ح1 الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِلَيْكَ مُلَخَّصًا فِي التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ وَأَوْجَبُهَا.

- قَالَ تَعَالَى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)؛ أَيْ: لِيَعْبُدُونِي وَحْدِي، وَيُخْلِصُوا الْعَمَل لِي، وَلَا يَدْعُوا مَعَ اللهِ، لَا مَلَكًا، وَلَا نَبِيًّا، وَلَا وَلِيًّا، وَلَا حَيًّا، وَلَا مَيِّتًا. وَلَوْ قَصَدُوا أَنَّهُمْ وُسَطَاءُ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ شِرْكُ الْجَاهِلِيَّةٍ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى).

-------

ح2 قَالَ تَعَالَى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).

هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ مِنْ إِمَامِ الْمُوَحِّدِينَ، وَلَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ الْآيَاتِ؛ لَكَفَتْهُمْ فِي فَهْمِ مَقَاصِدِ التَّوْحِيدِ بِأَنْوَاعِهِ.

-------

ح3 اعْلَمْ -عَلَّمَنِي اللهُ وَإِيَّاكَ- أَنَّ التَّوْحِيدَ يَكُونُ كَامِلًا بِكَمَالِ حُقُوقِهِ، وَيَكُونُ نَاقِصًا بِالتَّقْصِيرِ فِي حُقُوقِهِ. وَيَقْدَحُ فِي التَّوْحِيدِ الْبِدْعَةُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ، وَيُنَافِي أَصْلَ التَّوْحِيدِ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ وَالْكُفْرُ الْمُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ. 

وَيُنَافِي كَمَالَهُ الْوَاجِبَ وَسَائِلُ الشِّرْكِ وَذَرَائِعُهُ، وَشُعَبُ الْكُفْرِ وَخِصَالُهُ مِمَّا هُوَ شِرْكٌ دُونَ شِرْكٍ، وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ.

-------

ح4 اعْلَمْ -رَحِمَنِي اللهُ وَإِيَّاكَ- أَنَّ الْكُفْرَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

  • الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: كُفْرٌ أَكْبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ؛ مِثْلُ سَبِّ اللهِ أَوْ سَبِّ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْوِ ذَلِكَ.
  • الْقِسْمُ الثَّانِي: كُفْرٌ أَصْغَرُ، وَيُسَمَّى كُفْرَ النِّعْمَةِ، لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، وَإِثْمُهُ كَبِيرٌ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

-------

ح5 اعْلَمْ -يَا رَعَاكَ اللهُ- أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَالَ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وَالشِّرْكُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

  • الْأَوَّلُ: شِرْكٌ أَكْبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ؛ كَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ.
  • الثَّانِي: شِرْكٌ أَصْغَرُ لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، وَإِثْمُهُ عَظِيمٌ؛ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: (كُنَّا نَعُدُّ الرِّيَاءَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ)، عَزَاهُ السُّيُوطِيُّ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي "الْإِخْلَاصِ"، وَابْنُ مَرْدَوْيِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ.

وَالشِّرْكُ كُلُّهُ صَغِيرُهُ وَكَبِيرُهُ ظُلْمٌ عَظِيمٌ.

وَالشِّرْكُ الْأَصْغَرُ أَعْظَمُ مِنَ الْكَبِيرَةِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ.

-------

ح6 تَعَالَ بِنَا يَا عَبْدَ اللهِ لِنَتَعَرَّفَ عَلَى قِسْمَيِ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: جَلِيٌّ ظَاهِرٌ: كَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: خَفِيٌّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: الشِّرْكُ، أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاءَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَهُوَ أَنْ تَقُولَ: وَاللهِ! وَحَيَاتِكَ يَا فُلَانُ، وَحَيَاتِي! وَتَقُولُ: لَوْلَا كُلَيْبَةُ هَذَا؛ لَأَتَانَا اللُّصُوصُ، وَلَوْلَا الْبَطُّ فِي الدَّارِ؛ لَأَتَى اللُّصُوصُ. وَقَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ. وَقَوْلُ الرُّجُلِ: لَوْلَا اللهُ وَفُلَانٌ، لَا تَجْعَلْ فِيهَا فُلَانًا، هَذَا كُلُّهُ شِرْكٌ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

وَهَلْ يَدْخُلُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرِكَ بِهِ)؟ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّ الْمُبْتَلَى بِهِ مُسْلِمٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ دُخُولِهِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ.

-------

ح7 قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ مِنَ الشِّرْكِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ صَادِرَةٌ عَنْ هَوًى، وَاللهُ يَقُولُ: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَدْحٌ فِي كَمَالِ التَّوْحِيدِ الْوَاجِبِ. 

وَمَا أَلْهَى عَنِ اللهِ حَتَّى قَصَّرَ الْعَبْدُ بِسَبَبِهِ فِي حُقُوقِ اللهِ فَهُوَ مِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ؛ لِحَدِيثِ: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 

وَقَدْ يَفْحُشُ حَتَّى يَصِيرَ كُفْرًا أَكْبَرَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).

-------

ح8 الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ هُوَ أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا، سُئِلَ النِّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللهِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَمَنِ اعْتَقَدَ فِي مَخْلُوقٍ أَنَّ لَهُ تَدْبِيرًا فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ؛ فَشِرْكٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ.

وَمَنْ صَرَفَ لِمَخْلُوقٍ عِبَادَةً؛ مِثْلَ أَنْ يُحِبَّهُ كَحُبِّ اللهِ فَشِرْكٌ فِي الْأُلُوهِيَّةِ.

وَمَنْ سَمَّى مَخْلُوقًا بِالاِسْمِ الَّذِي لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-؛ مِثْلَ اللهِ وَالرَّحْمَنِ؛ فَشِرْكٌ فِي تَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ.

وَمَنْ وَصَفَ مَخْلُوقًا بِصِفَةٍ لَا تَصْلُحُ إِلَّا للهِ؛ كَالْحَيَاةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهَا عَدَمٌ، وَلَا يَلْحَقُهَا فَنَاءٌ، فَشِرْكٌ فِي تَوْحِيدِ الصِّفَاتِ.

-------

ح9 الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ:

هُوَ كُلُّ وَسِيلَةٍ إِلَى الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ وَذَرِيعَةٍ إِلَيْهِ، وَسُمِّيَ فِي الشَّرْعِ شِرْكًا، وَيَكُونُ فِي الْإِرَادَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَسَبَبُهُ الْغُلُوُّ فِي الْمَخْلُوقِينَ غُلُوًّا لَا يَبْلُغُ مَنْزِلَةَ الْعِبَادَةِ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ أَكْبَرَ بِحَسَبِ حَالِ قَائِلِهِ وَمَقْصِدِهِ.

 

وَالْخُلَاصَةُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّوْحِيدَ الْكَامِلَ؛ فَلْيَجْتَهِدْ فِي تَخْلِيصِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَمِنَ الْبِدَعِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا، فَإِنْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَدَارَكَ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ.

-------

ح10 قَالَ تَعَالَى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا اللهُ)؛ أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ، وَقَدْ فَهِمَ مَعْنَاهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ لَمَّا دَعَاهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى قَوْلِهَا؛ قَالُوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ يَكُفْرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى). وَتَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ الْكُلِّيِّ وَمَرْجِعُ الدِّينِ كُلِّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (إِيَّاكَ نُوَحِّدُ)، وَقَدَّمَ تَوْحِيدَ الْعِبَادَةِ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ وَأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ لِتَحْقِيقِهِ، أَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ؛ فَلَمْ يَقَعْ فِيهِ النِّزَاعُ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ).

-------

ح11 قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تَأْمُرُ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ لَهُ وَالْمَيْلِ عَنِ الشِّرْكِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ جَلِيِّهِ وَخَفِيِّهِ.

وَالْعِبَادَةُ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَجْمَعُ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخَوْفِ، وَأَنْوَاعُهَا لَا حَصْرَ لَهَا، فَمِنْهَا الْقَلْبِيُّ؛ كَالْخَوْفِ، وَمِنْهَا الْقَوْلِيُّ؛ كَالدُّعَاءِ، وَمِنْهَا الْعَمَلِيُّ؛ كَالسُّجُودِ، وَمِنْهَا الْجَامِعُ لِذَلِكَ كُلِّهِ؛ كَالصَّلَاةِ، أَوْ بَعْضِهِ؛ كَالزَّكَاةِ، فَمَنْ صَرَفَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ وَخَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ؛ خَلَّدَهُ اللهُ فِي النَّارِ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.

-------

ح12 قَالَ تَعَالَى لِخَلِيلِهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْشَى النَّاسِ وَأَتْقَاهُمْ لَهُ وَأَعْلَمِهِمْ بِهِ وَأَحْسَنِهِمْ عِبَادَةً وَأَكْمَلِهِمْ إِخْلَاصًا: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)؛ أَيِ: الْهَالِكِينَ بِالْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ مِنَ الشِّرْكِ.

وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ يَقُولُ فِي مَوَاعِظِهِ: مَنْ يَأْمَنُ الْبَلَاءَ بَعْدَ خَلِيلِ اللهِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ يَقُولُ: (اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ).

وَثَبَتَ أَنً النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ! لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟ قَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ".

-------

ح13 الرِّيَاءُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الرِّيَاءُ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ عِبَادَةً لِأَجْلِ النَّاسِ أَوْ يُزَيِّنَهَا لِيَرَوْهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِيَ غَيْرِي؛ تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ).

وَيَنْقَسِمُ الرِّيَاءُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

  • أَكْبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ، وَهُوَ الرِّيَاءُ الْمَحْضُ، قَالَ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ: (يُراءُونَ النَّاسَ).
  • وَأَصْغَرُ، وَهُوَ يَسِيرُهُ دُونَ كَثِيرِهِ وَكَبِيرِهِ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، فَسُئِلَ عَنْهُ؟ فَقَالَ: الرِّيَاءُ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَجَوَّدَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَوَثَّقَ رِجَالَهُ الْهَيْثَمِيُّ.

-------

ح14 الرُّقْيَةُ بِالْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ الثَّابِتَةِ مَشْرُوعَةٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالرُّقْيَةُ الشِّرْكِيَّةُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَى شِرْكٍ كَالِاسْتِغَاثَةِ بِالْجِنِّ، وَالْبِدْعِيَّةُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَى طَلَاسِمَ وَشَعْوَذَةٍ وَهَمْهَمَةٍ غَيْرِ مَفْهُومَةٍ. 

وَمِنَ الشِّرْكِ اعْتِقَادُ أَنَّ الرُّقْيَةَ مُؤَثِّرَةٌ بِنَفْسِهَا لَا بِاللهِ.

وَالِاسْتِرْقَاءُ وَالْكَيُّ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوَكُّلِ الْمَنْدُوبِ؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ، وَاعْتِقَادُ أَنَّها بِذَاتِهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي الْمَقْصُودِ شِرْكٌ؛ إِذِ الْمُسَبِّبُ لَهَا هُوَ اللهُ وَحْدَهُ.

-------

ح15 عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، قَالَ لَهُ: (لِيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

فَتَوْحِيدُ الْعِبَادَةِ أَوَّلُ وَاجِبٍ، وَشَرْطُ قَبُولِ الْأَعْمَالِ، وَشَرْطُ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالشِّرْكُ الْأَكْبَرُ مُبْطِلٌ لِلْأَعْمَالِ، وَمُوجِبٌ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّهُ مِنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ).

-------

ح16 عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «إِذَا سَأَلْتَ؛ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ؛ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ؛ فَإِنَّ دُعَاءَ غَيْرِ اللهِ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ شِرْكٌ أَكْبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ الْإِسْلَامِ.

-------

ح17 قَالَ تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا.

وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ)، فَسَمَّى اللهُ دَعَاءَ غَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءَ وَأَوْلِيَاءَ وَصَالِحِينَ، أَوْ جَمَادَاتٍ شِرْكًا لَا يَصِحُّ مَعَهُ إِسْلَامٌ وَلَا قُرْبَةٌ.

وَالطَّلَبُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ أَنْوَاعٌ:

  • جَائِزٌ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْ حَيٍّ قَادِرٍ عَلَى مَطْلُوبِهِ.
  • شِرْكٌ أَكْبَرُ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْ مَخْلُوقٍ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ كَالْوَلَدِ، أَوْ يَطْلُبَ مِنْ مَيِّتٍ، فَالْمَيِّتُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُجِيبُ، وَمِثْلُهُ الْغَائِبِونَ؛ كَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ.

-------

ح18 قَالَ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ).

عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقْرَأُ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ)، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ! فَقَالَ: (أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتُحِلُّونَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى! قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ). حَسَنٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ.

فَمَنْ أَطَاعَ عَالِمًا أَوْ رَئِيسًا فِي الْمَعْصِيَةِ وَقَبِلَ تَحْلِيلَهُ لِلْحَرَامِ وَتَحْرِيمَهُ لِلْحَلَالِ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ. 

أَمَّا مَنْ أَطَاعَهُمْ فِي مَسَائِلَ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ عَاصٍ بِذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ؛ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ.

وَمَنْ حَمَلَهُ التَّعَصُّبُ لِعَالِمٍ أَوْ مَذْهَبٍ عَلَى تَقْلِيدِهِ فِي مَسْأَلَةٍ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ شِرْكًا أَصْغَرَ، وَاتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ.

وَمِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لِلْعِبَادِ وَالْمَشَايِخِ.

-------

ح19 قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ).

وَالْكَلِمَةُ الْعَدْلُ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هِيَ التَّوْحِيدُ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَإِثْبَاتُ الْعِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ. فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ، وَأَنْ نَبْرَأَ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا)؛ أَيْ: لَا يُطِيعَ بَعْضُنَا بَعْضًا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ صَرَفَ لِمَخْلُوقٍ شَيْئًا مِنَ الْعِبَادَةِ؛ فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا، وَمَنْ صَرَفَ لِمَخْلُوقٍ شَيْئًا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ؛ فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِلَهًا.

-------

ح20 قَالَ تَعَالَى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ)، فَالتَّشْرِيعُ الْجَدِيدُ أَوِ التَّبْدِيلُ لِدِينِ اللهِ وَتَغْيِيرُهُ كُفْرٌ مُخْرِجٌ مِنَ الْإِسْلَامِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، فَمَنْ قَبِلَ شَرْعَ غَيْرِ اللهِ أَوِ تَبِعَ مَنْ بَدَّلَ دِينَ اللهِ غَيْرَ مُكْرَهٍ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ بِاللهِ الْعَظِيمِ الشِّرْكَ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهَ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: "أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ". أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَالذَّهَبِيُّ.

-------

ح21 قَالَ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)، فَكُلُّ مَنْ سَاوَى غَيْرَ اللهِ بِاللهِ؛ بِأَنْ صَرَفَ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ؛ كَالرَّجَاءِ وَالنَّحْرِ، أَوْ رَجَعَ إِلَى حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ فِي حَاجَتِهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ؛ فَقَدِ اتَّخَذَهُ نِدًّا للهِ؛ أَيْ: مِثْلًا وَشَبِيهًا وَعَدَلَ الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ، وَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ.

وَمَحَبَّةُ غَيْرِ اللهِ أَنْوَاعٌ:

  • الْمَحَبَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ؛ كَحُبِّ الْوَالِدَيْنِ، فَهَذِهِ جَائِزَةٌ.
  • الْمَحَبَّةُ الشِّرْكِيَّةُ، وَهِيَ الْمَحَبَّةُ مَعَ اللهِ؛ بِأَنْ يُحِبَّ مَخْلُوقًا كَحُبِّهِ للهِ، وَقَدْ تَكُونُ شِرْكًا أَكْبَرَ؛ مِثْلَ حُبِّ قَبْرِ النَّبِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ؛ كَحُبِّ الْكَعْبَةِ يَطُوفُ بِهَا عِبَادَةً لِأَهْلِهَا، وَيَضَعُ صَدْرَهُ بِتُرْبَتِهَا تَقَرُّبًا وَانْكِسَارًا لِأَصْحَابِهَا؛ كَوَضْعِ صَدْرِهِ بِالْمُلْتَزَمِ.

وَقَدْ تَكُونُ شِرْكًا أَصْغَرَ؛ كَحُبِّ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ، حَمَلَهُ ذَلِكَ الْحُبُّ عَلَى تَعَدِّي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ أَوْ تَضْيِيعِ وَاجِبٍ أَوِ انْتِهَاكِ مُحَرَّمٍ.  

-------

ح22 ثَبَتَ عَنْ عُقْبَةَ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَهْطٌ، فَبَايَعَ تِسْعَةً وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! بَايَعْتَ تِسْعَةً وَتَرَكْتَ هَذَا! قَالَ: إِنَّ عَلَيْهِ تَمِيمَةً، فَأَدْخَلَ يَدَهُ، فَقَطَعَهَا، فَبَايَعَهُ، وَقَالَ: مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً؛ فَقَدْ أَشْرَكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَوَثَّقَ رِجَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَالْهَيْثَمِيُّ.

وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَالذَّهَبِيُّ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَوَثَّقَ رِجَالَهُ الْهَيْثَمِيُّ.

وَالتَّمِيمَةُ: هِيَ مَا عُلِّقَ عَلَى عُنُقِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانَاتِ، أَوْ عَلَى السَّيَّارَاتِ، وَفِي الْبُيُوتِ، وَالْمَحَلَّاتِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ لِدَفْعِ ضُرٍّ؛ كَالْعَيْنِ وَالْحَسَدِ، أَوْ لِجَلْبِ نَفْعٍ مِنْ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَتَعْلِيقُ التَّمَائِمِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

  • الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا سَبَبٌ لِجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وَمُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ هُوَ اللهُ، فَهَذَا شِرْكٌ أَصْغَرُ؛ حَيْثُ شَارَكَ اللهَ فِي الْحُكْمِ.
  • الثَّانِي: إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا جَالِبَةٌ لِنَفْعٍ أَوْ دَافِعَةٍ لِضُرٍّ بِنَفْسِهَا، فَهُوَ شِرْكٌ أَكْبَرُ.

أَمَّا إِنْ كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ، وَالرَّاجِحُ الْمَنْعُ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ.

-------

ح23  ثَبَتَ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ، قَالَتْ: قُلْتُ: لِمَ تَقُولُ هَذَا؟ وَاللهِ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ، وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِينِي، فَإِذَا رَقَانِي سَكَنْتُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّمَا ذَاكَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ كَانَ يَنْخَسُهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا رَقَاهَا كَفَّ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه.

التَّعَالِيقُ الْمُحَرَّمَةُ وَالرُّقَى الْمَمْنُوعَةُ لَيْسَتْ سَبَبًا شَرْعِيًّا وَلَا قَدَرِيًّا فِي جَلْبِ النَّفْعِ أَوْ دَفْعِ الضُّرِّ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهَا سَبَبًا وَلَا يُبَرِّرُهَا التَّوَهُّمَاتُ. 

-------

ح24 عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ). رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

فَمَا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ وَسَائِلَ وَأَسْبَابٍ وَذَرَائِعَ لَا يُطْلَبُ فِيهَا الشِّفَاءُ، وَلَا شِفَاءَ فِيهَا، بَلْ إِنَّهَا مِنْ عَوَامِلِ الْوَهَنِ.

وَيُشْتَرَطُ فِي السَّبَبِ الْمُجَرَّبِ أَنْ يَكُونَ أَثَرُهُ ظَاهِرًا مُبَاشِرًا لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَمِنَ الْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: قَبْرُ فُلَانٍ الْمُجَرَّبُ. 

-------

ح25 قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ: ذَهَبَ عَنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ مَا تَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى، كَمَا اتَّفَقَ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ لِمَّا ذَهَبَ فَارًّا مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ، فَذَهَبَ هَارِبًا، فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ لِيَدْخُلَ الْحَبَشَةَ، فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ وَحْدَهُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي نَفْسِهِ، وَاللهِ إِنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ لَئِنْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهُ؛ لَأَذْهَبَنَّ فَلَأَضَعَنَّ يَدِي فِي يَدِ مُحَمَّدٍ، فَلَأَجِدَنَّهُ رَؤُوفًا رَحِيمًا، فَخَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.

وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، فَكُلُّ مَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِغَيْرِ اللهِ فِي حَالِ الرَّخَاءِ اضْمَحَلَّ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، إِلَّا عِنْدَ مَنْ طَمَسَ اللهُ بَصِيرَتَهُ تَمَامًا.

-------

ح26 قَالَ تَعَالَى: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ).

جَمِيعُ الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ مِنَ اللهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى عِبَادِهِ بِالنِّعَمِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، فَحَقٌّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لِأَحَدٍ مَعَهُ فِيهَا، وَحَقٌّ أَنْ يُحْمَدَ، وَحَقٌّ أَنْ يُخْلَصَ لَهُ الدُّعَاءُ وَيُلْجَأَ إِلَيْهِ فِي الشَّدَائِدِ وَالرَّخَاءِ وَفِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَفِي جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وَفِي طَلَبِ خَيْرٍ أَوْ مَنْعِ شَرٍّ.

وَقَوْلُهُ: (فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) يَقُولُ: فَإِلَى اللهِ تَصْرُخُونَ بِالدُّعَاءِ وَتَسْتَغِيثُونَ بِهِ، حِينَ تَنْزِلُ بِكُمْ شِدَّةٌ وَضَائِقَةٌ؛ لِيَكْشِفَهَا عَنْكُمْ، فَإِذَا فَرَّجَ اللهُ كَرْبَكُمْ وَكَشَفَ غُمَّتَكُمْ وَأَغَاثَ لَهْفَتَكُمْ؛ أَشْرَكَ بَعْضُكُمْ إِمَّا بِنِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ اللهِ، أَوْ صَرْفِ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَةِ لِمَخْلُوقٍ.