بَيْنَ يَدَيْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ

المُقَدِّمَةُ

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ: فَهَذِهِ خُلَاصَةٌ مِنْ خِلَالِهَا نَتَعَرَّفُ عَلَى أَهَمِّ مَا يُعَرِّفُنَا بِالإِمَامِ أَبِي دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللهُ - وَبِكِتَابِهِ "السُّنَنِ" المُؤَلَّفِ مِنْ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهَا إِلَّا مَا نَدَرَ، المُرَتَّبَةِ عَلَى أَبْوَابِ الفِقْهِ، فَقَدِ اشْتَمَلَتِ "السُّنَنُ" عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ كِتَابًا، تَحْتَهَا أَلْفٌ وَتِسْعُمِائَةِ بَابٍ، جَمَعَتِ الأَحَادِيثَ المَوْضُوعِيَّةَ الصَّالِحَةَ لِلاحْتِجَاجِ وَالاعْتِبَارِ، المُنَاسِبَةَ لِلْأَبْوَابِ دُونَ الْتِزَامِ الصِّحَّةِ، وَقَدْ صَانَ أَبُو دَاوُدَ سُنَنَهُ عَنِ الأَحَادِيثِ التِي أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهَا.

لَقَدْ حَظِيَتِ الكُتُبُ السِّتَّةُ بِحَظْوَةِ القَبُولِ عِنْدَ النَّاسِ، وَنَالَتْ مَكَانَةً عَالِيَةً، وَبَلَغَتْ مَنْزِلَةً رَفِيعَةً، وَحَازَتِ السَّبْقَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللهِ، ثُمَّ الجُهْدِ المَبْذُولِ فِيهَا.

قَالَ أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيِّ فِي الكُتُبِ الخَمْسَةِ: "اتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهَا عُلَمَاءُ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ".

وَقَدِ احْتَلَّ أَبُو دَاوُدَ مَرْتَبَةً طَمُوحَةً فِي مَنْظُومَةِ المُحَدِّثِينَ الفُقَهَاءِ، وَمَقَامًا مُتَقَدِّمًا بَيْنَ أَصْحَابِ الكُتُبِ السِّتَّةِ النُّبَلَاءِ.

إِنَّ قَضَاءَ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ أَيَّامَ أَعْمَارِهِمْ، وَسَاعَاتِ أَيَّامِهِمْ، وَلَحَظَاتِ سَاعَاتِهِمْ، فِي الاشْتِغَالِ بِالحَدِيثِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً؛ لَمَنْقَبَةٌ تُذْكَرُ فَتُشْكَرُ، وَتُرْوى وَلَا تُطْوَى.

قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ: جَاءَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التُّسْتَرِيُّ إِلَى أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ، فَقِيلَ: يَا أَبَا دَاوُدَ: هَذَا سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ جَاءَكَ زَائِرًا، فَرَحَّبَ بِهِ، وَأَجْلَسَهُ، فَقَالَ سَهْلٌ: يَا أَبَا دَاوُدَ! لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: حَتَّى تَقُولَ: قَدْ قَضَيْتُهَا مَعَ الإِمْكَانِ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَخْرِجْ إِلَيَّ لِسَانَكَ الَّذِي تُحَدِّثُ بِهِ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أُقَبِّلَهُ. فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ لِسَانَهُ فَقَبَّلَهُ.

 

(1) نَسَبُهُ وَنَشْأَتُهُ

هُوَ الإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بَشِيرٍ الأَزْدِيُّ السِّجِسْتَانِيُّ، نِسْبَةً إِلَى البَلَدِ سِجِسْتَانَ.

قَالَ السَّمْعَانِيُّ: "هِيَ إِحْدَى البِلَادِ المَعْرُوفَةِ بِكَابُل"؛ أَيْ مِنْ أَفْغَانِسْتَانَ.

وُلِدَ أَبُو دَاوُدَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ وَاثْنَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ، فِي عَهْدِ المَأْمُونِ، فِي إِقْلِيمٍ صَغِيرٍ مُجَاوِرٍ لِمُكْرَانَ أَرْضِ البَلُّوشِ الأَزْدِ، يُدْعَى سِجِسْتَانَ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الآجُرِّيُّ: «تُوُفِّيَ أَبُو دَاوُدَ فِي سَادِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ، سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ».

قَالَ الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ: «كَتَبَ عَنِ العِرَاقِيِّينَ وَالخُرَاسَانِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَالمِصْرِيِّينَ وَالجَزَرِيِّينَ».

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَاكِمُ: أَبُو دَاوُدَ إِمَامُ أَهْلِ الحَدِيثِ فِي عَصْرِهِ بِلَا مُدَافَعَةٍ، سَمِعَ بِمِصْرَ وَالحِجَازِ، وَالشَّامِ وَالعِرَاقَيْنِ وَخُرَاسَانَ، وَقَدْ كَتَبَ بِخُرَاسَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى العِرَاقِ، وَفِي بَلَدِهِ سِجِسْتَانَ، وَهَرَاةَ، وَكَتَبَ بِبَغْلَانَ عَنْ قُتَيْبَةَ، وَباِلرَّيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى، إِلَّا أَنَّ أَعْلَى إِسْنَادِهِ: القَعْنَبِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ... وَسَمَّى جَمَاعَةً. قَالَ: وَكَانَ قَدْ كَتَبَ قَدِيمًا بِنَيْسَابُورَ، ثُمَّ رَحَلَ بِابْنِهِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى خُرَاسَانَ.

 

(2) شُيُوخُ أَبِي دَاوُدَ وَتَلَامِيذُهُ وَمُؤَلَّفَاتُهُ

سَمِعَ أَبُو دَاوُدَ مِمَّا يَقْرُبُ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ شَيْخٍ، وَقَدْ أَلَّفَ أَبُو عَلِيٍّ الجَيَّانِيُّ (ت: 498) كِتَابًا بِعُنْوَانِ "تَسْمِيَةِ شُيُوخِ أَبِي دَاوُدَ"، وَقَدْ شَارَكَ الإِمَامَ أَحْمَدَ وَالبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا فِي بَعْضِ شُيُوخِهِمْ.

لَقَدْ أَثْنَى ابْنُ دَقِيقِ العِيدِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ بِعُلُوِّ الإِسْنَادِ بَعْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ البُخَارِيِّ، وَأَنَّهُ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ بِدُونِ وَاسِطَةٍ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الكُتُبِ السِّتَّةِ.

وَقَدْ تَتَلْمَذَ أَبُو دَاوُدَ عَلَى يَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَتَأَثَّرَ بِهِ فِي مَنْهَجِهِ فِي الحَدِيثِ، وَعُدَّ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَمَا تَتَلْمَذَ عَلَى يَدِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَعَلِيِّ بْنِ المَدِينِيِّ، وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القَطَّانِ، وَسَمِعَ مِنَ الطَّيَالِسِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَالدُّوْلَابِيِّ، وَالآجُرِّيِّ، وَالرَّامَهُرْمُزِيِّ، وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَالخَلَّالِ وَغَيْرِهِمْ.

وَدَرَسَ عَلَى يَدِهِ وَسَمِعَ مِنْهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَحَسْبُكَ أَنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ سَمِعَ مِنْهُ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَعُدَّ فِي تَلَامِيذِهِ الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَرَوَيَا عَنْهُ.

وَلِأَبِي دَاوُدَ مُؤَلَّفَاتٌ بَلَغَتْ العِشْرِينَ مُؤَلَّفًا فِي الحَدِيثِ وَعُلُومِهِ، وَالفِقْهِ وَالعَقِيدَةِ، فَمِنْ مُؤَلَّفَاتِهِ غَيْرَ "السُّنَنِ": المَرَاسِيلُ، وَمَسَائِلُ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَسُؤَالَاتُهُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنِ الرُّوَاةِ وَالثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ، وَالنَّاسِخُ وَالمَنْسُوخُ، وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِ القَدَرِ، وَأَخْبَارُ الخَوَارِجِ، وَكِتَابُ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَكِتَابُ الزُّهْدِ، وَالدُّعَاءُ، وَدَلَائِلُ النُّبُوَّةِ، وَفَضَائِلُ الأَنْصَارِ، وَالتَّفَرُّدُ فِي السُّنَنِ، وَمُسْنَدُ مَالِكٍ وَغَيْرُهَا.

وَلِأَبِي دَاوُدَ ابْنٌ، وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ، وَكَانَ مِنْ بُحُورِ العِلْمِ حَتَّى فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَبِيهِ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ شَاذَانَ: قَدِمَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ سِجِسْتَانَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُحَدِّثَهُمْ، فَقَالَ: مَا مَعِي أَصْلٌ. فَقَالُوا: ابْنُ أَبِي دَاوُدَ وَأَصْلٌ؟! قَالَ: فَأَثَارُونِي، فَأَمْلَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ حِفْظِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيبُ: سَمِعْتُ الحَافِظَ أَبَا مُحَمَّدٍ الخَلَّالَ يَقُولُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَحْفَظَ مِنْ أَبِيهِ أَبِي دَاوُدَ.

 

(3) ثَنَاءُ العُلَمَاءِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ

جَمَعَ الإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ بَيْنَ العِلْمِ النَّافِعِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ.

وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ: «كَانَ أَحَدَ أَئِمَّةِ الدُّنْيَا فِقْهًا وَعِلْمًا وَحِفْظًا وَنُسُكًا وَوَرَعًا وَإِتْقَانًا، جَمَعَ وَصَنَّفَ وَذَبَّ عَنِ السُّنَنِ».

وَقَالَ ابْنُ يَاسِينَ الهَرَوِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ: هُوَ «فِي أَعْلَى دَرَجَةِ النُّسُكِ وَالعَفَافِ وَالصَّلَاحِ وَالوَرَعِ».

قَالَ الخَلَّالُ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ الأَصْبَهَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ صَدَقَةَ يَرْفَعُونَ مِنْ قَدْرِهِ، وَيَذْكُرُونَهُ بِمَا لَا يَذْكُرُونَ أَحَدًا فِي زَمَانِهِ مِثْلَهُ.

وَقَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ: «خُلِقَ أَبُو دَاوُدَ فِي الدُّنْيَا لِلْحَدِيثِ، وَفِي الآخِرَةِ لِلْجَنَّةِ، مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْهُ».

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَلَّالُ: «أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ الأَشْعَثُ، الإِمَامُ المُقَدَّمُ فِي زَمَانِهِ، رَجُلٌ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِتَخْرِيجِ العُلُومِ، وَبَصَرِهِ بِمَوَاضِعِهَا، أَحَدٌ فِي زَمَانِهِ، رَجُلٌ وَرِعٌ مُقَدَّمٌ».

وَقَالَ أَحْمَدُ الهَرَوِيُّ: «سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، كَانَ أَحَدَ حُفَّاظِ الإِسْلَامِ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِلْمِهِ وَعِلَلِهِ وَسَنَدِهِ، فِي أَعْلَى دَرَجَةِ النُّسُكِ وَالعَفَافِ وَالصَّلَاحِ وَالوَرَعِ، كَانَ مِنْ فُرْسَانِ الحَدِيثِ».

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ: «كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَفِي بِمُذَاكَرَةِ مِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَأَقَرَّ لَهُ أَهْلُ زَمَانِهِ بِالحِفْظِ».

وَقَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: «كَانَ عَالِمًا حَافِظًا عَارِفًا بِعِلَلِ الحَدِيثِ، ذَا عَفَافٍ وَوَرَعٍ، وَكَانَ يُشَبَّهُ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ».

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: «بَلَغَنَا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ كَانَ مِنَ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الأَئِمَّةِ قَالَ: كَانَ أَبُو دَاوُدَ يُشْبِهُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ، وَكَانَ أَحْمَدُ يُشَبَّهُ فِي ذَلِكَ بِوَكِيعٍ، وَكَانَ وَكِيعٌ يُشَبَّهُ فِي ذَلِكَ بِسُفْيَانَ، وَسُفْيَانُ بِمَنْصُورٍ، وَمَنْصُورٌ بِإِبْرَاهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمُ بِعَلْقَمَةَ، وَعَلْقَمَةُ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُشَبَّهُ بِالنَّبِيِّ فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ».

 

(4) مَكَانَةُ الإِمَامِ أَبِي دَاوُدَ

لَقَدِ احْتَلَّ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللهُ - مَنْزِلَةً عَالِيَةً، وَمَرْتَبَةً رَاقِيَةً، وَمَكَانًا رَفِيعًا، وَمَقَامًا شَرِيفًا، وَاشْتُهِرَتْ إِمَامَتُهُ فِي الحَدِيثِ وَعُلُومِهِ، وَالفِقْهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَعُرِفَ بِالعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَبِالمَنْهَجِ القَوِيمِ، مَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَقَدْ أَلَّفَ بَعْضَ الكُتُبِ لِلرَّدِّ عَلَى بَعْضِ الفِرَقِ الضَّالَّةِ؛ كَالقَدَرِيَّةِ وَالخَوَارِجِ، وَكِتَابُ السُّنَّةِ مِنْ سُنَنِهِ شَاهِدٌ لَهُ بِسَلَامَةِ الصَّدْرِ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: "كَانَ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالتَّسْلِيمِ لَهَا، وَتَرْكِ الخَوْضِ فِي مَضَائِقِ الكَلَامِ". انتهى.

كَانَ أَبُو دَاوُدَ يُشَبَّهُ بِالإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللهُ - وَأَحْمَدُ هُوَ أَحْمَدُ، إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَفَقِيهُ المُحَدِّثِينَ بِلَا مُدَافَعَةٍ.

قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: "أَدْرَكْتُ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ مَنْ أَدْرَكْتُ، لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَوْرَعُ وَلَا أَعْرَفُ بِفِقْهِ الحَدِيثِ مِنْ أَحْمَدَ، وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ - عَلَى حِفْظِهِ وَمَعْرِفَتِهِ - يُقَدِّمُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَيَعْتَرِفُ لَهُ".

وَمِنَ اللَّطَائِفِ الدَّالَّةِ عَلَى شَرَفِهِ وَمَكَانَتِهِ: مَا جَاءَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ جَابِرٍ خَادِمِ أَبِي دَاوُدَ -رَحِمَهُ اللهُ - قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي دَاوُدَ بِبَغْدَادَ، فَصَلَّيْنَا المَغْرِبَ، فَجَاءَهُ الأَمِيرُ أَبُو أَحْمَدَ المُوَفَّقُ - يَعْنِي وَلِيَّ العَهْدِ - فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِالأَمِيرِ فِي مِثْلِ هَذَا الوَقْتِ؟ قَالَ: خِلَالٌ ثَلَاثٌ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَنْتَقِلُ إِلَى البَصْرَةِ فَتَتَّخِذُهَا وَطَنًا، لِيَرْحَلَ إِلَيْكَ طَلَبَةُ العِلْمِ، فَتَعْمُرُ بِكَ، فَإِنَّهَا قَدْ خَرِبَتْ، وَانْقَطَعَ عَنْهَا النَّاسُ؛ لِمَا جَرَى عَلَيْهَا مِنْ مِحْنَةِ الزَّنْجِ، فَقَالَ: هَذِهِ وَاحِدَةٌ. قَالَ: وَتَرْوِي لِأَوْلَادِي "السُّنَنَ"، قَالَ: نَعَمْ، هَاتِ الثَّالِثَةَ، قَالَ: وَتُفْرِدُ لَهُمْ مَجْلِسًا؛ فَإِنَّ أَوْلَادَ الخُلَفَاءِ لَا يَقْعُدُونَ مَعَ العَامَّةِ، قَالَ: أَمَّا هَذِهِ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي العِلْمِ سَوَاءٌ».
(5) الإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ مُحَدِّثًا وَفَقِيهًا

لَا يَشُكُّ اثْنَانِ وَلَا تَنْتَطِحُ عَنْزَانِ فِي إِمَامَةِ أَبِي دَاوُدَ فِي الحَدِيثِ وَعُلُومِهِ، وَقَدِ اتَّسَمَ بِالاعْتِدَالِ فِي الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالتَّصْحِيحِ وَالتَّضْعِيفِ.

قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: الَّذِينَ مَيَّزُو الثَّابِتَ مِنَ المَعْلُولِ وَالخَطَأَ مِنَ الصَّوَابِ أَرْبَعَةٌ: البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

وَقَالَ الخَطِيبُ فِي "تَارِيخِهِ": الإِمَامُ، شَيْخُ السُّنَّةِ، مُقَدَّمُ الحُفَّاظِ أَبُو دَاوُدَ، الأَزْدِيُّ السِّجِسْتَانِيُّ، مُحَدِّثُ البَصْرَةِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّاغَانِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ الحَرْبِيُّ: لَمَّا صَنَّفَ أَبُو دَاوُدَ كِتَابَ "السُّنَنِ"، أُلِينَ لِأَبِي دَاوُدَ الحَدِيثُ، كَمَا أُلِينَ لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الحَدِيدُ.

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَاسِينَ: كَانَ أَبُو دَاوُدَ أَحَدَ حُفَّاظِ الإِسْلَامِ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِلْمِهِ وَعِلَلِهِ وَسَنَدِهِ، فِي أَعْلَى دَرَجَةِ النُّسُكِ وَالعَفَافِ، وَالصَّلَاحِ وَالوَرَعِ، مِنْ فُرْسَانِ الحَدِيثِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَلَّالُ: أَبُو دَاوُدَ الإِمَامُ المُقَدَّمُ فِي زَمَانِهِ، رَجُلٌ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِتَخْرِيجِ العُلُومِ، وَبَصَرِهِ بِمَوَاضِعِهِ أَحَدٌ فِي زَمَانِهِ، رَجُلٌ وَرِعٌ مُقَدَّمٌ، سَمِعَ مِنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثًا وَاحِدًا، كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَذْكُرُهُ.

قَالَ الذَّهَبِيُّ: "هُوَ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الرَّازِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي العُشَرَاءِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ العَتِيرَةِ، فَحَسَّنَهَا.

وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، تُكُلِّمَ فِي ابْنِ قَيْسٍ مِنْ أَجْلِهِ، وَإِنَّمَا المَحْفُوظُ عِنْدَ حَمَّادٍ بِهَذَا السَّنَدِ حَدِيثُ: "أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا مِنَ اللَّبَّةِ؟".

وَقَدِ اشْتُهِرَ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللهُ - بِأَنَّهُ أَحَدُ كِبَارِ الفُقَهَاءِ المُجْتَهِدِينَ وَمُقَدَّمِيهِمْ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ أَبُو يَعْلَى فِي طَبَقَاتِ الحَنَابِلَةِ، وَعَدَّهُ الشِّيرَازِيُّ فِي طَبَقَاتِ الفُقَهَاءِ فِي جُمْلَةِ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: "كَانَ أَبُو دَاوُدَ مَعَ إِمَامَتِهِ فِي الحَدِيثِ وَفُنُونِهِ مِنْ كِبَارِ الفُقَهَاءِ، فَكِتَابُهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ نُجَبَاءِ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، لَازَمَ مَجْلِسَهُ مُدَّةً، وَسَأَلَهُ عَنْ دِقَاقِ المَسَائِلِ فِي الفُرُوعِ وَالأُصُولِ".

 

(6) مَكَانَةُ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ

صَاحِبُ الدَّارِ أَعْرَفُ بِمَا فِيهَا، وَأَهْلَ مَكَّةَ أَدْرَى بِشِعَابِهَا.

لَقَدْ تَحَدَّثَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ كِتَابِهِ "السُّنَنِ" فِي رِسَالَتِهِ لِأَهْلِ مَكَّةَ، فَبَيَّنَ مَكَانَتَهَا وَقِيمَتَهَا، وَشُهْرَةَ أَحَادِيثِهَا، وَالاحْتِجَاجَ بِهَا، وَاكْتِفَاءَ المُجْتَهِدِ بِصَالِحِهَا، وَاسْتِيعَابَهَا لِأُصُولِ الاسْتِدْلَالِ المُعْتَبَرَةِ، حَتَّى قَالَ: "وَهُوَ كِتَابٌ لَا تَرِدُ عَلَيْكَ سُنَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ صَالِحٍ إِلَّا وَهِي فِيهِ. فَإِنْ ذُكِرَ لَكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةٌ لَيْسَ مِمَّا خَرَّجْتُهُ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاهٍ، وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا جَمَعَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ غَيْرِي، وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا بَعْدَ القُرْآنِ أَلْزَمَ لِلنَّاسِ أَنْ يَتَعَلَّمُوهُ مِنْ هَذَا الكِتَابِ".

وَقَالَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ العِلْمِ إِلَّا المُصْحَفُ الَّذِي فِيهِ كِتَابُ اللهِ ثُمَّ هَذَا الكِتَابُ - أَيْ سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ - لَمْ يَحْتَجْ مَعْهُمَا إِلَى شَيْءٍ مِنَ العِلْمِ أَلْبَتَّةَ».

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَخْلَدٍ، قَالَ: "كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَفِي بِمُذَاكَرَةِ مِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَلَمَّا صَنَّفَ كِتَابَ "السُّنَنِ"، وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، صَارَ كِتَابُهُ لِأَصْحَابِ الحَدِيثِ كَالمُصْحَفِ، يَتَّبِعُونَهُ وَلَا يُخَالِفُونَهُ، وَأَقَرَّ لَهُ أَهْلُ زَمَانِهِ بِالحِفْظِ وَالتَّقَدُّمِ فِيهِ".

وَقَالَ الحَافِظُ زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ: "كِتَابُ اللهِ أَصْلُ الإِسْلَامِ، وَكِتَابُ أَبِي دَاوُدَ عَهْدُ الإِسْلَامِ".

وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: "قَدْ جَمَعَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِهِ هَذَا مِنَ الحَدِيثِ فِي أُصُولِ العِلْمِ، وَأُمَّهَاتِ السُّنَنِ وَأَحْكَامِ الفِقْهِ، مَا لَا نَعْلَمُ مُتَقَدِّمًا سَبَقَهُ إِلَيْهِ، وَلَا مُتَأَخِّرًا لَحِقَهُ فِيهِ. وَأَسْهَبَ الخَطَّابِيُّ فِي مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَقَالَ: هُوَ أَحْسَنُ وَضْعًا وَأَكْثَرُ فِقْهًا مِنَ الصَّحِيحَيْنِ".

وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الغَزَالِيُّ: "إِنَّهَا؛ أَيِ "السُّنَنَ" تَكْفِي المُجْتَهِدَ فِي أَحَادِيثِ الأَحْكَامِ".

وَلَقَدْ أُلِّفَتْ أَنْوَاعٌ مِنَ المُؤَلَّفَاتِ الخَادِمَةِ لِلسُّنَنِ، فَكَمْ مِنْ شَارِحٍ لِلسُّنَنِ وَمُخْتَصِرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الفُنُونِ!.

 

(7) تَمَيُّزُ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ

امْتَازَتْ سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ بِأَنَّهَا عَنِيَتْ بِأَدِلَّةِ الأَحْكَامِ، وَالأَحَادِيثِ الفِقْهِيَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَالصَّالِحَةِ لِلاحْتِجَاجِ، وَبَيَانِ عِلَلِ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ الفُقَهَاءِ، مَعَ التَّحْرِيرِ وَالتَّهْذِيبِ وَالتَّرْتِيبِ وَالتَّبْوِيبِ وَالتَّنْظِيمِ وَالاخْتِصَارِ.

وَقَدْ أَوْصَى النَّوَوِيُّ المُشْتَغِلُ بِالفِقْهِ وَغَيْرِهِ بِالاعْتِبَارِ بِسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ قَائِلًا: "إِنَّ مُعْظَمَ الأَحَادِيثِ التِي يُحْتَجُ بِهَا فِيهِ، مَعَ تَلْخِيصِ أَحَادِيثِهِ، وَبَرَاعَةِ مُصَنِّفِهِ، وَاعْتِنَائِهِ بِتَهْذِيبِهِ".

وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: «كِتَابُ "السُّنَنِ" لِأَبِي دَاوُدَ كِتَابٌ شَرِيفٌ، لَمْ يُصَنَّفْ فِي عِلْمِ الدِّينِ كِتَابٌ مِثْلُهُ، وَقَدْ رُزِقَ القَبُولُ مِنَ النَّاسِ كَافَّةً، فَصَارَ حَكَمًا بَيْنَ فِرَقِ العُلَمَاءِ، وَطَبَقَاتِ الفُقَهَاءِ، عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، فَلِكُلٍّ فِيهِ وِرْدٌ وَمِنْهُ شِرْبٌ، وَعَلَيْهِ مُعَوَّلُ أَهْلِ العِرَاقِ، وَأَهْلِ مِصْرَ، وَبِلَادِ المَغْرِبِ، وَكَثِيرٍ مِنْ مُدُنِ أَقْطَارِ الأَرْضِ".

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "لَمَّا كَانَ كِتَابُ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللهُ - مِنَ الإِسْلَامِ بِالمَوْضِعِ الذِي خَصَّهُ اللهُ؛ بِحَيْثُ صَارَ حَكَمًا بَيْنَ أَهْلِ الإِسْلَامِ، وَفَصْلًا فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَالخِصَامِ، فَإِلَيْهِ يَتَحَاكَمُ المُنْصِفُونَ، وَبِحُكْمِهِ يَرْضَى المُحَقِّقُونَ، فَإِنَّهُ جَمَعَ شَمْلَ أَحَادِيثِ الأَحْكَامِ، وَرَتَّبَهَا أَحْسَنَ تَرْتِيبٍ، وَنَظَمَهَا أَحْسَنَ نِظَامٍ، مَعَ انْتِقَائِهَا أَحْسَنَ انْتِقَاءٍ، وَاطِّرَاحِهِ مِنْهَا أَحَادِيثَ المَجْرُوحِينَ وَالضُّعَفَاءِ".

 

(8) تَثَبُّتُ أَبِي دَاوُدَ فِي السُّنَنِ

مَا مِنْ حَدِيثٍ فِي السُّنَنِ، إِلَّا وَقَدْ عَرَضَهُ أَبُو دَاوُدَ عَلَى إِمَامَيْ عِلْمِ الحَدِيثِ وَعُلُومِهِ: الإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ.

وَقَالَ الخَطِيبُ: يُقَالُ: «إِنَّهُ صَنَّفَ كِتَابَهُ "السُّنَنَ" قَدِيمًا، وَعَرَضَهُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَاسْتَجَادَهُ، وَاسْتَحْسَنَهُ».

وَقَدْ رَاجَعَ أَبُو دَاوُدَ السُّنَنَ مَرَّاتٍ عِدَّةً، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ اللُّؤْلُؤِيُّ عَنْ أَحَدِ الأَحَادِيثِ: «هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَقْرَأْهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْعَرْضَةِ الرَّابِعَةِ»، مِمَّا يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يُرَاجِعُهُ وَيُنَقِّحُهُ بِالنَّقْصِ وَالزِّيَادَةِ، فَيَحْذِفُ مِنْهُ الأَحَادِيثَ التِي لَا يَرَاهَا صَالِحَةً لِلاعْتِبَارِ، وَيَزِيدُ مَا يَرَاهُ عَلَى شَرْطِهِ؛ لِذَا قَدْ يُوجَدُ اخْتِلَافٌ يَسِيرٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي عَدَدِ الأَحَادِيثِ.

وَكَانَ أَبُو دَاوُدَ يَقْرَأُ "السُّنَنَ" دَائِمًا عَلَى تَلَامِيذِهِ، وَيُذِيعُهُ بَيْنَ النَّاسِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ: «سَمِعْتُ كِتَابَ السُّنَنِ مِنْ أَبِي دَاوُدَ سِتَّ مِرَارٍ، بَقِيَتْ مِنَ المَرَّةِ السَّادِسَةِ بَقِيَّةٌ»، وَظَلَّ يَقْرَأُهُ عَلَى تَلَامِيذِهِ حَتَّى وَفَاتِهِ؛ لِذَلِكَ كَثُرَ الرُّوَاةُ لِسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، حَتَّى قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «الرِّوَايَاتُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِكِتَابِهِ السُّنَنِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَيُوجَدُ فِي بَعْضِهَا مِنَ الكَلَامِ بَلْ وَالأَحَادِيثِ مَا لَيْسَ فِي الأُخْرَى».

 

(9) مَنْهَجُ أَبِي دَاوُدَ فِي السُّنَنِ

مِمَّا كَتَبَهُ الإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللهُ - تَعْرِيفًا بِمَنْهَجِهِ فِي كِتَابِهِ "السُّنَنِ"؛ مَا ذَكَرَهُ فِي رِسَالَتِهِ لِأَهْلِ مَكَّةَ، حَيْثُ قَالَ - بَعْدَ إِشَارَتِهِ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَخْرَجَ أَصَحَّ مَا عُرِفَ فِي البَابِ -:

- وَلَمْ أَكْتُبْ فِي الْبَابِ إِلَّا حَدِيثًا أَوْ حَدِيثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَابِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ.

- وَإِذَا أَعَدْتُ الحَدِيثَ فِي الْبَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زِيَادَةِ كَلَامٍ فِيهِ.

- وَرُبَّمَا اخْتَصَرْتُ الحَدِيثَ الطَّوِيلَ.

- وَأَعْتَنِي بِتَقْدِيمِ عُلُوِّ الإِسْنَادِ، وَإِنْ كَانَ النَّازِلُ أَقْوَمَ إِسْنَادًا، إِذَا كَانَا صَحِيحَيْنِ.

- فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْنَدٌ غَيْرَ الْمَرَاسِيلِ، وَلَمْ يُوجَدِ الْمُسْنَدُ؛ فَالمُرْسَلُ يُحْتَجُّ بِهِ.

- وَإِنَّ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي كِتَابِي "السُّنَنِ" مَا لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ، وَهُوَ مُرْسلٌ وَمُدَلَّسٌ، وَهُوَ إِذَا لَمْ تُوجَدِ الصِّحَاحُ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الحَدِيثِ.

- وَلَيْسَ فِي كِتَابِ "السُّنَنِ" الَّذِي صَنَّفْتُهُ عَنْ رَجُلٍ مَتْرُوكِ الحَدِيثِ شَيْءٌ.

- وَإِذَا كَانَ فِيهِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بَيَّنْتُ أَنَّهُ مُنْكَرٌ.

- وَمَا كَانَ فِي كِتَابِي مِنْ حَدِيثٍ فِيهِ وَهْنٌ شَدِيدٌ فَقَدْ بَيَّنْتُهُ.

- وَمَا لَمْ أَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا فَهُوَ صَالِحٌ، وَبَعْضُهَا أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ.

- وَلَعَلَّ عَدَدَ الَّذِي فِي كِتَابِي مِنَ الْأَحَادِيثِ قَدْرُ أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَثَمَانِمِائَةِ حَدِيثٍ، وَنَحْوُ سِتِّمَائَةِ حَدِيثٍ مِنَ الْمَرَاسِيلِ.

- فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ آلَافٍ وَالثَّمَانِمِائَةٍ كُلُّهَا فِي الْأَحْكَامِ، فَأَمَّا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الزُّهْدِ وَالفَضَائِلِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ هَذَا؛ لَمْ أُخَرِّجْهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

 

(10) شَرْطُ أَبِي دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ

نَهَجَ الإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ مَنْهَجَ شَيْخِهِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللهُ - مِنْ تَقْدِيمِ الحَدِيثِ الضَّعِيفِ؛ (الحَسَنِ وَمَا يُقَارِبُهُ)، عَلَى الرَّأْيِ وَالقِيَاسِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي البَابِ غَيْرُهُ.

وَأَمَّا الحَدِيثُ المَطْرُوحُ وَالرَّجُلُ المَتْرُوكُ فَقَدْ تَجَنَّبَهُمَا، وَإِنْ أَوْرَدَ حَدِيثًا مُنْكَرًا لِغَرَضٍ، فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ نَكَارَتَهُ، حَيْثُ حَرَصَ عَلَى أَنْ تَكُونَ "السُّنَنُ" مَرْجِعَ الفُقَهَاءِ، وَجَامِعَةً لِلْأَحَادِيثِ التِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا فِي المَسَائِلِ الفِقْهِيَّةِ، صَحِيحَةً، أَوْ صَالِحَةً، أَوْ ضَعِيفَةً تَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ.

وَقَدْ قَالَ أَبَو دَاوُدَ: "ذَكَرْتُ فِي السُّنَنِ الصَّحِيْحَ وَمَا يُقَارِبُهُ، فَإِنْ كَانَ فِيْهِ وَهْنٌ شَدِيدٌ بَيَّنْتُهُ". وَقَالَ: "لَيْسَ فِي كِتَابِ "السُّنَنِ" الَّذِي صَنَّفْتُهُ عَنْ رَجُلٍ مَتْرُوكِ الحَدِيثِ شَيْءٌ، وَإِذا كَانَ فِيهِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بَيَّنْتُ أَنَّهُ مُنْكَرٌ".

وَيَحْكُونَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "مَا ذَكَرْتُ فِي كِتَابِي حَدِيثًا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهِ".

فَهَلْ وَفَّى - رَحِمَهُ اللهُ - بِشَرْطِهِ هَذَا؟ الجَوَابُ: نَعَمْ، الذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ وَفَّى بِهِ، حَسَبَ رُؤْيَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَقَدْ يُخَالِفُهُ فِي الرُّؤْيَةِ وَالاجْتِهَادِ غَيْرُهُ، وَهَذَا أَمْرٌ وَارِدٌ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ : "وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْ لِمَتْرُوكِ الحَدِيثِ عِنْدَهُ، عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُ، أَوْ لِمَتْرُوكٍ مُتَّفَقٍ عَلَى تَرْكِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ خَرَّجَ لِمَنْ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَتْرُوكٌ، وَمَنْ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مُتَّهَمٌ بِالكَذِبِ". انْتَهَى.

لَقَدْ صَرَّحَ الخَطَّابِيُّ وَالذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُمَا، بِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ وَفَّى بِمَا الْتَزَمَهُ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: "فَقَدْ وَفَّى - رَحِمَهُ اللهُ - بِذَلِكَ بِحَسَبِ اجتِهَادِهِ".

 

(11) تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: فَهُوَ صَالِحٌ

اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ أَبِي دَاوُدَ: "وَمَا سَكَتُّ عَنْهُ فَهُوَ صَالِحٌ"؛ فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ عِنْدَهُ، ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ السَّكَنِ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَالحَاكِمُ، وَابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وَابْنُ الصَّلَاحِ، وَأَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ، وَالمُنْذِرِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ.

وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ يَعْنِي "صَالِحٌ لِلْاحْتِجَاجِ"؛ أَيْ ضَعْفُهُ يَسِيرٌ يَنْجَبِرُ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا القَوْلُ هُوَ الأَقْرَبُ فِي المُرَادِ بِمُصْطَلَحِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ، وَعَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ كَالذَّهَبِيِّ، وَابْنِ حَجَرٍ، وَالسَّخَاوِيِّ وَغَيْرِهِمْ.

وَهَلْ كُلُّ مَا سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ يَعْنِي أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَوْ صَالِحٌ؟ هَذَا مَا يَظْهَرُ مِنْ تَصْرِيحِهِ، فَهُوَ صَالِحٌ لِلاعْتِبَارِ وَالاسْتِشْهَادِ عِنْدَهُ، وَخَاصَّةً إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي البَابِ مَا يَكْفِي عَنْهُ مِنَ الأَحَادِيثِ الجِيَادِ، وَيُغْنِي عَمَّا سِوَاهُ مِنَ المَرَاسِيلِ وَالأَسَانِيدِ المُتَوَقِّفِ فِيهَا لِلْعَنْعَنَةِ، إِلَّا أَنَّ الجُهْدَ البَشَرِيَّ مُعَرَّضٌ لِلْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العَوَارِضِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: «وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ" أَحَادِيثُ ظَاهِرَةُ الضَّعْفِ لَمْ يُبَيِّنْهَا، مَعَ أَنَّهَا مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهَا عِنْدَ المُحَدِّثِينَ: كَالمُرْسَلِ وَالمُنْقَطِعِ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَجْهُولٍ: كَشَيْخٍ وَرَجُلٍ وَنَحْوِهِ. فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ: "مَا كَانَ فِيهِ وَهْنٌ شَدِيدٌ بَيَّنْتُه"!

وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ضَعْفُ هَذَا النَّوْعِ ظَاهِرًا، اسْتَغْنَى بِظُهُورِهِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِبَيَانِهِ». انتهى

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "مَا فِيهِ - يَعْنِي السُّنَنَ - مِنَ الأَسَانِيدِ المُنْقَطِعَةِ، وَأَحَادِيثِ المُدَلِّسِينَ بِالعَنْعَنَةِ، وَالأَسَانِيدِ التِي فِيهَا مَنْ أُبْهِمَتْ أَسْمَاؤُهُمْ، فَلَا يَتَّجِهُ الحُكْمُ لِأَحَادِيثِ هَؤُلَاءِ بِالحُسْنِ مِنْ أَجْلِ سُكُوتِ أَبِي دَاوُدَ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ تَارَةً يَكُونُ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ الكَلَامِ فِي ذَلِكَ الرَّاوِي فِي نَفْسِ كِتَابِهِ، وَتَارَةً يَكُونُ لِذُهُولٍ مِنْهُ، وَتَارَةً يَكُونُ لِشِدَّةِ وُضُوحِ ضَعْفِ ذَلِكَ الرَّاوِي، وَاتِّفَاقِ الأَئِمَّةِ عَلَى طَرْحِ رِوَايَتِهِ ... وَأَمَّا الأَحَادِيثُ التِي فِي إِسْنَادِهَا انْقِطَاعٌ أَوْ إِبْهَامٌ، فَفِي الكِتَابِ مِنْ ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ".

 

(12) أَقْسَامُ أَحَادِيثِ السُّنَنِ

قَالَ الذَّهَبِيُّ: "بَيَّنَ - أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ - مَا ضَعْفُهُ شَدِيْدٌ، وَوَهْنُهُ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ، وَكَاسَرَ عَنْ مَا ضَعْفُهُ خَفِيْفٌ مُحْتَمَلٌ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُكُوْتِهِ - وَالحَالَةُ هَذِهِ - عَنِ الحَدِيْثِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا عِنْدَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا حَكَمْنَا عَلَى حَدِّ الحَسَنِ بِاصطِلَاحِنَا المُوَلَّدِ الحَادِثِ، الَّذِي هُوَ فِي عُرْفِ السَّلَفِ يَعُودُ إِلَى قِسمٍ مِنْ أَقسَامِ الصَّحِيْحِ، الَّذِي يَجِبُ العَمَلُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُوْرِ العُلَمَاءِ، أَوِ الَّذِي يَرْغَبُ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ، وَيُمَشِّيَهُ مُسْلِمٌ، وَبَالعَكْسِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي أَدْنَى مَرَاتِبِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُ لَوْ انْحَطَّ عَنْ ذَلِكَ لخَرَجَ عَنِ الاحْتِجَاجِ، وَلَبَقِيَ مُتَجَاذَبًا بَيْنَ الضَّعْفِ وَالحُسْنِ.

فَكِتَابُ أَبِي دَاوُدَ أَعْلَى مَا فِيْهِ مِنَ الثَّابِتِ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ الكِتَابِ.

ثُمَّ يَلِيْهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحَدُ الشَّيْخَيْنِ، وَرَغِبَ عَنْهُ الآخَرُ.

ثُمَّ يَلِيْهِ مَا رَغِبَا عَنْهُ، وَكَانَ إِسْنَادُهُ جَيِّدًا، سَالِمًا مِنْ عِلَةٍ وَشُذُوْذٍ.

ثُمَّ يَلِيْهِ مَا كَانَ إِسْنَادُهُ صَالِحًا، وَقَبِلَهُ العُلَمَاءُ لِمَجِيْئِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ لَيِّنَيْنِ فَصَاعِدًا، يَعْضُدُ كُلُّ إِسْنَادٍ مِنْهُمَا الآخَرُ.

ثُمَّ يَلِيْهِ مَا ضُعِّفَ إسنَادُهُ لِنَقْصِ حِفْظِ رَاوِيهِ، فَمِثْلُ هَذَا يُمَشِّيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَيَسْكُتُ عَنْهُ غَالِبًا.

ثُمَّ يَلِيْهِ مَا كَانَ بَيِّنَ الضَّعْفِ مِنْ جِهَةِ رَاوِيْهِ، فَهَذَا لاَ يَسْكُتُ عَنْهُ، بَلْ يُوْهِنُهُ غَالِبًا، وَقَدْ يَسْكُتُ عَنْهُ بِحَسَبِ شُهْرَتِهِ وَنَكَارَتِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ". انتهى.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ جَمِيعَ مَا سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ لَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الحَسَنِ الاصْطِلَاحِيِّ. بَلْ هُوَ عَلَى أَقْسَامٍ: مِنْهُ مَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ. وَمِنْهُ مَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الحَسَنِ لِذَاتِهِ. وَمِنْهُ مَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الحَسَنِ إِذَا اعْتُضِدَ. وَهَذَانِ القِسْمَانِ كَثِيرٌ فِي كِتَابِهِ جِدًّا. وَمِنْهُ مَا هُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى تَرْكِهِ غَالِبًا.

وَكُلُّ هَذِهِ الأَقْسَامِ عِنْدَهُ تَصْلُحُ لِلاحْتِجَاجِ بِهَا". انتهى.