شَهْرُ ذِي القَعْدَةِ

المَوْضُوعُ: شَهْرُ ذِي القَعْدَةِ.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، إِنَّ شَهْرَ ذِي القَعْدَةِ أَحَدُ الأَشْهُرِ الحُرُمِ الأَرْبَعَةِ المُعَظَّمَةِ، وَالَّتِي أَكَّدَ اللهُ لِعِبَادِهِ أَلَّا يَعْصُوهُ فِيهَا، وَلَا يُحِلُّوا فِيهِنَّ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، وَهُنَّ: رَجَبٌ، وَثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) فِي كُلِّهِنَّ. ثُمَّ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حُرُمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالعَمَلَ الصَّالِحَ وَالأَجْرَ أَعْظَمَ". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَيُسْتَحَبُّ الصِّيَامُ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ، وَيُؤَكِّدُ اسْتِحْبَابَ الصَّوْمِ فِيهَا حَدِيثُ مُجُيبَةَ البَاهِلِيَّةِ، عَنْ أَبِيهَا أَوْ عَمِّهَا: "أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَأَتَاهُ بَعْدَ سَنَةٍ، وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ وَهَيْئَتُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا البَاهِلِيُّ الَّذِي جِئْتُكَ عَامَ الأَوَّلِ، قَالَ: فَمَا غَيَّرَكَ وَقَدْ كُنْتَ حَسَنَ الهَيْئَةِ؟! قَالَ: مَا أَكَلْتُ طَعَامًا مُنْذُ فَارَقْتُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِمَ عَذَّبْتَ نَفْسَكَ؟ ثُمَّ قَالَ: صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ، وَيَوْمًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، قَالَ: زِدْنِي، فَإِنَّ بِي قُوَّةً، قَالَ: صُمْ يَوْمَيْنِ، قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتْرُكْ - وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثَةِ - فَضَمَّهَا ثُمَّ أَرْسَلَهَا". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَسَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ صَالِحٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ، وَقَدْ حُسِّنَ، وَقَالَ المُنْذِرِيُّ: أَشَارَ بَعْضُ شُيُوخِنَا إِلَى تَضْعِيفِهِ لِذَلِكَ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي المُحَافَظَةِ عَلَى الفَرَائِضِ، وَأَنْ يَتَطَوَّعَ بِالإِكْثَارِ مِنَ النَّوَافِلِ بِالقَدْرِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَضْيِيعُ وَاجِبٍ، وَلَا تَفْرِيطٌ فِي حَقٍّ، وَلَا تَقْدِيمُ مَفْضُولٍ عَلَى فَاضِلٍ، وَإِنَّمَا يُقَدِّمُ الأَفْضَلَ عَلَى الفَاضِلِ. وَلَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ أَنْ يُكَلِّفَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ مَا لَا تُطِيقُهُ، وَأَنْ يُعَذِّبَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ)، وَقَالَ تَعَالَى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). فَهَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّرْعِ: التَّيْسِيرُ لَا التَّعْسِيرُ.

وَعَنْ عُرْوَةَ الفُقَمِيِّ يَرْفَعُهُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ دِينَ اللهِ يُسْرٌ)، قَالَهَا ثَلَاثًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ حُسِّنَ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ حُسِّنَ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أُخْبِرَ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي أَقُولُ: وَاللهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلَأَقُومَنَّ اللَّيلَ مَا عِشْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ؟»، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ»، قُلْتُ: فَإِنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ يَومًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ»، قُلْتُ: فَإنِّي أُطِيقُ أفضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ يَومًا وَأفْطِرْ يَومًا، فَذلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «هُوَ أفْضَلُ الصِّيامِ»، فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ»، وَلَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلَاثَةَ الأَيَّامِ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي.

وَفِي رِوَايَةٍ: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيلَ؟» قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلْ: صُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنَيكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، - وَفِي رِوَايَةٍ: «وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» - وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ»، فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: «صُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ»، قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ دَاوُدَ؟ قَالَ: «نِصْفُ الدَّهْرِ»، فَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَقُولُ بَعْدَمَا كَبِرَ: يَا لَيتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!.

وَفِي رِوَايَةٍ: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهرَ، وَتَقْرَأُ القُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟» فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلاَّ الخَيْرَ، قَالَ: «فَصُمْ صَوْمَ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ، فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَاقْرَأِ القُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ»، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ»، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ»، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: «فَاقْرَأهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذلِكَ»، فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، وَقالَ لِي النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ»، قَالَ: فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِي النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ»، ثَلَاثًا.

وَفِي رِوَايَةٍ: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ تَعَالَى صِيَامُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى صَلَاةُ دَاوُدَ: كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى».

 

وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: «أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، وَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ - أَيْ: امْرَأَةَ وَلَدِهِ - فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا. فَتقُولُ لَهُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ. فَلَمَّا طَالَ ذلِكَ عَلَيهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: «الْقِنِي بِهِ»، فَلَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: «كَيْفَ تَصُومُ؟» قُلْتُ: كُلَّ يَومٍ، قَالَ: «وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟» قُلْتُ: كُلَّ لَيْلَةٍ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا سَبَقَ، وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أهْلِهِ السُّبُعَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ، يَعْرِضُهُ مِنَ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَيهِ باللَّيلِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّى أفْطَرَ أيَّامًا وَأَحْصَى وَصَامَ مِثْلَهُنَّ، كرَاهِيَةَ أَنْ يَترُكَ شَيئًا فَارَقَ عَلَيهِ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ النَّوَوِيُّ: كُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ صَحِيحَةٌ، مُعْظَمُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَلِيلٌ مِنْهَا فِي أَحَدِهِمَا.

وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، وَقَالُوا: أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُم: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيلَ أَبَدًا. وَقَالَ الآخَرُ: وَأَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ أَبَدًا وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ الآخَرُ: وَأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا واللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ للهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: «مَا بَالُ هَذَا؟»، قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ»، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: آخَى النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرداءِ، فَرَأى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ: مَا شَأنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّردَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّردَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَدَقَ سَلْمَانُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: «مَنْ هذِهِ؟» قَالَتْ: هذِهِ فُلَانَةٌ، تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا. قَالَ: «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَواللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا». وكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ صَاحِبُهُ عَلَيهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَ«مَهْ»: كَلِمَةُ نَهْيٍ وَزَجْرٍ. ومَعْنَى «لَا يَمَلُّ اللهُ» عَلَى ظَاهِرِهَا، بِأَنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَمَلُّ هُوَ المَخْلُوقُ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: هَذَا الحَدِيثُ مِنْ نُصُوصِ الصِّفَاتِ، فَيَجْرِي عَلَى وَجْهِ الكَمَالِ، عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللهِ - جَلَّ وَعَلَا - لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، إِذْ لَيْسَ صِفَاتُ الخَالِقِ كَصِفَاتِ المَخْلُوقِ.

وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ يَصُومُ وَيُوَاصِلُ حَتَّى يَعْجِزَ عَنِ القِيَامِ، فَكَانَ يُصَلِّي الفَرْضَ جَالِسًا، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: لَوْ أَدْرَكَ هَذَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَرَجَمُوهُ.

وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُقِلُّ الصِّيَامَ وَيَقُولُ: إِنَّهُ يُضْعِفُنِي عَنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَقِرَاءَةُ القُرْآنِ أَحَبُّ إِلَيَّ.

وَأَحْرَمَ رَجُلٌ مِنَ الكُوفَةِ، فَقَدِمَ مَكَّةَ وَقَدْ أَصَابَهُ الجَهْدُ، فَرَآهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ سَيِّئُ الهَيْئَةِ، فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ وَجَعَلَ يَدُورُ بِهِ الحِلَقَ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ: انْظُرُوا إِلَى مَا يَصْنَعُ هَذَا بِنَفْسِهِ وَقَدْ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ؟!

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ ذِي المَلَكُوتِ وَالجَبَرُوتِ وَالكِبْرِيَاءِ وَالعَظَمَةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ اللهُ - جَلَّ وَعَلَا -: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَوْلُهُ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)؛ أَيْ: بِارْتِكَابِ مَحَارِمِ اللهِ وَتَعَاطِي مَعَاصِيهِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ، (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)؛ أَيْ: فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَنَهَاكُمْ عَنْهُ.

فَالإِسْلَامُ نِعْمَةٌ، وَالشَّرِيعَةُ رَحْمَةٌ، قَالَ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَخْبَرَ اللهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُمُ الإِيمَانَ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةٍ أَبَدًا، وَقَدْ أَتَمَّهُ اللهُ فَلَا يُنْقِصُهُ أَبَدًا، وَقَدْ رَضِيَهُ اللهُ فَلَا يَسْخَطُهُ أَبَدًا.

(اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ، أَحْيِنَا مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْرًا لَنَا، وَتَوَفَّنَا إِذَا عَلِمْتَ الوَفَاةَ خَيْرًا لَنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَنَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الرِّضَا وَالغَضَبِ، وَنَسْأَلُكَ القَصْدَ فِي الغِنَى وَالفَقْرِ، وَنَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَنَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَنَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاءِ، وَنَسْأَلُكَ بَرْدَ العَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَنَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ).

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ، وَالكَسَلِ، وَالجُبْنِ، وَالبُخْلِ، وَالهَرَمِ، وَالقَسْوَةِ، وَالغَفْلَةِ، وَالعَيْلَةِ، وَالذِّلَّةِ، وَالمَسْكَنَةِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الفَقْرِ، وَالكُفْرِ، وَالفُسُوقِ، وَالشِّقَاقِ، وَالنِّفَاقِ، وَالسُّمْعَةِ، وَالرِّيَاءِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الصَّمَمِ، وَالبَكَمِ، وَالجُنُونِ، وَالجُذَامِ، وَالبَرَصِ، وَسَيِّئِ الأَسْقَامِ.

اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.