(1)

مُصْطَلَحُ الحَدِيثِ فَنٌّ مُسْتَقِلٌّ، وَمُقَدِّمَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا لِلْمُشْتَغِلِ بِعِلْمِ الحَدِيثِ؛ حَيْثُ يُمَثِّلُ البَوَّابَةَ الرَّئِيسَةَ لِفَهْمِ مُصْطَلَحَاتِ المُحَدِّثِينَ، وَبِهِ يَتَعَرَّفُ الطَّالِبُ عَلَى العِلْمِ النَّظَرِيِّ المُجْمَلِ الجَامِعِ لِأُصُولِ وَفُرُوعِ وَمُكَمِّلَاتِ المَعَارِفِ المُتَعَلِّقَةِ بِالصِّنَاعَةِ الحَدِيثِيَّةِ.

فَمِنْ مَبَاحِثِ مُصْطَلَحِ الحَدِيثِ: التَّعَرُّفُ عَلَى الخَبَرِ وَالحَدِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالخَبَرُ مُرَادِفٌ لِلْحَدِيثِ، وَلَكِنَّهُ أَعَمُّ؛ فَالحَدِيثُ: مَا جَاءَ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالخَبَرُ: مَا جَاءَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لِمَنْ يَشْتَغِلُ بِالتَّوَارِيخِ: الإِخْبَارِيُّ، وَلِمَنْ يَشْتَغِلُ بِالحَدِيثِ النَّبَوِيِّ: المُحَدِّثُ.

وَالخَبَرُ بِاعْتِبَارِ وُصُولِهِ إِلَيْنَا لَهُ طُرُقٌ؛ أَيْ: أَسَانِيدُ كَثِيرَةٌ أَوْ قَلِيلَةٌ؛ وَالإِسْنَادُ حِكَايَةٌ عَنْ طَرِيقِ المَتْنِ، وَالمَتْنُ هُوَ غَايَةُ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الإِسْنَادُ مِنَ الكَلَامِ.

فَإِذَا كَثُرَتْ طُرُقُ الخَبَرِ، فَأَفَادَتِ العِلْمَ اليَقِينِيَّ، أُطْلِقَ عَلَى الخَبَرِ مُتَوَاتِرٌ، وَإِلَّا أُطْلِقَ عَلَيْهِ آحَادٌ.

مِثَال: قَالَ البُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي ءصَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ).

- قَالَ البُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا: هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ؛ أَي: الإِسْنَادُ.

- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا هُوَ الحَدِيثُ.

- (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ ...): هَذَا هُوَ المَتْنُ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الفَتْحِ: نَقَلَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ جَاءَ عَنْ مِائَتَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَجْلِ كَثْرَةِ طُرُقِهِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ. انتهى.

 

(2)

وَخَبَرُ الآحَادِ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا، وَقَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا، وَيَنْقَسِمُ إِلَى:

مَشْهُورٍ، وَعَزِيزٍ، وَغَرِيبٍ.

فَالمَشْهُورُ: هُوَ مَا رَوَاهُ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ الإِسْنَادِ ثَلَاثَةٌ فَأَكْثَرُ، مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّوَاتُرِ؛ كَحَدِيثِ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا ...». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، وَزِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَعَائِشَةُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

وَيُطْلَقُ المَشْهُورُ عَلَى مَا اشْتُهِرَ عَلَى الأَلْسِنَةِ، صَحِيحًا كَانَ أَوْ ضَعِيفًا؛ كَحَدِيثِ: (أَبْغَضُ الحَلَالِ إِلَى اللهِ الطَّلَاقُ). رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

وَالعَزِيزُ: هُوَ مَا رَوَاهُ اثْنَانِ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ، وَقَدْ يَزِيدُ فِي بَعْضِ طَبَقَاتِهِ عَنِ اثْنَيْنِ، وَمِثَالُهُ: مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ ...». رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ اثْنَانِ: قَتَادَةُ، وَعَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، وَرَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ اثْنَانِ كَذَلِكَ: شُعْبَةُ، وَسَعِيدٌ، وَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ اثْنَانِ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، وَعَبْدُ الوَارِثِ، وَرَوَاهُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ.

وَالغَرِيبُ: هُوَ مَا انْفَرَدَ بِرِوَايَتِهِ وَاحِدٌ فِي إِحْدَى طَبَقَاتِهِ أَوْ كُلِّهَا، مِثَالُهُ حَدِيثُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ». مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ اللِّيْثِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَالمَشْهُورُ وَالعَزِيزُ: لَا أَهَمِّيَّةَ كُبْرَى لِمُصْطَلَحِهِمَا مِنَ النَّاحِيَةِ العَمَلِيَّةِ.

 

(3)

وَالغَرِيبُ وَالفَرْدُ: شَائِعٌ اسْتِعْمَالُهُمَا، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ حَدِيثٍ تَفَرَّدَ بِهِ الوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، عَنِ الوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ الوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ؛ رَوَاهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الوَلِيدِ.

وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ الغَالِبَ فِي كَثْرَةِ الاسْتِعْمَالِ إِطْلَاقُ الفَرْدِ عَلَى الفَرْدِ المُطْلَقِ، وَالغَرِيبِ عَلَى الفَرْدِ النِّسْبِيِّ.

فَمَا هُوَ الفَرْدُ المُطْلَقُ، وَمَا هُوَ الفَرْدُ النِّسْبِيُّ؟.

تَقَدَّمَ أَنَّ المُطْلَقَ هُوَ أَنْ يَرْوِيَ الحَدِيثَ رَاوٍ وَاحِدٌ فِيمَا دُونَ الصَّحَابِيِّ، إِنْ كَانَ المَقْصُودُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ القَبُولِ وَالرَّدِّ. وَيَدْخُلُ الصَّحَابِيُّ إِنْ كَانَ القَصْدُ الاصْطِلَاحَ.

وَالنِّسْبِيُّ أَنْوَاعٌ؛ مِنْهَا:

أَوَّلًا: تَفَرُّدُ شَخْصٍ عَنْ شَخْصٍ، أَوْ تَفَرُّدُ وَصْفٍ؛ كَتَفَرَّدَ بِهِ فُلَانٌ الثِّقَةُ.

ثَانِيًا: تَفَرُّدُ أَهْلِ بَلَدٍ عَنْ شَخْصٍ، وَهَذَا لَا يُسَمَّى غَرِيبًا.

ثَالِثًا: تَفَرُّدُ أَهْلِ بَلَدٍ، أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، عَنْ أَهْلِ بَلَدٍ آخَرَ.

مِثَالُ الأَوَّلِ: حَدِيثُ عَبْدِ الوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ الكُدْيَةِ التِي عَرَضَتْ لَهُمْ يَوْمَ الخَنْدَقِ. أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الوَاحِدِ عَنْ أَبِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.

وَمِثَالُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ ثِقَةٌ: حَدِيثُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الأَضْحَى وَالفِطْرِ بِقَافْ، وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ.

تَفَرَّدَ بِهِ ضَمْرَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنَ الثِّقَاتِ غَيْرُ ضَمْرَةَ.

 

وَمِثَالُ الثَّانِي: حَدِيثُ: "القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ".

تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ مَرْوٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.

وَمِثَالُ الثَّالِثِ: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ المَشْجُوجِ: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً".

قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ، فِيمَا حَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيَّ فِي "السُّنَنِ": "هَذِهِ سُنَّةٌ تَفَرَّدَ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ، وَحَمَلَهَا عَنْهُمْ أَهْلُ الجَزِيرَةِ".

وَحَدِيثُ النَّسَائِيِّ: "كُلُوا البَلَحَ بِالتَّمْرِ". قَالَ الحَاكِمُ: هُوَ مِنْ أَفْرَادِ البَصْرِيِّينَ، عَنْ المَدَنِيِّينَ، تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو زُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ.

 

وَالمُتَوَاتِرُ قِسْمَانِ:

مُتَوَاتِرٌ لَفْظِيٌّ، وَهُوَ مَا تَوَاتَرَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ؛ كَحَدِيثِ: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا)؛ لِذَلِكَ احْتَلَّ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّحَّةِ.

وَمُتَوَاتِرٌ مَعْنَوِيٌّ: وَهُوَ مَا تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، كَأَحَادِيثِ رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ.

 

(4)

وَيَنْقَسِمُ الغَرِيبُ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهُ فِي السَّنَدِ وَالمَتْنِ إِلَى أَقْسَامٍ، هِيَ:

[1] غَرِيبٌ مَتْنًا وَإِسْنَادًا

مِثَالُهُ مَا رَوَى الحَاكِمُ بِإِسْنَادِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا أَبُو عَقِيلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللهِ، فَإِنَّ المُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى).

قَالَ الحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبُ الإِسْنَادِ وَالمَتْنِ.

[2] غَرِيبٌ إِسْنَادًا لَا مَتْنًا

مِثَالُهُ: مَا رَوَاهُ عَبْدُ المَجِيدِ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ).

وَهَذَا الذِي يَقُولُ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: "غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ".

[3] غَرِيبٌ مَتْنًا لَا إِسْنَادًا

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مُقَدِّمَتِهِ: "فَلَا يُوجَدُ إِذًا مَا هُوَ غَرِيبٌ مَتْنًا، وَلَيْسَ غَرِيبًا إِسْنَادًا، إِلَّا إِذَا اشْتُهِرَ الحَدِيثُ الفَرْدُ عَمَّنْ تَفَرَّدَ بِهِ، فَرَوَاهُ عَنْهُ عَدَدٌ كَثِيرُونَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ غَرِيبًا مَشْهُورًا، وَغَرِيبًا مَتْنًا، وَغَيْرَ غَرِيبٍ إِسْنَادًا، كَحَدِيثِ: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ). وَأَثْبَتَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ هَذَا القِسْمَ مُطْلَقًا.

 

[4] غَرِيبٌ فِي بَعْضِ السَّنَدِ

مِثَالُهُ: حَدِيثٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي "المُعْجَمِ الكَبِيرِ" مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ، وَكَذَا مِنْ رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ هَكَذَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ.

فَهَذِهِ غَرَابَةٌ تَخُصُّ مَوْضِعًا مِنَ السَّنَدِ، وَالحَدِيثُ صَحِيحٌ، فَقَدْ سَقَطَتْ الوَاسِطَةُ مِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي رِوَايَاتِ الثِّقَاتِ.

[5] غَرِيبٌ فِي بَعْضِ المَتْنِ

مِثَالُهُ: حَدِيثُ أُمِّ زَرْعٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، فَإِنَّ عَبْدَ العَزِيزِ وَعَبَّادًا جَعَلَا جَمِيعَ المَتْنِ مَرْفُوعًا، وَإِنَّمَا المَرْفُوعُ مِنْهُ قَوْلُهُ: (كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ)؛ فَهَذِهِ غَرَابَةٌ فِي بَعْضِ المَتْنِ.

 

(5)

المَبَادِئُ العَشَرَةُ لِعِلْمِ مُصْطَلَحِ الحَدِيثِ:

- تَعْرِيفُهُ: قَوَاعِدُ وَضَوَابِطُ وَمُصْطَلَحَاتٌ، يُعْرَفُ بِهَا حَالُ السَّنَدِ وَالمَتْنِ، مِنْ حَيْثُ القَبُولُ وَالرَّدُّ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ كَيْفِيَّةِ التَّحَمُّلِ وَالأَدَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

- مَوْضُوعُهُ: الرَّاوِي وَالمَرْوِي مِنْ حَيْثُ القَبُولُ وَالرَّدُّ.

- ثَمَرَتُهُ: التَّعَبُّدُ للهِ تَعَالَى بِحِفْظِ حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ.

- غَايَتُهُ: مَعْرِفَةُ المَقْبُولِ مِنَ الأَحَادِيثِ المَرْفُوعَةِ وَالمَوْقُوفَةِ؛ لِيُعْمَلَ بِهَا، وَيُبْنَى عَلَيْهَا.

- نِسْبَتُهُ: فَنٌّ شَرْعِيٌّ مُسْتَقِلٌّ، يَخْدِمُ حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ، مِنْ حَيْثُ قَبُولُهُ وَرَدُّهُ، وَقُوَّتُهُ وَضَعْفُهُ، وَتَقْدِيمُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، فَهُوَ مِنْ عُلُومِ الآلَةِ.

- فَضْلُهُ: مِنْ أَجَلِّ العُلُومِ وَأَفْضَلِهَا؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِحِفْظِ حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ.

- وَاضِعُهُ: أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا العِلْمِ كَفَنٍّ مُسْتَقِلٍّ الرَامَهُرْمُزِيّ (ت: 360 هـ) فِي كِتَابٍ أَسْمَاهُ: (المُحَدِّثُ الفَاصِلُ بَيْنَ الرَّاوِي وَالوَاعِي).

- اسْمُهُ: يُسَمَّى مُصْطَلَحَ الحَدِيثِ، وَعُلُومَ الحَدِيثِ، وَأُصُولَ الحَدِيثِ، وَعِلْمَ الحَدِيثِ دِرَايَةً.

- اسْتِمْدَادُهُ: مَأْخُوذٌ مِنَ المُحَدِّثِينَ المُشْتَغِلِينَ بِعُلُومِهِ.

حُكْمُهُ: تَعَلُّمُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ.

- مَسَائِلُهُ: مَعَارِفُ مُتَنَوِّعَةٌ، تَتَعَلَّقُ بِدِرَاسَةِ الإِسْنَادِ؛ كَالاتِّصَالِ، وَدِرَاسَةِ المَتْنِ؛ كَالإِدْرَاجِ.

 

(6)

وَالحَدِيثُ مِنْهُ المَقْبُولُ، وَمِنْهُ المَرْدُودُ، وَالمَقْبُولُ دَرَجَاتٌ، وَالمَرْدُودُ دَرَكَاتٌ؛ فَأَعْلَى المَقْبُولِ: الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ، وَبَعْضُهُ أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ، بِحَسَبِ القَرَائِنِ المُحْتَفَّةِ بِهِ، وَأَوْصَافِ الصِّحَّةِ المُجْتَمِعَةِ لَهُ، وَكَذَلِكَ المَرْدُودُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ.

فَالحَدِيثُ الوَاصِلُ إِلَيْنَا بِنَقْلِ عَدْلٍ تَامِّ الضَّبْطِ، مُتَّصِلَ السَّنَدِ، غَيْرَ مُعَلَّلٍ وَلَا شَاذٍّ: هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ.

فَالعَدْلُ: هُوَ المُسْتَقِيمُ فِي دِينِهِ، المُتَّصِفُ بِالأَخْلَاقِ الحَمِيدَةِ، وَالآدَابِ الجَمِيلَةِ، صَاحِبُ المُرُوءَةِ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا مَرَاتِبُ.

وَقَدْ كَفَانَا أَرْبَابُ الصَّنْعَةِ الحَدِيثِيَّةِ البَحْثَ فِي عَدَالَةِ الرَّاوِي.

وَالضَّبْطُ قِسْمَانِ: ضَبْطُ صَدْرٍ، وَهُوَ أَنْ يَحْفَظَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ مَا سَمِعَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ كَمَا هُوَ، وَضَبْطُ كِتَابٍ، وَهُوَ صِيَانَتُهُ لَدَيْهِ مِنَ التَّغْيِيرِ، مُنْذُ سَمِعَ فِيهِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْهُ.

وَقُيِّدَ بِالتَّامِّ إِشَارَةً إِلَى تَفَاوُتِ الضَّبْطِ، وَإِلَى أَعْلَى مُسْتَوَيَاتِهِ.

وَالمُتَّصِلُ: مَا سَلِمَ إِسْنَادُهُ مِنْ سُقُوطِ الوَاسِطَةِ بَيْنَ الرَّاوِي وَالمَرْوِيِّ عَنْهُ، فَكُلُّ رَجُلٍ فِي الإِسْنَادِ سَمِعَ ذَلِكَ المَرْوِيَّ مِنْ شَيْخِهِ.

وَالمُعَلَّلُ: مَا فِيهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ تَقْدَحُ فِي صِحَّةِ سَنَدِهِ أَوْ مَتْنِهِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُ السَّلَامَةُ مِنْهَا.

وَالشَّاذُّ: مَا يُخَالِفُ فِيهِ الثِّقَةُ مَنْ هُوَ أَرْجَحُ وَأَوْلَى بِالقَبُولِ مِنْهُ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الصَّحِيحِ: مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ البُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ».

وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً».

 

(7)

وَشُرُوطُ العَدَالَةِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ: الإِسْلَامُ، وَالبُلُوغُ، وَالعَقْلُ، وَالتَّقْوَى، وَالمُرُوءَةُ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ العَدَالَةُ حَالَ الأَدَاءِ لَا حَالَ التَّحَمُّلِ. فَيَصِحُّ سَمَاعُ الكَافِرِ، وَالفَاسِقِ، وَالصَّبِيِّ المُمَيِّزِ، وَمَخْرُومِ المُرُوءَةِ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا أَدَّاهُ حَالَ إِسْلَامِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ وَبُلُوغِهِ، فَقَدْ قُبِلَ بِالاتِّفَاقِ مِنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَا تَحَمَّلَهُ حَالَ كُفْرِهِ، وَمِنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ مَا تَحَمَّلَهُ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ.

وَالفِسْقُ المُخِلُّ بِالعَدَالَةِ يَشْمَلُ العَمَلِيَّ وَالاعْتِقَادِيَّ، وَقَدْ أَفْرَدُوا الوَصْفَ بِالكَذِبِ مِنْ بَيْنِ المَعَاصِي، وَأَدْرَجُوا الفِسْقَ الاعْتِقَادِيَّ تَحْتَ الوَصْفِ بِالبِدْعَةِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الطَّعْنِ فِي العَدَالَةِ، قَوْلُ الذَّهَبِيِّ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ: لَوْلَا مَا ارْتَكَبَ مِنَ العَظَائِمِ وَالفَتْكِ وَالشَّرِّ لَمَشَى حَالُهُ. انتهى.

وَأَمَّا تَرْكُ بَعْضِهِمُ السَّمَاعَ مِنْ لَيِّنِ المُرُوءَةِ، فَلَا يَعْنِي أَنَّ حَدِيثَهُ مَرْدُودٌ.

قِيلَ لِشُعْبَةَ: لِمَ تَرَكْتَ حَدِيثَ فُلَانٍ؟، قَالَ: رَأَيْتُهُ يَرْكُضُ عَلَى بِرْذَوْن.

وَسُئِلَ الحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْ زَاذَانَ: لِمَ لَمْ تَرْوِ عَنْهُ؟، فَقَالَ: كَانَ كَثِيرَ الكَلَامِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: أَحْمَـدُ بْنُ المِقْـدَامِ، أَبُـو الأَشْـعَثِ العِـجْلِيُّ، بَصْـِريٌّ صَـدُوقٌ، صَاحِـبُ حَـدِيثٍ، طَــعَنَ أَبُـو دَاوُدَ فِي مُـرُوءَتِـهِ.

وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي العَالِيَةِ: كُنْتُ أَرْحَلُ إِلَى الرَّجُلِ مَسِيرَةَ أَيَّامٍ، فَأَوَّلُ مَا أَتَفَقَّدُ مِنْ أَمْرِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ وَجَدْتُهُ يُقِيمُهَا وَيُتِمُّهَا، أَقَمْتُ وَسَمِعْتُ مِنْهُ، وَإِنْ وَجَدْتُهُ يُضَيِّعُهَا، رَجَعْتُ وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ، وَقُلْتُ: هُوَ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ أَضْيَعُ.

 

(8)

وَالضَّبْطُ يَتَفَاوَتُ الحُفَّاظُ فِي مَرْتَبَتِهِ العُلْيَا، فَهُمْ فِي الإِتْقَانِ دَرَجَاتٌ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ تَامُّ الضَّبْطِ: إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، فَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَا كَتَبْتُ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَلَا حَدَّثَنِي رَجُلٌ بِحَدِيثٍ قَطُّ إِلَّا حَفِظْتُهُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ، فَقَالَ: تَعْجَبُ مِنْ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا كُنْتُ أَسْمَعُ شَيْئًا إِلَّا حَفِظْتُهُ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ - أَوْ قَالَ: أَكْثَرَ - فِي كُتُبِي.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ الخَفَّافُ: أَمْلَى عَلَيْنَا إِسْحَاقُ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ حَدِيثٍ مِنْ حِفْظِهِ، ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْنَا، فَمَا زَادَ حَرْفًا، وَلَا نَقَصَ حَرْفًا.

وَقَالَ إِسْحَاقُ: مَا سَمِعْتُ شَيْئًا إِلَّا وَحَفِظْتُهُ، وَلَا حَفِظْتُ شَيْئًا قَطُّ فَنَسِيتُهُ، أَحْفَظُ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِي.

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ: سَمِعْتُ أَبَا حَاتِمٍ الرَّازِيَّ، يَقُولُ: ذَكَرْتُ لِأَبِي زُرْعَةَ حِفْظَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، فَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مَا رُئِيَ أَحْفَظُ مِنْ إِسْحَاقَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَالعَجَبُ مِنْ إِتْقَانِهِ، وَسَلَامَتِهِ مِنَ الغَلَطِ، مَعَ مَا رُزِقَ مِنَ الحِفْظِ. فَقُلْتُ لِأَبِي حَاتِمٍ: إِنَّهُ أَمْلَى التَّفْسِيرَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ. قَالَ: وَهَذَا أَعْجَبُ؛ فَإِنَّ ضَبْطَ الأَحَادِيثِ المُسْنَدَةِ أَسْهَلُ وَأَهْوَنُ مِنْ ضَبْطِ أَسَانِيدِ التَّفْسِيرِ وَأَلْفَاظِهَا.

وَقَالَ الحَاكِمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، سَأَلْتُ أَبَا قُدَامَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، فَقَالَ: أَحْفَظُهُمْ إِسْحَاقُ.

وَمِنَ العُدُولِ الأَكْفَاءِ فِي تَقْوَاهُمْ وَمُرُوءَتِهِمْ: الإِمَامَانِ أَبُو حَنِيفَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، لَكِنَّهُمَا فِي الضَّبْطِ مُتَبَايِنَانِ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ العِجْلِيُّ: حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ثِقَةٌ، وَحَدِيثُهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ حَدِيثٍ، كَانَ يَحْفَظُهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كِتَابٌ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خِرَاشٍ: لَمْ يُخْطِئْ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فِي حَدِيثٍ قَطُّ.

أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللهُ - فَقَالَ عَنْهُ ابْنُ حِبَّانَ: لَمْ يَكُنِ الحَدِيثُ صِنَاعَتَهُ، حَدَّثَ بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا، مَا لَهُ فِي الدُّنْيَا غَيْرُهَا، أَخْطَأَ مِنْهَا فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَلَبَ إِسْنَادَهُ، أَوْ غَيَّرَ مَتْنَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، فَلَمَّا غَلَبَ خَطَؤُهُ عَلَى صَوَابِهِ؛ اسْتَحَقَّ تَرْكَ الاحْتِجَاجِ بِهِ فِي الأَخْبَارِ.

 

(9)

وَمِثَالُ عَدَمِ اتِّصَالِ السَّنَدِ: أَنْ يَسْقُطَ رَاوٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَوَّلِهِ، وَهُوَ المُعَلَّقُ، أَوْ يَسْقُطَ مِنْ أَثْنَائِهِ وَاحِدٌ فِي مَوْضِعٍ أَوْ مَوَاضِعَ، وَهُوَ المُنْقَطِعُ، أَوْ يَسْقُطَ مِنْ وَسَطِهِ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ عَلَى التَّوَالِي، فِي مَوْضِعٍ أَوْ مَوَاضِعَ، وَهُوَ المُعْضَلُ، أَوْ أَسْقَطَ التَّابِعِيُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ المُرْسَلُ، أَوْ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ شَكُّ الانْقِطَاعِ؛ لِاتِّهَامِ الرَّاوِي المُدَلِّسِ بِحَذْفِ رَجُلٍ لَيْسَ ثِقَةً مِنَ الإِسْنَادِ، فَإِنْ عَرَفْنَا السَّاقِطَ بِأَنَّهُ ثِقَةٌ فَلَا يَضُرُّ، أَوْ كَانَ ثَمَّةَ وِجَادَةٌ صَحِيحَةٌ فَكَذَلِكَ.

وَمِثَالُ الانْقِطَاعِ فِي الإِسْنَادِ، مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَمَّرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّقِّيُّ، عَنْ الحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَبْدِ الجَبَّارِ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «اسْتُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَرَأَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحَدَّ ... الحديث»، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الوَجْهِ، سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ: عَبْدُ الجَبَّارِ بْنُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ وَلَا أَدْرَكَهُ، يُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِأَشْهُرٍ.

وَهَذِهِ المُصْطَلَحَاتُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ المُرُونَةِ، فَعَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ، قَالَ البُخَارِيُّ: بَابُ مَا جَاءَ فِي غَسْلِ البَوْلِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ القَبْرِ: «كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ». وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ.

فَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ: مُعَلَّقًا، وَمُنْقَطِعًا، وَمُعْضَلًا، وَمُرْسَلًا.

 

(10)

وَمِثَالُ تَضْعِيفِ الشَّاذِّ، سَوَاءٌ كَانَ الشُّذُوذُ فِي الإِسْنَادِ أَوْ فِي المَتْنِ؛ مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُهُ عَنْ مَيْمُونَةَ، أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا، فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ.

هَذَا مَحْفُوظٌ، وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَهُوَ ثِقَةٌ، لَكِنَّهُ خَالَفَ فِي إِسْنَادِهِ وَفِي مَتْنِهِ، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ مَيْمُونَةَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَصَحُّ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. قَالَ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: وَحَدِيثُ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ، هَذَا خَطَأٌ أَخْطَأَ فِيهِ مَعْمَرٌ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ البُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ هَذِهِ: هِيَ خَطَأٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ: إِنَّهَا وَهْمٌ. وَأَشَارَ التِّرْمِذِيُّ إِلَى أَنَّهَا شَاذَّةٌ، وَقَالَ الذُّهْلِيُّ فِي الزَّهْرِيَّاتِ: الطَّرِيقَانِ عِنْدَنَا مَحْفُوظَانِ، لَكِنَّ طَرِيقَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَشْهَرُ.

 

(11)

وَأَمْثِلَةُ العِلَّةِ القَادِحَةِ فِي صِحَّةِ الحَدِيثِ المُعَلِّ، أَوْ فِي صِحَّةِ أَصْلِ الحَدِيثِ كَثِيرَةٌ. وَالعِلَّةُ تَكُونُ فِي الإِسْنَادِ وَهُوَ الأَكْثَرُ، وَتَكُونُ فِي المَتْنِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ العِلَّةِ القَادِحَةِ الخَفِيَّةِ، لِأَنَّ غَيْرَ القَادِحَةِ الأَصْلُ فِيهَا أَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الحَدِيثِ، إِلَّا لِوُجُودِ نَكَارَةٍ وَغَرَابَةٍ شَدِيدَةٍ فِي المَتْنِ. وَقَالَ الخَلِيلِيُّ فِي كِتَابِهِ الإِرْشَادِ: "الأَحَادِيثُ المَرْوِيَّةُ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ، صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَصَحِيحٌ مَعْلُولٌ … فَأَمَّا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ المَعْلُولُ، فَالعِلَّةُ تَقَعُ لِلْأَحَادِيثِ مِنْ أَنْحَاءٍ شَتَّى لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا، فَمِنْهَا: أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَاتُ حَدِيثًا مُرْسَلًا، وَيَنْفَرِدَ بِهِ ثِقَةٌ مُسْنَدًا، فَالمُسْنَدُ صَحِيحٌ وَحُجَّةٌ، وَلَا تَضُرُّهُ عِلَّةُ الإِرْسَالِ". انتهى.

وَالقَيْدُ بِالخَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَةَ كَالطَّعْنِ فِي الرَّاوِي لِجَرْحٍ فِي دِينِهِ، أَوْ لِضَعْفٍ فِي ضَبْطِهِ، وَكَالِانْقِطَاعِ فِي السَّنَدِ، مَفْهُومٌ مِنْ تَعْرِيفِ الصَّحِيحِ لِذَاتِهِ.

وَالعِلَّةُ الخَفِيَّةُ نَحْوُ تَفَرُّدِ الرَّاوِي، أَوْ مُخَالَفَةِ الثِّقَاتِ لَهُ، وَكَرَفْعِ مَوْقُوفٍ، وَوَصْلِ مَقْطُوعٍ.

قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: حَدِيثُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ"، إِنَّمَا هُوَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ فَقَطْ.

وَقَالَ يَحْيَى: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ يُصَحِّفُ فِي هَذَا الحَدِيثِ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ: "مَنْ قَرَأَ جُزْءًا مِنَ القُرْآنِ" ... وَإِنَّمَا يُرِيدُ مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنَ القُرْآنِ.

 

(12)

فَائِدَةٌ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَاكِمُ فِي "مَعْرِفَةِ عُلُومِ الحَدِيثِ: ذِكْرُ النَّوْعِ الثَّامِنِ وَالعِشْرِينَ مِنْ عُلُومِ الحَدِيثِ.

هَذَا النَّوْعُ مِنْهُ مَعْرِفَةُ الشَّاذِّ مِنَ الرِّوَايَاتِ. وَهُوَ غَيْرُ المَعْلُولِ. فَإِنَّ المَعْلُولَ مَا يُوقَفُ عَلَى عِلَّتِهِ: أَنَّهُ دَخَلَ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، أَوْ وَهِمَ فِيهِ رَاوٍ، أَوْ أَرْسَلَهُ وَاحِدٌ فَوَصَلَهُ وَاهِمٌ. فَأَمَّا الشَّاذُّ فَإِنَّهُ: حَدِيثٌ يَتَفَرَّدُ بِهِ ثِقَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ، وَلَيْسَ لِلْحَدِيثِ أَصْلٌ مُتَابِعٌ لِذَلِكَ الثِّقَةِ.

وَمِثَالُهُ: مَا حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَالَوَيْهِ، قَالَ: ثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ زَيْغِ الشَّمْسِ، أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا إِلَى العَصْرِ فَيُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا. وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ، صَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ سَارَ. وَكَانَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ المَغْرِبِ، أَخَّرَ المَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ العِشَاءِ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ المَغْرِبِ، عَجَّلَ العِشَاءَ فَصَلَّاهَا مَعَ المَغْرِبِ».

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: «هَذَا حَدِيثٌ رُوَاتُهُ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ، وَهُوَ شَاذُّ الإِسْنَادِ وَالمَتْنِ، لَا نَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً نُعَلِّلُهُ بِهَا. وَلَوْ كَانَ الحَدِيثُ عِنْدَ اللَّيْثِ عَنِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، لَعَلَّلْنَا بِهِ الحَدِيثَ. وَلَوْ كَانَ عِنْدَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، لَعَلَّلْنَا بِهِ. فَلَمَّا لَمْ نَجِدْ لَهُ العِلَّتَيْنِ، خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا. ثُمَّ نَظَرْنَا فَلَمْ نَجِدْ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ رِوَايَةً، وَلَا وَجَدْنَا هَذَا المَتْنَ – بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ – عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الطُّفَيْلِ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ. فَقُلْنَا: الحَدِيثُ شَاذٌّ.

 

(13)

اعْلَمْ - يَا رَعَاكَ اللهُ - أَنَّ عِلْمَ مُصْطَلَحِ الحَدِيثِ لَيْسَ كَعِلْمِ الحِسَابِ جَامِدًا، بِحَيْثُ تَكُونُ نَتَائِجُ مُقَدِّمَاتِهِ، وَهِيَ الجَمْعُ وَالضَّرْبُ وَالطَّرْحُ وَالقِسْمَةُ ثَابِتَةً لَا فُرْصَةَ لِلْعَقْلِ فِيهَا، بَلْ عِلْمُ المُصْطَلَحِ عِلْمٌ يَعْتَمِدُ بَعْدَ تَوْفِيقِ اللهِ عَلَى العِلْمِ وَالحَذَاقَةِ وَالمَهَارَةِ وَالمُمَارَسَةِ وَطُولِ النَّفَسِ فِي البَحْثِ وَالتَّتَبُّعِ؛ لِتَكْوِينِ مَلَكَةٍ كَمَلَكَةِ الصَّيَارِفَةِ التِي يُمَيِّزُونَ بِهَا بَيْنَ الخَالِصِ مِنَ المُزَيَّفِ بِنَظْرَةٍ.

قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: "إِنَّ مِنَ الحَدِيثِ حَدِيثًا لَهُ ضَوْءٌ كَضَوْءِ النَّهَارِ نَعْرِفُهُ بِهِ، وَإِنَّ مِنَ الحَدِيثِ حَدِيثًا لَهُ ظُلْمَةٌ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ نَعْرِفُهُ بِهَا".

وَقَالَ غَيْرُهُ: نَعْرِفُ الحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِأَنَّ عَلَيْهِ نُورَ النُّبُوَّةِ.

وَقَالَ الحَاكِمُ: "إِنَّمَا يُعَلُّ الحَدِيثُ مِنْ أَوْجُهٍ لَيْسَ فِيهَا لِلْجَرْحِ مَدْخَلٌ".

وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "حُذَّاقُ النُّقَّادِ مِنَ الحُفَّاظِ؛ لِكَثْرَةِ مُمَارَسَتِهِمْ لِلْحَدِيثِ، وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالرِّجَالِ، وَأَحَادِيثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لَهُمْ فَهْمٌ خَاصٌّ يَفْهَمُونَ بِهِ أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ يُشْبِهُ حَدِيثَ فُلَانٍ، وَلَا يُشْبِهُ فُلَانًا، فَيُعَلِّلُونَ الأَحَادِيثَ بِذَلِكَ".

 

(14)

عَرَفْنَا أَنَّ تَمَامَ ضَبْطِ الرَّاوِي لِحَدِيثِهِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الحَدِيثِ، فَإِنَّ خَفِيفَ الضَّبْطِ، وَالقَاصِرَ عَنْ صِيَانَةِ كِتَابِهِ، قَدْ يَقَعُ فِي حَدِيثِهِ الخَلَلُ وَالاضْطِرَابُ، بِسَبَبِ الوَهْمِ، وَالغَفْلَةِ، وَالخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، إِنْ حَدَّثَ مِنْ صَدْرِهِ، وَإِنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ التَّصْحِيفِ، وَالتَّحْرِيفِ، وَالتَّزْوِيرِ، وَالتَّغْيِيرِ، وَالتَّبْدِيلِ.

وَيُعْرَفُ ضَبْطُ الرَّاوِي بِاسْتِقَامَةِ أَحَادِيثِهِ، وَمُوَافَقَتِهِ لِلثِّقَاتِ لَفْظًا، أَوْ مَعْنًى، وَبِتَوْثِيقِ إِمَامٍ مُعْتَبَرٍ لَهُ، وَبِتَزْكِيَتِهِ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ.

وَالخَطَأُ القَلِيلُ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْهُ ثِقَةٌ تَامُّ الضَّبْطِ.

قَالَ الذَّهَبِيُّ: مَا عَلِمْنَا اسْتَغْرَبُوا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ رَاهَوَيْهِ عَلَى سِعَةِ عِلْمِهِ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ. وَمَعَ حَالِ إِسْحَاقَ وَبَرَاعَتِهِ فِي الحِفْظِ، يُمْكِنُ أَنَّهُ لِكَوْنِهِ كَانَ لَا يُحَدِّثُ إِلَّا مِنْ حِفْظِهِ، جَرَى عَلَيْهِ الوَهْمُ فِي حَدِيثَيْنِ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ. فَلَوْ أَخْطَأَ مِنْهَا فِي ثَلَاثِينَ حَدِيثًا لَمَا حَطَّ ذَلِكَ رُتْبَتَهُ عَنِ الاحْتِجَاجِ بِهِ أَبَدًا. بَلْ كَوْنُ إِسْحَاقَ تَتَبَّعَ حَدِيثَهُ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ خَطَأٌ قَطُّ سِوَى حَدِيثَيْنِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَحْفَظُ أَهْلِ زَمَانِهِ.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي تَدْرِيبِ الرَّاوِي: ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ: أَنَّ الْوَهْمَ تَارَةً يَكُونُ فِي الْحِفْظِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْقَوْلِ، وَتَارَةً فِي الْكِتَابَةِ.

قَالَ: وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ حَدِيثَ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي»، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَأَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي كُرَيْبٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَوَهِمَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا رَوَوْهُ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، كَذَلِكَ رَوَاهُ عَنْهُمُ النَّاسُ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، أَحَدِ شُيُوخِ مُسْلِمٍ فِيهِ.

قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَهْمٌ وَقَعَ مِنْهُ فِي حَالِ كِتَابَتِهِ، لَا فِي حِفْظِهِ: أَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا حَدِيثَ أَبِي مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ ثَنَّى بِحَدِيثِ جَرِيرٍ، وَذَكَرَ الْمَتْنَ وَبَقِيَّةَ الْإِسْنَادِ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِحَدِيثِ وَكِيعٍ، ثُمَّ رَبَّعَ بِحَدِيثِ شُعْبَةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَتْنَ وَلَا بَقِيَّةَ الْإِسْنَادِ عَنْهُمَا، بَلْ قَالَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِإِسْنَادِ جَرِيرٍ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا، فَلَوْلَا أَنَّ إِسْنَادَ جَرِيرٍ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ عِنْدَهُ وَاحِدٌ، لَمَا جَمَعَهُمَا فِي الْحَوَالَةِ عَلَيْهِمَا.

 

(15)

وَضَبْطُ الكِتَابِ شَقِيقُ ضَبْطِ الصَّدْرِ؛ لِذَا كَانَتْ صِيَانَتُهُ مَحَلَّ اهْتِمَامِ الرُّوَاةِ، قَالَ سُفْيَانُ: لَا تُعِرْ أَحَدًا كِتَابًا. وَقَالَ أَبُو قَطَنٍ عَمْرُو بْنُ الهَيْثَمِ: مَا أَعَرْتُ كِتَابِي أَحَدًا قَطُّ. وَقَدْ ابْتُلِيَ بَعْضُهُمْ بِمَنْ يَدُسُّ فِي حَدِيثِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَغَمَزُوهُ لِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: قَدْ سَبَرْتُ أَحَادِيثَ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ وَتَتَبَّعْتُهَا، فَرَأَيْتُهُ صَدُوقًا مَأْمُونًا حِينَ كَانَ شَابًّا، فَلَمَّا كَبُرَ سَاءَ حِفْظُهُ وَامْتُحِنَ بِابْنِ سُوءٍ، فَكَانَ يُدْخِلُ عَلَيْهِ الحَدِيثَ، فَوَقَعَ فِي أَخْبَارِهِ مَنَاكِيرُ. انتهى.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَعَ رَبِيبِهِ، وَلِسُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ مَعَ وَرَّاقِهِ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ مَعَ جَارِهِ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ رَبِيعَةَ القُدَامِيِّ مَعَ ابْنِهِ، وَلِجَمَاعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمِصْرِيِّينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مَعَ خَالِدِ بْنِ نَجِيحٍ الْمَدَائِنِيِّ الْمِصْرِيِّ.

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: ابْنُ لَهِيعَةَ صَحِيحُ الكِتَابِ، كَانَ أَخْرَجَ كُتُبَهُ، فَأَمْلَى عَلَى النَّاسِ حَتَّى كَتَبُوا حَدِيثَهُ إِمْلَاءً، فَمَنْ ضَبَطَ كَانَ حَدِيثُهُ حَسَنًا صَحِيحًا، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ مَنْ يَضْبِطُ وَيُحْسِنُ، وَيَحْضُرُ قَوْمٌ يَكْتُبُونَ وَلَا يَضْبِطُونَ وَلَا يُصَحِّحُونَ، وَآخَرُونَ نَظَّارَةٌ، وَآخَرُونَ سَمِعُوا مَعَ آخَرِينَ، ثُمَّ لَمْ يُخْرِجْ ابْنُ لَهِيعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ كِتَابًا، وَلَمْ يُرَ لَهُ كِتَابٌ. وَكَانَ مَنْ أَرَادَ السَّمَاعَ مِنْهُ ذَهَبَ فَاسْتَنْسَخَ مِمَّنْ كَتَبَ عَنْهُ، وَجَاءَهُ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ، فَمَنْ وَقَعَ عَلَى نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَحَدِيثُهُ صَحِيحٌ، وَمَنْ كَتَبَ مِنْ نُسْخَةٍ لَمْ تُضْبَطْ جَاءَ فِيهِ خَلَلٌ كَثِيرٌ.

 

(16)

وَالتَّوْثِيقُ وَالتَّجْرِيحُ يَرْجِعُ إِلَى العَدَالَةِ وَالضَّبْطِ، فَقَدْ يُوَثَّقُ المَطْعُونُ فِي مَذْهَبِهِ لِضَبْطِ حِفْظِهِ، وَقَدْ يُطْعَنُ فِي العَدْلِ لِسُوءِ حِفْظِهِ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَازِمٍ الثِّقَةِ: كَانَ حَافِظًا مُتْقِنًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُرْجِئًا خَبِيثًا.

وَحَكَى أَبُو الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُ بِالمَدِينَةِ مَائِةً، كُلُّهُمْ مَأْمُونٌ، مَا يُؤْخَذُ عَنْهُمُ الحَدِيثُ، يُقَالُ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.

وَقَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ: "لَقَدْ أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ عِنْدَ هَذِهِ الأَسَاطِينِ، وَأَشَارَ إِلَى مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُونَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا أَخَذْتُ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ ائْتُمِنَ عَلَى بَيْتِ مَالٍ لَكَانَ بِهِ أَمِينًا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، وَيَقْدَمُ عَلَيْنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ، وَهُوَ شَابٌّ، فَنَزْدَحِمُ عَلَى بَابِهِ". انتهى.

ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يُحَابُونَ لِقَرَابَةٍ، وَلَا يَتَحَامَلُونَ لِعَدَاوَةٍ، وَقَدْ يَجْرِي بَيْنَ بَعْضِ الأَقْرَانِ شَيْئًا.

سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ عَنْ أَبِيهِ، فَقَالَ: "اسْأَلُوا غَيْرِي"، فَقَالُوا: سَأَلْنَاكَ، فَأَطْرَقَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: "هَذَا الدِّينُ، أَبِي ضَعِيفٌ".

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ابْنِي عَبْدُ اللهِ كَذَّابٌ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: لَعَلَّ قَوْلَ أَبِيهِ فِيهِ - إِنْ صَحَّ - أَرَادَ الكَذِبَ فِي لَهْجَتِهِ، لَا فِي الحَدِيثِ.

وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ عَنْ أَخِيهِ أَنَسٍ: "لَا يُكْتَبُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يَكْذِبُ فِي كَلَامِ النَّاسِ".

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمٍ: "هُوَ وَاللهِ صَاحِبُنَا، وَهُوَ لَنَا مُحِبٌّ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ حِيلَةٌ الْبَتَّةَ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ يُشِيرُ بِالكِتَابِ عَنْهُ، وَلَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ".

قَالَ الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ: "فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ يُحَابِي فِي الحَدِيثِ أَبَاهُ، وَلَا أَخَاهُ، وَلَا وَلَدَهُ".

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: لَسْنَا نَدَّعِي فِي أَئِمَّةِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ العِصْمَةَ مِنَ الغَلَطِ النَّادِرِ، وَلَا مِنَ الكَلَامِ بِنَفَسٍ حَادٍّ، فِيمَنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ شَحْنَاءُ وَإِحْنَةٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِ الأَقْرَانِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ مُهْدَرٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَثَّقَ الرَّجُلَ جَمَاعَةٌ يَلُوحُ عَلَى قَوْلِهِمُ الإِنْصَافُ.

 

(17)

وَالرُّوَاةُ مِنْهُمُ الضَّابِطُ لِحَدِيثِهِ مُطْلَقًا كَسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبْطُهُ مُقَيَّدٌ بِكِتَابٍ، أَوْ بِشَخْصٍ، أَوْ بِبَلَدٍ، أَوْ بِزَمَنٍ، أَوْ بِحَالٍ، مِثَالُهُ مَا جَاءَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ كَثِيرُ الغَلَطِ جِدًّا، وَكُتُبُهُ لَيْسَ فِيهَا خَطَأٌ. وَقَالَ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ: إِذَا حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ يَهِمُ، لَيْسَ هُوَ بِشَيْءٍ، وَإِذَا حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ فَنَعَمْ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدِ بْنِ خَازِمٍ: "أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ لِحَدِيثِ الأَعْمَشِ، وَأَنَّهُ لَا يُسْقِطُ مِنْهُ وَاوًا وَلَا أَلِفًا". قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَبُو مُعَاوِيَةَ فِي غَيْرِ حَدِيثِ الأَعْمَشِ مُضْطَرِبٌ، لَا يَحْفَظُهَا حِفْظًا جَيِّدًا.

وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ الجَزَرِيُّ؛ يُؤخَذُ مِنْ حَدِيثِهِ مَا كَانَ عَنْ غَيْرِ الزُّهْرِيِّ، فَأَمَّا عَنِ الزُّهْرِيِّ فَلَا. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ مُحَدِّثِ الشَّامِ: رَوَى عَنْ خَلْقٍ مِنَ الحِجَازِيِّينَ وَالعِرَاقِيِّينَ. وَهُوَ فِيهِمْ كَثِيرُ الغَلَطِ بِخِلَافِ أَهْلِ بَلَدِهِ، فَإِنَّهُ يَحْفَظُ حَدِيثَهُمْ.

وَقَالَ ابْنُ المَدِينِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ: حَدِيثُهُ بِالمَدِينَةِ مُقَارِبٌ. وَمَا حَدَّثَ بِهِ بِالعِرَاقِ، فَهُوَ مُضْطَرِبٌ.

وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ: رَأَيْتُهُ صَدُوقًا مَأْمُونًا حِينَ كَانَ شَابًّا، فَلَمَّا كَبُرَ سَاءَ حِفْظُهُ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ ثِقَةٌ لَهُ غَرَائِبُ بَعْدَ أَنْ أَضَرَّ.

 

(18)

وَالثِّقَاتُ مِنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ مَرَاتِبُ، وَالتَّوْثِيقُ دَرَجَاتٌ.

قَالَ النَّسَائِيُّ: أَثْبَتُ أَصْحَابِ نَافِعٍ: مَالِكٌ، ثُمَّ أَيُّوبُ، ثُمَّ عُبَيْدُ اللهِ، ثُمَّ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، ثُمَّ ابْنُ عَوْنٍ، ثُمَّ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، ثُمَّ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، ثُمَّ ابْنُ جُرَيْجٍ، ثُمَّ كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ، ثُمَّ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. انتهى.

وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي المَرْتَبَةِ العُلْيَا: رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.

وَدُونَهَا: رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ البُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ.

وَدُونَهَا: رِوَايَةُ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَدُونَهَا: رِوَايَةُ مَنْ يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حَسَنًا؛ كَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. انتهى.

وَدَرَجَاتُ التَّوْثِيقِ؛ مِثْلُ: أَوْثَقِ النَّاسِ، وَثِقَةٍ ثِقَةٍ، وَثِقَةٍ حَافِظٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ يَلِيهَا مِثْلُ: ثِقَةٍ، أَوْ مُتْقِنٍ، أَوْ ثَبْتٍ، أَوْ عَدْلٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، يَلِيهَا مِثْلُ: صَدُوقٍ، أَوْ لَا بَأْسَ بِهِ، أَوْ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ التَّقْوِيَةِ.

وَمَعْرِفَةُ مَرَاتِبِ الثِّقَاتِ: يُسْتَفَادُ مِنْهَا تَرْجِيحُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، عِنْدَ الاخْتِلَافِ فِي الوَصْلِ وَالإِرْسَالِ، وَفِي الوَقْفِ وَالرَّفْعِ، وَفِي الزِّيَادَاتِ وَالقَلْبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

 

(19)

هَلْ يُحْكَمُ لِحَدِيثٍ بِأَنَّهُ أَصَحُّ الأَحَادِيثِ؟

الرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: مِنْ أَصَحِّ الأَحَادِيثِ، وَأَمَّا الأَسَانِيدُ فَيُقَالُ عَلَى الرَّاجِحِ عَنْ إِسْنَادٍ: إِنَّهُ أَصَحُّ الأَسَانِيدِ عَلَى وَجْهِ الإِطْلَاقِ، وَيُقَالُ عَلَى وَجْهِ التَّقْيِّيدِ: أَصَحُّ أَسَانِيدِ فُلَانٍ، وَأَصَحُّ أَسَانِيدِ البَلَدِ الفُلَانِيِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

مِثَالُهُ قَوْلُ البُخَارِيِّ: «أَصَحُّ الأَسَانِيدِ كُلِّهَا: مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَصَحُّ أَسَانِيدِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ».

وَقَالَ الحَاكِمُ: «وَأَصَحُّ أَسَانِيدِ المَكِّيِّينَ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ».

وَقَدْ جُمِعَتِ الأَسَانِيدُ المَنْصُوصُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا أَصَحُّ الأَسَانِيدِ عَلَى الإِطْلَاقِ أَوْ عَلَى التَّقْيِّيدِ.

وَإِذَا أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى القَوْلِ بِصِحَّةِ حَدِيثٍ، أَوْ تَلَقَّتْهُ بِالقَبُولِ، وَالعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّ الأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَجْمَعَتْ عَلَى ضَعْفِ حَدِيثٍ، أَوْ عَدَمِ العَمَلِ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ عَنْ حَدِيثٍ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ اتَّصَلَ سَنَدُهُ مَعَ سَائِرِ الأَوْصَافِ المَذْكُورَةِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ فِي نَفْسِ الأَمْرِ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالُوا فِي حَدِيثٍ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. فَلَيْسَ ذَلِكَ قَطْعًا بِأَنَّهُ كَذِبٌ فِي نَفْسِ الأَمْرِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا فِي نَفْسِ الأَمْرِ، وَإِنَّمَا المُرَادُ بِهِ: أنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ عَلَى الشَّرْطِ المَذْكُورِ، فَالعَدْلُ الضَّابِطُ قَدْ يُخْطِئُ، وَسَيِّئُ الحِفْظِ قَدْ يَضْبِطُ، وَالمُدَلِّسُ قَدْ لَا يُدَلِّسُ فِي ذَلِكَ الإِسْنَادِ، وَإِنْ رَوَاهُ بِالعَنْعَنَةِ، أَوْ يَكُونُ المَحْذُوفُ ثِقَةً، وَالمَجْهُولُ قَدْ يَكُونُ ثِقَةً، وَاللهُ أَعْلَمُ.

 

(20)

وَالتَّصْحِيحُ وَالتَّضْعِيفُ وَالتَّعْدِيلُ وَالتَّجْرِيحُ تَخْتَلِفُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ آرَاءُ المُحَدِّثِينَ؛ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الشُّرُوطِ وَالأَوْصَافِ وَتَوَافُرِهَا، وَلِتَفَاوُتِهِمْ فِي الحُكْمِ مَا بَيْنَ مُتَشَدِّدٍ وَمُعْتَدِلٍ وَمُتَسَاهِلٍ، وَلِتَفَاضُلِهِمْ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ وَالرِّجَالِ وَالعِلَلِ وَالتَّارِيخِ، مَا بَيْنَ مُتَمَكِّنٍ وَأَمْكَنَ، وَقَدْ يُخْطِئُ الإِمَامُ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَلِي:

عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ.

وَرِجَالُ الإِسْنَادِ ثِقَاتٌ، لَكِنْ أُعِلَّ بِالشُّذُوذِ؛ لِمُخَالَفَةِ أَبِي قَيْسٍ الثِّقَاتِ، فَالمَحْفُوظُ عَنِ المُغِيرَةِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسَحَ عَلَى الخُفَّيْنِ.

وَمِمَّنْ أَنْكَرَهُ: أَحْمَدُ، وَسُفْيَانُ، وَابْنُ مَهْدِيٍّ، وَابْنُ المَدِينِيِّ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَوِ انْفَرَدَ قُدِّمَ عَلَى التِّرْمِذِيِّ، مَعَ أَنَّ الجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ. قَالَ: وَاتَّفَقَ الحُفَّاظُ عَلَى تَضْعِيفِهِ. اهـ.

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ"، وَصَحَّحَهُ المُنْذِرِيُّ، وَقَالَ: «قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ: هُوَ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ». وَأَمَّا ابْنُ الجَوْزِيِّ فَأَوْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ المَوْضُوعَاتِ، وَهَذَا تَبَايُنٌ.

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَفِيهَا كُلِّهَا ضَعْفٌ، وَلَكِنْ إِذَا انْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، مَعَ تَبَايُنِ طُرُقِهَا، وَاخْتِلَافِ مَخَارِجِهَا؛ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَهُ أَصْلٌ، وَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ".

وَحَدِيثُ الطَّيْرِ، قَالَ الحَاكِمُ: «هَذَا الحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ»، وَخَالَفَهُ أَئِمَّةٌ، فَاسْتَنْكَرُوهُ سَنَدًا وَمَتْنًا، وَحَكَمَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِالوَضْعِ.

(21)

وَمِنْ أَمْثِلَةِ اخْتِلَافِ آرَاءِ المُحَدِّثِينَ: مَوْقِفُهُمْ مِنْ سِلْسِلَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ فَقَدْ تَبَايَنَتْ فِيهَا آرَاؤُهُمْ، فَجَعَلَهَا ابْنُ رَاهَوَيْهِ مِنْ أَعْلَى أَقْسَامِ الصَّحِيحِ، حَيْثُ قَالَ: «إِنْ كَانَ الرَّاوِي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ ثِقَةٌ، فَهُوَ كَأَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ».

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: «لَسْنَا نَقُولُ: إِنَّ حَدِيثَهُ مِنْ أَعْلَى أَقْسَامِ الصَّحِيحِ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الحَسَنِ».

وَقَالَ أَحْمَدُ: أَنَا أَكْتُبُ حَدِيثَهُ، وَرُبَّمَا احْتَجَجْنَا بِهِ، وَرُبَّمَا وَجَسَ فِي القَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ.

وَعَدَّهَا ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ قَبِيلِ المُرْسَلِ.

وَقِيلَ لِأَبِي دَاوُدَ: «عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عِنْدَكَ حُجَّةٌ؟. قَالَ: لَا، وَلَا نِصْفُ حُجَّةٍ».

وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: «مَا رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَا حُجَّةَ فِيهِ، وَلَيْسَ بِمُتَّصِلٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَجَدَ شُعَيْبٌ كُتُبَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، فَكَانَ يَرْوِيهَا عَنْ جَدِّهِ إِرْسَالًا، وَهِيَ صِحَاحٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهَا».

وَمِنَ الأَمْثِلَةِ: اخْتِلَافُهُمْ فِي المَنْهَجِ؛ فَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ مَثَلًا، يَرَيَانِ أَنَّ الأَصْلَ فِي الرَّاوِي مِنْ أَصْحَابِ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ العَدَالَةُ، وَالجَرْحُ طَارِئٌ؛ فَعَلَى هَذَا صَحَّحَا أَحَادِيثَ فِي طُرُقِهَا مَجَاهِيلُ.

وَكَذَلِكَ نَجِدُ البُخَارِيَّ فِي الصَّحِيحِ أَكْثَرَ تَحَرِّيًا فِي انْتِقَاءِ الرِّجَالِ، وَانْتِقَاءِ أَحَادِيثِ الثِّقَاتِ، وَأَشَدَّ شَرْطًا فِي الاتِّصَالِ مِنْ مُسْلِمٍ. وَمُسْلِمٌ أَكْثَرُ تَحَرِّيًا وَانْتِقَاءً مِمَّنْ أَلَّفَ فِي الصَّحِيحِ، كَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالمُخْتَارَةِ لِلضِّيَاءِ، وَالمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ، وَغَيْرِهِمْ.

وَلِذَا فَإِنَّ الأَصْلَ تَقْدِيمُ مَا اتَّفَقَ عَلَى إِخْرَاجِهِ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، ثُمَّ مَا انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ البُخَارِيُّ، ثُمَّ مَا انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ، ثُمَّ مَا كَانَ عَلَى شَرْطِهِمَا مَعًا، ثُمَّ مَا كَانَ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ، ثُمَّ مَا كَانَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، ثُمَّ مَا كَانَ عَلَى شَرْطِ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِذَاتِهِ، ثُمَّ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ الحَسَنِ لِذَاتِهِ، ثُمَّ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ الصَّالِحِ الذِي لَا بَأْسَ بِهِ، وَسُكِتَ عَنْهُ.

(22)

وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ المُحَدِّثِينَ: الحُكْمُ عَلَى الرِّجَالِ، حَيْثُ غَلَبَ عَلَى بَعْضِهِمُ التَّشَدُّدُ؛ كَيَحْيَى القَطَّانِ، وَابْنِ مَعِينٍ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَابْنِ خِرَاشٍ، وَشُعْبَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَأَبِي الفَتْحِ الأَزْدِيِّ، وَابْنِ حَزْمٍ، وَغَيْرِهِمْ.

وَغَلَبَ عَلَى بَعْضِهِمُ التَّسَاهُلُ؛ كَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالعِجْلِيِّ، وَالحَاكِمِ، وَالدَّارِمِيِّ، وَالبَيْهَقِيِّ، وَقَدْ يَعْتَدِلُونَ أَوْ يَتَشَدَّدُونَ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الاعْتِدَالُ؛ كَالإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَابْنِ عَدِيٍّ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ، وَغَيْرِهِمْ.

وَالمَطْلُوبُ مِنَ الطَّالِبِ عِنْدَ الوُقُوفِ عَلَى اخْتِلَافِ المُحَدِّثِينَ فِي الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، التَّحَرِّي، وَالتَّثَبُّتُ، وَفَهْمُ مَنَاهِجِهِمْ وَشُرُوطِهِمْ، وَتَطْبِيقُ قَوَاعِدِ التَّرْجِيحِ، وَالاسْتِعَانَةُ بِمَا خَلَصَ إِلَيْهِ الذَّهَبِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ فِي الحُكْمِ عَلَى الرِّجَالِ.

وَمِنَ اخْتِلَافِهِمْ: تَبَايُنُ مَوَاقِفِهِمْ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ عُلُومِ الحَدِيثِ؛ كَالتَّدْلِيسِ، وَزِيَادَةِ الثِّقَاتِ، وَالتَّفَرُّدِ.

مِثَالُهُ: زِيَادَةُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ البَارِقِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى). رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَاسْتَنْكَرَ زِيَادَةَ "وَالنَّهَارِ" أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيَّ، وَابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وَغَيْرُهُمْ؛ لِمُخَالَفَةِ عَلِيٍّ البَارِقِيِّ أَصْحَابَ ابْنِ عُمَرَ الثِّقَاتِ.

وَقَدْ صَحَّحَهَا البُخَارِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَالبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.

 

(23)

وَمِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، أَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الشَّاذِّ أَمْ لَا. إِذَا أَثْبَتَ الرَّاوِي عَنْ شَيْخِهِ شَيْئًا، فَنَفَاهُ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ أَوْ أَكْثَرُ عَدَدًا، أَوْ أَكْثَرُ مُلَازَمَةً مِنْهُ، مِثَالُهُ: مَا قَالَهُ صَالِحُ جَزَرَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، قَالَ: قَدْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ أَشْيَاءَ لَمْ يَرْوِهَا غَيْرُهُ. وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ مَالِكٌ لِرِوَايَتِهِ كِتَابَ الفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ عَنْ أَبِيهِ. وَقَالَ: أَيْنَ كُنَّا نَحْنُ مِنْ هَذَا؟. انْتَهَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الإِمَامَ مَالِكًا كَانَ أَكْثَرَ مُلَازَمَةً مِنْهُ لِأَبِيهِ.

وَالأَظْهَرُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الحُكْمَ يَعُودُ إِلَى القَرَائِنِ، وَإِلَى رُتْبَةِ الرَّاوِي، هَلْ يُحْتَمَلُ تَفَرُّدُهُ أَمْ لَا.

وَقَدْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ مَا تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ اللِّيْثِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ... الحَدِيث». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، أَهِيَ مِنْ قَبِيلِ المُضْطَرِبِ أَمْ لَا، الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ الْعَدْلُ الضَّابِطُ، عَنْ تَابِعِيٍّ مَثَلًا، عَنْ صَحَابِيٍّ، وَيَرْوِيهِ آخَرُ مِثْلُهُ، عَنْ ذَلِكَ التَّابِعِيِّ بِعَيْنِهِ، لَكِنْ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُحَدِّثِينَ - وَهُوَ الرَّاجِحُ - يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ التَّابِعِيُّ سَمِعَهُ مِنْهُمَا مَعًا، إِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ، وَقَامَتْ قَرِينَةٌ لَهُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ الْكَثِيرُ مِنْ هَذَا. وَالْكُلُّ مُتَّفِقُونَ عَلَى التَّعْلِيلِ بِمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَرَدَّدِ فِيهِمَا ضَعِيفًا، بَلْ تَوَسَّعَ بَعْضُهُمْ فَرَدَّ بِمُجَرَّدِ الْعِلَّةِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قَادِحَةً.

وَالخُلَاصَةُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ العِلَلِ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، أَهِيَ عِلَّةٌ أَمْ لَا. وَهَلْ هِيَ قَادِحَةٌ أَمْ لَا. ثُمَّ هَلْ هَذَا الإِسْنَادُ، أَوْ هَذَا المَتْنُ المُعَيَّنُ، مَعْلُولٌ لِهَذِهِ العِلَّةِ، أَمْ لَا يُعَلُّ لِتَوْجِيهٍ وَجِيهٍ.

وَيَتَّضِحُ مِنْ هَذَا الأَمْرِ: أَنَّ عِلْمَ الحَدِيثِ عِلْمٌ جَلِيلٌ، يَحْتَاجُ إِلَى اطِّلَاعٍ وَمُمَارَسَةٍ وَخِبْرَةٍ عَمَلِيَّةٍ، فَلَا يَكْفِي الطَّالِبَ فِي الحُكْمِ عَلَى الأَحَادِيثِ، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ أَحْكَامِ المُحَدِّثِينَ، حِفْظُ مُصْطَلَحَاتٍ نَظَرِيَّةٍ، بَعِيدَةٍ عَنِ التَّطْبِيقَاتِ.