بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة التمهيدية الحمد لله حمدًا يليق بجلاله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الذي أنزل عليه أحسن كتبه، وأفضلها، وأكملها. أما بعد: فقد قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء: 88، 89]، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]. فقرآن بهذه المثابة، وكتاب بهذه المكانة، لخليق أنْ تتوجه إليه الأفهام، وتسخر له الأقلام؛ لاستخراج كنوزه، وإملاء فنونه، ودراسة علومه. وكان في الأخبار والآثار ما يحثُّ على تعلم العلوم القرآنية، ومن ذلك دعاء الرسول  لعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ» ( )، وفي رواية: «وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» ( ). و(علوم القرآن) هي المدخل لفهم القرآن ومعرفة أحكامه ومعانيه، فلا يصح لأحد أنْ يفسر القرآن قبل أنْ يتعلمها. وهذا المختصر الكافي والشافي في موضوع (علوم القرآن) لا شك يحتاجه المبتدي، ولا يستغني عنه المنتهي، وقد رتبناه على طريقة السؤال ليستيقظ الطالب وينتبه، ثم أردفناه بالجواب الذي يتضح الأمر به ولا يشتبه، وسنذكر (مبادىء علوم القرآن)، و(عناصر البحث)، ثم نشرع في المقصود: مبادىء علوم القرآن العشرة: حدُّها: (أي: تعريفها) هي مباحث تتعلق بالقرآن من ناحية مواطن النزول وأوقاته ووقائعه، وسنده، والأداء، والألفاظ، والمعاني المتعلقة بالأحكام والألفاظ. موضوعها: القرآن الكريم بكل ما يتعلق به. الثمرة منها: تعين على فهم القرآن الكريم، ومعرفة تفسيره. فضلها: من أشرف العلوم، وأفضلها؛ وذلك لتعلقها بأشرف الكتب (القرآن الكريم). نسبتها: هي أحد العلوم الشرعية المتعلقة بالقرآن الكريم. واضعها: قيل: عليّ بن إبراهيم بن سعيد، والشهير بالحوفي، المتوفى (430هـ). اسمها: (علوم القرآن)، وتسمى أيضًا: (أصول التفسير)؛ لأنه يتناول العلوم التي يشترط على المفسر معرفتها والعلم بها. استمدادها: من القرآن، والسُّنَّة، وعمل الصحابة. حُكْم تعلمها: فرض كفاية. مسائل علوم القرآن: القضايا التي تذكر فيه، والمشار إليها في أبواب خطة هذا المختصر، المنتظمة في التالي: المقدمة التمهيدية: المبحث الأول: التعريف بعلوم القرآن، وبيان نشأتها وتطورها. المبحث الثاني: أسماء القرآن، وأوصافه. الباب الأول: الوحي معناه وأقسامه: الفصل الأول: معنى الوحي. الفصل الثاني: أقسام الوحي. الباب الثاني: المكي والمدني: الفصل الأول: القرآن المكي والمدني. الفصل الثاني: خصائص القرآن المكي المدني. الفصل الثالث: فوائد العلم بالمكي والمدني. الباب الثالث: أول وآخر ما نزل: الفصل الأول: أول وآخر ما نزل. الفصل الثاني: فوائد العلم بأول وآخر ما نزل. الباب الرابع: أسباب النزول: الفصل الأول: تعريف سبب النزول. الفصل الثاني: صيغ سبب النزول. الفصل الثالث: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الفصل الرابع: تكرار النزول. الفصل الخامس: فوائد العلم بأسباب النزول. الباب الخامس: نزول القرآن: الفصل الأول: نزول القرآن جملة واحدة. الفصل الثاني: نزول القرآن منجمًا. الفصل الثالث: الحكمة من نزول القرآن منجمًا. الباب السادس: جمع القرآن وترتيبه: الفصل الأول: جمع القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-. الفصل الثاني: جمع القرآن على عهد أبي بكر -رضي الله عنه-. الفصل الثالث: جمع القرآن على عهد عثمان -رضي الله عنه-. الفصل الرابع: الفرق بين الجمعين الأخيرين. الفصل الخامس: الرسم العثماني. الفصل السادس: ترتيب السور والآيات. الباب السابع: نزول القرآن على سبعة أحرف: الفصل الأول: اختلاف العلماء في المراد بالأحرف، وبيان الراجح. الفصل الثاني: الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف. الباب الثامن: القراءات والقراء: الفصل الأول: التعريف بالقراءات. الفصل الثاني: أنواع القراءات، وحُكْمُها وضوابطها. الفصل الثالث: الحكمة من تنوع القراءات. الفصل الرابع: سبب الاقتصار على القراء السبعة مع كثرة القراء. الفصل الخامس: فوائد اختلاف القراءات. الفصل السادس: التجويد، وآداب التلاوة. الفصل السابع: الوقف والابتداء. الباب التاسع: المحكم والمتشابه: الفصل الأول: مذاهب العلماء في المحكم والمتشابه. الفصل الثاني: صفات الله -عزَّ وجلَّ- ليست من المتشابه. الباب العاشر: العام والخاص: الفصل الأول: تعريف العام، وصيغ العموم. الفصل الثاني: تعريف الخاص، وبيان شرط التخصيص. الفصل الثالث: البحث عن التخصيص. الفصل الرابع: الفرق بين العام المراد به الخصوص، والعام المخصوص. الباب الحادي عشر: المطلق والمقيد: الفصل الأول: تعريف المطلق والمقيد. الفصل الثاني: أقسام المطلق والمقيد، وحُكْم كل قسم منهما. الباب الثاني عشر: الناسخ والمنسوخ: الفصل الأول: تعريف النسخ، وشروطه. الفصل الثاني: ما يقع فيه النسخ، وما يمتنع. الفصل الثالث: أقسام النسخ. الفصل الرابع: الحكمة من النسخ. الفصل الخامس: شبهة حول النسخ والجواب عنها. الباب الثالث عشر: المنطوق والمفهوم: الفصل الأول: تعريف المنطوق وأقسامه. الفصل الثاني: تعريف المفهوم وأقسامه. الفصل الثالث: مذاهب العلماء في الاحتجاج بالمفهوم. الباب الرابع عشر: إعجاز القرآن: الفصل الأول: تعريف الإعجاز. الفصل الثاني: وجوه إعجاز القرآن. الفصل الثالث: الإعجاز اللغوي. الفصل الرابع: الإعجاز العلمي. الفصل الخامس: ضوابط الكلام في التفسير العلمي. الفصل السادس: الإعجاز التشريعي. الفصل السابع: الإعجاز القصصي. الفصل الثامن: فوائد العلم بإعجاز القرآن. الفصل التاسع: إبطال القول بالصرفة. الباب الخامس عشر: أمثال القرآن: الفصل الأول: تعريف المثل. الفصل الثاني: أنواع الأمثال في القرآن. الفصل الثالث: الحكمة من ضرب الأمثال في القرآن. الباب السادس عشر: قصص القرآن: الفصل الأول: معنى القصص. الفصل الثاني: أنواع القصص في القرآن. الفصل الثالث: القصة في القرآن حقيقة لا خيال. الفصل الرابع: الحكمة من إيراد القصص في القرآن. الفصل الخامس: الحكمة من تكرار بعض القصص في القرآن. الباب السابع عشر: ترجمة القرآن: الفصل الأول: معنى الترجمة. الفصل الثاني: الترجمة الحرفية، وحُكْمها. الفصل الثالث: الترجمة التفسيرية، وحُكْمها. الفصل الرابع: الفرق بين الترجمة الحرفية، والترجمة التفسيرية. الفصل الخامس: حُكْم القراءة في الصلاة بالترجمة. المبحث الأول: التعريف بعلوم القرآن، وبيان نشأتها وتطورها. س (1): ما تعريف علوم القرآن (كمركب إضافي) و(كفن مدون)؟ الجواب: الإضافة بين "علوم" و"القرآن" تشير إلى: (العلوم والمعارف المتصلة بالقرآن الكريم)، فشَمِلَ التعريف جميع العلوم الإسلامية، الشرعية، والعربية. أما (كفن مدون): فيعرف بأنه: (مباحث تتعلق بالقرآن الكريم تعلقًا خاصًّا من ناحية أنواعه المذكورة في كتب علوم القرآن)، وهي كثيرة. س (2): كيف نشأت علوم القرآن وتطورت؟ الجواب: حين نزل أول شيء من القرآن الكريم وهو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * ...} [العلق: 1، 2]، بدأت تظهر أنواع من (علوم القرآن) المتعلقة به تعلقًا خاصًّا؛ حيث جرت على ألسنة الصحابة  ، والتابعين في كلامهم حول القرآن، وفي القرن الثاني أخذت تنمو وتزداد؛ حيث دُوِّنَ التفسير ضمن كتب الحديث في مرحلته الأولى، ثم مرحلته الثانية؛ حيث أُفرد بالتأليف، وصار عِلْمًا قائمًا بنفسه، كتفسير مجاهد بن جبر (ت104هـ)، وتفسير الضحاك بن مزاحم (ت105هـ)، وهو أقدم تفسير كامل للقرآن وصل إلينا. ثم دُوِّنَت أبواب من: (علوم القرآن) فأُفردت بالتأليف كـ (نزول القرآن) للضحاك بن مزاحم (ت105هـ)، وعكرمة (ت105هـ)، و(الوجوه والنظائر) لمقاتل بن سليمان (150هـ)، و(الناسخ والمنسوخ) لعطاء بن مسلم (ت115هـ)، ولقتادة بن دعامة (ت117هـ) أقدم كتاب وصل إلينا. ثم استمر التأليف في التفسير، وفي أبواب مفردة من علوم القرآن، فأخذت لبنات (علوم القرآن) انتظامها لاستتمام البناء واستقلال هيكله، إلى أنْ شارفت على الاكتمال؛ حيث أخذت شكلًا خاصًّا كعلمٍ قائمٍ بنفسه. فكان أول من انبرى لهذا الشكل: الزركشي (ت794هـ)، فألف كتابه «البرهان في علوم القرآن»، جمع فيه أبواب وأنواع علوم القرآن، وتبعه البلقيني (ت824هـ)، فألف كتابه «مواقع العلوم»، ثم جاء السيوطي (ت911هـ)، فألف كتابه «الإتقان في علوم القرآن»، فجمع وأوعى، فكل من ألف في هذا الباب بعده عيال عليه، وكان قبلهما ابن الجوزي (597هـ) في كتابه: "فنون الأفنان في عيون علوم القرآن"، ولكنه لم يستوعب كما استوعبا. وما تزال (علوم القرآن) في تطور مع تقدم الدراسات القرآنية، وقد أشار أبو السعادات ابن الأثير -رحمه الله- إلى هذه السنن التأليفية؛ حيث ذكر أنَّ كل علم يبدأ قليلًا ثم يكثر، وصغيرًا ثم يكبر. المبحث الثاني: أسماء القرآن، وأوصافه. س (3): ما أهم ما يتعلق بأسماء وأوصاف القرآن الكريم؟ الجواب: لقد سمَّى الله تعالى القرآن بأسماء كثيرة، ووصفه بأوصاف عديدة، قال عزيزي -المعروف بشيذلة-: "اعلم أنَّ الله سمى القرآن بخمسة وخمسين اسمًا". وقيل أكثر من ذلك، وقد أفرد جماعة هذا الباب بالتصنيف. وكل تسمية، أو وصف فهو باعتبار معنى من معاني القرآن، فــمثلًا: (القرآن) لكونه مقروءًا، و(الكتاب) لكونه مكتوبًا، وفيه إشارة إلى أنَّ من حقه أنْ يحفظ في الصدور والسطور جميعًا. ووصفه الله تعالى بصفات كثيرة، ومن ذلك وصفه بأنه (هدى) لكونه يهدي للتي هي أقوم، وبأنه (شفاء) لكونه يعالج الأمراض الظاهرة والباطنة، وهو معجزة الله الخالدة، وقد اُختص من بين الكتب السماوية، والأحاديث القدسية والنبوية بأنَّ الله تعالى قد تحدى الإنس والجن على أنْ يأتوا بمثله، فعجزوا. الباب الأول: الوحي معناه وأقسامه. الفصل الأول: معنى الوحي: س (4): ما تعريف الوحي لغة وشرعًا؟ الوحي لغة: الإعلام في خفاء، ويكون في اليقظة، أو في المنام. وشرعًا: بمعنى (المـُوحَى)، أي: كلام الله المنزل على أنبيائه. الفصل الثاني: أقسام الوحي: س (5): ما أقسام الوحي؟ الجواب: الوحي إما (كلام من الله لعبده من وراء حجاب)، أو (بواسطة جبريل )، أو (بإلهام)، أو (في المنام)، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51]. الباب الثاني: المكي والمدني. الفصل الأول: القرآن المكي والمدني: س (6): ما منزلة العلم بالمكي والمدني؟ الجواب: قَال أَبُو الْقَاسِمِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي كِتَابِ «التَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ عُلُومِ الْقُرْآنِ»: "مِنْ أَشْرَفِ عُلُومِ الْقُرْآنِ: عِلْمُ نُزُولِهِ وَجِهَاتِهِ ...".اهـ ثم ذكر تحته خمسة وعشرين وجهًا. وقد جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِنْ مسعودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَلاَ أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ ...» ( ). س (7): ما الفرق بين المكي والمدني؟ الجواب: للعلماء اصطلاحات في (المكي، والمدني)، أشهرها أنَّ: المكي: ما نزل قبل الهجرة. والمدني: ما نزل بعد الهجرة. وقد توسع السيوطي في بيان ذلك؛ حيث قال: "وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ عَدُّ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَأَنَا أَسُوقُ مَا وَقَعَ لِي مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أُعْقِبُهُ بِتَحْرِيرِ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ" ( ).اهـ الفصل الثاني: خصائص المكي والمدني: س (8): ما خصائص المكي والمدني؟ الجواب: خصائص القرآن المكي: الدعوة إلى التوحيد، ومجادلة المشركين. وخصائص القرآن المدني: الحثُّ على الجهاد، ومخاطبة أهل الكتاب، والكشف عن المنافقين. وقال عروة: "كُلُّ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِيهِ ذِكْرُ الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِمَكَّةَ، وَمَا كَانَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ".اهـ الفصل الثالث: فوائد العلم بالمكي والمدني: س (9): ما فوائد العلم بالمكي والمدني؟ الجواب: للعلم بالمكي، والمدني فوائد منها: فهم المراد بالآية. تحديد المتقدم من المتأخر؛ لمعرفة الناسخ من المنسوخ. معرفة مراتب التدرج في التشريع. الباب الثالث: أول وآخر ما نزل. الفصل الأول: أول وآخر ما نزل: س (10) ما أول وآخر ما نزل من القرآن؟ الجواب: اختلف في أول وآخر ما نزل من القرآن؛ إذ ليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي ، والأظهر أنَّ أول ما نزل من الآيات قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * -إلى قوله:- عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]، وأول ما نزل من السور: (سورة المدثر. وأما آخر ما نزل: فقد اختلف العلماء أيضًا في آخر ما نزل على عدة أقوال. وللعلماء طرق في الجمع بين المرويات المختلفة في هذا الباب، ولهم احتمالات وأجوبة، وقد يريد بعضهم مرادًا خاصًا بأول وآخر مانزل من الآيات والسور، كأول ما نزل في الأطعمة، وأول ما نزل في القتال، وآخر ما نزل في المواريث ونحو ذلك. الفصل الثاني: فوائد العلم بأول وآخر ما نزل: س (11): ما فوائد العلم بأول وآخر ما نزل؟ الجواب: فوائد العلم بذلك: إدراك أسرار التشريع، ومعرفة تدرج الأحكام، وأيضًا: تمييز الناسخ من المنسوخ، فإنَّ الناسخ ينزل متأخرًا عن المنسوخ. الباب الرابع: أسباب النزول. الفصل الأول: تعريف سبب النزول: س (12): ما سبب النزول؟ الجواب: سبب النزول هو: (كل قولٍ، أو فعلٍ، أو سؤالٍ ممن عاصروا التنْزيل فنزل بشأنه قرآن) ( ). الفصل الثاني: صيغ أسباب النزول: س (13): ما صيغ أسباب النزول؟ الجواب: أشهر الصيغ في أسباب النُّزول: (... فنَزلت الآية ...)، أو (... فأنزل الله ...)، وكذلك: (نزلت الآية في كذا ...)، أو (أُنزلت الآية في كذا ...). وورود كلمة النُّزول قرينة قوية في إرادة ذكر سبب النُّزول، وليست أصلًا يُحكم به على أنَّ ورودها في الأثر يدل على أنه هو سبب النُّزول المباشر؛ إذ قد يكون هناك ما يدلُّ على أنَّ ذلك من باب ضرب المثال، أي: نزلت الآية في مثل كذا ( ). الفصل الثالث: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: س (14): هل العبرة بعموم اللفظ، أم بخصوص السبب؟ الجواب: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقيل بالعكس، والأول أصح. ولا يُفهم من القول الثاني أنهم يرون أنَّ أحكام الله النازلة على سبب: تختصُّ بالشخص المعين الذي نزلت فيه الآية ولا تتعداه، لكن مرادهم أنها مختصة به من جهة النُّزول، ويدخل معه غيره من طريق القياس، لا من طريق تعميم اللفظ. والفرق بين ما ثبت عن طريق النص (العموم)، وما ثبت عن طريق القياس: أنَّ الحكم الثابت عن طريق النص ينسخ، ويُنسخ به، أما الحكم الثابت عن طريق القياس فلا ينسخ، ولا يُنسخ به ( ). الفصل الرابع: تكرار النزول: س (15): هل من الممكن نزول الآية أكثر من مرة؟ الجواب: قد يُنَزَّل الشيء من القرآن مرتين تعظيمًا لشأنه وتذكيرًا به عند حدوث سببه خوف نسيانه. والحكمة في هذا أنه قد يحدث سبب من سؤال، أو حادثة تقتضي نزول آية، وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها، فتؤدى تلك الآية بعينها إلى النبي  تذكيرًا لهم بها، وبأنها تتضمن هذه ( ). الفصل الخامس: فوائد العلم بأسباب النزول: س (16): ما فائدة العلم بأسباب النزول؟ الجواب: العلم بأسباب النزول فيه عدة فوائد، منها: أنَّ معرفة سبب النُّزول تعين على فهم الآية؛ فإنَّ العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. ومعرفة اسم النازل فيه الآية، وتعيين المبهم فيها، حتى لا يُبرَّأ المتهم، أو يتهم البريء، وحتى لا يزعم أحد أنَّ المراد بالذم في تلك الآية فلان من الصحابة وهو بريء، أو ينسب إلى آخر صفات مدح في آية، والمراد بها غيره. ومعرفة أنَّ سبب النزول غير خارج عن حكم الآية إذا ورد مخصص لها، فإنَّ السبب يدخل في الآية دخولًا أوليًّا. ومعرفة سبب النزول تكشف عن بلاغة القرآن الكريم حيث مراعاة الكلام لمقتضى الحال، وذلك بالمطابقة والمقارنة بين الحادثة والنص القرآني الذي نزل فيها ( ). الباب الخامس: نزول القرآن. الفصل الأول: نزول القرآن جملة واحدة: س (17): هل نزل القرآن على النبي جملة واحدة؟ الجواب: نزل القرآن إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ فُرِقَ فِي السِّنِينَ قَالَ: وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75]، قَالَ: «نَزَلَ مُتَفَرِّقًا» ( ) . الفصل الثاني: نزول القرآن منجمًا: س (18): في كم سنة نزل القرآن على النبي ؟ الجواب: بعد أنْ نزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا: نزل بعد ذلك منجمًا [أي: مفرقًا] في عشرين سنة، أو في ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، على حسب الاختلاف في مدة إقامته  بمكة بعد النبوة، ولم يختلف في مدة إقامته بالمدينة أنها عشر. الفصل الثالث: الحكمة من نزول القرآن منجمًا: س (19): ما الحكمة من نزول القرآن منجمًا؟ الجواب: كما في قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]، قال الزركشي: "أَيْ: لِنُقَوِّيَ بِهِ قَلْبَكَ، فَإِنَّ الْوَحْيَ إِذَا كَانَ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ كَانَ أَقْوَى لِلْقَلْبِ، وَأَشَدَّ عِنَايَةً بِالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَثْرَةَ نُزُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ وَتَجْدِيدَ الْعَهْدِ بِهِ وَبِمَا مَعَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ الْوَارِدَةِ، فَيحْدُثُ لَهُ مِنَ السُّرُورِ مَا تَقْصُرُ عَنْهُ الْعِبَارَةُ" ( ). الباب السادس: جمع القرآن وترتيبه. الفصل الأول: جمع القرآن على عهد النبي : س (20): هل جمع القرآن كله في عهد الني : الجواب: جمع القرآن كله في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكنه لم يجمع كله في موضع واحد، ولا مرتب السور، وقد كان هذا الجمع بين جمع في الصدور، وجمع في السطور. قال زيد بن ثابت: "قُبِضَ النَّبِيُّ  وَلَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ جُمِعَ فِي شَيْءٍ". [أي: في شيء واحد]. الفصل الثاني: جمع القرآن على عهد أبي بكر : س (21): هل جمع القرآن في عهد أبي بكر ؟ الجواب: نعم، جمع القرآن في عهد أبي بكر ، وكان ذلك بمشورة عمر ، قال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخِطَّابِ عِنْدَهُ فقال أبوبكر: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، ... فقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ  فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنِ فَاجْمَعْهُ، ... فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ ( ). س (22): ولماذا لم يجمع في عهد النبي ؟ الجواب: كما قال الخطابي: "إِنَّمَا لَمْ يجمع  الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ لِمَا كَانَ يَتَرَقَّبُهُ مِنْ وُرُودِ نَاسِخٍ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ، أَوْ تِلَاوَتِهِ، فَلَمَّا انْقَضَى نُزُولُهُ بِوَفَاتِهِ : أَلْهَمَ اللَّهُ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ ذَلِكَ وَفَاءً بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ بِضَمَانِ حِفْظِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الصِّدِّيقِ بِمَشُورَةِ عُمَرَ" ( ).اهـ الفصل الثالث: جمع القرآن على عهد عثمان : س (23): وهل جمع القرآن مرة أخرى في عهد عثمان ؟ الجواب: نعم، جمعه عثمان  مرة أخرى، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ، قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ -وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ، وَأَذْرَبِيجَانَ-، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي القِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلاَفَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: «أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ»، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ»، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ، أَوْ مُصْحَفٍ، أَنْ يُحْرَقَ ( ). س (24): وهل هذان الجمعان قد استوعبا القرآن كله؟ الجواب: قال الزركشي: "وَفِي هَذِهِ إِثْبَاتٌ ظَاهِرٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ جَمَعُوا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَالَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى جَمْعِهِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فِي الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، فَخَافُوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته وَكَتَبُوهُ كَمَا سَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيِّ  مِنْ غَيْرِ أَنْ قَدَّمُوا شَيْئًا أَوْ أَخَّرُوا، ..." ( ). الفصل الرابع: الفرق بين الجمعين الأخيرين: س (25): ما الفرق بين الجمعين الأخيرين؟ الجواب: قال ابن التين: "الْفَرْقُ بَيْنَ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ وَجَمْعِ عُثْمَانَ: أَنَّ جَمْعَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يَذْهَبَ مِنَ الْقُرْآنِ شيء بذهاب جملته؛ لْأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَجَمَعَهُ فِي صَحَائِفَ مُرَتِّبًا لِآيَاتِ سُوَرِهِ عَلَى مَا وَقَّفَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَجَمْعُ عُثْمَانَ كَانَ لَمَّا كَثُرَ الَاخْتِلَافُ فِي وُجُوهِ القراءة حتى قرؤوه بِلُغَاتِهِمْ عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَاتِ، فَأَدَّى ذَلِكَ بَعْضَهُمِ إِلَى تَخْطِئَةِ بَعْضٍ، فَخَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ، فَنَسَخَ تِلْكَ الصُّحُفَ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُرَتِّبًا لِسُوَرِهِ وَاقْتَصَرَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ وإن كان قد وسع قِرَاءَتِهِ بِلُغَةِ غَيْرِهِمْ رَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَرَأَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ قَدِ انْتَهَتْ، فَاقْتَصَرَ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ" ( ).اهـ الفصل الخامس: الرسم العثماني: س (26): ما الرسم العثماني؟ الجواب: الرسم العثماني هو: الطريقة التي ارتضاها عثمان  في كتابة المصحف لزيد ابن ثابت والثلاثة القرشيين الذين كانوا معه، وهذه الطرقة تسمى عند العلماء: «الرسم العثماني للمصحف». س (27): هل يجب التزام الرسم لعثماني؟ الجواب: اختلف العلماء في حُكْم الرسم العثماني، فذهبت طائفة إلى أنَّ الرسم العثماني: (توقيفي يجب الأخذ به في كتاب القرآن)، وذهب كثير من أهل العلم إلى أنَّ الرسم العثماني: (اصطلاحي، ولكنه اصطلاح ارتضاه عثمان ، وتلقته الأمة بالقبول، فيجب التزامه، ولا يجوز مخالفته)، وذهبت طائفة إلى أنَّ الرسم العثماني: (اصطلاحي، ولا مانع من مخالفته! إذا اصطلح الناس على رسم خاص غيره). والراجح: القول الثاني، قال الزركشي: "وَقَالَ أَشْهَبُ: سُئِلَ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ- هَلْ تَكْتُبُ الْمُصْحَفَ عَلَى مَا أَخَذَتْهُ النَّاسُ مِنَ الْهِجَاءِ؟ فَقَالَ: لَا، إِلَّا عَلَى الْكِتْبَةِ الْأُولَى". رَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي «الْمُقْنِعِ»، ثُمَّ قَالَ: "وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ" ( ).اهـ الفصل السادس: ترتيب السور والآيات: س (28): هل ترتيب السور والآيات بتوقيف من النبي ؟ الجواب: للعلماء في ترتيب السور في القرآن الكريم ثلاثة أقوال: الأول: ترتيب السور توقيفي، لم توضع سورة في مكان إلا بأمر الرسول . الثاني: ترتيب السور اجتهادي من فعل الصحابة . الثالث: ترتيب بعض السور كان توقيفيًّا، والبعض باجتهاد من الصحابة . والراجح: أنَّ ترتيب السور كان توقيفيًّا، وعلى فرض أنَّ ترتيب بعض السور كان باجتهادٍ: فقد أجمع الصحابة  على ذلك، فلا يجوز لأحد مخالفة هذا الترتيب. قال أبو بكر الأنباري: "فَاتِّسَاقُ السُّوَرِ كَاتِّسَاقِ الْآيَاتِ وَالْحُرُوفِ، كله عَنِ النَّبِيِّ ، فَمَنْ قَدَّمَ سُورَةً، أَوْ أَخَّرَهَا: فَقَدْ أَفْسَدَ نَظْمَ الْقُرْآنِ". وأما ترتيب الآيات داخل السور: فقال السيوطي: "الْإِجْمَاعُ، وَالنُّصُوصُ الْمُتَرَادِفَةُ، عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ توقيفي لا شبهة في ذلك، وقال أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: تَرْتِيبُ الْآيَاتِ فِي سُوَرِهَا وَاقِعٌ بِتَوْقِيفِهِ  وَأَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ" ( ).اهـ وقال الزركشي: "وَهَذَا التَّرْتِيبُ كَانَ مِنْهُ  بِتَوْقِيفٍ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِبَ تِلْكَ الْآيَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ سَعْيَ الصَّحَابَةِ فِي جَمْعِهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا فِي تَرْتِيبٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي هُوَ فِي مَصَاحِفِنَا الْآنَ" ( ). الباب السابع: نزول القرآن على سبعة أحرف. الفصل الأول: اختلاف العلماء في المراد بالأحرف: س (29): ما المراد بالأحرف السبعة؟ الجواب: قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "سَبْعَةُ أحرفٍ يَعْنِي: سبع لُغَات من لُغَات الْعَرَب، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَن يكون فِي الْحَرْف الْوَاحِد سَبْعَة أوجه، هَذَا لم يسمع بِهِ قطّ، وَلَكِن هَذِه اللُّغَات السَّبع مُتَفَرِّقَة فِي الْقُرْآن، فبعضه نزل بلغَة قُرَيْش [وهو الأغلب]، وَبَعضه بلغَة هُذَيْل، وَبَعضه بلغَة هوَازن، وَبَعضه بلغَة أهل الْيمن، وَكَذَلِكَ سَائِر اللُّغَات، ومعانيها مَعَ هَذَا كُله وَاحِد، وَمِمَّا يبين ذَلِك قَول ابْن مَسْعُود: إِنِّي قد سَمِعت الْقِرَاءَة فوجدتهم متقاربين .." ( ).اهـ وقال السيوطي: "الْمُرَادَ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، نَحْوَ: أَقْبِلْ، وَتَعَالَ، وَهَلُمَّ، وَعَجِّلْ، وَأَسْرِعْ، وهذا القولُ نَسَبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ" ( ).اهـ س (30): هل اشتمل المصحف الذي جمعه عثمان  على جميع الأحرف؟ الجواب: قال شيخ الإسلام: "اَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهُ حَرْفٌ مِنْ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ، فإنَّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ هُوَ أَحَدُ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ للعرضة الْآخِرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا النَّبِيُّ  عَلَى جِبْرِيلَ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ" ( ).اهـ الفصل الثاني: الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف: س (31): ما الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف؟ الجواب: من الحِكَم في نزول القرآن على سبعة أحرف: تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين، لكل قبيل منهم لسان، ولا عهد لهم بحفظ الشرائع. وأيضًا إعجاز القرآن للفطرة اللغوية عند العرب, فتعدد مناحي التأليف الصوتي للقرآن تَعدُّدًا يكافئ الفروع اللسانية التي عليها فطرة اللغة في العرب حتى يستطيع كل عربي أنْ يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه مع بقاء الإعجاز الذي تحدى به الرسول  العرب، ومع اليأس من معارضته لا يكون إعجازًا للسان دون آخر، وإنما يكون إعجازًا للفطرة اللغوية نفسها عند العرب ( ). الباب الثامن: القراءات والقراء. الفصل الأول: التعريف بالقراءات: س (32): ما المراد بالقراءات، وهل هي غير القرآن؟ الجواب: القراءات: جمع قراءة، ومعناها في الاصطلاح العلمي: مذهب من مذاهب النطق في القرآن يذهب به إمام من الأئمة القرَّاء مذهبًا يخالف غيره، وهي ثابتة بأسانيدها إلى رسول الله  ويرجع عهد القرَّاء الذين أقاموا الناس على طرائقهم في التلاوة إلى عهد الصحابة . وقال الزركشي: "اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْقِرَاءَاتِ حَقِيقَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ، فَالْقُرْآنُ: هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ  لِلْبَيَانِ وَالْإِعْجَازِ، وَالْقِرَاءَاتُ: هِيَ اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الْوَحْيِ الْمَذْكُورِ فِي كَتَبَةِ الْحُرُوفِ، أَوْ كَيْفِيِّتِهَا مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَثْقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا" ( ). الفصل الثاني: أنواع القراءات، وضوابطها وحُكْمُها. س (33): ما أنواع القراءات، وضوابطها وحكمها؟ الجواب: أما أنواع القراءات: فقد ذكر بعض العلماء أنَّ القراءات تنقسم إلى: (متواترة)، و(آحاد)، و(شاذة)، وجعلوا المتواتر السبع، والآحاد الثلاث المتممة لعشرها، ثم ما يكون من قراءات الصحابة، وما بقي فهو شاذ. وأضاف بعض العلماء أنواعًا أخرى، وهي: (المشهور)، وهو ما صح سنده ولم يبلغ درجة المتواتر و(المدرج): وهو ما زيد في القراءات على وجه التفسير. وأما ضوابط القراءاة الصحيحة، فهي: 1- موافقة القراءة للعربية بوجه من الوجوه: سواء أكان أفصح أم فصيحًا، لأن القراءة سُنَّة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها بالإسناد لا بالرأي. 2- أنْ توافق القراءة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا؛ لأن الصحابة  في كتابة المصاحف العثمانية اجتهدوا في الرسم على حسب ما عرفوا من لغات القراءة. 3- أنْ تكون القراءة مع ذلك صحيحة الإسناد؛ لأن القراءة سُنَّة متبعة يُعتمد فيها على سلامة النقل وصحة الرواية، وكثيرًا ما ينكر أهل العربية قراءة من القراءات لخروجها عن القياس، أو لضعفها في اللغة، ولا يحفل أئمة القرَّاء بإنكارهم شيئًا. وقال أبو عمرو الداني: "وأئمة القرَّاء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية؛ بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، وإذا ثبتت الرواية لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة؛ لأن القراءة سُنَّة متبعة، يلزم قبولها والمصير إليها".اهـ ومتى اختل ركن من هذه الأركان، أو أكثر أُطْلِقَ عليها أنها: (ضعيفة)، أو (شاذة)، أو (باطلة). وأما حكم التلاوة والصلاة بهذه القراءات: فالجمهور على أنَّ التلاوة إنما تكون بالقراءات السبع المتواترة، وأنَّ غير المتواتر المشهور لا تجوز القراءة به في الصلاة ولا في غيرها: قال النووي في "شرح المهذب": "لا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة؛ لأنها ليست قرآنًا؛ لأنَّ القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والقراءة الشاذة ليست متواترة، ومن قال غيره فغالط أو جاهل، فلو خالف وقرأ بالشاذ أُنكر عليه قراءته في الصلاة وغيرها، وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ، ونقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا يجوز القراءة بالشواذ، ولا يُصلَّى خلف مَن يقرأ بها" ( ). الفصل الثالث: الحكمة من تنوع القراءات. س (34): ما الحكمة من تنوع القراءات؟ الجواب: الحكمة من تنوع القراءات: 1- الدلالة على صيانة كتاب الله وحفظه من التبديل والتحريف مع كونه على هذا الأوجه الكثيرة. 2- التخفيف عن الأمة وتسهيل القراءة عليها. 3- إعجاز القرآن في إيجازه، حيث تدل كل قراءة على حكم شرعي دون تكرر اللفظ. الفصل الرابع: سبب الاقتصار على القراء السبعة مع كثرة القراء. س (35): ما سبب الاقتصار على القراء السبعة في التلاوة والصلاة؟ الجواب: اختيار القرَّاء السبع إنما هو للعلماء المتأخرين في المائة الثالثة، وإلا فقد كان الأئمة الموثوق بعلمهم كثيرين، قال الإمام ابن الجزري في "النشر": "أول إمام معتبر جَمع القراءات في كتابٍ: أبو عبيد القاسم بن سلام، وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئًا، مع هؤلاء السبعة، وتوفي سنة "224هـ"، ... وكان في أثره ابن مجاهد أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط، وتوفي سنة "324هـ"، ... وإنما أطلنا في هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أنَّ القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة؛ بل غلب على كثير من الجهال أنَّ القراءات الصحيحة هي التي في الشاطبية والتيسير".اهـ والسبب في الاقتصار على السبعة مع أنه في أئمة القرَّاء مَن هو أجلُّ منهم قدرًا، أو مثلهم إلى عدد أكثر من السبعة، هو أنَّ الرواة عن الأئمة كانوا كثيرًا جدًّا, فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة، وطول العمر في ملازمة القراءة والاتفاق على الأخذ عنه فأفردوا من كل مصر إمامًا واحدًا ( ). الفصل الخامس: فوائد اختلاف القراءات. س (36): ما فوائد اختلاف القراءت؟ الجواب: قال الإمام ابن الجزري: "وَأَمَّا فَائِدَةُ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ وَتَنَوُّعِهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ فَوَائِدَ منها: التَّسْهِيلُ وَالتَّخْفِيفُ عَلَى الْأُمَّةِ. وإظهارُ نِهَايَةِ الْبَلَاغَةِ، وَكَمَالِ الْإِعْجَازِ؛ إِذْ كُلُّ قِرَاءَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ، وتَنَوُّعُ اللَّفْظِ بِكَلِمَةٍ تَقُومُ مَقَامَ آيَاتٍ. وَفِي ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ الْبُرْهَانِ وَوَاضِحِ الدِّلَالَةِ؛ إِذْ هُوَ مَعَ كَثْرَةِ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَتَنَوُّعِهِ لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهِ تَضَادٌّ وَلَا تَنَاقُضٌ وَلَا تَخَالُفٌ، بَلْ كُلُّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُبَيِّنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ لِبَعْضٍ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ وَأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا آيَةٌ بَالِغَةٌ، وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ . وَفي ذلك أيضًا: إِعْظَامُ أُجُورِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ يُفْرِغُونَ جُهْدَهُمْ لِيَبْلُغُوا قَصْدَهُمْ فِي تَتَبُّعِ مَعَانِي ذَلِكَ وَاسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ مِنْ دِلَالَةِ كُلِّ لَفْظٍ، وَاسْتِخْرَاجِ كَمِينِ أَسْرَارِهِ وَخَفِيِّ إِشَارَاتِهِ، وَإِنْعَامِهِمُ النَّظَرَ وَإِمْعَانِهِمُ الْكَشْفَ عَنِ التَّوَجُّهِ وَالتَّعْلِيلِ وَالتَّرْجِيحِ، وَالتَّفْصِيلِ بِقَدْرِ مَا يَبْلُغُ غَايَةُ عِلْمِهِمْ، وَيَصِلُ إِلَيْهِ نِهَايَةُ فَهْمِهِمْ" ( ). الفصل السادس: التجويد، وآداب التلاوة. س (37): ما المقصود بالتجويد، وما الغاية منه؟ الجواب: التجويد في اللغة: هو التحسين، وفي الاصطلاح: هو إعطاء الحروف حقها في النطق بها على أتم وجه، ومستحقها من الأحكام الناشئة عنها، وإخراج كل حرف من مخرجه الصحيح، وأيضًا تحسين الصوت بالتلاوة إن أمكن. والغاية منه: 1 - النطق بكلام الله  على أحسن صورة وأتم ضبط، فهذا امتثالاً لأمر الله : {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]. 2 - حفظ اللسان عن اللحن [أي: الخطأ] في كتاب الله . س (38): وما آداب التلاوة؟ الجواب: ذكر العلماء آدابًا كثيرة لتلاوة القرآن، أهمها أنه: يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ الْقَارِئُ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ فِي خُشُوعٍ وَوَقَارٍ. وَيُسَنُّ أَنْ يَسْتَاكَ تَعْظِيمًا وَتَطْهِيرًا. وَيُسَنُّ التَّعَوُّذُ قَبْل الْقِرَاءَةِ، وَذَهَبَ بعضُ العلماءِ إِلَى وُجُوبِ التَّعَوُّذِ. وعلى القارىء أَنْ يُحَافِظَ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ أَوَّل كُل سُورَةٍ غَيْرَ {بَرَاءَةٌ}؛ لأَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ، فَإِذَا أَخَل بِهَا كَانَ تَارِكًا لِبَعْضِ الْخَتْمَةِ عِنْدَ الأَكْثَرِينَ. وَيُسَنُّ التَّرْتِيلُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ لأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الإِجْلاَل وَالتَّوْقِيرِ، وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ. وَتُسَنُّ الْقِرَاءَةُ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ، فَهُوَ الْمَقْصُودُ الأَعْظَمُ، وَالْمَطْلُوبُ الأَهَمُّ، وَبِهِ تَنْشَرِحُ الصُّدُورُ، وَتَسْتَنِيرُ الْقُلُوبُ. وَلاَ بَأْسَ بِتَكْرِيرِ الآْيَةِ وَتَرْدِيدِهَا. وَيُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالتَّبَاكِي لِمَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْحُزْنُ وَالْخُشُوعُ. وَيُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَتَزْيِينُهَا ( ). الفصل السابع: الوقف والابتداء. س (39): ما الوقف والابتداء؟ الجواب: الوقف والابتداء: علم يبحث في الوقف الصحيح، وكذلك الابتداء في تلاوة كلام الله تعالى، وذلك أنَّ الوقف أو الابتداء الخاطىء قد يُغيّر المعنى، أو يُوهم غير مراد الله تعالى. والوقف في الاصطلاح: فقال ابن الجزري: "الوَقْفُ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الصَّوْتِ عَلَى الْكَلِمَةِ زَمَنًا يَتَنَفَّسُ فِيهِ عَادَةً بِنِيَّةِ اسْتِئْنَافِ الْقِرَاءَةِ؛ إِمَّا بِمَا يَلِي الْحَرْفَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ، أَوْ بِمَا قَبْلَهُ ... لَا بِنِيَّةِ الْإِعْرَاضِ" ( ).اهـ وأما الابتداء: فهو الشروع في القراءة بعد قطع، أو وقف. س (40): متى كان مبدأ هذا العلم؟ الجواب: مبدأ هذا العلم كان في عهد الصحابة ، قال عَبْدُ اللَّهِ ابن عُمَرَ: "لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ وَتَنْزِلُ السُّورَةُ على محمد فَنَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهَا .." ( ). وَقَالَ النَّحَّاسُ: فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْأَوْقَافَ كَمَا يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ. س (41): وما أنواع الوقف؟ الجواب: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْوَقْفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (تَامٌّ)، وَ(حَسَنٌ)، وَ(قَبِيحٌ). فَالتَّامُّ: الَّذِي يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَالِابْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهُ وَلَا يَكُونُ بَعْدَهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَالْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهُ. وَالْقَبِيحُ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِتَامٍّ وَلَا حَسَنٍ. س (42): ما أهمية العلم بأحكام الوقف والابتداء؟ الجواب: العلم بالوقف والابتداء يعين على (فهم مراد الله تعالى)، وهو معين على (التدبر والاستنباط)، و(نقض العقائد الباطلة) التي حملت السياق القرآني على غير محمله. قال محمد بن يالوشيه: "ومعرفة الوقف والابتداء: متأكدة غاية التأكد؛ إذ لا يتبين معنى كلام الله ويَتمُّ على أكمل وجهٍ إلا بذلك، فربما قارىء يقرأ ويقف قبل تمام المعنى، فلا يَفْهَمُ هو ما يقول، ولا يفهمه السامع؛ بل ربما يُفْهَمُ من ذلك غير المعنى المراد، وهذا فساد عظيم ..." ( ).اهـ ولذلك قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: "مِنْ تَمَامِ مَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ مَعْرِفَةُ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ فِيهِ".اهـ الباب التاسع: المحكم والمتشابه. الفصل الأول: مذاهب العلماء في المحكم والمتشابه. س (43): ما المقصود بالمحكم والمتشابه؟ الجواب: قال الزركشي: "الْقُرْآنُ فيه مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، وَقَدْ يُوصَفُ جَمِيعُ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ فِي الدَّلَالَةِ وَالْإِعْجَازِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، وَقَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ أُحْكِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ فِيهِ تَفَاوُتٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَأمَّا إذا كان الْمُحْكَمُ فِي مُقَابَلَةِ الْمُتَشَابِهِ: فقد اخْتُلِفَ فِيهِ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ: فقيل: (الْمُحْكَمُ مَا اتَّصَلَتْ حُرُوفُهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا انْفَصَلَتْ)، كَالْحُرُوفِ الْمُتَقَطِّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وفيه نظر، فَإِنَّ الْكَلِمَةَ قَدْ تَتَّصِلُ وَلَا تَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهَا، وَتَتَرَدَّدُ بَيْنَ احْتِمَالَاتٍ وَتُعَدُّ مُتَشَابِهَةً. وقيل: (الْمُحْكَمُ: الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِي الْأَحْكَامِ، وَالْمُتَشَابِهُ: الْقَصَصُ وَسِيَرُ الْأَوَّلِينَ)؛ لِأَنَّ الْمُحْكَمَ مَا اُسْتُفِيدَ الْحُكْمُ مِنْهُ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا لَا يُفِيدُ حُكْمًا. وَاللُّغَةُ لَا تَشْهَدُ لِذَلِكَ. وقيل: (الْمُحْكَمُ: النَّاسِخُ، وَالْمُتَشَابِهُ: الْمَنْسُوخُ). وقيل: (الْمُحْكَمَ: مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنْ التَّأْوِيلِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا احْتَمَلَ أَوْجُهًا)، وَجَرَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ. وقيل: (الْمُحْكَمُ مَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ بِظَاهِرِهِ، أَوْ بِدَلَالَةٍ تَكْشِفُ عَنْهُ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا لَا يُعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ). وقيل غير ذلك ( ). الفصل الثاني: صفات الله -عزَّ وجلَّ- ليست من المتشابه. س (44): هل صفات الله تعالى من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله؟ الجواب: صفات الله تعالى ليست من المتشابه المطلق، فإنَّ الصفات تنقسم إلى: (معنى، وكيف)، وكل قسم له حكمه: فأما (المعنى): فَمِن الْمُحْكَم، قال شيخ الإسلام: "فَإِنِّي مَا أَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَلَا مِنْ الْأَئِمَّةِ، لَا أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَلَا غَيْرِهِ أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ، وَلا جَعَلُوا أَسْمَاءَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْأَعْجَمِيِّ الَّذِي لَا يُفْهَمُ، وَلَا قَالُوا: إنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ كَلَامًا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَالُوا كَلِمَاتٍ لَهَا مَعَانٍ صَحِيحَةٌ، وَنُصُوصُ أَحْمَد وَالْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ بَيِّنَةٌ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ النُّصُوصَ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَاهَا، وَيَفْهَمُونَ مِنْهَا بَعْضَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ؛ كَمَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ نُصُوصِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْفَضَائِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ" ( ). وأما (الكيف): فَمِن المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. الباب العاشر: العام والخاص. الفصل الأول: تعريف العام، وصيغ العموم. س (45): ما تعريف العام، وما صيغه؟ الجواب: العام: (اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ)، فخرج بقولنا: «المستغرق لجميع أفراده»؛ ما لا يتناول إلا واحدًا كالعَلَم والنكرة في سياق الإثبات؛ كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]؛ لأنها لا تتناول جميع الأفراد على وجه الشمول، وإنما تتناول واحدًا غير معيَّن، وخرج بقولنا: «بلا حصر»؛ ما يتناول جميع أفراده مع الحصر كأسماء العدد: مئة وألف ونحوهما. وأما المراد بصيغ العموم: فالألفاظ الدالة على الشمول والاستغراق في وضع لغة العرب، وهذا ما يمكن أنْ يسمى بـــ (العموم اللفظي)، أو (ألفاظ العموم). فمن ذلك: (كل اسم عرف بالألف واللام غير العهدية)، وذلك يشمل أنواعًا ثلاثة: أ- ألفاظ الجموع؛ كالمسلمين والمشركين. ب- أسماء الأجناس؛ كالناس والحيوان. جـ- لفظ الواحد؛ كالسارق والإنسان. ومن ذلك: (أدوات الشرط)، مثل: "مَنْ" للعاقل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، ومثل: "ما" لما لا يعقل: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ} [البقرة: 197]، ومثل: "أي": «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، ...» ( )، وهذه الأدوات الثلاث تعم مطلقًا، سواء كان شروطًا، أو موصولات، أو استفهامية. ومن ذلك: (كل)، و(جميع)، كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]. ومن ذلك: (النكرة في سياق النفي)، كقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]. الفصل الثاني: تعريف الخاص، وبيان شرط التخصيص. س (46): ما تعريف التخصيص؟ الجواب: التخصيص: (قصر العام على بعض أفراده، بدليل يدل على ذلك)، أو (تمييز بعض أفراد العام بحُكمٍ). س (47): ما شروط التخصيص؟ الجواب: الشرط الأول: أنه لا يصح التخصيص إلا بدليل صحيح. الشرط الثاني: التعارض بين العام والخاص؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221]، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]. وأما إذا ذكر أحد أفراد العام دون تعارض: ففي الغالب يُذكر لمزية خاصة لا للتخصيص؛ كما في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، فجبريل ، وميكال ، يدخلان في عموم الملائكة، وذكرهما يدل على أنَّ العداوة لهما ليست كعداوة سائر الملائكة، ولا يراد التخصيص. س (48): ما الفرق بين التخصيص والنسخ؟ الجواب: قال الزركشي: "التَّخْصِيصُ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِالنَّسْخِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِنَقْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ: منها: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ بَيَانُ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ. ومنها: أَنَّ التَّخْصِيصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِالْعَامِّ، وَمُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَنْسُوخِ، وَلَا مُقْتَرِنًا بِهِ؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ" ( ).اهـ الفصل الثالث: البحث عن التخصيص. س (49): هل يُعمل بالعام ابتداء، أم لا بد من البحث عن المخصص أولًا؟ الجواب: قال الشيخ الشنقيطي: "التحقيق ومذهب الجمهور: وجوب اعتقاد العموم والعمل من غير توقف على البحث عن المخصص؛ لأن اللفظ موضوع للعموم، فيجب العمل بمقتضاه، فانْ اطلع على مخصص عمل به, وقيل: لا يجوز اعتقاد عمومه ولا العمل به حتى يبحث عن المخصص بحثًا يغلب به على الظن عدم وجوده؛ لأنه قبل البحث محتمل للتخصيص. قلت: قد قدمنا أنَّ الظاهر يجب العمل به حتى يوجد دليل صارف عنه, ولا شك أنَّ العموم ظاهر في شمول جميع الأفراد كما لا يخفى" ( ).اهـ الفصل الرابع: الفرق بين العام المراد به الخصوص، والعام المخصوص. س (50): ما الفرق بين العام المراد به الخصوص، والعام المخصوص؟ الجواب: اختلفت عبارات العلماء في ذلك، وقد ذكرها الزركشي، ومن أقربها: "أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ الْعَامَّ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ بَعْضًا مُعَيَّنًا فَهُوَ الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ. وَإِنْ أَرَادَ سَلْبَ الْحُكْمِ عَنْ بَعْضٍ مِنْهُ فَهُوَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، مِثَالُهُ قَوْلُهُ: قَامَ النَّاسُ، فَإِذَا أَرَدْت إثْبَاتَ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ مَثَلًا لَا غَيْرُ فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَإِنْ أَرَدْت سَلْبَ الْقِيَامِ عَنْ زَيْدٍ فَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ" ( ). الباب الحادي عشر: المطلق والمقيد: الفصل الأول: تعريف المطلق والمقيد. س (51): ما تعريف المطلق؟ الجواب: الْمُطلق: مَأْخُوذ من مَادَّة تَدور على معنى الانفكاك من الْقَيْد، ومعناه في الاصطلاح: (مَا تنَاول وَاحِدًا غير معِين بِاعْتِبَار حَقِيقَة شَامِلَة لجنسه). وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِير رَقَبَة} [المجادلة: 3]، وَقَوله : "لَا نِكَاح إِلَّا بولِي" ، فَكل وَاحِد من لفظ (الرَّقَبَة)، وَ(الْوَلِيّ) قد يتَنَاوَل وَاحِدًا غير معِين من جنس الرّقاب والأولياء. س (52): ما تعريف المقيد؟ الجواب: {المقيد مَا تنَاول معينًا} كزيد، وَعَمْرو، {أَو مَوْصُوفا بزائد}، أَي: بِوَصْف زَائِد {على حَقِيقَة جنسه}، نَحْو: {شَهْرَيْن مُتَتَابعين} [المجادلة: 4]، و{رَقَبَة مُؤمنَة} [النِّسَاء: 92] . الفصل الثاني: أقسام المطلق والمقيد، حُكْم كل قسم منهما. س (53): ما أقسام المطلق والمقيد، وما حُكْمُ كل قسم؟ الجواب: قال الشيخ الشنقيطي: "المطلق والمقيد لهما أربع حالات: الأولى: أنْ يتحد حكمهما وسببهما. الثانية: أنْ يتحد الحكم ويختلف السبب. الثالثة: أنْ يتحد السبب ويختلف الحكم. الرابعة: أنْ يختلفا معًا. فإنْ اتحد السبب والحكم: وجب حمل المطلق على المقيد خلافًا لأبي حنيفة، ومثاله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3], مع قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، وحجة أبي حنيفة: أنَّ الزيادة على النص نسخ. وإنْ اتحد الحكم واختلف السبب: كقوله في كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92], مع قوله في اليمين، والظهار: رقبة فقط {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]. فقيل: يحمل المطلق على المقيد، فيشترط الإيمان في رقبة الظهار، واليمين. وقيل: لا يحمل عليه. وإنْ اختلف الحكم: فلا يحمل المطلق على المقيد سواء اختلف السبب، أو اتفق كخصال الكفارة؛ إذ قيد الصوم بالتتابع، وأطلق الإطعام؛ لأن القياس من شرطه اتحاد الحكم, والحكم هنا مختلف، وإنْ اختلف الحكم والسبب معًا: فلا خلاف في عدم حمله عليه. وإنْ اختلف الحكم واتحد السبب: فبعض العلماء يقول في هذه الصورة يحمل المطلق على المقيد, ومثلوا له: بصوم الظهار وعتقه فإنهما مقيدان بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3-4], وإطعامه مطلق عن ذلك، فيقيد بكونه قبل المسيس, حملًا للمطلق على المقيد لاتحاد السبب. (تنبيه): هذا الذي ذكرنا فيما إذا كان المقيد واحدًا، أما إذا كان هناك مقيدان مقيدين مختلفين: فإنْ كان أحدهما أقرب للمطلق حمل عليه عند جماعة من العلماء, وإنْ لم يكن أحدهما أقرب لم يحمل على واحد منهما اتفاقًا. مثال الأول: إطلاق صوم كفارة اليمين عن القيد مع قيد التتابع في صوم الظهار, وقيد التفريق في صوم التمتع. فالظهار أقرب لليمين من التمتع؛ لأن كلا منهما كفارة. فيقيد بالتتابع دون التفريق. ومثال الثاني: صوم قضاء رمضان, فإنه تعالى أطلقه في قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، مع قيد صوم الظهار بالتتابع، وصوم التمتع بالتفريق, وقضاء رمضان ليس أقرب لواحد منهما، فيبقي على إطلاقه من شاء تابعه، ومن شاء فرقه ( ). الباب الثاني عشر: الناسخ والمنسوخ. الفصل الأول: تعريف النسخ، وشروطه. س (54): ما تعريف النسخ، وما شروطه؟ الجواب: النَّسْخُ: يَأْتِي بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52]، وَيَأْتِي بِمَعْنَى التَّبْدِيلِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101]. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَدِّهِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ: (رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِخِطَابٍ مُتَراخٍ). وَالْعِلْمُ بِهِ عَظِيمُ الشَّأْنِ، وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ كِتَابَ اللَّهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ مِنْهُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ ( ). وَأَمَّا شُرُوطِ النَّسْخِ: فالْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ شَرْعِيًّا لَا عَقْلِيًّا، أَيْ: قَدْ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ، ثُمَّ رُفِعَ، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَفْعَلُهُ النَّاسُ بِعَادَةٍ لَهُمْ أُقِرُّوا عَلَيْهَا، ثُمَّ رُفِعَ كَاسْتِبَاحَتِهِمْ الْخَمْرَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى عَادَةٍ كَانَتْ لَهُمْ إلَى أَنْ حُرِّمَ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا، وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُنْفَصِلًا عَنْ الْمَنْسُوخِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، فَإِنَّ الْمُقْتَرِنَ؛ كَالشَّرْطِ، وَالصِّفَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ، لَا يُسَمَّى نَسْخًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بِخِطَابٍ شَرْعِيٍّ، فَارْتِفَاعُ الْحُكْمِ بِمَوْتِ الْمُكَلَّفِ، أَوْ جُنُونِهِ: لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَإِنَّمَا هُوَ سُقُوطُ التَّكْلِيفِ جُمْلَةً. الرَّابِعُ: لَا يَتَحَقَّقُ النَّسْخُ إلَّا مَعَ التَّعَارُضِ، فَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الْجَمْعِ فَلَا. الفصل الثاني: ما يقع فيه النسخ، وما يمتنع. س (55): ما يقع فيه النسخ، وما يمتنع؟ الجواب: لَا يَقَعُ النَّسْخُ إِلَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَأَمَّا الْأَخْبَارَ: فلا [عَلَى الصَّحِيحِ] ( ). وَمما لَا يَقَعُ النَّسْخُ فيه: مَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَطَاعَتِهِ أَبَدًا، وَالتَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] ( ). الفصل الثالث: أقسام النسخ. س (56): ما أقسام النسخ؟ الجواب: قال الزركشي: "النَّسْخُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: ما نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، فَيُعْمَلُ بِهِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ؛ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي سُورَةِ النُّورِ: "الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ" ( )؛ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِكَتَبْتُهَا بِيَدِي. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" مُعَلَّقًا ( ). الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ تِلَاوَتُهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 240] الْآيَةَ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا لَزِمَتِ التَّرَبُّصَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَوْلًا كَامِلًا، وَنَفَقَتُهَا فِي مَالِ الزَّوْجِ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] الْآيَةَ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: نَسْخُهُمَا جَمِيعًا، فَلَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ؛ كَآيَةِ التَّحْرِيمِ بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: "كَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهِيَ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( ). وَفِي قَوْلِهَا: "مِمَّا يُقْرَأُ" إشْكَالٌ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ بَقَاءُ التِّلَاوَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَارَبَ الْوَفَاةَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التِّلَاوَةَ نُسِخَتْ أَيْضًا وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ كُلَّ النَّاسِ إِلَّا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتُوُفِّيَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْرَؤُهَا ( ). س (57): وما الحكمة في رفع الحُكْمِ وَبَقَاء التِّلَاوَة؟ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا يُتْلَى لِيُعْرَفَ الْحُكْمُ مِنْهُ وَالْعَمَلُ بِهِ: فَيُتْلَى لِكَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُثَابُ عَلَيْهِ، فَتُرِكَتِ التِّلَاوَةُ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ. وَثَانِيهُمَا: أَنَّ النَّسْخَ غَالِبًا يَكُونُ لِلتَّخْفِيفِ فَأُبْقِيَتِ التِّلَاوَةُ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ، وَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ ( ). س (58): هل وقع نسخ المأمور به قبل امتثاله، وما الحكمة منه؟ الجواب: نَسْخُ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ وَاقِع؛ كَأَمْرِ الْخَلِيلِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12]، ثم نسخه سبحانه بقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 13]. وَأَمَّا حِكْمَةُ النَّسْخِ هنا قَبْلَ الْعَمَلِ: أنْ يُثَابَ العبد عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَعَلَى نِيَّةِ طَاعَةِ الْأَمْرِ ( ). الفصل الرابع: الحكمة من النسخ. س (59): وما الحكمة من النسخ بوجه عام؟ الجواب: قال السخاوي: "حكمة النسخ: اللطف بالعباد وحملهم على ما فيه إصلاح لهم، ولم يزل الباري -عز وجل- عالمــًا بالأول والثاني، وبمدة الأول وابتداء مدة الثاني قبل إيجاد خلقه وتكليفهم ذلك ونقلهم عنه إلى غيره، وما زال -عز وجل- مريدًا للأول إلى زمن نسخه، مريدًا لإزالة حكمه إلى بدل، أو إلى غير بدل" ( ).اهـ وهذا كله على مقتضى الحكمة والمصلحة، قال ابن القيم: "... فَهَكَذَا أوَامِر الرب -تبَارك وَتَعَالَى- وشرائعه، سَوَاء يكون الْأَمر منشأ الْمصلحَة ونافعًا للْمَأْمُور فِي وَقت دون وَقت، فيأمره بِهِ -تبَارك وَتَعَالَى- فِي الْوَقْت الَّذِي علم أَنه مصلحَة فِيهِ، ثمَّ ينْهَى عَنهُ فِي الْوَقْت الَّذِي يكون فعله فِيهِ مفْسدَة، على نَحْو مَا يَأْمر الطَّبِيب بالدواء وَالْحمية فِي وَقت هُوَ مصلحَة للْمَرِيض، وينهاه عَنهُ فِي الْوَقْت الَّذِي يكون تنَاوله مفْسدَة لَهُ؛ بل أحكم الْحَاكِمين الَّذِي بهرت حكمته الْعُقُول أولى بمراعاة مصَالح عباده ومفاسدهم فِي الْأَوْقَات، وَالْأَحْوَال، والأماكن، والأشخاص. وَهل وضعت الشَّرَائِع إِلَّا على هَذَا؟!" ( ).اهـ الفصل الخامس: شبهة حول النسخ والجواب عنها. س (60): هل يلزم من النسخ البَدَاء (ظهور الشىء بعد خفاء)؟ الجواب: هذا لا يلزم أبدًا، قال ابن حزم: "فإنْ قال قائل: ما الفرق بين (البَدَاء) و(النسخ)؟ قيل له -وبالله التوفيق-: الفرق بينهما لائح، وهو أنَّ (البَدَاء) هو: أنْ يأمر بالأمر والآمر لا يدري ما يؤول إليه الحال، و(النسخ) هو: أنْ يأمر بالأمر والآمر يدري أنه سيحيله في وقت كذا، ولا بد قد سبق ذلك في عمله وحتمه من قضائه. فلما كان هذان الوجهان معنيين متغايرين مختلفين: وجب ضرورة أنْ يعلق على كل واحد منها اسم يعبر به عنه غير اسم الآخر؛ ليقع التفاهم ويلوح الحق. فالبَدَاء: ليس من صفات الباري تعالى، ولسنا نعني (الباء، والدال، والألف)، وإنما نعني المعنى الذي ذكرنا من أنْ يأمر بالأمر لا يدري ما عاقبته، فهذا مبعد من الله -عز وجل-، وسواء سموه نسخًا، أو بَدَاء، أو ما أحبوا. وأما النسخ: فمن صفات الله تعالى من جهة أفعاله كلها، وهو القضاء بالأمر قد عَلِمَ أنه سيحيله بعد مدة معلومة عنده -عز وجل- كما سبق في علمه تعالى" ( ).اهـ الباب الثالث عشر: المنطوق والمفهوم الفصل الأول: تعريف المنطوق وأقسامه: س (61): ما تعريف المنطوق، وما أقسامه؟ الجواب: المعنى المستفاد من اللفظ إنْ استفيد من حيث النطق به سُمي (منطوقًا)، أو من حيث السكوت اللازم للفظ سُمي (مفهومًا). والمنطوق في اللغة هو: (الملفوظ به). واصطلاحًا هو: (ما دلَّ عليه اللفظ في محل النطق). وينقسم المنطوق إلى قسمين: (صريح، وغير صريح). أما الصريح: فهو الذي وضع اللفظ له فَيدل عَلَيْهِ بــ (المطابقة)، أَو (التضمن) ( ). وأما غير الصريح: فهو ما يلزم عنه، أي: ما دلَّ عليه في غير ما وضع له، وإنما يدل من حيث إنه لازم له، فهو دال عليه بــ (الالتزام) ( )، وهو ثلاثة أقسام: (اقتضاء)، و(إشارة)، و(إيماء)؛ لأنه إما أنْ يكون مقصودًا للمتكلم، ولكن يتوقف على ما يصححه، أو لا يتوقف، أو يكون غير مقصود للمتكلم. س (62): وما تعريف المفهوم، وما أقسامه؟ الجواب: المفهوم: (ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق). وينقسم المفهوم إلى قسمين: (مفهوم الموافقة)، و(مفهوم المخالفة). أما مفهوم الموافقة: فهو أنْ يكون المسكوت عنه موافقًا للمنطوق في الحكم، ويُسمى: (فحوى الخطاب)، ما يفهم منه بطريق القطع، كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب، فهو أولى منه بالتحريم؛ لأنه أشد منه، فتحريم الضرب من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، من باب التنبيه بالأدنى، وهو التأفيف على الأعلى وهو الضرب. ويُسمى أيضًا: (لحن الخطاب)، أي: معنى الخطاب، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، أي: في معناه؛ كتحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه نظرًا في معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، فالإحراق مساوٍ لأكل مالهم بواسطة الإتلاف في الصورتين. فالصحيح أنَّ (مفهوم الموافقة) قسمان: قسم يكون أولى بالحكم، وهو الأكثر، وقسم يكون مساويًا، وقد تقدم مثالهما. وأما مفهوم المخالفة: فهو أنْ يكون المسكوت عنه مخالفًا في الحكم، ويُسمى هذا النوع (دليل الخطاب)، وإنما سُمي بذلك؛ لأنَّ دلالته من جنس دلالات الخطاب، أو لأنَّ الخطاب دال عليه، أو لمخالفته منظوم الخطاب ( ). وينقسم مفهوم المخالفة إلى ستة أقسام: القسم الأول: مفهوم الصفة، كصفة السوم في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وَفِي صَدَقَةِ الغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، ... » ( )، فالمنطوق (السائمة): والمسكوت عنه: (المعلوفة)، والتقييد بالسوم يفهم منه عدم الزكاة في المعلوفة. القسم الثاني: مفهوم التقسيم، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ» ( )، فالتفريق بين الثيب والبكر يدل على انتفاء ذلك الحكم عن القسم الآخر، ولو عم الحكم النوعين لم يكن للتقسيم فائدة. القسم الثالث: مفهوم الشرط، والمراد به ما علق من الحكم على شيء بأداة الشرط، مثل: "إن" و"إذا"، وهو المسمى بالشرط اللغوي لا الشرط الذي هو قسيم السبب والمانع، وذلك كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فإنه يدل بمفهومه على عدم وجوب النفقة للمعتدة غير الحامل. القسم الرابع: مفهوم الغاية، وهو: مد الحكم بأداة الغاية، مثل: (إلى)، و(حتى)، ومثال ذلك قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. القسم الخامس: مفهوم العدد، وهو: تعليق الحكم بعدد مخصوص، نحو قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. القسم السادس: مفهوم اللقب، وهو: تخصيص اسم بحكمٍ، كالتنصيص على الأعيان الستة في الربا ( )، فإنه يمنع جريانه في غيرها، أما إنْ استلزم اللقبُ أوصافًا صالحة لإناطة الحكم به: فإنه يُعتبر (مفهوم صفة) لا (مفهوم لقب). الفصل الثالث: مذاهب العلماء في الاحتجاج بالمفهوم. س (63): وما مذاهب العلماء في الاحتجاج بالمفهوم؟ الجواب: أما مفهوم الموافقة: فجماهير أهل العلم على القول به، خلافًا للظاهرية، وقد قال ابن رشد: لا ينبغي للظاهرية أنْ يخالفوا في مفهوم الموافقة؛ لأنه من باب السمع، والذي يرد ذلك يرد نوعًا من الخطاب، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية عمن ردَ (مفهوم الموافقة): "وهو مكابرة". وأما مفهوم المخالفة: فقد وقع الخلاف في القول به، وجماهير أهل العلم على الاحتجاج به، وذلك باستثناء (مفهوم اللقب)، قال ابن قدامة: "وأنكره الأكثرون، وهو الصحيح؛ لأنه يفضي إلى سد باب القياس، وأنَّ تنصيصه على الأعيان الستة في الربا يمنع جريانه في غيرها" ( ).اهـ الباب الرابع عشر: إعجاز القرآن. الفصل الأول: تعريف الإعجاز. س (64): ما المراد بالإعجاز؟ الجواب: العجز: الضعف، ويقال: (أعجزني فلان)، إذا عجزت عن طلبه وإدراكه، فمعنى الإعجاز: الفوت والسبق. وقال الجرجاني: "الإعجاز في الكلام هو: أنْ يؤدي المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق". والمراد بإعجاز الْقُرْآن كما قال الكفوي: "إعجاز الْقُرْآن: ارتقاؤه في البلاغة إلى أنْ يخرج عن طور الْبشر ويعجزهم عن معارضته" ( ). والإعجاز والتحدي به ليس مقصودًا لذاته، وإنما لإثبات نسبة القرآن إلى الله تعالى، وبيان صدق الرسول الذي أتى به. الفصل الثاني: وجوه إعجاز القرآن الكريم. س (65): ما وجوه إعجاز القرآن الكريم؟ الجواب: أوجه إعجاز القرآن كثيرة جدًّا، منها: - الْفَصَاحَةُ وغرابةُ الأسلوب، وَالسَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ. - مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبِلَةِ. - ما تضمنه من الإخبار عن قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَسَائِرِ الْمُتَقَدِّمِينَ حِكَايَةَ مَنْ شَاهَدَهَا وَحَضَرَهَا ( ). - تطابق الاكتشافات العلمية مع الآيات القرآنية ( ). - ما تضمنه من تشريعات تضمن مصالح البشر. قال شيخ الإسلام: "وَكَوْنُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِهَةِ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ فَقَطْ، أَوْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ فَقَطْ، وَلَا مِنْ جِهَةِ إِخْبَارِهِ بِالْغَيْبِ فَقَطْ، وَلَا مِنْ جِهَةِ صَرْفِ الدَّوَاعِي عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَقَطْ، وَلَا مِنْ جِهَةِ سَلْبِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى مُعَارَضَتِهِ فَقَطْ؛ بَلْ هُوَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ مُعْجِزَةٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَمِنْ جِهَةِ النَّظْمِ، وَمِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، وَمِنْ جِهَةِ مَعَانِيهِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ جِهَةِ مَعَانِيهِ، الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عَنِ الْغَيْبِ الْمَاضِي، وَعَنِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِنْ جِهَةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْمَعَادِ، وَمِنْ جِهَةِ مَا بَيَّنَ فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْأَقْيِسَةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 89]، ... . وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ النَّاسُ مِنَ الْوُجُوهِ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، هُوَ حُجَّةٌ عَلَى إِعْجَازِهِ، وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ، بَلْ كُلُّ قَوْمٍ تَنَبَّهُوا لِمَا تَنَبَّهُوا لَهُ. ( ).اهـ الفصل الثالث: الإعجاز اللغوي. س (66): فصاحة القرآن من أوجه إعجازه، فما وجه ذلك؟ الجواب: قال الباقلاني: "وَجْهُ إِعْجَازِهِ مَا فِيهِ مِنَ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّرْصِيفِ، وَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ جَمِيعِ وُجُوهِ النَّظْمِ الْمُعْتَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمُبَايِنٌ لِأَسَالِيبِ خِطَابَاتِهِمْ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ مُعَارَضَتُهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ الَّتِي أَوْدَعُوهَا فِي الشِّعْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَخْرِقُ الْعَادَةَ؛ بَلْ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالْعِلْمِ وَالتَّدْرِيبِ وَالتَّصَنُّعِ بِهِ؛ كَقَوْلِ الشِّعْرِ، وَرَصْفِ الْخُطَبِ، وَصِنَاعَةِ الرِّسَالَةِ، وَالْحِذْقِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَلَهُ طَرِيقٌ تُسْلَكُ، فَأَمَّا شَأْوُ نَظْمِ الْقُرْآنِ: فَلَيْسَ لَهُ مِثَالٌ يُحْتَذَى، وَلَا إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ، وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ مِثْلِهِ اتِّفَاقًا" ( ).اهـ الفصل الرابع: الإعجاز العلمي. س (67): ما الفرق بين (التفسير العلمي)، و(الإعجاز العلمي)؟ الجواب: أما (التفسير العلمي): فهو محل بحث ومناقشة، وفيه ما صحيح، وفيه ما هو متكلف، وكل بحسبه، فما كان صحيحًا قُبِل، وما كان متكلفًا ردَّ، فإعجاز القرآن ثابت، وهي غني عن أنْ يُسلك في بيانه هذا المسلك المتكلَّف. وأما (الإعجاز العلمي): فهو أمر مستقر لا جدال فيه ولا إشكال، فقد تحدث القرآن عن كثير من مظاهر هذا الوجود الكونية؛ كخلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، وسوق السحب وتراكمه، ونزول المطر، وجريان الشمس والقمر، وتحدث عن الكواكب والنجوم والشهب، وأطوار الجنين، والنبات، والبحار، وغير ذلك كثير، ومع ذلك كله لم يُسقط العلم كلمة من كلماته، ولم يصادم جزئية من جزئياته، فإذا كان الأمر كذلك فإنَّ هذا بحد ذاته يعتبر إعجازًا علميًّا للقرآن. هذه النتيجة المتولدة عن أنَّ القرآن لم ولن يصادم حقيقة علمية، لم نشاهد بين علماء المسلمين من أنكرها، لا في القديم ولا في الحديث، وكل ما يثار من ضجة ما هو إلا عن (التفسير العلمي)، لا عن (الإعجاز العلمي) ( ). الفصل الخامس: ضوابط الكلام في التفسير العلمي. س (68): ما ضوابط الكلام في (التفسير العلمي)؟ الجواب: تقدم في الفصل السابق التفريق بين (الإعجاز العلمي)، وهو متفق عليه، و(التفسير العلمي)، وهو محل نظر ومناقشة، وقد قبله البعض مطلقًا، وردَّه البعض مطلقًا سدًّا للذريعة، والصواب: قبوله بشروط وضوابط، منها: - أنْ يكون النص مفهوم المعنى تمامًا لمجموع المخاطبين به منذ صدوره، حتى لا يلزم من ذلك تجهيل السابقين. - أنْ يكون المعنى الإعجازي مدلولًا متعينًا للنص، فتخرج بذلك المعاني المحتملة. - إذا ادعي الإعجاز في حديث نبوي شريف لزم انتفاء احتمال صدوره بظن واجتهاد من النبي ، وذلك لاحتمال عدم صدوره عن وحي. - إجماع المختصين على كون الاكتشاف العلمي المدَّعى وقوع الإعجاز العلمي به حقيقة قطعية نهائية تمتنع إعادة النظر فيها، فيخرج بذلك كل ما يسوغ التحدي في أمر ثبوته، واليقين به على إثبات صدق النبوة ( ). الفصل السادس: الإعجاز التشريعي. س (69): الإعجاز التشريعي من أوجه الإعجاز، فما وجهه؟ الجواب: أودع الله في الإنسان كثيرًا من الغرائز التي تعتمل في النفس وتؤثر عليها في اتجاهات الحياة، ولئن كان العقل الرشيد يعصم صاحبه من الزلل: فإنَّ النزعات النفسية المنحرفة تطغى على سلطان العقل؛ لهذا كان لا بد لاستقامة الإنسان من تربية خاصة لغرائزه، تهذبها وتنميها، وتقودها إلى الخير والفلاح. وقد عرفت البشرية في عصور التاريخ ألوانًا مختلفة من المذاهب والنظريات والنظم والتشريعات التي تستهدف سعادة الفرد، ولكن واحدًا منها لم يبلغ من الروعة والإجلال مبلغ القرآن في إعجازه التشريعي. قال ابن القيم: "فإنَّ الشريعة مَبْنَاها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإنْ أُدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عَدْل اللَّه بين عباده، ورحمته بين خلقه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله  أتَمَّ دلالةٍ وأصدَقَها" ( ).اهـ الفصل السابع: الإعجاز القصصي. س (70): الإعجاز القصصي من أوجه الإعجاز، فما وجهه؟ الجواب: ذكر الله تعالى في القرآن من أخبار الأمم السابقة، وذلك للدلالة على صدق نبوة النبي ، ولأخذ العبرة من أحوال الماضين، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف: 111]، قال شيخ الإسلام: "إِخْبَارُهُ لِقَوْمِهِ بِالْغَيْبِ الْمَاضِي الَّذِي لَا يُمْكِنُ بَشَرًا أَنْ يَعْلَمَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ تَلَقَّاهُ عَنْ نَبِيٍّ، وَقَوْمُهُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ ذَلِكَ مِنْ بَشَرٍ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا غَيْرِهِمْ. وَهَذَا نَوْعَانِ: مِنْهُ: مَا كَانَ يَسْأَلُهُ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ ; لِيَنْظُرَ هَلْ هُوَ نَبِيٌّ أَمْ لَا؟ وَكَانَ قَوْمُهُ يُرْسِلُونَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، الْبَعِيدِينَ عَنْهُمْ، مِثْلَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ، فَيُرْسِلُونَ إِلَيْهِمْ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، وَيَمْتَحِنُونَ بِذَلِكَ هَلْ هُوَ نَبِيٌّ أَمْ لَا؟ وَمِنْهُ: مَا كَانَ اللَّهُ يُخْبِرُهُ بِهِ ابْتِدَاءً، وَيَجْعَلُهُ عَلَمًا وَآيَةً لِنُبُوَّتِهِ، وَبُرْهَانًا لِرِسَالَتِهِ، مَعَ مَا فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَصِ مِنَ الِاعْتِبَارِ لِأُمُورٍ أُخْرَى، فَكَانَ كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ دَلِيلًا وَعِبْرَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ" ( ).اهـ الفصل الثامن: فوائد العلم بإعجاز القرآن: س (71): ما فائدة العلم بإعجاز القرآن؟ الجواب: إعجاز القرآن علم جليل عَظِيمُ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ نُبُوَّةَ النبيِّ  مُعْجِزَتُهَا الْبَاقِيَةُ: (الْقُرْآنُ) وهو يُوجِبُ الاهتمامَ بِمَعْرِفَةِ الْإِعْجَازِ، ولذلك اعْتَنَى بذلك الْأَئِمَّةُ وَأَفْرَدُوهُ بِالتَّصْنِيفِ، ومن فوائد العلم بإعجاز القرآن الكريم: - إدراك أنَّ المعجزة القرآنية لم تكن موقوتة بوقت الدعوة فقط، وإنما هي قائمة ما دامت الحياة. - إدراك صدق النبي  وإلزام المعاند بذلك، وهذا ما فعله شيخ الإسلام في كتابه: (الجواب الصحيح)، حيث ألزم النصارى إثبات صدق النبي  بطريق إعجاز القرآن. - إثبات صحة هذا الدين، وثبوت كونه من عند الله تعالى، وهذا ظاهر لمن تأمل في أسرار هذا الكتاب الكريم. - حصول هداية الخلق، وقيام الحجة على الجميع، والمعذرة إلى الله تعالى؛ ولهذا جعل الله هذا الكتاب حجة على الناس إلى يوم القيامة، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1]. - دفع مزاعم القائلين بأن هناك عداوة بين الدِّين والعلم. - امتلاء النفس إيمانًا بعظمة الله وقدرته حينما يقف الإنسان في تفسير كلام الله على خواص الأشياء ودقائق المخلوقات حسبما تصورها علوم الكون ( ). الفصل التاسع: إبطال القول بالصَّرفة. س (72): ما حقيقة الصَّرفة في إعجاز القرآن؟ الجواب: الصَّرفُ يدور في اللغة على: (ردِّ الشىء عن وجهه)، وفي الاصطلاح: قال الخطابي: "صرف الهمم عن المعارضة, وإنْ كانت مقدورًا عليها, وغير مُعَجَّزة عنها؛ إلا أنَّ العائق من حيث كان أمرًا خارجًا عن مجاري العادات صار كسائر المعجزات" ( ). أي: أنَّ العرب كانت تستطيع أنْ تأتي بمثل القرآن، ولكن الله تعالى صرفهم عن ذلك، والتحقيق: أنَّ القائلين بالصَّرفة ليسوا على شريحة واحدة. ففريق يقول: بالصَّرفة مع إنكار الإعجاز البلاغي للقرآن، أي: أنَّ العرب كانت تستطيع أنْ تأتي بمثله، ولكن الله تعالى صرفهم عن ذلك، ويقولون بأنَّ إعجاز القرآن في الإخبار بالغيب. والفريق الآخر: يجمع بين الإعجاز البلاغي والصَّرفة، والصَّرفة عندهم كانت حفظًا للقرآن من التشويش، ولولا ذلك لطمع فيه من لا يستطيع الإتيان بمثله ( ). قال شيخ الإسلام: "الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَقْدِرُ مُحَمَّدٌ  -نَفْسُهُ- مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُبَدِّلَ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ؛ بَلْ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ سَائِرِ كَلَامِهِ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَدَبُّرٍ، كَمَا قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، وَأَيْضًا فَالنَّاسُ يَجِدُونَ دَوَاعِيَهِمْ إِلَى الْمُعَارَضَةِ حَاصِلَةً، لَكِنَّهُمْ يُحِسُّونَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْعَجْزَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، وَلَوْ كَانُوا قَادِرِينَ لَعَارَضُوهُ، وَقَدِ انْتَدَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ لِمُعَارَضَتِهِ، لَكِنْ جَاءَ بِكَلَامٍ فَضَحَ بِهِ نَفْسَهُ، وَظَهَرَ بِهِ تَحْقِيقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ عَجْزِ الْخَلْقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ... . وَكَذَلِكَ -أَيْضًا- يَعْرِفُونَ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُ قُدْرَتِهِمْ قَبْلَ سَمَاعِهِ وَبَعْدَ سَمَاعِهِ، فَلَا يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ عَاجِزِينَ عَمَّا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ كَمَا وَجَدَ زَكَرِيَّا  عَجْزَهُ عَنِ الْكَلَامِ بَعْدَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ" ( ).اهـ الباب الخامس عشر: أمثال القرآن. الفصل الأول: تعريف المثل. س (73): ما تعريف المثل؟ الجواب: "قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَثَلُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى: (الْمِثْلِ) أَيِ: النَّظِيرِ، يُقَالُ: (مَثَلٌ)، وَ(مِثْلٌ)، وَ(مَثِيلٌ)، ثُمَّ قَالَ: وَيُسْتَعَارُ لِلْحَالِ، أَوِ الصِّفَةِ، أَوِ الْقِصَّةِ إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ. قال الزركشي: وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَثَلَ وَالْمِثْلَ بِمَعْنًى: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَهُوَ الشَّبَهُ، وَإِلَّا فَالْمُحَقِّقُونَ -كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ- عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ بِالْكَسْرِ عِبَارَةٌ عَنْ شِبْهِ الْمَحْسُوسِ، وَبِفَتْحِهَا عِبَارَةٌ عَنْ شِبْهِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ، فَالْإِنْسَانُ مُخَالِفٌ لِلْأَسَدِ فِي صُورَتِهِ مُشْبِهٌ لَهُ فِي جَرَاءَتِهِ وَحِدَّتِهِ، فَيُقَالُ لِلشُّجَاعِ: أَسَدٌ، أَيْ: يُشْبِهُ الْأَسَدَ فِي الْجُرْأَةِ؛ وَلِذَلِكَ يُخَالِفُ الْإِنْسَانُ الْغَيْثَ فِي صُورَتِهِ، وَالْكَرِيمُ مِنَ الْإِنْسَانِ يُشَابِهُهُ فِي عُمُومِ مَنْفَعَتِهِ. وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: سُمِّيَ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ مَاثِلٌ بِخَاطِرِ الْإِنْسَانِ أَبَدًا، أَيْ: شَاخِصٌ فَيَتَأَسَّى بِهِ وَيَتَّعِظُ وَيَخْشَى وَيَرْجُو، وَقَدْ جَاءَ -المثل- بِمَعْنَى الصِّفَةِ كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، أَيِ: الصِّفَةُ الْعُلْيَا" اهـ ( ). الفصل الثاني: أنواع الأمثال في القرآن. س (74): ما أنواع الأمثال في القرآن؟ الجواب: قال السيوطي: "أَمْثَالُ الْقُرْآنِ قِسْمَانِ: (ظَاهِرٌ: مُصَرَّحٌ بِهِ)، وَ(كَامِنٌ: لَا ذِكْرَ لِلْمَثَلِ فِيهِ). فَمِنْ أَمْثِلَةِ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] الْآيَاتُ، ضَرَبَ فِيهَا لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلَيْنِ: مَثَلًا بِالنَّارِ، وَمَثَلًا بِالْمَطَرِ، وعَن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ، فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبَهُمُ اللَّهُ الْعِزَّ كَمَا سُلِبَ صَاحِبُ النَّارِ ضَوْءَهُ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 19، 20]، يَقُولُ: يَكَادُ مُحَكْمُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُنَافِقِينَ {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ}، كُلَّمَا أَصَابَ الْمُنَافِقُونَ فِي الْإِسْلَامِ عِزًّا اطْمَأَنُّوا، فَإِنْ أَصَابَ الْإِسْلَامَ نَكْبَةٌ: قَامُوا لِيَرْجِعُوا إِلَى الْكُفْرِ. وَأَمَّا الْكَامِنَةُ: فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُضَارِبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَأَلْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ، فَقُلْتُ: إِنَّكَ تُخْرِجُ أَمْثَالَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَهَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ: "خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا"؟ قَالَ: نَعَمْ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، منها: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. قُلْتُ: فَهَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ: "مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ"؟ قَالَ: نَعَمْ، {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]. قُلْتُ: فَهَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ: "لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعَيَانِ"؟ قَالَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، ..." اهـ ( ). وقال الزركشي: "وَقَسَّمَهُ [أي: الْمَثَل] أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَكْرَابَاذِيُّ إِلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: إِخْرَاجُ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْحِسُّ إِلَى مَا يَقَعُ عليه. وثانيها: إخراج ما لا يعلم بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ إِلَى مَا يُعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ. وَثَالِثُهَا: إِخْرَاجُ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ إِلَى ما جرت به العادة. ورابعها: إخراج مالا قُوَّةَ لَهُ مِنَ الصِّفَةِ إِلَى مَا لَهُ قوة"اهـ ( ). الفصل الثالث: الحكمة من ضرب الأمثال في القرآن. س (75): ما الحكمة من ضرب الأمثال في القرآن؟ الجواب: قال الزركشي: "وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي الْقُرْآنِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ: التَّذْكِيرُ، وَالْوَعْظُ، وَالْحَثُّ، وَالزَّجْرُ، وَالِاعْتِبَارُ، وَالتَّقْرِيرُ، وَتَرْتِيبُ الْمُرَادِ لِلْعَقْلِ وَتَصْوِيرُهُ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ نِسْبَتُهُ لِلْفِعْلِ كَنِسْبَةِ الْمَحْسُوسِ إِلَى الْحِسِّ، وَتَأْتِي أَمْثَالُ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ تَفَاوُتِ الْأَجْرِ، وَعَلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، وَعَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَعَلَى تَفْخِيمِ الْأَمْرِ، أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر، قال تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 45]، فَامْتَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِذَلِكَ لَمَّا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58]، وَقَالَ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. وقال: الْحِكَمُ وَالْأَمْثَالُ تُصَوِّرُ الْمَعَانِيَ تَصَوُّرَ الْأَشْخَاصِ، فَإِنَّ الْأَشْخَاصَ وَالْأَعْيَانَ أَثْبَتُ فِي الْأَذْهَانِ؛ لِاسْتِعَانَةِ الذِّهْنِ فِيهَا بِالْحَوَاسِّ بِخِلَافِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ فَإِنَّهَا مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْحِسِّ؛ وَلِذَلِكَ دَقَّتْ وَلَا يَنْتَظِمُ مَقْصُودُ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ مُجَرَّبًا مُسَلَّمًا عِنْدَ السَّامِعِ. وَفِي ضرب الأمثال من تقرير المقصود مالا يَخْفَى؛ إِذِ الْغَرَضُ مِنَ الْمَثَلِ تَشْبِيهُ الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ، وَالشَّاهِدِ بِالْغَائِبِ، فَالْمُرَغَّبُ فِي الْإِيمَانِ مَثَلًا إِذَا مُثِّلَ لَهُ بِالنُّورِ: تَأَكَّدَ فِي قَلْبِهِ الْمَقْصُودُ، وَالْمُزَهَّدُ فِي الْكُفْرِ إِذَا مُثِّلَ لَهُ بِالظُّلْمَةِ: تَأَكَّدَ قُبْحُهُ فِي نَفْسِهِ"اهـ ( ). الباب السادس عشر: قصص القرآن. الفصل الأول: معنى القصص: س (76): ما تعريف القصص؟ الجواب: القصُّ: البيان، وقال ابن فارس: الْقَافُ وَالصَّادُ: أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى تَتَبُّعِ الشَّيْءِ. فيُقَال: قصصتُ الشَّيْء إِذا تَتَبعتُ أثَرَه شَيْئًا بعد شَيْءٍ، وَمِنْه قَوْله تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11]، أَي: اتبعِي أَثره. والقاص: من يأتي بالقصة على وجهها؛ كأنه يتتبع معانيها وألفاظها. يقال: قَصَصْتُ الرُّؤْيا على فُلانٍ: أخْبَرْتُه بها، قال تعالى: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5]. والقصص: بالفتح الاسم، وبالكسر جمع قصة ( ). س (77): هل قصة يوسف أحسن قصة في القرآن؟ الجواب: قال الله تعالى في صدر سورة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، فقال البعض: (قصة يوسف  هي أحسن قصة في القرآن)، وهذا فيه نظر، فالمحققون من أهل العلم يقولون: المراد في الآية كل قَصص القرآن، هو أحسن القصص، قال شيخ الإسلام: "وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ: مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ "الْقَصَصَ" بِالْفَتْحِ هُوَ: النَّبَأُ، وَالْخَبَرُ، وَيَقُولُونَ هِيَ أَحْسَنُ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ (أَحْسَنُ الْقِصَصِ) بِالْكَسْرِ، وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (أَحْسَنَ الْقَصَصِ): قِصَّةَ يُوسُفَ وَحْدَهَا؛ بَلْ هِيَ مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ، وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي أَحْسَنِ الْقَصَصِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ: {حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي قَصَصِ الْمُرْسَلِينَ وَأَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَعَاقِبَتُهُمْ بِالنَّصْرِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ بِكَثِيرٍ؛ وَلِهَذَا هِيَ أَعْظَمُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ، ثَنَّاهَا اللَّهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَبَسَطَهَا وَطَوَّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا؛ بَلْ قَصَصُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ -كَنُوحِ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَشُعَيْبٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُرْسَلِينَ- أَعْظَمُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ؛ وَلِهَذَا ثَنَّى اللَّهُ تِلْكَ الْقَصَصَ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يُثَنِّ قِصَّةَ يُوسُفَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ عَادُوا يُوسُفَ لَمْ يُعَادُوهُ عَلَى الدِّينِ؛ بَلْ عَادَوْهُ عَدَاوَةً دُنْيَوِيَّةً، وَحَسَدُوهُ عَلَى مَحَبَّةِ أَبِيهِ لَهُ، وَظَلَمُوهُ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ".اهـ ( ). الفصل الثاني: أنواع القصص في القرآن. س (78): ما أنواع القصص في القرآن؟ الجواب: القَصص في القرآن ثلاثة أنواع: النوع الأول: قَصص الأنبياء، وقد تضمن دعوتهم إلى قومهم، والمعجزات التي أيدهم الله بها، وموقف المعاندين منهم، ومراحل الدعوة وتطورها، وعاقبة المؤمنين والمكذبين. النوع الثاني: قَصص قرآني يتعلق بحوادث؛ كقصة الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وطالوت وجالوت، وابني آدم، وأهل الكهف، وذي القرنين، وقارون، ونحوهم. النوع الثالث: قَصص يتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كغزوة بدر، وأُحد، والهجرة، والإسراء، ونحو ذلك ( ). الفصل الثالث: القصة في القرآن حقيقة لا خيال: س (79): هل كل قصص القرآن حقيقي، أم أنَّ بعضه خرج مخرج التمثيل؟ الجواب: القصة في الآداب الإنسانية مرادها إمتاع الخيال حتى وإن تجردت الواقعية والصدق، أما قصص القرآن فحق، وأخباره صدق، فإنَّ القصص القرآني جزء من الإخبار بالغيب الذي هو آية من آيات صدق النبوة، فلا بد أنْ يكون حقيقيًّا، قال شيخ الإسلام: "مَعْلُومٌ أَنَّ الْخَلْقَ الْكَثِيرَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا شَخْصًا قَدْ جَاءَ بِدِينٍ لَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَتَّبِعُوهُ، وَيُفَارِقُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَيَصْبِرُوا عَلَى عَدَاوَةِ النَّاسِ وَأَذَاهُمْ، وَيَهْجُرُوا لِأَجْلِهِ مَا تَرْغَبُ النُّفُوسُ فِيهِ مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَطَنِ، وَهُوَ -مَعَ ذَلِكَ- يَقُولُ عَمَّا يُخْبِرُهُمْ بِهِ مِنَ الْغَيْبِ: «اللَّهُ أَخْبَرَنِي بِهِ، لَمْ يُخْبِرْنِي بِذَلِكَ بَشَرٌ». فَلَوْ كَانُوا -مَعَ ذَلِكَ- يَعْلَمُونَ أَنَّ تَعَلُّمَهُ مِنْ بَشَرٍ لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَيَمْتَنِعُ فِي جِبِلَّةِ بَنِي آدَمَ وَفِطَرِهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّمَ هَذَا مِنْ بَشَرٍ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُخْبِرُ بِذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ؛ بَلْ وَلَا دَاعِيَ لَهُمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَالْقُرْآنُ كَانَ يَنْزِلُ شَيْئًا فَشَيْئًا، لَمْ يَنْزِلْ جُمْلَةً، بَلْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَنِ الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ مِنَ الْغَيْبِ بَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبَاطَنُوهُ وَاطَّلَعُوا عَلَى أَسْرَارِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يُخْبِرُهُمْ بِهِ، وَهُمْ مُطَّلِعُونَ عَلَى أَمْرِهِ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَسُؤَالًا بَعْدَ سُؤَالٍ، وَهَذَا كَانَ بِمَكَّةَ، وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لَا الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ، يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ فَيُخْبِرُهُمْ بِهَا على وَجْهِهَا، ولَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا تَعَلَّمَهُ مِنَّا، أَوْ مِنْ إِخْوَانِنَا، أَوْ نُظَرَائِنَا، وَلَا إِنَّكَ قَرَأْتَهُ فِي كُتُبِنَا. وَهَذَا لَوْ وَقَعَ، لَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، يَنْقُلُهُ الْمُوَافِقُ وَالْمُخَالِفُ، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ، كَانَ هَذَا دَلِيلًا قَاطِعًا بَيِّنًا فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ الْغَيْبِيَّةَ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهَا، أَوْ مَنْ تَعَلَّمَهَا مِنْ نَبِيٍّ: هِيَ مِمَّا أَنْبَأَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَمْ يُعَلِّمْهُ ذَلِكَ بَشَرٌ".اهـ ( ). الفصل الرابع: الحكمة من إيراد القصص في القرآن. س (80): ما الحكمة من إيراد القصص في القرآن؟ الجواب: الحِكَمُ في إيراد القصص في القرآن كثيرة جدًّا، ومن أهم هذه الحِكَم: أولًا: تسليةُ قلبِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا اتَّفَقَ لِلْأَنْبِيَاءِ مِثْلُهُ مَعَ أُمَمِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]. ثانيًا: التفكر في أحوال السابقين، والتأسي بالصالحين، والبعد عن أحوال الطالحين، {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]. ثالثًا: بيان أنَّ دعوة الرسل جميعًا واحدة، قال ابن القيم: "وَجَمِيعُ الرُّسُلِ إِنَّمَا دَعَوْا إِلَى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ دَعَوْا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ عِبَادَتِهِ، مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَقَالَ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَإِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وَقَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51، 52]".اهـ ( ). رابعًا: الدعوة إلى الاقتداء بالأنبياء -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، فبعد أنْ ذكر الله تعالى جملة من الأنبياء -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. خامسًا: القصص القرآني أصول يقاس عليها، قال شيخ الإسلام: "وَنَظِيرُ ذَلِكَ ذِكْرُ الْقَصَصِ؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَمْثَالٌ هِيَ أُصُولُ قِيَاسٍ وَاعْتِبَارٍ، وَلَا يُمْكِنُ هُنَاكَ تَعْدِيدُ مَا يُعْتَبَرُ بِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ لَهُ فِي حَالَةٍ مِنْهَا نَصِيبٌ، فَيُقَالُ فِيهَا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وَيُقَالُ عَقِبَ حِكَايَتِهَا: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وَيُقَالُ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا}، إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13]، وَالِاعْتِبَارُ هُوَ الْقِيَاسُ بِعَيْنِهِ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ دِيَةِ الْأَصَابِعِ، فَقَالَ: هِيَ سَوَاءٌ، وَاعْتَبِرُوا ذَلِكَ بِالْأَسْنَانِ. أَيْ: قِيسُوهَا بِهَا".اهـ ( ). الفصل الخامس: الحكمة من تكرار بعض القصص في القرآن. س (81): ما الحكمة من تكرار بعض القصص في القرآن؟ الجواب: قال الزركشي: "قَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَ اللَّهُ مُوسَى فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ"، وقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي "الْقَوَاصِمِ":"ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ نُوحٍ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةٍ، وَقِصَّةَ مُوسَى فِي سَبْعِينَ آيَةٍ". انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَرَّرَهَا لِفَائِدَةٍ خَلَتْ عنه في الموضع الآخر، وهي أمور: أحدها: أَنَّ إِبْرَازَ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ وَأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ وَعَجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ آيَةٍ لِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ بَيَّنَ وَأَوْضَحَ الْأَمْرَ فِي عَجْزِهِمْ بِأَنْ كَرَّرَ ذِكْرَ الْقِصَّةِ فِي مَوَاضِعَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بِأَيِّ نَظْمٍ جَاءُوا بِأَيِّ عِبَارَةٍ عَبَّرُوا، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: "وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ". الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ كَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَإِنْ ظُنَّ أَنَّهَا لَا تُغَايِرُ الْأُخْرَى فَقَدْ يُوجَدُ فِي أَلْفَاظِهَا زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتِلْكَ حَالُ الْمَعَانِي الْوَاقِعَةِ بِحَسَبِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ فَأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ لَا بُدَّ وَأَنْ تُخَالِفَ نَظِيرَتَهَا مِنْ نَوْعِ مَعْنًى زَائِدٍ فِيهِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا، فَاجْتَمَعَتْ فِي هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ عِدَّةُ مَعَانٍ عَجِيبَةٍ: مِنْهَا: أَنَّ التَّكْرَارَ فِيهَا مَعَ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ لَمْ يُوقِعْ فِي اللَّفْظِ هُجْنَةً وَلَا أَحْدَثَ مَلَلًا فَبَايَنَ بِذَلِكَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَلْبَسَهَا زِيَادَةً وَنُقْصَانًا وَتَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا؛ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُهُ وَاحِدَةً بِأَعْيَانِهَا فَيَكُونُ شَيْئًا مُعَادًا، فَنَزَّهَهُ عَنْ ذَلِكَ بِهَذِهِ التَّغْيِيرَاتِ".اهـ ( ). الباب السابع عشر: ترجمة القرآن. الفصل الأول: معنى الترجمة: س (82): ما معنى ترجمة القرآن؟ الجواب: قال الزرقاني: "لفظ الترجمة يطلق على معانٍ متعددة بعضها لغوي، وبعضها عرفي عام. الترجمة في اللغة: وضعت كلمة ترجمة في اللغة العربية لتدل على أحد معانٍ أربعة: أولها: تبليغ الكلام لمن لم يبلغه. ثانيها: تفسير الكلام بلغته التي جاء بها، ومنه قيل في ابن عباس: إنه ترجمان القرآن. ثالثها: تفسير الكلام بلغة غير لغته، وقال "شارح القاموس": "وقد ترجمه، وترجم عنه: إذا فسر كلامه بلسان آخر. قاله الجوهري" اهـ. وجاء في تفسير ابن كثير والبغوي أنَّ كلمة ترجمة تستعمل في لغة العرب بمعنى التبيين مطلقًا، سواء اتحدت اللغة أم اختلفت. رابعها: نقل الكلام من لغة إلى أخرى، قال في "لسان العرب": "الترجمان -بالضم والفتح- هو الذي يترجم الكلام، أي: ينقله من لغة إلى أخرى" اهـ. ولكون هذه المعاني الأربعة فيها (بيان) جاز على سبيل التوسع إطلاق الترجمة على كل ما فيه بيان مما عدا هذه الأربعة، فقيل: (ترجم لهذا الباب بكذا)، أي: عنون له، و(ترجم لفلان)، أي: بين تاريخه، و(ترجم حياته)، أي: بين ما كان فيها، وهلم جرا. الترجمة في العرف: العرف الذي تواضع عليه الناس جميعًا: خص الترجمة بالمعنى الرابع اللغوي، وهو: (نقل الكلام من لغة إلى أخرى)، ومعنى نقل الكلام من لغة إلى أخرى: التعبير عن معناه بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده، كأنك نقلت الكلام نفسه من لغته الأولى إلى اللغة الثانية" اهـ. الفصل الثاني: الترجمة الحرفية، وحُكْمها. س (83): ما الترجمة الحرفية للقرآن، وما حكمها؟ الجواب: تنقسم الترجمة بالمعنى العرفي إلى قسمين: (حرفية)، و(تفسيرية)، فالترجمة الحرفية: هي التي تراعى فيها محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه، فهي تشبه وضع المرادف مكان مرادفه، وبعض العلماء يُسمي هذه الترجمة: (لفظية)، وبعضهم يسميها: (مساوية). أما حكمها: فعدم الجواز، وذلك أنَّ الترجمة الحرفية تراعي مفردات الألفاظ دون المعنى، ومقاصد الآيات، والمقصود هو وصول المعنى والمقاصد، ومثال ذلك الترجمة الحرفية لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}[الإسراء:29]، فإنك إذا أردت ترجمتها ترجمة حرفية أتيت بكلام من لغة الترجمة يدل على النهي عن ربط اليد في العنق وعن مدها غاية المد، وهذا التعبير قد يخرج في أسلوب غير معروف ولا مألوف في تفهيم المترجم لهم ما يرمي إليه الأصل من النهي عن التقتير والتبذير؛ بل قد يستنكر المترجم لهم هذا الوضع الذي صيغ به هذا النهي، ويقولون: ما باله ينهى عن ربط اليد بالعنق، وعن مدها غاية المد، وقد يلصقون هذا العيب بالأصل ظلمًا، وما العيب إلا فيما يزعمونه ترجمة للقرآن من هذا النوع. الفصل الثالث: الترجمة التفسيرية، وحُكْمها. س (84): وما الترجمة التفسيرية، وما حكمها؟ الجواب: الترجمة التفسيرية: هي التي لا تراعى فيها محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه؛ بل المهم فيها حسن تصوير المعاني والأغراض كاملة ولهذا تسمى أيضا بــ (الترجمة المعنوية)، وسميت تفسيرية؛ لأن حسن تصوير المعاني والأغراض فيها جعلها تشبه التفسير. أما حكمها: فالجواز، فإنَّ الترجمة التفسيرية تركز على المستطاع من المعاني والمقاصد، فتكون بعد أنْ تفهم المراد مثلًا من قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}[الإسراء:29]، وهو النهي عن التقتير والتبذير في أبشع صورة منفرة منها، فتعمد إلى هذه الترجمة فتأتي منها بعبارة تدل على هذا النهي المراد في أسلوب يترك في نفس المترجم لهم أكبر الأثر في استبشاع التقتير والتبذير، وذلك أنَّ المقصود إيصال المعنى، وإنْ لم يُلتزم نظم الأصل وترتيبه اللفظي. تنبيه: وهذه الترجمة ينبغي أنْ تُسمى: "ترجمة تفسير القرآن"، أو "الترجمة التفسيرية للقرآن"، فالقرآن مليء بالمعاني والأسرار الجلية والخفية إلى درجة تعجز المخلوق عن الإحاطة بها فضلا عن قدرته على محاكاتها وتصويرها بلغة عربية، أو أعجمية، أما التفسير فمعانيه محدودة؛ لأنَّ قدرة صاحبه محدودة مهما حلق في سماء البلاغة والعلم. فيجب أنْ يصدر هذا التفسير المترجم بمقدمة تنفي عنه في صراحة أنه ترجمة للقرآن نفسه، وتبين أنَّ ترجمة القرآن نفسه مستحيلة؛ لأنَّ طبيعة تأليف هذا الكتاب تأبى أنْ يكون لها نظير يحاكيه لا من لغته، ولا من غير لغته، وذلك هو معنى إعجازه البلاغي ( ). وقد قال الشاطبي: "للغة الْعَرَبيَّة من حَيْثُ هِيَ أَلْفَاظ دَالَّة على معَان نظران: أَحدهمَا: من جِهَة كَونهَا ألفاظا وعبارات مُطلقَة ... وَهِي (الدّلَالَة الأصليّة). وَالثَّانِي: من جِهَة كَونهَا ألفاظًا وعبارات مقيّدة دَالَّة على معَانٍ خادمة، وَهِي (الدّلَالَة التابعة). فالجهة الأولى: هِيَ الَّتِي يشْتَرك فِيهَا جَمِيع الْأَلْسِنَة، وإليها تَنْتَهِي مَقَاصِد الْمُتَكَلِّمين، وَلَا تخْتَص بِأمة دون أُخْرَى. وَأما الْجِهَة الثَّانِيَة: فَهِيَ الَّتِي يخْتَص بهَا لِسَان الْعَرَب، فَإِنَّ كل خبرٍ يَقْتَضِي فِي هَذِه الْجِهَة أمورًا خادمة لذَلِك الْإِخْبَار بِحَسب الخَبر والمُخبِر والمخبَر عَنهُ والمُخبَر بِهِ، وَنَفس الْإِخْبَار فِي الْحَال والمساق، وَنَوع الأسلوب، من الْإِيضَاح، والإخفاء، والإيجاز، والإطناب، وَغير ذَلِك، ... وإذا ثبت هذا، فَلَا يُمْكِنُ مَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ أَنْ يُتَرْجِمَ كَلَامًا مِنَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ بِكَلَامِ الْعَجَمِ عَلَى حَالٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُتَرْجِمَ القرآن"اهـ ( ). الفصل الرابع: الفرق بين الترجمة الحرفية، والترجمة التفسيرية. س (85): ما الفرق بين الترجمة الحرفية، والترجمة التفسيرية؟ الجواب: مما تقدم يتضح أنَّ: المُتَرجِم ترجمة حرفية: يقصد إلى كل كلمة في الأصل فيفهمها، ثم يستبدل بها كلمة تساويها في اللغة الأخرى مع وضعها موضعها وإحلالها محلها، وإنْ أدى ذلك إلى خفاء المعنى المراد من الأصل بسبب اختلاف اللغتين في مواقع استعمال الكلام في المعاني المرادة إلفًا واستحسانًا. أما المُتَرجِم ترجمة تفسيرية: فإنه يعمد إلى المعنى الذي يدل عليه تركيب الأصل فيفهمه، ثم يصبه في قالب يؤديه من اللغة الأخرى موافقًا لمراد صاحب الأصل من غير أنْ يكلف نفسه عناء الوقوف عند كل مفرد، ولا استبدال غيره به في موضعه. الفصل الخامس: حُكْم القراءة في الصلاة بالترجمة. س (86): ما حُكْم القراءة في الصلاة بالترجمة؟ الجواب: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَوْ عَجَزَ وَتَفْسُدُ بِذَلِكَ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَبِأَيِّ لِسَانٍ آخَرَ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:176]، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا بِهَذَا النَّظْمِ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18-19]، فَصُحُفُ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَصُحُفُ مُوسَى بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَدَل عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ قُرْآنًا؛ لأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا حَيْثُ وَقَعَ الإِعْجَازُ بِهِمَا، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَل النَّظْمَ رُكْنًا لاَزِمًا فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلاَةِ خَاصَّةً رُخْصَةً. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ؛ لأَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِمَنْظُومٍ عَرَبِيٍّ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، وَقَال تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2]، وَالْمُرَادُ نَظْمُهُ. وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ، وَيُرْوَى رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى قَوْلِهِمَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الثَّلاَثَةُ -أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ- عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَصِحَّةِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ. والصواب هو قول الجمهور، قَال النَّوَوِيُّ: "تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ قُرْآنًا؛ لأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ هَذَا النَّظْمُ الْمُعْجِزُ، وَبِالتَّرْجَمَةِ يَزُول الإِعْجَازُ فَلَمْ تَجُزْ، وَكَمَا أَنَّ الشِّعْرَ يُخْرِجُهُ تَرْجَمَتُهُ عَنْ كَوْنِهِ شِعْرًا: فَكَذَا الْقُرْآنُ إِضَافَةً إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ مَبْنَاهَا عَلَى التَّعَبُّدِ وَالاِتِّبَاعِ وَالنَّهْيِ عَنِ الاِخْتِرَاعِ"اهـ ( ). وقال الحافظ ابن حجر: "فَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ قَادِرًا عَلَى التِّلَاوَةِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ: فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُول عَنهُ، وَلَا تجزىء صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا، وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ بِلِسَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وَبِهِ حَاجَةٌ إِلَى حِفْظِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلًا وَتَرْكًا، وَإِنْ كَانَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ فَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ بَدَلًا، وَهُوَ: الذِّكْرُ، وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الذِّكْرِ لَا يَعْجِزُ عَنِ النُّطْقِ بِهَا مَنْ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ فَيَقُولُهَا وَيُكَرِّرُهَا، فَتُجْزِئُ عَنِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ"اهـ ( ). تم بحمد الله تعالى