فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ

المَوْضُوعُ: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ".


الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".
مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، إِنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، وَهِيَ عَمُودُهُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ الإِسْلَامُ إِلَّا بِهِ، وَيَسْقُطُ بِدُونِهِ.
وَأَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ صَلَحَتْ، صَلَحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ.
وَمَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَاةِ كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، رُؤُوسِ الكُفْرِ مِمَّنْ أَلْهَتْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَمَنَاصِبُهُمْ، وَصَدَّهُمْ تَجَبُّرُهُمْ وَتَكَبُّرُهُمْ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الصَّلَاةِ لِيُعْطِيَهَا حَقَّهَا فَيُحَافِظَ عَلَيْهَا، وَيَسْتَوْفِيَ شُرُوطَهَا وَأَرْكَانَهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَسُنَنَهَا، وَيَتَجَنَّبَ مُبْطِلَاتِهَا وَمُنْقِصَاتِهَا وَمَكْرُوهَاتِهَا.
وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ المُصَلِّينَ فِي مُخَالَفَاتِ الصَّلَاةِ فِعْلًا وَتَرْكًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ).
لَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ المُصَلِّينَ لَا الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ، فَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ كُفَّارٌ خَالِدُونَ فِي النَّارِ، أَمَّا الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَلَكِنَّهُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ - لَا فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ -؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى لَهْوِهِمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ بِالوَيْلِ، قِيلَ: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ.
قَالَ أَبُو العَالِيَةِ: "لَا يُصَلُّونَهَا لِمَوَاقِيتِهَا، وَلَا يُتِمُّونَ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا".
وَقَالَ تَعَالَى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا). قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِذَا أَضَاعُوهَا فَهُمْ لِمَا سِوَاهَا مِنَ الوَاجِبَاتِ أَضْيَعُ؛ لِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ وَقِوَامُهُ، وَخَيْرُ أَعْمَالِ العِبَادِ. انْتَهَى.
وَعَنِ القَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، قَالَ: إِنَّمَا أَضَاعُوا المَوَاقِيتَ، وَلَوْ كَانَ تَرْكًا كَانَ كُفْرًا.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ اللهَ يُكْثِرُ ذِكْرَ الصَّلَاةِ فِي القُرْآنِ: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)، وَ(عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)، وَ(عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى مَوَاقِيتِهَا. قَالُوا: مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ إِلَّا عَلَى التَّرْكِ، قَالَ: ذَاكَ الكُفْرُ.
فَتَرْكُ الصَّلَاةِ كُفْرٌ، وَإِضَاعَةُ أَوْقَاتِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، وَارْتِكَابُ مُبْطِلَاتِهَا وَمَكْرُوهَاتِهَا إِسَاءَةٌ وَتَعَدٍّ وَظُلْمٌ، يَسْتَحِقُّ فَاعِلُ ذَلِكَ عَذَابَ الوَيْلِ وَالغَيِّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَدَّ وَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ثَلَاثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَالمُتَأَمِّلُ لِلْحَدِيثِ يَعْجَبُ؛ إِذْ كَيْفَ بِصَحَابِيٍّ لَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى عَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ يُصَلِّي، وَأَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الأَرْكَانِ رُكْنٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهَا.
فَهَذَا يَعْنِي أَنَّ كَثِيرًا مِنَ العَصْرِيِّينَ لِغَلَبَةِ المُلْهِيَاتِ وَضَعْفِ الهِمَّةِ، قَدْ لَا يُحْسِنُ كَيْفَ يُصَلِّي.
فَيَا عِبَادَ اللهِ، إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ كَيْفَ نُصَلِّي، وَأَنْ نُعَلِّمَ أَهْلَنَا وَأَوْلَادَنَا وَأَفْرَادَ أُسْرَتِنَا كَيْفَ يُصَلُّونَ؛ لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ كَمَا يَنْبَغِي؛ فَإِنَّ الأَمْرَ جَدِيرٌ بِالاهْتِمَامِ؛ فَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الأَشْعَرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ، وَينْقُرُ فِي سُجُودِهِ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَوْ مَاتَ هَذَا عَلَى حَالِهِ هَذِهِ؛ مَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَثَلُ الَّذِي لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ، وَيَنْقُرُ فِي سُجُودِهِ مَثَلُ الجَائِعِ؛ يَأْكُلُ التَّمْرَةَ وَالتَّمْرَتَيْنِ؛ لَا يُغْنِيَانِ عَنْهُ شَيْئًا".
قَالَ أَبُو صَالِحٍ: "قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ: عَمْرُو بْنُ العَاصِ، وَخَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". قَالَ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي "الكَبِيرِ"، وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحِهِ".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لِيُصَلِّي سِتِّينَ سَنَةً وَمَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ، لَعَلَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ، وَلَا يُتِمُّ السُّجُودَ، وَيُتِمُّ السُّجُودَ وَلَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ". قَالَ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ أَبُو القَاسِمِ الأَصْبَهَانِيُّ، وَيُنْظَرُ سَنَدُهُ. قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: وَقَفْتُ عَلَى سَنَدِهِ فِي كِتَابِهِ "التَّرْغِيبِ"، فَوَجَدْتُهُ حَسَنًا.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: رَأَى حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، قَالَ: «مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ بِلَالٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلَا السُّجُودَ، فَقَالَ: لَوْ مَاتَ هَذَا لَمَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
وَثَبَتَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ البَدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ الرَّجُلِ حَتَّى يُقِيمَ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ - وَاللَّفْظُ لَهُ -، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحَيْهِمَا"، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالبَيْهَقِيُّ، وَقَالَا: "إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".
وعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا، تُسْعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خُمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالعِرَاقِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِنَا المُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ اجْتَبَى، وَعَلَى مَنْ سَارَ سَيْرَهُمْ وَاقْتَفَى، أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)، فَلَا عَبَثَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا تَصَرُّفَ يُخَالِفُ عَظَمَتَهَا، كَالكَلَامِ، وَالضَّحِكِ، وَالحَرَكَةِ المُتَكَرِّرَةِ، وَفَرْقَعَةِ الأَصَابِعِ، وَالتَّغْمِيضِ الدَّائِمِ، وَالتَّلَثُّمِ المُسْتَمِرِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَيَنْبَغِي عَلَى المُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُصَلِّي، يُسَدِّدُ وَيُقَارِبُ، فَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.
فَيَمْتَثِلُ المُسْلِمُ مَا أُمِرْنَا بِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَجْتَنِبُ مَا نُهِينَا عَنْهُ فِيهَا مِنَ الأَوْقَاتِ، وَالمَوَاطِنِ، وَالهَيْئَاتِ، وَاللِّبَاسِ، وَالأَحْوَالِ، وَالأَقْوَالِ، وَالأَفْعَالِ؛ وَمِنْ جُمْلَتِهَا:
مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَلَا أَكُفَّ ثَوْبًا وَلَا شَعْرًا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ، أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ؟). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «الَّذِي يُخَفِّضُ وَيَرْفَعُ قَبْلَ الْإِمَامِ، إِنَّمَا نَاصِيَتُهُ بِيَدِ شَيْطَانٍ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: (سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ خَرَجَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، فَلَا تَقُولُوا هَكَذَا - يَعْنِي: يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ). رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ، وَنَهَانِي عَنْ ثَلَاثٍ، نَهَانِي عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ حَسَنٌ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَعْتَدِلْ، وَلَا يَفْتَرِشْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: (اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ؛ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ قَدْ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نَهَى أَنْ يُصَلِّي الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ مِنْهُ: يَعْنِي شَيْءٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: "أَنْ يَشْتَمِلَ فِي إزَارِهِ إذَا مَا صَلَّى، إِلَّا أَنْ يُخَالِفَ بِطَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَا يَبْصُقْ أَمَامَهُ، فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللهَ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَيَدْفِنُهَا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَقْرَأِ الْقُرْآنَ وَأَنْتَ جُنُبٌ، وَلَا أَنْتَ رَاكِعٌ، وَلَا أَنْتَ سَاجِدٌ، وَلَا تُقْعِ إِقْعَاءَ الْكَلْبِ، وَلَا تُصَلِّ وَأَنْتَ عَاقِصٌ شَعْرَكَ، وَلَا تَفْرِشْ ذِرَاعَيْكَ افْتِرَاشَ السَّبْعِ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: حَدِيثُ عَلِيٍّ بَعْضُهُ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ كَمَا هَاهُنَا، وَرَوَى أَحْمَدُ بَعْضَهُ، وَزَادَ فِيهِ أَحْمَدُ: "وَلَا تُقْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَلَا تَعْبَثْ بِالْحَصَى"، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: الْحَارِثُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ، وَافْتِرَاشِ السَّبُعِ، وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى فِي الصَّلَاةِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْحَيَوَانَاتِ، فَنَهَى عَنْ بُرُوكٍ كَبُرُوكِ الْبَعِيرِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ، وَافْتِرَاشٍ كَافْتِرَاشِ السَّبُعِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَنَقْرٍ كَنَقْرِ الْغُرَابِ، وَرَفْعِ الْأَيْدِي وَقْتَ السَّلَامِ كَأَذْنَابِ الْخَيْلِ الشُمْسِ".
وَقَدْ أُمِرْنَا بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَبِإِقَامَةِ الصُّفُوفِ، وَالتَّرَاصِّ فِيهَا، وَسَدِّ الفُرَجِ، وَإِتْمَامِ الصَّفِّ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، وَأَلَّا نُصَلِّيَ فِي المَقْبَرَةِ، وَلَا إِلَى القَبْرِ، وَلَا فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ، وَلَا المَوَاضِعِ النَّجِسَةِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.
اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْنَا، وَبِكَ آمَنَّا، وَلَكَ أَسْلَمْنَا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كُلَّهَا، دِقَّهَا وَجِلَّهَا، وَأَوَّلَهَا وَآخِرَهَا، وَعَلَانِيَتَهَا وَسِرَّهَا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا، وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا، أَنْتَ إِلَهَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.