُل عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (كُفَّ عنا جُشَاءَك، فإن أَكْثَرَهم شِبَعًا في الدنيا، أَطْوَلُهم جُوعًا يوم القيامة). رواه الترمذي، وقال: حديث حَسَن غريب. وحَسَّنَه غَيْرُه.

يُؤخَذ منه عدم إيذاء الآخرين - ومنهم الآكِلُون - بِقَوْل أو فِعْل يَجْعَلُهم يَتَقَزَّزُون، قال أبو ذر: قُلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ إن ضَعُفْتُ عن بَعْض العمل؟ قال: (تَكُفُّ شَرَّك عن الناس؛ فإنها صدقة منك على نَفْسِك). متفق عليه.