التاريخ الإسلامي

1- بعثة النبي - ﷺ - وهجرته

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ". متفق عليه.

نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - المَدِينَةَ مُهَاجِرًا ضُحَى يَوْمِ الاثْنَيْنِ، لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ البَعْثَةِ، فَأَرْسَى دَوْلَةُ الإِسْلَامِ، وَغَزَى الغَزَوَاتِ، وَبَعَثَ البُعُوثَ، فكَانَ عَدَدُ غَزَوَاتِهِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ، وَقَدْ قَاتَلَ بِنَفْسِهِ فِي تِسْعٍ مِنْهَا؛ هِيَ: بَدْرٌ، وَأُحُدٌ، وَالمُرَيْسِيعُ، وَالْخَنْدَقُ، وَقُرَيْظَةُ، وَخَيْبَرُ، وَفَتْحُ مَكَّةَ، وَحُنَيْنٌ، وَالطَّائِفُ.

وَبَلَغَ عَدَدُ بُعُوثِهِ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ.

وَالْغَزْوَةُ هِيَ الَّتِي كَانَ يَحْضُرُهَا الرَّسُولُ بِنَفْسِهِ، أَمَّا الْبَعْثُ فَيُرْسِلُ السَّرِيَّةَ.

 

2- خلافة النبوة ثلاثون عامًا

عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: "إِنَّ أَوَّلَ دِينِكُمْ بَدَءَ نُبُوَّةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَجَبْرِيَّةً". رَوَاهُ البَزَّارُ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - ﷺ - يَوْمَ الاثْنَيْنِ، الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فِي العَامِ الحَادِي عَشَرَ لِلْهِجْرَةِ.

وَعَنْ سَفِينَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - يَقُولُ: "الخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ عَامًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ المُلْكُ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ.

فَكَانَتْ خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَخِلَافَةُ عُمُرَ عَشْرَ سِنِينَ وَنِصْفًا، وَخِلَافَةُ عُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَخِلَافَةُ عَلِيٍّ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَخِلَافَةُ الحَسَنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ.

فَلَمْ يَكُنْ فِي الثَّلَاثِينَ بَعْدَهُ - ﷺ - إِلَّا الخُلَفَاءُ الأَرْبَعَةُ، وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.

 

3- بين الفتح والرِّدَّة

قال تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا).

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: "لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ".

وقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: "لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - مَكَّةَ، وَفَرَغَ مِنْ تَبُوكَ، وَأَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ وَبَايَعَتْ، ضَرَبَتْ إِلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا".

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هَا هُنَا فَتْحُ مَكَّةَ قَوْلًا وَاحِدًا ... لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَلَمْ تَمْضِ سَنَتَانِ حَتَّى اِسْتَوْسَقَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ إِيمَانًا، وَلَمْ يَبْقَ فِي سَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ إِلَّا مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ".

وَبَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - ارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ العَرَبِ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ جَارٍ لِجَابِرٍ قَالَ: جَاءَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَجَعَلْتُ أُحَدِّثهُ عَنْ اِفْتِرَاقِ النَّاسِ وَمِمَّا أَحْدَثُوا، فَجَعَلَ يَبْكِي، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَسَيَخْرُجُونَ مِنْهُ أَفْوَاجًا".

 

4- دلائل استخلاف الصِّدِّيق – رضي الله عنه -

عَنْ جُبَيْرِ بْنِ المُطْعِمِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ - ﷺ - فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ، قَالَتْ: أرَأَيْتَ إنْ جِئْتُ ولَمْ أجِدْكَ؟ كَأنَّهَا تَقُولُ: المَوْتَ، قَالَ - ﷺ -: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِ أَبَا بَكْرٍ). متفق عليه.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي هَذَا الحَدِيثِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - هُوَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - ﷺ - فِي مَرَضِهِ: «ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَيَقُولَ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ». متفق عليه.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: هَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ فِي اسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: مَنْ كَانَ النَّبيُّ - ﷺ - مُستَخْلِفَهُ، لَوِ اسْتَخْلَفَ؟ فَأَجَابَتْ: أَبُو بَكْرٍ، فَسُئِلَتْ: ثُمَّ مَنْ؟ أَيِ الَّذِي بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَجَابَتْ: عُمَرُ، فَسُئِلَتْ: مَنْ بَعْدَ عُمَرَ؟ فَأَجَابَتْ: أَبُو عُبيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ، ثُمَّ انْتَهَتْ إِلَى هَذَا. رواه مسلم. 

وَقَدْ تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَخِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ إِنْ لَمْ تَكُنْ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ، فَهِيَ بِالتَّعْرِيضِ وَالتَّلْمِيحِ.

 

5- من إنجازات خلافة الصِّدِّيق – رضي الله عنه -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَوْلَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتُخْلِفَ مَا عُبِدَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ. فَقِيلَ لَهُ: مَهْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - وَجَّهَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي سَبْعِمِائَةٍ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي خَشَبٍ، قُبِضَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - وَارْتَدَّتِ العَرَبُ حَوْلَ المَدِينَةِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ، رُدَّ هَؤُلَاءِ، تُوَجِّهُ هَؤُلَاءِ إِلَى الرُّومِ وَقَدِ ارَّتَدَّتِ العَرَبُ حَوْلَ المَدِينَةِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَوْ جَرَتِ الكِلَابُ بِأَرْجُلِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - مَا رَدَدْتُ جَيْشًا وَجَّهَهُ رَسُولُ اللهِ، وَلَا حَلَلْتُ لِوَاءً عَقَدَهُ رَسُولُ اللهِ، فَوَجَّهَ أُسَامَةَ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِقَبِيلٍ يُرِيدُونَ الارْتِدَادَ إِلَّا قَالُوا: لَوْلَا أَنَّ لِهَؤُلَاءِ قُوَّةً مَا خَرَجَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَلَكِنْ نَدَعُهُمْ حَتَّى يَلْقَوُا الرُّومَ، فَلَقَوُا الرُّومَ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ وَرَجَعُوا سَالِمِينَ، فَثَبَتُوا عَلَى الإِسْلَامِ". رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ.

ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، اتَّجَهَ لِقِتَالِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَالأَسْوَدِ العَنْسِيِّ، وَطُلَيْحَةَ الأَسَدِيِّ، وَسُجَاحَ التَّمِيمِيَّةِ، وَمُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ، فَظَفِرَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَجَّهَ الجُيُوشَ لِلْعِرَاقِ لِقِتَالِ الفُرْسِ، وَلِلشَّامِ لِقِتَالِ الرُّومِ، وَحَقَّقَ انْتِصَارَاتٍ رَائِدَةً، فَاتَّسَعَتْ رُقْعَةُ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَقَوِيَتْ بِنْيَتُهَا التَّحْتِيَّةُ، وَهَيَّأَ لِلْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ إِسْقَاطَ إِمْبِرَاطُورِيَّةِ الفُرْسِ، وَإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الرُّومِ البِيزَنْطِيَّةِ.

 

 

6- وفاة الصِّدِّيق، واستخلاف عمر – رضي الله عنهما -

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (أُرِيتُ فِي المَنامِ أَنِّي أَنْزِعُ بِدَلْوِ بَكْرَةٍ عَلَى قَلِيبٍ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا، أَوْ ذَنُوبَيْنِ نَزْعًا ضَعِيفًا، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ، حتَّى رَوِيَ النَّاسُ، وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ). متفق عليه.

دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى خِلَافَةِ هَذَيْنِ الخَلِيفَتَيْنِ القُدْوَتَيْنِ، وَقُوَّةِ إِدَارَتِهِمَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمُدَّةُ خِلَافَتِهِ قَصِيرَةٌ؛ سَنَتَانِ وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ تَقْرِيبًا، وَهُوَ الضَّعْفُ المَذْكُورُ فِي الرُّؤْيَا، وَقَدْ قَاتَلَ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ العَرَبِ وَمُدَّعِي النُّبُوَّةِ، وَقَتَلَ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابَ فِي مَعْرَكَةِ اليَمَامَةِ، وَأَخْضَعَ الجَزِيرَةَ العَرَبِيَّةَ وَوَحَّدَهَا، ثُمَّ قَاتَلَ أَعْتَى قُوَّتَيْنِ فَدَوَّخَهَا فِي مَعَارِكَ، وَحَقَّقَ عِدَّةَ انْتِصَارَاتٍ عَلَيْهَا؛ فَمِنْ تِلْكَ الوَقَائِعِ: ذَاتُ السَّلَاسِلِ ضِدَّ الفُرْسِ، وَاليَرْمُوكُ ضِدَّ الرُّومِ.

وَلَمَّا مَرِضَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَهِدَ بِالأَمْرِ لِأَفْضَلِ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَهُ وَبَعْدَ نَبِيِّهَا؛ إِنَّهُ الفَارُوقُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ.

وَتُوُفِّيَ الصِّدِّيقُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، وَقَدْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَصَحِبَهُ صُحْبَةً خَاصَّةً حَتَّى مَاتَ.

وَلَمَّا تَوَلَّى الفَارُوقُ الخِلَافَةَ مَكَثَ فِيهَا عَشْرَ سِنِينَ وَنِصْفًا، فَتَحَ العِرَاقَ وَبِلَادَ الفُرْسِ السَّاسَانِيَّةَ، وَخَلَّصَ الشَّامَ وَمِصْرَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ قَبْضَةِ الرُّومِ البِيزَنْطِيَّةِ، فَاتَّسَعَتْ رُقْعَةُ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ.

 

7- من فضائل الصِّدِّيق - رضي الله عنه -

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي، أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ). رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ، وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَغَيْرُهُ.

فَالشَّيْخَانِ قُدْوَةُ مَنْ بَعْدَهُمَا فِي الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدَّوْلَةِ، قَالَ أَبُو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ: «أَجْمَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَثْنَى اللهُ عَلَيْهِمْ وَمَدَحَهُمْ، عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَسَمَّوْهُ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، وَبَايَعُوهُ وَانْقَادُوا لَهُ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالفَضْلِ، وَكَانَ أَفْضَلَ الجَمَاعَةِ فِي جَمِيعِ الخِصَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الإِمَامَةَ، مِنَ العِلْمِ وَالزُّهْدِ وَقُوَّةِ الرَّأْيِ وَسِيَاسَةِ الأُمَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ». انتهى.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ دَهَائِهِ وَتَسْدِيدِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

تَثْبِيتُهُ لِلنَّاسِ حِينَ مَاتَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ.

وَإِنْفَاذُ جَيْشِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَقِتَالُ مَانِعِي الزَّكَاةِ، مَعَ مُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الأَعْيَانِ.

وَمِمَّا وَرَدَ فِي فَضْلِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مَا جَاءَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ -: (إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ فَقُلتُمْ: كَذَبْتَ، وقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي – مَرَّتَيْنِ -، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَالأَحَادِيثُ فِي فَضْلِهِ كَثِيرَةٌ.

 

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَكَانَةِ الصِّدِّيقِ: أَنَّ الفَارُوقَ عَلَى عَبْقَرِيَّتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ وَفَضْلِهِ، قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: (أَنْتَ خَيْرُنَا، وَأَفْضَلُنَا، وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ)، وَقَالَ: وَاللهِ لَلَيْلَةٌ وَلَيَوْمٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ.

وَعَنْ أَسْلَمَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَقَالَ أَيْضًا: "وَاللهِ لَأَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي - لَا يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ إِلَى إِثْمٍ - أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ).

وَلَمَّا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ عُمَرُ: "رَضِيَ اللهُ عَنْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكَ".

 

8 – من فضائل الفاروق عمر – رضي الله عنه -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: "لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ، فَإِنَّهُ عُمَرُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: مُحَدَّثُونَ أَيْ: مُلْهَمُونَ.

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - يَقُولُ: (لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَالذَّهَبِيُّ، وَاسْتَنْكَرَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ.

وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: (إِنَّ اللهَ جَعَلَ الحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَلَهُ شَوَاهِدُ.

وَالأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ الفَارُوقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَثِيرَةٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَقَالَ: "مَا عُبِدَ اللهُ جَهْرَةً حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ".

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بِالإِسْلَامِ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ".

وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: (اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ؛ بِأَبِي جَهْلٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ). قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إلَيْهِ عُمَرُ.

 

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ إِسْلَامُهُ عِزًّا ظَهَرَ بِهِ الْإِسْلَامُ، بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ - ﷺ -

وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "الصِّدِّيقُ إِنَّمَا يَتَلَقَّى عَنِ الرَّسُولِ، لَا عَنْ قَلْبِهِ؛ فَهُوَ أَكْمَلُ مِنَ المُحَدَّثِ، وَلَيْسَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ صِدِّيقٌ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَلَا بَعْدَ عُمَرَ مُحَدَّثٌ أَفْضَلَ مِنْهُ."

 

9 – خلافة الصِّدِّيق والفاروق حَقٌّ في كتاب الله

قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، حَقٌّ فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «وَقَدْ فَعَلَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ - وَلَهُ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ - فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَخَيْبَرَ وَالبَحْرَيْنِ، وَسَائِرَ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَأَرْضَ اليَمَنِ بِكَمَالِهَا. وَأَخَذَ الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَمِنْ بَعْضِ أَطْرَافِ الشَّامِ، وَهَادَاهُ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ، وَصَاحِبُ مِصْرَ وَالإِسْكَنْدَرِيَّةِ - وَهُوَ المُقَوْقِسُ - وَمُلُوكُ عُمَانَ، وَالنَّجَاشِيُّ مَلِكُ الحَبَشَةِ، الَّذِي تَمَلَّكَ بَعْدَ أَصْحَمَةَ، رَحِمَهُ اللهُ وَأَكْرَمَهُ.

ثُمَّ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - وَاخْتَارَ اللهُ لَهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الكَرَامَةِ، قَامَ بِالأَمْرِ بَعْدَهُ خَلِيفَتُهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَلَمَّ شَعَثَ مَا وَهَى عِنْدَ مَوْتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَطَّدَ جَزِيرَةَ العَرَبِ وَمَهَّدَهَا، وَبَعَثَ الجُيُوشَ الإِسْلَامِيَّةَ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، صُحْبَةَ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَفَتَحُوا طَرَفًا مِنْهَا، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا، وَجَيْشًا آخَرَ صُحْبَةَ أَبِي عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الأُمَرَاءِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، وَثَالِثًا صُحْبَةَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِلَى بِلَادِ مِصْرَ، فَفَتَحَ اللهُ لِلْجَيْشِ الشَّامِيِّ فِي أَيَّامِهِ بُصْرَى وَدِمَشْقَ وَمَخَالِيفِهِمَا مِنْ بِلَادِ حَوْرَانَ وَمَا وَالَاهَا، وَتَوَفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَاخْتَارَ لَهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الكَرَامَةِ، وَمَنَّ عَلَى الإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِأَنْ أَلْهَمَ الصِّدِّيقَ أَنِ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ الفَارُوقَ، فَقَامَ فِي الأَمْرِ بَعْدَهُ قِيَامًا تَامًّا، لَمْ يَدُرِ الفُلْكُ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى مِثْلِهِ، فِي قُوَّةِ سِيرَتِهِ وَكَمَالِ عَدْلِهِ.

 

وَتَمَّ فِي أَيَّامِهِ فَتْحُ البِلَادِ الشَّامِيَّةِ بِكَمَالِهَا، وَدِيَارِ مِصْرَ إِلَى آخِرِهَا، وَأَكْثَرِ إِقْلِيمِ فَارِسَ، وَكَسَّرَ كِسْرَى وَأَهَانَهُ غَايَةَ الهَوَانِ، وَتَقَهْقَرَ إِلَى أَقْصَى مَمْلَكَتِهِ، وَقَصَّرَ قَيْصَرَ، وَانْتَزَعَ يَدَهُ عَنْ بِلَادِ الشَّامِ فَانْحَازَ إِلَى قُسْطَنْطِينَةَ، وَأَنْفَقَ أَمْوَالَهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَوَعَدَ بِهِ رَسُولُ اللهِ، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَتَمُّ سَلَامٍ وَأَزْكَى صَلَاةٍ.

ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ الدَّوْلَةُ العُثْمَانِيَّةُ، امْتَدَّتِ المَمَالِيكُ الإِسْلَامِيَّةُ إِلَى أَقْصَى مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فَفُتِحَتْ بِلَادُ المَغْرِبِ إِلَى أَقْصَى مَا هُنَالِكَ: الأَنْدَلُسُ، وَقُبْرُصُ، وَبِلَادُ القَيْرَوَانِ، وَبِلَادُ سَبْتَةَ مِمَّا يَلِي البَحْرَ المُحِيطَ، وَمِنْ نَاحِيَةِ المَشْرِقِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الصِّينِ، وَقُتِلَ كِسْرَى، وَبَادَ مُلْكُهُ بِالكُلِّيَّةِ.

وَفُتِحَتْ مَدَائِنُ العِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ، وَالأَهْوَازِ، وَقَتَلَ المُسْلِمُونَ مِنَ التُّرْكِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَخَذَلَ اللهُ مَلِكَهُمُ الأَعْظَمَ خَاقَانَ، وَجُبِيَ الخَرَاجُ مِنَ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِلَى حَضْرَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ تِلَاوَتِهِ وَدِرَاسَتِهِ وَجَمْعِهِ الأُمَّةَ عَلَى حِفْظِ القُرْآنِ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا". فَهَا نَحْنُ نَتَقَلَّبُ فِيمَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ».

 

10- دلائل صحة استخلاف الراشدين الأربعة في القرآن

قال تعالى: (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)؛ أَيْ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الأَعْرَابِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الحُديْبِيَةِ: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قِتَالِ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ فِي القِتَالِ، وَنَجْدَةٍ فِي الحُرُوبِ.

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالحَسَنِ، وَابْنِ زَيْدٍ، قَالُوا: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ.

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ، قَالُوا: هُمْ بَنُو حَنِيفَةَ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ.

قَالَ القُرْطُبِيُّ: "فِي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَعَاهُمْ إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَعُمَرَ دَعَاهُمْ إِلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ".

وَكَمَا دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَنَّهَا خِلَافَةٌ ارْتَضَاهَا اللهُ، كَذَلِكَ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا)، عَلَى خِلَافَةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الأَرْبَعَةِ المَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -.

قَالَ القُرْطُبِيُّ: قَالَ الضَّحَّاكُ: هَذِهِ الآيَةُ تَتَضَمَّنُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الإِيمَانِ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: الخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ. وَإِلَى هَذَا القَوْلِ ذَهَبَ ابْنُ العَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ، وَاخْتَارَهُ، وَقَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافَةِ الخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، وَأَنَّ اللهَ اسْتَخْلَفَهُمْ وَرَضِيَ أَمَانَتَهُمْ، وَكَانُوا عَلَى الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُمْ أَحَدٌ فِي الفَضِيلَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَاسْتَقَرَّ الأَمْرُ لَهُمْ، وَقَامُوا بِسِيَاسَةِ المُسْلِمِينَ، وَذَبُّوا عَنْ حَوْزَةِ الدِّينِ؛ فَنَفَذَ الوَعْدُ فِيهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الوَعْدُ لَهُمْ نَجَزَ، وَفِيهِمْ نَفَذَ، وَعَلَيْهِمْ وَرَدَ؛ فَفِي مَنْ يَكُونَ إِذًا، وَلَيْسَ بَعْدَهُمْ مِثْلُهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَا يَكُونُ فِيمَا بَعْدَهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -. وَحَكَى هَذَا القَوْلَ القُشَيْرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

 

11- من إنجازات خلافة الفاروق – رضي الله عنه -

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: (أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا وَلَمْ تُرِدْهُ، وَأَمَّا عُمَرُ فَأَرَادَتْهُ فَلَمْ يُرِدْهَا، وَأَمَّا نَحْنُ فَتَمَرَّغْنَا فِيهَا ظَهْرًا لِبَطْنٍ".

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي سِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فَتَحَ الْفُتُوحَ، وَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ، وَجَنَّدَ الْأَجْنَادَ، وَكَوَّرَ الْكُوَرَ، مِثْلَ: السَّوَادِ، وَالْأَهْوَازِ، وَالْجِبَالِ، وَفَارِسَ وَغَيْرِهَا، وَفَتَحَ الشَّامَ كُلَّهُ، وَالجَزِيرَةَ وَالمَوْصِلَ، وَمَيَّافَارِقِينَ، وَآمِدَ، وَأَرْمِينِيَةَ، وَمِصْرَ، وَإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَمَاتَ وَعَسَاكِرُهُ عَلَى بِلَادِ الرَّيِّ.

فَتَحَ مِنَ الشَّامِ الْيَرْمُوكَ، وَبُصْرَى، وَدِمَشْقَ، وَالْأُرْدُنَّ، وَبَيْسَانَ، وَطَبَرِيَّةَ، وَالْجَابِيَةَ، وَفِلَسْطِينَ، وَالرَّمْلَةَ، وَعَسْقَلَانَ، وَغَزَّةَ، وَالسَّوَاحِلَ، وَالْقُدْسَ، وَفَتَحَ مِصْرَ، وَإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَطَرَابُلُسَ الْغَرْبِ، وَبَرْقَةَ، وَمِنْ مُدُنِ الشَّامِ بَعْلَبَكَّ، وَحِمْصَ، وَقِنَّسْرِينَ، وَحَلَبَ، وَأَنْطَاكِيَةَ، وَفَتَحَ الْجَزِيرَةَ، وَحَرَّانَ، وَالرُّهَا، وَالرَّقَّةَ، وَنَصِيبِينَ، وَرَأْسَ عَيْنٍ، وَشِمْشَاطَ، وَعَيْنَ وَرْدَةَ، وَدِيَارَ بَكْرٍ، وَدِيَارَ رَبِيعَةَ، وَبِلَادَ المَوْصِلِ، وَأَرْمِينِيَةَ جَمِيعَهَا.

وَبِالعِرَاقِ القَادِسِيَّةَ وَالحِيرَةَ وَنَهْرَ سِيرَ، وَسَابَاطَ، وَمَدَائِنَ كِسْرَى، وَكُورَةَ الْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ، وَالْأَبُلَّةَ، وَالْبَصْرَةَ، وَالْأَهْوَازَ، وَفَارِسَ، وَنَهَاوَنْدَ، وَهَمَذَانَ، وَالرَّيَّ، وَقُومِسَ، وَخُرَاسَانَ، وَإِصْطَخْرَ، وَأَصْبَهَانَ، وَالسُّوسَ، وَمَرْوَ، وَنَيْسَابُورَ، وَجُرْجَانَ، وَأَذْرَبِيجَانَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَطَعَتْ جُيُوشُهُ النَّهْرَ مِرَارًا".

 

12- نماذج من زُهْد الفاروق وتَواضُعه ووَرَعه

عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "كُنْتُ مَعَ عُمَرَ فَدَخَلَ حَائِطًا لِحَاجَتِهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بَخٍ بَخٍ، وَاللَّهِ لِتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ بُنَيَّ الْخَطَّابِ، أَوْ لِيُعَذِّبَنَّكَ".

وَمِمَّا كَتَبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ: «كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا يَا عُمَرُ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ، فَلَا يَزَالُ يُصَلِّي إِلَى الْفَجْرِ، وَمَا مَاتَ حَتَّى سَرَدَ الصَّوْمَ، وَكَانَ فِي وَجْهِهِ خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِنَ الْبُكَاءِ، وَكَانَ يَسْمَعُ الْآيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ فَيُغْشَى عَلَيْهِ، فَيُحْمَلُ صَرِيعًا إِلَى مَنْزِلِهِ، فَيُعَادُ أَيَّامًا لَيْسَ بِهِ مَرَضٌ إِلَّا الْخَوْفُ.

وَقَالَ عُمَرُ: "لَا يَحِلُّ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ إِلَّا حُلَّتَانِ، حُلَّةٌ لِلشِّتَاءِ، وَحُلَّةٌ لِلصَّيْفِ، وَقُوتُ أَهْلِي. وقَالَ لِابْنِهِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا أُعْطِيكُمْ إِلَّا مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ، أَتُرِيدُونَ مِنِّي أَنْ أُعْطِيَكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ، فَأَعُودَ خَائِنًا؟".

وَقَالَ أَنَسٌ: "خَطَبَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ، فِيهِ اثْنَا عَشَرَ رُقْعَةً".

لَقَدْ أَنْفَقَ عُمَرُ فِي حَجَّتِهِ سِتَّةَ عَشَرَ دِينَارًا، وَقَالَ لِابْنِهِ: قَدْ أَسْرَفْنَا، وَكَانَ يُلْقِي كِسَاءَهُ عَلَى الشَّجَرِ وَيَسْتَظِلُّ تَحْتَهُ.

وَلَمَّا قَدِمَ الشَّامَ لِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ تَلُوحُ صَلْعَتُهُ لِلشَّمْسِ.

وَكَانَ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ لَا يَأْكُلُ إِلَّا الْخُبْزَ وَالزَّيْتَ حَتَّى اسْوَدَّ جِلْدُهُ، وَيَقُولُ: بِئْسَ الْوَالِي أَنَا إِنْ شَبِعْتُ وَالنَّاسُ جِيَاعٌ.

وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: خَرَجَ عُمَرُ لَيْلَةً فَدَخَلَ بَيْتًا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ ذَهَبْتُ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَإِذَا عَجُوزٌ عَمْيَاءُ مُقْعَدَةٌ، فَقُلْتُ لَهَا: مَا بَالُ هَذَا الرَّجُلِ يَأْتِيكِ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ يَتَعَاهَدُنِي مُدَّةَ كَذَا وَكَذَا، يَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي، وَيُخْرِجُ عَنِّي الْأَذَى، فَقُلْتُ لِنَفْسِي: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا طَلْحَةُ، أَعَثَرَاتِ عُمَرَ تَتَّبِعُ؟.

 

وَقَالَ أَسْلَمُ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مَعَ عُمَرَ إِلَى بَيْتِ شَعْرٍ، فَإِذَا فِيهِ امْرَأَةٌ تَمْخَضُ وَتَبْكِي، فَبَكَى عُمَرُ وَعَادَ يُهَرْوِلُ إِلَى بَيْتِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ أُمِّ كُلْثُومٍ: هَلْ لَكِ فِي أَجْرٍ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكِ؟ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَحَمَلَ عَلَى ظَهْرِهِ دَقِيقًا وَشَحْمًا، وَحَمَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ مَا يَصْلُحُ لِلْوِلَادَةِ، فَدَخَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَجَلَسَ عُمَرُ مَعَ زَوْجِهَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ.

وَقَالَ أَسْلَمُ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مَعَ عُمَرَ فَأَتَيْنَا امْرَأَةً وَصِبْيَانُهَا يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الْجُوعِ، فَبَكَى عُمَرُ، وَرَجَعَ يُهَرْوِلُ إِلَى دَارِ الدَّقِيقِ، فَأَخْرَجَ عِدْلًا مِنْ دَقِيقٍ وَجِرَابَ شَحْمٍ، وَقَالَ: يَا أَسْلَمُ احْمِلْهُ عَلَى ظَهْرِي، فَقُلْتُ: أَنَا أَحْمِلُهُ عَنْكَ، فَقَالَ: أَنْتَ تَحْمِلُ وِزْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ وَانْطَلَقْنَا إِلَى الْمَرْأَةِ، وَأَخْرَجَ مِنَ الدَّقِيقِ فِي الْقِدْرِ، وَأَلْقَى عَلَيْهِ مِنَ الشَّحْمِ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ، وَالدُّخَانُ يَتَخَلَّلُ لِحْيَتَهُ سَاعَةً، ثُمَّ أَنْزَلَهَا عَنِ النَّارِ، وَقَالَ: كُلُوا، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَالْمَرْأَةُ تَدْعُو لَهُ وَهِيَ لَا تَعْرِفُهُ.

وَقِيلَ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَدْ أَتْعَبْتَ الْخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِكَ يَا عُمَرُ».

وَقَدْ أَبْدَعَ حَافِظُ إِبْرَاهِيمَ فِي قَصِيدَتِهِ العُمَرِيَّةِ يُصَوِّرُ سِيرَةَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَمِنْ دُرَرِهَا:

وَرَاعَ صَاحِبَ كِسْرَى أَنْ رَأَى عُمَرًا ** بَيْنَ الرَّعِيَّةِ عُطْلًا وَهْوَ رَاعِيهَا

رَآهُ مُسْتَغْرِقًا فِي نَوْمِهِ فَرَأَى ** فِيهِ الجَلَالَةَ فِي أَسْمَى مَعَانِيهَا

فَوْقَ الثَّرَى تَحْتَ ظِلِّ الدَّوْحِ مُشْتَمِلًا ** بِبُرْدَةَ كَادَ طُولُ العَهْدِ يُبْلِيهَا

أَمِنْتَ لَمَّا أَقَمْتَ العَدْلَ بَيْنَهُمُ ** فَنِمْتَ نَوْمَ قَرِيرِ العَيْنِ هَانِيهَا

يَوْمَ اشْتَهَتْ زَوْجُهُ الحَلْوَى فَقَالَ لَهَا ** مِنْ أَيْنَ لِي ثَمَنُ الحَلْوَى فَأَشْرِيهَا

كَذَاكَ أَخْلَاقُهُ كَانَتْ وَمَا عُهِدَتْ ** بَعْـدَ النُّبُـوَّةِ أَخْلَاقٌ تُحَـاكِيهَا

 

13- غَدْر المَجوسِيِّ، واستشهاد الفاروق – رضي الله عنه -

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ ﷺ». رواه البخاري.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ: "أنَّ عُمَرَ لَمَّا أَفَاضَ مِنْ مِنًى، أَنَاخَ بِالأَبْطَحْ، فَكَوَّمَ كَوْمَةً مِنْ بَطْحَاءَ، وَطَرَحَ عَلَيْهَا طَرَفَ ثَوْبِهِ، ثُمَّ اسْتَلْقَى عَلَيْهَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ كَبُرَتْ سِنِّي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي؛ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلَا مُفَرِّطٍ". قَالَ سَعِيدٌ: "فَمَا انْسَلَخَ ذُو الحِجَّةِ حَتَّى طُعِنَ".

لَقَدِ اسْتَجَابَ اللهُ لِعُمَرَ هَذَا الدُّعَاءَ، فَطَعَنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ فَيْرُوزُ الْمَجُوسِيُّ الْأَصْلِ، الرُّومِيُّ الدَّارِ، وَهُوَ يُصَلِّي صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الهِجْرَةِ بِخِنْجَرٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفٍ بُرْنُسًا، فَانْتَحَرَ نَفْسَهُ قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَأَوْصَى عُمَرُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ شُورَى بَعْدَهُ فِي سِتَّةٍ، مِمَّنْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، وَهُمْ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ الْعَدَوِيَّ فِيهِمْ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ قَبِيلَتِهِ، خَشْيَةَ أَنْ يُرَاعَى فِي الْإِمَارَةِ بِسَبَبِهِ، وَلَمْ يُوَلِّ ابْنَهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، وَكَانَ خَلِيقًا بِالخِلَافَةِ، وَمَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، رُوِيَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَدُفِنَ فِي يَوْمَ الْأَحَدِ مُسْتَهَلَّ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، بِالْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، عَنْ إِذْنِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ تَرَحَّمَ علَى عُمَرَ، وقَالَ: ما خَلَّفْتَ أحَدًا أحَبَّ إلَيَّ أنْ ألْقَى اللَّهَ بمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ إنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مع صَاحِبَيْكَ، وحَسِبْتُ إنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أسْمَعُ النبيَّ - ﷺ - يَقُولُ: ذَهَبْتُ أَنَا وأَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ، ودَخَلْتُ أنَا وأَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ، وخَرَجْتُ أنَا وأَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ). متفق عليه. وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: حَكَمَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

 

14- مبايعة ذي النُّورَيْن عثمان بالخلافة

عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، رَأَيْتُ كَأَنَّ مِيْزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَكْرٍ، فَرَجَحْتَ أَنْتَ بِأَبِي بَكْرٍ، وَوُزِنَ عُمَرُ وَأَبُو بَكْرٍ، فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ، وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَحَ عُمَرُ، ثُمَّ رُفِعَ المِيزَانُ، فَرَأَيْنَا الكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ ﷺ). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي "الكُبْرَى".

وَقَدْ دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى فَضْلِ هَؤُلَاءِ الأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَتَرْتِيبِهِمْ فِي الفَضْلِ وَالخِلَافَةِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - حَيٌّ: أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبِيِّ - ﷺ - بَعْدَهُ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ".

وَلَمَّا اسْتَهَلَّتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهَا دُفِنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بُويِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالخِلَافَةِ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ جَعَلَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ شُورَى بَيْنَ سِتَّةِ نَفَرٍ؛ وَهُمْ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ لِأَهْلِ الشُّورَى: يَحْضُرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَهُ لِلْمَشُورَةِ - وَلَا يُوَلَّى شَيْئًا.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا أَظُنُّ النَّاسَ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَحَدًا.

وَيُرْوَى أَنَّ أَهْلَ الشُّورَى جَعَلُوا الْأَمْرَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لِيَجْتَهِدَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَفْضَلِهِمْ لِيُوَلِّيَهُ، فَيُذْكَرُ أَنَّهُ سَأَلَ مَنْ يُمْكِنُهُ سُؤَالُهُ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى وَغَيْرِهِمْ فَلَا يُشِيرُ إِلَّا بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ.

 

وَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أُوَلِّكَ، بِمَنْ تُشِيرُ بِهِ عَلَيَّ؟ قَالَ: بِعُثْمَانَ. وَقَالَ لِعُثْمَانَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أُوَلِّكَ بمن تُشِيرُ بِهِ؟ قَالَ: بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ، فَقَالَ: إِنَّمَا قَدْ سَأَلْتُ النَّاسَ عَنْكُمَا فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَعْدِلُ بِكُمَا أَحَدًا، وَقَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ. فَبَايَعَهُ، ثُمَّ بَايَعَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ.

قَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: مَنْ لَمْ يُقَدِّمْ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ، فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.

 

15- فتوحات في عهد عثمان - رضي الله عنه -

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (دَخَلَ رَسولُ اللَّهِ - ﷺ - علَى ابْنَةِ مِلْحَانَ، فَاتَّكَأَ عِنْدَهَا، ثُمَّ ضَحِكَ فَقالَتْ: لِمَ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ البَحْرَ الأَخْضَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي لَفْظٍ: «غُزَاةً فِي سَبيلِ اللَّهِ»، مَثَلُهُمْ مَثَلُ المُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ، فَقالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مِنْهُمْ). متفق عليه.

لَقَدِ اتَّسَعَتِ الدَّوْلَةُ الإِسْلَامِيَّةُ بَدْءًا مِنَ انْطِلَاقِ غَزَوَاتِ وَسَرَايَا مُؤَسِّسِهَا رَسُولِ اللهِ - ﷺ - ثُمَّ جَاءَ عَهْدُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، خَلِيفَةِ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، فَرَدَّ شَارِدَ الجَزِيرَةِ وَلَمَّ وَارِدَهَا مِنْ بِلَادِ الفُرْسِ وَالرُّومِ، وَفِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، خَلِيفَةِ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - أَكْمَلَ الفَتْحَ الإِسْلَامِيَّ فِي الأَرَاضِي السَّاسَانِيَّةِ، وَالأَرَاضِي البِيزَنْطِيَّةِ وَمِصْرَ، وَجُزْءٍ مِنْ شَمَالِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَلَمَّا بُويِعَ ذُو النُّورَيْنِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ بِإِقَامَةِ دِينِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - ﷺ -، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَاسْتَرْجَعَ مَا تَفَلَّتَ مِنْ بِلَادِ الإِمْبَرَاطُورِيَّتَيْنِ المُتَرَنِّحَةِ بِسَبَبِ ثَوْرَاتِهَا، وَأَحْكَمَ القَبْضَةَ عَلَيْهَا، وَغَزَا مَنْ مَنَعَ مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ الخَلِيفَةَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَنَقَضُوا العَهْدَ؛ كَأَذْرَبِيجَانَ، وَأَرْمِينِيَةَ، وَالرَّيِّ، وَالإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَتَوَسَّعَ فِي الفُتُوحَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ، حَيْثُ سَيَّرَ الجُيُوشَ البَرِّيَّةَ وَالبَحْرِيَّةَ؛ لِإِعَادَةِ مَا ضَمَّهُ الفَارُوقُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنَ الجَزِيرَةِ الفُرَاتِيَّةِ، وَالتَّوَغُّلِ فِيهَا لِلْوُصُولِ لِأَنْحَاءِ أَرْمِينِيَةَ وَإِخْضَاعِهَا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، وَغَزْوِ بِلَادِ المَغْرِبِ وَإِفْرِيقِيَّةَ وَغَيْرِهَا، فَفُتِحَتْ إِفْرِيقِيَّةُ، وَقَتَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ جُرْجِيرَ مَلِكَ البَرْبَرِ، وَفُتِحَتِ الأَنْدَلُسُ، وَسُورِيَّةُ، وَطَبَرِسْتَانُ، وَغَيْرُهَا.

 

وَقَدْ رَكِبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِجَيْشٍ مِنَ المُسْلِمِينَ البَحْرَ، وَهُوَ المَعْنِيُّ فِي الحَدِيثِ: (نَاسٌ مِن أُمَّتي يَرْكَبُونَ البَحْرَ الأخْضَرَ فِي سَبيلِ اللَّهِ)، فَفَتَحَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قُبْرُصَ، وَمَعَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَزَوْجَتُهُ أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ الَّتِي تَقَدَّمَ حَدِيثُهَا، فَوَقَعَتْ عَنْ بَغْلَتِهَا فَمَاتَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَلَمَّا جِيءَ بِالْأُسَارَى جَعَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: أَتَبْكِي وَهَذَا يَوْمٌ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟! فَقَالَ: وَيْحَكَ! إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ أُمَّةً قَاهِرَةً لَهُمْ مُلْكٌ، فَلَمَّا ضَيَّعُوا أَمْرَ اللَّهِ صَيَّرَهُمْ إِلَى مَا تَرَى. وَقَالَ: مَا أَهْوَنَ الْعِبَادَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذَا تَرَكُوا أَمْرَهُ!

 

16- من إنجازات خلافة عثمان – رضي الله عنه -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (إِذَا هَلَكَ كِسْرَى، فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ). متفق عليه.

وَقَدْ تَحَقَّقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ.

فَكِسْرَى لَقَبٌ لِكُلِّ مَنْ وَلِيَ مَمْلَكَةَ الفُرْسِ، وَقَيْصَرُ لَقَبٌ لِكُلِّ مَنْ وَلِيَ مَمْلَكَةَ الرُّومِ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ المُرَادَ: لَا يَبْقَى كِسْرَى بِالعِرَاقِ، وَلَا قَيْصَرُ بِالشَّامِ.

وَقَدْ قُتِلَ "يَزِدْجَرْدُ" وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ الفُرْسِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الإِطْلَاقِ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَفُتِحَتِ الشَّامُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَوَطَّدَ فَتْحَهَا وَاسْتَكْمَلَ بَاقِيَهَا: عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَقِيلَ الحِكْمَةُ فِي أَنَّ قَيْصَرَ بَقِيَ مُلْكُهُ - وَإِنَّمَا ارْتَفَعَ مِنَ الشَّامِ وَمَا وَالَاهَا - وَكِسْرَى ذَهَبَ مُلْكُهُ: أَنَّ قَيْصَرَ لَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ النَّبِيِّ - ﷺ - قَبَّلَهُ، وَكَادَ أَنْ يُسْلِمَ، وَكِسْرَى لَمَّا أَتَاهُ كِتَابُ النَّبِيِّ - ﷺ - مَزَّقَهُ، فَدَعَا النَّبِيُّ - ﷺ - أَنْ يُمَزَّقَ مُلْكُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، فَكَانَ كَذَلِكَ.

وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَاعْلَمْ - يَا رَعَاكَ اللهُ! - أَنَّ مُدَّةَ خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، فَهُوَ أَطْوَلُ الخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ مُدَّةً، وَقَدْ حَصَلَ فِي خِلَافَتِهِ إِنْجَازَاتٌ عَظِيمَةٌ، حَسْبُكَ الفُتُوحَاتُ الإِسْلَامِيَّةُ الكَثِيرَةُ، وَمَا حَصَلَ مِنَ الخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَفِتْنَةِ قَتْلِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَا يَطْعَنُ فِي شَرْعِيَّةِ خِلَافَتِهِ، وَلَا فِي كَفَاءَةِ سِيَاسَتِهِ.

 

وَقَدْ أَشَارَتِ الأَحَادِيثُ إِلَى شَرْعِيَّةِ خِلَافَةِ الخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، عَلَى التَّرْتِيبِ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - قَالَ: أُرِيَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ بِرَسُولِ اللهِ - ﷺ -، وَنِيطَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرٍ، وَنِيطَ عُثْمَانُ بِعُمَرَ، قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَرَسُولُ اللهِ - ﷺ -، وَأَمَّا تَنَوُّطُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَهُمْ وُلَاةُ هَذَا الأَمْرِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ - ﷺ -). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَوَّاهُ الحَاكِمُ.

وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (صَعِدَ النَّبِيُّ - ﷺ - أُحُدًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ، وَقَالَ: «اُسْكُنْ أُحُدُ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كُنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - لَا نَعْدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - ﷺ - لَا نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَبْلُغُ النَّبِيَّ - ﷺ - فَلَا يُنْكِرُهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ هَذَا التَّفْضِيلُ ثَابِتًا بِالنَّصِّ.

 

17- من فضائل عثمان – رضي الله عنه -

عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - دَخَلَ حَائِطًا وَأَمَرَنِي بِحِفْظِ بَابِ الحَائِطِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: «اِئْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ»، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: «اِئْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ»، فَإِذَا عُمَرُ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ يَسْتَأْذِنُ فَسَكَتَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ قَالَ: «اِئْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى سَتُصِيبُهُ»، فَإِذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ). متفق عليه.

هَذَا الحَدِيثُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، فَقَدِ انْتَظَمَ عِقْدُ الخِلَافَةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَقَدْ أَشَارَتِ الأَحَادِيثُ إِلَى شَرْعِيَّةِ هَذَا التَّسَلْسُلِ، وَلَقَدْ حَصَلَتِ البَلْوَى فِي آخِرِ أَيَّامِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَدْ أُثِيرَتْ حَوْلَهُ شُبُهَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ نَاقِمَةٌ ظَالِمَةٌ خَاطِئَةٌ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي كِتَابِهِ "مِنْهَاجُ السُّنَّةِ".

وَلِزَوْجِ بِنْتَيْ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - ذِي النُّورَيْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مَنَاقِبُ كَبِيرَةٌ، وَفَضَائِلُ كَثِيرَةٌ، حَسْبُكَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: جَاءَ عُثْمَانُ إِلَى النَّبِيِّ - ﷺ - بِأَلْفِ دِينَارٍ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ «يَعْنِي غَزْوَةَ تَبُوكَ» فَيَنْثِرُهَا فِي حِجْرِهِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - ﷺ - يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ وَيَقُولُ: (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ - مَرَّتَيْنِ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

وَقَالَ البُخَارِيُّ: "بَابُ مَنَاقِبِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَبِي عَمْرٍو القُرَشِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - ﷺ -: «مَنْ يَحْفِرْ بِئْرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ». فَحَفَرَهَا عُثْمَانُ، وَقَالَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ». فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ".

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ، أَوْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -، وَسَوَّى ثِيَابَهُ - فَقَالَ: "أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ المَلَائِكَةُ".

 

 

18- عثمان – رضي الله عنه – المُقَنَّع المقتول ظُلْمًا

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - يَقُولُ: (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ وَاخْتِلَافٌ، أَوِ اخْتِلَافٌ وَفِتْنَةٌ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالأَمِينِ وَأَصْحَابِهِ، وَأَشَارَ إِلَى عُثْمَانَ). رَوَاهُ الحَاكِمُ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.

لَقَدْ نَقِمَ أُنَاسٌ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَثَارُوا حَوْلَهُ الشُّبُهَاتِ الجَائِرَةَ، فَسُفِكَ دَمُهُ بِسَبَبِهَا، وَقُتِلَ شَهِيدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، يَكْشِفُونَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ، وَيُوَجِّهُونَ الثَّائِرِينَ؛ لِيَعُودُوا إِلَى رُشْدِهِمْ.

رَوَى البُخَارِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى عُثْمَانَ هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ، قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ البَيْتَ، فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ القَوْمُ؟ فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَمَنِ الشَّيْخُ فِيهِمْ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ، أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ -، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: «إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَسَهْمَهُ»، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - عُثْمَانَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - بِيَدِهِ اليُمْنَى: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ». فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ»، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ".

 

وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مُرَّةَ البَهْزِيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، إِذْ مَرَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مُرَجِّلًا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: "لَتَخْرُجَنَّ فِتْنَةٌ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ، أَوْ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْ هَذَا، يَوْمَئِذٍ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى الهُدَى». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ صُحِّحَ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - فِتْنَةً، فَمَرَّ رَجُلٌ، فَقَالَ: "يُقْتَلُ فِيهَا هَذَا المُقَنَّعُ يَوْمَئِذٍ مَظْلُومًا"، قَالَ: (فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ). رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ حُسِّنَ.

 

19- رَدُّ الشُّبُهات عن عثمان – رضي الله عنه -

عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَوْقَ دَارِهِ ثُمَّ قَالَ: أُذَكِّرُكُمْ بِاللهِ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حِرَاءَ حِينَ انْتَفَضَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: اُثْبُتْ حِرَاءُ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أُذَكِّرُكُمْ بِاللهِ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - قَالَ فِي جَيْشِ العُسْرَةِ: مَنْ يُنْفِقُ نَفَقَةً مُتَقَبَّلَةً، وَالنَّاسُ مُجْهَدُونَ مُعْسِرُونَ، فَجَهَّزْتُ ذَلِكَ الجَيْشَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: أُذَكِّرُكُمْ بِاللهِ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ بِئْرَ رُومَةَ لَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا بِثَمَنٍ، فَابْتَعْتُهَا فَجَعَلْتُهَا لِلْغَنِيِّ وَالفَقِيرِ وَابْنِ السَّبِيلِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. وَأَشْيَاءَ عَدَّدَهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.

وَعِنْدَمَا حَاصَرَ الثُّوَّارُ المُعْتَدُونَ بَيْتَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حَاوَرَهُمْ لِيَكْشِفَ الشُّبَهَ المُثَارَةَ حَوْلَهُ وَمَا نَقَمُوا عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ سِيَاسَةٍ، وَلِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَكَانَتَهُ وَمَنْزِلَتَهُ فِي الإِسْلَامِ، وَعِنْدَ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَتَوَرَّعَ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَلَمَّا جَاءَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لِيُدَافِعُوا عَنْهُ، قَالَ: "أَعْزِمُ عَلَى مَنْ كَانَ لَنَا عَلَيْهِ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ لَمَا كَفَّ يَدَهُ وَسِلَاحَهُ".

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - قَالَ: (ادْعُوا لِي - أَوْ لَيْتَ عِنْدِي - رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِي، قَالَتْ: لَيْتَ أَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: عُمَرُ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَعُثْمَانُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَجَاءَ عُثْمَانُ، فَقَالَ: قُومِي، قَالَ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ - ﷺ - يُسِرُّ إِلَى عُثْمَانَ، وَلَوْنُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الدَّارِ قُلْنَا: أَلَا تُقَاتِلُ؟ قَالَ: لَا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - عَهِدَ إِلَيَّ أَمْرًا فَأَنَا صَابِرٌ نَفْسِي عَلَيْهِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَالذَّهَبِيُّ وَالبُوصِيرِيّ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَهْلَةَ؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

 

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: (يَا عُثْمَانُ، إِنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ غَيْرُهُ. أَيْ: لَا تَسْتَجِبْ لِمَطْلَبِهِمْ بِأَنْ تَعْزِلَ نَفْسَكَ؛ لِأَنَّكَ عَلَى الحَقِّ، وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ، وَأَنْتَ عَلَى الهِدَايَةِ، وَهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ.

وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: (قَالَ لِي عُثْمَانُ وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي الدَّارِ: مَا تَرَى فِيمَا أَشَارَ بِهِ عَلَيَّ المُغِيرَةُ بْنُ الأَخْنَسِ؟ قَالَ: قُلْتُ: مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْكَ؟ قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ القَوْمَ يُرِيدُونَ خَلْعِي، فَإِنْ خُلِعْتُ تَرَكُونِي، وَإِنْ لَمْ أُخْلَعْ قَتَلُونِي، قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ خُلِعْتَ تُتْرُكُ مُخَلَّدًا فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ يَمْلِكُونَ الجَنَّةَ وَالنَّارَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ تُخْلَعْ هَلْ يَزِيدُونَ عَلَى قَتْلِكَ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَلَا أَرَى أَنْ تَسُنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ فِي الإِسْلَامِ، كُلَّمَا سَخِطَ قَوْمٌ عَلَى أَمِيرِهِمْ خَلَعُوهُ، لَا تَخْلَعْ قَمِيصًا قَمَّصَكَهُ اللهُ).

 

20- استشهاد عثمان – رضي الله عنه -

جَاءَ فِي (فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ) لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَسَاقَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَمْرَةَ بِنْتِ أَرْطَاةَ العَدَوِيَّةِ، قَالَتْ: "خَرَجْتُ مَعَ عَائِشَةَ سَنَةَ قُتِلَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَمَرَرْنَا بِالْمَدِينَةِ وَرَأَيْنَا الْمُصْحَفَ الَّذِي قُتِلَ وَهُوَ فِي حِجْرِهِ، فَكَانَتْ أَوَّلُ قَطْرَةٍ قَطَرَتْ مِنْ دَمِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، قَالَتْ عَمْرَةُ: فَمَا مَاتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَوِيًّا". وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "ثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ".

وَنَشَأَ بِمِصْرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ يُؤَلِّبُونَ النَّاسَ عَلَى حَرْبِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَيَنْقِمُونَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ.

وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، نَاظَرَهُمْ فِي عُثْمَانَ، وَسَأَلَهُمْ مَاذَا يَنْقِمُونَ عَلَيْهِ؟ فَذَكَرُوا أَشْيَاءَ مِنْهَا: أَنَّهُ حَمَى الْحِمَى، وَأَنَّهُ حَرَقَ الْمَصَاحِفَ، وَأَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، وَأَنَّهُ وَلَّى الأَحْدَاثَ، أَعْطَى الوِلَايَاتِ، وَتَرَكَ الصَّحَابَةَ الأَكَابِرَ، وَأَنَّهُ أَعْطَى بَنِي أُمَيَّةَ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ. فَأَجَابَ عَلِيٌّ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا الحِمَى فَإِنَّمَا حَمَاهُ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ لِتَسْمُنَ، وَلَمْ يَحْمِهِ لِإِبِلِهِ وَلَا لِغَنَمِهِ، وَقَدْ حَمَاهُ عُمَرُ مِنْ قَبْلِهِ. وَأَمَّا الْمَصَاحِفُ فَإِنَّمَا حَرَقَ مَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَأَبْقَى لَهُمُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ، وَأَمَّا إِتْمَامُهُ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ تَأَهَّلَ بِهَا وَنَوَى الْإِقَامَةَ فَأَتَمَّهَا، وَأَمَّا تَوْلِيَتُهُ الْأَحْدَاثَ فَلَمْ يُوَلِّ إِلَّا رَجُلًا سَوِيًّا عَدْلًا، وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -  عَتَّابَ بْنَ أُسَيدٍ عَلَى مَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَوَلَّى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَطَعَنَ النَّاسُ فِي إِمَارَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَخَلِيقٌ بِالإِمَارَةِ، وَأَمَّا إِيثَارُهُ قَوْمَهُ بَنِي أُمَيَّةَ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - يُؤْثِرُ قُرَيْشًا عَلَى النَّاسِ، وَوَاللهِ لَوْ أَنَّ مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ بِيَدِي لَأَدْخَلْتُ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهَا. وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فِي عَمَّارٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَ عُثْمَانُ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أَقَامَ فِيهِمَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا. وَعَتَبُوا عَلَيْهِ فِي إِيوَائِهِ الْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَقَدْ نَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -  إِلَى الطَّائِفِ، فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ -  كَانَ قَدْ نَفَاهُ إِلَى الطَّائِفِ ثُمَّ رَدَّهُ، ثُمَّ نَفَاهُ إِلَيْهَا، قَالَ: فَقَدْ نَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -  ثُمَّ رَدَّهُ، وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ خَطَبَ النَّاسَ بِهَذَا كُلِّهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَجَعَلَ يَسْتَشْهِدُ بِهِمْ فَيَشْهَدُونَ لَهُ فِيمَا فِيهِ شَهَادَةٌ لَهُ، وَاعْتَذَرَ وَاسْتَغْفَرَ. فَبَكَى الْمُسْلِمُونَ أَجْمَعُونَ، وَحَصَلَ لِلنَّاسِ رِقَّةٌ شَدِيدَةٌ عَلَى إِمَامِهِمْ.

ثُمَّ إِنَّ الخَوَارِجَ مِنْ أَهْلِ الأَمْصَارِ حَاصَرُوا عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي دَارِهِ، فقَالَ عُثْمَانُ - لِلَّذِينِ عِنْدَهُ فِي الدَّارِ، مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَأَعْيَانِ الصَّحَابَةِ، وَأَبْنَائِهِمْ، وَهُمْ جَمٌّ غَفِيرٌ -: أُقْسِمَ عَلَى مَنْ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ أَنْ يَكُفَّ يَدَهُ، وَأَنْ يَنْطَلِقَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَقَالَ لِرَقِيقِهِ: مَنْ أَغْمَدَ سَيْفَهُ فَهُوَ حُرٌّ. وَلَوْ تَرَكَهُمْ لَمَنَعُوهُ. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، فَمَاتَ شَهِيدًا حَمِيدًا.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: "لُعِنَتْ قَتَلَةُ عُثْمَانَ، خَرَجُوا عَلَيْهِ كَاللُّصُوصِ مِنْ وَرَاءِ الْقَرْيَةِ، فَقَتَلَهُمُ اللَّهُ كُلَّ قِتْلَةٍ، وَنَجَا مَنْ نَجَا مِنْهُمْ تَحْتَ بُطُونِ الْكَوَاكِبِ"؛ يَعْنِي هَرَبُوا لَيْلًا، وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا غَائِبِينَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْحَاضِرِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ حَتَّى قَتَلُوهُ. وَأَمَّا السَّاعُونَ فِي قَتْلِهِ فَكُلُّهُمْ مُخْطِئُونَ؛ بَلْ ظَالِمُونَ بَاغُونَ مُعْتَدُونَ".

 

21- موت الخلفاء الثلاثة بالمدينة

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا؛ فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَصَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الهَادِي.

لَقَدْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِالمَدِينَةِ، وَهُوَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ؛ مِنْهُمْ: عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَسْلَمَ قَدِيمًا.

وَقُتِلَ بِالمَدِينَةِ شَهِيدًا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وَكَانَ بَابًا مُغْلَقًا دُونَ الفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ البَحْرِ، دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَكُسِرَ البَابُ - وَهُوَ اغْتِيَالُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فَوَقَعَتِ الفِتَنُ بَعْدَهُ.

وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: "خَطَبَنَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ تَحْتِهِ: اصْبِرْ أَيُّهَا الأَمِيرُ، فَإِنَّ الفِتَنَ قَدْ ظَهَرَتْ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَمَا وَابْنُ الخَطَّابِ حَيٌّ فَلَا، وَإِنَّمَا ذَاكَ بَعْدَهُ". وَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَبْصَرَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - عَلَى عُمَرَ ثَوْبًا، فَقَالَ: أَجَدِيدٌ ثَوْبُكَ أَمْ غَسِيلٌ؟ قَالَ: بَلْ غَسِيلٌ، قَالَ: اِلْبَسْ جَدِيدًا، وَعِشْ حَمِيدًا، وَمُتْ شَهِيدًا، وَأَظُنُّهُ قَالَ: وَيَرْزُقُكَ اللهُ قُرَّةَ عَيْنٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، ثُمَّ قَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، أَنْكَرَهُ يَحْيَى القَطَّانُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "قُلْتُ: رِجَالُ إِسْنَادِهِ وَاتِّصَالُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي هَذَا الحَدِيثِ؛ فَإِنَّهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قُتِلَ شَهِيدًا وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي الفَجْرَ فِي مِحْرَابِهِ مِنَ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ".

وَلَمَّا قُتِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ظَهَرَتِ الفِتْنَةُ، وَبِدَايَتُهَا خُرُوجُ الخَوَارِجِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ الخَلِيفَةُ الثَّالِثُ؛ لِيَنْتَظِمَ عِقْدُ الخِلَافَةِ الَّذِي طَالَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - ﷺ - فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي تَسْبِيحِ الحَصَا فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَذِهِ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ".

وَلَمَّا قَدِمَتِ الجُيُوشُ مِنَ الأَمْصَارِ إِلَى المَدِينَةِ لِنُصْرَةِ الخَلِيفَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ حَاصَرَ دَارَهُ نَحْوُ أَلْفَيْ مُقَاتِلٍ مِنَ الخَوَارِجِ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِقُدُومِ ذَلِكَ الزَّحْفِ بَادَرُوا بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَقَتَلُوهُ فِي مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، (أَلَا لَعْنَةُ اللهُ عَلَى الظَّالِمِينَ).

قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

قَتَلْتُمْ وَلِيَّ اللهِ فِي جَوْفِ دَارِهِ * وَجِئْتُمْ بِأَمْرٍ جَائِرٍ غَيْرِ مُهْتَدِ

فَهَلَّا رَعَيْتُمْ ذِمَّةَ اللهِ بَيْنَكُمْ * وَأَوْفَيْتُمُ بِالعَهْدِ عَهْدِ مُحَمَّدِ؟!

فَلَا ظَفِرَتْ أَيْمَانُ قَوْمٍ تَبَايَعُوا * عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ الرَّشِيدِ المُسَدَّدِ

وَقَالَ حَسَّانُ أَيْضًا:

ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ * يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، أَنَّهُ صَلَّى بِالقُرْآنِ العَظِيمِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الحَجَرِ الأَسْوَدِ، أَيَّامَ الحَجِّ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مِنْ دَأْبِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)، قَالَ: هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

 

22- نبوءات تحققت في عهد عثمان – رضي الله عنه -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - ﷺ - ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: «رَأَيْتُ قَبْلَ الفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ المَقَالِيدَ وَالمَوَازِينَ، فَأَمَّا المَقَالِيدُ فَهَذِهِ المَفَاتِيحُ، وَأَمَّا المَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كَفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كَفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ فَوُزِنَ فَوَزَنَ بِهِمْ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ فَوَزَنَ بِهِمْ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ فَوَزَنَ بِهِمْ، ثُمَّ رُفِعَتْ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَوَثَّقَ رِجَالَهُ الهَيْثَمِيُّ، وَصَحَّحَهُ غَيْرُهُ.

وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: «ثُمَّ وُضِعَ عُثْمَانُ فِي كَفَّةٍ وَأُمَّتِي فِي كَفَّةٍ، فَعَدَلَهَا».

وَرَوَى البَزَّارُ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - ﷺ -: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ - يَعْنِي فِي الخِلَافَةِ -. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعْقِيبَ البَزَّارِ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ بَايَعْنَا خَيْرَنَا وَلَمْ نَأْلُ.

وَعَنِ المُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -: لَمْ يَتَزَوَّجْ رَجُلٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ابْنَتَيْ نَبِيٍّ غَيْرُهُ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.

وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَضِيَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَلْ كُلُّهُمْ كَرِهَهُ، وَمَقَتَهُ، وَسَبَّ مَنْ فَعَلَهُ". فَفَتَحَ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الأَقَالِيمِ وَالأَمْصَارِ، وَتَوَسَّعَتِ المَمْلَكَةُ الإِسْلَامِيَّةُ، وَامْتَدَّتِ الدَّوْلَةُ المُحَمَّدِيَّةُ، وَبُلِّغَتِ الرِّسَالَةُ المُصْطَفَوِيَّةُ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَظَهَرَ لِلنَّاسِ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ)، وَقَوْلِهِ - ﷺ -: «إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ». متفق عليه.

وَهَذَا كُلُّهُ تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ وَتَأَكَّدَ وَتَوَطَّدَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَعَنْ أَبِي حَبِيبَةَ، أَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ فِيهَا، وَأَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَسْتَأْذِنُ عُثْمَانَ فِي الكَلَامِ فَأَذِنَ لَهُ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - يَقُولُ: «إِنَّكُمْ تَلْقَوْنَ بَعْدِي فِتْنَةً وَاخْتِلَافًا - أَوْ قَالَ: اخْتِلَافًا وَفِتْنَةً - فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مِنَ النَّاسِ: فَمَنْ لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالأَمِينِ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى عُثْمَانَ بِذَلِكَ». قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ حَسَنٌ.

وَرَوَى أَحْمَدُ، عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: «إِنَّكَ إِمَامُ العَامَّةِ، وَقَدْ نَزَلَ بِكَ مَا تَرَى، وَإِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْكَ خِصَالًا ثَلَاثًا اخْتَرْ إِحْدَاهُنَّ؛ إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ فَتُقَاتِلَهُمْ، فَإِنَّ مَعَكَ عَدَدًا وَقُوَّةً، وَأَنْتَ عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ ... فَقَالَ عُثْمَانُ: أَمَّا أَنْ أَخْرُجَ فَأُقَاتِلَ، فَلَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ خَلَفَ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - فِي أُمَّتِهِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ».

 

23- مبايعة علي، ومطالبة معاوية بدم عثمان – رضي الله عنهم -

عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - أَشْرَفَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ المَدِينَةِ، فَقَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ القَطْرِ). متفق عليه.

وَقَدْ تَحَقَّقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ المُصْطَفَى - ﷺ -، حَيْثُ أَشْعَلَ فَتِيلَ الفِتَنِ الخَوَارِجُ؛ بِخُرُوجِهِمْ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَتْلِهِ.

لَقَدْ قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَوْمَ الجُمُعَةِ، لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الحِجَّةِ، سَنَةَ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ.

وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ اخْتَارَ النَّاسُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَهُوَ أَفْضَلُ الأُمَّةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: لَا يَصْلُحُ لَهَا إِلَّا عَلِيٌّ، فَامْتَنَعَ مِنْ إِجَابَتِهِمْ إِلَى قَبُولِ الإِمَارَةِ حَتَّى أَلَحُّوا عَلَيْهِ، وَجَاءُوا مَعَهُمْ بِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هَذَا الأَمْرَ لَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ بِلَا أَمِيرٍ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَجَابَ.

فَبَايَعَهُ مِنَ الغَدِ عَامَّةُ النَّاسِ إِلَّا القَلِيلَ، ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَرُءُوسُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ، الأَخْذَ بِدَمِ عُثْمَانَ، مِمَّنْ قَتَلَهُ مِنَ الخَوَارِجِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ لَهُمْ مَدَدًا وَأَعْوَانًا، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ يَوْمَهُ هَذَا.

وَامْتَنَعَ طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ عَنْ مُبَايَعَةِ نُوَّابِهِ فِي الأَمْصَارِ، قَالُوا: لَا نُبَايِعُ حَتَّى نَقْتُلَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَانْتَشَرَتِ الفِتْنَةُ، وَاخْتَلَفَتِ الكَلِمَةُ، وَافْتَرَقَتِ الأُمَّةُ، وَأَذْكَى نَارَهَا الخَوَارِجُ خَوْفًا مِنْ وَحْدَةِ الصَّفِّ وَاجْتِمَاعِ الكَلِمَةِ.

وَكَانَ عَلَى الشَّامِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَامَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعَهُ يُحَرِّضُونَ النَّاسَ عَلَى المُطَالَبَةِ بِدَمِ عُثْمَانَ.

 

وَقَامَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي مَكَّةَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، وَأُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، فَحَثَّتِ النَّاسَ عَلَى المُطَالَبَةِ بِدَمِ عُثْمَانَ، وَذَكَرَتْ مَا افْتَاتَ بِهِ أُولَئِكَ مِنْ قَتْلِهِ مَظْلُومًا فِي بَلَدٍ حَرَامٍ وَشَهْرٍ حَرَامٍ، وَلَمْ يُرَاقِبُوا جِوَارَ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، وَقَدْ سَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَأَخَذُوا الأَمْوَالَ، فَاسْتَجَابَ النَّاسُ لَهَا، وَخَرَجُوا مَعَهَا إِلَى البَصْرَةِ.

وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا أَتَتْ عَلَى الحَوْأَبِ فَسَمِعَتْ نِبَاحَ الكِلَابِ، فَقَالَتْ: مَا أَظُنُّنِي إِلَّا رَاجِعَةً، إِنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - قَالَ لَنَا: "أَيَّتُكُنَّ يَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الحَوْأَبِ؟، فَقَالَ لَهَا الزُّبَيْرُ: تَرْجِعِينَ؟ عَسَى اللهُ أَنْ يُصْلِحَ بِكِ بَيْنَ النَّاسِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَرَوَاهُ البَزَّارُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: "لَيْتَ شِعْرِي، أَيَّتُكُنَّ صَاحِبَةُ الجَمَلِ الأَدِيبِ، تَسِيرُ حَتَّى تَنْبَحَهَا كِلَابُ الحَوْأَبِ، يُقْتَلُ عَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ يَسَارِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ". ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا بِهَذَا الإِسْنَادِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَهَذَا كُلُّهُ وَقَعَ فِي أَيَّامِ الجَمَلِ، وَقَدْ نَدِمَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ خُرُوجِهَا".

 

24- حقيقة الخلاف بين أصحاب الجَمَل وصِفِّين

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، دَعَوَاهُمَا وَاحِدَةٌ). متفق عليه.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَهَاتَانِ الْفِئَتَانِ هُمَا أَصْحَابُ الْجَمَلِ، وَأَصْحَابُ صِفِّينَ، فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا يَدْعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يَتَنَازَعُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُلْكِ، وَمُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ الْعَائِدِ نَفْعُهَا عَلَى الْأُمَّةِ وَالرَّعَايَا، وَكَانَ تَرْكُ الْقِتَالِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ". انتهى.

وَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ - أَسْلَمَ لِقَلْبِهِ، وَأَتْقَى لِرَبِّهِ - أَنْ يَتَرَضَّى عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَمَنْ كَانَ مَعَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ كَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَيَتَرَضَّى عَنِ الخَلِيفَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَيَتَرَضَّى عَنْ خَالِ المُؤْمِنِينَ، وَكَاتِبِ الوَحْيِ الأَمِينِ، وَأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفيَانَ، قَائِدِ أَنْصَارِهِ الشَّامِيِّينَ فِي مَكَانِ صِفِّينَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ كَعَمْرِو بْنِ العَاصِ، وَيَتَرَضَّى عَمَّنْ تَوَقَّفَ وَاعْتَزَلَ الفَرِيقَيْنِ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا؛ فَكُلٌّ عَمِلَ بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَتَأْوِيلُهُ، وَكَانُوا جَمِيعًا أَهْلًا لِلاجْتِهَادِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - يَقُولُ: (إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ).

وَالخُلَاصَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ قَاصِدَةً وَمَنْ مَعَهَا البَصْرَةَ؛ لِيَأْخُذُوا بِدَمِ عُثْمَانَ، وَيُعَاقِبُوا الظَّلَمَةَ المُعْتَدِينَ، وَكَانَتْ فِي هَوْدَجٍ عَلَى جَمَلٍ لَهَا، فَتَبِعَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ مَعَهُ، فَخَرَجَ مِنَ المَدِينَةِ قَاصِدًا البَصْرَةَ؛ لِيَحْمِيَ وَيَمْنَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَمَنْ كَانَ مَعَهَا، مِنَ الدُّخُولِ فِي قِتَالٍ لَيْسَ هَذَا وَقْتَهُ لِتَفَرُّقِ الأُمَّةِ، وَكُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَا يُرِيدُ إِلَّا الإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَالأُلْفَةَ وَالجَمَاعَةَ.

 

 وَمَحَلُّ الخِلَافِ: أَنَّ عَلِيًّا سَيَأْخُذُ بِدَمِ عُثْمَانَ مِمَّنْ قَتَلَهُ، لَكِنْ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ لَهُ الأُمُورُ، وَتَجْتَمِعُ عَلَى كَلِمَتِهِ الأُمَّةُ، دَرْءًا لِلْمَفْسَدَةِ، وَأُمُّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَمَنْ مَعَهُمْ أَيَّامَ الجَمَلِ، يُرِيدُونَ مُعَاقَبَةَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الحَالِ، مُرَاعَاةً لِلْمَصْلَحَةِ، فَالأَمْرُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْجِيلَ، وَهُوَ مَحَلُّ الخِلَافِ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ أَيَّامَ صِفِّينَ، رَضِيَ اللهُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

وَلَمْ يَكُنْ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعًا عَلَى المُلْكِ، وَلَكِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا بَايَعَهُ النَّاسُ بِالخِلَافَةِ لِفَضْلِهِ وَسَابِقَتِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِالبَيْعَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ: كَاتَبَ أُمَرَاءَ الأَمْصَارِ لِيُبَايِعُوهُ؛ حِفْظًا لِلْأُمَّةِ مِنَ النِّزَاعِ وَالضَّيَاعِ، وَلِذَا بَعْدَ أَنْ شَيَّعَ عَائِشَةَ عَائِدَةً إِلَى مَكَّةَ، ذَهَبَ إِلَى الشَّامِ لِيُبَايِعَهُ أَمِيرُهَا مُعَاوِيَةُ، وَيَأْبَى الخَوَارِجُ قَتَلَةُ عُثْمَانَ، فِي يَوْمِ الجَمَلِ، وَيَوْمِ صِفِّينَ، إِلَّا أَنْ يُوقِدُوا نَارَ الحَرْبِ بَيْنَ الصُّفُوفِ؛ خَوْفًا مِنْ وَحْدَةِ الصَّفِّ وَاجْتِمَاعِ الكَلِمَةِ، فَيُقْتَصُّ مِنْهُمْ.

وَقَدِ اتَّفَقَ صَالِحُ الأُمَّةِ، سَابِقُهَا وَلَاحِقُهَا، عَلَى أَنَّ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ الإِمْسَاكَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.

 

25- وجوب الكَفِّ عما شَجَر بين الصحابة – رضي الله عنهم -

قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

لَقَدْ خَصَّ اللهُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، بِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ - ﷺ -، وَبِسَبْقِهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَشُهُودِ الغَزَوَاتِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، وَحُضُورِ نُزُولِ الوَحْيِ، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُمْ خَيْرُ القُرُونِ، وَأَنَّهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ إِيمَانًا وَإِخْلَاصًا وَعِلْمًا وَنُصْحًا، وَتَبْلِيغًا لِلقُرْآنِ وَالحَدِيثِ، وَنَشْرًا لِلْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، وَفَتْحًا لِلْبُلْدَانِ، وَدَعْوَةً إِلَى اللهِ، وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ فِتْنَةٍ وَمُوَاجَهَةٍ فَخَارِجٌ أَكْثَرُهُ عَنِ اخْتِيَارِهِمْ، وَصَادِرٌ عَنْ تَأْوِيلٍ وَاجْتِهَادٍ، وَهَفْوَةُ أَحَدِهِمْ مَغْمُورَةٌ فِي بَحْرِ حَسَنَاتِهِ، فَلَا يَحِلُّ جَعْلُهُمْ غَرَضًا لِلْأَلْسِنَةِ.

قال تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: «هَاجَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ - عَشَرَاتُ الأُلُوفِ، فَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْهُمْ مِائَةٌ، بَلْ لَمْ يَبْلُغُوا ثَلَاثِينَ». رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ لِشُعْبَةَ: إِنَّ أَبَا شَيْبَةَ رَوَى عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: «شَهِدَ صِفِّينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ سَبْعُونَ رَجُلًا، فَقَالَ: كَذَبَ أَبُو شَيْبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ ذَاكَرْنَا الْحَكَمَ فِي ذَلِكَ، فَمَا وَجَدْنَاهُ شَهِدَ صِفِّينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ غَيْرُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ.

 

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ شَهِدَهَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَكَذَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَهُ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ - وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، أَنَّهُ قَالَ: أَمَا إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَزِمُوا بُيُوتَهُمْ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ، فَلَمْ يَخْرُجُوا إِلَّا إِلَى قُبُورِهِمْ.

وَذَكَرَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ لَمَّا ذُكِرَ لَهُ قِتَالُ عَلِيٍّ مَعَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ مِنْ حَرْبِهِمْ فِي شَيْءٍ"؛ يَعْنِي أَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ عَلِيٌّ وَإِخْوَانُهُ لَا أَدْخُلُ بَيْنَهُمْ فِيهِ؛ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الاجْتِهَادِ وَالتَّأْوِيلِ الَّذِي هُمْ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ العِلْمِ الَّتِي تَعْنِينِي، حَتَّى أَعْرِفَ حَقِيقَةَ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَأَنَا مَأْمُورٌ بِالاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ قَلْبِي لَهُمْ سَلِيمًا، وَمَأْمُورٌ بِمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ، وَلَهُمْ مِنَ السَّوَابِقِ وَالفَضَائِلِ مَا لَا يُهْدَرُ.

فَالوَاجِبُ عَلَى أَهْلِ الإِسْلَامِ الكَفُّ عَمَّا حَصَلَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَأَنْ نُطَهِّرَ أَلْسِنَتَنَا وَقُلُوبَنَا كَمَا طَهَّرَ اللهُ أَيْدِيَنَا.

قِيلَ لِـ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ: مَا رَأْيُكَ فِي أَهْلِ الجَمَلِ وَأَهْلِ صِفِّينَ؟ قَالَ: "تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللهُ مِنْهَا سُيُوفَنَا، أَفَلَا نُطَهِّرُ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ أَلْسِنَتَنَا؟!".

 

26- علي – رضي الله عنه – أدنى الطائفتين إلى الحق

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - قَالَ: «تَدُورُ رَحَى الإِسْلَامِ لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ يَهْلَكُوا فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ، وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا». قُلْتُ: أَمِمَّا بَقِيَ أَوْ مِمَّا مَضَى؟ قَالَ: «مِمَّا مَضَى». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ نَحْوَهُ، وَصَحَّحَهُ غَيْرُهُ.

قَالَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي أَيَّامِ الجَمَلِ، جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، دَارَتْ رَحَى الإِسْلَامِ وَرَبِّ الكَعْبَةِ".

وَأَيَّامُ صِفِّينَ كَانَتْ فِي شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ، ثُمَّ المُحَرَّمِ، وَبَعْدَهُ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ.

وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي يَوْمِ الجَمَلِ وَفِي يَوْمِ صِفِّينَ أَقْرَبُ إِلَى الحَقِّ؛ لِأَنَّهُ الخَلِيفَةُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي بَايَعَهُ النَّاسُ فِي المَدِينَةِ، وَرَضِيَ بِبَيْعَتِهِ مَنْ كَانَ خَارِجَهَا، وَتَوَقَّفَ القَلِيلُ عَنْ مُبَايَعَتِهِ، حَتَّى يُقَاتِلَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَيُسَلِّمَ مَنِ انْضَمَّ إِلَى عَسْكَرِهِ وَاخْتَلَطَ بِجُنُودِهِ مِنْهُمْ.

وَلَمْ يَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ هَذَا أَمْرٌ هَيِّنٌ فِي ظِلِّ فُرْقَةِ المُسْلِمِينَ، إِثْرَ الفِتْنَةِ فِي آخِرِ عَهْدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَيُؤَيِّدُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الحَقِّ - كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - مَا جَاءَ عَنْ أَبِي حَزْمٍ المَازِنِيِّ، قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ حِينَ تَوَافَقَا - يَعْنِي فِي يَوْمِ الجَمَلِ - فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا زُبَيْرُ! أَنْشُدُكَ اللهَ، أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - يَقُولُ: «إِنَّكَ تُقَاتِلُنِي وَأَنْتَ ظَالِمٌ»؟ قَالَ: نَعَمْ! لَمْ أَذْكُرْهُ إِلَّا فِي مَوْقِفِي هَذَا، ثُمَّ انْصَرَفَ. رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَالبَيْهَقِيُّ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ عَنِ القِتَالِ لَمَّا رَأَى عَمَّارًا مَعَ عَلِيٍّ، وَقَدْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - يَقُولُ لِعَمَّارٍ: «تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ»، فَخَشِيَ أَنْ يُقْتَلَ عَمَّارٌ فِي هَذَا اليَوْمِ. وَعِنْدِي أَنَّ الحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ إِنْ كَانَ صَحِيحًا عَنْهُ، فَمَا رَجَعَهُ سِوَاهُ".

قَالَ: وَرَوَى البَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - يَقُولُ: (إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ كَانَ ابْنُ سُمَيَّةَ مَعَ الحَقِّ). وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَمَّارًا كَانَ فِي جَيْشِ عَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينَ، وَقَتَلَهُ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى قَتْلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَفْنَادِ النَّاسِ. انتهى.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ -: (وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ)، قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: "أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الفِتَنِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: «قَالَ العُلَمَاءُ: هَذَا الحَدِيثُ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَ مُحِقًّا مُصِيبًا، وَالطَّائِفَةُ الأُخْرَى بُغَاةٌ، لَكِنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ».

وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: «المُجْتَهِدُ المُخْطِئُ إِذَا قَاتَلَ عَلَى مَا يَرَى أَنَّهُ الحَقُّ قَاصِدًا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِنِيَّتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّهُ مُخْطِئٌ؛ فَهُوَ فِئَةٌ بَاغِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَأْجُورًا».

وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: «ثُمَّ إِنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِمُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ؛ بَلْ يُمْكِنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ تِلْكَ العِصَابَةُ الَّتِي حَمَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلَتْهُ، وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنَ العَسْكَرِ، وَمَنْ رَضِيَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا، وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ فِي العَسْكَرِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ: كَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، وَغَيْرِهِ، بَلْ كُلُّ النَّاسِ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِقَتْلِ عَمَّارٍ، حَتَّى مُعَاوِيَةُ وَعَمْرٌو». انتهى.

وَمِمَّا يَجْدُرُ إِيرَادُهُ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ ۚ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ). فَسَمَّاهُمْ جَمِيعًا مُؤْمِنِينَ.

أَلَا وَإِنَّ التَّأْوِيلَ السَّائِغَ عُذْرٌ، وَالشُّبْهَةُ القَوِيَّةُ تَدْرَأُ التَّكْفِيرَ وَالتَّفْسِيقَ، وَالفِتْنَةُ إِذَا أَقْبَلَتِ اشْتَبَهَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتِ اسْتَبَانَتْ.

 

27- علي - رضي الله عنه - هو رابع الخلفاء الراشدين

ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: لَا! وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ... الأَثَر.

وَلَا يَثْبُتُ حَدِيثٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - عَهِدَ بِالخِلَافَةِ مِنْ بَعْدِهِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَا أَوْصَى الصَّحَابَةَ بِذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ فِي هَذَا كُلِّهِ - مِنْ وَضْعِ الرَّوَافِضِ وَأَكَاذِيبِهِمْ، وَالشِّيعَةِ وَالنَّوَاصِبِ، وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الأَهْوَاءِ - أَكَاذِيبُ عَلَى الصَّحَابَةِ، وَتَشْوِيهٌ لَهُمْ فِي كُتُبِهِمُ التَّارِيخِيَّةِ.

وَلِلقُصَّاصِ حِكَايَاتٌ مُخْتَلَقَةٌ، فِيهَا مَثْلَبَةٌ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَهُنَاكَ مُؤَلَّفَاتٌ مَنْسُوبَةٌ لِبَعْضِ الأَئِمَّةِ هُمْ مِنْهَا بَرَاءٌ، لَفَّقَ وَاضِعُوهَا فِيهَا مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنَ الحِكَايَاتِ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ لَا أَصْلَ لَهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ.

وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ المَيْمُونِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: (ثَلَاثَةُ كُتُبٍ لَيْسَ لَهَا أُصُولٌ: المَغَازِي، وَالمَلَاحِمُ، وَالتَّفْسِيرُ). رَوَاهُ الخَطِيبُ.

وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ: عَدُّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَابِعَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ -: "وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الأَئِمَّةُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِهَذَا الحَدِيثِ – يَعْنِي حَدِيثَ سَفِينَةَ -: "خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً" - فَزَمَانُ عَلِيٍّ كَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَالصَّحَابَةُ تُسَمِّيهِ بِذَلِكَ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وَمَنْ لَمْ يُرَبِّعْ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الخِلَافَةِ، فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ، وَمَعَ هَذَا فَلِكُلِّ خَلِيفَةٍ مَرْتَبَةٌ".

 

وَقَالَ - رَحِمَهُ اللهُ -: "وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يُقَاتِلْ أَحَدًا عَلَى إِمَامَةِ مَنْ قَاتَلَهُ، وَلَا قَاتَلَهُ أَحَدٌ عَلَى إِمَامَتِهِ نَفْسِهِ، وَلَا ادَّعَى أَحَدٌ قَطُّ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالإِمَامَةِ مِنْهُ، لَا عَائِشَةُ وَلَا طَلْحَةُ وَلَا الزُّبَيْرُ وَلَا مُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ، وَلَا الخَوَارِجُ؛ بَلْ كُلُّ الأُمَّةِ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِ عَلِيٍّ وَسَابِقَتِهِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يُمَاثِلُهُ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ".

 

28- الخوارج مِن أَشَرِّ الخَلْق

رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: «تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ، فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ، يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالحَقِّ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فِرْقَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالحَقِّ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «هُمْ شَرُّ الخَلْقِ - أَوْ مِنْ أَشَرِّ الخَلْقِ - يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الحَقِّ». وَفِي رِوَايَةٍ: «يَقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الحَقِّ».

وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الجُهَنِيِّ، أَنَّهُ كَانَ فِي الجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الخَوَارِجِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - يَقُولُ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ القُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ القُرْآنَ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، لَوْ يَعْلَمُ الجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ - ﷺ -، لَاتَّكَلُوا عَنِ العَمَلِ، «وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ، وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ، عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ» فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَتَتْرُكُونَ هَؤُلَاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرِارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَاللهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ القَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الحَرَامَ، وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ، فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللهِ. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: فَنَزَّلَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلًا، حَتَّى قَالَ: مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا الرِّمَاحَ، وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ، فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ، وَسَلُّوا السُّيُوفَ، وَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ، قَالَ: وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلَّا رَجُلَانِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَامَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: أَخِّرُوهُمْ، فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللهُ، وَبَلَّغَ رَسُولُهُ، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -؟ فَقَالَ: إِيْ وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثًا، وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ".

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - فَانْقَطَعَتْ نَعْلُهُ، فَتَخَلَّفَ عَلِيٌّ يَخْصِفُهَا، فَمَشَي قَلِيلًا ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ القُرْآنِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ، فَاسْتَشْرَفَ لَهَا القَوْمُ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا هُوَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ عُمَرُ: أَنَا هُوَ؟ قَالَ: لَا. لَكِنْ خَاصِفُ النَّعْلِ – يَعْنِي عَلِيًّا - فَأَتَيْنَاهُ فَبَشَّرْنَاهُ فَلَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسَهُ، كَأَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ). رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، غَيْرَ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، وَهُوَ ثِقَةٌ.

وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا إِشَارَةٌ إِلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ أَدْنَى إِلَى الحَقِّ وَأَوْلَى بِهِ مِنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَهْلُ الشَّامِ وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ مُتَأَوِّلُونَ.

 

29- تحكيم الحَكَمَيْن، وخروج الخوارج على علي – رضي الله عنه -

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: إِنَّ عَلِيًّا لَمَّا كَاتَبَ مُعَاوِيَةَ وَحَكَّمَ الحَكَمَيْنِ؛ «يَعْنِي أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ وَعَمْرَو بْنَ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا» خَرَجَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ، فَنَزَلُوا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: حَرُورَاءَ، مِنْ جَانِبِ الكُوفَةِ، وَأَنَّهُم عَتَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: انْسَلَخْتَ مِنْ قَمِيصٍ أَلْبَسَكَهُ اللهُ، وَاسْمٍ سَمَّاكَ بِهِ اللهُ، ثُمَّ انْطَلَقْتَ فَحَكَّمْتَ فِي دِينِ اللهِ، وَلَا حُكْمَ إِلَّا للهِ، فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ عَلِيًّا مَا عَتَبُوا عَلَيْهِ وَفَارَقُوهُ عَلَيْهِ، أَمَرَ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ رَجُلٌ إِلَّا رَجُلًا قَدْ حَمَلَ القُرْآنَ، فَلَمَّا أَنِ امْتَلَأَتِ الدَّارُ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ دَعَا بِمُصْحَفٍ إِمَامٍ عَظِيمٍ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَصُكُّهُ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: أَيُّهَا المُصْحَفُ! حَدِّثِ النَّاسَ، فَنَادَاهُ النَّاسُ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَا تَسْأَلُ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ مِدَادٌ فِي وَرَقٍ، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِمَا رُوِيْنَا مِنْهُ، فَمَاذَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أَصحَابُكُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا، بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ كِتَابُ اللهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا)، فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ - ﷺ - أَعْظَمُ دَمًا وَحُرْمَةً مِنِ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ، وَنَقَمُوا عَلَيَّ أَنَّ كَاتِبَ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ جَاءَنَا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - بِالحُدَيْبِيَةِ، حِينَ صَالَحَ قَوْمَهُ قُرَيْشًا، فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَا أَكْتُبُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ: كَيْفَ تَكْتُبُ؟ «قَالَ: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: اكْتُبْ، فَكَتَبَ، فَقَالَ: اكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ لَمْ أُخَالِفْكَ، فَكَتَبَ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قُرَيْشًا، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ)، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا تَوَسَّطْتُ عَسْكَرَهُمْ، فَقَامَ ابْنُ الكَوَّاءِ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: يَا حَمَلَةَ القُرْآنِ، هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ فَأَنَا أَعْرِفُهُ مِمَّنْ يُخَاصِمُ فِي كِتَابِ اللهِ بِمَا لَا يَعْرِفُهُ، هَذَا مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ وَفِي قَوْمِهِ: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)، فَرُدُّوهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَلَا تُوَاضِعُوهُ كِتَابَ اللهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللهِ لَنُوَاضِعَنَّهُ؛ فَإِنْ جَاءَ بِحَقٍّ نَعْرِفُهُ لَنَتَّبِعَنَّهُ، وَإِنْ جَاءَ بِبَاطِلٍ لَنَكْبِتَنَّهُ بِبَاطِلِهِ، فَوَاضَعُوا عَبْدَ اللهِ الكِتَابَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ كُلُّهُمْ تَائِبٌ، فِيهِمُ ابْنُ الكَوَّاءِ، حَتَّى أَدْخَلَهُمْ عَلَى عَلِيٍّ الكُوفَةَ، فَبَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى بَقِيَّتِهِمْ فَقَالَ: قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِنَا وَأَمْرِ النَّاسِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، فَقِفُوا حَيْثُ شِئْتُمْ حَتَّى تَجْتَمِعَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - ﷺ - بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، أَنْ لَا تَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا، أَوْ تَقْطَعُوا سَبِيلًا، أَوْ تَظْلِمُوا ذِمَّةً، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ نَبَذْنَا إِلَيْكُمُ الحَرْبَ عَلَى سَوَاءٍ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ...».

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَاخْتَارَهُ الضِّيَاءُ.

وَقَدْ رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ القِصَّةَ، وَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ حَكَّمَ الرِّجَالَ، وَأَنَّهُ مَحَى اسْمَهُ مِنَ الإِمْرَةِ، وَأَنَّهُ غَزَا يَوْمَ الجَمَلِ فَقَتَلَ الأَنْفُسَ الحَرَامَ، وَلَمْ يَقْسِمِ الأَمْوَالَ وَالسَّبْيَ، فَأَجَابَ عَنِ الأُولَيَيْنِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَعَنِ الثَّالِثِ فَقَالَ: قَدْ كَانَ فِي السَّبْيِ أُمُّ المُؤْمِنِينَ، فَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ لَكُمْ بِأُمٍّ فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنِ اسْتَحْلَلْتُمْ سَبْيَ أُمَّهَاتِكُمْ فَقَدْ كَفَرْتُمْ. قَالَ: فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، وَخَرَجَ سَائِرُهُمْ فَتَقَاتَلُوا.

وَقَاتَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الخَوَارِجَ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ فَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ.

وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ: أَمُشْرِكُونَ هُمْ؟ فَقَالَ: مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا، قِيلَ: أَفَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: إِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا، فَقِيلَ: فَمَا هُمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا، فَقَاتَلْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ عَلَيْنَا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.

 

30- ذَمُّ الخوارج والتحريض على قَتْلِهم

ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي كِتَابِهِ «البِدَايَةِ» أَحَادِيثَ كَثِيرَةً فِي ذَمِّ الخَوَارِجِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى قَتْلِهِمْ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ، أَحْدَاثُ - أَوْ حُدَثَاءُ - الْأَسْنَانِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ النَّاسِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، لَا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَمَنْ أَدْرَكَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ».

وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ابْنُ مَسْعُودٍ مَاتَ قَبْلَ ظُهُورِ الْخَوَارِجِ بِنَحْوٍ مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، فَخَبَرُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الأَسَانِيدِ.

وَعَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -  الْخَوَارِجَ فَقَالَ: «شِرَارُ أُمَّتِي يَقْتُلُهُمْ خِيَارُ أُمَّتِي». وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَلِيًّا قَتَلَهُمْ، وَهُمْ أَصْحَابُ النَّهْرَوَانِ.

ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ، لَكِنَّ الإِسْنَادَ الأَوَّلَ يَشْهَدُ لِهَذَا، كَمَا أَنَّ هَذَا يَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ، فَهُمَا مُتَعَاضِدَانِ، وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ. وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الطُّرُقَ كُلَّهَا؛ لِيَعْلَمَ الْوَاقِفُ عَلَيْهَا أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ دِلَالَاتِ النُّبُوَّةِ، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ فِيهَا، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. انتهى.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: "ذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الخَوَارِجَ غَيْرُ خَارِجِينَ عَنْ جُمْلَةِ المُسْلِمِينَ".

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الأُصُولِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ الخَوَارِجَ فُسَّاقٌ، وَأَنَّ حُكْمَ الإِسْلَامِ يَجْرِي عَلَيْهِمْ لِتَلَفُّظِهِمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَمُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا فَسَقُوا بِتَكْفِيرِهِمُ المُسْلِمِينَ، مُسْتَنِدِينَ إِلَى تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ، وَجَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى اسْتِبَاحَةِ دِمَاءِ مُخَالِفِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ وَالشِّرْكِ".

وَقَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: "كَادَتْ هَذِهِ المَسْأَلَةُ - يَعْنِي تَكْفِيرَ الخَوَارِجِ - تَكُونُ أَشَدَّ إِشْكَالًا عِنْدَ المُتَكَلِّمِينَ مِنْ غَيْرِهَا، حَتَّى سَأَلَ الفَقِيهُ عَبْدُ الحَقِّ الإِمَامَ أَبَا المَعَالِي عَنْهَا، فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ إِدْخَالَ كَافِرٍ فِي المِلَّةِ، وَإِخْرَاجَ مُسْلِمٍ عَنْهَا: عَظِيمٌ فِي الدِّينِ".

 

 

31- الحَكَمان مِن خيار الصحابة – رضي الله عنهم -

رَوَى البَيْهَقِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: "وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَخْتَلِفُ، فَلَا يَزَالُ اخْتِلَافُهُمْ بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَبْعَثُوا حَكَمَيْنِ ضَلَّا، وَأَضَلَّا مَنِ اتَّبَعَهُمَا». قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَالحَكَمَانِ كَانَا مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ، وَهُمَا: عَمْرُو بْنُ العَاصِ السَّهْمِيُّ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الشَّامِ، وَالثَّانِي: أَبُو مُوسَى عَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسٍ الأَشْعَرِيُّ، مِنْ جِهَةِ أَهْلِ العِرَاقِ، وَإِنَّمَا نُصِّبَا لِيُصْلِحَا بَيْنَ النَّاسِ، وَيَتَّفِقَا عَلَى أَمْرٍ فِيهِ رِفْقٌ بِالمُسْلِمِينَ، وَحَقْنٌ لِدِمَائِهِمْ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ، وَلَمْ يَضِلَّ بِسَبَبِهِمَا إِلَّا فِرْقَةُ الخَوَارِجِ، حَيْثُ أَنْكَرُوا عَلَى الأَمِيرَيْنِ التَّحْكِيمَ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِمَا وَكَفَّرُوهُمَا، حَتَّى قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَنَاظَرَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ شِرْذِمَةٌ إِلَى الحَقِّ، وَاسْتَمَرَّ بَقِيَّتُهُمْ حَتَّى قُتِلَ أَكْثَرُهُمْ بِالنَّهْرَوَانِ وَغَيْرِهِ". انتهى.

وَقَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: "تَحَكَّمَ النَّاسُ فِي التَّحْكِيمِ فَقَالُوا فِيهِ مَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ، وَالَّذِي يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ: مَا رَوَى الأَئِمَّةُ كَخَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ الطَّائِفَةُ العِرَاقِيَّةُ فِي مِائَةِ أَلْفٍ، وَالشَّامِيَّةُ فِي سَبْعِينَ أَوْ تِسْعِينَ أَلْفًا، وَنَزَلُوا عَلَى الفُرَاتِ بِصِفِّينَ، اقْتَتَلُوا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ «يَعْنِي تَغَالَبُوا» - وَهُوَ الثُّلَاثَاءُ - عَلَى المَاءِ، فَغَلَبَ أَهْلُ العِرَاقِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْتَقَوْا يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَيَوْمَ الخَمِيسِ، وَيَوْمَ الجُمُعَةِ، وَلَيْلَةَ السَّبْتِ، وَرُفِعَتِ المَصَاحِفُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَدَعَوْا إِلَى الصُّلْحِ، وَتَفَرَّقُوا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ كُلُّ طَائِفَةٍ أَمْرَهَا إِلَى رَجُلٍ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلَانِ يَحْكُمَانِ بَيْنَ الدَّعْوَيَيْنِ بِالحَقِّ، فَكَانَ مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ أَبُو مُوسَى، وَمِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى رَجُلًا تَقِيًّا فَقِيهًا عَالِمًا، وَزَعَمَتِ الطَّائِفَةُ التَّارِيخِيَّةُ الرَّكِيكَةُ أَنَّهُ كَانَ أَبْلَهَ ضَعِيفَ الرَّأْيِ مَخْدُوعًا فِي القَوْلِ، وَأَنَّ ابْنَ العَاصِ كَانَ ذَا دَهَاءٍ وأَرَبٍ، حَتَّى ضُرِبَتِ الأَمْثَالُ بِدَهَائِهِ، تَأْكِيدًا لِمَا أَرَادَتْ مِنَ الفَسَادِ، اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الجُهَّالِ بَعْضًا، وَصَنَّفُوا فِيهِ حِكَايَاتٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُمَا لَمَّا اجْتَمَعَا بِأَذْرُحَ مِنْ دُوْمَةِ الجَنْدَلِ وَتَفَاوَضَا، اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَخْلَعَا الرَّجُلَيْنِ، فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي مُوسَى: اسْبِقْ بِالقَوْلِ. فَتَقَدَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي نَظَرْتُ فَخَلَعْتُ عَلِيًّا عَنِ الأَمْرِ، وَيَنْظُرُ المُسْلِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا خَلَعْتُ سَيْفِي هَذَا مِنْ عَاتِقِي، وَأَخْرَجَهُ مِنْ عُنُقِهِ، فَوَضَعَهُ فِي الأَرْضِ. وَقَامَ عَمْرٌو فَوَضَعَ سَيْفَهُ فِي الأَرْضِ، وَقَالَ: إِنِّي نَظَرْتُ فَأَثْبَتُّ مُعَاوِيَةَ فِي الأَمْرِ كَمَا أُثْبِتُ سَيْفِي هَذَا فِي عَاتِقِي. وَتَقَلَّدَهُ. فَأَنْكَرَ أَبُو مُوسَى. فَقَالَ عَمْرٌو: كَذَلِكَ اتَّفَقْنَا. وَتَفَرَّقَ الجَمْعُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الاخْتِلَافِ.

هَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ صُرَاحٌ، مَا جَرَى مِنْهُ حَرْفٌ قَطُّ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَخْبَرَ عَنْهُ المُبْتَدِعَةُ، وَوَضَعَتْهُ التَّارِيخِيَّةُ لِلْمُلُوكِ، فَتَوَارَثَهُ أَهْلُ المَجَانَةِ وَالجِهَارَةِ بِمَعَاصِي اللهِ وَالبِدَعِ".

وَإِنَّمَا الَّذِي رَوَى الأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ الأَثْبَاتُ: أَنَّهُمَا لَمَّا اجْتَمَعَا لِلنَّظَرِ فِي الأَمْرِ - فِي عُصْبَةٍ كَرِيمَةٍ مِنَ النَّاسِ؛ مَنِهُمُ: ابْنُ عُمَرَ وَنَحْوُهُ - عَزَلَ عَمْرٌو مُعَاوِيَةَ، ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيَّ بِسَنَدِهِ إِلَى حُضَيْنِ بْنِ المُنْذِرِ - «ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِهِ» -: لَمَّا عَزَلَ عَمْرٌو مُعَاوِيَةَ فَبَلَغَ نَبَأُهُ مُعَاوِيَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الأَمْرِ الَّذِي وُلِّيْتَ أَنْتَ وَأَبُو مُوسَى، كَيْفَ صَنَعْتُمَا فِيهِ؟ قَالَ: قَدْ قَالَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ مَا قَالُوا، وَاللهِ مَا كَانَ الأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوا، وَلَكِنْ قُلْتُ لِأَبِي مُوسَى: مَا تَرَى فِي هَذَا الأَمْرِ؟ قَالَ: أَرَى أَنَّهُ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ. قُلْتُ: فَأَيْنَ تَجْعَلُنِي أَنَا وَمُعَاوِيَةَ؟ فَقَالَ: إِنْ يُسْتَعَنْ بِكُمَا فَفِيكُمَا مَعُونَةٌ. فَهَذَا كَانَ بَدْءُ الحَدِيثِ وَمُنْتَهَاهُ. فَأَمْسِكُوا الأَلْسِنَةَ عَنِ السَّابِقِينَ إِلَى الدِّينِ، فَقَدْ هَلَكَ مَنْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - ﷺ - خَصْمَهُ، وَدَعْوا مَا مَضَى، فَقَدْ قَضَى اللهُ مَا قَضَى.

 

32- استشهاد علي، ونجاة معاوية وعمرو – رضي الله عنهم -

عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ - وَكَانَ أَبُو فَضَالَةَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ-: قَالَ «خَرَجْتُ مَعَ أَبِي عَائِدًا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ مَرَضٍ أَصَابَهُ ثَقُلَ مِنْهُ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبِي: مَا يُقِيمُكَ بِمَنْزِلِكَ هَذَا لَوْ أَصَابَكَ أَجَلُكَ لَمْ يَلِكَ إِلَّا أَعْرَابُ جُهَيْنَةَ؟ تُحْمَلُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنْ أَصَابَكَ أَجْلُكَ وَلِيَكَ أَصْحَابُكَ وَصَلَّوْا عَلَيْكَ. فَقَالَ عَلَى: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ لَا أَمُوتَ حَتَّى أُؤَمَّرَ، ثُمَّ تُخْضَبَ هَذِهِ - يَعْنِي لِحْيَتَهُ - مِنْ دَمِ هَذِهِ - يَعْنِي هَامَتَهُ – قَالَ: فَقُتِلَ». تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، ورَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَلَهُ طُرُقٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ طَرَفًا مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ: "وَقَدْ رُوِّينَا فِي كِتَابِ السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ فِي إِخْبَارِ النَّبِيِّ - ﷺ - بِقَتْلِهِ".

وَبَيْنَمَا عَلِيٌّ بِالعِرَاقِ وَمُعَاوِيَةُ بِالشَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَقَدِ اشْتَدَّتِ المِحَنُ وَظَهَرَتِ الفِتَنُ، وَسَئِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الأَحْوَالَ، وَمَلَّ الأَوْضَاعَ، حَتَّى حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَتُخْضَبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، لِلِحْيَتِهِ مِنْ رَأْسِهِ، فَمَا يَحْبِسُ أَشْقَاهَا؟» أَيْ: مَا يَنْتَظِرُ، مَا لَهُ لَا يَقْتُلُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبُعٍ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَنَّ رَجُلًا فَعَلَ ذَلِكَ لَأَبَدْنَا عِتْرَتَهُ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَنْ يُقْتَلَ غَيْرُ قَاتِلِي. فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا تَسْتَخْلِفُ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَتْرُكُكُمْ كَمَا تَرَكَكُمْ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -. رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ وَالسِّيَرِ وَأَيَّامِ النَّاسِ - وَذَكَرَ مَا مُلَخَّصُهُ -: أَنَّ ثَلَاثَةً مِنَ الْخَوَارِجِ؛ وَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُلْجَمٍ الْمِصْرِيُّ - وَسَمَّى البَقِيَّةَ - اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا قَتْلَ عَلِيٍّ إِخْوَانَهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: لَوْ أَتَيْنَا أَئِمَّةَ الضَّلَالِ فَقَتَلْنَاهُمْ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ثَأْرَ إِخْوَانِنَا، فَقَالَ ابْنُ مُلْجَمٍ: أَمَّا أَنَا فَأَكْفِيكُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَكْفِيكُمْ مُعَاوِيَةَ: وَقَالَ الثَّالِثُ: أَنَا أَكْفِيكُمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ. ثُمَّ إِنَّ الشَّقِيَّ الجَبَانَ ابْنَ مُلْجَمٍ اخْتَبَأَ وَمَعَهُ أَعْوَانٌ جُبَنَاءُ، بِطَرِيقِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ خَارِجٌ لِصَلَاةِ الفَجْرِ، فَهَجَمُوا عَلَيْهِ، وَضَرَبَ ابْنُ مُلْجَمٍ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، حَتَّى سَالَ دَمُهُ مِنْ رَأْسِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَحُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ، ثُمَّ مَاتَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ شَهِيدًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ مَعْرُوفًا بِالدِّيَانَةِ، مُشْتَهِرًا بِالشَّجَاعَةِ، مَشْهُودًا لَهُ بِالذَّكَاءِ وَالدَّهَاءِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَدُفِنَ بِدَارِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَمَا يَعْتَقِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الرَّوَافِضِ مِنْ أَنَّ قَبْرَهُ بِمَشْهَدِ النَّجَفِ؛ فَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَصْلَ لَهُ". انتهى.

وَأَمَّا المُتَعَهِّدُ بِقَتْلِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَدِ اخْتَبَأَ لَهُ وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَطَعَنَهُ، فَأَصَابَتْ فَخِذَهُ، ثُمَّ شُفِيَ مِنْهَا، وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَكَانَ مَرِيضًا فَلَمْ يَخْرُجْ لِصَلَاةِ الفَجْرِ ذَلِكَ اليَوْمَ، فَجَاءَتِ الطَّعْنَةُ فِي نَائِبِهِ، وَقَدْ قُبِضَ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَقُتِلُوا، قَبَّحَهُمُ اللهُ.

 

33- الخلفاء الأربعة في الجَنَّة

رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ وَقَدْ صُحِّحَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - قَالَ: (القَائِمُ بَعْدِي فِي الجَنَّةِ، وَالَّذِي يَقُومُ بَعْدَهُ فِي الجَنَّةِ، وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فِي الجَنَّةِ).

فَهَؤُلَاءِ الخُلَفَاءُ الأَرْبَعَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ صِهْرَا رَسُولِ اللهِ - ﷺ - وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ خَتَنَا رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِهِمْ، وَعِظَمِ شَأْنِهِمْ، وَعُلُوِّ مَكَانَتِهِمْ، وَشَرَفِ رُتْبَتِهِمْ.

وَقَالَ‏ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:‏ "لَا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ أَنَّهُ فَضَّلَنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، إِلَّا جَلَدْتُهُ حَدَّ المُفْتَرِي‏". ‏

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا وَأَكْثَرَ، أَنَّهُ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الكُوفَةِ‏:‏ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ‏".

وَعَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الحَنَفِيَّةِ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِأَبِي‏ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:‏ يَا أَبَتِ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ يَا بُنَيَّ، أَوَ مَا تَعْرِفُ؟‏‏!‏ فَقُلْتُ‏:‏ لَا، فَقَالَ‏:‏ أَبُو بَكْرٍ،‏‏ قُلْتُ‏:‏ ثُمَّ مَنْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ عُمَرُ‏.‏

وَقَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ: "جَاءَتِ الرَّافِضَةُ زَيْدًا - وَهُوَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ – فَقَالُوا: تَبَرَّأْ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ حَتَّى نَنْصُرَكَ، قَالَ: بَلْ أَتَوَلَّاهُمَا، قَالُوا: إِذًا نَرْفُضُكَ، فَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لَهُمُ الرَّافِضَةُ".

وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُمَا وَزِيرَا جَدِّي؛ يَعْنِي أَنَّ الطَّعْنَ فِيهِمَا طَعْنٌ فِي رَسُولِ اللهِ - ﷺ -.

وَثَبَتَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - قَالَ: (أَبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الجَنَّةِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فِي الجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ فِي الجَنَّةِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِهِ "السِّيَرِ": «فَهَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ سِيْرَةِ العَشَرَةِ، وَهُمْ أَفْضَلُ قُرَيْشٍ، وَأَفْضَلُ السَّابِقِيْنَ المُهَاجِرِيْنَ، وَأَفْضَلُ البَدْرِيِّيْنَ، وَأَفْضَلُ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، وَسَادَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. فَأَبْعَدَ اللهُ الرَّافِضَةَ مَا أَغْوَاهُمْ، وَأَشَدَّ هَوَاهُمْ!، كَيْفَ اعْتَرَفُوا بِفَضْلِ وَاحِدٍ مِنْهُم، وَبَخَسُوا التِّسْعَةَ حَقَّهُمْ، وَافْتَرَوْا عَلَيْهِمْ بِأنَّهُمْ كَتَمُوا النَّصَّ فِي عَلِيٍّ أَنَّهُ الخَلِيْفَةُ؟ فَوَاللهِ مَا جَرَى مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ». انتهى.

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ مِمَّنْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ). وَقَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِمَّنْ قَالَ اللهُ: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)".

وَقَالَ كَثِيرٌ النَّوَّاءُ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَقُلْتُ: وَلِيِّي وَلِيُّكُمْ، وَسِلْمِي سِلْمُكُمْ، وَعَدُوِّي عَدُوُّكُمْ، وَحَرْبِي حَرْبُكُمْ، إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللهِ: أَتَبْرَأُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَقَالَ: (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ). تَوَلَّهُمَا يَا كَثِيرُ، فَمَا أَدْرَكَكَ فَهُوَ فِي رَقَبَتِي هَذِهِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ: (إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)، قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)، قَالَ: هُمْ عَشَرَةٌ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

 

34- مبايعة الحَسَن، ثم تنازله لمعاوية

قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، وقال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).

لَمَّا طَعَنَ الخَارِجِيُّ الشَّقِيُّ ابْنُ مُلْجَمٍ الخَلِيفَةَ الرَّاشِدَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَوْمَ الجُمُعَةِ، السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، سَنَةَ أَرْبَعِينَ لِلْهِجْرَةِ، فَمَاتَ يَوْمَهَا، وَقِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ، فَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَ وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ، فَبَايَعَ النَّاسُ ابْنَهُ الحَسَنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، خِلَافَةَ نُبُوَّةٍ، عَلَى الحِجَازِ وَاليَمَنِ وَالعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا؛ لِمَا ثَبَتَ عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

ثُمَّ إِنَّ الحَسَنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، رَأَى المَصْلَحَةَ فِي التَّنَازُلِ لِمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَكَانَ تَنَازُلُهُ مِنْ أَفْضَلِ مَنَاقِبِهِ الدِّينِيَّةِ وَالعَقْلِيَّةِ، وَتَحَقَّقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - ﷺ -؛ فَعَنْ أَبِي مُوسَى - وَهُوَ البَصْرِيُّ - قَالَ: سَمِعْتُ الحَسَنَ - يَعْنِي البَصْرِيَّ - يَقُولُ: اسْتَقْبَلَ – وَاللَّهِ - الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ: إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لَا تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ - وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ -: أَيْ عَمْرُو! إِنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ، مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ؟! مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ؟! مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ؟! فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، فَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولَا لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ.

فَأَتَيَاهُ، فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا، وَقَالَا لَهُ، فَطَلَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا المَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا. قَالَا: فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ. قَالَ: فَمَنْ لِي بِهَذَا؟ قَالَا: نَحْنُ لَكَ بِهِ. فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالَا: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَصَالَحَهُ، فَقَالَ الحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - عَلَى المِنْبَرِ - وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ -، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى، وَيَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَقَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ - وَهُوَ المَدِينِيُّ -: إِنَّمَا ثَبَتَ لَنَا سَمَاعُ الحَسَنِ - يَعْنِي البَصْرِيَّ - مِنْ أَبِي بَكْرَةَ بِهَذَا الحَدِيثِ. انتهى.

وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ عَقِبَ هَذَا الحَدِيثِ: قَوْلُهُ: (مِنَ المُسْلِمِينَ) يُعْجِبُنَا جِدًّا، أَخْرَجَهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ، وَفِي هَذَا الحَدِيثِ حَقٌّ يَدْمَغُ بَاطِلَ الخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ وَأَنْصَارَهُمَا.

وَقَدْ سُمِّيَ العَامُ الَّذِي تَنَازَلَ فِيهِ الحَسَنُ بِالخِلَافَةِ لِمُعَاوِيَةَ - بِشُرُوطٍ وَفَّى بِهَا مُعَاوِيَةُ أَوَّلُ مَلِكٍ فِي الإِسْلَامِ -: عَامَ الجَمَاعَةِ، فَحَقَنَ سِبْطُ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - دِمَاءَ الأُمَّةِ، وَجَمَعَهَا عَلَى الاجْتِمَاعِ وَالأُلْفَةِ، عَمَلًا بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

 

35- اكتمال عهد خلافة النبوة بتنازل الحَسَن لمعاوية

ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَشَارَ عَلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ يَأْمُرَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَنْ يَخْطُبَ النَّاسَ، وَيُعْلِمَهُمْ بِنُزُولِهِ عَنِ الْأَمْرِ لِمُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ الْحَسَنَ، فَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ، بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ - ﷺ -: «أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ! فَإِنَّ اللَّهَ هَدَاكُمْ بِأَوَّلِنَا، وَحَقَنَ دِمَاءَكُمْ بِآخِرِنَا».

قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: فَوَاللهِ بَعْدَ أَنْ تَوَلَّى لَمْ يُهْرَقْ فِي خِلَافَتِهِ مِلْءُ مِحْجَمَةٍ بِدَمٍ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِنَّمَا كَمَلَتِ الثَّلَاثُونَ بِخِلَافَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَإِنَّهُ نَزَلَ عَنِ الْخِلَافَةِ لِمُعَاوِيَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ كَمَالُ ثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ -، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الحَدِيثُ الَّذِي قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: سَوَّدْتَ وُجُوهَ الْمُؤْمِنِينَ - أَوْ يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ - فَقَالَ: لَا تُؤَنِّبْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» يَا مُحَمَّدُ - يَعْنِي نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ -، وَنَزَلَتْ:«إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»، يَمْلِكُهَا بَعْدَكَ بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ الفَضْلُ: فَعَدَدْنَا فَإِذَا هِيَ أَلْفُ شَهْرٍ، لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ... قَالَ: وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الحَدِيثُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ؛ بَلْ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَبَيَّنَّا وَجْهَ نَكَارَتِهِ. .. قَالَ: وَجَعَلَ كُلَّمَا مَرَّ بِحَيٍّ مِنْ شِيعَتِهِمْ يُبَكِّتُونَهُ عَلَى مَا صَنَعَ مِنْ نُزُولِهِ عَنِ الْأَمْرِ لِمُعَاوِيَةَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ هُوَ البَارُّ الرَّاشِدُ المَمْدُوحُ، وَلَيْسَ يَجِدُ فِي صَدْرِهِ حَرَجًا وَلَا تَلَوُّمًا وَلَا نَدَمًا؛ بَلْ هُوَ رَاضٍ بِذَلِكَ مُسْتَبْشِرٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَاءَ هَذَا خَلْقًا مِنْ ذَوِيهِ وَأَهْلِهِ وَشِيعَتِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَدٍ، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.

وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَمَدْحُهُ فِيمَا حَقَنَ بِهِ دِمَاءَ الْأُمَّةِ، كَمَا مَدَحَهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ -. انتهى.

 

36- معاوية – رضي الله عنه – أَوَّل ملوك الإسلام وخَيْرُهم

أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بَدَأَ رَحْمَةً وَنُبُوَّةً، ثُمَّ يَكُونُ رَحْمَةً وَخِلَافَةً، ثُمَّ كَائِنٌ مُلْكًا عَضُوضًا، ثُمَّ كَائِنٌ عُتُوًّا وَجَبْرِيَّةً وَفَسَادًا فِي الْأَرْضِ، يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيرَ وَالْفُرُوجَ وَالْخُمُورَ، وَيُرْزَقُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيُنْصَرُونَ حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ».

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا، وَقَدِ انْقَضَتِ الثَّلَاثُونَ بِخِلَافَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَيَّامُ مُعَاوِيَةَ أَوَّلُ الْمُلْكِ، فَهُوَ أَوَّلُ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ وَخِيَارِهِمْ". انتهى.

وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ مَا حَمَلَنِي عَلَى الْخِلَافَةِ إِلَّا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ - لِي: «يَا مُعَاوِيَةُ، إِنْ مَلَكْتَ فَأَحْسِنْ». رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. وَأَعَلَّهُ ابْنُ كَثِيرٍ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا)، قَالَ: قَدْ أَخَذَ الإِمَامُ الحَبْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ وِلَايَةَ مُعَاوِيَةَ السَّلْطَنَةَ وَأَنَّهُ سَيَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَلِيَّ عُثْمَانَ، وَقَدْ قُتِلَ عُثْمَانُ مَظْلُومًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُطَالِبُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ قَتَلَتَهُ حَتَّى يَقْتَصَّ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ أُمَوِيٌّ، وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَسْتَمْهِلُهُ فِي الأَمْرِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ وَيَفْعَلَ ذَلِكَ، وَيَطْلُبُ عَلِيٌّ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَنْ يُسَلِّمَهُ الشَّامَ، فَيَأْبَى مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ حَتَّى يُسْلِّمَهُ القَتَلَةَ، وَأَبَى أَنْ يُبَايِعَ عَلِيًّا هُوَ وَأَهْلُ الشَّامِ، ثُمَّ مَعَ المُطَاوَلَةِ تَمَكَّنَ مُعَاوِيَةُ وَصَارَ الأَمْرُ إِلَيْهِ كَمَا تَفَاءَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَاسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، وَهَذَا مِنَ الأَمْرِ العَجَبِ، وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ.

 

37- فضائل معاوية، ونقلة جديدة في التاريخ الإسلامي

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَّا وَإِنَّ الْإِيمَانَ - حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ – بِالشَّامِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.

فَبَعْدَ أَنْ تَنَازَلَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - صَاحِبُ الفَضَائِلِ الكَثِيرَةِ وَالمَنَاقِبِ الكَبِيرَةِ - عَنِ الخِلَافَةِ، وَسَلَّمَ المُلْكَ لِمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَاسْتَقَامَ الأَمْرُ؛ كَانَتْ نَقْلَةً جَدِيدَةً فِي التَّارِيخِ الإِسْلَامِيِّ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخِلَافَةُ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ». رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: غَرِيبٌ جِدًّا.

وَبَعْدُ: فَإِنَّ المُؤْمِنَ يُسَلِّمُ للهِ التَّسْلِيمَ الكَامِلَ.

قَالَ تَعَالَى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ).

وَقَالَ تَعَالَى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ).

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَاهْدِ بِهِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ»، وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ، وَقَدْ صُحِّحَ.

 

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَضْلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، خَالُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَاتِبُ وَحْيِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ قَالَ: أَسْلَمْتُ يَوْمَ عُمْرَةِ القَضَاءِ، وَلَكِنِّي كَتَمْتُ إِسْلَامِي مِنْ أَبِي إِلَى يَوْمِ الْفَتْحِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَآلَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ قُرَيْشٍ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، فَكَانَ هُوَ أَمِيرَ الْحُرُوبِ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَكَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا ذَا مَالٍ جَزِيلٍ، وَلَمَّا أَسْلَمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: وَمُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ، قَالَ: «نَعَمْ».

وَالْمَقْصُودُ أَنْ مُعَاوِيَةَ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ غَيْرِهِ مِنْ كُتَّابِ الْوَحْيِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

وَلَمَّا فُتِحَتِ الشَّامُ وَلَّاهُ عُمَرُ نِيَابَةَ دِمَشْقَ بَعْدَ أَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَادَهُ بِلَادًا أُخْرَى، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْقُبَّةَ الْخَضْرَاءَ بِدِمَشْقَ وَسَكَنَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ. انتهى.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ؛ اسْتَعْمَلَ أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِرَاسَةً، وَأَخْبَرِهِمْ بِالرِّجَالِ.

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: "حَسْبُكَ بِمَنْ يُؤَمِّرُهُ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ عَلَى إِقْلِيمٍ - وَهُوَ ثَغرٌ - فَيَضْبِطُهُ وَيَقُومُ بِهِ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَيَرْضَى النَّاسُ بِسَخَائِهِ وَحِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ تَأَلَّمَ مَرَّةً مِنْهُ، وَكَذَلِكَ فَلْيَكُنِ المُلْكُ".

 

38- شَعْرَة معاوية

عَنْ أُمِّ حَرَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ، قُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَفِي فَتْحِ البَارِي قَوْلُهُ: "قَدْ أَوْجَبُوا"؛ أَيْ: "فَعَلُوا فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُمْ بِهِ الجَنَّةِ".

فَالْغَزْوَةُ الْأُولَى فِي الْبَحْرِ كَانَتْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حِينَ غَزَا قُبْرُصَ وَهُوَ نَائِبُ الشَّامِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ.

وَالْغَزْوَةُ الثَّانِيَةُ غَزْوَةُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ مَعَ أَوَّلِ جَيْشٍ غَزَاهَا، وَكَانَ أَمِيرُهَا يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ.

وَقَدْ جَمَعَ اللهُ لِمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَضَائِلَ وَمَنَاقِبَ تُذْكَرُ فَتُشْكَرُ، وَتُرْوَى وَلَا تُطْوَى، فِي مَجَالِ العِلْمِ، وَالسِّيَاسَةِ، وَالدَّعْوَةِ، وَالجِهَادِ، وَغَيْرِهَا.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي أَمِيرِ المُؤْمنِيِنَ مُعَاوِيَةَ: "إِنَّهُ فَقِيهٌ"، وَكَانَ يَقُولُ: "مَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَانَ أَخْلَقَ لِلْمُلْكِ مِنْ مُعَاوِيَةَ".

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، وَكَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ.

وَمِنْ مَنَاقِبِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سِيَاسَتُهُ النَّاسَ سِيَاسَةً حَكِيمَةً رَشِيدَةً، وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مُلْكٌ مِنْ زَلَّةٍ.

حُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَيْفَ حَكَمْتَ الشَّامَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَمْ تَحْدُثْ فِتْنَةٌ؟ فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَضَعُ سَيْفِي حَيْثُ يَكْفِينِي سَوْطِي، وَلَا أَضَعُ سَوْطِي حَيْثُ يَكْفِينِي لِسَانِي، وَلَوْ أَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ شَعْرَةً مَا انْقَطَعَتْ، كَانُوا إِذَا مَدُّوهَا أَرْخَيْتُهَا، وَإِذَا أَرْخَوْهَا مَدَدْتُهَا».

وَمِنْ مَنَاقِبِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَاتَلَ الخَوَارِجَ لَمَّا خَرَجُوا عَلَيْهِ حَتَّى أَخْمَدَ نَارَهُمْ.

وَمِنْ مَنَاقِبِهِ: غَزْوُ الرُّومِ صَيْفًا وَشِتَاءً.

عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسِيرُ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَذَكَرُوا الشَّامَ، فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ نَسْتَطِيعُ الشَّامَ وَفِيهِ الرُّومُ؟! قَالَ: وَمُعَاوِيَةُ فِي القَوْمِ وَبِيَدِهِ عَصَا، فَضَرَبَ بِهَا كَتِفَ مُعَاوِيَةَ، وَقَالَ: "يَكْفِيكُمُ اللهُ بِهَذَا". قَالَ الذَّهَبِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ قَوِيٌّ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ غَازِيَةٌ تَغْزُو، حَتَّى كَانَ عَامُ الجَمَاعَةِ، فَأَغْزَا مُعَاوِيَةُ أَرْضَ الرُّومِ سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً، تَذْهَبُ سَرِيَّةٌ فِي الصَّيْفِ وَيُشَتُّوا بِأَرْضِ الرُّومِ، ثُمَّ تَقْفِلُ وَتَعْقُبُهَا أُخْرَى.

قَالَ الذَّهَبِيُّ: "وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرًا مِنْهُ بِكَثِيرٍ وَأَفْضَلَ وَأَصْلَحَ، فَهَذَا الرَّجُلُ سَادَ وَسَاسَ العَالَمَ بِكَمَالِ عَقْلِهِ، وَفَرْطِ حِلْمِهِ، وسَعَةِ نَفْسِهِ، وَقُوَّةِ دَهَائِهِ وَرَأْيِهِ ... وَكَانَ مُحَبَّبًا إِلَى رَعِيَّتِهِ، عَمِلَ فِي نِيَابَةِ الشَّامِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَالخِلَافَةِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَهْجُهُ أَحْدٌ فِي دَوْلَتِهِ؛ بَلْ دَانَتْ لَهُ الأُمَمُ، وَحَكَمَ عَلَى العَرَبِ وَالعَجَمِ، وَكَانَ مُلْكُهُ عَلَى الحَرَمَيْنِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ وَالعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَفَارِسَ وَالجَزِيرَةِ وَاليَمَنِ وَالمَغْرِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ". انتهى.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَالسُنَّةُ أَنْ يُقَالَ لِمُعَاوِيَةَ: مَلِكٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ: خَلِيفَةٌ؛ لِحَدِيثِ سَفِينَةَ.

وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "كَانَتْ إِمَارَةُ مُعَاوِيَةَ مُلْكًا وَرَحْمَةً، وَبَعْدَهُ وَقَعَ مُلْكٌ عَضُوضٌ".

 

39- لا تَذْكُروا معاوية إلا بخير

قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي فَضْلِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حَدِيثُ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ كَانَ كَاتِبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ أَسْلَمَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.

وَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ المَيْمُونِيُّ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كُلُّ صِهْرٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ، إِلَّا صِهْرِي وَنَسَبِي)؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: وَهَذِهِ لِمُعَاوِيَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَهُ صِهْرٌ وَنَسَبٌ، قَالَ: وَسَمِعْتُ ابْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: مَا لَهُمْ وَلِمُعَاوِيَةَ؟!، نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لَا تَذْكُرُوا مُعَاوِيَةَ إِلَّا بِخَيْرٍ".

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي: اسْمَعْ يَا زُهْرِيُّ، مَنْ مَاتَ مُحِبًّا لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَشَهِدَ لِلْعَشَرَةِ بِالجَنَّةِ، وَتَرَحَّمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُنَاقِشَهُ الحِسَابَ.

وَقَالَ المَيْمُونِيُّ: قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَا أَبَا الحَسَنِ، إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا يَذْكُرُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ بِسُوءٍ فَاتَّهِمْهُ عَلَى الإِسْلَامِ.

وَقَالَ الفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ تَنَقَّصَ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرَو بْنَ العَاصِ، أَيُقَالُ لَهُ: رَافِضِيٌّ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجْتَرِئْ عَلَيْهِمَا إِلَّا وَلَهُ خَبِيئَةُ سُوءٍ، مَا انْتَقَصَ أَحَدٌ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا وَلَهُ دَاخِلَةُ سُوءٍ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: "مَا رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ ضَرَبَ إِنْسَانًا قَطُّ، إِلَّا إِنْسَانٌ شَتَمَ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُ ضَرَبَهُ أَسْوَاطًا.

وَقَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ: "مَنْ شَتَمَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ مُعَاوِيَةَ أَوْ عَمْرَو بْنَ العَاصِ؛ فَإِنْ قَالَ: كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ وَكُفْرٍ: قُتِلَ، وَإِنْ شَتَمَهُمْ بِغَيْرِ هَذَا مِنْ مُشَاتَمَةِ النَّاسِ: نُكِلَ نَكَالًا شَدِيدًا".

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: سُئِلَ ابْنُ المُبَارَكِ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ مُعَاوِيَةُ أَوْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ؟ فَقَالَ: "لَتُرَابٌ فِي مِنْخَرَيْ مُعَاوِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرٌ وَأَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ".

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ المَرْوَذِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: مُعَاوِيَةُ أَوْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ؟ فَقَالَ: مُعَاوِيَةُ أَفْضَلُ، لَسْنَا نَقِيسُ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا.

قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: مُعَاوِيَةُ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنَ العُلَمَاءِ الكِبَارِ.

وَسُئِلَ المُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: مُعَاوِيَةُ أَوْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ؟ فَغَضِبَ، وَقَالَ لِلسَّائِلِ: أَتَجْعَلُ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ مِثْلَ رَجُلٍ مِنَ التَّابِعِينَ؟ مُعَاوِيَةُ صَاحِبُهُ وَصِهْرُهُ وَكَاتِبُهُ وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِ اللهِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَعُوا لِي أَصْحَابِي وَأَصْهَارِي، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

وَقَالَ: مُعَاوِيَةُ أَفْضَلُ مِنْ سِتِّمِائَةٍ مِثْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ.

وَرَوَى البَيْهَقِيُّ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: الخُلَفَاءُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ. فَقِيلَ لَهُ: فَمُعَاوِيَةُ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَحَقَّ بِالخِلَافَةِ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ مِنْ عَلِيٍّ، رَحِمَ اللهُ مُعَاوِيَةَ.

 

40- وفاة معاوية، ومبايعة وَلَدِه يَزِيد

أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، قَالَ: فَمَا الَّذِي يَجْعَلُكَ يَا مِسْوَرُ أَحَقَّ بِأَنْ تَرْجُوَ أَنْتَ المَغْفِرَةَ مِنِّي، فَوَاللهِ لَمَا إِلَيَّ مِنْ إِصْلَاحِ الرَّعَايَا، وَإِقَامَةِ الحُدُودِ، وَالإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالأُمُورِ  العِظَامِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ وَلَا نُحْصِيهَا: أَكْثَرُ مِنَ العُيُوبِ وَالذُّنُوبِ، وَإِنِّي لَعَلَى دِينٍ يَقْبَلُ اللهُ فِيهِ الحَسَنَاتِ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ.

قَالَ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ لِي مَا قَالَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ خَصَمَنِي. قَالَ: فَكَانَ المِسْوَرُ إِذَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَعَا لَهُ بِخَيْرٍ. انتهى.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَلَمْ تَزَلِ الفُتُوحَاتُ وَالجِهَادُ قَائِمًا عَلَى سَاقِهِ فِي أَيَّامِهِ فِي بِلَادِ الرُّومِ وَالفِرِنْجِ وَغَيْرِهَا.

فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ مَا كَانَ، لَمْ يَقَعْ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ فَتْحٌ بِالكُلِّيَّةِ، لَا عَلَى يَدَيْهِ وَلَا عَلَى يَدَيْ عَلِيٍّ، وَطَمِعَ فِي مُعَاوِيَةَ مَلِكُ الرُّومِ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ أَخْشَاهُ وَأَذَلَّهُ، وَقَهَرَ جُنْدَهُ وَدَحَرَهُمْ.

فَلَمَّا رَأَى مَلِكُ الرُّومِ اشْتِغَالَ مُعَاوِيَةَ بِحَرْبِ عَلِيٍّ تَدَانَى إِلَى بَعْضِ البِلَادِ فِي جُنُودٍ عَظِيمَةٍ وَطَمِعَ فِيهِ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِ: وَاللهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ وَتَرْجِعْ إِلَى بِلَادِكَ يَا لَعِينُ؛ لَأَصْطَلِحَنَّ أَنَا وَابْنُ عَمِّي عَلَيْكَ، وَلَأُخْرِجَنَّكَ مِنْ جَمِيعِ بِلَادِكَ، وَلَأُضَيِّقَنَّ عَلَيْكَ الأَرْضَ بِمَا رَحُبَتْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ خَافَ مَلِكُ الرُّومِ وَانْكَفَّ، وَبَعَثَ يَطْلُبُ الهُدْنَةَ". انتهى.

وَكَانَ مُعَاوِيَةُ لَمَّا صَالَحَ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَهِدَ لَهُ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ، عَقَدَ مُعَاوِيَةُ الْبَيْعَةَ لِوَلَدِهِ يَزِيدَ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ بِذَلِكَ، فَبَايَعَ لَهُ النَّاسُ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، إِلَّا مَا قِيلَ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ وَهَؤُلَاءِ حُضُورٌ تَحْتَ مِنْبَرِهِ، وَبَايَعَ النَّاسُ لِيَزِيدَ وَهُمْ قُعُودٌ، وَلَمْ يُوَافِقُوا وَلَمْ يُظْهِرُوا خِلَافًا.

وَقَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ فِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ: إِنِّي خِفْتُ أَنْ أَذَرَ الرَّعِيَّةَ مِنْ بَعْدِي - يَعْنِي إِنْ تَرَكْتُهَا شُورَى - كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ، لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا بَايَعَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ بَايَعْتُهُ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ.

وَرُوي عَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي وَلَّيْتُهُ لِأَنَّهُ فِيمَا أَرَاهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ؛ فَأَتْمِمْ لَهُ مَا وَلَّيْتُهُ، وَإِنْ كُنْتُ وَلَّيْتُهُ لِأَنِّي أُحِبُّهُ؛ فَلَا تُتْمِمْ لَهُ مَا وَلَّيْتُهُ.

وَتُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِدِمَشْقَ، لَيْلَةَ الخَمِيسِ، لِلنِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ، سَنَةَ سِتِّينَ، وَقَدْ جَاوَزَ عُمْرُهُ الثَّمَانِينَ، فَرَحِمَهُ اللهُ، وَغَفَرَ لَهُ، وَعَفَا عَنْهُ.

 

41 – بِدَايَةُ عَهْدِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ

وَبَعْدَ أَنْ بُويِعَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِالإِمْرَةِ بَعْدَ أَبِيهِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، وَكَانَ ابْنَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، أَقَرَّ نُوَّابَ أَبِيهِ عَلَى الْأَقَالِيمِ، وَاهْتَمَّ بِبَيْعَةِ النَّفَرِ الَّذِينَ أَبَوْا عَلَى أَبِيهِ الْبَيْعَةَ لَهُ بِوِلَايَةِ العَهْدِ، فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِ الْمَدِينَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: أَمَّا بَعْدُ، فَخُذْ حُسَيْنًا، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ بِالْبَيْعَةِ. فَبَايَعَ ابْنُ عُمَرَ مَعَ النَّاسِ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُمَا قَدِمَا مَكَّةَ.

وَلَمَّا عَزَلَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَأَضَافَهَا إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَمِيرِ مَكَّةَ: انْتَقَلَ عَمْرٌو إِلَى المَدِينَةِ، وَجَعَلَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ لِحَرْبِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَوَارِيِّ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - وَابْنِ عَمَّتِهِ. وَهُوَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَمِنَ العُلَمَاءِ الكِبَارِ المُجَاهِدِينَ العُبَّادِ. ذُكِرَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ، عَفِيفٌ فِي الإِسْلَامِ، أَبُوهُ الزُّبَيْرُ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ، وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّتُهُ خَدِيجَةُ، وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ، وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ أَبَا شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيَّ، قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ حَدِيثًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهَا لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ قَدْ صَارَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ». وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ - فِيهَا، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ»، فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لَكَ؟ فَقَالَ: قَالَ لِي: نَحْنُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ.

 

42- تَمَكُّنُ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ مَكَّةَ، وَعَزْمُ الحُسَيْنِ عَلَى المَسِيرِ لِلْعِرَاقِ

لَقَدْ شَغَلَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ إِصْرَارُ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَلَى تَرْكِ مُبَايَعَتِهِ، وَقَدْ بَايَعَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ، وَكَانُوا جَمِيعًا قَدْ تَوَقَّفُوا عَنْ مُبَايَعَتِهِ وَلِيًّا لِلْعَهْدِ.

وَالأَطَمُّ عَلَى يَزِيدَ تَمَكُّنُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقُوَّتُهُ فِي مَكَّةَ؛ فَبُعُوثُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ إِلَيْهِ بَاءَتْ بِالفَشَلِ، وَأَثْبَتَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وُجُودَهُ بِانْتِصَارِهِ عَلَى سَرَايَاهُ.

وَالطَّامَّةُ الأُخْرَى الَّتِي تُوَاجِهُ يَزِيدَ: تَحَرُّكُ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سِبْطِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاحِبِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدَدِ، فِي عِدَادِ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَالنَّاسُ لَا تُقَدِّمُ عَلَيْهِ أَحَدًا، وَقَدْ جَاءَتْهُ الكُتُبُ مِنَ العِرَاقِ تَدْعُوهُ إِلَى المَجِيءِ إِلَيْهِمْ؛ لِمُبَايَعَتِهِ بَدَلًا مِنْ مُبَايَعَةِ يَزِيدَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ ابْنَ عَمِّهِ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْعِرَاقِ، لِيَكْشِفَ لَهُ حَقِيقَةَ هَذَا الْأَمْرِ وَالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَ مُتَحَتِّمًا وَأَمْرًا حَازِمًا مُحْكَمًا بَعَثَ إِلَيْهِ لِيَرْكَبَ فِي أَهْلِهِ وَذَوِيهِ، وَيَأْتِيَ الْكُوفَةَ لِيَظْفَرَ بِمَنْ يُعَادِيهِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ بِذَلِكَ، فَسَارَ مُسْلِمٌ فَتَسَامَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِقُدُومِهِ، فَجَاءُ عَدَدٌ كَبِيرٌ إِلَيْهِ فَبَايَعُوهُ عَلَى إِمْرَةِ الْحُسَيْنِ، فَكَتَبَ مُسْلِمٌ إِلَى الحُسَيْنِ لِيَقْدَمَ عَلَيْهَا؛ فَقَدْ تَمَهَّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ وَالْأُمُورُ، فَتَجَهَّزَ الْحُسَيْنُ مِنْ مَكَّةَ قَاصِدًا الْكُوفَةَ.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اسْتَشَارَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي الْخُرُوجِ، فَقُلْتُ: لَوْلَا أَنْ يُزْرِيَ بِي وَبِكَ النَّاسُ لَشَبَّثْتُ يَدِي فِي رَأْسِكَ فَلَمْ أَتْرُكْكَ تَذْهَبُ، إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَوْمٌ غُدُرٌ، فَلَا تَغْتَرَّنَّ بِهِمْ! فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا ابْنَ عَمِّ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ نَاصِحٌ شَفِيقٌ، وَلَكِنِّي قَدْ أَزْمَعْتُ الْمَسِيرَ، فَقَالَ لَهُ: فَإِنْ كُنْتَ وَلَا بُدَّ سَائِرًا فَلَا تَسْرِ بِأَوْلَادِكَ وَنِسَائِكَ، فَوَاللهِ إِنِّي لَخَائِفٌ أَنْ تُقْتَلَ كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ وَنِسَاؤُهُ، وَوَلَدُهُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.

وكَتَبَ يَزِيدُ إِلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَالِي الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ أَنِ اطْلُبْ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، فَإِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ أَوِ انْفِهِ.

وَبَعْدَ أَنْ تَخَلَّى عَنْ مُسْلِمٍ أَهْلُ العِرَاقِ تَمَكَّنَ عُبَيْدُ اللهِ مِنَ القَبْضِ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا وَهُوَ أَسِيرٌ قَدْ بَعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ يأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ، فَلَمْ يُصَدِّقِ الْحُسَيْنُ الرَّسُولَ فِي ذَلِكَ.

 

43- إِصْرَارُ الحُسَيْنِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَلَى الخُرُوجِ لِلْعِرَاقِ

عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَحِقَهُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْعِرَاقَ، وَإِذَا مَعَهُ طَوَامِيرُ وَكُتُبٌ، فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبُهُمْ وَبَيْعَتُهُمْ، فَقَالَ: لَا تَأْتِهِمْ، فَأَبَى. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا، إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ وَلَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا، وَإِنَّكَ بَضْعَةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ، وَاللهِ مَا يَلِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ أَبَدًا، وَمَا صَرَفَهَا اللَّهُ عَنْكُمْ إِلَّا لِلَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَأَبَى أَنْ يَرْجِعَ.

قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ ابْنُ عُمَرَ وَبَكَى، وَقَالَ: أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ مِنْ قَتِيلٍ.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَا، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْتُ الْحُسَيْنَ مَا تَرَكْتُهُ يَخْرُجُ إِلَّا أَنْ يَغْلِبَنِي، بِبَنِي هَاشِمٍ فُتِحَ هَذَا الأَمْرُ، وَبِبَنِي هَاشِمٍ يُخْتَمُ، فَإِذَا رَأَيْتَ الْهَاشِمِيَّ قَدْ مَلَكَ فَقَدْ ذَهَبَ الزَّمَانُ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قُلْتُ: وَهَذَا مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الفَاطِمِيِّينَ أَدْعِيَاءُ كَذَبَةٌ، لَمْ يَكُونُوا مِنْ سُلَالَةِ فَاطِمَةَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ.

وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنِ الحُسَيْنِ، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَتَتْنِي بَيْعَةُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ وَالعَتَاقِ إِنَّهُمْ مَعِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَتَخْرُجُ إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا أَبَاكَ وَأَخْرَجُوا أَخَاكَ؟

وَأَشَارَ عَلَيْهِ آخَرُونَ بِأَنْ لَا يَخْرُجَ فَاعْتَذَرَ، فَلَمَّا خَرَجَ أَشَارَ عَلَيْهِ نَاصِحُونَ بِأَنْ يَرْجِعَ فَمَا رَجَعَ؛ حَيْثُ عَشَرَاتُ الآلَافِ تَنْتَظِرُهُ، قَالَ تَعَالَى: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۗ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

فَوَاصَلَ السَّيْرَ إِلَى الكُوفَةِ، وَمَا عَلِمَ بِخِذْلَانِ مَنْ وَعَدُوهُ وَبَايَعُوهُ، فَتَخَلَّفُوا عَنْهُ إِمَّا خَوْفًا، أَوْ لِاسْتِمَالَةٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُ الصَّادِقُونَ: إِنَّ قُلُوبَ أَهْلِ الكُوفَةِ مَعَكَ، وَسُيُوفَهُمْ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ.

وَلَمَّا انْتَدَبَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّ يَزِيدَ وَوَالِيهِ عَلَى العِرَاقِ - عُمَرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لِقِتَالِ الحُسَيْنِ وَأَنْصَارِهِ؛ لَقِيَهُ بِكَرْبِلَاءَ، وَدَارَ بَيْنَهُمَا وَبَقِيَّةِ القَادَةِ الحِوَارُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعَ لِعَدَمِ صِدْقِ أَهْلِ الكُوفَةِ فِيمَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ بَعْضُهُمْ، وَأَصَرُّوا إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ ابْنِ زِيَادٍ، فَأَبَى الحُسَيْنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَخَطَبَ فِيمَنْ مَعَهُ بِأَنْ يَعُودُوا فِي جُنْحِ الظَّلَامِ فَإِنَّهُ مَقْصُودٌ.

فَرَجَعَ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَحِقَ بِهِ، وَثَبَتَ مَنْ خَرَجَ مَعَهُ، وَدَافَعُوا عَنْهُ دِفَاعًا مُسْتَمِيتًا، وَفَدَوْهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَظْهَرُوا لَهُ أَنَّ البَقَاءَ بَعْدَهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَتَهَيَّبَ غَالِبُ عَسْكِرِ عُمَرَ مِنْ أَذِيَّتِهِ، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَصَدَهُ بِسُوءٍ، وَاشْتَبَكَ الفَرِيقَانِ حَتَّى قُتِلَ بَيْنَ يَدَيِ الحُسَيْنِ عَدَدٌ مِنْ آلِ البَيْتِ وَمِنْ أَنْصَارِهِ، وَاشْتَدَّتِ الأُمُورُ، وَتَأَزَّمَ الوَضْعُ، إِلَى أَنْ قُتِلَ الحُسَيْنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ، سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً تَقْرِيبًا، فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَعَنْ آلِهِ وَأَنْصَارِهِ.

 

44- اسْتِشْهَادُ الحُسَيْنِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – وَنَفَرٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي المَنَامِ نِصْفَ النَّهَارِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، مَعَهُ قَارُورَةٌ فِيهَا دَمٌ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا دَمُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ، لَمْ أَزَلْ أَلْتَقِطُهُ مُنْذُ الْيَوْمِ». قَالَ عَمَّارٌ: فَأَحْصَيْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ.

وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ شِبْهٌ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَقَالَ غَيْرُهُ: قُتِلَ مَعَهُ مِنْ وَلَدِهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا؛ فَمِنْ أَوْلَادِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَعْفَرٌ، وَالْحُسَيْنُ، وَالْعَبَّاسُ، وَمُحَمَّدٌ، وَعُثْمَانُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَمِنْ أَوْلَادِ الْحُسَيْنِ: عَلِيٌّ الْأَكْبَرُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَمِنْ أَوْلَادِ أَخِيهِ الْحَسَنِ: ثَلَاثَةٌ؛ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ، وَأَبُو بَكْرٍ بَنُو الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمِنْ أَوْلَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: اثَنَانِ؛ عَوْنٌ، وَمُحَمَّدٌ، وَمِنْ أَوْلَادِ عَقِيلٍ: جَعْفَرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَمُسْلِمٌ قُتِلَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ لِصُلْبِهِ، واثَنَانِ آخَرَانِ هُمَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعِيدِ بْنِ عَقِيلٍ، فَكَمَلُوا سِتَّةً مِنْ وَلَدِ عَقِيلٍ".

وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَهْلِهِ وَنِسَائِهِ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ أَرْكَبَهُمْ فِي الْهَوَادِجِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَأَكْرَمَهُمُ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِمْ إِلَى يَزِيدَ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَحَمَلَهُمْ إِلَى المَدِينَةِ.

وَقَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقِيلَ: زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، هَذِهِ الْأَبْيَاتَ:

مَاذَا تَقُولُونَ إِنْ قَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ ... مَاذَا فَعَلْتُمْ وَأَنْتُمْ آخِرُ الْأُمَمِ

بِعِتْرَتِي وَبِأَهْلِي بَعْدَ مُفْتَقَدِي ... مِنْهُمْ أُسَارَى وَمِنْهُم ضُرِّجُوا بِدَمِ؟

مَا كَانَ هَذَا جَزَائِي إِذْ نَصَحْتُ لَكُمْ ... أَنْ تَخْلُفُونِي بِسُوءٍ فِي ذَوِي رَحِمِ

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ - يَعْنِي وَالِي العِرَاقِ - بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَرَوَى الْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَعَلَ يَنْكُتُ بِالقَضِيبِ ثَنَايَاهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَسُوءَنَّكَ: «إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْثَمُ حَيْثُ يَقَعُ قَضِيبُكَ». قَالَ: فَانْقَبَضَ.

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ وَأَصْحَابِهِ فَنُصِبَتْ فِي المَسْجِدِ فِي الرَّحْبَةِ، فَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ جَاءَتْ تَتَخَلَّلُ الرُّءُوسَ، حَتَّى دَخَلَتْ فِي مِنْخَرَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ بَعْدَهَا فِي رَأْسِ الحُسَيْنِ؛ هَلْ سَيَّرَهُ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى الشَّامِ إِلَى يَزِيدَ أَمْ لَا، عَلَى قَوْلَيْنِ، الأَظْهَرُ مِنْهُمَا أَنَّهُ سَيَّرَهُ إِلَيْهِ.

قَالَ: وَلَقَدْ بَالَغَ الشِّيعَةُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَوَضَعُوا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنَ الأَحَادِيثِ وَالْفِتَنِ الَّتِي أَصَابَتْ مَنْ قَتَلَهُ؛ فَأَكْثَرُهَا صَحِيحٌ، وَلِلشِّيعَةِ وَالرَّافِضَةِ فِي صِفَةِ مَصْرَعِ الْحُسَيْنِ كَذِبٌ كَثِيرٌ، وَأَخْبَارٌ بَاطِلَةٌ. انتهى.

 

45- الحُسَيْنُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ وَالنَّوَاصِبِ

عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَسَأَلَهُ عَنِ المُحْرِمِ؟ قَالَ شُعْبَةُ: أَحْسِبُهُ يَقْتُلُ الذُّبَابَ، فَقَالَ: أَهْلُ العِرَاقِ يَسْأَلُونَ عَنِ الذُّبَابِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا). رواه البخاري.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَصَائِبِ - يَعْنِي قَتْلَ الحُسَيْنِ وَمَنْ مَعَهُ – وَأَمْثَالِهَا: مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ عَنْ جَدِّهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَتَذَكَّرُهَا، وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا، فَيُحْدِثُ لَهَا اسْتِرْجَاعًا، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ يَوْمِ أُصِيبَ مِنْهَا». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللهُ عَنْهُ -: الحَدِيثُ ضَعِيفُ الإِسْنَادِ، وَأَمَّا الاسْتِرْجَاعُ فَقَدْ مَدَحَ اللهُ أَهْلَهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّ مَوْضِعَ قَتْلِ الحُسَينِ عَفَى أَثَرُهُ، حَتَّى لَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ عَلَى تَعْيِينِهِ بِخَبَرٍ.

وَقَدْ كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ، الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْرِفُ قَبْرَ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلَقَدْ أَضَلَّ اللهُ الرَّوَافِضَ وَالنَّوَاصِبَ عَنِ الحَقِّ، وَهَدَى إِلَيْهِ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ؛ حَيْثُ إِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَوَدُّونَ أَنَّ الحُسَيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَمْ يَسْتَجِبْ لِأَهْلِ الكُوفَةِ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى قَاتِلِيهِ وَلَوْ بِتَأْوِيلِ قَتْلِهِ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ النُّزُولُ إِلَى إِحْدَى الخِصَالِ الَّتِي دَعَاهُمْ إِلَيْهَا، وَمِنْهَا: الرُّجُوعُ. وَيَتَرَضَّوْنَ عَنْهُ وَعَنِ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الحُسَيْنَ قُتِلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ شَهِيدًا مَظْلُومًا، وَيُنْكِرُونَ عَلَى الرَّوَافِضِ تَحْوِيلَهُمْ لِيَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا يُعَذِّبُونَ فِيهِ أَنْفُسَهُمْ بِأَبْشَعِ الصُّوَرِ، وَمَا أَحْدَثُوا فِيهِ مِنَ المُحْدَثَاتِ الَّتِي يُنْكِرُهَا النَّقْلُ وَالعَقْلُ، وَكَذَلِكَ يُنْكِرُونَ عَلَى النَّوَاصِبِ تَحْوِيلَهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ عِيدًا.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْزِنَهُ قَتْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ بْناتِهِ، وَقَدْ كَانَ عَابِدًا وَشُجَاعًا وَسَخِيًّا، وَلَكِنْ لَا يَحْسُنُ مَا يَفْعَلُهُ الشِّيعَةُ مِنْ إِظْهَارِ الْجَزَعِ وَالْحُزْنِ، الَّذِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُ تَصَنُّعٌ وَرِيَاءٌ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ أَفْضَلَ مِنْهُ فَقُتِلَ، وَهُمْ لَا يَتَّخِذُونَ مَقْتَلَهُ مَأْتَمًا كَيَوْمِ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

 

46- ثَوْرَةُ أَهْلِ الحِجَازِ، وَالتَّحْرِيضُ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ

وَلَمَّا بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، خَطَبَ فِي النَّاسِ يَحُثُّهُمْ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ، فَبَايَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَاتَبَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ، فَجُلُّ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْحِجَازِ مَالَئُوهُ وَأَحَبُّوهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ شَقَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ أَمِيرَ الحَرَمَيْنِ، لَوْ شَاءَ لَبَعَثَ إِلَيْكَ بِرَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَوْ يُخْرِجُهُ مِنَ الْحَرَمِ المَكِّيِّ، فَعَزَلَهُ يَزِيدُ وَوَلَّى الوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مَكَانَهُ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ابْنَ عَمِّ يَزِيدَ.

وَثَارَ بِالْيَمَامَةِ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَنَفِيُّ، وَخَالَفَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَكَذَلِكَ ثَارَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَمَّا بَلَغَهُمْ عَنْ يَزِيدَ هَذِهِ الأُمُورُ المُنْكَرَةُ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ بَعَثَ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَنْهَاهُمْ عَمَّا صَنَعُوا، وَيَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَانْصَرَفَ.

وَمِمَّا كَتَبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ: "ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ، وَكَانَ سَبَبَهَا أَنَّ أَهْلَ المَدِينَةِ لَمَّا خَلَعُوا يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَوَلَّوْا عَلَى قُرَيْشٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ، وَعَلَى الْأَنْصَارِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ، فَلَمَّا كَانَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ أَظْهَرُوا ذَلِكَ.

وَاعْتَزَلَ النَّاسَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ «زَيْنُ الْعَابِدِينَ»، وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَلَمْ يَخْلَعَا يَزِيدَ. وَقَدْ سُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَامْتَنَعَ، وَنَاظَرَهُمْ وَجَادَلَهُمْ فِي يَزِيدَ.

وَكَتَبَ بَنُو أُمَيَّةَ إِلَى يَزِيدَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَصْرِ وَالْإِهَانَةِ، فَبَعَثَ يَزِيدُ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ رَجَلٍ، وَقَالَ يَزِيدُ لِمُسْلِمٍ: ادْعُ القَوْمَ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ فَأَبِحِ المَدِينَةَ ثَلَاثًا، ثُمَّ اكْفُفْ عَنِ النَّاسِ.

فَنَزَلَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ فِي الْحَرَّةِ، وَدَعَا أَهْلَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَوْنَ إِلَّا الْمُحَارَبَةَ وَالْمُقَاتَلَةَ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا.

وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ مِنَ السَّادَاتِ وَالْأَعْيَانِ؛ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ، ثُمَّ أَبَاحَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ - الَّذِي يَقُولُ فِيهِ السَّلَفُ: مُسْرِفُ بْنُ عُقْبَةَ قَبَّحَهُ اللهُ - الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا أَمَرَهُ يَزِيدُ، لَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَشْرَافِهَا وَقُرَّائِهَا، وَانْتَهَبَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً مِنْهَا، وَوَقَعَ شَرٌّ عَظِيمٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ". انتهى.

وَاللهُ أَعْلَمُ.

 

47- قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي يَزِيدَ

عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ، حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الحَرَّةِ مَا كَانَ، زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: اطْرَحُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكَ لِأَجْلِسَ، أَتَيْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيْتَةً جَاهِلِيَّةً). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "أَخْرَجَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَ أَهْلِ المَدِينَةِ يَتَحَدَّثُونَ ... لَمَّا وَلِيَ يَزِيدُ وَفَدَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ حَنْظَلَةَ وَجَمَاعَةٌ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَجَازَهُمْ، فَرَجَعَ فَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى يَزِيدَ، وَعَابَهُ، وَدَعَاهُمْ إِلَى خَلْعِ يَزِيدَ، فَأَجَابُوهُ.

فَبَلَغَ يَزِيدَ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ أَهْلُ المَدِينَةِ بِجُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، فَهَابَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَكَرِهُوا قِتَالَهُمْ، فَلَمَّا نَشِبَ القِتَالُ سَمِعُوا فِي جَوْفِ المَدِينَةِ التَّكْبِيرَ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ أَدْخَلُوا قَوْمًا مِنَ الشَّامِيِّينَ مِنْ جَانِبِ الخَنْدَقِ، فَتَرَكَ أَهْلُ المَدِينَةِ القِتَالَ وَدَخَلُوا المَدِينَةَ خَوْفًا عَلَى أَهْلِهِمْ، فَكَانَتِ الهَزِيمَةُ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَبَايَعَ مُسْلِمٌ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُمْ خَوَلٌ لِيَزِيدَ، يَحْكُمُ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِهِمْ بِمَا شَاءَ".

وَرَوَى الخَلَّالُ عَنْ مُهَنَّى، قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: هُوَ فَعَلَ بِالمَدِينَةِ مَا فَعَلَ، قُلْتُ: وَمَا فَعَلَ؟ قَالَ: قَتَلَ بِالمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَعَلَ، قُلْتُ: وَمَا فَعَلَ؟ قَالَ: نَهَبَهَا" انتهى.

وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "افْتَرَقَ النَّاسُ فِي "يَزِيدَ" بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ثَلَاثَ فِرَقٍ: طَرَفَانِ وَوَسَطٌ ... وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ المُسْلِمِينَ، لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، وَلَمْ يُولَدْ إِلَّا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَكُنْ كَافِرًا؛ وَلَكِنْ جَرَى بِسَبَبِهِ مَا جَرَى مِنْ مَصْرَعِ "الحُسَيْنِ"، وَفَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَهْلِ الحَرَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبًا، وَلَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ الصَّالِحِينَ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ العَقْلِ وَالعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ".

وَقَالَ: "ثُمَّ افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ لَعَنَتْهُ، وَفِرْقَةٌ أَحَبَّتْهُ، وَفِرْقَةٌ لَا تَسُبُّهُ وَلَا تُحِبُّهُ، وَهَذَا هُوَ المَنْصُوصُ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَعَلَيْهِ المُقْتَصِدُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ المُسْلِمِينَ. قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: قُلْتُ لِأَبِي: إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ يُحِبُّونَ يَزِيدَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، وَهَلْ يُحِبُّ يَزِيدَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ؟!". انتهى.

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: "يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ .. لَهُ عَلَى هَنَاتِهِ حَسَنَةٌ، وَهِيَ غَزْوُ القُسْطَنْطِينِيَّةِ وَكَانَ أَمِيرَ ذَلِكَ الجَيْشِ، وَفِيهِمْ مِثْلُ: أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ ... وَيَزِيدُ مِمَّنْ لَا نَسُبُّهُ وَلَا نُحِبُّهُ، وَلَهُ نُظَرَاءُ مِنْ خُلَفَاءِ الدَّوْلَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي مُلُوكِ النَّوَاحِي؛ بَلْ فِيهِمْ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا عَظُمَ الخَطْبُ لِكَوْنِهِ وَلِيَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَالعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالصَّحَابَةُ مَوْجُودُونَ، كَابْنِ عُمَرَ الَّذِي كَانَ أَوْلَى بِالأَمْرِ مِنْهُ، وَمِنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ".

48-

عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلمُسْلِمٍ: «لَا يُرِيدُ أَحَدٌ الْمَدِينَةَ بِسُوءٍ إِلَّا أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ- أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ» وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.

وَبَعْدَ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ بِقَلِيلٍ فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَارَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ إِلَى مَكَّةَ قَاصِدًا قِتَالَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَعَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ، فَسَارَ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِالْجَيْشِ نَحْوَ مَكَّةَ، فَانْتَهَى إِلَيْهَا لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَقَدْ تَلَاحَقَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ جَمَاعَاتٌ مِمَّنْ بَقِيَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ نَجْدَةُ الْحَنَفِيُّ- مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ- لِيَمْنَعُوا الْبَيْتَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَنَزَلَ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ ظَاهِرَ مَكَّةَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنِ الْتَفَّ مَعَهُ، فَاقْتَتَلُوا عِنْدَ ذَلِكَ بَقِيَّةَ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ وَصَفَرًا بِكَمَالِهِ، فَلَمَّا كَانَ رَبِيعٌ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ نَصَبُوا الْمَجَانِيقَ وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ إِلَى مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَجَاءَ النَّاسَ نَعْيُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَأَنَّهُ قَدْ مَاتَ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ ابْنُ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سِنِّهِ وَمَبْلَغِ أَيَّامِهِ فِي الْإِمَارَةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ.

وَانْقَلَبَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى الشَّامِ فَوَجَدُوا مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَدِ اسْتُخْلِفَ مَكَانَ أَبِيهِ بِدِمَشْقَ عَنْ وَصِيَّةٍ مِنْ أَبِيهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ حَدِيثٌ فِي ذَمِّ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

 

 

 

49-

قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَقَالَ تَعَالَى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى مَوَاقِيتِهَا. قَالُوا: مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ إِلَّا عَلَى التَّرْكِ؟ قَالَ: ذَاكَ الْكُفْرُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي بَشِيرُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْخَوْلَانِيُّ، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَكُونُ خَلْفٌ مِنْ بَعْدِ سِتِّينَ سَنَةً أَضَاعُوا الصَّلَاةَ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، ثُمَّ يَكُونُ خَلْفٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةٌ: مُؤْمِنٌ، وَمُنَافِقٌ، وَفَاجِرٌ"، قَالَ بَشِيرٌ فَقُلْتُ لِلْوَلِيدِ: مَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ؟ فَقَالَ: الْمُنَافِقُ كَافِرٌ بِهِ، وَالْفَاجِرُ يَتَأَكَّلُ بِهِ، وَالْمُؤْمِنُ يُؤْمِنُ بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ وَحَسَّنَهُ غَيْرُهُ.

وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمِ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ؟ فَقَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقد خَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْ طَاعَة يَزِيدَ وَخَلَعُوهُ وَوَلَّوْا عَلَيْهِمُ ابْنَ مُطِيعٍ وَابْنَ حَنْظَلَةَ حِينَ بَلَغَهُمْ عَنْهُ بَعْضَ الْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْ أَهَمِّهَا أَمْرُ الصَّلَاةِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بُويِعَ لِوَلِيِّ عَهْدِهِ ابْنِهِ فِي رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ مِنْ صَالِحِ الْقَوْمِ، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ، قِيلَ: إِنَّهُ مَكَثَ فِي الْمُلْكِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَزْيَدَ، وَقِيلَ: كَانَ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ مَرِيضًا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ. وَلَمْ يُوصِ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ، فَلَمَّا مَاتَ حَضَرَ مَرْوَانُ دَفْنَهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ دَفَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ؛ مُعَاوِيَةَ بن يَزِيدَ، فَقَالَ مَرْوَانُ: هُوَ أَبُو لَيْلَى الَّذِي قِيلَ فِيهِ:

إِنِّي أَرَى فِتْنَةً تَغْلِي مَرَاجِلُهَا ... وَالْمُلْكُ بَعْدَ أَبِي لَيْلَى لِمَنْ غَلَبَا

قَالُوا: فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، فَتَغَلَّبَ عَلَى الْحِجَازِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَبَايَعَ أَهْلُ خُرَاسَانَ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ حَتَّى يَتَوَلَّى عَلَى النَّاسِ خَلِيفَةٌ، وَخَرَجَ الْقُرَّاءُ وَالْخَوَارِجُ بِالْبَصْرَةِ وَعَلَيْهِمْ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، وَطَرَدُوا عَنْهُمْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ بَعْدَ مَا كَانُوا بَايَعُوهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَصِيرَ لِلنَّاسِ إِمَامٌ، فَأَخْرَجُوهُ عَنْهُمْ، فَذَهَبَ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ بَايَعُوا بَعْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ الْمَعْرَوفَ بِـ"ببَّةَ"، وَخَرَجَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَنَفِيُّ بِالْيَمَامَةِ، وَخَرَجَ بَنُو مَاحُورَا فِي الْأَهْوَازِ وَفَارِسَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

 

 

50- والله يؤتي ملكه من يشاء

قال تعالى: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ).

وعَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، كَتَبَ إِلَى قَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ حِينَ مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، فِتَنًا كَقِطَعِ الدُّخَانِ، يَمُوتُ فِيهَا قَلْبُ الرَّجُلِ كَمَا يَمُوتُ بَدَنُهُ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ أَقْوَامٌ خَلَاقَهُمْ وَدِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ قَدْ مَاتَ، وَأَنْتُمْ إِخْوَانُنَا، وَأَشِقَّاؤُنَا، فَلَا تَسْبِقُونَا حَتَّى نَخْتَارَ لِأَنْفُسِنَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ.

فَحِينَ تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ، سَاقَ اللهُ المُلْكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالزُّبَيْرُ ابْنُ عَمَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَحَوَارِيُّهُ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُبَيْرِ أَوَّلَ مَوْلُودٍ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالمَدِينَةِ، عِدَادُهُ فِي صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ كَبِيرًا فِي العِلْمِ وَالجِهَادِ وَالعِبَادَةِ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أُخْتُ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَعِنْدَ ابْنِ حَزْمٍ وَطَائِفَةٍ: أَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الحِينِ".

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: "وَبُويِعَ بِالخِلَافَةِ عِنْدَ مَوْتِ يَزِيدَ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَحَكَمَ عَلَى الحِجَازِ، وَاليَمَنِ، وَمِصْرَ، وَالعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ، وَبَعْضِ الشَّامِ، وَلَمْ يَسْتَوْسِقْ لَهُ الأَمْرُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَعُدَّهُ بَعْضُ العُلَمَاءِ فِي أُمَرَاءِ المُؤْمِنِينَ، وَعَدَّ دَوْلَتَهُ زَمَنَ فُرْقَةٍ، فَإِنَّ مَرْوَانَ غَلَبَ عَلَى الشَّامِ، ثُمَّ مِصْرَ، وَقَامَ عِنْدَ مَصْرَعِهِ ابْنُهُ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَحَارَبَ ابْنَ الزُّبَيْرَ، وَقَتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ - رَحِمَهُ اللهُ - فَاسْتَقَلَّ بِالخِلَافَةِ عَبْدُ المَلِكِ وَآلُهُ، وَاسْتَوْسَقَ لَهُمُ الأَمْرُ إِلَى أَنْ قَهَرَهُمْ بَنُو العَبَّاسِ، بَعْدَ مُلْكِ سِتِّينَ عَامًا". انتهى.

وَإِذَا أَرَدْنَا مَعْرِفَةَ تَسَلْسُلِ الأَحْدَاثِ بِاخْتِصَارٍ، فَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحِجَازِ وَمَا وَالَاهَا، وَبَايَعَهُ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ، وَاسْتَوْثَقَ مِنَ البَصْرَةِ، ،وَالكُوفَةِ وَمِصْرَ، وَالجَزِيرَةِ، وَاليَمَنِ، وَخُرَاسَانَ، وَبَايَعَهُ أُنَاسٌ بِالشَّامِ، وَدِمَشْقَ، وَحِمْصَ، وَفِلَسْطِينَ.

وَيُقَالُ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، لَمْ يُبَايِعَا عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ.

وَجَرَتْ حَوَادِثُ وَفِتَنٌ بِالشَّامِ تَمَخَّضَتْ بِالبَيْعَةِ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي العَاصِ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ الشَّامِ وَمِصْرَ بِيَدِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ عَازِمًا عَلَى مُبَايَعَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، لَوْلَا أَنَّ بَعْضَ بَنِي أُمَيَّةَ صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِالإِمْرَةِ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَبَايَعُوهُ، فَتَرَاجَعَ، وَمَرْوَانُ يُعَدُّ فِي صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَمِنَ الفُقَهَاءِ الفُضَلَاءِ.

وَمُدَّةُ إِمْرَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ، سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ عَهِدَ بِوِلَايِةِ العَهْدِ لِابْنَيْهِ عَبْدِ المَلِكِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِعَبْدِ العَزِيزِ.

 

 

51- ما جاء في لَعْنِ الحَكَمِ والد مروان

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: "وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي لَعْنِ الْحَكَمِ، وَالِدِ مَرْوَانَ، وَمَا وَلَدَ. أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ، غَالِبُهَا فِيهِ مَقَالٌ، وَبَعْضُهَا جَيِّدٌ". وَكَذَا صَحَّحَ بَعْضَهَا غَيْرُهُ، وَعَدَّهَا آخَرُونَ أَحَادِيثُ مُنْكَرَةٌ.

قَالَ ابْنُ السَّكَنِ: "يُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلَيْهِ – يَعْنِي: الحَكَمَ - وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ".

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: "وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ مُنْكَرَةٌ فِي لَعْنِهِ، لَا يَجُوزُ الاحْتِجَاجُ بِهَا".

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "قَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّهِ وَلَعْنِهِ أَحَادِيثُ لَا تَثْبُتُ".

وَقَالَ السَّخَاوِيُّ: "وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ مُنْكَرَةٌ فِي لَعْنِهِ، لَا يَجُوزُ الاحْتِجَاجُ بِهَا".

وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فِي المَنَامِ أَنَّ بَنِي الحَكَمِ يَرْقَونَ عَلَى مِنْبَرِهِ وَيَنْزِلُونَ، فَأَصْبَحَ كَالْمُتَغَيِّظِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ بَنِي الْحَكَمِ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِي نَزْوَ الْقِرَدَةِ، فَمَا رُئِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ». وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَسَنَدُهُ إِلَى سَعِيدٍ ضَعِيفٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ.

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: "الحَكَمُ بْنُ أَبِي العَاصِ ابْنِ أُمَيَّةَ الأُمَوِيُّ، ابْنُ عَمِّ أَبِي سُفْيَانَ، يُكْنَى أَبَا مَرْوَانَ، مِنْ مُسْلِمَةِ الفَتْحِ، وَلَهُ أَدْنَى نَصِيبٍ مِنَ الصُّحْبَةِ، قِيلَ: نَفَاهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الطَّائِفِ؛ لِكَوْنِهِ حَكَاهُ فِي مِشْيَتِهِ وَفِي بَعْضِ حَرَكَاتِهِ، فَسَبَّهُ وَطَرَدَهُ فَنَزَلَ بِوَادِي وَجٍّ ... وَيُرْوَى فِي سَبِّهِ أَحَادِيثُ لَمْ تَصِحَّ ... وَقَدْ كَانَ لِلْحَكَمِ عِشْرُونَ ابْنًا وَثَمَانِيَةُ بَنَاتٍ، وَقِيلَ: كَانَ يُفْشِي سِرَّ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبْعَدَهُ لِذَلِكَ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ". انتهى.

وَفِي بَابِ اللَّعْنِ: حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ؛ خَرَّجَهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ صُحِّحَ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ كَذَلِكَ؛ خَرَّجَهُ أَحْمَدُ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ؛ خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، وَفِيهِمَا مَقَالٌ.

وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ وَفُضَلَائِهَا.

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ - وَذَكَرَ مَرْوَانَ يَوْمًا – فَقَالَ: قَالَ مَرْوَانُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَصْبَحْتُ فِيمَا أَنَا فِيهِ، مِنْ إِهْرَاقِ الدِّمَاءِ وَهَذَا الشَّأْنِ.

وَقَالَ ابْنُ خَلْدُونَ: «مَرْوَانُ ابْنُ الحَكَمِ وَابْنُهُ - وَإِنْ كَانُوا مُلُوكًا - لَمْ يَكُنْ مَذْهَبُهُمْ فِي المُلْكِ مَذْهَبَ أَهْلِ البِطَالَةِ وَالبَغْيِ، إِنَّمَا كَانُوا مُتَحَرِّينَ لِمَقَاصِدِ الحَقِّ جَهْدَهُمْ، إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ تَحْمِلُهُمْ عَلَى بَعْضِهَا، مِثْلَ خَشْيَةِ افْتِرَاقِ الكَلِمَةِ، الَّذِي هُوَ أَهَمُّ لَدَيْهِمْ مِنْ كُلِّ مَقْصِدٍ».

 

 

52- إنجازان تاريخيان لعبد الله بن الزبير رضي الله عنه

عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَقَدْ ذَكَرَ العُلَمَاءُ أَنَّ الكَذَّابَ هُوَ المُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ يُظْهِرُ التَّشَيُّعَ وَيُبْطِنُ الكِهَانَةَ، وَأَسَرَّ إِلَى أَخِصَّائِهِ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، وَلَكِنْ مَا أَدْرِي هَلْ كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ أَمْ لَا؟ ... وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ ضَالًّا مُضِلًّا، أَرَاحَ اللهُ المُسْلِمِينَ مِنْهُ بَعْدَ مَا انْتَقَمَ بِهِ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

وَأَمَّا المُبِيرُ فَهُوَ القَتَّالُ، وَهُوَ الحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ". انتهى.

لَقَدْ سَجَّلَ التَّارِيخُ لِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِنْجَازَيْنِ كَبِيرَيْنِ؛ الأَوَّلُ: القَضَاءُ عَلَى الخَوَارِجِ الأَزَارِقَةِ، عَلَى يَدِ المُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ الأَزْدِيِّ، بَعْدَ أَنْ قَامَتْ لَهُمْ قَائِمَةٌ بِالبَصْرَةِ، وَالثَّانِي: قَتْلُ المُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ الكَذَّابِ، وَكَانَتْ لَهُ صَوْلَةٌ وَجَوْلَةٌ بِالكُوفَةِ، وَقَدْ سَلَّطَهُ اللهُ عَلَى قَتَلَةِ الحُسَيْنِ، فَقَتَلَ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، وَقَضَى عَلَى أَعْدَادِهِمْ، ثُمَّ قُتِلَ عَلَى يَدِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَضَى عَلَى فِتْنَتِهِ، وَانْتَصَرَ عَلَى شِيعَتِهِ.

وَمِمَّنْ قُتِلَ عَلَى يَدِ المُخْتَارِ، عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ، وَجِيءَ بِرَأْسِهِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الحَاكِمُ: وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.

وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ الحَسَنِ، أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ: «أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الحُطَمَةُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ؟! إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ، وَفِي غَيْرِهِمْ».

وَعَنِ الحَسَنِ، قَالَ: دَخَلَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ، عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَهُوَ وَجِعٌ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا لَمْ أَكُنْ حَدَّثْتُكَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَسْتَرْعِي اللهُ عَبْدًا رَعِيَّةً، يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ، قَالَ: أَلَا كُنْتَ حَدَّثْتَنِي هَذَا قَبْلَ اليَوْمِ؟ قَالَ: مَا حَدَّثْتُكَ، أَوْ لَمْ أَكُنْ لِأُحَدِّثَكَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ، وَيَنْصَحُ، إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الجَنَّةَ).

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ).

 

 

53- مقتل عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب، رضي الله عنهما

قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)

وَبَعْدَ أَنْ بُويِعَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَمِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ، بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ بِدِمَشْقَ: كَانَ هَاجِسُهُ العِرَاقَ وَالحِجَازَ، فَسَارَ بِنَفْسِهِ قَائِدًا لِجَيْشِ الشَّامِ لِلاسْتِيلَاءِ عَلَى العِرَاقِ، فَدَارَتْ رَحَى الحَرْبِ مَعَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، انْتَهَتْ بِقَتْلِ مُصْعَبٍ، وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى العِرَاقِ، وَذَلِكَ سَنَةَ إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَلَمْ يَبْقَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وِلَايَةٌ عَلَى الْعِرَاقِ.

وَرَجَعَ عَبْدُ المَلِكِ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ أَجْهَزَ عَلَى الأَزَارِقَةِ الخَوَارِجِ.

وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "اجْتَمَعَ فِي الحِجْرِ مُصْعَبٌ، وَعُرْوَةُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ عُمَرَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْخِلَافَةَ، وَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى أَنْ يُؤْخَذَ عَنِّي الْعِلْمُ، وَقَالَ مُصْعَبٌ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى إِمْرَةَ الْعِرَاقِ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، وَسُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ. قَالَ: فَنَالُوا كُلُّهُمْ مَا تَمَنَّوْا، وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ".

وَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لِيُحَاصِرَهُ بِمَكَّةَ، فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ الطَّائِفَ، ثُمَّ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ وَمُحَاصَرَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَنَزَلَ بِئْرَ مَيْمُونَةَ، وَحَصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِالْمَسْجِدِ. وَأَخَذَ عَبْدُ المَلِكِ المَدِينَةَ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى يَدَيِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ الْمُبِيرِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ".

 

 

54- الحَجَّاج مُبِيرُ ثَقِيف

عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ، رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ، مَا عَلِمْتُ، صَوَّامًا، قَوَّامًا، وَصُولًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ، ثُمَّ نَفَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ مَوْقِفُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ، فَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ: لَتَأْتِيَنِّي أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ، قَالَ: فَأَبَتْ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي، قَالَ: فَقَالَ: أَرُونِي سِبْتَيَّ، فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، أَنَا وَاللَّهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا الْآخَرُ: فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ، أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حَدَّثَنَا: أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا، فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ، قَالَ: فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَحْمَدَ: "فَقَالَتْ: كَذَبْتَ، كَانَ بَرًّا بِالْوَالِدَيْنِ، صَوَّامًا قَوَّامًا".

وَالمُبِيرُ: هُوَ المُسْرِفُ فِي الإِهْلَاكِ.

وعَنْ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِي أَسَدٍ - وَكَانَ عَالِمًا بِفِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ -، قَالَ: "حُصِرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَيْلَةَ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَقُتِلَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، فَكَانَ حَصْرُ الْحَجَّاجِ لَهُ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً".

لقَدْ نَصَبَ الْحَجَّاجُ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى مَكَّةَ، لِيَحْصُرَ أَهْلَهَا، حَتَّى يَخْرُجُوا إِلَى الْأَمَانِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ مَعَ الْحَجَّاجِ عَدَدٌ وَعُدَّةٌ، وَالكَثْرَةُ تَغْلِبُ الشَّجَاعَةَ، وَمَا زَالَ أَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْأَمَانِ، وَيَتْرُكُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ.

وَجَرَى حِوَارٌ بَيْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأُمِّهِ أَسْمَاءَ، حِوَارُ المُؤْمِنَيْنِ العَاقِلَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ الشُّجَاعَيْنِ، يَتَخَلَّلُهُ كَلِمَاتُ الحَنَانِ وَمَشَاعِرُ الوُدِّ، وَتَرْجَمَةُ العَوَاطِفِ، ثُمَّ اعْتَنَقَ بَعْضُهُمَا بَعْضًا، وَوَدَّعَ كُلٌّ مِنْهُمَا الآخَرَ، وَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:

وَلَسْتُ بِمُبْتَاعِ الْحَيَاةِ بِسُبَّةٍ ... وَلَا مُرْتَقٍ مِنْ خَشْيَةِ الْمَوْتِ سُلَّمَا

وَقَاتَلَ ابْنُ أَبِيهِ الحَامِلُ فِي جَوْفِهِ شَيْئًا مِنْ رِيقِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَمِهِ قِتَالَ الشُّجْعَانِ، مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَارْتَجَّتْ مَكَّةُ بُكَاءً.

ثُمَّ أَمَرَ الْحَجَّاجُ المُبِيرُ بِجُثَّةِ العَالِمِ العَابِدِ المُجَاهِدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَصُلِبَتْ عَلَى ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ عِنْدَ الْحَجُونِ، فَنَاسَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَيْتُ أَبِي الحَسَنِ الأَنْبَارِيِّ:

عُلوٌّ فِي الحَيَاةِ وَفِي المَمَاتِ ... لَحَقٌّ أَنْتَ إِحْدَى المُعْجِزَاتِ

وَانْتَهَتِ الدَّوْلَةُ الزُّبَيْرِيَّةُ، وَأَصْبَحَ الْحَجَّاجُ أَمِيرًا عَلَى مَكَّةَ، وَالْيَمَامَةِ، وَالْيَمَنِ.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كُفْرِ الحَجَّاجِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ سَفَّاحٌ ظَالِمٌ، لَمْ يَرْعَ حَقَّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ يُصَلِّي الصَّلَاةَ لِغَيْرِ وَقْتِهَا، وَيَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ حَقِّهَا، وَكَانَ لِمَا سِوَى ذَلِكَ أَضْيَعَ".

وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ تَخَابَثَتِ الأُمَمُ، فَجَاءَتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِخَبِيثِهَا، وَجِئْنَا بِالحَجَّاجِ: لَغَلَبْنَاهُمْ".

وَمَا كَانَ يَصْلُحُ لِدُنْيَا وَلَا لِآخِرَةٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا)، وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنِ الحَجَّاجِ - عَلَى خُبْثِهِ – أَنَّهُ كَانَ ذَا كَرَمٍ، وَعَقْلٍ، وَفَصَاحَةٍ، وَقُرْآنٍ، لَا يَشْرَبُ الخُمُورَ، وَلَا يَرْتَكِبُ الفَوَاحِشَ.

وَأَمَّا عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، فَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا.

قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: "كَانَ فُقَهَاءُ المَدِينَةِ أَرْبَعَةً: سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَعَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ".

 

 

55- خَبَرُ ابنِ الأَشعَثِ وغَيرِه

قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).

تَنَاوَلَتِ الآيَةُ أَهْلَ المِلَلِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا وَتَفَرَّقُوا، كَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَهْلِ النِّحَلِ، أَصْحَابِ الأَهْوَاءِ وَالبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، كَالخَوَارِجِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى الخَلِيفَتَيْنِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أُمَرَاءِ المُؤْمِنِينَ، وَكُلَّمَا أُخْمِدَتْ نَارُ حَرْبِهِمْ رَجَعُوا فَأَوْقَدُوهَا.

وَبَعْدَ أَنْ تَوَحَّدَ العَالَمُ الإِسْلَامِيُّ تَحْتَ وِلَايَةِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَقِبَ زَوَالِ دَوْلَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَصْبَحَ الخَلِيفَةَ الوَحِيدَ لِلْمُسْلِمِينَ، تَحَرَّكَتِ الخَوَارِجُ، وَكَانَ أَخْطَرَهُمْ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ الشَّيْبَانِيُّ، الَّذِي ادَّعَى الْخِلَافَةَ، وَتَسَمَّى بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "اسْتَفْحَلَ أَمْرُ شَبِيبٍ، وَتَزَلْزَلَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَالْحَجَّاجُ، وَسَائِرُ الْأُمَرَاءِ، قَالَ: وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَهُ بِمَا قَهَرَهُ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ؛ لَنَالَ الْخِلَافَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ".

لَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الفِتَنُ وَأَمْثَالُهَا سَبَبًا فِي عَرْقَلَةِ حَرَكَةِ الجِهَادِ وَالفُتُوحَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمَا بَعْدَهَا: تَمَّ غَزْوُ "رُتْبِيلَ" مَلِكِ التُّرْكِ، وَأَخَذُوا بَعْضَ بِلَادِهِ عَلَى يَدِ أَمِيرِ جَيْشِ الحَجَّاجِ، عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَغَزَا مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ أَمِيرُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، فَافْتَتَحَ مُدُنًا كَثِيرَةً، وَأَوْغَلَ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى الرَّقَاقِ، وَحَصَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُ الفُتُوحَاتِ كَفَتْحِ الْمِصِّيصَةَ، وَأَرْمِينِيَّةَ.

 

ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الأَشْعَثِ دَعَى الجَيْشَ لِخَلْعِ الحَجَّاجِ لِاخْتِلَافٍ بَيْنَهُمَا، وَلِجَوْرِهِ وَظُلْمِهِ وَإِمَاتَتِهِ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، فَخَلَعُوهُ وَبَايَعُوا ابْنَ الأَشْعَثِ، وَسَارَ بِهِمْ مِنْ سِجِسْتَانَ لِقِتَالِ الحَجَّاجِ، وَنَزْعِ العِرَاقِ مِنْهُ، وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ البَصْرَةَ، وَبَايَعَهُمْ وَبَايَعُوهُ عَلَى خَلْعِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَنَائِبِهِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَوَافَقَهُ فُقَهَاءُ وَصَالِحُونَ قُرَّاءٌ وَعُبَّادٌ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

وَجَرَى قِتَالٌ شَدِيدٌ بَيْنَ الحَجَّاجِ وَابْنِ الأَشْعَثِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَذَهَبَ ابْنُ الأَشْعَثِ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْكُوفَةِ فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا، ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَيْنَ ابْنِ الأَشْعَثِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ البَصْرِيِّينَ وَالكُوفِيِّينَ، وَالحَجَّاجِ وَمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ العِرَاقِيِّينَ وَمَدَدِ الشَّامِيِّينَ.

وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنْ كَانَ يُرْضِيكُمْ مِنِّي عَزْلُ الْحَجَّاجِ عَزَلْتُهُ عَنْكُمْ، وَبَعَثْتُ عَلَيْكُمْ أُعْطِيَّاتِكُمْ مِثْلَ أَهْلِ الشَّامِ، وَلْيَخْتَرِ ابْنُ الْأَشْعَثِ أَيَّ بَلَدٍ شَاءَ يَكُونُ عَلَيْهِ أَمِيرًا مَا عَاشَ وَعِشْتُ، وَتَكُونُ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، فَاجْتَمَعَ جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، وَنَدَبَهُمْ إِلَى قَبُولِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ، فَنَفَرَ النَّاسُ، وَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَقْبَلُ ذَلِكَ، نَحْنُ أَكْثَرُ عَدَدًا وَعُدَدًا، وَاللَّهِ لَا نُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا.

وَدَارَ القِتَالُ بَيْنَ ابْنِ الأَشْعَثِ وَالحَجَّاجِ زَمَنًا طَوِيلًا، انْتَهَى بِفِرَارِ ابْنِ الأَشْعَثِ وَهَزِيمَةِ جَيْشِهِ، وَتَتَبَّعَ الحَجَّاجُ رُؤُوسَهُمْ، وَأَمَّنَ بَعْضَهُمْ، وَقَتَلَ الكَثِيرَ مِنْهُمْ، فِيهِمْ عُلَمَاءُ وَفُضَلَاءُ، فَكَانَ مِمَّنْ أَعْطَاهُ الأَمَانَ: الشَّعْبِيُّ، وَمِمَّنْ قَتَلَهُمْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ - رَحِمَهُمَا اللهُ -، وَهَلَكَ ابْنُ الأَشْعَثِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ أَوْ بَعْدَهَا.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ بِالْإِمَارَةِ وَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنْدِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الصَّحَابَةُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ عَلَى أَنَّ الْإِمَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي قُرَيْشٍ. فَكَيْفَ يَعْمِدُونَ إِلَى خَلِيفَةٍ قَدْ بُويِعَ لَهُ بِالْإِمَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ سِنِينَ فَيَعْزِلُونَهُ، وَهُوَ مِنْ صُلْبِيَّةِ قُرَيْشٍ، وَيُبَايِعُونَ لِرَجُلٍ كِنْدِيٍّ بَيْعَةً لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ؟! وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ زَلَّةً وَفَلْتَةً نَشَأَ بِسَبَبِهَا شَرٌّ كَبِيرٌ، هَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ". وَاللهُ أَعْلَمُ.

 

 

56- تَسلُّطُ الحَجَّاجِ وإِسرافُهُ في القَتل

عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: "اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ؛ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَلَمْ يَحْتَمِلْ طَائِفَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ وَالفُضَلَاءِ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ظُلْمَ الحَجَّاجِ، وَجَوْرَهُ، وَعُدْوَانَهُ، وَتَضْيِيعَهُ لِلصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا.

لَقَدْ رَوَى خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: "خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ خَمْسُمِائَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ، كُلُّهُمْ يَرَوْنَ الْقِتَالَ".

وَلَمَّا فَشِلَتْ حَرَكَةُ ابْنِ الأَشْعَثِ: اجْتَهَدَ الحَجَّاجُ عَلَى جَعْلِ أَعِزَّةِ أَهْلِهَا أَذِلَّةً، فَتَسَلَّطَ، وَبَطَشَ، وَأَسْرَفَ فِي القَتْلِ.

لَقَدْ أَدْرَكَ الكَثِيرُ أَضْرَارَ الفِتَنِ وَمَفَاسِدَهَا، فَعَنْ أَبِي الحَارِثِ، قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي أَمْرٍ كَانَ حَدَثَ بِبَغْدَادَ، وَهَمَّ قَوْمٌ بِالْخُرُوجِ، فَقُلْتُ: "يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي الْخُرُوجِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؟ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، الدِّمَاءَ، الدِّمَاءَ، لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَا آمُرُ بِهِ، الصَّبْرُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْفِتْنَةِ يُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَيُسْتَبَاحُ فِيهَا الْأَمْوَالُ، وَيُنْتَهَكُ فِيهَا الْمَحَارِمُ، أَمَا عَلِمْتَ مَا كَانَ النَّاسُ فِيهِ؟ يَعْنِي أَيَّامَ الْفِتْنَةِ، قُلْتُ: وَالنَّاسُ الْيَوْمَ، أَلَيْسَ هُمْ فِي فِتْنَةٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ، فَإِنَّمَا هِيَ فِتْنَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِذَا وَقَعَ السَّيْفُ عَمَّتِ الْفِتْنَةُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، الصَّبْرُ عَلَى هَذَا، وَيَسْلَمُ لَكَ دِينُكَ خَيْرٌ لَكَ".

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: "فَالصَّبْرُ عَلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ الْجَائِرِ أَولَى مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي مُنَازَعَتِهِ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ اسْتِبْدَالَ الْأَمْنِ بِالْخَوْفِ، وَإِرَاقَةَ الدِّمَاءِ، وَانْطِلَاقَ أَيْدِي الدَّهْمَاءِ، وَتَبْيِيتَ الْغَارَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الجَائِرِ".

وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللهُ -: "قَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ، إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ". وَاللهُ أَعْلَمُ.

رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ).

 

 

 

57- كِتَاب عَبدِ اللهِ بنِ عُمَر إلى عَبدِ المَلِك أَمِيرِ المؤمنين

لَمَّا بُويِعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الْأُمَوِيِّ بِالْخِلَافَةِ، كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّكَ رَاعٍ وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا)، لَا أَحَدَ، وَالسَّلَامُ".

وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَبْلَ الْخِلَافَةِ مِنَ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ، والْفُقَهَاءِ الْمُلَازِمِينَ لِلْمَسْجِدِ، التَّالِينَ لِلْقُرْآنِ، وَكَانَ يُجَالِسُ الْفُقَهَاءَ وَالْعُلَمَاءَ وَالْعُبَّادَ وَالصُّلَحَاءَ.

وَقَدْ قَالَ نَافِعٌ: لَقَدْ رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ، وَمَا فِيهَا شَابٌّ أَشَدَّ تَشْمِيرًا، وَلَا أَفْقَهَ وَلَا أَقْرَأَ لِكِتَابِ اللهِ، مِنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.

وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: كَانَ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةً: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِمَارَةِ.

وَقَالَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: لَمَّا سُلِّمَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ، كَانَ فِي حِجْرِهِ مُصْحَفٌ، فَأَطْبَقَهُ، وَقَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الْمُصْحَفَ مِنْ حِجْرِهِ قَالَ: هَذَا آخِرُ الْعَهْدِ مِنْكَ.

وَبُويِعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالْخِلَافَةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، فِي خِلَافَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَبَقِيَ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ مُدَّةَ سَبْعِ سِنِينَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى بَاقِي الْبِلَادِ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْخِلَافَةِ عَلَى سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ.

وَلَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ مَرْوَانَ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَوَلَّاهُ أَبُوهُ إِمْرَةَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، فَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، وَقَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْتَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَبْلَ مَوْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِعَامٍ وَاحِدٍ، فَتَمَكَّنَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ بَيْعَةِ وَلَدِهِ الْوَلِيدِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَفِيهَا فِي شَوَّالِهَا تُوَفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَالِدُ الْخُلَفَاءِ الْأُمَوِيِّينَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً.

وَيُحْكَى أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ، سَمِعَ غَسَّالًا يَغْسِلُ الثِّيَابَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: غَسَّالٌ، فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ غَسَّالًا أَكْسِبُ مَا أَعِيشُ بِهِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَلَمْ أَلِ الْخِلَافَةَ، ثُمَّ تَمَثَّلَ أَبْيَاتًا، مِنْهَا:

فَيَا لَيْتَنِي لَمْ أُعْنَ بِالْمُلْكِ لَيْلَةً ... وَلَمْ أَسْعَ فِي لَذَّاتِ عَيْشٍ نَوَاضِرِ

وَقِيلَ: قَدْ أَنْشَدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ.

وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ: أَجِدُنِي كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ).

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ جَعَلَ يَنْدَمُ وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي اكْتَسَبْتُ قُوتِي يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَاشْتَغَلْتُ بِعِبَادَةِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَطَاعَتِهِ.

فَلَمَّا بَلَغَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَوْلُهُ، قَالَ: الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي جَعَلَهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ يَفِرُّونَ إِلَيْنَا وَلَا نَفِرُّ إِلَيْهِمْ.

وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: ارْفَعُونِي، فَرَفَعُوهُ حَتَّى شَمَّ الْهَوَاءَ، وَقَالَ: يَا دُنْيَا مَا أَطْيَبَكِ! إِنَّ طَوِيلَكِ لَقَصِيرٌ، وَإِنَّ كَثِيرَكِ لَحَقِيرٌ، وَإِنَّا كُنَّا بِكِ لَفِي غُرُورٍ.

قَالُوا: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ، سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ وَلِيُّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ سِتِّينَ سَنَةً، وكَانَ جُمْلَةُ أَوْلَادِهِ تِسْعَةَ عَشَرَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا.

 

 

58- خِلَافَةُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ

وَلَمَّا بَايَعَهُ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا تُعْرَفُ لَهُ صَبْوَةٌ، وَهُوَ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ الفَرِيدِ فِي بِنَائِهِ، وَقَدْ شَرَعَ فِي بِنَائِهِ وَتَحْسِينِهِ مُدَّةَ خِلَافَتِهِ وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَفِيهَا عَزَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَ عَمِّهِ وَزَوْجَ أُخْتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ المَلِكِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ، فَدَعَا عَشَرَةً مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ؛ مِنْهُمْ: عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَجَلَسُوا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنَّمَا دَعَوْتُكُمْ لِأَمْرٍ تُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ، وَتَكُونُونَ فِيهِ أَعْوَانًا عَلَى الْحَقِّ، إِنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ أَقْطَعَ أَمْرًا إِلَّا بِرَأْيِكُمْ أَوْ بِرَأْيِ مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَحَدًا يَتَعَدَّى أَوْ بَلَغَكُمْ عَنْ عَامِلٍ لِي ظُلَامَةٌ، فَأُحَرِّجُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَبْلَغَنِي، فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ يَجْزُونَهُ خَيْرًا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَفِيهَا وَمَا بَعْدَهَا حَقَّقَ المُسْلِمُونَ انْتِصَارَاتٍ كَثِيرَةً فِي بِلَادِ الرُّومِ وَالتُّرْكِ وَالفِرْنِجِ وَالمَغْرِبِ وَالهِنْدِ، وَغَزَا طَارِقُ بْنُ زِيَادٍ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، وَتَمَلَّكَها بِكَمَالِهَا.

وَقَدِمَ كِتَابُ الْوَلِيدِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ يَأْمُرُهُ بِهَدْمِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَإِضَافَةِ حُجَرِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّ يُوَسِّعَهُ مِنْ قِبْلَتِهِ وَسَائِرِ نَوَاحِيهِ، حَتَّى يَكُونَ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ فِي مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَكَانَ يُحِبُّ عِمَارَةَ المَسَاجِدِ - عَمَّرَ المَسْجِدَ الحَرَامَ وَمَسْجِدَ دِمَشْقَ وَغَيْرَهُمَا - فَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وُجُوهَ النَّاسِ وَالْفُقَهَاءَ الْعَشَرَةَ وَأَهْلَ المَدِينَةِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ الْوَلِيدِ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: هَذِهِ حُجَرٌ قَصِيرَةُ السُّقُوفِ، وَسُقُوفُهَا مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَحِيطَانُهَا مِنَ اللَّبِنِ، وَعَلَى أَبْوَابِهَا الْمُسُوحُ، وَتَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا أَوْلَى؛ لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا الْحُجَّاجُ وَالزُّوَّارُ وَالْمُسَافِرُونَ، وَإِلَى بُيُوتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَيَعْتَبِرُوا، وَيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا.

فَعِنْدَ ذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْوَلِيدِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْعَشَرَةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَأَنْ يُعَلِّيَ سُقُوفَهُ، فَلَمْ يَجِدْ عُمَرُ بُدًّا مِنْ هَدْمِهَا، وَلَمَّا شَرَعُوا فِي الْهَدْمِ أَدْخَلَ فِيهِ الْحُجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ - حُجْرَةَ عَائِشَةَ - فَدَخَلَ الْقَبْرُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ حَدَّهُ مِنَ الشَّرْقِ، وَسَائِرُ حُجَرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَمَرَ الْوَلِيدُ، وَيُحْكَى أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَنْكَرَ إِدْخَالَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فِي الْمَسْجِدِ، كَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ الْقَبْرُ مَسْجِدًا.

فَإِدْخَالُ القَبْرِ كَانَ اجْتِهَادًا مِنَ الوَلِيدِ - عَفَا اللهُ عَنْهُ - لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ أَهْلُ العِلْمِ، فَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ مُتَعَلَّقٌ لِلْقُبُورِيِّينَ، وَقَدْ بُنِيَ عَلَى القَبْرِ حِيطَانٌ مُرْتَفِعَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ حَوْلَهُ؛ لِئَلَّا يَظْهَرَ فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيِ القَبْرِ الشَّمَالِيَّيْنِ وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى الْتَقَيَا، حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنَ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ.

كُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ إِلَّا نَزْرٌ قَدْ عُمِّرُوا وَهَرِمُوا، كَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، تُوُفِّيَ فِي حُدُودِ سَنَةِ تِسْعِينَ بِالبَصْرَةِ، وَعُمْرُهُ تَقْرِيبًا مِائَةُ سَنَةٍ، وَمِنْ صِغَارِهِمْ مِثْلُ أَبِي الطُّفَيْلِ اللَّيْثِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ فِي المَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ، فَآخِرُهُمْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ هَدْمِ المَسْجِدِ وَإِدْخَالِ الحُجْرَةِ بِعَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

 

 

59- بَنُو أُمَيَّةَ عَلَى أَعْتَابِ القُسْطَنْطِينِيَّةِ وَالصِّينِ

قَالَ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)

أَخْرَجَ البُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الآية. فَمَا يَمْنَعُكَ أَلَّا تُقَاتِلَ كَمَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أُعَيَّرُ بِهَذِهِ الآيَةِ وَلَا أُقَاتِلُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعَيَّرَ بِالآيَةِ الَّتِي يَقُولُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "قَدْ فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ كَانَ الإِسْلَامُ قَلِيلًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ: إِمَّا أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَإِمَّا أَنْ يُوثِقُوهُ، حَتَّى كَثُرَ الإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ".

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: خَرَجَ إِلَيْنَا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ تَرَى فِي قِتَالِ الفِتْنَةِ؟ فَقَالَ: "وَهَلْ تَدْرِي مَا الفِتْنَةُ؟ كَانَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَاتِلُ المُشْرِكِينَ، وَكَانَ الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً، وَلَيْسَ بِقِتَالِكُمْ عَلَى المُلْكِ".

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «كَانَتْ سُوقُ الجِهَادِ قَائِمَةً فِي بَنِي أُمَيَّةَ، لَيْسَ لَهُمْ شُغْلٌ إِلَّا ذَلِكَ، قَدْ عَلَتْ كَلِمَةُ الإِسْلَامِ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَبَرِّهَا وَبَحْرِهَا، وَقَدْ أَذَلُّوا الكُفْرَ وَأَهْلَهُ، وَامْتَلَأَتْ قُلُوبُ المُشْرِكِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ رُعْبًا، لَا يَتَوَجَّهُ المُسْلِمُونَ إِلَى قُطْرٍ مِنَ الأَقْطَارِ إِلَّا أَخَذُوهُ، وَكَانَ فِي عَسَاكِرِهِمْ وَجُيُوشِهِمْ فِي الغَزْوِ الصَّالِحُونَ وَالأَوْلِيَاءُ وَالعُلَمَاءُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، فِي كُلِّ جَيْشٍ مِنْهُمْ شِرْذِمَةٌ عَظِيمَةٌ يَنْصُرُ اللهُ بِهِمْ دِينَهُ، فَقُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ يَفْتَحُ فِي بِلَادِ التُّرْكِ، يَقْتُلُ وَيَسْبِي وَيَغْنَمُ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى تُخُومِ الصِّينِ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكِهِ يَدْعُوهُ، فَخَافَ مِنْهُ، وَأَرْسَلَ لَهُ هَدَايَا وَتُحَفًا وَأَمْوَالًا كَثِيرَةً هَدِيَّةً، وَبَعَثَ يَسْتَعْطِفُهُ مَعَ قُوَّتِهِ وَكَثْرَةِ جُنْدِهِ، بِحَيْثُ إِنَّ مُلُوكَ تِلْكَ النَّوَاحِي كُلِّهَا تُؤَدِّي إِلَيْهِ الخَرَاجَ خَوْفًا مِنْهُ، وَلَوْ عَاشَ الحَجَّاجَ لَمَا أَقْلَعَ عَنْ بِلَادِ الصِّينِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَلْتَقِيَ مَعَ مَلِكِهَا، فَلَمَّا مَاتَ الحَجَّاجُ رَجَعَ الجَيْشُ. ثُمَّ إِنَّ قُتَيْبَةَ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ، قَتَلَهُ بَعْضُ المُسْلِمِينَ.

وَمَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَابْنُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ الوَلِيدُ، وَأَخُوهُ الآخَرُ: يَفْتَحُونَ فِي بِلَادِ الرُّومِ وَيُجَاهِدُونَ بِعَسَاكِرِ الشَّامِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى القُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَبَنَى بِهَا مَسْلَمَةُ جَامِعًا يُعْبَدُ اللهُ فِيهِ، وَامْتَلَأَتْ قُلُوبُ الفِرِنْجِ مِنْهُمْ رُعْبًا، وَمُحَمَّدُ بْنُ القَاسِمِ ابْنُ أَخِي الحَجَّاجِ يُجَاهِدُ فِي بِلَادِ الهِنْدِ، وَيَفْتَحُ مُدُنَهَا فِي طَائِفَةٍ مِنْ جَيْشِ العِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ، وَمُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ يُجَاهِدُ فِي بِلَادِ المَغْرِبِ، وَيَفْتَحُ مُدُنَهَا وَأَقَالِيمَهَا فِي جُيُوشِ الدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَكُلُّ هَذِهِ النَّوَاحِي إِنَّمَا دَخَلَ أَهْلُهَا فِي الإِسْلَامِ وَتَرَكُوا عِبَادَةَ الأَوْثَانِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ قَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَتَحُوا غَالِبَ هَذِهِ النَّوَاحِي وَدَخَلُوا فِي مَبَانِيهَا، بَعْدَ هَذِهِ الأَقَالِيمِ الكِبَارِ، مِثْلَ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالعِرَاقِ وَاليَمَنِ وَأَوَائِلِ بِلَادِ التُّرْكِ، وَدَخَلُوا إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَأَوَائِلِ بِلَادِ المَغْرِبِ، وَأَوَائِلِ بِلَادِ الهِنْدِ، فَكَانَ سُوقُ الجِهَادِ قَائِمًا فِي القَرْنِ الأَوَّلِ مِنْ بَعْدِ الهِجْرَةِ إِلَى انْقِضَاءِ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَفِي أَثْنَاءِ خِلَافَةِ بَنِي العَبَّاسِ، مِثْلَ أَيَّامِ المَنْصُورِ وَأَوْلَادِهِ، وَالرَّشِيدِ وَأَوْلَادِهِ، فِي بِلَادِ الرُّومِ وَالتُّرْكِ وَالهِنْدِ، وَقَدْ فَتَحَ مَحْمُودْ سُبُكْتِكِينَ وَوَلَدُهُ فِي أَيَّامِ مُلْكِهِمْ بِلَادًا كَثِيرَةً مِنْ بِلَادِ الهِنْدِ، وَلَمَّا دَخَلَ طَائِفَةٌ مِمَّنْ هَرَبَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَى بِلَادِ المَغْرِبِ وَتَمَلَّكُوهَا، أَقَامُوا سُوقَ الجِهَادِ فِي الفِرْنِجِ بِهَا، ثُمَّ لَمَا بَطَلَ الجِهَادُ مِنْ هَذِهِ المَوَاضِعِ رَجَعَ العَدُوُّ إِلَيْهَا، فَأَخَذَ مِنْهَا بِلَادًا كَثِيرَةً، وَضَعُفَ الإِسْلَامُ فِيهَا، ثُمَّ لَمَّا اسْتَوْلَتْ دَوْلَةُ الفَاطِمِيِّينَ عَلَى الدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ، وَضَعُفَ الإِسْلَامُ وَقَلَّ نَاصِرُوهُ، وَجَاءَ الفِرِنْجُ فَأَخَذُوا غَالِبَ بِلَادِ الشَّامِ، حَتَّى أَخَذُوا بَيْتَ المَقْدِسِ وَغَيْرَهُ مِنَ البِلَادِ الشَّامِيَّةِ، فَأَقَامَ اللهُ سُبْحَانَهُ بَنِي أَيُّوبَ مَعَ نُورِ الدِّينِ، فَاسْتَلَبُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ وَطَرَدُوهُمْ عَنْهُ، فَلِلَّهِ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ».

 

 

 

 

 

60 – العَالِمُ الَّذِي أَصَابَ بِدَعْوَتِهِ الحَجَّاجَ فَهَلَكَ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

فَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ؟ الإِمَامُ العَالِمُ العَامِلُ، مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنَ الذِّكْرِ وَخَتْمِ القُرْآنِ. وَهُوَ فِي جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَلَى الْحَجَّاجِ، ثُمَّ اخْتَفَى قَرِيبًا مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، قَالَ: جِيءَ بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّكَ! قَالَ: إِنِّي إِذًا لَسَعِيدٌ كَمَا سَمَّتْنِي أُمِّي. قَالَ فَقَتَلَهُ، فَلَمْ يَلْبَثِ الْحَجَّاجُ بَعْدَهُ إِلَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكَانَ إِذَا نَامَ يَرَاهُ فِي الْمَنَامِ يَأْخُذُ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ، وَيَقُولُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فِيمَ قَتَلْتَنِي؟ فَيَقُولُ الْحَجَّاجُ: مَا لِي وَلِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؟ مَا لِي وَلِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؟. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُسَلِّطْهُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدِي! فَلَمْ يُسَلَّطْ بَعْدَهُ عَلَى أَحَدٍ.

وَفِي رُدُودِهِ عَلَى الحَجَّاجِ قَبْلَ قَتْلِهِ العَجَبُ، لَوْلَا مَا فِي أَسَانِيدِهَا مِنْ مَقَالٍ.

وَحُكِيَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَعَنْ مَيْمُونٍ، قَالَا: "قُتِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى عِلْمِهِ". وكَانَ قَتْلُهُ - رَحِمَهُ اللهُ - سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ يُقَالُ لِهَذِهِ السَّنَةِ: سَنَةُ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ فِيهَا عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ.

وَحُكِيَ أَنَّ الحَسَنَ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ الحَجَّاجِ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: اللَّهُمَّ يَا قَاصِمَ الجَبَابِرَةِ، اقْصِمِ الحَجَّاجَ! فَوَقَعَ فِي جَوْفِهِ دُودٌ، فَأَنْتَنَ مِنْهُ فَمَاتَ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ طَاوُوسَ أُخْبِرَ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّ الْحَسَنَ لَمَّا بُشِّرَ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ سَجَدَ شُكْرًا للَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ مُخْتَفِيًا فَظَهَرَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَمَتَّهُ، فَأَذْهِبْ عَنَّا سُنَّتَهُ!.

وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: لَمَّا أَخْبَرْتُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ بَكَى مِنَ الْفَرَحِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ هُنَا كَلَامًا كَثِيرًا فِي مَقْتَلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَحْسَنُهُ هَذَا، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ غَرِيبَةٌ فِي صِفَةِ مَقْتَلِهِ، أَكْثَرُهَا لَا يَصِحُّ، وَقَدْ عُوقِبَ الْحَجَّاجُ بَعْدَهُ وَعُوجِلَ بِالْعُقُوبَةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَهُ إِلَّا قَلِيلًا، ثُمَّ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخَذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.

 

 

61- الخَلِيفَةُ البَنَّاءُ

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عُمَرُ، حَدَّثَنَا عَلِيٌّ - يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ المَدَائِنِيَّ - قَالَ: كَانَ الوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ أَفْضَلَ خَلَائِفِهِمْ؛ بَنَى المَسَاجِدَ بِدِمَشْقَ، وَوَضَعَ المَنَائِرَ، وَأَعْطَى النَّاسَ، وَأَعْطَى المَجْذُومِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ، وَأَعْطَى كُلَّ مُقْعَدٍ خَادِمًا، وَكُلَّ ضَرِيرٍ قَائِدًا، وَفَتَحَ فِي وِلَايَتِهِ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً عِظَامًا، وَكَانَ يُرْسِلُ بَنِيهِ فِي كُلِّ غَزْوَةٍ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَفَتَحَ الهِنْدَ وَالسِّنْدَ وَالأَنْدَلُسَ وَأَقَالِيمَ بِلَادِ العَجَمِ، حَتَّى دَخَلَتْ جُيُوشُهُ إِلَى الصِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ: وَكَانَ مَعَ هَذَا يَمُرُّ بِالبَقَّالِ فَيَأْخُذُ حُزْمَةَ البَقْلِ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: بِكَمْ تَبِيعُ هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِفَلْسٍ، فَيَقُولُ: زِدْ فِيهَا فَإِنَّكَ تَرْبَحُ.

وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَبَرُّ حَمَلَةَ القُرْآنِ، وَيُكْرِمُهُمْ، وَيَقْضِي عَنْهُمْ دُيُونَهُمْ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ: قَالَ لِيَ الوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ يَوْمًا: فِي كَمْ تَخْتِمُ القُرْآنَ؟ قُلْتُ: فِي كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَى شُغْلِهِ يَخْتِمُهُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ: فِي كُلِّ سَبْعٍ، قَالَ: وَكَانَ يَقْرَأُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَبْعَ عَشْرَةَ خَتْمَةً.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ - رَحِمَهُ اللهُ -: الوَلِيدُ، وَأَيْنَ مِثْلُهُ؟ بَنَى مَسْجِدَ دِمَشْقَ، وَكَانَ يُعْطِينِي قِطَعَ الفِضَّةِ، فَأَقْسِمُهَا عَلَى قُرَّاءِ بَيْتِ المَقْدِسِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالُوا: وَكَانَتْ هِمَّةُ الوَلِيدِ فِي البِنَاءِ، وَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ، يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: مَاذَا بَنَيْتَ؟ مَاذَا عَمَّرْتَ؟ وَكَانَتْ هِمَّةُ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ فِي النِّسَاءِ، وَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ، يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: كَمْ تَزَوَّجْتَ؟ مَاذَا عِنْدَكَ مِنَ السَّرَارِي؟ وَكَانَتْ هِمَّةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ فِي قِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَفِي الصَّلَاةِ وَالعِبَادَةِ، وَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ، يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: كَمْ وِرْدُكَ؟ كَمْ تَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ؟ مَاذَا صَلَّيْتَ البَارِحَةَ؟.

وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: النَّاسُ عَلَى دِينِ مَلِيكِهِمْ، إِنْ كَانَ خَمَّارًا كَثِيرَ الخَمْرِ، وَإِنْ كَانَ لُوطِيًّا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ شَحِيحًا حَرِيصًا كَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ جَوَادًا كَرِيمًا شُجَاعًا كَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ طَمَّاعًا ظَلُومًا غَشُومًا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَا دِينٍ وَتَقْوَى وَبِرٍّ وَإِحْسَانٍ كَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ. وَهَذَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ الأَزْمَانِ وَبَعْضِ الأَشْخَاصِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. انتهى.

وَقَالَ الوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ: لَوْلَا أَنَّ اللهَ ذَكَرَ قَوْمَ لُوطٍ فِي القُرْآنِ؛ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ ذَكَرًا يَفْعَلُ هَذَا بِذَكَرٍ.

قُلْتُ - القَائِلُ ابْنُ كَثِيرٍ -: فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ هَذِهِ الخَصْلَةَ القَبِيحَةَ الشَّنِيعَةَ، وَالفَاحِشَةَ المَذْمُومَةَ، الَّتِي عَذَّبَ اللهُ أَهْلَهَا بِأَنْوَاعِ العُقُوبَاتِ، وَأَحَلَّ بِهِمْ أَنْوَاعًا مِنَ المَثُلَاتِ، الَّتِي لَمْ يُعَاقِبْ بِهَا أَحَدًا مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَاتِ، فَعَلَى الرَّجُلِ حِفْظُ وَلَدِهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ وَبَعْدَ بُلُوغِهِ، وَأَنْ يُجَنِّبَهُ مُخَالَطَةَ هَؤُلَاءِ المَلَاعِينِ، الَّذِينَ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَالمَقْصُودُ: أَنَّ مَفْسَدَةَ اللِّوَاطِ مِنْ أَعْظَمِ المَفَاسِدِ، وَكَانَتْ لَا تُعْرَفُ بَيْنَ العَرَبِ قَدِيمًا كَمَا قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ بِهِ». رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُ.

وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يَلْعَنْ عَلَى ذَنْبٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَّا عَلَيْهِ. انتهى.

 

 

62- وَفَاةُ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ وَمُبَايَعَةُ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بِالخِلَافَةِ

قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ).

كَانَتْ وَفَاةُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي يَوْمِ السَّبْتِ، لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، عَنْ نَحْوِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى قَبْرِهِ، وَقَالَ حِينَ أَنْزَلَهُ: لِنُنْزِلَنَّهُ غَيْرَ مُوَسَّدٍ وَلَا مُمَهَّدٍ، قَدْ خَلَّفْتَ الأَسْلَابَ، وَفَارَقْتَ الْأَحْبَابَ، وَسَكَنْتَ التُّرَابَ، وَوَاجَهْتَ الْحِسَابَ، فَقِيرًا إِلَى مَا قَدَّمْتَ، غَنِيًّا عَمَّا أَخَّرْتَ.

وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ تَقْرِيبًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.

وَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ لِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمَ مَوْتِ أَخِيهِ الْوَلِيدِ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ عَنْ وَصِيَّةِ أَبِيهِمَا عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقِيلَ: كَانَ الْوَلِيدُ قَدْ عَزَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى خَلْعِ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ، وَأَنْ يَجْعَلَ وِلَايَةَ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَمْ يَنْتَظِمْ ذَلِكَ لَهُ حَتَّى مَاتَ، وَانْعَقَدَتِ الْبَيْعَةُ إِلَى سُلَيْمَانَ.

وَذَكَرُوا أَنَّ قُتَيْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ عَزَمَ عَلَى خَلْعِ سُلَيْمَانَ لِعَزْلِهِ إِيَّاهُ عَنْ خُرَاسَانَ، فَقُتِلَ عَلَى أَيْدِي أَضْدَادِهِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ كَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيُّ، مِنْ سَادَاتِ الْأُمَرَاءِ وَخِيَارِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الْقَادَةِ النُّجَبَاءِ الْكُبَرَاءِ، وَالشُّجْعَانِ، وَذَوِي الْحُرُوبِ، وَالْفُتُوحَاتِ السَّعِيدَةِ، وَالْآرَاءِ الْحَمِيدَةِ، وَقَدْ هَدَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقًا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، فَأَسْلَمُوا وَدَانُوا للَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَفَتَحَ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ وَالْمُدُنِ الْعِظَامِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُضِيعُ سَعْيَهُ، وَلَا يُخَيِّبُ تَعَبَهُ وَجِهَادَهُ، وَلَكِنْ زَلَّ زَلَّةً كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ.

 

 

63 – افْتَتَحَ خِلَافَتَهُ بِخَيْرٍ وَاخْتَتَمَهَا بِخَيْرٍ

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - قَالَ: (مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوفِ، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تَعَالَى). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَكَانَ الخَلِيفَةُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى دِينٍ، وَلَهُ بِطَانَةُ خَيْرٍ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، العَالِمِ العَابِدِ الزَّاهِدِ، وَمُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ المُجَاهِدِ الَّذِي افْتَتَحَ بِلَادَ المَغْرِبِ، وَأَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَى يَدَيْهِ، وافْتَتَحَ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، وَقَدْ كَانَ يَفْتَحُ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَقُتَيْبَةُ يَفْتَحُ فِي بِلَادِ الْمَشْرِقِ، فَكِلَاهُمَا فَتَحَ مِنَ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ شَيْئًا كَثِيرًا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَلَمْ يُسْمَعْ فِي الْإِسْلَامِ بِمِثْلِ سَبَايَا مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ".

وَلِأَثَرِ هَذِهِ البِطَانَةِ المُجَاهِدَةِ: جَهَّزَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْجُيُوشَ إِلَى مَدِينَةِ الرُّومِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَآلَى عَلَى نَفْسِهِ حِينَ خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى مَرْجِ دَابِقٍ، أَنْ لَا يَرْجِعَ حَتَّى تُفْتَحَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ يَمُوتَ، فَمَاتَ هُنَالِكَ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "فَحَصَلَ لَهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ أَجْرُ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِمَّنْ يُجْرَى لَهُ ثَوَابُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

وَاتَّخَذَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنَ عَمِّهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُسْتَشَارًا وَوَزِيرًا، فكَانَ مِنْ أَثَرِهِ الطَّيِّبِ: عَزْلُ نُوَّابِ الْحَجَّاجِ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِ السُّجُونِ مِنْهَا، وَإِطْلَاقُ الأُسَرَاءِ، وَرَدُّ الصَّلَاةِ إِلَى مِيقَاتِهَا الْأَوَّلِ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَهَا إِلَى آخَرِ وَقْتِهَا.

وَأَخَذَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَهْدَ لِوَلَدِهِ أَيُّوبَ أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ، فَمَاتَ أَيُّوبُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، فاسْتَشَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ مَرِيضٌ وَزِيرَهُ رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ مِمَّا يَحْفَظُ الْخَلِيفَةَ فِي قَبْرِهِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى المُسْلِمِينَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ، فَكَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ عَبْدِ اللهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُهُ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِي، وَمِنْ بَعْدِهِ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَيَطْمَعَ فِيكُمْ عَدُوُّكُمْ.

وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ، سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ.

وعَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْفَزَارِيِّ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يَتَرَحَّمُ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ، وَيَقُولُ: افْتَتَحَ خِلَافَتَهُ بِخَيْرٍ وَخَتَمَهَا بِخَيْرٍ، افْتَتَحَهَا بِإِجَابَةِ الصَّلَاةِ لِمَوَاقِيتِهَا، وَخَتَمَهَا بِاسْتِخْلَافِهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ.

 

 

64 - عَدْلُهُ كَفَّ الذِّئَابَ عَنِ الشِّيَاهِ

صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ السَّخَاوِيُّ.

وَقَدْ جَدَّدَ الخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ، وَالعَالِمُ الزَّاهِدُ، عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ - رَحِمَهُ اللهُ - لِلنَّاسِ دِينَهُمْ، فَإِنَّهُ تَوَلَّى سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ، فَكَانَ عَهْدُهُ زَاخِرًا بِالعِلْمِ، وَالدِّيَانَةِ، وَالوَرَعِ، وَالزُّهْدِ، وَالعِبَادَةِ، وَالأَمْنِ، حَتَّى كَثُرَتْ فِي خِلَافَتِهِ الخَيْرَاتُ، وَحَلَّتِ البَرَكَاتُ، وَسَارَ بِسِيرَةِ جَدِّهِ لِأُمِّهِ أُمِّ عَاصِمٍ، ابْنَةِ صَاحِبَةِ القِصَّةِ المَشْهُورَةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَهِيَ القَائِلَةُ: "إِنْ كَانَ عُمَرُ لَا يَعْلَمُ، فَإِلَهُ عُمَرَ يَعْلَمُ"، فَسَمِعَهَا عُمَرُ، فَأَشَارَ عَلَى ابْنِهِ عَاصِمٍ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَقَالَ لَهُ: فَمَا أَحْرَاهَا أَنْ تَأْتِيَ بِفَارِسٍ يَسُودُ العَرَبَ! فَكَانَ حَفِيدُهَا الخَلِيفَةَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ، العَالِمَ العَامِلَ.

وَعَنْ نُعَيْمِ بْنِ دَجَاجَةَ، قَالَ: دَخَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: أَنْتَ الْقَائِلُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ عَامٍ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ»؟ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ عَامٍ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ مِمَّنْ هُوَ حَيٌّ، وَإِنَّ رَخَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ الْمِائَةِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ.

لَقَدْ سَادَ فِي عَهْدِ الخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ العَدْلُ، وَاسْتَتَبَّ الأَمْنُ، وَفَاضَ المَالُ، حَتَّى لَمْ يَجِدُوا مَنْ يَقْبَلُ الزَّكَاةَ.

وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ، عَنْ حَسَنٍ القَصَّابِ، قَالَ: رَأَيْتُ الذِّئَابَ تَرْعَى مَعَ الغَنَمِ فِي البَادِيَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ - رَحِمَهُ اللهُ -، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ! ذِئْبٌ فِي غَنَمٍ لَا يَضُرُّهَا! فَقَالَ الرَّاعِي: إِذَا صَلَحَ الرَّأْسُ فَلَيْسَ عَلَى الجَسَدِ بَأْسٌ.

وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ - رَحِمَهُ اللهُ - قَالَتْ رِعَاءُ الشَّاءِ: مَنْ هَذَا الصَّالِحُ الَّذِي قَامَ عَلَى النَّاسِ خَلِيفَةً؟ عَدْلُهُ كَفَّ الذِّئَابَ عَنْ شَائِنَا. رَوَاهَا أَبُو نُعَيْمٍ.

 

 

65- خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ

عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الخَيْرِ، وكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ، قُلتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذلكَ الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَحَمَلَ البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا الخَيْرَ الثَّانِيَ عَلَى أَيَّامِ الخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تَكُونُ النُّبوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ، ثُمَّ سَكَتَ). قَالَ حَبِيبٌ: فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزيزِ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشيرٍ فِي صَحَابَتِهِ، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهَذَا الحَدِيثِ أُذكِّرُهُ إِيَّاهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ، يَعْنِي عُمَرَ، بَعْدَ المُلكِ العَاضِّ والجَبريَّةِ، فَأُدْخِلَ كِتَابِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، فَسُرَّ بِهِ وَأَعْجَبَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّيَالِسِيُّ.

 

 

66 – الخَلِيفَةُ الَّذِي رَحِمَ نَفْسَهُ فَبَكَى

عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: (إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمْ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً. قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيَ عَلَيَّ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ).

رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا: (لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ عَزِيزًا مَنِيعًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً). وَلِأَبِي دَاوُدَ: (كُلُّهُمْ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الأُمَّةُ)، وَلِلطَّبَرَانِيِّ: (لَا تَضُرُّهُمْ عَدَاوَةُ مَنْ عَادَاهُمْ).

إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَقَدْ قَالَ عَبَّادٌ السَّمَّاكُ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: الْخُلَفَاءُ خَمْسَةٌ، أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ.

فَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَأَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ بِالمَوْعِظَةِ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى النُّصْحِ لَهُمْ، وَأَنْ لَا يُوَلُّوا عَلَيْهِمْ فِي أُمُورِهِمْ إِلَّا المَعْرُوفَ بِالنَّصِيحَةِ وَالمُرَاقَبَةِ.

وَقَدِ اجْتَهَدَ فِي رَدِّ الْمَظَالِمَ، وَإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَكَانَ مُنَادِيهِ يُنَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ: أَيْنَ الْغَارِمُونَ؟ أَيْنَ النَّاكِحُونَ؟ أَيْنَ الْمَسَاكِينُ؟ أَيْنَ الْيَتَامَى؟ حَتَّى أَغْنَى كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ.

وَقَالَتْ زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الَّتِي يَقُولُ الشَّاعِرُ فِيهَا:

بِنْتُ الْخَلِيفَةِ وَالْخَلِيفَةُ جَدُّهَا ... أُخْتُ الْخَلَائِفِ وَالْخَلِيفَةُ زَوْجُهَا

تَقُولُ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي مُصَلَّاهُ، وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى يَدِهِ، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ، فَقُلْتُ: مَالَكَ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ يَا فَاطِمَةُ، قَدْ وُلِّيتُ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا وُلِّيتُ، فَتَفَكَّرْتُ فِي الْفَقِيرِ الْجَائِعِ، وَالْمَرِيضِ الضَّائِعِ، وَالْعَارِي الْمَجْهُودِ، وَالْيَتِيمِ الْمَكْسُورِ، وَالْأَرْمَلَةِ الْوَحِيدَةِ، وَالْمَظْلُومِ الْمَقْهُورِ، وَالْغَرِيبِ، وَالْأَسِيرِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَذِي الْعِيَالِ الْكَثِيرِ، وَالْمَالِ الْقَلِيلِ، وَأَشْبَاهِهِمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَأَطْرَافِ الْبِلَادِ، فَعَلِمْتُ أَنَّ رَبِّي - عَزَّ وَجَلَّ - سَيَسْأَلُنِي عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ خَصْمِي دُونَهُمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَخَشِيتُ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِي حُجَّةٌ عِنْدَ خُصُومَتِهِ، فَرَحِمْتُ نَفْسِي فَبَكَيْتُ.

 

 

67 - أَشَجُّ بَنِي أُمَيَّةَ السَّعِيدُ

قَالَ البُخَارِيُّ: «وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، فَمَنْ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ».

فَقَدْ كَانَ الخَلِيفَةُ المَهْدِيُّ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ - رَحِمَهُ اللهُ - عَالِمًا بِاللهِ وَبِأَمْرِهِ. قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: كَانَتِ الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَلَامِذَةً، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ مَيْمُونٌ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُعَلِّمَ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ أَشْبَهَ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ هَذَا الْفَتَى - يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ- حِينَ كَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ.

قَالُوا: وَكَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَيُخَفِّفُ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: "أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَشْرًا عَشْرًا".

قَالَ: وَقَدْ كَانَ مُنْتَظَرًا فِيمَا يُؤْثَرُ مِنَ الأَخْبَارِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ المَاجِشُونُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا عَجَبًا!! يَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّ الدُّنْيَا لَا تَنْقَضِي حَتَّى يَلِيَ رَجُلٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، يَعْمَلُ بِمِثْلِ عَمَلِ عُمَرَ. وَإِذَا هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.

وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا الحَاكِمُ - وَذَكَرَ سَنَدَهُ إِلَى نَافِعٍ - قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّ مِنْ وَلَدِي رَجُلًا بِوَجْهِهِ شجان يَلِي فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا. قَالَ نَافِعٌ: وَلَا أَحْسِبُهُ إِلَّا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ.

وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي مَنْ هَذَا الَّذِي مِنْ وَلَدِ عُمَرَ فِي وَجْهِهِ عَلَامَةٌ يَمْلَأُ الأَرْضَ عَدْلًا؟.

وَقَالَ آدَمُ بْنُ إِيَاسٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ ثَرْوَانُ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى إِصْطَبْلِ أَبِيهِ، فَضَرَبَهُ فَرَسٌ فَشَجَّهُ، فَجَعَلَ أَبُوهُ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ أَشَجَّ بَنِي أُمَيَّةَ إِنَّكَ إِذًا لَسَعِيدٌ. رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ. انتهى.

 

 

68- أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَتَرَكَهَا

ثَبَتَ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: فِي البَابِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَكَانَتْ خِلَافَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَنَتَيْنِ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، اسْتَطَاعَ أَنْ يُعِيدَ فِيهَا وَفِي أَيَّامِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَسِيرَةَ جَدِّهِ لِأُمِّهِ لَيْلَى بِنْتِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَكْتُبَ عَنْ زُهْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وَوَرَعِهِ، وَخَوْفِهِ مِنَ اللهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ لَهُ: لَطَالَ المَقَامُ، فَحَدِّثْ عَنِ المُؤَرِّخِينَ وَأَصْحَابِ السِّيَرِ الثِّقَاتِ مِمَّا تَجِدُهُ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ عَنْ زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَلَا حَرَجَ إِنْ شَاءَ اللهُ. فَقَدْ كَانَ مَضْرِبَ مَثَلٍ، وَلَوْ ذَهَبْنَا نَتَتَبَّعُ ذَلِكَ لَطَالَ المَقَامُ، وَكَلَّتِ الأَقْلَامُ.

فَحَسْبُكَ أَنَّهُ زَهِدَ فِي مَرَاكِبِ الخِلَافَةِ وَقُصُورِهَا وَمَتَاعِهَا. قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: النَّاسُ يَقُولُونَ عَنِّي: زَاهِدٌ، وَإِنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، الَّذِي أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَتَرَكَهَا.

وَقَالُوا: كَانَ لَهُ سِرَاجٌ يَكْتُبُ عَلَيْهِ حَوَائِجَهُ، وَسِرَاجٌ لِبَيْتِ الْمَالِ يَكْتُبُ عَلَيْهِ مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَكْتُبُ عَلَى ضَوْئِهِ لِنَفْسِهِ حَرْفًا.

وَقَالَ مَكْحُولٌ: "لَوْ حَلَفْتُ لَصَدَقْتُ: مَا رَأَيْتُ أَزْهَدَ وَلَا أَخْوَفَ للهِ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ".

وَمَعَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ كَانَ أُمَّةً فِي العِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَالوَرَعِ، وَمَثَلًا أَعْلَى فِي ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ الَّذِي تُوُفِّيَ قَبْلَهُ، قَالُوا: كَانَ يَفْضُلُ وَالِدَهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَكَانَتْ لَهُ مَوَاعِظُ مَعَ أَبِيهِ.

لَقَدْ مَرِضَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وَمَاتَ - رَحِمَهُ اللهُ - لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ، سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ.

وَمِنْ كَرَامَاتِهِ: مَا قَالَهُ مُوسَى بْنُ أَيْمَنَ - إِنْ صَحَّ - وَكَانَ يَرْعَى الغَنَمَ لِمُحَمَّدِ بْنِ عُيَيْنَةَ: كَانَتِ الأُسْدُ وَالغَنَمُ وَالْوَحْشُ تَرْعَى فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَعَرَضَ ذَاتَ يَوْمٍ لِشَاةٍ مِنْهَا ذِئْبٌ، فَقُلْتُ: إِنَّا للَّهِ! مَا أَرَى الرَّجُلَ الصَّالِحَ إِلَّا قَدْ هَلَكَ. قَالَ: فَحَسَبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ هَلَكَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

 

 

69 - وَمَنْ لَكَ بِأَنْ تَعِيشَ إِلَى الظُّهْرِ؟!

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم -: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالأَمِيرِ خَيْرًا، جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ غَيرَ ذَلِكَ جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ، إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ". قَالَ النَّوَوِيُّ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

وَلَمَّا بُويِعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ بِالخِلَافَةِ ذَهَبَ يَتَبَوَّأُ مَقِيلًا، فَأَتَاهُ ابْنُهُ عَبْدُ المَلِكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ أَقِيلُ، قَالَ: تَقِيلُ وَلَا تَرُدُّ المَظَالِمَ إِلَى أَهْلِهَا؟ فَقَالَ: إِنِّي سَهِرْتُ البَارِحَةَ فِي أَمْرِ سُلَيْمَانَ، فَإِذَا صَلَّيْتُ الظُّهْرَ رَدَدْتُ المَظَالِمَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: وَمَنْ لَكَ بِأَنْ تَعِيشَ إِلَى الظُّهْرِ؟! قَالَ: ادْنُ مِنِّي أَيْ بُنَيَّ، فَدَنَا مِنْهُ، فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَخْرَجَ مِنْ صُلْبِي مَنْ يُعِينُنِي عَلَى دِينِي. ثُمَّ قَامَ وَخَرَجَ وَتَرَكَ القَائِلَةَ، وَأَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى: أَلَا مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ فَلْيَرْفَعْهَا، فَتَتَابَعَ النَّاسُ فِي رَفْعِ المَظَالِمِ إِلَيْهِ، فَمَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ مَظْلَمَةٌ إِلَّا رَدَّهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِ، حَتَّى أَخَذَ أَمْوَالَ بَنِي مَرْوَانَ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، فَرَدَّ المَظَالِمَ، وَأَعْطَ الحُقُوقَ، وَانْخَلَعَ مِنْ أَمْوَالِهِ.

وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: "خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ إِلَى الْقُبُورِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا أَيُّوبَ! هَذِهِ قُبُورُ آبَائِي بَنِي أُمَيَّةَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي لَذَّتِهِمْ وَعَيْشِهِمْ".

وَقَالَتِ امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ صَلَاةً وَصِيَامًا مِنْهُ، وَلَا أَحَدًا أَشَدَّ فَرَقًا مِنْ رَبِّهِ مِنْهُ، وَلَقَدْ كَانَ يَكُونُ مَعِي فِي الْفِرَاشِ فَيَذْكُرُ الشَّيْءَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَيَنْتَفِضُ كَمَا يَنْتَفِضُ الْعُصْفُورُ فِي الْمَاءِ، وَيَجْلِسُ يَبْكِي، فَأَطْرَحُ عَلَيْهِ اللِّحَافَ رَحْمَةً لَهُ، وَأَنَا أَقُولُ: يَا لَيْتَ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخِلَافَةِ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ، فَوَاللهِ مَا رَأَيْنَا سُرُورًا مُنْذُ دَخَلْنَا فِيهَا.

 

 

70- وَالعَافِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

قَالَ تَعَالَى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

فَهَذِهِ الآيَةُ هِيَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الخَلِيفَةُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ فِي حَالِ احْتِضَارِهِ، وَكَانَ يُعِدُّ لِهَذِهِ اللَّحْظَةِ وَمَا بَعْدَهَا العُدَّةَ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْصِرَ عَيْنَيْهِ فَلْيُقَلِّبْ سِيرَتَهُ يَوْمَ كَانَ خَلِيفَةً، بَيْتُ المَالِ فِي قَبْضَتِهِ، وَالأَنْظِمَةُ وَالقَوَانِينُ فِي رَأْسِ قَلَمِهِ.

إِنَّهُ عَبْدٌ عَرَفَ فَلَزِمَ، وَنَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ بِالإِيمَانِ فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا، وَزَهِدَ فِي نَعِيمِ مُلْكِهَا لِنَعِيمِ وَمُلْكِ الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا).

وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ، قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنْ شِئْتَ أَنْ نُعْطِيَكَ خَزَائِنَ الأَرْضِ وَمَفَاتِيحَهَا مَا لَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ قَبْلَكَ، وَلَا يُعْطَى أَحَدٌ مِنْ بَعْدِكَ، وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اللهِ، فَقَالَ: اجْمَعُوهَا لِي فِي الآخِرَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي ذَلِكَ: (تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا).

وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو حَازِمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، حِينَ رَآهُ خَلِيفَةً قَدْ شَحَبَ وَجْهُهُ مِنَ التَّقَشُّفِ، وَتَغَيَّرَ حَالُهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بِنَحْوِ مَا ثَبَتَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَتْ: "قُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ لَا تَطْلُبُ مَا يَطْلُبُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ قَالَ: "إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّ وَرَاءَكُمْ عَقَبَةً كَؤُودًا، لَا يَجُوزُهَا المُثْقَلُونَ)، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَتَخَفَّفَ لِتِلْكَ العَقَبَةِ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالبَزَّارُ، وَصَحَّحَ المُنْذِرِيُّ وَالبَزَّارُ إِسْنَادَهُ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: "كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَزْهَدَ مِنْ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ؛ لِأَنَّ عُمَرَ مَلَكَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا وَزَهِدَ فِيهَا".

وَمِنْ وَرَعِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ: أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّةً مِسْكٌ مِنْ بَيْتِ المَالِ فَسَدَّ أَنْفَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: وَهَلْ يُنْتَفَعُ مِنَ المِسْكِ إِلَّا بِرِيحِهِ؟!.

وَلَمَّا تَزَايَدَ المَرَضُ بِهِ، قِيلَ لَهُ: هَؤُلَاءِ بَنُوكَ - وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ - أَلَا تُوصِي لَهُمْ بِشَيْءٍ؛ فَإِنَّهُمْ فُقَرَاءُ؟ فَقَالَ: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) قَالُوا: لَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ أَوْلَادِهِ يَحْمِلُ عَلَى ثَمَانِينَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وَمَاتَ الخَلِيفَةُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وَمَا خَلَّفَ سِوَى قَمِيصٍ مَرْقُوعٍ، وَمَا لَا يَكَادُ أَنْ يُذْكَرَ.